لا يُشترَطُ في إقامةِ الجُمُعةِ: المصرُ الجامِعُ، بل تجوزُ في القُرى إلَّا أنَّ لهؤلاء الفقهاء تفصيلاتٍ في الشروط التي يجب توافُرها فيها؛ فالمالكيَّة اشترطوا أنْ تكون القريةُ كبيرةً يوجد بها سوقٌ وجامع وجماعة، أمَّا الشافعيَّة والحنابلة فاشترَطوا أن تكونَ القريةُ مجتمعة البناء، وأن يستوطنَها أربعون لا يَظعنون عنها صيفًا ولا شتاءً. ينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/76)، ((المجموع)) للنووي (4/505)، ((المغني)) لابن قدامة (2/244). ، وهذا مذهبُ الجمهورِ قال النوويُّ: (إذا كان في القريةِ أربعون من أهلِ الكَمال صحَّت جُمعتُهم في قريتهم ولزمتهم، سواء كان فيها سوقٌ ونهر أم لا، وبه قال مالكٌ وأحمد، وإسحاق، وجمهورُ العلماء، وحكاه الشيخ أبو حامد عن عُمرَ وابنِه، وابنِ عبَّاس رضي الله عنهم) ((المجموع)) (4/505). : من المالِكيَّة ((التاج والإكليل)) للمواق (2/ 161)، ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/76)، ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (1/496). ، والشافعيَّة ((روضة الطالبين)) للنووي (2/37)، ويُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/404). ، والحَنابِلَة ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (1/ 762). قال ابنُ قُدامَة: (لا يُشترَط للجُمعةِ المصرُ؛ رُوي نحوُ ذلك عن ابنِ عُمر، وعُمرَ بن عبد العزيز، والأوزاعيِّ، والليث، ومكحولٍ، وعِكرمةَ، والشافعيِّ) ((المغني)) (2/246). ، واختاره ابنُ حزم قال ابنُ حزم: (وتُصلَّى في كلِّ قرية صغُرت أم كبُرت، كان هنالك سلطانٌ، أو لم يكن... ثم قال: وأمَّا قولنا: تُصلَّى الجمعة في أيِّ قرية صغُرت أم كبُرت، فقد صحَّ عن عليٍّ رضي الله عنه: لا جُمعةَ ولا تشريقَ إلَّا في مِصرٍ جامعٍ، وقد ذكَرْنا خلافَ عمر لذلك، وخلافهم لعليٍّ في غير ما قِصَّة. وقال مالك: لا تكون الجمعةُ إلَّا في قرية متَّصلة البنيان. قال علي: هذا تحديدٌ لا دليلَ عليه، وهو أيضًا فاسد؛ لأنَّ ثلاثةَ دُور قرية متصلة البُنيان، وإلا فلا بدَّ له من تحديد العدد الذي لا يقعُ اسم قرية على أقلَّ منه، وهذا ما لا سبيلَ إليه) ((المحلى)) (3/252- 256). .الأدلَّة:أولًا: من الكِتاب قوله تعالى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9].وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ الآيةَ عامَّةٌ تَشمَلُ المدنَ والقُرَى ((عون المعبود)) للعظيم آبادي (3/284). .ثانيًا: من السُّنَّةعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (إنَّ أوَّلَ جُمُعةٍ جُمِّعتْ بعدَ جُمُعةٍ في مسجدِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مسجدِ عبدِ القَيسِ بجُواثَى من البَحرين) [5734] رواه البخاري (892). .وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ الظاهرَ أنَّهم جَمَّعوا بأمْر النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جُواثَى، وهي قريةٌ من قُرَى البَحرينِ كما في بعضِ الرِّواياتِ؛ فدلَّ على جوازِ إقامةِ الجُمُعةِ في القُرى ((فتح الباري)) لابن حجر (2/380)، ((شرح السنة)) للبغوي (4/219)، ((عون المعبود)) للعظيم آبادي (3/280). . انظر أيضا: المَبحَثُ الأوَّل: الخُطبَة. المبحث الثالث: إقامةِ الجُمُعةِ في البُنيانِ. المبحث الرابع: إذنُ السُّلطانِ أو حُضورُه. المبحثُ الخامِسُ: دخولُ الوقتِ .

لا يُشترَطُ إقامةُ الجُمُعةِ في البُنيانِ، وهو مذهبُ الحَنَفيَّة ((البناية شرح الهداية)) للعيني (3/ 42)، ويُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/50)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازة (2/66). ، والحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/28)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/246). ، واختارَه ابنُ عثيمين قال ابنُ عُثيمين: (قوله: «فيما قاربَ البُنيانَ من الصَّحراء»، أي: إنَّ أهل القرية لو أقاموا الجمعةَ خارجَ البلد في مكانٍ قريب، فإنها تصحُّ؛ فلا يُشترَطُ أن تكون في نفس البلد، بشرْط أن يكون الموضع قريبًا، مثل: مصلَّى العيد يكون في الصحراء من البلد؛ لأنَّهم في الحقيقة لم يخرجوا من القرية، وقال بعضُ العلماء: لا يجوز أن تُقامَ الجُمعة إلَّا في البنيان، فلو خرجوا قريبًا من البنيان فإنَّها لا تُجزئ، لكن ما ذهب إليه المؤلِّفُ هو الصحيح، بدليل أنَّ الرسولَ عليه الصلاة والسلام كان يَخرُجُ يوم الفطر والأضحى إلى المصلَّى) ((الشرح الممتع)) (5/44- 46). . وذلك لأن الأصلَ عدمُ اشتراطِ ذلِك، ولا نصَّ في اشتراطِه، ولا معنى نصٍّ ((المغني)) لابن قدامة (2/246). . انظر أيضا: المَبحَثُ الأوَّل: الخُطبَة. المبحث الثاني: المِصرُ الجامِعُ. المبحث الرابع: إذنُ السُّلطانِ أو حُضورُه. المبحثُ الخامِسُ: دخولُ الوقتِ .

تصحُّ الجُمُعةُ بغيرِ إذنِ السُّلطانِ وحُضورِه، سواءٌ كان السلطانُ في البَلدِ أم لا، وهذا مذهبُ الجمهورِ قال النوويُّ: (مذهبنا أنَّها تصحُّ بغير إذنه وحضوره، وسواء كان السلطانُ في البلد أم لا، وحكاه ابنُ المنذر عن مالكٍ، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور) ((المجموع)) (4/583). وقال أيضًا: (كونُ الناسِ في الأعصار يُقيمون الجمعة بإذن السلطان لا يلزم منه بُطلانُها إذا أُقيمت بغير إذنه، وقولهم: "يُؤدِّي إلى فتنة" لا نُسلِّمه؛ لأنَّ الافتئات المؤدِّي إلى فتنة إنما يكونُ في الأمور العظام، وليستِ الجمعة ممَّا تؤدِّي إلى فتنة) ((المجموع)) (4/584). : المالِكيَّة ((الكافي)) لابن عبد البر (1/249)، ويُنظر: ((شرح الزرقاني على الموطأ)) (1/616). ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/509)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/251). ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (2/279)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/244). ، واختاره ابنُ حزم قال ابنُ حزم: (وتُصلَّى في كلِّ قرية صغُرت أم كبُرت، كان هنالك سلطانٌ أو لم يكن) ((المحلى)) (3/252).  وقال أيضًا: (ولا فَرقَ بين الإمام في الجمعة والجماعة فيها، وبين الإمام في سائرِ الصلوات والجماعةِ فيها؛ فمِن أين وقَع لهم ردُّ الجمعة خاصَّةً إلى السلطان دون غيرها؟!) ((المحلى)) (3/256). .الأدلَّة:أولًا: من الكِتابعمومُ قولِه تعالى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9].ثانيًا: من الآثارعن عُبَيدِ اللهِ بنِ عَديِّ بنِ خِيارٍ، أنَّه دخَلَ على عُثمانَ بنِ عَفَّانَ وهو محصورٌ، فقال: (إنَّك إمامُ عامَّةٍ، ونزَلَ بكَ ما ترَى، ويُصلِّي لنا إمامُ فِتنةٍ، ونَتحرَّجُ؟ فقال: الصلاةُ أحسنُ ما يَعمَلُ الناسُ، فإذا أحسنَ الناسُ فأَحْسِنْ معهم، وإذا أساؤوا فاجتنبْ إساءتَهم) رواه البخاري (695). . وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّه لم يَأمُرْه بإعادةِ الصَّلاةِ، مع أنَّ الذي صلَّى بالنَّاسِ كنانةُ بنُ بِشرٍ- أحدُ رُؤوس الفِتنة- وبدون إذنِ الخليفةِ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه ((فتح الباري)) لابن حجر (2/189، 190). .ثالثًا: القياسُ على الإمامةِ في سائرِ الصَّلواتِ ((المجموع)) للنووي (4/584). .رابعًا: أنَّ المتغلِّبَ والخارجَ على الإمامِ تجوزُ الجُمُعةُ خَلْفَه؛ فمَن كان في طاعةِ الإمامِ أحْرَى بجوازِها خَلفَه ((مختصر اختلاف العلماء)) للطحاوي (1/346). .خامسًا: أنَّها من فرائضِ الأعيانِ، فلمْ يُشترَطْ لها إذنُ الإمامِ، كالظُّهرِ ((المغني)) لابن قدامة (2/244). . انظر أيضا: المَبحَثُ الأوَّل: الخُطبَة. المبحث الثاني: المِصرُ الجامِعُ. المبحث الثالث: إقامةِ الجُمُعةِ في البُنيانِ. المبحثُ الخامِسُ: دخولُ الوقتِ .

يُشترَطُ حضورُ جماعةٍ في صلاةِ الجُمُعةِ؛ فلا تصحُّ من منفردٍ.الأدلَّة:أولًا: من الكِتابقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعة فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة: 9- 11].وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّ ظاهرَ الآيةِ يدلُّ على أنَّ الجُمُعةَ إنَّما تكونُ منَ الجماعةِ قال ابنُ المنذرِ: (والجُمُعةُ تجِبُ على كلِّ جماعةٍ قلُّوا أو كثُروا في دارِ إقامةٍ على ظاهرِ الآيةِ) ((الإقناع)) (1/105). .ثانيًا: مِنَ الِإِجْماعِنقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ رُشدٍ قال ابنُ رشد: (السَّبب في اختلافِهم في اشتراطِ الأحوالِ والأفعالِ المقترنة بها هو كونُ بعض تلك الأحوالِ أشدَّ مناسبةً لأفعال الصلاة من بعض؛ ولذلك اتَّفقوا على اشتراطِ الجماعةِ؛ إذ كان معلومًا من الشرع أنَّها حال من الأحوال الموجودة في الصَّلاة) ((بداية المجتهد)) (1/160). وقال أيضًا: (أمَّا شروط الوجوب والصحَّة المختصَّة بيوم الجُمُعة، فاتَّفق الكلُّ على أنَّ مِن شرطها الجماعة، واختلفوا في مِقدار الجماعة) ((بداية المجتهد)) (1/158). ، والكاسانيُّ قال الكاسانيُّ في اشتراطِ الجماعة للجُمُعة: (فالدَّليل على أنَّها شرطٌ أنَّ هذه الصَّلاة تُسمَّى جمعة؛ فلا بدَّ من لزوم معنى الجمعة فيه اعتبارًا للمعنى الذي أُخذ اللَّفظ منه من حيث اللُّغةُ، كما في الصَّرف والسَّلم والرَّهن ونحو ذلك، ولأنَّ ترك الظهر ثبَت بهذه الشريطة على ما مرَّ؛ ولهذا لم يؤدِّ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الجُمعةَ إلَّا بجماعة، وعليه إجماعُ العلماء، وأمَّا بيان كيفية هذا الشرط فنقول: لا خِلافَ في أنَّ الجماعة شرطٌ لانعقاد الجمعة) ((بدائع الصنائع)) (1/266). ، والنوويُّ قال النوويُّ: (أجمَع العلماءُ على أنَّ الجُمُعة لا تصحُّ من منفردٍ، وأنَّ الجماعةَ شرطٌ لصحَّتها) ((المجموع)) (4/508). وقال أيضًا: (وقد نَقلوا الإجماعَ أنَّه لا بدَّ من عدد) ((المجموع)) (4/504). ، والشوكانيُّ قال الشوكانيُّ: (ووجه الاستدلالِ بحديث الباب أنَّ الأمَّة أجمعتْ على اشتراط العدد) ((نيل الأوطار)) (3/274). .ثالثًا: أنَّ هذه الصَّلاةَ تُسمَّى جُمُعةً؛ فلا بدَّ مِن لُزومِ معنى الجُمُعة فيه؛ اعتبارًا للمَعْنَى الذي أُخِذَ اللفظُ منه من حيثُ اللُّغةِ كما في الصَّرْف، والسَّلَم، والرَّهْن، ونحوِ ذلك ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/266). .رابعًا: أنَّ ترْكَ الظُّهرِ ثبَت بهذه الشريطةِ؛ ولهذا لم يُؤدِّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الجُمُعةَ إلَّا بجماعةٍ ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/266). .خامسًا: أنَّ الخلفاءَ الراشدين لم يُؤدِّها أحدٌ منهم منفردًا؛ فدلَّ ذلك على اشتراطِها ((إعانة الطالبين)) للبكري (2/66). . انظر أيضا: المَبحَثُ الأوَّل: الخُطبَة. المبحث الثاني: المِصرُ الجامِعُ. المبحث الثالث: إقامةِ الجُمُعةِ في البُنيانِ. المبحث الرابع: إذنُ السُّلطانِ أو حُضورُه.

اختَلَفَ أهلُ العِلمِ في العددِ الذي تنعقِدُ به صلاةُ الجُمُعةِ ولا تصحُّ بدونِه على أقوالٍ، أقواها قولان: القول الأوّل: أنَّ صلاةَ الجُمُعةِ تنعقِدُ باثنين سوى الإمامِ، وهو روايةٌ عن أحمدَ ((المغني)) لابن قدامة (2/243). ، وبه قال أبو يُوسُفَ ((المبسوط)) للسرخسي (2/43)، ((مختصر اختلاف العلماء)) للطحاوي (1/330). ، وطائفةٌ من السَّلَفِ قال الطحاويُّ: (رُوي عن أبي يوسف اثنانِ سوى الإمامِ، وبه قال الثوريُّ، والحسنُ بن حي، إذا لم يحضُر الإمامَ إلا رجلٌ واحد خطَب عليه، وصلَّى به الجمعة) ((مختصر اختلاف العلماء)) (1/330). وقال ابنُ قُدامَة: (وعن أحمد أنها تَنعقِد بثلاثة، وهو قولُ الأوزاعيِّ، وأبي ثور) ((المغني)) (2/243، 244). وقال النوويُّ: (حَكى غيرُه عن الأوزاعيِّ، وأبي يوسفَ، انعقادَها بثلاثةٍ، أحدُهم الإمام) ((المجموع)) (4/504). ، واختارَه ابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (تنعقد الجُمعةُ بثلاثة: واحدٌ يخطُب، واثنان يستمعان، وهو إحدى الرِّوايات عن أحمدَ، وقول طائفةٍ من العلماء، وقد يُقال بوجوبها على الأربعين؛ لأنَّه لم يثبُت وجوبها على مَن دونهم، وتصحُّ ممَّن دونهم؛ لأنَّه انتقالٌ إلى أعلى الفرضَينِ: كالمريضِ بخلافِ المسافرِ، فإنَّ فرضَه ركعتان) ((الاختيارات الفقهية)) (ص: 439). ، وابنُ باز قال ابنُ باز: (وأصحُّ الأقوال في هذه المسألة قولُ مَن قال: تنعقد بثلاثة؛ لوجوه: منها: أنَّ الأصل وجوبُ إقامة الجمعة على أهل القرى والأمصار؛ فلا يجوز لهم تركُها إلَّا بحُجَّة، ولا حُجَّة في تركها لِمَن بلغ هذا العدد. ومنها: أنَّ الثلاثة هي أقلُّ الجمع في اللُّغة العربية، وإطلاق الجمع على الاثنين خلافُ الأغلب المشهور في اللغة؛ فحملُ الأدلَّة الشرعيَّة على ما هو الأغلبُ أَوْلى وأحوط في الدِّين. ومنها: أنَّ بقية الأقوال لا حُجَّة عليها واضحة تُوجِب الأخذَ بها، والتعويل عليها؛ فوجب العدولُ عنها، والأخذُ بالقول الذي يجمع الأدلَّة، ويُبرئ الذَّمَّة، وتحصُل به الحَيطةُ لطالب الحقِّ، ولو كان العدد الذي فوق الثلاثة شرطًا في إقامة الجمعة لنَبَّه عليه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأَرْشَد إليه الأمَّة، فلمَّا لم يوجدْ شيءٌ من ذلك دلَّ ذلك على أنه ليس بشرط لإقامتِها، أمَّا الثلاثة فلا حاجةَ إلى التنبيه على وجوبِ إقامتها عليهم؛ لأنَّهم أقلُّ الجمْع، وقد دلَّ النصُّ والإجماعُ على أنها لا تُقام إلَّا في جماعة، والثلاثة أقلُّ الجماعة كما تَقدَّم) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (30/332). ، وابنُ عثيمين قال ابنُ عُثيمين: (ما ذهَب إليه شيخُ الإسلامِ أصحُّ؛ إذ لا بدَّ من جماعةٍ تستمع، وأقلُّها اثنان، والخطيبُ هو الثالث، وحديثُ أبي الدرداء يؤيِّد ما قاله الشيخ) ((الشرح الممتع)) (5/41). وقال أيضًا: (أقربُ الأقوال إلى الصواب: أنها تنعقد بثلاثة، وتجِب عليهم) ((الشرح الممتع)) (5/41). . الأدلَّة:أولًا: من الكِتابقال الله تعالى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9].وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّ قولَه: فَاسْعَوْا جاءَ بصيغةِ الجَمْعِ، فيَدخُلُ فيه الثلاثةُ ((المغني)) لابن قدامة (2/244). . ثانيًا: من السُّنَّة1- عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما مِن ثلاثةٍ في قريةٍ لا تُقامُ فيهم الصَّلاةُ إلَّا استَحْوَذَ عليهم الشَّيطانُ)) رواه أبو داود (547)، والنسائي (2/106)، وأحمد (5/196) (21758). صحَّح إسنادَه النوويُّ في ((المجموع)) (4/182)، وصحَّحه ابن الملقِّن في ((البدر المنير)) (4/386)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (547). .وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّ الصَّلاةَ عامَّةٌ تَشمَلُ الجُمُعةَ وغيرَها، فإذا كانوا ثلاثةً في قريةٍ لا تُقامُ فيهم الصلاةُ، فإنَّ الشيطانَ قد استحوذَ عليهم، وهذا يدلُّ على وجوبِ صلاةِ الجُمُعة على الثلاثة، ولا يُمكِنُ أن نقول: تجِبُ على الثلاثةِ، ثم نقول: لا تصحُّ من الثلاثةِ؛ لأنَّ إيجابَها عليهم، ثم قولنا: إنَّها غيرُ صحيحةٍ تَضادٌّ، معناه: أمرناهم بشيءٍ باطلٍ، والأمرُ بالشيءِ الباطلِ حرامٌ ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/40). .2- عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا كانوا ثلاثةً فلْيَؤُمَّهم أحدُهم, وأحقُّهم بالإمامةِ أقرؤُهم)) رواه مسلم (672). .وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّ أمْره صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالإمامةِ إذا كانوا ثلاثةً عامٌّ في إمامةِ الصَّلوات كلِّها؛ الجُمُعةِ والجماعةِ ((مجلة البحوث الإسلامية)) (35/317). .ثالثًا: أنَّ الثلاثةَ أقلُّ الجَمْع، فانعقدتْ به الجماعةُ ((المغني)) لابن قُدامة (2/244)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/40). .القول الثاني: تَنعقِدُ باثنين، وهو مذهبُ الظاهريَّة قال ابنُ حزم: (عن إبراهيمَ النَّخَعي: «إذا كان واحدٌ مع الإمام صلَّيَا الجُمعةَ بخُطبة ركعتين»، وهو قولُ الحسن بن حي, وأبي سليمان, وجميعِ أصحابنا, وبه نقول) ((المحلى)) (3/249)، ونسَبه النوويُّ لداود. ينظر: ((المجموع)) (4/504). ، وبه قالت طائفةٌ من السَّلَفِ قال ابنُ حزم: (عن إبراهيمَ النخعي: (إذا كان واحدٌ مع الإمام صلَّيَا الجمعة بخُطبة ركعتين) ((المحلى)) (3/249). وقال النوويُّ: (قال الحسنُ بن صالحٍ، وداود: تَنعقِد باثنين، أحدهما الإمامُ، وهو معنى ما حكاه ابنُ المنذر عن مكحولٍ) ((المجموع)) (4/504). ، واختارَه الطبريُّ ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/158). ، والشوكانيُّ قال الشوكانيُّ: (وأمَّا مَن قال: إنها تصحُّ باثنين فاستدلَّ بأنَّ العدد واجب بالحديث والإجماع، ورأى أنَّه لم يثبت دليلٌ على اشتراط عددٍ مخصوص، وقد صحَّت الجماعة في سائرِ الصلوات باثنين، ولا فرْق بينها وبين الجماعة، ولم يأتِ نصٌّ من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ الجمعة لا تنعقد إلَّا بكذا، وهذا القولُ هو الراجحُ عندي) ((نيل الأوطار)) (3/276). .الأدلَّة:أولًا: من الكِتابقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9].وَجْهُ الدَّلالَةِ: أنَّه لا يجوزُ أن يَخرُج عن هذا الأمرِ وعنْ هذا الحُكمِ أحدٌ إلَّا مَن جاءَ نصٌّ جليٌّ، أو إجماعٌ متيقَّنٌ على خروجِه عنه, وليس ذلك إلَّا الفذَّ وحْدَه ((المحلى)) لابن حزم (3/251). .ثانيًا: من السُّنَّةعن مالكِ بنِ الحُوَيرثِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: أتيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنا وصاحبٌ لي، فلمَّا أَرَدْنا الإقفالَ مِن عندِه، قال لنا: ((إذا حضَرتِ الصَّلاةُ، فأذِّنا، ثم أَقيمَا، ولْيؤمَّكما أكبرُكما)) أخرجه البخاري (2848)، ومسلم (674) واللفظ له. .وَجْهُ الدَّلالَةِ:أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جعَلَ للاثنينِ حُكمَ الجَماعةِ في الصَّلاةِ ((المحلى)) لابن حزم (3/251). . ثالثًا: أنَّ الاثنينِ جماعةٌ فيَحصُل الاجتماعُ، ومِن المعلومِ أنَّ صلاةَ الجماعةِ في غيرِ الجُمُعةِ تَنعقِدُ باثنينِ بالاتِّفاق، والجُمُعةُ كسائرِ الصَّلواتِ، فمَن ادَّعى خروجَها عن بقيَّة الصَّلواتِ، وأنَّ جماعتَها لا بدَّ فيها من ثلاثةٍ، فعليه الدَّليل ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/40). . انظر أيضا: المَبحَثُ الأوَّل: الخُطبَة. المبحث الثاني: المِصرُ الجامِعُ. المبحث الثالث: إقامةِ الجُمُعةِ في البُنيانِ. المبحث الرابع: إذنُ السُّلطانِ أو حُضورُه.