زاد المسير المكتب الإسلامي 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

    
 
  
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
 
 
 
 
  
 
[ زاد المسير - ابن الجوزي ]
الكتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
الناشر : المكتب الإسلامي - بيروت
الطبعة الثالثة ، 1404
عدد الأجزاء : 9
[طبعة أخرى]
 
إن الله لطيف قال الزجاج لطيف باستخراجها خبير بمكانها وهذا مثل لأعمال العباد والمراد أن الله تعالى يأتي بأعمالهم يوم القيامة من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
قوله تعالى واصبر على ما أصابك أي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأذى وباقي الآية مفسر في آل عمران ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير
قوله تعالى ولا تصعر خدك للناس قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو جعفر ويعقوب تصعر بتشديد العين من غير ألف وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بألف من غير تشديد قال الفراء هما لغتان ومعناهما الإعراض من الكبر وقرأ أبي بن كعب وأبو رجاء وابن السميفع وعاصم الجحدري ولا تصعر باسكان الصاد وتخفيف العين من غير ألف وقال الزجاج معناه لا تعرض عن الناس تكبرا يقال أصاب البعير صعر إذا أصابه داء يلوي منه عنقه وقال ابن عباس هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه كالمستكبر وقال ابو العالية ليكن الغني والفقير عندك في العلم سواء وقال مجاهد هو الرجل يكون بينه وبين أخيه الحنة فيراه فيعرض عنه وباقي الآية بعضه مفسر في بني إسرائيل وبعضه في سورة النساء
(6/322)
 
 
قوله تعالى واقصد في مشيك أي ليكن مشيك قصدا لا تخيلا ولا إسراعا قال عطاء امش بالوقار والسكينة
قوله تعالى واغضض من صوتك أي انقص منه قال الزجاج ومنه قولهم غضضت بصري وفلان يغص من فلان أي يقصر به
إن أنكر الأصوات وقرأ أبو المتوكل وابن ابي عبلة ان انكر الاصوات بفتح الهمزة ومعنى أنكر أقبح تقول أتانا فلان بوجه منكر أي قبيح وقال المبرد تأويله أن الجهر بالصوت ليس بمحمود وأنه داخل في باب الصوت المنكر وقال ابن قتيبة عرفه قبح رفع الأصوات في المخاطبة والملاحاة بقبح أصوات الحمير لأنها عالية قال ابن زيد لو كان رفع الصوت خيرا ما جعله الله للحمير وقال سفيان الثوري صياح كل شئ تسبيح لله عز و جل إلا الحمار فانه ينهق بلا فائدة
فان قيل كيف قال لصوت ولم يقل لأصوات الحمير
الجواب أن لكل جنس صوتا فكأنه قال إن أنكر أصوات الأجناس صوت هذا الجنس
ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الارض وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آبائنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير
قوله تعالى وأسبغ عليكم أي أوسع وأكمل نعمه قرأ نافع
(6/323)
 
 
وأبو عمرو وحفص عن عاصم نعمه أرادوا جميع ما انعم به وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم نعمة على التوحيد قال الزجاج هو ما أعطاهم من توحيده وروى الضحاك عن ابن عباس قال سألت رسول الله ص فقلت يا رسول الله ما هذه النعمة الظاهرة والباطنة فقال أما ما ظهر فالإسلام وما سوى الله من خلقك وما أفضل عليك من الرزق وأما ما بطن فستر مساوئ عملك ولم يفضحك وقال الضحاك الباطة المعرفة والظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الاعضاء
قوله تعالى أولو كان الشيطان يدعوهم هو متروك الجواب تقديره أفتتبعونه
ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر
(6/324)
 
 
يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم قوله تعالى ومن يسلم وجهه وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية وقتادة ومن يسلم بفتح السين وتشديد اللام وذكر المفسرون أن قوله ومن كفر فلا يحزنك كفره منسوخ بآية السيف ولا يصح لانه تسلية عن الحزن وذلك لا ينافي الأمر بالقتال وما بعد هذا قد تقدم تفسير ألفاظه في مواضع هود 48 , العنكبوت61 , البقرة267 إلى قوله ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام وفي سبب نزولها قولان
أحدهما أن أحبار اليهود قالوا لرسول الله ص أرأيت قول الله عز و جل وما أوتيتم من العلم إلا قليلا الاسراء إيانا يريد أم قومك فقال كلا فقالوا ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شئ فقال إنها في علم الله قليل فنزلت هذه الآية رواه سعيد ابن جبير عن ابن عباس
والثاني أن المشركين قالوا في القرآن إنما هو كلام يوشك أن ينفد وينقطع فنزلت هذه الآية قاله قتادة
(6/325)
 
 
ومعنى الآية لو كانت شجر الأرض أقلاما وكان البحر ومعه سبعة أبحر مدادا وفي الكلام محذوف تقديره فكتب بهذه الأقلام وهذه البحور كلمات الله لتكسرت الأقلام ونفذت البحور ولم تنفذ كلمات الله أي لم تنقطع
فأما قوله والبحر فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والبحر بالرفع ونصبه أبو عمرو وقال الزجاج من قرأ والبحر بالنصب فهو عطف على ما المعنى ولو أن ما في الأرض ولو أن البحر والرفع حسن على معنى والبحر هذه حاله قال اليزيدي ومعنى يمده من بعده يزيد فيه يقال مد قدرك أي زد في مائها وكذلك قال ابن قتيبة يمده من المداد لا من الإمداد يقال مددت دواتي بالمداد وأمددته بالمال والرجال ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة أن الله سميع بصير ألم تر ان الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في
(6/326)
 
 
الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور
قوله تعالى ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة سبب نزولها أن أبي بن خلف في آخرين من قريش قالوا للنبي ص إن الله خلقنا أطوارا نطفة علقة مضغة عظاما لحما ثم تزعم أنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة فنزلت هذه الآية ومعناها ما خلقكم ايها الناس جميعا في القدرة إلا كخلق نفس واحدة ولا بعثكم جميعا في القدرة إلا كبعث نفس واحدة قاله مقاتل
وما بعد هذا قد تقدم تفسيره آل عمران الرعد الحج إلى قوله ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله قال ابن عباس من نعمه جريان الفلك ليريكم من آياته أي ليريكم من صنعته عجائبه في
(6/327)
 
 
البحر وابتغاء الرزق إن في ذلك لآيات لكل صبار قال مقاتل أي لكل صبور على أمر الله شكور في نعمه
قوله تعالى وإذا غشيهم يعني الكفار وقال بعضهم هو عام في الكفار والمسلمين موج كالظل قال ابن قتيبة وهي جمع ظلة يراد أن بعضه فوق بعض فله سواد من كثرته
قوله تعالى دعوا الله مخلصين له الدين وقد سبق شرح هذا يونس والمعنى أنهم لا يذكرون أصنامهم في شدائدهم إنما يذكرون الله وحده وجاء في الحديث أن عكرمة بن ابي جهل لما هرب يوم الفتح من رسول الله ص ركب البحر فأصابتهم ريح عاصف فقال اهل السفينة أخلصوا فان آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا فقال عكرمة ما هذا الذي تقولون فقالوا هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله فقال هذا إله محمد الذي كان يدعونا إليه لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجيني في البر غيره ارجعوا بنا فرجع فأسلم
قوله تعالى فمنهم مقتصد فيه ثلاثة أقوال
أحدها مؤمن قاله الحسن
والثاني مقتصد في قوله وهو كافر قاله مجاهد يعني أنه يعترف بأن الله وحده القادر على إنجائه وإن كان مضمرا للشرك
والثالث أنه العادل في الوفاء بما عاهد الله عليه في البحر من التوحيد قاله مقاتل
فأما الختار فقال الحسن هو الغدار قال ابن قتيبة الختر أقبح الغدر وأشده
(6/328)
 
 
يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس باي أرض تموت إن الله عليم خبير
قوله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم قال المفسرون هذا خطاب لكفار مكة وقوله لا يجزي والد عن ولده أي لا يقضي عنه شيئا من جنايته ومظالمه قال مقاتل وهذا يعني به الكفار وقد شرحنا هذا في البقرة قال الزجاج وقوله هو جاز جاءت في المصاحف بغير ياء والأصل جازي بضمة وتنوين وذكر سيبويه والخليل أن الإختيار في الوقف هو جاز بغير ياء هكذا وقف الفصحاء من العرب ليعلموا أن هذه الياء تسقط في الوصل وزعم يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقف بياء ولكن الاختيار اتباع المصحف
قوله تعالى إن وعد الله حق أي بالبعث والجزاء فلا تغرنكم الحياة الدنيا بزينتها عن الاسلام والتزود لللآخرة ولا يغرنكم بالله أي بحلمه وإمهاله الغرور يعني الشيطان وهو الذي من شأنه أن يغر قال الزجاج الغرور على وزن الفعول وفعول من أسماء المبالغة يقال فلان أكول إذا كان كثير الأكل وضروب إذا كان كثير الضرب فقيل للشيطان غرور لأنه يغر كثيرا وقال ابن قتيبة الغرور بفتح الغين الشيطان وبضمها الباطل
قوله تعالى إن الله عنده علم الساعة سبب نزولها أن رجلا من
(6/329)
 
 
أهل البادية جاء إلى النبي ص فقال إن امرأتي حبلى فأخبرني ما ذا تلد وبلدنا مجدب فأخبرني متى ينزل الغيث وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى اموت فنزلت هذه الآية قاله مجاهد
ومعنى الآية إن الله عز و جل عنده علم الساعة متى تقوم لا يعلم سواه ذلك وينزل الغيث وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وينزل بالتشديد فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث أليلا أم نهارا ويعلم ما في الأرحام لا يعلم سواه ما فيها أذكرا أم أنثى أبيض أو أسود وما تدري نفس ماذا تكسب غدا أخيرا أم شرا وما تدري نفس بأي أرض تموت أي بأي مكان وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب
(6/330)
 
 
وابن أبي عبلة بأية أرض بتاء مكسورة والمعنى ليس أحد يعلم أين مضجعه من الأرض حتى يموت أفي بر او بحر او سهل أو جبل وقال ابو عبيدة يقال بأي أرض كنت وبأية ارض كنت لغتان وقال الفراء من قال باي أرض اجتزأ بتأنيث الارض من ان يظهر في أي تأنيثا آخر قال ابن عباس هذه الخمس لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل مصطفى قال الزجاج فمن أدعى أنه يعلم شيئا من هذه كفر بالقرآن لأنه خالفه
(6/331)
 
 
سورة السجدة
وتسمى سورة المضاجع وهي مكية باجماعهم
وقال الكلبي فيها من المدني ثلاث آيات أولها قوله أفمن كان مؤمنا السجدة وقال مقاتل فيها آية مدنية وهي قوله تتجافى جنوبهم الآية السجدة وقال غيرهما فيها خمس آيات مدنيات أولها تتجافى جنوبهم السجدة بسم الله الرحمن الرحيم آلم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون الله الذي خلق السماوات
(6/332)
 
 
والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون
قوله تعالى تنزيل الكتاب لا ريب فيه قال مقاتل المعنى لا شك فيه أنه تنزيل من رب العالمين
أم يقولون بل يقولون يعني المشركين افتراه محمد من تلقاء نفسه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما اتاهم من نذير من قبلك يعني العرب الذين أدركوا رسول الله ص لم يأتهم نذير من قبل محمد عليه السلام وما بعده قد سبق تفسيره الاعراف إلى قوله ما لكم من دونه من ولي يعني الكفار يقول ليس لكم من دونه عذابه من ولي أي قريب يمنعكم فيرد عذابه عنكم ولا شفيع يشفع لكم أفلا تتذكرون فتؤمنوا يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون
قوله تعالى يدبر الامر من السماء إلى الأرض في معنى الآية قولان احدهما يقضي القضاء من السماء فينزله مع الملائكة إلى الأرض ثم يعرج الملك إليه في يوم من ايام الدنيا فيكون الملك قد قطع في يوم واحد من ايام الدنيا في نزوله وصعوده مسافة ألف سنة من مسيرة الآدمي
والثاني يدبر امر الدنيا مدة ايام الدنيا فينزل القضاء والقدر من
(6/333)
 
 
السماء إلى الارض ثم يعرج إليه أي يعود إليه الأمر والتدبير حين ينقطع أمر الأمراء وأحكام الحكام وينفرد الله تعالى بالأمر في يوم كان مقداره ألف سنة وذلك في يوم القيامة لأن كل يوم من أيام الآخرة كألف سنة
وقال مجاهد يقضي أمر ألف سنة في يوم واحد ثم يلقيه إلى الملائكة فاذا مضت قضى لألف سنة آخرى ثم كذلك أبدا
وللمفسرين في المراد بالأمر ثلاثة أقوال
أحدها أنه الوحي قاله السدي والثاني القضاء قاله مقاتل والثالث أمر الدنيا
ويعرج بمعنى يصعد قال الزجاج يقال عرجت في السلم أعرج وعرج الرجل يعرج إذا صار أعرج
وقرأ معاذ القارئ وابن السميفع وابن أبي عبلة ثم يعرج إليه بياء مرفوعة وفتح الراء وقرأ ابو المتوكل وأبو الجوزاء يعرج بياء مفتوحة وكسر الراء وقرأ أبو عمران الجوني وعاصم الجحدري ثم تعرج بتاء مفتوحة ورفع الراء
قوله تعالى الذي أحسن كل شئ خلقه فيه خمسة أقوال
أحدها جعله حسنا والثاني أحكم كل شئ رويا عن ابن عباس وبالاول قال قتادة وبالثاني قال مجاهد والثالث أحسنه لم يتعلمه من احد كما يقال فلان يحسن كذا إذا علمه قاله السدي ومقاتل والرابع
(6/334)
 
 
أن المعنى ألهم خلقه كل ما يحتاجون إليه كأنه أعلمهم كل ذلك وأحسنهم قاله الفراء والخامس أحسن إلى كل شئ خلقه حكاه الماوردي
وفي قوله خلقه قراءتان قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر خلقه ساكنة اللام وقرأ الباقون بتحريك اللام وقال الزجاج فتحها على الفعل الماضي وتسكينها على البدل فيكون المعنى أحسن خلق كل شئ والعرب تفعل مثل هذا يقدمون ويؤخرون
قوله تعالى وبدأ خلق الإنسان يعني آدم ثم جعل نسله أي ذريته وولده وقد سبق شرح الآية المؤمنون
ثم رجع إلى آدم فقال ثم سواه ونفخ فيه من روحه وقد سبق بيان ذلك الحجر ثم عاد إلى ذريته فقال وجعل لكم السمع والأبصار أي بعد كونكم نطفا وقالوا ءإذا ضللنا في الأرض ءإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون
قوله تعالى وقالوا يعني منكري البعث أإذا ضللنا في الأرض وقرا علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وجعفر بن محمد وابو رجاء وأبو مجلز وحميد وطلحة ضللنا بضاد معجمة مفتوحة وكسر اللام الأولى قال الفراء ضللنا وضللنا لغتان إذا صارت عظامنا ولحومنا ترابا
(6/335)
 
 
كالأرض تقول ضل الماء في اللبن وضل الشئ في الشئ إذا أخفاه وغلب عليه وقرأ أبو نهيك وأبو المتوكل وأبو الجوزاء وأبو حيوة وابن ابي عبلة ضللنا بضم الضاد المعجمة وتشديد اللام الأولى وكسرها وقرأ الحسن وقتادة ومعاذ القارئ صللنا بصاد غير معجمة مفتوحة وذكر لها الزجاج معنيين أحدهما أنتنا وتغيرنا وتغيرت صورنا يقال صل اللحم وأصل إذا أنتن وتغير والثاني صرنا من جنس الصلة وهي الأرض اليابسة
قوله تعالى أإئنا لفي خلق جديد هذا استفهام إنكار
قوله تعالى الذي وكل بكم أي بقبض أرواحكم ثم إلى ربكم ترجعون يوم الجزاء
ثم اخبر عن حالهم في القيامة فقال ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم أي مطأطئوها حياء وندما ربنا فيه إضمار يقولون ربنا أبصرنا وسمعنا أي علمنا صحة ما كنا به مكذبين فارجعنا إلى الدنيا وجواب لو متروك تقديره لو رأيت حالهم لرأيت ما يعتبر به ولشاهدت العجب ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم
(6/336)
 
 
ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة اعين جزاء بما كانوا يعملون
قوله تعالى ولكن حق القول مني أي وجب وسبق والقول هو قوله لإبليس لاملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين قوله تعالى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين أي من كفار الفريقين فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا قال مقاتل إذا دخلوا النار قالت لهم الخزنة فذوقوا العذاب وقال غيره إذا اصطرخوا فيها قيل لهم ذوقوا بما نسيتم أي بما تركتم العمل للقاء يومكم هذا إنا نسيناكم أي تركناكم من الرحمة
قوله تعالى إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها أي وعظوا بها خروا سجدا أي سقطوا على وجوههم ساجدين وقيل المعنى إنما يؤمن بفرائضنا من الصلاوات الخمس الذين إذا ذكروا بها بالأذان والإقامة خروا سجدا
قوله تعالى تتجافى جنوبهم اختلفوا فيمن نزلت وفي الصلاة التي تتجافى لها جنوبهم على أربعة أقوال
أحدها أنها نزلت في المتهجدين بالليل روى معاذ بن جبل عن رسول الله ص في قوله تتجافى جنوبهم قال قيام العبد من الليل وفي
(6/337)
 
 
لفظ آخر أنه قال لمعاذ إن شئت أنبأتك بأبواب الخير قال قلت أجل يا رسول الله قال الصوم جنة والصدقة تكفر الخطيئة وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله ثم قرأ تتجافى جنوبهم عن المضاجع وكذلك قال الحسن ومجاهد وعطاء وأبو العالية وقتادة وابن زيد أنها في
(6/338)
 
 
قيام الليل وقد روى العوفي عن ابن عباس قال تتجافى جنوبهم لذكر الله كلما استيقظوا ذكروا الله إما في الصلاة وإما في قيام او في قعود أو على جنوبهم فهم لا يزالون يذكرون الله عز و جل
والثاني أنها نزلت في ناس من اصحاب رسول الله ص كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء قاله انس بن مالك
والثالث أنها نزلت في صلاة العشاء كان أصحاب رسول الله ص لا ينامون حتى يصلوها قاله ابن عباس
والرابع انها صلاة العشاء والصبح في جماعة قاله ابو الدرداء والضحاك
ومعنى تتجافى ترتفع والمضاجع جمع مضجع وهو الموضع الذي يضطجع عليه
يدعون ربهم خوفا من عذابه وطمعا في رحمته وثوابه ومما رزقناهم ينفقون في الواجب والتطوع
فلا تعلم نفس ما أخفي لهم وأسكن ياء أخفي حمزة ويعقوب قال الزجاج في هذا دليل على أن المراد بالآية التي قبلها الصلاة في جوف الليل لأنه عمل يستر الإنسان به فجعل لفظ ما يجازي به أخفي لهم فاذا فتحت ياء أخفي فعلى تأويل الفعل الماضي وإذا أسكنتها فالمعنى ما أخفي انا لهم إخبار عن الله تعالى وكذلك قال الحسن البصري أخفي لهم بالخفية خفية وبالعلانية علانية وروى أبو هريرة عن رسول الله ص قال يقول الله عز و جل أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر اقرؤوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم
(6/339)
 
 
قوله تعالى من قرة اعين وقرا أبو الدرداء وأبو هريرة وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي وقتادة من قرات اعين بألف على الجمع أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستون اما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا ان يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون
قوله تعالى أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا في سبب نزولها قولان
احدهما ان الوليد بن عقبة بن أبي معيط قال لعلي بن أبي طالب أنا أحد منك سنانا وأبسط منك لسانا وأملأ للكتيبة منك فقال له علي اسكت فانما أنت فاسق فنزلت هذه الآية فعنى بالمؤمن عليا وبالفاسق الوليد
(6/340)
 
 
رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال عطاء بن يسار وعبد الرحمن ابن ابي ليلى ومقاتل
والثاني أنها نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل قاله شريك
قوله تعالى لا يستوون قال الزجاج المعنى لا يستوي المؤمنون والكافرون ويجوز ان يكون لاثنين لأن معنى الاثنين جماعة وقد شهد الله بهذا الكلام لعلي عليه السلام بالايمان وأنه في الجنة لقوله أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف جنة المأوى على التوحيد
قوله تعالى نزلا وقرأ الحسن والنخعي والاعمش وابن ابي عبلة نزلا بتسكين الزاي وما بعد هذا قد سبق بيانه الحج إلى قوله ولنذيقنهم من العذاب الأدنى وفيه ستة أقوال
أحدها أنه ما أصابهم يوم بدر رواه مسروق عن ابن مسعود وبه قال قتادة والسدي
والثاني سنون أخذوا بها رواه ابو عبيدة عن ابن مسعود وبه قال النخعي وقال مقاتل أخذوا بالجوع سبع سنين
والثالث مصائب الدنيا قاله ابي بن كعب وابن عباس في رواية ابن ابي طلحة وأبو العالية والحسن وقتادة والضحاك
والرابع الحدود رواه عكرمة عن ابن عباس
والخامس عذاب القبر قاله البراء
والسادس القتل والجوع قاله مجاهد
(6/341)
 
 
قوله تعالى دون العذاب الأكبر أي قبل العذاب الأكبر وفيه قولان احدهما أنه عذاب يوم القيامة قاله ابن مسعود والثاني أنه القتل ببدر قاله مقاتل
قوله تعالى لعلهم يرجعون قال أبو العالية لعلهم يتوبون وقال ابن مسعود لعل من بقي منهم يتوب وقال مقاتل لكي يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان
قوله تعالى ومن اظلم قد فسرناه في الكهف
قوله تعالى إنا من المجرمين منتقمون قال زيد بن رفيع هم اصحاب القدر وقال مقاتل هم كفار مكة انتقم الله منهم بالقتل ببدر وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وعجل أرواحهم إلى النار ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات
(6/342)
 
 
أفلا يسمعون اولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون
قوله تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب يعني التوراة فلا تكن في مرية من لقائه فيه أربعة أقوال
أحدها فلا تكن في مرية من لقاء موسى ربه رواه ابن عباس عن رسول الله ص
والثاني من لقاء موسى ليلة الإسراء قاله أبو العالية ومجاهد وقتادة وابن السائب
والثالث فلا تكن في شك من لقاء الأذى كما لقي موسى قاله الحسن
والرابع لا تكن في مرية من تلقى موسى كتاب الله بالرضى والقبول قاله السدي قال الزجاج وقد قيل فلا تكن في شك من لقاء موسى الكتاب فتكون الهاء للكتاب وقال ابو علي الفارسي المعنى من لقاء موسى الكتاب فأضيف المصدر إلى ضمير الكتاب وفي ذلك مدح له على امتثاله ما أمر به وتنبيه على الأخذ بمثل هذا الفعل
(6/343)
 
 
وفي قوله وجعلناه هدى قولان أحدهما الكتاب قاله الحسن والثاني موسى قاله قتادة
وجعلنا منهم أي من بني إسرائيل أئمة أي قادة في الخير يهدون بأمرنا أي يدعون الناس إلى طاعة الله لما صبروا قرأ ابن كثير وعاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر لما صبروا بفتح اللام وتشديد الميم وقرأ حمزة والكسائي لما بكسر اللام خفيفة وقرا ابن مسعود بما بباء مكان اللام والمراد صبرهم على دينهم وأذى عدوهم وكانوا بآياتنا يوقنون أنها من الله عز و جل وفيهم قولان أحدهما أنهم الأنبياء والثاني أنهم قوم صالحون سوى الأنبياء وفي هذا تنبيه لقريش انكم إن أطعتم جعلت منكم أئمة
قوله تعالى إن ربك هو يفصل بينهم أي يقضي ويحكم وفي المشار إليهم قولان أحدهما أنهم الأنبياء وأممهم والثاني المؤمنون والمشركون
ثم خوف كفار مكة بقوله أو لم يهد لهم وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي نهد بالنون وقد سبق تفسيره في طه
او لم يروا أنا نسوق الماء يعني المطر والسيل إلى الأرض الجرز وهي التي لا تنبت وقد ذكرناها في أول الكهف فاذا جاء الماء أنبت فيها ما يأكل الناس والأنعام
ويقولون يعني كفار مكة متى هذا الفتح وفيه أربعة أقوال
أحدها أنه ما فتح يوم بدر روى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال يوم بدر فتح للنبي ص فلم ينفع الذين كفروا إيمانهم بعد الموت
والثاني أنه يوم القيامة وهو يوم الحكم بالثواب والعقاب قاله مجاهد
(6/344)
 
 
والثالث أنه اليوم الذي يأتيهم فيه العذاب في الدنيا قاله السدي
والرابع فتح مكة قاله ابن السائب والفراء وابن قتيبة وقد اعترض على هذا القول فقيل كيف لا ينفع الكفار إيمانهم يوم الفتح وقد أسلم جماعة وقبل إسلامهم يومئذ فعنه جوابان
أحدهما لا ينفع من قتل من الكفار يومئذ إيمانهم بعد الموت وقد ذكرناه عن ابن عباس وقد ذكر أهل السير أن خالدا دخل يوم الفتح من غير الطريق التي دخل منها رسول الله ص فلقيه صفوان بن أمية وسهيل ابن عمرو في آخرين فقاتلوه فصاح خالد في أصحابه وقاتلهم فقتل أربعة وعشرين من قريش وأربعة من هذيل وانهزموا فلما ظهر رسول الله ص قال ألم أنه عن القتال فقيل إن خالدا قوتل فقاتل
والثاني لا ينفع الكفار ما أعطوا من الأمان لأن النبي ص قال
(6/345)
 
 
من اغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن قال الزجاج يقال آمنت فلانا إيمانا فعلى هذا يكون المعنى لا يدفع هذا الأمان عنهم عذاب الله وهذا القول الذي قد دافعنا عنه ليس بالمختار وإنما بينا وجهه لانه قد قيل
وقد خرج بما ذكرنا في الفتح قولان أحدهما أنه الحكم والقضاء وهو الذي نختاره والثاني فتح البلد
قوله تعالى فأعرض عنهم وانتظر أي انتظر عذابهم إنهم منتظرون بك حوادث الدهر قال المفسرون وهذه الآية منسوخة بأية السيف
(6/346)
 
 
سورة الأحزاب
وهي مدنية باجماعهم بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللاءي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
قوله تعالى يا أيها النبي اتق الله سبب نزولها أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن ابي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا على رسول الله ص في الموادعة التي كانت بينهم فنزلوا على عبد الله بن ابي ومتعب بن قشير والجد بن قيس فتكلموا فيما بينهم وأتوا رسول الله ص فدعوه إلى أمرهم
(6/347)
 
 
وعرضوا عليه أشياء كرهها فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس قال مقاتل سألوا رسول الله ص أن يرفض ذكر اللات والعزى ويقول إن لها شفاعة فكره ذلك ونزلت هذه الآية وقال ابن جرير ولا تطع الكافرين الذين يقولون اطرد عنا أتباعك من ضعفاء المسلمين والمنافقين فلا تقبل منهم رأيا
فإن قيل ما الفائدة في أمر الله تعالى رسوله بالتقوى وهو سيد المتقين فعنه ثلاثة أجوبة
أحدها أن المراد بذلك استدامة ما هو عليه والثاني الإكثار مما هو فيه والثالث أنه خطاب ووجه به والمراد أمته
قال الفسرون وأراد بالكافرين في هذه الآية أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور وبالمنافقين عبد الله بن أبي وعبد الله بن سعد بن ابي سرح وطعمة بن أبيرق وما بعد هذا قد سبق بيانه النساء إلى قوله ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وفي سبب نزولها قولان
أحدهما أن المنافقين كانوا يقولون لمحمد قلبان قلب معنا وقلب مع أصحابه فأكذبهم الله تعالى ونزلت هذه الآية قاله ابن عباس
(6/348)
 
 
والثاني أنها نزلت في جميل بن معمر الفهري كذا نسبه جماعة من المفسرين وقال الفراء جميل بن أسد ويكنى أبا معمر وقال مقاتل أبو معمر بن أنس الفهري وكان لبيبا حافظا لما سمع فقالت قريش ما حفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان في جوفه وكان يقول إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما افضل من عقل محمد فلما كان يوم بدر وهزم المشركون وفيهم يومئذ جميل بن معمر تلقاه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له ما حال الناس فقال انهزموا قال فما بالك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك قال ما شعرت إلا أنهما في رجلي فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده وهذا قول جماعة من المفسرين وقد قال الزهري في هذا قولا عجيبا قال بلغنا أن ذلك في زيد ابن حارثة ضرب له مثل يقول ليس ابن رجل آخر ابنك قال الأخفش من زائدة في قوله من قلبين
(6/349)
 
 
قال الزجاج أكذب الله عز و جل هذا الرجل الذي قال لي قلبان ثم قرر بهذا الكلام ما يقوله المشركون وغيرهم مما لا حقيقة له فقال وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم فأعلم الله تعالى ان الزوجة لا تكون اما وكانت الجاهلية تطلق بهذا الكلام وهو أن يقول لها انت علي كظهر أمي وكذلك قوله وما جعل أدعياءكم أبناءكم أي ما جعل من تدعونه ابنا وليس بولد في الحقيقة ابنا ذلكم قولكم بأفواهكم أي نسب من لا حقيقة لنسبة قول بالفم لا حقيقة تحته والله يقول الحق أي لا يجعل غير الابن ابنا وهو يهدي السبيل أي للسبيل المستقيم
(6/350)
 
 
وذكر المفسرون أن قوله وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن نزلت في اوس بن الصامت وامرأته خولة بنت ثعلبة
ومعنى الكلام ما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن كامهاتكم في التحريم إنما قولكم معصية وفيه كفارة وأزواجكم لكم حلال وسنشرح هذا في سورة المجادلة إن شاء الله وذكروا أن قوله وما جعل أدعياءكم ابناءكم نزل في زيد بن حارثة أعتقه رسول الله ص وتبناه قبل الوحي فلما تزوج رسول الله ص زينب بنت جحش قال اليهود والمنافقون تزوج محمد امراة ابنه وهو ينهى الناس عنها فنزلت هذه الآية أدعوهم لآبائهم هو اقسط عند الله فان لم تعلموا آباءهم فاخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا
قوله تعالى أدعوهم لآبائهم قال ابن عمر ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت أدعوهم لآبائهم
(6/351)
 
 
قوله تعالى هو أقسط أي أعدل فان لم تعلموا آباءهم أي إن لم تعرفوا آباءهم فاخوانكم أي فهم إخوانكم فليقل أحدكم يا أخي ومواليكم قال الزجاج أي بنو عمكم ويجوز أن يكون مواليكم أولياءكم في الدين
وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به فيه ثلاثة أقوال
أحدها فيما أخطأتم به قبل النهي قاله مجاهد
والثاني في دعائكم من تدعونه إلى غير أبيه وأنتم ترونه كذلك قاله قتادة
والثالث فيما سهوتم فيه قاله حبيب بن أبي ثابت
فعلى الأول يكون معنى قوله ولكن ما تعمدت قلوبكم أي بعد النهي وعلى الثاني والثالث ما تعمدت في دعاء الرجل إلى غير أبيه
قوله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم أي احق فله أن يحكم فيهم بما يشاء قال ابن عباس إذا دعاهم إلى شئ ودعتهم أنفسهم إلى شئ كانت طاعته أولى من طاعة أنفسهم وهذا صحيح فان أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم والرسول يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم
(6/352)
 
 
قوله تعالى وأزواجه أمهاتهم أي في تحريم نكاحهن على التأبيد ووجوب إجلالهن وتعظيمهن ولا تجري عليهن أحكام الامهات في كل شئ إذ لو كان كذلك لما جاز لأحد أن يتزوج بناتهن ولورثن المسلمين ولجازت الخلوة بهن وقد روى مسروق عن عائشة أن أمرأة قالت يا أماه فقالت لست لك بأم إنما أنا ام رجالكم فبان بهذا الحديث أن معنى الأمومة تحريم نكاحهن فقط وقال مجاهد وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم وما بعد هذا مفسر
(6/353)
 
 
في آخر الأنفال إلى قوله تعالى من المؤمنين والمهاجرين والمعنى أن ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرثوا بالإيمان والهجرة كما كانوا يفعلون قبل النسخ إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا وهذا استثناء ليس من الأول والمعنى لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفا جائز وذلك أن الله تعالى لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح الوصية للمعاقدين فللانسان ان يوصي لمن يتولاه بما أحب من ثلثه فالمعروف ها هنا الوصية
قوله تعالى كان ذلك يعني نسخ الميراث بالهجرة ورده إلى ذوي الأرحام في الكتاب يعني اللوح المحفوظ مسطورا أي مكتوبا وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ليسئل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا
قوله تعالى وإذ أخذنا المعنى واذكر إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم أي عهدهم وفيه قولان
أحدهما أخذ ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا قاله قتادة
والثاني أن يعبدوا الله ويدعوا إلى عبادته ويصدق بعضهم بعضا وأن ينصحوا لقومهم قاله مقاتل
(6/354)
 
 
وهذا الميثاق أخذ منهم حين أخرجوا من ظهر آدم كالذر قال ابي بن كعب لما أخذ ميثاق الخلق خص النبيين بميثاق آخر
فان قيل لم خص الأنبياء الخمسة بالذكر دون غيرهم من الأنبياء
فالجواب أنه نبه بذلك على فضلهم لانهم أصحاب الكتب والشرائع وقدم نبينا ص بيانا لفضله عليهم قال قتادة كان نبينا أول النبيين في الخلق
وقوله ميثاقا غليظا أي شديدا على الوفاء بما حملوا وذكر المفسرون أن ذلك العهد الشديد اليمين بالله عز و جل
(6/355)
 
 
ليسأل الصادقين يقول أخذنا ميثاقهم لكي نسأل الصادقين وهم الأنبياء عن صدقهم في تبليغهم ومعنى سؤال الأنبياء وهو يعلم صدقهم تبكيت مكذبيهم وها هنا تم الكلام ثم أخبر بعد ذلك عما أعد للكافرين بالرسل
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود وهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم أيام الخندق
الإشارة إلى القصة
ذكر أهل العلم بالسيرة ان رسول الله صلى الله عليه و سلم لما اجلي بني النضير ساروا إلى خيبر فخرج نفر من أشرافهم إلى مكة فألبوا قريشا ودعوهم إلى الخروج لقتاله ثم خرجوا من عندهم فأتوا غطفان وسليم ففارقوهم على مثل ذلك وتجهزت قريش ومن تبعهم من العرب فكانوا أربعة آلاف وخرجوا يقودهم أبو سفيان ووافتهم بنو سليم ب مر الظهران وخرجت بنو أسد وفزارة وأشجع وبنو مرة فكان جميع من وافى الخندق من القبائل عشرة آلاف وهم الأحزاب فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم خروجهم من مكة أخبر الناس خبرهم وشاورهم فأشار سلمان بالخندق فأعجب ذلك المسلمين وعسكر بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى سفح سلع وجعل سلعا خلف ظهره ودس أبو سفيان بن حرب حيي ابن اخطب إلى بني قريظة يسألهم أن ينقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم ويكونوا معهم عليه فأجابوا واشتد الخوف وعظم البلاء ثم جرت بينهم مناوشة وقتال وحصر رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه بضع عشرة ليلة حتى خلص
(6/356)
 
 
إليهم الكرب وكان نعيم بن مسعود الاشجعي قد أسلم فمشى بين قريش وقريظة وغطفان فخذل بينهم فاستوحش كل منهم من صاحبه واعتلت قريظة بالسبت فقالوا لا نقاتل فيه وهبت ليلة السبت ريح شديدة فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله لستم بدار مقام لقد هلك الخف والحافر وأجدب الجناب وأخلفتنا قريظة ولقينا من الريح ما ترون فارتحلوا فاني مرتحل فأصبحت العساكر قد أقشعت كلها قال مجاهد والريح التي أرسلت عليهم هي الصبا حتى أكفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم والجنود الملائكة ولم تقاتل يومئذ وقيل إن الملائكة جعلت تقلع أوتادهم وتطفئ نيرانهم وتكبر في جوانب عسكرهم فاشتدت عليهم فانهزموا من غير قتال
قوله تعالى لم تروها وقرأ النخعي والجحدري والجوني وابن السميفع لم يروها بالياء وكان الله بما تعملون بصيرا وقرأ أبو عمرو يعملون بالياء اذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا
(6/357)
 
 
قوله تعالى إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم أي من فوق الوادي ومن أسفله وإذا زاغت الأبصار أي مالت وعدلت فلم تنظر إلى شئ إلا إلى عدوها مقبلا من كل جانب وبلغت القلوب الحناجر وهي جمع حنجرة والحنجرة جوف الحلقوم قال قتادة شخصت عن مكانها فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها ان تخرج لخرجت وقال غيره المعنى أنهم جبنوا وجزع أكثرهم وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته فيرتفع حينئذ القلب إلى الحنجرة وهذا المعنى مروي عن ابن عباس والفراء وذهب ابن قتيبة إلى أن المعنى كادت القلوب تبلغ الحلوق من الخوف وقال ابن الأنباري كاد لا يضمر ولا يعرف معناه إذا لم ينطق به
قوله تعالى وتظنون بالله الظنونا قال الحسن اختلفت ظنونهم فظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يستأصلون وظن المؤمنون أنه ينصر
قرأ ابن كثير والكسائي وحفص عن عاصم الظنونا والرسولا الأحزاب و السبيلا الأحزاب بألف إذا وقفوا عليهن وبطرحها في الوصل وقال هبيرة عن حفص عن عاصم وصل أو وقف بالف وقرا نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بالألف فيهن وصلا ووقفا وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بغير ألف في وصل ولا وقف قال الزجاج والذي عليه حذاق النحويين والمتبعون السنة من قرائهم أن يقرؤوا الظنونا ويقفون على الألف ولا يصلون وإنما فعلوا ذلك لأن أواخر الآيات عندهم فواصل يثبتون في آخرها الألف في الوقف
قوله تعالى هنالك أي عند ذلك ابتلى المؤمنون أي اختبروا بالقتال والحصر ليتبين المخلص من المنافق وزلزلوا أي ازعجوا وحركوا
(6/358)
 
 
بالخوف فلم يوجدوا إلا صابرين وقال الفراء حركوا إلى الفتنة تحريكا فعصموا
قوله تعالى وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض فيه قولان
أحدهما أنه الشرك قاله الحسن والثاني النفاق قاله قتادة ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا قال المفسرون قالوا يومئذ إن محمدا يعدنا أن نفتح مدائن كسرى وقيصر وأحدنا لا يستطيع ان يجاوز رحله هذا والله الغرور وزعم ابن السائب أن قائل هذا معتب بن قشير
وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤلا قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا
قوله تعالى وإذ قالت طائفة منهم يعني من المنافقين وفي القائلين لهذا منهم قولان أحدهما عبد الله بن ابي وأصحابه قاله السدي والثاني بنو سالم من المنافقين قاله مقاتل
قوله تعالى يا أهل يثرب قال أبو عبيدة يثرب اسم أرض ومدينة النبي صلى الله عليه و سلم في ناحية منها
(6/359)
 
 
قوله تعالى لا مقام لكم وقرأ حفص عن عاصم لا مقام بضم الميم قال الزجاج من ضم الميم فالمعنى لا إقامة لكم ومن فتحها فالمعنى لا مكان لكم تقيمون فيه وهؤلاء كانوا يثبطون المؤمنين عن النبي صلى الله عليه و سلم
قوله تعالى فارجعوا أي إلى المدينة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج بالمسلمين حتى عسكروا ب سلع وجعلوا الخندق بينهم وبين القوم فقال المنافقون للناس ليس لكم هاهنا مقام لكثرة العدو وهذا قول الجمهور وحكى الماوردي قولين آخرين
أحدهما لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين مشركي العرب قاله الحسن
والثاني لا مقام لكم على القتال فارجعوا إلى طلب الأمان قاله الكلبي
قوله تعالى ويستأذن فريق منهم النبي فيه قولان
أحدهما أنهم بنو حارثة قاله ابن عباس وقال مجاهد بنو حارثة ابن الحارث بن الخزرج وقال السدي إنما استأذنه رجلان من بني حارثة
والثاني بنو حارثة وبنو سلمة بن جشم قاله مقاتل
قوله تعالى إن بيوتنا عورة قال ابن قتيبة أي خالية فقد
(6/360)
 
 
امكن من أراد دخولها وأصل العورة ما ذهب عنه الستر والحفظ فكأن الرجال ستر وحفظ للبيوت فاذا ذهبوا أعورت البيوت تقول العرب أعور منزلي إذا ذهب ستره أو سقط جداره وأعور الفارس إذا بان منه موضع خلل للضرب والطعن يقول الله وما هي بعورة لأن الله يحفظها ولكن يريدون الفرار وقال الحسن ومجاهد قالوا بيوتنا ضائعة نخشى عليها السراق وقال قتادة قالوا بيوتنا مما يلي العدو ولا نأمن على أهلنا فكذبهم الله وأعلم أن قصدهم الفرار
قوله تعالى ولو دخلت عليهم من أقطارها يعني المدينة والأقطار النواحي والجوانب واحدها قطر ثم سئلوا الفتنة وقرأ علي بن ابي طالب عليه السلام والضحاك والزهري وابو عمران وأبو جعفر وشيبة ثم سيلوا برفع السين وكسر الياء من غير همز وقرأ أبي بن كعب ومجاهد وأبو الجوزاء ثم سوءلوا برفع السين ومد الواو بهمزة مكسورة بعدها وقرأ الحسن وأبو الأشهب ثم سولوا برفع السين وسكون الواو من غير مد ولا همز وقرا الأعمش وعاصم الجحدري ثم سيلوا بكسر السين ساكنة الياء من غير همز ولا واو ومعنى سئلوا الفتنة أي سئلوا فعلها والفتنة الشرك لآتوها قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر لاتوها بالقصر أي لقصدوها ولفعلوها وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي لآتوها بالمد أي لاعطوها قال ابن عباس في معنى الآية لو ان الأحزاب دخلوا المدينة ثم امروهم بالشرك لأشركوا
قوله تعالى وما تلبثوا بها إلا يسيرا فيه قولان
أحدهما وما احتبسوا عن الإجابة إلى الكفر إلا قليلا قاله قتادة
(6/361)
 
 
والثاني وما تلبثوا بالمدينة بعد الإجابة إلا يسيرا حتى يعذبوا قاله السدي وحكى ابو سليمان الدمشقي في الآية قولا عجيبا وهو ان الفتنة هاهنا الحرب والمعنى ولو دخلت المدينة على أهلها من أقطارها ثم سئل هؤلاء المنافقون الحرب لأتوها مبادرين وما تلبثوا يعني الجيوش الداخلة عليهم بها إلا قليلا حتى يخرجوهم منها وإنما منعهم من القتال معك ما قد تداخلهم من الشك في دينك قال وهذا المعنى حفظته من كتاب الواقدي
قوله تعالى ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل في وقت معاهدتهم ثلاثة أقوال
أحدها أنهم ناس غابوا عن وقعة بدر فلما علموا ما اعطى الله اهل بدر من الكرامة قالوا لئن شهدنا قتالا لنقاتلن قاله قتادة
(6/362)
 
 
والثاني أنهم أهل العقبة وهم سبعون رجلا بايعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم على طاعة الله ونصرة رسوله قاله مقاتل
والثالث أنه لما نزل بالمسلمين يوم أحد ما نزل عاهد الله معتب بن قشير وثعلبة بن حاطب لا نولي دبرا قط فلما كان يوم الأحزاب نافقا قاله الواقدي واختاره ابو سليمان الدمشقي وهو اليق مما قبله وإذا كان الكلام في حق المنافقين فكيف يطلق القول على أهل العقبة كلهم
قوله تعالى وكان عهد الله مسؤولا أي يسألون عنه في الآخرة
ثم أخبر أن الفرار لا يزيد في آجالهم فقال قل لن ينفعك الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون بعد الفرار في الدنيا إلا قليلا وهو باقي آجالكم
ثم أخبر ان ما قدره عليهم لا يدفع بقوله من ذا الذي يعصمكم من الله أي يجيركم ويمنعكم منه إن أراد بكم سوءا وهو الإهلاك والهزيمة والبلاء او اراد بكم رحمة وهي النصر والعافية والسلامة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا أي لا يجدون مواليا ولا ناصرا يمنعهم من مراد الله فيهم
قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا أشحة عليكم فاذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور اعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فاذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير اولئك لم يؤمنوا فأحبط الله اعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب
(6/363)
 
 
يودوا لو انهم بادون في الأعراب يسئلون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ولما رأ المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما
قوله تعالى قد يعلم الله المعوقين منكم في سبب نزولها قولان
احدهما ان رجلا انصرف من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الاحزاب فوجد أخاه لأمه وابيه وعنده شواء ونبيذ فقال له انت هاهنا ورسول الله بين الرماح والسيوف فقال هلم إلي لقد أحيط بك وبصاحبك والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا فقال له كذبت والذي يحلف به اما والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه و سلم بأمرك فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ليخبره فوجده قد نزل جبريل بهذه الآية إلى قوله يسيرا هذا قول ابن زيد
والثاني أن عبد الله بن ابي ومعتب بن قشير والمنافقين الذين رجعوا من الخندق إلى المدينة كانوا إذا جاءهم منافق قالوا له ويحك اجلس فلا تخرج ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين في العسكر أن ائتونا بالمدينة فانا ننتظركم يثبطونهم عن القتال وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن لا يجدوا بدا فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم فاذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة فنزلت هذه الآية قاله ابن السائب
والمعوق المثبط تقول عاقني فلان واعتاقني وعوقني إذا
(6/364)
 
 
منعك عن الوجه الذي تريده وكان المنافقون يعوقون عن رسول الله صلى الله عليه و سلم نصاره
قوله تعالى والقائلين لإخوانهم هلم إلينا فيهم ثلاثة أقوال
أحدها أنه المنافق الذي قال لأخيه ما ذكرناه في قول ابن زيد
والثاني أنهم اليهود دعوا إخوانهم من المنافقين إلى ترك القتال قاله مقاتل
والثالث أنهم المنافقون دعوا المسلمين إليهم عن رسول الله ص حكاه الماوردي
قوله تعالى ولا يأتون البأس أي لا يحضرون القتال في سبيل الله إلا قليلا للرياء والسمعة من غير احتساب ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا
قوله تعالى أشحة عليكم قال الزجاج هو منصوب على الحال المعنى لا يأتون الحرب إلا تعذيرا بخلاء عليكم
وللمفسرين فيما شحوا به اربعة أقوال أحدها أشحة بالخير قاله مجاهد
(6/365)
 
 
والثاني بالنفقة في سبيل الله والثالث بالغنيمة رويا عن قتادة وقال الزجاج بالظفر والغنيمة والرابع بالقتال معكم حكاه الماوردي
ثم أخبر عن جبنهم فقال فإذا جاء الخوف أي إذا حضر القتال رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت وهو الذي دنا موته وغشيته أسبابه فانه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره فلا يطرف فكذلك هؤلاء لأنهم يخافون القتل
فاذا ذهب الخوف سلقوكم قال الفراء آذوكم بالكلام في الأمن بألسنة حداد سليطة ذربة والعرب تقول صلقوكم بالصاد ولا يجوز في القراءة وهذا قول الفراء وقد قرأ بالصاد أبي بن كعب وأبو الجوزاء وأبو عمران الجوني وابن ابي عبلة في آخرين وقال الزجاج معنى سلقوكم خاطبوكم اشد مخاطبة وأبلغها في الغنيمة يقال خطيب مسلاق إذا كان بليغا في خطبته أشحة على الخير أي خاطبوكم وهم أشحة على المال والغنيمة قال قتادة إذا كان وقت قسمة الغنيمة بسطوا ألسنتهم فيكم يقولون أعطونا فلستم أحق بها منا فاما عند الباس فأجبن قوم وأخذله للحق وأما عند الغنيمة فأشح قوم
وفي المراد بالخير ها هنا ثلاثة أقوال أحدها أنه الغنيمة والثاني على المال أن ينفقوه في سبيل الله تعالى والثالث على رسول الله ص بظفره
(6/366)
 
 
قوله تعالى أولئك لم يؤمنوا أي هم وإن أظهروا الإيمان فليسوا بمؤمنين لنفاقهم فأحبط الله أعمالهم قال مقاتل أبطل جهادهم لانه لم يكن في إيمان وكان ذلك الإحباط على الله يسيرا
ثم أخبر عنهم بما يدل على جبنهم فقال يحسبون الأحزاب لم يذهبوا أي يحسب المنافقون من شدة خوفهم وجبنهم أن الأحزاب بعد انهزامهم وذهابهم لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب أي يرجعوا إليهم كرة ثانية للقتال يودوا لو انهم بادون في الأعراب أي يتمنوا لو كانوا في بادية الاعراب من خوفهم يسألون عن أنبائكم أي ودوا لو انهم بالبعد منكم يسألون عن أخباركم فيقولون ما فعل محمد وأصحابه ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا بالمشاهدة فرقا وجبنا وقيل بل يسألون شماتة بالمسلمين وفرحا بنكباتهم ولو كانوا فيكم أي لو كانوا يشهدون القتال معكم ما قاتلوا إلا قليلا فيه قولان
أحدهما إلا رميا بالحجارة قاله ابن السائب
والثاني إلا رياء من غير احتساب قاله مقاتل
ثم عاب من تخلف بالمدينة بقوله لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أي قدوة صالحة والمعنى لقد كان لكم به اقتداء لو اقتديتم به في الصبر معه كما صبر يوم احد حتى كسرت رباعيته وشج جبينه وقتل عمه وآساكم مع ذلك بنفسه
وقرأ عاصم أسوة بضم الألف والباقون بكسر الألف وهما لغتان قال الفراء أهل الحجاز وأسد يقولون إسوة بالكسر وتميم وبعض قيس يقولون أسوة بالضم وخص الله تعالى بهذه الأسوة المؤمنين فقال لمن كان يرجو الله واليوم الآخر والمعنى أن الأسوة برسول الله إنما كانت لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وفيه قولان
(6/367)
 
 
أحدهما يرجو ما عنده من الثواب والنعيم قاله ابن عباس والثاني يخشى الله ويخشى البعث قاله مقاتل
قوله تعالى وذكر الله كثيرا أي ذكرا كثيرا لأن ذاكر الله متبع لأوامره بخلاف الغافل عنه
ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال ولما رأى المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وفي ذلك الوعد قولان
أحدهما أنه قوله ام حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم الآية البقرة فلما عاينوا البلاء يومئذ قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله قاله ابن عباس وقتادة في آخرين
والثاني ان رسول الله ص وعدهم النصر والظهور على مدائن كسرى وقصور الحيرة ذكره الماوردي وغيره
قوله تعالى وما زادهم يعني ما رأوه إلا إيمانا بوعد الله وتسليما لأمره من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم
(6/368)
 
 
إن الله كان غفورا رحيما ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤها وكان الله على كل شئ قديرا
قوله تعالى من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه اختلفوا فيمن نزلت على قولين
احدهما أنها نزلت في أنس بن النضر قاله انس بن مالك وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك قال غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فلما قدم قال غبت عن اول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه و سلم المشركين لئن اشهدني الله عز و جل قتالا ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد انكشف الناس فقال اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المشركين وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين ثم
(6/369)
 
 
مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ فقال أي سعد والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون احد واها لريح الجنة قال سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع قال أنس فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم قد مثلوا به قال فما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه قال أنس فكنا نقول أنزلت هذه الآية من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فيه وفي أصحابه
والثاني أنها نزلت في طلحة بن عبيد الله روى النزال بن سبرة عن علي عليه السلام أنهم قالوا له حدثنا عن طلحة قال ذاك امرؤ نزلت فيه آية من كتاب الله تعالى فمنهم من قضى نحبه لا حساب عليه فيما يستقبل
(6/370)
 
 
وقد جعل بعض المفسرين هذا القدر من الآية في طلحة وأولها في أنس قال ابن جرير ومعنى الآية وفوا لله بما عاهدوه عليه وفي ذلك أربعة أقوال
أحدها أنهم عاهدوا ليلة العقبة على الإسلام والنصرة
والثاني أنهم قوم لم يشهدوا بدرا فعاهدوا الله ان لا يتأخروا بعدها
والثالث أنهم عاهدوا أن لا يفروا إذا لاقوا فصدقوا
والرابع أنهم عاهدوا على البأساء والضراء وحين البأس
قوله تعالى فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر فيه ثلاثة أقوال
أحدها فمنهم من مات ومنهم من ينتظر الموت قاله ابن عباس
والثاني فمنهم من قضى عهده قتل او عاش ومنهم من ينتظر أن يقضيه بقتال او صدق لقاء قاله مجاهد
والثالث فمنهم من قضى نذره الذي كان نذر قاله ابو عبيدة فيكون النحب على القول الأول الأجل وعلى الثاني العهد وعلى الثالث النذر وقال ابن قتيبة قضى نحبه أي قتل وأصل النحب النذر كأن قوما نذورا أنهم إن لقوا العدو قاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح الله عليهم فقتلوا فقيل فلان قضى نحبه أي قتل فاستعير النحب مكان الأجل لان الأجل وقع بالنحب وكان النحب سببا له ومنه قيل للعطية من لأن من أعطى فقد من قال ابن عباس ممن قضى
(6/371)
 
 
نحبه حمزة بن عبد المطلب وانس بن النضر وأصحابه وقال ابن إسحاق فمنهم من قضى نحبه من استشهد يوم بدر وأحد ومنهم من ينتظر ما وعد الله من نصره أو الشهادة على ما مضى عليه أصحابه وما بدلوا أي ما غيروا العهد الذي عاهدوا ربهم عليه كما غير المنافقون
قوله تعالى ليجزي الله الصادقين بصدقهم وهم المؤمنون الذين صدقوا فيما عاهدوا الله عليه ويعذب المنافقين بنقض العهد إن شاء وهو ان يميتهم على نفاقهم أو يتوب عليهم في الدنيا فيخرجهم من النفاق إلى الإيمان فيغفر لهم
ورد الله الذين كفروا يعني الأحزاب صدهم ومنعهم عن الظفر بالمسلمين بغيظهم أي لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا لم ينالوا خيرا أي لم يظفروا بالمسلمين وكان ذلك عندهم خيرا فخوطبوا على استعمالهم وكفى الله المؤمنين القتال بالريح والملائكة وأنزل الذين ظاهروهم
(6/372)
 
 
أي عاونوا الأحزاب وهم بنو قريظة وذلك أنهم نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم من العهد وصاروا مع المشركين يدا واحدة
وهذه الإشارة إلى قصتهم
ذكر أهل العلم بالسيرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما انصرف من الخندق وضع عنه اللأمة واغتسل فتبدى له جبريل فقال ألا أراك وضعت اللأمة وما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة فاني عامد إليهم فمزلزل بهم حصونهم فدعا عليا فدفع لواءه إليه وبعث بلالا فنادى في الناس إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمركم أن لا تصلوا العصر إلا ببني قريظة ثم سار إليهم فحاصرهم خمسة عشر يوما أشد الحصار وقيل عشرين ليلة فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر فأرسله إليهم فشاوروه في أمرهم فأشار إليهم بيده إنه الذبح ثم ندم فقال خنت الله ورسوله فانصرف فارتبط في المسجد حتى أنزل الله
(6/373)
 
 
توبته ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر بهم رسول الله محمد ابن مسلمة وكتفوا ونحوا ناحية وجعل النساء والذرية ناحية وكلمت الأوس رسول الله صلى الله عليه و سلم ان يهبهم لهم وكانوا حلفاءهم فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ هكذا ذكر محمد بن سعد وحكى غيره أنهم نزلوا اولا على حكم سعد بن معاذ وكان بينهم وبين قومه حلف فرجوا أن تأخذه فيهم هوادة فحكم فيهم أن يقتل كل من جرت عليه المواسي وتسبى النساء والذراري وتقسم الأموال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة ارقعة وانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمر بهم فأدخلوا المدينة وحفر لهم أخدود في السوق وجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعه أصحابه وأخرجوا إليه فضربت أعناقهم وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة
قوله تعالى من صياصيهم قال ابن عباس وقتادة من حصونهم قال ابن قتيبة وأصل الصياصي قرون البقر لأنها تمتنع بها وتدفع عن أنفسها
(6/374)
 
 
فقيل للحصون الصياصي لأنها تمنع وقال الزجاج كل قرن صيصية وصيصية الديك شوكة يتحصن بها
قوله تعالى وقذف في قلوبهم الرعب أي ألقى فيها الخوف فريقا تقتلون وهم المقاتلة وتأسرون وقرأ ابن يعمر وابن أبي عبلة وتأسرون برفع السين فريقا وهم النساء والذراري وأورثكم ارضهم وديارهم يعني عقارهم ونخيلهم ومنازلهم وأموالهم من الذهب والفضة والحلي والعبيد والإماء وأرضا لم تطئوها أي لم تطؤوها باقدامكم بعد وهي مما سنفتحها عليكم وفيها اربعة أقوال
أحدها أنها فارس والروم قاله الحسن والثاني ما ظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة قاله عكرمة والثالث مكة قاله قتادة والرابع خيبر قاله ابن زيد وابن السائب وابن اسحاق ومقاتل
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها
(6/375)
 
 
مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما يانساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا
قوله تعالى يا أيها النبي قل لازواجك الآية ذكر أهل التفسير أن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم سألنه شيئا من عرض الدنيا وطلبن منه زيادة النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فآلى رسول الله صلى الله عليه و سلم منهن شهرا وصعد إلى غرفة له فمكث فيها فنزلت هذه الآية وكن أزواجه يومئذ تسعا عائشة وحفصة وام حبيبة وسودة وام سلمة وصفية الخيبرية وميمونة الهلالية وزينب بنت جحش وجويرية بنت الحارث فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم فعرض الآية عليهن فبدأ بعائشة فاختارت الله ورسوله ثم قالت يا رسول الله لا تخبر أزواجك أني اخترتك فقال إن الله بعثني مبلغا ولم يبعثني متعنتا وقد ذكرت حديث التخيير في كتاب الحدائق وفي المغنى بطوله
(6/376)
 
 
وفي ما خيرهن فيه قولان
أحدهما أنه خيرهن بين الطلاق والمقام معه هذا قول عائشة عليها السلام
والثاني أنه خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن أو اختيار الآخرة فيمسكهن ولم يخيرهن في الطلاق قاله الحسن وقتادة
وفي سبب تخييره إياهن ثلاثة أقوال
أحدها أنهن سألنه زيادة النفقة والثاني أنهن آذينه بالغيرة والقولان مشهوران في التفسير
والثالث أنه لما خير بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة فاختار الآخرة أمر بتخيير نسائه ليكن على مثل حاله حكاه أبو القاسم الصيمري
والمراد بقوله أمتعكن متعة الطلاق والمراد بالسراح الطلاق
(6/377)
 
 
وقد ذكرنا ذلك في البقرة والمراد بالدار الآخرة الجنة والمحسنات المؤثرات للآخرة
قال المفسرون فلما اخترنه أثابهن الله عز و جل ثلاثة أشياء أحدها التفضيل على سائر النساء بقوله لستن كأحد من النساء والثاني أن جعلهن امهات المؤمنين والثالث أن حظر عليه طلاقهن والاستبدال بهن بقوله لا يحل لك النساء من بعد الأحزاب وهل أبيح له بعد ذلك التزويج عليهن فيه قولان سيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى
قوله تعالى من يأت منكن بفاحشة مبينة أي بمعصية ظاهرة قال ابن عباس يعني النشوز وسوء الخلق يضاعف لها العذاب ضعفين أي يجعل عذاب جرمها في الآخرة كعذاب جرمين كما انها تؤتى أجرها على الطاعة مرتين وإنما ضوعف عقابهن لأنهن يشاهدن من الزواجر الرادعة مالا يشاهد غيرهن فاذا لم يمتنعن استحققن تضعيف العذاب ولان في معصيتهن أذى لرسول الله صلى الله عليه و سلم وجرم من آذى رسول الله صلى الله عليه و سلم أكبر من جرم غيره
قوله تعالى وكان ذلك على الله يسيرا أي وكان عذابها على الله هينا ومن يقنت أي تطع وأعتدنا قد سبق بيانه النساء والرزق الكريم الحسن وهو الجنة
ثم اظهر فضيلتهن على النساء بقوله لستن كأحد من النساء قال الزجاج لم يقل كواحدة من النساء لان أحدا نفي عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة قال ابن عباس يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم إن اتقيتن فشرط عليهن التقوى بيانا ان فضيلتهن إنما تكون بالتقوى لا بنفس اتصالهن برسول الله صلى الله عليه و سلم
(6/378)
 
 
قوله تعالى فلا تخضعن بالقول أي لا تلن بالكلام فيطمع الذي في قلبه مرض أي فجور والمعنى لا تقلن قولا يجد به منافق أو فاجر سبيلا إلى موافقتكن له والمرأة مندوبة إذا خاطبت الأجانب إلى الغلظة في المقالة لأن ذلك أبعد من الطمع في الريبة
وقلن قولا معروفا أي صحيحا عفيفا لا يطمع فاجرا
وقرن في بيوتكن قرأ نافع وعاصم إلا أبان وهبيرة والوليد بن مسلم عن ابن عامر وقرن بفتح القاف وقرأ الباقون بكسرها قال الفراء من قرأ بالفتح فهو من قررت في المكان فخففت كما قال ظلت عليه عاكفا طه ومن قرأ بالكسر فمن الوقار يقال قر في منزلك وقال ابن قتيبة من قرأ بالكسر فهو من الوقار يقال وقر في منزله يقر وقورا ومن قرأ بنصب القاف جعله من القرار وقرأ أبي بن كعب وأبو المتوكل واقررن باسكان القاف وبراءين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة مثله إلا أنهما كسرا الراء الأولى
قال المفسرون ومعنى الآية الأمر لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن وان لا يخرجن
قوله تعالى ولا تبرجن قال ابو عبيدة التبرج أن يبرزن
(6/379)
 
 
محاسنهن وقال الزجاج التبرج إظهار الزينة وما يستدعى به شهوة الرجل
وفي الجاهلية الأولى أربعة اقوال
أحدها أنها كانت بين إدريس ونوح وكانت ألف سنة رواه عكرمة عن ابن عباس
والثاني أنها كانت على عهد إبراهيم عليه السلام وهو قول عائشة رضي الله عنها
والثالث بين نوح وآدم قاله الحكم
والرابع ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام قاله الشعبي قال الزجاج وإنما قيل الأولى لأن كل متقدم أول وكل متقدمة أولى فتأويله أنهم تقدموا أمة محمد صلى الله عليه و سلم
وفي صفة تبرج الجاهلية الأولى ستة أقوال
أحدها أن المرأة كانت تخرج فتمشي بين الرجال فهو التبرج قاله مجاهد والثاني أنها مشية فيها تكسر وتغنج قاله قتادة والثالث أنه التبختر قاله أبن أبي نجيح والرابع أن المرأة منهن كانت تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه ثم تمشي وسط الطريق ليس عليها غيره وذلك في زمن إبراهيم عليه السلام
(6/380)
 
 
قاله الكلبي والخامس أنها كانت تلقي عن رأسها ولا تشده فيرى قرطها وقلائدها قاله مقاتل أنها كانت تلبس الثياب تبلغ المال لا تواري جسدها حكاه الفراء
قوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس وفيه للمفسرين خمسة أقوال
أحدها الشرك قاله الحسن والثاني الإثم قاله السدي والثالث الشيطان قاله ابن زيد والرابع الشك والخامس المعاصي حكاهما الماوردي قال الزجاج الرجس كل مستقذر من مأكول أو عمل أو فاحشة
ونصب أهل البيت على وجهين أحدهما على معنى أعني أهل البيت والثاني على النداء فالمعنى يا أهل البيت
وفي المراد بأهل البيت ها هنا ثلاثة اقوال
أحدها أنهم نساء رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنهن في بيته رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وبه قال عكرمة وابن السائب ومقاتل ويؤكذ هذا القول أن ما قبله وبعده متعلق وبعده متعلق بأزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى أرباب هذا القول اعتراض وهو ان جمع المؤنث بالنون فكيف قيل عنكم ويطهركم فالجواب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهن فغلب المذكر
والثاني أنه خاص في رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين قاله ابو سعيد الخدري وروي عن أنس وعائشة وأم سلمة نحو ذلك
والثالث أنهم أهل رسول الله صلى الله عليه و سلم وأزواجه قاله الضحاك
(6/381)
 
 
وحكى الزجاج أنهم نساء رسول الله صلى الله عليه و سلم والرجال الذين هم آله قال واللغة تدل على انها للنساء والرجال جميعا لقوله عنكم بالميم ولو كانت للنساء لم يجز إلا عنكن ويطهركن
قوله تعالى ويطهركم تطهيرا فيه ثلاثة أقوال
أحدها من الشرك قاله مجاهد والثاني من السوء قاله قتادة والثالث من الإثم قاله السدي ومقاتل
قوله تعالى واذكرن فيه قولان
أحدهما أنه تذكيرلهن بالنعم
والثاني أنه أمر لهن بحفظ ذلك فمعنى واذكرن واحفظن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله يعني القرآن
(6/382)
 
 
وفي الحكمة قولان أحدهما أنها السنة قاله قتادة والثاني الامر والنهي قاله مقاتل
قوله تعالى إن الله كان لطيفا أي ذا لطف بكن إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آياته خبيرا بكن إذ اختاركن لرسوله إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما
قوله تعالى إن المسلمين والمسلمات في سبب نزولها خمسة أقوال
أحدها أن نساء رسول الله صلى الله عليه و سلم قلن ما له ليس يذكر إلا المؤمنون ولا تذكر المؤمنات بشئ فنزلت هذه الآية رواه أبو ظبيان عن ابن عباس
والثاني أن أم سلمة قالت يا رسول الله يذكر الرجال ولا ذكر فنزلت هذه الآية ونزل قوله لا أضيع عمل عامل منكم آل عمران قاله مجاهد
(6/383)
 
 
والثالث أن أم عمارة الأنصارية قالت قلت يارسول الله بأبي وأمي ما بال الرجال يذكرون ولا تذكر النساء فنزلت هذه الآية قاله عكرمة وذكر مقاتل بن سليمان أن أم سلمة وأم عمارة قالتا ذلك فنزلت هذه الآية في قولهما
والرابع أن الله تعالى لما ذكر أزواج رسوله دخل النساء المسلمات عليهن فقلن ذكرتن ولم نذكر ولو كان فينا خير ذكرنا فنزلت هذه الآية قاله قتاده
والخامس أن أسماء بنت عميس لما رجعت من الحبشة دخلت على نساء رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت هل نزل فينا شئ من القرآن قلن لا فأتت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار قال ومم ذاك قالت لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال فنزلت هذه الآية ذكره مقاتل بن حيان
وقد سبق تفسير ألفاظ الآية في مواضع البقرة الأحزاب آل عمران البقرة يوسف البقرة الأنبياء آل عمران وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه
(6/384)
 
 
أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في ازواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا
قوله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة الآية في سبب نزولها قولان
أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم انطلق يخطب زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فقالت لا أرضاه ولست بناكحته فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم بلى فانكحيه فاني قد رضيته لك فأبت فنزلت هذه الآية وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور وذكر بعض المفسرين أن عبد الله بن جحش أخا زينب كره ذلك كما كرهته زينب فلما نزلت الآية رضيا وسلما قال مقاتل والمراد بالمؤمن عبد الله بن جحش والمؤمنة زينب بنت جحش
والثاني أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول أمرأة هاجرت فوهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال قد قبلتك وزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا إنما أردنا رسول الله فزوجها عبده فنزلت هذه الآية قاله ابن زيد والاول عند المفسرين أصح
(6/385)
 
 
قوله تعالى إذا قضى الله ورسوله أمرا أي حكما بذلك أن تكون وقرأ أهل الكوفة أن يكون بالياء لهم الخيرة وقرأ أبو مجلز وأبو رجاء الخيرة باسكان الياء فجمع في الكناية في قوله لهم لان المراد جميع المؤمنين والمؤمنات والخيرة الاختيار فأعلم الله عز و جل أنه لا اختيار على ما قضاه الله ورسوله فلما زوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم زيدا مكثت عنده حينا ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى منزل زيد فنظر إليها وكانت بيضاء جميلة من أتم نساء قريش فوقعت في قلبه فقال سبحان مقلب القلوب وفطن زيد فقال يا رسول الله ائذن لي في طلاقها وقال بعضهم أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم منزل زيد فرأى زينب فقال سبحان مقلب القلوب فسمعت ذلك زينب فلما جاء زيد ذكرت له ذلك فعلم أنها قد وقعت في نفسه فأتاه فقال يا رسول الله ائذن لي في طلاقها وقال ابن زيد جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى باب زيد وعلى الباب ستر من شعر فرفعت الريح الستر فرأى زينب فلما وقعت في قلبه كرهت إلى الآخر فجاء فقال يا رسول الله أريد فراقها فقال له اتق الله وقال مقاتل لما فطن زيد لتسبيح رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يا رسول الله ائذن لي في طلاقها فان فيها كبرا فهي تعظم علي وتؤذيني بلسانها فقال له النبي صلى الله عليه و سلم أمسك عليك زوجك واتق الله ثم إن زيدا طلقها
(6/386)
 
 
بعد ذلك فأنزل الله تعالى وإذ تقول للذي أنعم الله عليه بالاسلام وأنعمت عليه بالعتق
قوله تعالى واتق الله أي في أمرها فلا تطلقها وتخفي في نفسك أي تسر وتضمر في قلبك ما الله مبديه أي مظهره وفيه أربعة اقوال
أحدها حبها قاله ابن عباس
والثاني عهد عهده الله إليه أن زينب ستكون له زوجة فلما أتى زيد يشكوها قال له أمسك عليك زوجك واتق الله وأخفى في نفسه ما الله مبديه قاله علي بن الحسين
والثالث إيثاره لطلاقها قاله قتادة وابن جريج ومقاتل
والرابع أن الذي أخفاه إن طلقها زيد تزوجتها قاله ابن زيد
قوله تعالى وتخشى الناس فيه قولان
أحدهما أنه خشي اليهود أن يقولوا تزوج محمد امرأة ابنه رواه عطاء عن ابن عباس
(6/387)
 
 
والثاني أنه خشي لوم الناس أن يقولوا أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها
قوله تعالى والله احق ان تخشاه أي أولى أن تخشى في كل الأحوال وليس المراد أنه لم يخش في هذه الحال ولكن لما كان لخشيته بالخلق نوع تعلق قيل له الله احق أن تخشى منهم قالت عائشة ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم آية هي أشد عليه من هذه الآية ولو كتم شيئا من الوحي لكتمها فصل
وقد ذهب بعض العلماء إلى تنزيه رسول الله من حبها وإيثاره طلاقها وإن كان ذلك شائعا في التفسير قالوا وإنما عوتب في هذه القصة على شيئين
(6/388)
 
 
أحدهما أنه أخبر بأنها ستكون زوجة له فقال لزيد أمسك عليك زوجك فكتم ما أخبره الله به من أمرها حياء من زيد ان يقول له إن زوجتك ستكون امرأتي وهذا يخرج على ما ذكرنا عن علي بن الحسين وقد نصره الثعلبي والواحدي
والثاني أنه لما رأى اتصال الخصومة بين زيد وزينب ظن أنهما لا يتفقان وأنه سيفارقها وأضمر أنه إن طلقها تزوجتها صلة لرحمها وإشفاقا عليها لانها كانت بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب فعاتبه الله على إضمار ذلك وإخفاؤه حين قال لزيد أمسك عليك زوجك وأراد منه ان يكون ظاهره وباطنه عند الناس سواء كما قيل له في قصة رجل أراد قتله هلا أومأت إلينا بقتله فقال ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ذكر هذا القول القاضي أبو يعلى رحمه الله عليه
قوله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا قال الزجاج الوطر كل حاجة لك فيها همة فاذا بلغها البالغ قيل قد قضى وطره وقال غيره قضاء الوطر في اللغة بلوغ منتهى ما في النفس من الشئ ثم صار عبارة عن الطلاق لأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة والمعنى لما قضى زيد حاجته من نكاحها زوجناكها وإنما ذكر قضاء الوطر هاهنا ليبين أن امرأة المتبني تحل وإن وطئها وهو قوله لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا والمعنى زوجناك زينب وهي امرأة زيد الذي تبنيته لكيلا يظن أن امرأة المتبني لا يحل نكاحها وروى مسلم في
(6/390)
 
 
أفراده من حديث أنس بن مالك قال لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لزيد اذهب فاذكرها علي قال زيد فانطلقت فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبي وقلت يا زينب أرسلني رسول الله صلى الله عليه و سلم يذكرك قالت ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل عليها بغير إذن
وذكر أهل العلم أن من خصائص رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه أجيز له التزويج بغير مهر ليخلص قصد زوجاته لله دون العوض وليخفف عنه وأجيز له التزويج بغير ولي لأنه مقطعوع بكفاءته وكذلك هو مستغن في نكاحه عن الشهود وكانت زينب تفاخر نساء النبي صلى الله عليه و سلم وتقول زوجكن أهلوكن وزجني الله عز و جل ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان امر الله قدرا مقدورا الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ عليما
(6/391)
 
 
قوله تعالى ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له قال قتادة فيما أحل الله له من النساء
قوله تعالى سنة الله هي منصوبة على المصدر لأن معنى ما كان على النبي من حرج سن الله سنة واسعة لا حرج فيها والذين خلوا هم النبيون فالمعنى أن سنة الله في التوسعة على محمد فيما فرض له كسنته في الأنبياء الماضين قال ابن السائب هكذا سنة الله في الأنبياء كداود فانه كان له مائة امرأة وسليمان كان له سبعمائة امرأة وثلاثمائة سرية
(6/392)
 
 
وكان أمر الله قدرا مقدورا أي قضاء مقضيا وقال ابن قتيبة سنة الله في الذين خلوا معناه لا حرج على احد فيما لم يحرم عليه
ثم اثنى الله على الأنبياء بقوله الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله أي لا يخافون لائمة الناس وقولهم فيما أحل لهم وباقي الآية قد تقدم بيانه النساء
قوله تعالى ما كان محمد أبا أحد من رجالكم قال المفسرون لما تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم زينب قال الناس إن محمدا قد تزوج امرأة ابنه فنزلت هذه الآية والمعنى ليس بأب لزيد فتحرم عليه زوجته ولكن رسول الله قال الزجاج من نصبه فالمعنى ولكن كان رسول الله وكان خاتم النبيين ومن رفعه فالمعنى ولكن هو رسول الله ومن قرأ خاتم بكسر التاء فمعناه وختم النبيين ومن فتحها فالمعنى آخر النبيين قال ابن عباس يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ولدا يكون بعده نبيا
(6/393)
 
 
يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما
قوله تعالى اذكروا الله ذكرا كثيرا قال مجاهد هو أن لا ينساه أبدا وقال ابن السائب يقال ذكرا كثيرا بالصلوات الخمس وقال مقاتل بن حيان هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال وقد روى ابو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال يقول ربكم أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه
(6/396)
 
 
قوله تعالى وسبحوه بكرة وأصيلا قال ابو عبيدة الأصيل ما بين العصر إلى الليل وللمفسرين في هذا التسبيح قولان
أحدهما أنه الصلاة واتفق أرباب هذا القول على أن المراد بالتسبيح بكرة صلاة الفجر
واختلفوا في صلاة الأصيل على ثلاثة أقوال أحدها أنها صلاة العصر
(6/397)
 
 
قاله أبو العالية وقتادة والثاني أنها الظهر والعصر والمغرب والعشاء قاله ابن السائب والثالث أنها الظهر والعصر قاله مقاتل
والقول الثاني أنه التسبيح باللسان وهو قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله قاله مجاهد
قوله تعالى هو الذي يصلي عليكم وملائكته في صلاة الله علينا خمسة أقوال
أحدها أنها رحمته قاله الحسن والثاني مغفرته قاله سعيد بن جبير والثالث ثناؤه قاله ابو العالية والرابع كرامته قاله سفيان والخامس بركته قاله ابو عبيدة
وفي صلاة الملائكة قولان
أحدهما أنها دعاؤهم قاله أبو العالية والثاني استغفارهم قاله مقاتل
وفي الظلمات والنور ها هنا ثلاثة أقوال
أحدها الضلالة والهدى قاله ابن زيد والثاني الإيمان والكفر قاله مقاتل والثالث الجنة والنار حكاه الماوردي
قوله تعالى تحيتهم الهاء والميم كناية عن المؤمنين
فأما الهاء في قوله يلقونه ففيها قولان
أحدهما أنها ترجع إلى الله عز و جل ثم فيه ثلاثة أقوال احدها أن معناه تحيتهم من الله يوم يلقونه سلام وروى صهيب عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الله يسلم على أهل الجنة والثاني تحيتهم من الملائكة يوم يلقون الله سلام
(6/398)
 
 
قاله مقاتل وقال أبو حمزة الثمالي تسلم عليهم الملائكة يوم القيامة وتبشرهم حين يخرجون من قبورهم والثالث تحيتهم بينهم يوم يلقون ربهم سلام وهو ان يحيي بعضهم بعضا بالسلام ذكره أبو سليمان الدمشقي
والقول الثاني أن الهاء ترجع إلى ملك الموت وقد سبق ذكره في ذكر الملائكة قال ابن مسعود إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال له ربك يقرئك السلام وقال البراء بن عازب في قوله تحيتهم يوم يلقونه قال ملك الموت ليس مؤمن يقبض روحه إلا سلم عليه فأما الأجر الكريم فهو الحسن في الجنة يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا
(6/399)
 
 
قوله تعالى يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا أي على أمتك بالبلاغ ومبشرا بالجنة لمن صدقك ونذيرا أي منذرا بالنار لمن كذبك وداعيا إلى الله أي إلى توحيده وطاعته باذنه أي بأمره لا أنك فعلته من تلقاء نفسك وسراجا منيرا أي أنت لمن اتبعك سراجا أي كالسراج المضئ في الظلمة يهتدي به
قوله تعالى وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا وهو الجنة قال جابر بن عبد الله لما أنزل قوله إنا فتحنا لك فتحا مبينا الآيات الفتح قال الصحابة هنيئا لك يا رسول الله فما لنا فنزلت هذه الآية
قوله تعالى ولا تطع الكافرين قد سبق في أول السورة
قوله تعالى ودع أذاهم قال العلماء معناه لا تجازهم عليه وتوكل على الله في كفاية شرهم وهذا منسوخ بآية السيف
(6/400)
 
 
يا أيها الذين آمنوا إذ نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا
قوله تعالى إذ نكحتم المؤمنات قال الزجاج معنى نكحتم
(6/401)
 
 
تزوجتم ومعنى تمسوهن تقربوهن وقرأ حمزة والكسائي تماسوه بألف
قوله تعالى فما لكم عليهن من عدة تعتدونها أجمع العلماء أنه إذا كان الطلاق قبل المسيس والخلوة فلا عدة وعندنا أن الخلوة توجب العدة وتقرر الصداق خلافا للشافعي
قوله فمتعوهن المراد به من لم يسم لها مهرا لقوله في البقرة أو تفرضوا لهن فريضة وقد بينا المتعة هنالك وكان سعيد بن المسيب وقتادة يقولان هذه الآية منسوخة بقوله فنصف ما فرضتم البقرة
قوله تعالى وسرحوهن سراحا جميلا أي من غير إضرار وقال قتادة هو طلاقها طاهرا من غير جماع وقال القاضي أبو يعلي الأظهر أن هذا التسريح ليس بطلاق لانه قد ذكر الطلاق وإنما هو بيان أنه لا سبيل له عليها وأن عليه تخليتها من يده وحباله فصل
واختلف العلماء فيمن قال إن تزوجت فلانة فهي طالق ثم تزوجها فعندنا أنها لا تطلق وهو قول ابن عباس وعائشة والشافعي واستدل أصحابنا
(6/402)
 
 
بهذه الآية وأنه جعل الطلاق بعد النكاح وقال سماك بن الفضل النكاح عقدة والطلاق يحلها فكيف يحل عقدة لم تعقد فجعل بهذه الكلمة قاضيا على صنعاء وقال ابو حنيفة ينعقد الطلاق فاذا وجد النكاح وقع مالك ينعقد ذلك في خصوص النساء وهو إذا كان في امرأة بعينها ولا ينعقد في عمومهن فأما إذا قال إن ملكت فلانا فهو حر ففيه عن احمد روايتان يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما ترجى من تشاء منهن وتؤي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شئ رقيبا
قوله تعالى إنا أحللنا لك أزواجك ذكر الله تعالى أنواع الأنكحة التي أحلها له فقال أزواجك اللاتي آتيت أجورهن أي مهورهن وهن اللواتي تزوجتهن بصداق وما ملكت يمينك يعني الجواري
(