أحكام القرآن للجصاص ج ص معتمد 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
سورة الفاتحة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّازِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ قَدَّمْنَا فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ مُقَدِّمَةً «1» تَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ جُمَلٍ مِمَّا لَا يَسَعُ جَهْلُهُ مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَتَوْطِئَةً لِمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ طُرُقِ اسْتِنْبَاطِ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَاسْتِخْرَاجِ دَلَائِلِهِ وَأَحْكَامِ أَلْفَاظِهِ وَمَا تَتَصَرَّفُ عَلَيْهِ أَنْحَاءُ كَلَامِ الْعَرَبِ وَالْأَسْمَاءُ اللُّغَوِيَّةُ وَالْعِبَارَاتُ الشَّرْعِيَّةُ إذْ كَانَ أَوْلَى الْعُلُومِ بِالتَّقْدِيمِ مَعْرِفَةَ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ شِبْهِ خَلْقِهِ وَعَمَّا نَحَلَهُ الْمُفْتَرُونَ مِنْ ظُلْمِ عَبِيدِهِ وَالْآنَ حَتَّى انْتَهَى بِنَا الْقَوْلُ إلَى ذِكْرِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَدَلَائِلِهِ وَاَللَّهَ نَسْأَلُ التَّوْفِيقَ لِمَا يُقَرِّبُنَا إلَيْهِ وَيُزَلِّفُنَا لديه إنه ولى ذلك والقادر عليه.
 
بَابٌ الْقَوْلُ فِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْكَلَامُ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا مَعْنَى الضَّمِيرِ الَّذِي فِيهَا وَالثَّانِي هَلْ هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي افْتِتَاحِهِ وَالثَّالِثُ هَلْ هِيَ مِنْ الْفَاتِحَةِ أَمْ لَا وَالرَّابِعُ هَلْ هِيَ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ وَالْخَامِسُ هَلْ هِيَ آيَة تَامَّةٌ أَمْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ تَامَّةٍ وَالسَّادِسُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ وَالسَّابِعُ تَكْرَارُهَا فِي أَوَائِل السُّوَرِ فِي الصَّلَاةِ وَالثَّامِن الْجَهْرُ بِهَا وَالتَّاسِع ذِكْرُ مَا فِي مُضْمَرِهَا مِنْ الْفَوَائِدِ وَكَثْرَةِ الْمَعَانِي فَنَقُولُ إنَّ فِيهَا ضَمِيرَ فِعْلٍ لَا يَسْتَغْنِي الْكَلَامُ عَنْهُ لِأَنَّ الْبَاءَ مَعَ سَائِرِ حُرُوفِ الْجَرِّ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِلَ بِفِعْلٍ إمَّا مُظْهَرٍ مَذْكُورٍ وَإِمَّا مُضْمَرٍ مَحْذُوفٍ وَالضَّمِيرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَنْقَسِمُ إلَى مَعْنَيَيْنِ خَبَرٍ وَأَمْرٍ فَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ خَبَرًا كَانَ مَعْنَاهُ أَبْدَأُ بِسْمِ اللَّهِ فَحُذِفَ هَذَا الْخَبَرُ وَأُضْمِرَ لِأَنَّ الْقَارِئَ مُبْتَدِئٌ فَالْحَالُ الْمُشَاهَدَةُ مُنْبِئَةٌ عَنْهُ ومغنية عَنْ ذِكْرِهِ وَإِذَا كَانَ أَمْرًا كَانَ مَعْنَاهُ ابْدَءُوا بِسْمِ اللَّهِ وَاحْتِمَالُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَفِي نَسَقِ تِلَاوَةِ السُّورَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ وَهُوَ قَوْله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ] وَمَعْنَاهُ قُولُوا إيَّاكَ كَذَلِكَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ فِي معنى قوله بسم الله وقد ورد الأمر بذلك في مواضع
__________
(1) المراد بهذه المقدمة الكتاب الذي ألفه في أصول الفقه.
(1/5)
1
مِنْ الْقُرْآنِ مُصَرَّحًا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] فَأُمِرَ فِي افْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ بِالتَّسْمِيَةِ كَمَا أُمِرَ أَمَامَ الْقِرَاءَةِ بِتَقْدِيمِ الِاسْتِعَاذَةِ وَهُوَ إذَا كَانَ خَبَرًا فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْأَمْرِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ بِأَنَّهُ يَبْدَأُ بِاسْمِ اللَّهِ فَفِيهِ أَمْرٌ لَنَا بِالِابْتِدَاءِ بِهِ وَالتَّبَرُّكِ بِافْتِتَاحِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَنَا بِهِ لِنَفْعَلَ مِثْلَهُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لَهُمَا جَمِيعًا فَيَكُونَ الْخَبَرُ وَالْأَمْرُ جَمِيعًا مُرَادَيْنِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُمَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَوْ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْخَبَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا مِنْ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الضَّمِيرِ فِي انْتِفَاءِ إرَادَةِ الْأَمْرَيْنِ قِيلَ لَهُ إذَا أَظْهَرَ صِيغَةَ الْخَبَرِ امْتَنَعَ أَنْ يُرِيدَهُمَا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ لَفْظٍ وَاحِدٍ أَمْرًا وَخَبَرًا فِي حَالٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ مَتَى أَرَادَ بِالْخَبَرِ الْأَمْرَ كَانَ اللَّفْظُ مَجَازًا وَإِذَا أَرَادَ بِهِ حَقِيقَةَ الْخَبَرِ كَانَ حَقِيقَةً وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ مَجَازًا حَقِيقَةً لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِهِ وَالْمَجَازُ مَا عُدِلَ بِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ إلَى غَيْرِهِ وَيَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضِعِهِ وَمَعْدُولًا بِهِ عَنْهُ فِي حَالٍ وَاحِدٍ فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ إرَادَةُ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَأَمَّا الضَّمِيرُ فَغَيْرُ مَذْكُورٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِرَادَةِ وَلَا يَسْتَحِيلُ إرَادَتُهُمَا مَعًا عِنْدَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِإِضْمَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ أَبْدَأُ بِسْمِ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ وَابْدَءُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِ اقْتِدَاءً بِفِعْلِي وَتَبَرُّكًا بِهِ غَيْرَ أَنَّ جَوَازَ إرَادَتِهِمَا لَا يُوجِبُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إثْبَاتَهُمَا إلَّا بِدَلَالَةٍ إذْ لَيْسَ هُوَ عُمُومَ لَفْظٍ مُسْتَعْمَلٍ عَلَى مُقْتَضَاهُ وَمُوجَبِهِ وَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُ حُكْمَ اللَّفْظِ إثْبَاتُ ضَمِيرٍ مُحْتَمَلٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَجْهَيْنِ وَتَعْيِينُهُ فِي أَحَدِهِمَا مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلَالَةِ كَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي نَظَائِرِهِ نَحْوَ
قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)
لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمَّا تَعَلَّقَ بِضَمِيرِ يَحْتَمِلُ رَفْعَ الْحُكْمِ رَأْسًا وَيَحْتَمِلُ الْمَأْثَمَ لَمْ يَمْتَنِعْ إرَادَةُ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ وَلَا مَأْثَمَ عَلَيْهِ عِنْدَ اللَّهِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُمَا وَجَوَازِ إرَادَتِهِمَا إلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِعُمُومِ لَفْظٍ فَيَنْتَظِمُهُمَا فَاحْتَجْنَا فِي إثْبَاتِ الْمُرَادِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى إرَادَةِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ أَوْ إرَادَتِهِمَا جَمِيعًا وَقَدْ يَجِيءُ مِنْ الضَّمِيرِ الْمُحْتَمِلِ لِأَمْرَيْنِ مَا لَا يَصِحُّ إرَادَتُهُمَا مَعًا نَحْوَ مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)
مَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَهُ مُتَعَلِّقٌ بِضَمِيرِ يَحْتَمِلُ جَوَازَ الْعَمَلِ وَيَحْتَمِلُ أَفْضَلِيَّتَهُ فَمَتَى أَرَادَ الْجَوَازَ امْتَنَعَتْ
(1/6)
1
إرَادَةُ الْأَفْضَلِيَّةِ لِأَنَّ إرَادَةَ الْجَوَازِ تَنْفِي ثُبُوتَ حُكْمِهِ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ وَإِرَادَةَ الْأَفْضَلِيَّةِ تَقْتَضِي إثْبَاتَ حُكْمِ شَيْءٍ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ مَعَ إثْبَاتِ النُّقْصَانِ فِيهِ وَنَفْيِ الْأَفْضَلِيَّةِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُرِيدَ نَفْيَ الْأَصْلِ وَنَفْيَ الْكَمَالِ الْمُوجِبِ لِلنُّقْصَانِ فِي حَالٍ وَاحِدٍ وَهَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ فِيهِ إرَادَةُ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ نَفْيِ الْأَصْلِ وَإِثْبَاتِ النَّقْصِ وَلَا يَصِحُّ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى إرَادَتِهِمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَإِذَا ثَبَتَ اقْتِضَاؤُهُ لِمَعْنَى الْأَمْرِ انْقَسَمَ ذَلِكَ إلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ فَالْفَرْضُ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ فِي قوله تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى] فَجَعَلَهُ مُصَلِّيًا عَقِيبَ الذِّكْرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ ذِكْرَ التَّحْرِيمَةِ وَقَالَ تَعَالَى [وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا] قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذِكْرُ الِافْتِتَاحِ
رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى [وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى] قال هي بسم الله الرحمن الرحيم
وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الذَّبِيحَةِ فَرْضٌ وَقَدْ أَكَّدَهُ بقوله [فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَ] وَقَوْلِهِ [وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ] وَهُوَ فِي الطَّهَارَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَابْتِدَاءِ الْأُمُور نفل فإن قال قائل هل لا أَوْجَبْتُمْ التَّسْمِيَةَ عَلَى الْوُضُوءِ بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى خُصُوصِهِ مَعَ مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ)
قِيلَ لَهُ الضَّمِيرُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ فَيُعْتَبَرُ عُمُومُهُ وَإِنَّمَا ثَبَتَ مِنْهُ مَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ
وَقَوْلُهُ (لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ)
عَلَى جِهَةِ نَفْيِ الْفَضِيلَةِ لِدَلَائِلَ قَامَتْ عَلَيْهِ.
 
بَابُ الْقَوْل فِي أَنَّ البسملة مِنْ الْقُرْآنِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ في أن بسم الله الرحمن الرحيم مِنْ الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ]
وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ مَا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ قَالَ لَهُ اقْرَأْ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ لَهُ [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]
وروى أبو قطن عن المسعودي عن الحرث الْعُكْلِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ فِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ بِاسْمِك اللَّهُمَّ حَتَّى نَزَلَ [بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها] فَكَتَبَ بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى [قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ] فَكَتَبَ فَوْقَهُ الرَّحْمَنَ فَنَزَلَتْ قِصَّةُ سُلَيْمَانَ فَكَتَبَهَا حِينَئِذٍ
وَمِمَّا سَمِعْنَا
فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد قَالَ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَقَتَادَةُ وَثَابِتٌ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْتُبْ بسم الله الرحمن الرحيم حتى
(1/7)
1
نَزَلَتْ سُورَةُ النَّمْلِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ بينه وبين سهيل ابن عمر وكتاب الْهُدْنَةِ بِالْحُدَيْبِيَةِ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اُكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم فَقَالَ لَهُ سُهَيْلٌ بِاسْمِك اللَّهُمَّ فَإِنَّا لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ
إلَى أَنْ سُمِحَ بِهَا بَعْدُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم لم تكن مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ.
 
الْقَوْلُ فِي أَنَّ الْبَسْمَلَة مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَمْ لَا فَعَدَّهَا قُرَّاءُ الْكُوفِيِّينَ آيَةً مِنْهَا وَلَمْ يَعُدَّهَا قُرَّاءُ الْبَصْرِيِّينَ وَلَيْسَ عَنْ أَصْحَابِنَا رِوَايَةٌ مَنْصُوصَةٌ فِي أَنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا إلَّا أَنَّ شَيْخَنَا أَبَا الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ حَكَى مَذْهَبَهُمْ فِي تَرْكِ الْجَهْرِ بِهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا عِنْدَهُمْ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ آيَةً مِنْهَا عِنْدَهُمْ لَجُهِرَ بِهَا كَمَا جُهِرَ بِسَائِرِ آيِ السور وقال الشَّافِعِيُّ هِيَ آيَةٌ مِنْهَا وَإِنْ تَرَكَهَا أَعَادَ الصَّلَاةَ وَتَصْحِيحُ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مَوْقُوفٌ عَلَى الجهل وَالْإِخْفَاءِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شاء الله تعالى.
 
القول في البسملة هَلْ هِيَ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ ثَمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ أَوْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ لِتَرْكِ الْجَهْرِ بِهَا وَلِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَكَذَلِكَ حُكْمُهَا فِي غَيْرِهَا إذْ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَأَنَّهَا مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ وَمَا سَبَقَهُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ أَحَدٌ لِأَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ إنَّمَا هُوَ فِي أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَوْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْهَا وَلَمْ يَعُدَّهَا أَحَدٌ آيَةً مِنْ سَائِرِ السُّوَرِ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ
حَدِيثُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (قَالَ الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ الرَّحْمَنِ الرحيم قَالَ مَجَّدَنِي عَبْدِي أَوْ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وإذا قال مالك يوم الدين قَالَ فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ إِيَّاكَ نعبد وإياك نستعين قَالَ هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سأل فيقول عبدى اهدنا الصراط المستقيم إلَى آخِرِهَا قَالَ لِعَبْدِي مَا سَأَلَ)
فَلَوْ كَانَتْ مِنْ فَاتِحَةِ
(1/8)
1
الْكِتَابِ لَذَكَرهَا فِيمَا ذَكَرَ مِنْ آيِ السُّورَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا عَبَّرَ بِالصَّلَاةِ عَنْ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَجَعَلَهَا نِصْفَيْنِ فَانْتَفَى بِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم آيَةً مِنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْقِسْمَةِ الثَّانِي أَنَّهَا لَوْ صَارَتْ فِي الْقِسْمَةِ لَمَا كَانَتْ نِصْفَيْنِ بَلْ كَانَ يَكُونُ مَا لِلَّهِ فِيهَا أَكْثَرِ مِمَّا لِلْعَبْدِ لأن بسم الله الرحمن الرحيم ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا شَيْءَ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ فِي أَضْعَافِ السُّورَةِ قِيلَ لَهُ هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ آيَةً غَيْرَهَا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا وَلَوْ جَازَ مَا ذَكَرْت لَجَازَ الِاقْتِصَارُ بِالْقُرْآنِ عَلَى مَا فِي السُّورَةِ مِنْهَا دُونَهَا وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ بِسْمِ اللَّهِ فِيهِ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ اسْمٌ مُخْتَصٌّ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ فَالْوَاجِبُ لَا مَحَالَةَ أَنْ يَكُون مَذْكُورًا فِي الْقِسْمَةِ إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ فِيمَا قَسَمَ مِنْ آيِ السُّورَةِ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ
مَا حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قال حدثنا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ يَقُولُ سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (قَالَ اللَّهُ قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ يَقُولُ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَيَقُولُ اللَّهُ حَمِدَنِي عَبْدِي فَيَقُولُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقُولُ اللَّهُ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ مالك يوم الدين يَقُولُ اللَّهُ مَجَّدَنِي عَبْدِي وَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نستعين فَهَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)
فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي مَالِكِ يَوْمِ الدين أَنَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ هَذَا غَلَطٌ مِنْ رَاوِيهِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى مَالِكِ يَوْمِ الدين ثَنَاءٌ خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى لَا شَيْءَ لِلْعَبْدِ فيه كقوله الحمد لله رب العالمين وَإِنَّمَا جَعَلَ قَوْلَهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ لِمَا انْتَظَمَ مِنْ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْآيِ بَعْدَهَا مِنْ قَوْله تعالى اهدنا الصراط المستقيم جَعَلَهَا لِلْعَبْدِ خَاصَّةً إذْ لَيْسَ فِيهِ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَسْأَلَةٌ مِنْ الْعَبْدِ لما ذكروا من جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ قَوْلَهُ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ لَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ إياك نعبد وإياك نستعين لَمَّا كَانَ نِصْفَيْنِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَعُدُّ بسم الله الرحمن الرحيم آيَةً بَلْ كَانَ يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى أَرْبَعٌ وَلِلْعَبْدِ ثَلَاثٌ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ وَإِنَّمَا هِيَ لِلْفَصْلِ بَيْنَهَا مَا حَدَّثَنَا
(1/9)
1
مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قال حدثنا عمرو بن عون قال أخبرنا هُشَيْمٌ عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ يَزِيدَ الْقَارِي قَالَ سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قُلْت لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إلَى بَرَاءَةَ وَهِيَ مِنْ الْمَئِينِ وَإِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ الْمَثَانِي فَجَعَلْتُمُوهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ وَلَمْ تَكْتُبُوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم
قَالَ عُثْمَانُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فَيَدْعُو بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ لَهُ فَيَقُولُ ضَعْ هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا وَيَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ فَيَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ
وَكَانَتْ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَتْ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا فَظَنَنْت أَنَّهَا مِنْهَا فَمِنْ هُنَاكَ وَضَعْتُهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم فَأَخْبَرَ عُثْمَانُ أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنْ مِنْ السُّورَةِ وَأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَكْتُبُهَا فِي فَصْلِ السُّورَةِ بَيْنَهَا وَبَيْن غَيْرِهَا لَا غَيْرُ وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتْ مِنْ السُّوَرِ وَمِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَعَرَفَتْهُ الْكَافَّةُ بِتَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهَا مِنْهَا كَمَا عَرَفَتْ مَوَاضِعَ سَائِرِ الْآيِ مِنْ سُورِهَا وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِيهَا وَذَلِكَ أَنَّ سَبِيلَ الْعِلْمِ بِمَوَاضِعِ الْآيِ كَهُوَ بِالْآيِ نَفْسِهَا فَلَمَّا كَانَ طَرِيقُ إثْبَاتِ الْقُرْآنِ نَقْلَ الْكَافَّةِ دُونَ نَقْلِ الْآحَادِ وَجَبَ أن يكون كَذَلِكَ حُكْمُ مَوَاضِعِهِ وَتَرْتِيبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إزَالَةُ تَرْتِيبِ آيِ الْقُرْآنِ ولا نقل شيء منه عن مواضعه إلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَامَ إزَالَتَهُ وَرَفْعَهُ فَلَوْ كَانَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ لَعَرَفَتْ الْكَافَّةُ مَوْضِعَهَا مِنْهَا كَسَائِرِ الْآيِ وَكَمَوْضِعِهَا مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ فَلَمَّا لَمْ نَرَهُمْ نَقَلُوا ذَلِكَ إلَيْنَا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُهَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ نَقَلُوا إلَيْنَا جَمِيعَ مَا فِي الْمُصْحَفِ عَلَى أَنَّهُ الْقُرْآنُ وَذَلِكَ كَافٍ فِي إثْبَاتِهَا مِنْ السُّوَرِ فِي مَوَاضِعَهَا الْمَذْكُورَةِ فِي الْمُصْحَفِ قِيلَ لَهُ إنَّمَا نَقَلُوا إلَيْنَا كَتْبَهَا فِي أَوَائِلهَا وَلَمْ يَنْقُلُوا إلَيْنَا أَنَّهَا مِنْهَا وَإِنَّمَا الْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فِي أَنَّهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي هِيَ مَكْتُوبَةٌ فِي أَوَائِلَهَا وَنَحْنُ نَقُولُ بِأَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ أُثْبِتَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا عَلَى أَنَّهَا مِنْ السُّوَرِ وَلَيْسَ إيصَالُهَا بِالسُّورَةِ فِي الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَتُهَا مَعَهَا مُوجِبَيْنِ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا لِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بَعْضُهُ مُتَّصِلٌ ببعض وما قيل بسم الله الرحمن الرحيم مُتَّصِلٌ بِهَا وَلَا يَجِبُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ سُورَةً وَاحِدَةً فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَمَّا نُقِلَ إلَيْنَا الْمُصْحَفُ وَذَكَرُوا أَنَّ مَا فِيهِ هُوَ الْقُرْآنُ عَلَى نِظَامِهِ وَتَرْتِيبِهِ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ مَعَ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ لَبَيَّنُوا ذَلِكَ
(1/10)
1
وَذَكَرُوا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَوَائِلِهَا لِئَلَّا تَشْتَبِهَ قِيلِ لَهُ هَذَا يَلْزَمُ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى الْقَوْلَ بِأَنَّهَا مِنْهُ فَهَذَا السُّؤَالُ سَاقِطٌ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مِنْهَا لَعَرَفَتْهُ الْكَافَّةُ حَسَبَ مَا أَلْزَمْتَ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا مِنْهَا قيل له لا يجب ذلك لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ نَقْلُ كُلِّ مَا لَيْسَ مِنْ السُّورَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا كَمَا لَيْسَ عَلَيْهِمْ نَقْلُ مَا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ نَقْلُ مَا هُوَ مِنْ السُّورَة أَنَّهُ مِنْهَا كَمَا عَلَيْهِمْ نَقْلُ مَا هُوَ مِنْ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مِنْهُ فَإِذَا لَمْ يَرِدْ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ بِكَوْنِهَا مِنْ السُّوَرِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إثْبَاتُهَا كَإِثْبَاتِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ
مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبَانَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبَّاسٍ الْجُشَمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (سُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِصَاحِبِهَا حَتَّى غُفِرَ له تبارك الذي بيده الملك)
وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهَا ثَلَاثُونَ آيَةً سوى بسم الله الرحمن الرحيم فَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا كَانَتْ إحْدَى وَثَلَاثِينَ آيَةً وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا اتِّفَاقُ جَمِيعِ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ وَفُقَهَائِهِمْ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَسُورَةَ الْإِخْلَاصِ أَرْبَعُ آيَاتٍ فَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَكَانَتْ أَكْثَرَ مِمَّا عَدُّوا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّمَا عَدُّوا سِوَاهَا لِأَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِيهَا عِنْدَهُمْ قِيلَ لَهُ فَكَانَ لَا يَجُوزُ لهم أن يقول سُورَةُ الْإِخْلَاصِ أَرْبَعُ آيَاتٍ وَسُورَةُ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَالثَّلَاثُ وَالْأَرْبَعُ إنَّمَا هِيَ بَعْضُ السُّورَةِ ولو كان كذلك لَوَجَبَ أَنْ يَقُولُوا فِي الْفَاتِحَةِ إنَّهَا سِتُّ آيَاتٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَقَدْ روى عبد الحميد ابن جَعْفَرٍ عَنْ نُوحِ بْنِ أَبِي جَلَالٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ (الحمد لله رب العالمين سَبْعُ آيَاتٍ إحْدَاهُنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
وَشَكَّ بَعْضُهُمْ فِي ذِكْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْإِسْنَادِ
وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ عَنْ عَبْدِ الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي جَلَالٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ (إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها إحْدَى آيَاتِهَا)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ لَقِيت نُوحًا فَحَدَّثَنِي بِهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ وَمِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي السَّنَدِ وَالرَّفْعِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ فِي الْأَصْلِ فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ تَوْقِيفٌ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فَإِنَّهَا إحْدَى آيَاتِهَا مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يُدْرِجُ كَلَامَهُ فِي
(1/11)
1
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَهُمَا لِعِلْمِ السَّامِعِ الَّذِي حَضَرَهُ بِمَعْنَاهُ وَقَدْ وُجِدَ مِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي الْأَخْبَارِ فَغَيْرُ جَائِزٍ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ أَنْ يُعْزَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاحْتِمَالِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَجْهَرُ بِهَا وَظَنَّهَا مِنْ السُّورَةِ لِأَنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ رَوَى الْجَهْرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَيْضًا لَوْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ عَارِيًّا مِنْ الِاضْطِرَابِ فِي السَّنَدِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الرَّفْعِ وَزَوَالِ الِاحْتِمَالِ فِي كَوْنِهِ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَا جَازَ لَنَا إثْبَاتُهَا مِنْ السُّورَةِ إذْ كَانَ طَرِيقُ إثْبَاتِهَا نَقْلَ الْأُمَّةِ عَلَى مَا بين آنفا.
فَصْلٌ وَأَمَّا الْقَوْلُ فِي أَنَّهَا آيَةٌ أَوْ لَيْسَتْ بِآيَةٍ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ تَامَّةٍ فِي سُورَةِ النَّمْلِ وَأَنَّهَا هُنَاكَ بَعْضُ آيَةٍ وَأَنَّ ابْتِدَاءَ الْآيَةِ مِنْ قَوْله تعالى [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ] وَمَعَ ذَلِكَ فَكَوْنُهَا لَيْسَتْ آيَةً تَامَّةً فِي سُورَةِ النَّمْلِ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُون آيَةً في غيرها لوجودها مِثْلَهَا فِي الْقُرْآنِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ [الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ] فِي أَضْعَافِ الْفَاتِحَةِ هُوَ آيَةٌ تَامَّةٌ وَلَيْسَتْ بآية تامة من قوله [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ] عِنْدَ الْجَمِيعِ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ] هُوَ آيَةٌ تَامَّةٌ فِي الْفَاتِحَةِ وَهِيَ بَعْضُ آيَةٍ فِي قَوْله تَعَالَى [وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اُحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ بَعْضَ آيَةٍ فِي فُصُولِ السُّوَرِ وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ آيَةً عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ فَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ أَيَّة تَامَّةً مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ لِأَنَّ الَّتِي فِي سُورَةِ النَّمْلِ لَيْسَتْ بِآيَةٍ تَامَّةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا آيَةٌ تَامَّةٌ
حَدِيثُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سلمة رضى الله تعالى عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ فَعَدَّهَا آيَةً
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ
أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يعد بسم الله الرحمن الرحيم آيَةً فَاصِلَةً رَوَاهُ الْهَيْثَمُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ أَبِي عِكْرِمَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ هَارُونَ عَنْ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَرَوَى أَيْضًا أَسْبَاطٌ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يعد بسم الله الرحمن الرحيم آيَةً
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ
وَرَوَى عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الْبَصْرِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا أَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُخْبِرَك بِآيَةٍ أَوْ سُورَةٍ لم تنزل على نبي بعد سليمان عليه السلام غَيْرِي فَمَشَى وَاتَّبَعْته حَتَّى انْتَهَى إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَأَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ مِنْ أُسْكُفَّةِ الْبَابِ وَبَقِيَتْ الرِّجْلُ الْأُخْرَى ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ بِوَجْهِهِ فقال بأى شيء تفتح القرآن
(1/12)
1
إذا افتتحت الصلاة فقلت ببسم الله الرحمن الرحيم قَالَ ثُمَّ خَرَجَ)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا آيَةٌ إذْ لَمْ تُعَارِضْ هَذِهِ الْأَخْبَارَ أَخْبَارٌ غَيْرُهَا فِي نَفْيِ كَوْنِهَا آيَةً فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ يَلْزَمُك عَلَى مَا أَصَّلْت أَنْ لَا تُثْبِتَهَا آيَةً بِأَخْبَارِ الْآحَادِ حَسَبَ مَا قُلْته فِي نَفْيِ كَوْنِهَا آيَةً مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ قِيلَ لَهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم توقيف الأمة على مقاطع الآية وَمَقَادِيرِهَا وَلَمْ يُتَعَبَّدْ بِمَعْرِفَتِهَا فَجَائِزٌ إثْبَاتُهَا آيَةً بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَمَّا مَوْضِعُهَا مِنْ السُّوَرِ فَهُوَ كَإِثْبَاتِهَا مِنْ الْقُرْآنِ سَبِيلُهُ النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَلَا بِالنَّظَرِ وَالْمَقَايِيسِ كَسَائِرِ السُّوَرِ وَكَمَوْضِعِهَا مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ أَلَا ترى أنه قد كأنه يكون مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ عَلَى مَوْضِعِ الْآيِ عَلَى مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عُثْمَانَ وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ وَلَمْ يُوجَدْ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوْقِيفٌ في سائر الآي على مباديها وَمَقَاطِعِهَا فَثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مَفْرُوضٍ عَلَيْنَا مَقَادِيرُ الْآيِ فَإِذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا آيَةٌ فَلَيْسَتْ تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ آيَةً فِي كُلِّ مَوْضِعٍ هِيَ مَكْتُوبَةٌ فِيهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ أَوْ أَنْ تَكُونَ آيَةً مُنْفَرِدَةً كُرِّرَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَلَى حَسَبِ مَا يُكْتَبُ فِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ عَلَى جِهَةِ التَّبَرُّكِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ آيَةً فِي كُلِّ مَوْضِعٍ هِيَ مَكْتُوبَةٌ فِيهِ لِنَقْلِ الْأُمَّةِ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْمُصْحَفِ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَخُصُّوا شَيْئًا مِنْهُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَيْسَ وُجُودُهَا مُكَرَّرَةً فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مُخْرِجَهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْقُرْآنِ لِوُجُودِنَا كَثِيرًا مِنْهُ مَذْكُورًا عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ وَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ كُلُّ آيَةٍ مِنْهَا وَكُلُّ لَفْظَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَذْكُورِ فِيهِ نَحْوَ قَوْلِهِ [الْحَيُّ الْقَيُّومُ] في سورة البقرة مثله فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَنَحْوَ قَوْلِهِ [فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ] كُلُّ آيَةٍ مِنْهَا مُفْرَدَةٌ فِي مَوْضِعِهَا مِنْ الْقُرْآنِ لَا عَلَى مَعْنَى تَكْرَارِ آيَةٍ وَاحِدَةٍ وكذلك بسم الله الرحمن الرحيم وَقَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّهَا آيَةٌ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ آيَةً فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذُكِرَتْ فيه.
فَصْلٌ وَأَمَّا قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَابْنَ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيَّ وَالْحَسَنَ بْنَ صَالِحٍ وأبا يوسف ومحمد وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيَّ كَانُوا يَقُولُونَ بِقِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الِاسْتِعَاذَةِ قَبْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَكْرَارِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَعِنْدَ افْتِتَاحِ السُّورَةِ
فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يقرأها فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً عِنْدَ ابْتِدَاءِ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَلَا يُعِيدُهَا مَعَ السُّورَةِ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ
(1/13)
1
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا قَرَأَهَا فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْقِرَاءَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَهَا فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ حَتَّى يُسَلِّمَ وَإِنْ قَرَأَهَا مَعَ كُلِّ سُورَةٍ فَحَسَنٌ قَالَ الْحَسَنُ وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَهَا فِيمَا يَقْضِي لِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ قَرَأَهَا فِي أَوَّلِ صَلَاتِهِ وَقِرَاءَةُ الْإِمَامَ لَهُ قِرَاءَةٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم مِنْ الْقُرْآنِ فِي ابْتِدَاءِ الْقِرَاءَةِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مُفْرَدَةً عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ فَقَطْ حَسَبِ إثْبَاتِهَا فِي ابْتِدَاءِ الْأُمُورِ وَالْكُتُبِ وَلَا مَنْقُولَةً عَنْ مَوَاضِعِهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ قِرَاءَةِ بسم الله الرحمن الرحيم قَبْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَتَجْدِيدِهَا قَبْلَ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجْزِيهِ قِرَاءَتُهَا قَبْلَ الْحَمْدِ وَقَالَ أَبُو يُوسُف يَقْرَأهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَيُعِيدُهَا فِي الْأُخْرَى أَيْضًا قَبْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَبَعْدَهَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً قَالَ مُحَمَّدٌ فَإِنْ قَرَأَ سُوَرًا كَثِيرَةً وَكَانَتْ قِرَاءَتُهُ يُخْفِيهَا قَرَأَهَا عِنْدَ افْتِتَاحِ كُلِّ سُورَةٍ وَإِنْ كَانَ يَجْهَرُ بِهَا لَمْ يَقْرَأْهَا لِأَنَّهُ فِي الْجَهْرِ يَفْصِلُ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ بِسَكْتَةٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَدُلّ عَلَى أن قراءة بسم الله الرحمن الرحيم إنَّمَا هِيَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ أَوْ لِابْتِدَاءِ القراءة وأنها ليست من السورة وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَاهَا آيَةً وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هِيَ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ فَيَقْرَأُهَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ كُلِّ سُورَةٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهَا تُقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ إذَا قَرَأْتَهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ رَكْعَةٍ أَجْزَأَك فِيمَا بَقِيَ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ لَا يقرأها فِي الْمَكْتُوبَةِ سِرًّا وَلَا جَهْرًا وَفِي النَّافِلَةِ إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا تُقْرَأُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَات
حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ صَلَّيْت خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكَانُوا يُسِرُّونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم
وَقَالَ فِي بَعْضِهَا يُخْفُونَ وَفِي بَعْضِهَا كَانُوا لَا يَجْهَرُونَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْفَرْضِ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَهُ فِي الْفَرَائِضِ لَا فِي التَّطَوُّعِ إذْ لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ التَّطَوُّعِ فِعْلُهَا فِي جَمَاعَةٍ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ وَأَنْسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
وَهَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ الْجَهْرِ بِهَا وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَرْكِهَا رَأْسًا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ
رَوَى أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ
(1/14)
1
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا نَهَضَ فِي الثَّانِيَةِ اسْتَفْتَحَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالمين وَلَمْ يَسْكُتْ
قِيلَ لَهُ لَيْسَ لِمَالِكٍ فِيهِ دَلِيلٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْهَا فِي الثَّانِيَةِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى تَرْكِهَا رَأْسًا فَلَا
وَقَدْ رُوِيَ قِرَاءَتُهَا فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ عَنْ على
وعمر وبن عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ قِرَاءَتُهَا فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ لِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْر مُعَارِضٍ لَهُمْ وَعَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ وَلَا فِي النَّفْيِ كَمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي سَائِرِ سُنَنِ الصَّلَاةِ وَأَمَّا وَجْهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى قِرَاءَتِهَا فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ دُونَ سَائِرِ الرَّكَعَاتِ وَسُوَرِهَا فَهُوَ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ وَإِنْ كَانَتْ آيَةً فِي مَوْضِعِهَا عَلَى وَجْهِ الْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ أَمَرَنَا بِالِابْتِدَاءِ بِهَا تَبَرُّكًا ثَمَّ ثَبَتَ أَنَّهَا مَقْرُوءَةٌ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ بِمَا قَدَّمْنَاهُ وَكَانَتْ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ حُرْمَةً وَاحِدَةً وَجَمِيعُ أَفْعَالِهَا مَبْنِيَّةً عَلَى التَّحْرِيمَةِ صَارَ جَمِيعُ الصَّلَاةِ كَالْفِعْلِ الْوَاحِدِ الَّذِي يُكْتَفَى بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَائِهِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهِ وَإِنْ طَالَ كَالِابْتِدَاءِ بِهَا فِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ وَكَمَا لَمْ تُعَدْ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ وَسَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ كَذَلِكَ حُكْمُهَا مَعَ ابْتِدَاءِ السُّورَةِ وَالرَّكَعَاتِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْفَصْلِ
مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أبو دواد قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَوْضُوعَهَا لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ السُّوَرِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى تَكْرَارِهَا عِنْدَ كُلَّ سُورَةٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إذَا كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَهُمَا بِقِرَاءَتِهَا عَلَى حَسَبِ مَوْضُوعِهَا قِيلَ لَهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْفَصْلَ قَدْ عُرِفَ بِنُزُولِهَا وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ فِي الِابْتِدَاءَ بِهَا تَبَرُّكًا وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاء الصَّلَاةِ وَلَا صَلَاةَ هُنَاكَ مُبْتَدَأَةٌ فَيُقْرَأُ مِنْ أَجْلِهَا فَلِذَلِكَ جَازَ الِاقْتِصَارُ بِهَا عَلَى أَوَّلِهَا وَأَمَّا مَنْ قَرَأَهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ لَهَا قِرَاءَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لَا يَنُوبُ عَنْهَا الْقِرَاءَةُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا فَمِنْ حَيْثُ اُحْتِيجَ إلَى اسْتِئْنَافِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا صَارَتْ كَالرَّكْعَةِ الْأُولَى فَلَمَّا كَانَ الْمَسْنُونُ فِيهَا قِرَاءَتُهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الثَّانِيَةِ إذْ كَانَ فِيهَا ابْتِدَاءُ قِرَاءَةٍ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهَا عِنْدَ كُلِّ سُورَةٍ لِأَنَّهَا فَرْضٌ وَاحِدٌ وَكَانَ حُكْمُ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ حُكْمَ
(1/15)
1
مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا دَوَامٌ عَلَى فِعْلٍ قَدْ ابْتَدَأَهُ وَحُكْمُ الدَّوَامِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ كَالرُّكُوعِ إذَا أَطَالَهُ وَكَذَلِكَ السُّجُودُ وَسَائِرُ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الدَّوَامُ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِد مِنْهَا حُكْمُهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ حَتَّى إذَا كَانَ الِابْتِدَاءُ فَرْضًا كَانَ مَا بَعْدَهُ فِي حُكْمِهِ وَأَمَّا مَنْ رَأَى إعَادَتَهَا عِنْدَ كُلِّ سُورَةٍ فَإِنَّهُمْ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا مَنْ لَمْ يَجْعَلهَا مِنْ السُّورَةِ وَالْآخَرُ مَنْ جُعَلَهَا مِنْ أَوَائِلِهَا فَأَمَّا مَنْ جَعَلَهَا مِنْ أَوَائِلِهَا فَإِنَّهُ رَأَى إعَادَتَهَا كَمَا يَقْرَأَ سَائِرَ آيِ السُّورَةِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرَهَا مِنْ السُّورَةِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ كُلَّ سُورَةٍ كَالصَّلَاةِ الْمُبْتَدَأَةِ فَيَبْتَدِئُ فِيهَا بِقِرَاءَتِهَا كَمَا فَعَلَهَا فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا كَذَلِكَ فِي الْمُصْحَفِ كَمَا لَوْ ابْتَدَأَ قِرَاءَةَ السُّورَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ بَدَأَ بِهَا فلذلك إذَا قَرَأَ قَبْلَهَا سُورَةً غَيْرَهَا
وَقَدْ رَوَى أنس ابن مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةٌ آنِفًا ثُمَّ قَرَأَ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ إنا أعطيناك الكوثر)
إلَى آخِرِهَا حَتَّى خَتَمَهَا
وَرَوَى أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ]
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ كَانَ يَبْتَدِئُ قِرَاءَةَ السُّورَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ بِهَا وَكَانَ سَبِيلُهَا أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُهَا فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَفْتَتِحُ أم القرآن ببسم الله الرحمن الرحيم ويفتتح السورة ببسم الله الرحمن الرحيم وروى جرير عن المغيرة قال أمنا إبْرَاهِيمُ فَقَرَأَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ] حَتَّى إذَا خَتَمَهَا وَصَلَ بِخَاتِمَتِهَا [لِإِيلافِ قُرَيْشٍ] ولم يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم.
فصل وأما الْجَهْرُ بِهَا فَإِنَّ أَصْحَابَنَا وَالثَّوْرِيَّ قَالُوا يُخْفِيهَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إنْ شَاءَ جَهَرَ وَإِنْ شَاءَ أَخْفَى وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجْهَرُ بِهَا وَهَذَا الِاخْتِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي الْإِمَامِ إذَا صَلَّى صَلَاةً يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِيهَا اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ فَرَوَى عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ صَلَّيْت خَلْفَ ابن عمر فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ كَانَ عُمَرُ يُخْفِيهَا ثُمَّ يَجْهَرُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَرَوَى عَنْهُ أَنَسٌ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ إبْرَاهِيمُ كَانَ عَبْدُ الله ابن مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ يُسِرُّونَ قِرَاءَةَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم لَا يَجْهَرُونَ بِهَا وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّ أَبَا بكر وعمر كانا يسران ببسم الله الرحمن الرحيم وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ وَرَوَى الْمُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ جَهْرُ الْإِمَامِ ببسم الله الرحمن الرحيم فِي الصَّلَاةِ بِدْعَةٌ وَرَوَى جَرِيرٌ عَنْ عَاصِمٍ الأحول قال ذكر لعكرمة الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في
(1/16)
1
الصَّلَاةِ فَقَالَ أَنَا إذَا أَعْرَابِيٌّ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ بَلَغَنِي عَنْ ابن مسعود قال الجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم أعرابية وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ كَثِيرٍ قَالَ سئل الحسن عن الجهر ببسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ إنَّمَا يفعل ذلك الأعرابى وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَهَرَ بِهَا وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابن عباس في الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قَالَ ذَلِكَ فِعْلُ الْأَعْرَابِ
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ عَدَّهَا آيَةً
وَأَنَّهُ قَالَ هِيَ تَمَامُ السَّبْعِ الْمَثَانِي
وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ الْجَهْرُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ
وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قال كان عمر وعلى لا يجهران ببسم الله الرحمن الرحيم وَلَا بِالتَّعَوُّذِ وَلَا بِآمِينَ
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ جَهَرَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ فَهَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ مُخْتَلِفُونَ فِيهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا
وَرَوَى أَنَسٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانُوا يُسِرُّونَ وَفِي بَعْضِهَا كَانُوا يُخْفُونَ
وَجَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ حَدَثًا فِي الْإِسْلَامِ
وَرَوَى أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَيَخْتِمُهَا بِالتَّسْلِيمِ
حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَضْرَمِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ مَا جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةٍ مكتوبة ببسم الله الرحمن الرحيم
وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إذَا كَانَ عِنْدَك أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ فِي مَوْضِعِهَا فَالْوَاجِبُ الْجَهْرُ بِهَا كَالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقُرْآنِ إذْ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ الْجَهْرُ بِبَعْضِ الْقِرَاءَةِ دُونَ بَعْضٍ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ قِيلَ لَهُ إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى وَجْهِ الِابْتِدَاءِ بِهَا تَبَرُّكًا جَازَ أَنْ لَا يَجْهَرَ بِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى [إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ] الْآيَةَ هُوَ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَنْ اسْتَفْتَحَ بِهِ الصَّلَاةَ لَا يَجْهَرُ بِهِ مَعَ الْجَهْرِ بِسَائِرِ الْقِرَاءَةِ كَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إخْفَائِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ إذْ لَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَجَهَرَ بِهَا كَجَهْرِهِ بِسَائِرِهَا فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا رَوَى نُعَيْمٍ الْمُجَمِّرِ أَنَّهُ صَلَّى وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ لَمَّا سَلَّمَ قَالَ إنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً برسول
(1/17)
1
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا
رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهَا فَيَقْرَأُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين)
وَبِمَا
رَوَى جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَ يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم)
قيل له وأما حَدِيثُ نُعَيْمٍ الْمُجَمِّرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْجَهْرِ بِهَا لِأَنَّهُ إنَّمَا ذكر بها أَنَّهُ قَرَأَهَا وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ جَهَرَ بِهَا وَجَائِزٌ أَنْ لَا يَكُونَ جَهَرَ بِهَا وَإِنْ قَرَأَهَا وَكَانَ عِلْمُ الرَّاوِي بِقِرَاءَتِهَا إمَّا مِنْ جِهَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِخْبَارِهِ إيَّاهُ بِذَلِكَ أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ سَمِعَهَا لِقُرْبِهِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَجْهَرْ بِهَا كَمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا
وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهَا
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا نَهَضَ فِي الثَّانِيَةِ اسْتَفْتَحَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَمْ يَسْكُتْ)
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَنَّهَا مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا لَمْ يُجْهَرْ بِهَا لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَعُدُّهَا آيَةً مِنْهَا لَا يَجْهَرُ بِهَا وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَرَوَى اللَّيْثُ عن عبد الله بن عبيد بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ مُعَلَّى أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَعَتَتْ قِرَاءَتَهُ مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرْفًا فَفِي هَذَا الْخَبَر أَنَّهَا نَعَتَتْ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَهْرٍ وَلَا إخْفَاءٍ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ قَرَأَهَا وَنَحْنُ كَذَلِكَ نَقُولُ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ لَا يجهر بها وجائز أن يكون النبي عليه السلام أَخْبَرَهَا بِكَيْفِيَّةِ قِرَاءَتِهِ فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ سَمِعَتْهُ يَقْرَأُ غَيْرَ جَاهِرٍ بِهَا فَسَمِعَتْهُ لِقُرْبِهَا مِنْهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا ذَكَرَتْ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهَا وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ صَلَاةَ فَرْضٍ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَا يُصَلِّي الْفَرْضَ مُنْفَرِدًا بَلْ كَانَ يُصَلِّيهَا فِي جَمَاعَةٍ وَجَائِزٌ عِنْدَنَا لِلْمُنْفَرِدِ وَالْمُتَنَفِّلِ أَنْ يَقْرَأَ كَيْفَ شَاءَ مِنْ جَهْرٍ أَوْ إخْفَاءٍ وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ فَإِنَّ جَابِرًا مِمَّنْ لَا تَثْبُتُ بِهِ حُجَّةٌ لِأُمُورٍ حُكِيَتْ عَنْهُ تُسْقِطُ رِوَايَتَهُ مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِالرَّجْعَةِ عَلَى مَا حُكِيَ وَكَانَ يَكْذِبُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَرْوِيهِ وَقَدْ كَذَّبَهُ قَوْمٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ
وَقَدْ رَوَى أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْهَرُ بِهَا
وَلَوْ كَانَ الْجَهْرُ ثَابِتًا عِنْدَهُ لَمَا خَالَفَهُ إلَى غَيْرِهِ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ تَسَاوَتْ الْأَخْبَارُ فِي الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ الْإِخْفَاءُ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا ظُهُورُ عَمَلِ السَّلَفِ بِالْإِخْفَاءِ دُونَ
(1/18)
1
الْجَهْرِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ الْمُغَفَّلِ وَأُنْسُ بْنُ مَالِكٍ وَقَوْلُ إبْرَاهِيمَ الْجَهْرُ بِهَا بِدْعَةٌ إذْ كَانَ مَتَى رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ وَظَهَرَ عَمَلُ السَّلَفِ بِأَحَدِهِمَا كَانَ الَّذِي ظَهَرَ عَمَلُ السَّلَفِ بِهِ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أن الجهر بها لو كان ثابتا ورد النَّقْلُ بِهِ مُسْتَفِيضًا مُتَوَاتِرًا كَوُرُودِهِ فِي سَائِرِ الْقِرَاءَةِ فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ النَّقْلُ بِهِ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ إذا الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ مَسْنُونِ الْجَهْرِ بِهَا كَهِيَ إلَى مَعْرِفَةِ مَسْنُونِ الْجَهْرِ فِي سَائِرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّ اُحْتُجَّ بِمَا حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ محمد ابن يعقوب الأصم قال حدثنا ربيع بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن عثمان بن حنتم عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَصَلَّى بِهِمْ ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وَلَمْ يُكَبِّرْ إذَا خَفَضَ وَإِذَا رَفَعَ فَنَادَاهُ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ سَلَّمَ وَالْأَنْصَارُ أَيْ مُعَاوِيَةُ سَرَقْتَ الصلاة أين بسم الله الرحمن الرحيم وَأَيْنَ التَّكْبِيرُ إذَا خَفَضْت وَإِذَا رَفَعْت فَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةً أُخْرَى فَقَالَ فِيهَا ذَلِكَ الَّذِي عَابُوا عَلَيْهِ قَالَ فَقَدْ عَرَفَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارِ الْجَهْرَ بِهَا قِيلَ لَهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْت لَعَرَفَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ الْمُغَفَّلِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ رَوَيْنَا عَنْهُمْ الْإِخْفَاءَ دُونَ الْجَهْرِ وَلَكَانَ هَؤُلَاءِ أَوْلَى بِعِلْمِهِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (لِيَلِيَنِّي منكم أولوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى)
وَكَانَ هَؤُلَاءِ أَقْرَبَ إلَيْهِ فِي حال الصلاة من غيرهم من القول الْمَجْهُولِينَ الَّذِينَ ذَكَرْت وَعَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِاسْتِفَاضَةٍ لِأَنَّ الَّذِي ذَكَرْت مِنْ قَوْلِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إنَّمَا رَوَيْته مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْجَهْرِ وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَنَحْنُ أَيْضًا نُنْكِرُ تَرْكَ قِرَاءَتِهَا وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ أَيُّهُمَا أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ وَالْأَحْكَامُ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا قَوْلُهُ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم الْأَمْرُ بِاسْتِفْتَاحِ الْأُمُورِ لِلتَّبَرُّكِ بِذَلِكَ وَالتَّعْظِيمُ لِلَّهِ عز وجل به وذكرها على الذبيحة وشعار وعلم من علام الدِّينِ وَطَرْدِ الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (إذَا سَمَّى اللَّهَ الْعَبْدُ عَلَى طَعَامِهِ لَمْ يَنَلْ منه الشيطان وَإِذَا لَمْ يُسَمِّهِ نَالَ مِنْهُ مَعَهُ)
وَفِيهِ إظْهَارُ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَفْتَتِحُونَ أُمُورَهُمْ بِذِكْرِ الْأَصْنَامِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَهُوَ مَفْزَعٌ لِلْخَائِفِ وَدَلَالَةٌ مِنْ قَائِلِهِ على انقطاعه إلى الله تعالى ولجأه إلَيْهِ وَأُنْسٌ لِلسَّامِعِ
(1/19)
1
وَإِقْرَارٌ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَاعْتِرَافٌ بِالنِّعْمَةِ وَاسْتِعَانَةٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَعِيَاذَةٌ بِهِ وَفِيهِ اسْمَانِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَخْصُوصَةِ بِهِ لَا يُسَمَّى بِهِمَا غَيْرُهُ وَهُمَا اللَّهُ وَالرَّحْمَنُ.
 
بَابٌ قِرَاءَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي الصَّلَاةِ
قَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ الْأُولَيَيْنِ فَإِنْ تَرَكَ قِرَاءَةَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وقرأ غيرها فقد أساء وتجزيه صَلَاتُهُ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إذَا لَمْ يَقْرَأْ أُمَّ الْقُرْآنِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَعَادَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَقَلُّ مَا يُجْزِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا حَرْفًا وَخَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ أَعَادَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عن عباد ابن رِبْعِيٍّ قَالَ قَالَ عُمَرُ لَا تُجْزِي صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَآيَتَيْنِ فَصَاعِدًا وَرَوَى ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ الْجَرِيرِيِّ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ لَا تُجْزِي صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَآيَتَيْنِ فَصَاعِدًا وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَالَ اقْرَأْ مِنْهُ ما قل أو أكثر وَلَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ قَلِيلٌ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّ مَنْ نَسِيَ قِرَاءَةَ فاتحة الكتاب وقرأ غيرها لم يضره وَتُجْزِيهِ وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ يَحْيَى أَنَّ جَابِرَ بْن زَيْدٍ قَامَ يُصَلِّي ذَاتَ يَوْمٍ فَقَرَأَ [مُدْهامَّتانِ] ثُمَّ رَكَعَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي أَنَّهَا لَا تُجْزِي إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَآيَتَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى جَوَازِ التَّمَامِ لَا عَلَى نَفْيِ الْأَصْلِ إذْ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِهَا بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَحْدَهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهَا مَعَ تَرْكِ الْفَاتِحَةِ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا قَوْله تَعَالَى [أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ] ومعناه قراءة الفجر في صلاة الفجر اتفاق الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْضَ عَلَيْهِ فِي الْقِرَاءَةِ وَقْتَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَّا فِي الصَّلَاةِ وَالْأَمْرُ عَلَى الْإِيجَابِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ النَّدْبِ فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ جَوَازَهَا بِمَا قَرَأَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ إذْ لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصٌ لِشَيْءٍ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] وَالْمُرَادُ بِهِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ] إلى قوله [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] وَلَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ أَنَّ ذَلِكَ فِي شَأْنِ الصلاة في الليل وقوله تعالى [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] عُمُومٌ عِنْدَنَا فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهَا مِنْ النَّوَافِلِ وَالْفَرَائِضِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الصَّلَاةِ مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ
حديث
(1/20)
1
أَبِي هُرَيْرَةَ وَرِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ فِي تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الصَّلَاةَ حِينَ لَمْ يُحْسِنْهَا فَقَالَ لَهُ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ وَأَمْرُهُ بِذَلِكَ
عِنْدَنَا إنَّمَا صَدَرَ عَنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّا مَتَى وَجَدْنَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرًا يُوَاطِئُ حُكْمًا مَذْكُورًا فِي الْقُرْآنِ وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّهُ إنَّمَا حَكَم بِذَلِكَ عَنْ الْقُرْآنِ كَقَطْعِهِ السَّارِقَ وَجَلْدِهِ الزَّانِيَ وَنَحْوِهَا ثُمَّ لَمْ يُخَصِّصْ نَفْلًا مِنْ فَرْضٍ فَثَبَتَ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ فَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا بِغَيْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ وَالثَّانِي أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ فِي جَوَازِهَا بِغَيْرِهَا وَعَلَى أَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ فِي شَأْنِ صَلَاةِ اللَّيْلِ لَوْ لَمْ يُعَاضِدْهُ الْخَبَرُ لَمْ يَمْنَعْ لُزُومَ حُكْمِهَا فِي غَيْرِهَا مِنْ الْفَرَائِض وَالنَّوَافِلِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ فَسَائِرُ الصَّلَوَاتِ مِثْلُهَا بِدَلَالَةِ أَنَّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ الْقِرَاءَةِ وَأَنَّ مَا جَازَ فِي النَّفْلِ جَازَ فِي الْفَرْضِ مِثْلُهُ كَمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَسَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هُمَا مُخْتَلِفَانِ عِنْدَكَ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَك فِي الْفَرْضِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي النَّفْلِ إذَا صَلَّاهَا قِيلَ لَهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَلَ آكد في حكم القراءة من الفرض إذا جَازَ النَّفَلُ مَعَ تَرْكِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَالْفَرْضُ أَحْرَى أَنْ يَجُوزَ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا وَمَنْ أَوْجَبَ فَرْضَ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي أَحَدِهِمَا أَوْجَبَهَا فِي الْآخَرِ وَمَنْ أَسْقَطَ فَرْضَهَا فِي أَحَدِهِمَا أَسْقَطَهُ فِي الْآخَرِ فَلَمَّا ثَبَتَ عِنْدَنَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ جَوَازُ النَّفْلِ بِغَيْرِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْفَرْضِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَمَا الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ تَرْكِهَا بِالْآيَةِ قِيلَ لَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ اقْرَأْ مَا شِئْت أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِرَجُلِ بِعْ عَبْدِي هَذَا بِمَا تَيَسَّرَ أَنَّهُ مُخَيِّرٌ لَهُ فِي بَيْعِهِ لَهُ بِمَا رَأَى وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ لَمْ يَجُزْ لَنَا إسْقَاطُهُ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ لِأَنَّ فِيهِ نَسْخَ مَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ مِنْ التَّخْيِيرِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هُوَ بمنزلة قوله [فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ] وَوُجُوبُ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مَعَ وُقُوعِ الِاسْمِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ مَا يُهْدَى وَيُتَصَدَّقُ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ نَسْخُ الْآيَةِ قِيلَ لَهُ إنَّ خِيَارَهُ بَاقٍ فِي ذَبْحِهِ أَيُّهَا شَاءَ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ رَفْعُ حُكْمِهَا مِنْ التَّخْيِيرِ وَلَا نَسْخُهُ وَإِنَّمَا فِيهِ التَّخْصِيصُ وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا لَوْ وَرَدَ أَثَرٌ فِي قِرَاءَةِ آيَةٍ دُونَ مَا هُوَ أَقَلَّ مِنْهَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ نَسْخُ الْآيَةِ لِأَنَّ خِيَارَهُ بَاقٍ فِي أن يقرأ أيما شاء من آي
(1/21)
1
القرآن قال قائل قوله [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] يُسْتَعْمَلُ فِيمَا عَدَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ نَسْخٌ لَهَا قِيلَ لَهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِالْقِرَاءَةِ عِبَارَةً عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِبَادَةً إلَّا وَهِيَ مِنْ أَرْكَانِهَا الَّتِي لَا تَصِحُّ إلَّا بِهَا الثَّانِي أَنَّ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ فِي جَمِيعِ مَا يُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَجُوز تَخْصِيصُهُ فِي بَعْضِ مَا يُقْرَأْ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا الثَّالِثُ أَنَّ قوله [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ] أَمْرٌ وَحَقِيقَتُهُ وَمُقْتَضَاهُ الْوَاجِبُ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى النَّدْبِ مِنْ الْقِرَاءَةِ دُونَ الْوَاجِبِ مِنْهَا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ
مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إسماعيل حدثنا حماد عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طلحة عن على بن يحيى ابن خَلَّادٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَقَالَ لَهُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَصَلَّى كَمَا كَانَ يُصَلِّي ثُمَّ جاء إلى النبي عليه السلام فسلم فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّهُ لَا تَتِمُّ صلاة واحد مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَيَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ ثُمَّ يُكَبِّرَ وَيَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ وَيَقْرَأَ بِمَا شَاءَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ يَقُولَ الله أكبر ثم يركع حتى يطمئن مَفَاصِلُهُ
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ وَذَكَرَ نَحْوَهُ ثُمَّ قَالَ إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ثُمَّ اقْرَأْ مَا شِئْت وَفِي الثَّانِي مَا تَيَسَّرَ فَخَيَّرَهُ فِي الْقِرَاءَةِ بِمَا شَاءَ وَلَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَرْضًا لَعَلَّمَهُ إيَّاهَا مَعَ عِلْمِهِ بجهل الرَّجُلِ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ فِي تَعْلِيمِ الْجَاهِلِ عَلَى بَعْضِ فُرُوضِ الصَّلَاةِ دُون بَعْضٍ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَتَهَا لَيْسَتْ بفرض
وحدثنا عبد الباقي بن قانع حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَزَّارُ قَالَ حَدَّثَنَا عامر ابن سَيَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو شَيْبَةَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ يُقْرَأُ فِيهَا فَاتِحَةُ الْكِتَابِ أَوْ غَيْرُهَا مِنْ الْقُرْآنِ)
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بقية عن خلد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ بهذه القصة
(1/22)
1
قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قُمْت فَتَوَجَّهْت إلَى الْقِبْلَةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَبِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقْرَأَ
وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فَذَكَرَ فِيهِ قِرَاءَةَ أُمِّ الْقُرْآنِ وَغَيْرَهَا وَهَذَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْأَخْبَارِ الأخر لأنه محمول على أنه يقرأ بها إن تَيَسَّرَ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ عَلَى تَعْيِينِ الْفَرْضِ فِيهَا لِمَا فِيهِ مِنْ نَسْخِ التَّخْيِيرِ الْمَذْكُورِ فِي غَيْرِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ غَيْرُ مَنْسُوخٍ بِالْآخَرِ إذْ كَانَا فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَمَّا ذَكَرَ فِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ التَّخْيِيرَ فِيمَا يُقْرَأُ وَذَكَرَ فِي الْآخَرِ الْأَمْرَ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ وَأَثْبُت التَّخْيِيرَ فِيمَا عَدَاهَا بِقَوْلِهِ وَبِمَا شاء الله أن تقرأ بَعْدَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ التَّخْيِيرَ الْمَذْكُورَ فِي الْأَخْبَارِ الْأُخَرِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا عَدَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَأَنَّ تَرْكَ ذِكْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ إنَّمَا هُوَ إغْفَالٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَلِأَنَّ فِي خَبَرِنَا زِيَادَةً وَهُوَ الْأَمْرُ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ بِلَا تَخْيِيرٍ قِيلَ لَهُ غَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُ الْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ التَّخْيِيرُ مُطْلَقًا عَلَى الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ فِيهِ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ عَلَى مَا ادَّعَيْت لِإِمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ نَقُولَ التَّخْيِيرُ الْمَذْكُورُ فِي الْخَبَرِ الْمُطْلَقِ حُكْمُهُ ثَابِتٌ فِي الْخَبَرِ الْمُقَيَّدِ بِذِكْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَيَكُونُ التَّخْيِيرُ عَامًّا فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهَا كَأَنَّهُ قَالَ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ إنْ شِئْت وَبِمَا سِوَاهَا فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ زِيَادَةِ التَّخْيِيرِ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ دُونَ تَخْصِيصِهِ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ دُونَ بَعْضٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَيْمُونٍ الْبَصْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اُخْرُجْ فَنَادِ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّهُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِقُرْآنٍ وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا زَادَ)
وَقَوْلُهُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِالْقُرْآنِ
يَقْتَضِي جَوَازَهَا بِمَا قَرَأَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ
وَقَوْلُهُ وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا زَادَ
يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِهَا بِغَيْرِهَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ مُتَعَيِّنًا بِهَا لَمَا
قَالَ وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا زَادَ
وَلَقَالَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
حَدِيثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَيُّمَا صَلَاةٍ لَمْ يُقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ) وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي السَّائِبِ مولى هشام ابن زُهْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاخْتِلَافُهُمَا فِي السَّنَدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُوهِنُهُ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ وَمِنْ أَبِي السَّائِبِ جَمِيعًا فَلَمَّا قَالَ فَهِيَ
(1/23)
1
خِدَاجٌ وَالْخِدَاجُ النَّاقِصَةُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِهَا مَعَ النُّقْصَانِ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ جَائِزَةً لَمَا أَطْلَقَ عَلَيْهَا اسْمَ النُّقْصَانِ لِأَنَّ إثْبَاتَهَا نَاقِصَةً يَنْفِي بُطْلَانَهَا إذْ لَا يَجُوزُ الْوَصْفُ بِالنُّقْصَانِ لِمَا لَمْ يَثْبُتُ مِنْهُ شَيْءٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلنَّاقَةِ إذَا حَالَتْ فَلَمْ تَحْمِلْ إنَّهَا قَدْ أَخَدَجَتْ وَإِنَّمَا يُقَالَ أَخَدَجَتْ وَخَدَجَتْ إذَا أَلْقَتْ وَلَدَهَا نَاقِصَ الْخِلْقَةِ أَوْ وَضَعَتْهُ لِغَيْرِ تَمَامٍ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ فَأَمَّا مَا لَمْ تَحْمِل فَلَا تُوصَفُ بِالْخِدَاجِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ جَوَازُ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ إذْ النُّقْصَانُ غَيْرُ نَافٍ لِلْأَصْلِ بَلْ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْأَصْلِ حَتَّى يَصِحَّ وَصْفُهَا بِالنُّقْصَانِ
وَقَدْ رَوَى أَيْضًا عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ (كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ)
فَأَثْبَتَهَا نَاقِصَةً وَإِثْبَاتُ النُّقْصَانِ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْأَصْلِ عَلَى مَا وَصَفْنَا
وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (إنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ يُكْتَبُ لَهُ نِصْفُهَا خُمُسُهَا عُشْرُهَا)
فَلَمْ يَبْطُلْ جُزْءٌ بِنُقْصَانِهَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ
قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُحَمَّدُ بْنُ عِجْلَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ صَلَّى صَلَاةً وَلَمْ يَقْرَأْ فِيهَا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ فَهِيَ خِدَاجٌ فَهِيَ خِدَاجٌ غَيْرُ تَمَامٍ)
وَهَذَا الْحَدِيثُ يُعَارِضُ حَدِيثَ مَالِكٍ وَابْنِ عُيَيْنَةَ فِي ذِكْرِهِمَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ دُونِ غَيْرِهَا وَإِذَا تَعَارَضَا سَقَطَا فَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهَا نَاقِصَةً إذَا لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قِيلَ لَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَارَضَ مَالِكٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ بِمُحَمَّدِ بْنِ عِجْلَانَ بَلْ السَّهْوُ وَالْإِغْفَالُ أَجْوَزُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى رِوَايَتِهِمَا بِهِ وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعَارُضٌ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَهُمَا جَمِيعًا قَالَ مَرَّةً وَذَكَرَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَذَكَرَ مَرَّةً أُخْرَى الْقِرَاءَةَ مُطْلَقَةً وَأَيْضًا فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بذكر الإطلاق ما قيد فِي خَبَرِ هَذَيْنِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إذَا جَوَّزْت أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ قَالَ الْأَمْرَيْنِ فَحَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ عِجْلَانَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ رَأْسًا لِإِثْبَاتِهِ إيَّاهَا نَاقِصَةً مَعَ عَدَمِ الْقِرَاءَةِ رَأْسًا قِيلَ لَهُ نَحْنُ نَقْبَلُ هَذَا السُّؤَالَ وَنَقُولُ كَذَلِكَ يَقْتَضِي ظَاهِرُ الْخَبَرَيْنِ إلَّا أَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْقِرَاءَةِ يُفْسِدُهَا فَحَمَلْنَاهُ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ الْآخَرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ رُوِيَتْ أَخْبَارٌ أُخَرُ فِي قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ يَحْتَجُّ بِهَا مِنْ يَرَاهَا فَرْضًا فَمِنْهَا
حَدِيثُ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ أبى السائب مولى هشام ابن زُهْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْت الصَّلَاةَ بيني
(1/24)
1
وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي)
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالُوا فَلَمَّا عَبَّرَ بِالصَّلَاةِ عَنْ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوضَهَا كَمَا أَنَّهُ لَمَّا عَبَّرَ عَنْ الصَّلَاةِ بِالْقُرْآنِ فِي قوله [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ] وَأَرَادَ قِرَاءَةَ صَلَاةِ الْفَجْرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوضِهَا وَكَمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِالرُّكُوعِ فَقَالَ [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِهَا قِيلَ لَهُ لَمْ تَكُنْ الْعِبَارَةُ عَنْهُمَا لِمَا ذَكَرْت مُوجِبًا لِفَرْضِ الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ فِيهَا دُون مَا تَنَاوَلَهُ مِنْ لَفْظِ الْأَمْرِ الْمُقْتَضِي لِلْإِيجَابِ وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي أَمْرٌ وَإِنَّمَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الصَّلَاةُ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُقْتَضٍ لِلْإِيجَابِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى النَّوَافِلِ وَالْفُرُوضِ وَقَدْ أَفَادَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا الْحَدِيثِ نَفْيَ إيجَابِهَا لِأَنَّهُ
قَالَ فِي آخِرِهِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ
فَأَثْبَتَهَا نَاقِصَةً مَعَ عَدَمِ قِرَاءَتِهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَسْخَ أَوَّلِ كَلَامِهِ بِآخِرِهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَذِكْرُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قِرَاءَتُهَا فَرْضًا فِيهَا وَهَذَا كَمَا
رَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عن أنس ابن أَبِي أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعِ بن العميان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ الْمُطَّلِبِ ابن أبى وداعة قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الصَّلَاةُ مَثْنَى مَثْنَى وَتَشَهُّدٌ فِي كُلِّ ركعتين وتبأس وتمكن وَتَقَنُّعٌ لِرَبِّك وَتَقُولُ اللَّهُمَّ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهِيَ خِدَاجٌ)
وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا سَمَّاهُ صَلَاةً مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَرْضًا فيها ومما يحتاج به المخالفون أيضا
حديث عبادة ابن الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ)
وَبِمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أُنَادِيَ أَنْ لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
فَمَا زَادَ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (لَا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)
يحتمل لنفى الْأَصْل وَنَفْيَ الْكَمَالِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ عِنْدَنَا عَلَى نَفْيِ الْأَصْلِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْكَمَالِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إرَادَةُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ مَتَى أَرَادَ نَفْيَ الْأَصْلِ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِذَا أَرَادَ نَفْيَ الْكَمَالِ وَإِثْبَاتَ النُّقْصَانِ فَلَا مَحَالَةَ بَعْضُهُ ثَابِتٌ وَإِرَادَتُهُمَا مَعًا مُنْتَفِيَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَفْيَ الْأَصْلِ أَنَّ إثْبَاتَ ذَلِكَ إسْقَاطُ التَّخْيِيرِ فِي قَوْله تَعَالَى [فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] وَذَلِكَ نَسْخٌ وَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ الْقُرْآنِ
(1/25)
1
بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا
رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَابْنُ فُضَيْلٍ وَأَبُو سُفْيَانَ عَنْ أَبِي نَضِرَةَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا تَجْزِي صَلَاةٌ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِي كُلِّ ركعة بالحمد لِلَّهِ وَسُورَةٌ)
فِي الْفَرِيضَةِ وَغَيْرِهَا إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ مَعَهَا غَيْرُهَا وَقَالَ مُعَاوِيَةُ لَا صَلَاةَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَفْيَ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ نَفْيُ الْكَمَالِ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهَا