زاد المسير المكتب الإسلامي 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
  
 
[ زاد المسير - ابن الجوزي ]
الكتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
الناشر : المكتب الإسلامي - بيروت
الطبعة الثالثة ، 1404
عدد الأجزاء : 9
[طبعة أخرى]
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : زاد المسير في علم التفسير
المؤلف : عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي
الناشر : المكتب الإسلامي - بيروت
الطبعة الثالثة ، 1404
عدد الأجزاء : 9
(1/1)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرفنا على الأمم بالقرآن المجيد ودعانا بتوفيقه على الحكم الى الأمر الرشيد وقوم به نفوسنا بين الوعد والوعيد وحفظه من تغيير الجهول وتحريف العنيد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
أحمده على التوفيق للتحميد وأشكره على التحقيق فى التوحيد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يبقى ذخرها على التأبيد وأن محمدا عبده ورسوله أرسله الى القريب والبعيد بشيرا للخلائق ونذيرا وسراجا فى الأكوان منيرا ووهب له من فضله خيرا كثيرا وجعله مقدما على الكل كبيرا ولم يجعل له من أرباب جنسه نظيرا ونهى أن يدعى باسمه تعظيما له وتوقيرا وأنزل عليه كلاما قرر صدق قوله بالتحدي بمثله تقريرا فقال قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا الاسراء88 فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأزواجه وأشياعه وسلم تسليما كثيرا
لما كان القرأن العزيز أشرف العلوم كان الفهم لمعانيه أوفى الفهوم لأن شرف العلم بشرف المعلوم وإنى نظرت فى جملة من كتب التفسير فوجدتها بين كبير قد يئس الحافظ منه وصغير لا يستفاد كل المقصود منه والمتوسط منها قليل الفوائد عديم الترتيب وربما أهمل فيه المشكل وشرح غير الغريب فأتيتك بهذا المختصر اليسير منظويا على العلم الغزير ووسمته ب
(1/3)
 
 
زاد المسير فى علم التفسير
وقد بالغت فى اختصار لفظه فاجتهد وفقك الله فى حفظه والله المعين على تحقيقه فما زال جائدا بتوفيقه
فصل في فضيلة علم التفسير
روى أبو عبد الرحمن السلمى عن ابن مسعود قال كنا نتعلم من رسول الله صلى الله عليه و سلم العشر فلا نجاوزها الى العشر الآخر حتى نعلم ما فيها من العلم والعمل
وروى قتادة عن الحسن أنه قال ما أنزل الله آية إلا أحب أن أعلم فيم أنزلت وماذا عنى بها
وقال إياس بن معاوية مثل من يقرأ القرآن ومن يعلم تفسيره أو لا يعلم مثل قوم جاءهم كتاب من صاحب لهم ليلا وليس عندهم مصباح فتداخلهم لمجئ الكتاب روعة لا يدرون ما فيه فإذا جاءهم المصباح عرفوا ما فيه
فصل
اختلف العلماء هل التفسير والتأويل بمعنى أم يختلفان فذهب قوم يميلون الى العربية إلى أنهما بمعنى وهذا قول جمهور المفسرين المتقدمين وذهب قوم يميلون الى الفقه الى اختلافهما فقالوا التفسير إخراج الشيء من مقام الخفاء الى مقام التجلى والتأويل نقل الكلام عن وضعه فيما يحتاج فى إثباته الى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ فهو مأخوذ من قولك آل الشيء الى كذا أي صار إليه
(1/4)
 
 
فصل فى مدة نزول القرأن
روى عكرمة عن ابن عباس قال أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ فى ليلة القدر الى بيت العزة ثم انزل بعد ذلك فى عشرين سنة
وقال الشعبى فرق الله تنزيل القرأن فكان بين أوله وآخره عشرون سنة
وقال الحسن ذكر لنا أنه كان بين أوله وآخره ثماني عشرة سنة انزل عليه بمكة ثمانى سنين
فصل
واختلفوا فى أول ما نزل من القرأن فأثبت المنقول أن أول ما نزل إقرأ باسم ربك العلق 1 رواه عروة عن عائشة وبه قال قتادة وأبوا صالح
وروي عن جابر به عبد الله أن أول ما نزل يا أيها الدثر المدثر 1 والصحيح أنه لما نزل عليه إقرأ باسم ربك رجع فتدثر فنزل يا أيها المدثر يدل عليه ما أخرج فى الصحيحين من حديث جابر قال سمعت النبى صلى الله عليه و سلم وهو يحدث عن فترة الوحى فقال فى حديثه فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فاذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثتت منه رعبا فرجعت فقلت زملوني زملوني فدثروني فأنزل الله تعالى يا أيها الدثر ومعنى جثتت فرقت يقال رجل مجؤوث ومجثوث وقد صحفه بعض الرواة فقال جبنت من الجبن والصحيح الأول وروي عن الحسن وعكرمة أن أول ما نزل بسم الله الرحمن الرحيم
(1/5)
 
 
فصل
واختلفوا في آخر ما نزل فروى البخاري في أفراده من حديث ابن عباس قال آخر آية أنزلت على النبى صلى الله عليه و سلم آية الربا وفي أفراد مسلم عنه آخر سورة نزلت جميعا إذا جاء نصر الله والفتح النصر 1 وروى الضحاك عن ابن عباس قال آخر آية أنزلت واتقوا يوما ترجعون فيه الى الله البقرة 281 وهذا مذهب سعيد بن جبير وأبي صالح وروى أبو إسحاق عن البراء قال آخر آية نزلت يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة النساء 176 وآخر سورة نزلت براءة وروي عن أبي بن كعب أن آخر آية نزلت لقد جاءكم رسول من أنفسكم التوبة 138 الى آخر السورة
فصل
لما رأيت جمهور كتب المفسرين لا يكاد الكتاب منها يفي بالمقصود كشفه حتى ينظر للآية الواحدة فى كتب فرب تفسير أخل فيه بعلم الناسخ والمنسوخ أو ببعضه فان وجد فيه لم يوجد أسباب النزول أو أكثرها فان وجد لم يوجد بيان المكي من المدني وإن وجد ذلك لم توجد الإشارة الى حكم الآية فان وجد لم يوجد جواب إشكال يقع فى الآية الى غير ذلك من الفنون المطلوبة
وقد أدرجت فى هذا الكتاب من هذه الفنون المذكورة مع ما لم أذكره مما
(1/6)
 
 
لا يستغني التفسير عنه ما أرجو به وقوع الغناء بهذا الكتاب عن أكثر ما يجانسه
وقد حذرت من إعادة تفسير كلمة متقدمة إلا على وجه الإشارة ولم أغادر من الأقوال التى أحطت بها إلا ما تبعد صحته مع الاختصار البالغ فاذا رأيت في فرش الآيات ما لم يذكر تفسيره فهو لا يخلو من أمرين إما أن يكون قد سبق وإما أن يكون ظاهرا لا يحتاج الى تفسير
وقد انتقى كتابنا هذا أنقى التفاسير فأخذ منها الأصح والأحسن والأصون فنظمه فى عبارة الاختصار وهذا حين شروعنا فيما ابتدأنا له والله الموفق
فصل في الاستعاذة
قد أمر الله عز و جل بالاستعاذة عند القراءة بقوله تقالى فاذا قرأت القرأن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم النحل 98 ومعناه إذا أردت القراءة ومعنى أعوذ ألجأ وألوذ
فصل فى
بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن عمر نزلت في كل سورة وقد اختلف العلماء هل هي آية كاملة أم لا وفيه عن أحمد روايتان واختلفوا هل هي من الفاتحة أم لا فيه عن أحمد روايتان أيضا فأما من قال إنها من الفاتحة فانه يوجب قرائتها في الصلاة إذا قال فوجوب الفاتحة وأما من لم يرها من الفاتحة فإنه يقول قراءتها في الصلاة سنة ما عدا مالكا فانه لا يستحب قراءتها في الصلاة
واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به فنقل جماعة عن أحمد أنه لا يسن الجهر بها وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وعمار بن ياسر
(1/7)
 
 
وابن مغفل وابن الزبير وابن عباس وقال به من كبراء التابعين ومن بعدهم الحسن والشعبي وسعيد بن جبير وابراهيم وقتادة وعمر بن عبد العزيز والأعمش وسفيان الثوري ومالك وأبو حنيفة وأبو عبيد في آخرين
وذهب الشافعي إلى أن الجهر مسنون وهو مروي عن معاوية بن أبي سفيان وعطاء وطاووس ومجاهد
فأما تفسيرها
فقوله بسم الله اختصار كانه قال أبدأ بسم الله أو بدأت باسم الله وفي الإسم خمس لغات إسم بكسر الألف وأسم بضم الألف إذا ابتدات بها وسم بكسر السين وسم بضمها وسما قال الشاعر ... والله أسماك مباركا ... آثرك الله به إيثاركا ...
وأنشدوا ... باسم الذي في كل سورة سمه ...
قال الفراء بعض قيس يقولون سمه يريدون اسمه وبعض قضاعة يقولون سمه أنشدني بعضهم ... وعامنا أعجبنا مقدمه ... يدعى أبا السمح وقرضاب سمه ...
والقرضاب القطاع يقال سيف قرضاب
واختلف العلماء في اسم الله الذي هو الله
فقال قوم مشتق وقال آخرون إنه علم ليس بمشتق وفيه عن الخليل
(1/8)
 
 
روايتان إحداهما أنه ليس بمشتق ولا يجوز حذف الألف واللام منه كما يجوز من الرحمن والثانية رواها عنه سيبويه انه مشتق وذكر أبو سليمان الخطابي عن بعض العلماء أن أصله في الكلام مشتق من أله الرجل يأله إذا فزع إليه من أمر نزل به فأله أي أجاره وأمنه فسمي إلها كما يسمى الرجل إماما وقال غيره أصله ولاه فأبدلت الواو همزة فقيل إله كما قالوا وسادة ووشاح وإشاح
واشتق من الوله لأن قلوب العباد توله نحوه كقوله تعالى ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون النحل 53 وكان القياس أن يقال مألوه كما قيل معبود إلا أنهم خالفوا به البناء ليكون علما كما قالوا للمكتوب كتاب وللمحسوب حساب وقال بعضهم أصله من أله الرجل يأله إذا تحير لأن القلوب تتحير عند التفكر في عظمته
وحكي عن بعض اللغويين أله الرجل يأله إلاه بمعنى عبد يعبد عبادة
وروي عن ابن عباس انه قال ويذرك وءالهتك الأعراف 127 أي عبادتك قال والتأله التعبد قال رؤبة ... لله در الغانيات المده ... سبحن واسترجعن من تألهي ...
فمعنى الإله المعبود
فأما الرحمن
فذهب الجمهور الى أنه مشتق من الرحمة مبني على المبالغة ومعناه ذو الرحمة التي لا نظير له فيها وبناء فعلان في كلامهم للمبالغة فانهم يقولون للشديد الامتلاء ملآن وللشديد الشبع شبعان
قال الخطابي في الرحمن ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم وعمت المؤمن والكافر
والرحيم خاص للمؤمنين قال عز و جل وكان بالمؤمنين رحيما الاحزاب 43 والرحيم بمعنى الراحم
(1/9)
 
 
سورة الفاتحة
روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال وقرأ عليه أبي بن كعب أم القرأن فقال والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الانجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته
فمن أسمائها الفاتحة لأنه يستفتح الكتاب بها تلاوة وكتابة ومن أسمائها أم القرأن وأم الكتاب لأنها أمت الكتاب بالتقدم ومن أسمائها السبع المثاني وإنما سميت بذلك لما سنشرحه في الحجر إن شاء الله
واختلف العلماء في نزولها على قولين أحدهما أنها مكية وهو مروي عن علي بن أبي طالب والحسن وأبي القالية وقتادة وأبي ميسرة
والثاني أنها مدنية وهو مروي عن أبي هريرة ومجاهد وعبيد بن عمير وعطاء الخراسانى وعن ابن عباس كالقولين
فصل
فأما تفسيرها
ف الحمد رفع بالابتداء و لله الخبر والمعنى الحمد ثابت لله ومستقر له والجمهور على كسر لام لله وضمها ابن عبلة قال الفراء هي لغة بعض
(1/10)
 
 
بني ربيعة وقرأ ابن السميفع الحمد بنصب الدال لله بكسر اللام وقرأ أبو نهيك بكسر الدال واللام جميعا
واعلم أن الحمد ثناء على المحمود ويشاركه الشكر إلا أن بينهما فرقا وهو أن الحمد قد يقع ابتداء للثناء والشكر لا يكون إلا في مقابلة النعمة وقيل لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر فتقيدره قولوا الحمد لله
وقال ابن قتيبة الحمد الثناء على الرجل بما فيه من كرم أو حسب أو شجاعة وأشباه ذلك والشكر الثناء عليه بمعروف أولاكه وقد يوضع الحمد موضع الشكر فيقال حمدته على معروفه عندي كما يقال شكرت له على شجاعته
فأما الرب فهو المالك ولا يذكر هذا الاسم في حق المخلوق إلا بالاضافة فيقال هذا رب الدار ورب العبد وقيل هو مأخوذ من التربية
قال شيخنا أبو منصور اللغوي يقال رب فلان صنيعته يربها ربا إذا أتمها وأصلحها فهو رب وراب
قال الشاعر ... يرب الذي يأتي من الخير إنه ... إذا سئل المعروف زاد وتمما ...
قال والرب يقال على ثلاثة أوجه أحدها المالك يقال رب الدار والثاني المصلح يقال رب الشيء والثالث السيد المطاع قال تعالى فيسقى ربه خمرا يوسف 41 والجمهور على خفض باء رب وقرأ أبو الغاليه وابن السميفع وعيسى ابن عمر بنصبها وقرأ أبو رزين العقيلي والربيع بن خيثم وأبو عمران الجوني برفعها
(1/11)
 
 
فأما العالمين فجمع عالم وهو عند أهل العربية اسم للخلق من مبدئهم الى منتهاهم وقد سموا أهل الزمان الحاضر عالما
فقال الحطيئة ... تنحي فاجلسي مني بعيدا ... أراح الله منك العالمينا ...
فأما أهل النظر فالعلم عندهم اسم يقع على الكون الكلي المحدث من فلك وسماء وأرض وما بين ذلك
وفي اشتقاق العالم قولان أحدهما أنه من العلم وهو يقوي قول أهل اللغة
والثاني أنه من العلامة وهو يقوي قول أهل النظر فكأنه إنما سمي عندهم بذلك لانه دال على خالقه
وللمفسرين في المراد ب العالمين هاهنا خمسة أقوال
أحدهما الخلق كله السموات والارضون وما فيهن وما بينهن رواه الضحاك عن ابن عباس
الثاني كل ذي روح دب على وجه الأرض رواه أبو صالح عن ابن عباس
والثالث أنهم الجن والإنس روي ايضا عن ابن عباس وبه قال مجاهد ومقاتل
والرابع أنهم الجن والإنس والملائكة نقل عن ابن عباس أيضا واختاره ابن قتبية
والخامس أنهم الملائكة وهو مروي عن ابن عباس أيضا
قوله تعالى الرحمن الرحيم
قرأ أبو العاليه وابن السميفع وعيسى بن عمر بالنصب فيهما وقرأ أبو رزين العقيلي والربيع بن خيثم وأبوا عمران الجوني بالرفع فيهما
(1/12)
 
 
قوله تعالى مالك يوم الدين
قرأ عاصم والكسائي وخلف ويعقوب مالك بألف وقرأ إبن السميفع وابن أبي عبلة كذلك إلا أنهما نصبا الكاف وقرأ أبو هريرة وعاصم الجحدري ملك باسكان اللام من غير الألف مع كسر الكاف وقرأ أبو عثمان النهدي والشعبي ملك بكسر اللام ونصب الكاف من غير ألف وقرأ سعد بن أبي وقاص وعائشة ومورق العجلي ملك مثل ذلك إلا أنهم رفعوا الكاف وقرأ أبي بن كعب وأبو رجاء العطاردي مليك بيياء بعد اللام مكسورة الكاف من غير ألف وقرأ عمرو بن العاص كذلك إلا أنه ضم الكاف وقرأ أبو حنيفة وأبو حيوة ملك على الفعل الماضي ويوم بالنصب
وروى عبد الوارث عن أبي عمرو إسكان اللام والمشهور عن أبي عمور وجمهور القراء ملك بفتح الميم مع كسر اللام وهو أظهر في المدح لأن كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا
وفي الدين هاهنا قولان
أحدهما انه الحساب قاله ابن مسعود
والثاني الجزاء قاله ابن عباس ولما أقر الله عز و جل رب العالمين أنه مالك الدنيا دل بقوله مالك يوم الدين على أنه مالك الأخرى وقيل إنما خص يوم الدين لأنه ينفرد يومئذ بالحكم في خلقه
(1/13)
 
 
قوله تقالى إياك نعبد
وقرأ الحسن وأبو المتوكل وأبو مجلز يعبد بضم الياء وفتح الباء قال ابن الأنباري المعنى قل يا محمد إياك يعبد والعرب ترجع من الغيبة الى الخطاب ومن الخطاب الى الغيبة كقوله تقالى حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم يونس 32 وقوله وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء يونس 22 وقوله وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء الدهر 21 22
وقال لبيد ... باتت تشكى الي النفس مجهشة ... وقد حمتلك سبعا بعد سبعينا ...
وفي المراد بهذه العبادة ثلاثة أقوال
أحدهما أنها بمعنى التوحيد روي عن علي وابن عباس في آخرين
والثاني أنها بمعنى الطاعة كقوله لا تعبدوا الشيطان يس 60
الثالث أنهما بمعنى الدعاء كقوله إن الذين يستكبرون عن عبادتي غافر 60 قوله تعالى إهدنا فيه أربعة أقوال
أحدها ثبتنا قاله علي وأبي والثاني أرشدنا والثالث وفقنا والرابع ألهمنا رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس
و الصراط الطريق
ويقال إن أصله بالسين لأنه من الاستراط وهو الا بتلاع فالسراط كأنه يسترط المارين عليه فمن قرأ السين كمجاهد وابن محيصن ويعقوب فعلى أصل الكلمة ومن قرأ بالصاد كأبي عمرو والجمهور فلأنها اخف على اللسان ومن قرأ بالزاي كرواية الأصمعي عن أبي عمرو واحتج بقول العرب سقر وزقر وروي
(1/14)
 
 
عن حمزة إشمام السين زايا وروي عنه أنه تلفظ بالصراط بين الصاد والزاي
قال الفراء اللغة الجيدة بالصاد وهي لغة قريش الأولى وعامة العرب يجعلونها سينا وبعض قيس يشمون الصاد فيقول السراط بين الصاد والسين وكان حمزة يقرأ الزراط بالزاي وهي لغة لعذرة وكلب وبني القين يقولون في أصدق أزدق
وفي المراد بالصراط هاهنا أربعة اقوال
أحدها أنه كتاب الله رواه علي عن النبي صلى الله عليه و سلم
والثاني أنه دين الاسلام قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن و أبوالعالية في آخرين
والثالث أنه الطريق الهادي الى دين الله رواه أبو صالح عن ابن عباس وبه قال مجاهد
والرابع أنه طريق الجنة نقل عن ابن عباس أيضا فان قيل ما معنى سؤال المسلمين الهداية وهم مهتدون ففيه ثلاثة أجوبة
أحدها أن المعنى إهدنا لزوم الصراط فحذف اللزوم قاله ابن الأنباري
والثاني أن المعنى ثبتنا على الهدى تقول العرب للقائم قم حتى آتيك أي اثبت على حالك
والثالث أن المعنى زدنا هدى
قوله تقالى الذين أنعمت عليهم
قال ابن عباس هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون وقرأ
(1/15)
 
 
الأكثرون عليهم بكسر الهاء وكذلك لديهم و إليهم وقرأهن حمزة بضمها وكان ابن كثير يصل ضم الميم بواو وقال ابن الأنباري حكى اللغويون في عليهم عشر لغات قرئ بعامتها عليهم بضم الهاء وإسكان الميم وعليهم بكسر الهاء وإسكان الميم وعليهمي بكسر الهاء والميم وإلحاق يا بعد الكسرة وعليهمو بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة وعليهمو بضم الهاء والميم وإدخال واو بعد الميم وعليهم بضم الهاء والميم من غير زيادة واو وهذه الأوجه الستة مأثورة عن القراء وأوجه أربعة منقولة عن العرب عليهمي بضم الهاء وكسر الميم وإدخال ياء وعليهم بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياء وعليهم بكسر الهاء وضم الميم من غير إلحاق واو و عليهم بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم
فأما المغضوب عليهم فهم اليهود والضالون النصارى
رواه عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال ابن قتيبة والضلال الحيرة والعدول عن الحق
فصل
ومن السنة في حق قارىء الفاتحة ان يعقبها ب آمين قال شيخنا أبو الحسن علي ابن عبيد الله وسواء كان خارج الصلاة أو فيها لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا قال الامام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال من خلفه آمين فوافق ذلك قول أهل السماء غفر له ما تقدم من ذنبه
(1/16)
 
 
وفي معنى آمين ثلاثة أقوال
أحدها أن معنى آمين كذلك يكون حكاه ابن الأنباري عن ابن عباس والحسن
والثاني أنها بمعنى اللهم استجب قاله الحسن والزجاج
والثالث أنه اسم من أسماء الله تعالى قاله مجاهد وهلال بن يساف وجعفر ابن محمد
وقال ابن قتيبة معناها يا أمين أجب دعاءنا فسقطت يا كما سقطت في قوله يوسف أعرض عن هذا يوسف 29 تأويله يا يوسف ومن طول الألف قال آمين أدخل ألف النداء على ألف أمين كما يقال آزيد أقبل ومعناه يا زيد قال ابن الأنباري وهذا القول خطأ عند جميع النحويين لأنه إذا أدخل يا على آمين كان منادى مفردا فحكم آخره الرفع فلما أجمعت العرب على فتح نونه دل على أنه غير منادى وإنما فتحت نون آمين لسكونها وسكون الياء التي قبلها كما تقول العرب ليت ولعل قال وفي آمين لغتان أمين بالقصر وآمين بالمد والنون فيهما مفتوحة
أنشدنا أبو العباس عن ابن الاعرابي ... سقى الله حيا بين صارة والحمى ... حمى فيد صوب المدجنات المواطر ... أمين وأدى الله ركبا إليهم ... بخير ووقاهم حمام المقادر ...
وأنشدنا أبو العباس أيضا ... تباعد مني فطحل وابن أمه ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
(1/17)
 
 
وأنشدنا أبو العباس أيضا ... يا رب لا تسلبني حبها أبدا ... ويرحم الله عبدا قال آمينا ...
وأنشدني أبي ... أمين ومن اعطاك مني هوداة ... رمى الله في أطرافه فاقفعلت ...
وأنشدني أبي ... فقلت له قد هجت لي بارح الهوى أصاب حمام الموت أهوننا وجدا ... أمين وأضناه الهوى فوق ما به أمين ولاقى من تباريحه جهدا ...
فصل
نقل الأكثرون عن احمد أن الفاتحه شرط في صحة الصلاة فمن تركها مع القدرة عليها لم تصح صلاته وهو قول مالك والشافعي وقال أبو حنيفة رحمه الله لا تتعين وهي رواية عن أحمد ويدل على الرواية الأولى ما روي في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب
والله تعالى أعلم بالصواب
(1/18)
 
 
سورة البقرة
فصل في فضيلتها
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا تجعلوا بيوتكم مقابر فان البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان
وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران فانهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف اقرؤوا البقرة فان أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة
والمراد بالزهراوين المنيرتين يقال لكل مير زاهر والغيايه كل شيء أظل الانسان فوق رأسه مثل السحابة والغبرة يقال غايا القوم فوق رأس فلان بالسيف كأنهم أظلوه به
قال لبيد
... فتدليت عليه قافلا ... وعلى الأرض غيايات الطفل ...
ومعنى فرقان قطعتان والفرق القطعة من الشيء قال عز و جل فكان كل فرق كالطود العظيم الشعراء 63 والصواف المصطفة المتضامة لنظل قارئها والبطلة السحرة
فصل في نزولها
قال ابن عباس هي أول ما نزل بالمدينة وهذا قول الحسن ومجاهد وعكرمة
(1/19)
 
 
وجابر بن زيد وقتادة ومقاتل وذكر قوم أنها مدنية سوى آية وهي قوله عز و جل واتقوا يوما ترجعون فيه الى الله البقرة 281 فانها أنزلت يوم النحر بمنى في حجة الوداع
فصل
وأما التفسير فقوله ألم اختلف العلماء فيها وفي سائر الحروف المقطعة في أوائل السور على ستة أقوال
أحدها أنها من المتشابه الذي لا يعلمه الا الله قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لله عز و جل في كل كتاب سر وسر الله في القرأن أوائل السور وإلى هذا المعنى ذهب الشعبي وأبو صالح وابن زيد
والثاني أنها حروف من أسماء فاذا ألفت ضربا من التأليف كانت أسماء من أسماء الله عز و جل قال علي بن أبي طالب هي أسماء مقطعة لو علم الناس تأليفها علموا اسم الله الذي إذا دعي به أجاب
وسئل ابن عباس عن آلر وحم و نون فقال اسم الرحمن على الجهاء و الى نحو هذا ذهب أبو العالية والربيع بن أنس
والثالث أنها حروف أقسم الله بها قاله ابن عباس وعكرمة قال ابن قتيبة ويجوز أن يكون أقسم بالحروف المقطعة كلها واقتصر على ذكر بعضها كما يقول القائل تعلمت أ ب ت ث وهو يريد سائر الحروف وكما يقول قرأت الحمد يريد فاتحة الكتاب فيسميها بأول حرف منها وإنما أقسم بحروف المعجم لشرفها ولأنها مباني كتبه المنزلة وبها يذكر ويوحد قال ابن الانباري وجواب القسم محذوف تقديره وحروف المعجم لقد بين الله لكم السبيل وأنهجت لكم الدلالات بالكتاب المنزل وإما
(1/20)
 
 
حذف لعلم المخاطبين به ولأن في قوله ذلك الكتاب لا ريب فيه دليلا على الجواب
والرابع انه أشار بما ذكر من الحروف الى سائرها والمعنى أنه لما كانت الحروف أصولا للكلام المؤلف أخبر أن هذا القرأن إنما هو مؤلف من هذه الحروف قاله الفراء وقطرب
فإن قيل فقد علموا أنه حروف فما الفائدة في أعلامهم بهذا
فالجواب أنه نبه بذلك على إعجازه فكأنه قال هو من هذه الحروف التي تؤلفون منها كلامكم فما بالكم تعجزون عن معارضته فاذا عجزتم فاعلموا أنه ليس من قول محمد عليه السلام
والخامس أنها أسماء للسور روي عن زيد بن أسلم وابنه وأبي فاختة سعيد ابن علاقة مولى أم هانىء
والسادس أنها من الرمز الذي نستعمله العرب في كلامها يقول الرجل للرجل هل تا فيقول له بلى يريد هل تأتي فيكتفي بحرف من حروفه وأنشدوا ... قلنا لها قفي لنا فقالت قاف ... لا تحسبى أنا نسينا الإيجاف ...
أراد قالت أقف ومثله ... نادوهم ألا الجموا ألا تا ... قالوا جميعا كلهم ألا فا ...
يريد ألا تركبون قالوا بلى فاركبوا ومثله ... بالخير خيرات وإن شرا فا ... ولا أريد الشر إلا أن تا ...
معناه وإن شرا فشر ولا أريد الشر إلا أن تشاء و الى هذا القول ذهب الأخفش والزجاج وابن الأنباري
وقال أبو روق عطية بن الحارث الهمداني كان النبي صلى الله عليه و سلم يجهر بالقراءة في الصلوات
(1/21)
 
 
كلها وكان المشركون يصفقون ويصفرون فنزلت هذه الحروف المقطعة فسمعوها فبقوا متحيرن وقال غيره إنما خاطبهم بما لا يفهمون ليقبلوا على سماعه لأن النفوص تطلع الى ما غلب عنها معناه فإذا أقبلوا إليه خاطبهم بما يفهمون فصار ذلك كالوسيلة الى الإبلاغ إلا أنه لا بد له من معنى يعلمه غيرهم أو يكون معلوما عند المخاطبين فهذا الكلام يعم جميع الحروف
وقد خص المفسرون قوله آلم بخمسة أقوال
أحدها أنه من المتشابه الذي لا يعلم معناه الا الله عز و جل وقد سبق بيانه
والثاني ان معناه أنا الله أعلم رواه أبوا الضحى عن ابن عباس وبه قال ابن مسعود وسعيد بن جبير
والثالث أنه قسم رواه أبو صالح عن ابن عباس وخالد الحذاء عن عكرمة
والرابع أنها حروف من أسماء ثم فيها قولان أحدهما أن الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد قاله ابن عباس
فان قيل إذا كان قد تنوول من كل اسم حرفه الأول اكتفاء به فلم أخذت اللام من جبريل وهي أخر الإسم
فالجواب أن مبتدأ القرآن من الله تعالى فدل على ذلك بابتداء أول حرف من اسمه وجبريل انختم به التنزيل والإقرأء فتنوول من اسمه نهاية حروفه و محمد مبتدأ في الإقرأء فتنوول أول حرف فيه والقول الثاني أن الألف من الله تعالى واللام من لطيف والميم من مجيد قاله أبو العالية
والخامس أنه اسم من أسماء القرآن قاله مجاهد والشعبي وقتادة وابن جريج
(1/22)
 
 
قوله تعالى ذلك فيه قولان
أحدهما أنه بمعنى هذا وهو قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة والكسائي وأبي عبيدة والأخفش واحتج بعضهم بقول خفاف بن ندبة ... اقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إنني أنا ذلكا ...
أي أنا هذا وقال ابن الأنباري إنما أراد أنا ذلك الذي تعرفه
والثاني أنه إشارة الى غائب
ثم فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه أراد به ما تقدم إنزاله عليه من القرآن
والثانى أنه أراد به ما وعده أن يوحيه إليه في قبوله سنلقي عليك قولا ثقيلا المزمل 5
والثالث أنه أراد بذلك ما وعد به أهل الكتب السالفة لأنهم وعدوا بنبي وكتاب
والكتاب القرآن وسمي كتابا لأنه جمع بعضه الى بعض ومنه الكتيبة سميت بذلك لاجتماع بعضها الى بعض ومنه كتبت البغلة
قوله تقالى لا ريب فيه الريب الشك والهدى الإرشاد والمتقون المحترزون مما اتقوه
وفرق شيخنا علي بن عبيد الله بين التقوى والورع فقال التقوى أخذ عدة والورع دفع شبهة فالتقوى متحقق السبب والورع مظنون المسبب
واختلف العلماء في معنى هذه الآية على ثلاثة أقوال
أحدها أن ظاهرها النفي ومعناها النهى وتقديرها لا ينبغي لأحد أن يرتاب به لإتقانه وإحكامه ومثله ما كان لنا أن نشرك بالله من شئ يوسف 38 أي ما ينبغي لنا ومثله فلا رفت ولا فسوق البقرة 196 وهذا مذهب الخليل وابن الأنباري
(1/23)
 
 
والثاني أن معناها لا ريب فيه أنه هدى للمتقين قاله المبرد
والثالث أن معناها لا ريب فيه أنه من عند الله قاله مقاتل في آخرين
فان قيل فقد ارتاب به قوم
فالجواب انه حق في نفسه فمن حقق النظر فيه علم قال الشاعر ... ليس في الحق يا أمامة ريب ... إنما الريب ما يقول الكذوب ...
فان قيل فالمتقى مهتد فما فائدة اختصاص الهداية به
فالجواب من وجهين أحدهما أنه أراد المتقين والكافرين فاكتفى بذكر كر أحد الفريقين كقوله تقالى سرابيل تقيكم الحر النحل 81 أراد والبرد
والثاني أنه خص المتقين لانتفاعهم به كقوله إنما انت منذر من يخشاها النازعات 45 وكان منذرا لمن يخشى ولمن لا يخشى
قوله تقالى الذين يؤمنون بالغيب الايمان في اللغة التصديق والشرع أقره على ذلك وزاد فيه القول والعمل وأصل الغيب المكان المطمئن الذي يستتر فيه لنزوله عما حوله فسمي كل مستتر غيبا
وفي المراد بالغيب هاهنا ستة اقوال
أحدها أنه الوحي قاله ابن عباس وابن جريج
والثاني القرأن قاله أبو رزين العقيلي وزر بن حبيش
والثالث الله عز و جل قاله عطاء وسعيد بن جبير
والرابع ما غاب عن العياد من أمر الجنة والنار ونحو ذلك مما ذكر في القرأن رواه السدي عن أشياخه وإليه ذهب أبو العالية وقتادة
(1/24)
 
 
والخامس أنه قدر الله عز و جل قاله الزهري
والسادس أنه الايمان بالرسول في حق من لم يره قال عمرو بن مرة قال أصحاب عبد الله له طوبى لك جاهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وجالسته فقال إن شان رسول الله صلى الله عليه و سلم كان مبينا لمن رآه ولكن أعجب من ذلك قوم يجدون كتابا مكتوبا يؤمنون به ولم يروه ثم قرأ الذين يؤمنون بالغيب
قوله تقالى ويقيمون الصلاة الصلاة في اللغة الدعاء وفي الشريعة أفعال وأقوال على صفات مخصوصة وفي تسميتها بالصلاة ثلاثة أقوال
أحدها أنها سميت بذلك لرفع الصلا وهو مغرز الذنب من الفرس
والثاني أنها من صليت العود إذا لينته فالمصلي يلين ويخشع
والثالث أنها مبنية على السؤال والدعاء والصلاة في اللغة الدعاء وهي في هذا المكان اسم جنس
قال مقاتل أراد بها هاهنا الصلوات الخمس
وفي معنى إقامتها ثلاثة أقوال
أحدها أنه تمام فعلها على الوجه المأمور به روي عن ابن عباس ومجاهد
والثاني أنه المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها قاله قتادة ومقاتل
والثالث إدامتها والعرب تقول في الشيء الراتب قائم وفلان يقيم أرزاق الجند قاله ابن كيسان
قوله تقالى ومما رزقناهم أي أعطيناهم ينفقون أي يخرجون وأصل الإنفاق الإخراج يقال نفقت الدابة إذا خرجت روحها
(1/25)
 
 
وفي المراد بهذه النفقة أربعة أقوال
أحدها أنها النفقة على الأهل والعيال قاله ابن مسعود وحذيفة
والثاني أنها الزكاة المفروضة قاله ابن عباس وقتادة
والثالث أنها الصدقات النوافل قاله مجاهد والضحاك
والرابع أنها النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة ذكره بعض المفسرين وقالوا إنه كان فرض على الرجل أن يمسك مما في يده مقدار كفايته يومه وليلته ويفرق باقيه على الفقراء فعلى قول هؤلاء الآية منسوخة بآية الزكاة وغير هذا القول أثبت واعمل أن الحكمة في الجمع بين الإيمان بالغيب وهو عقد القلب وبين الصلاة وهي فعل البدن وبين الصدقة وهو تكليف يتعلق بالمال أنه ليس في التكليف قسم رابع إذ ما عدا هذه الأقسام فهو ممتزج بين أثنين منهما كالحج والصوم ونحوهما
قوله تعالى والذين يؤمنون بما أنزل إليك اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهما أنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه رواه الضحاك عن أبن عباس واختاره مقاتل
والثاني أنها نزلت في العرب الذي آمنوا بالنبي وما أنزل من قبله رواه صالح عن ابن عباس قال المفسرون الذي أنزل إليه القرأن وقال شيخنا علي بين عبيد الله القرآن وغيره مما أوحي إليه
قوله تقالى وما أنزل من قبلك يعني الكتب المتقدمة والوحي فأما الآخرة فهي اسم لما بعد الدنيا وسميت آخرة لأن الدنيا قد تقدمتها وقيل سميت آخرة لأنها نهاية الأمر
(1/26)
 
 
قوله تعالى تقالى يوقنون اليقين ما حصلت به الثقة وثلج به الصدر وهو أبلغ علم مكتسب
قوله تعالى أولئك على هدى أي على رشاد وقال ابن عباس على نور واستقامة قال ابن قتبية المفلحون الفائزون ببقاء الأبد وأصل الفلاح البقاء ويشهد لهذا قول لبيد ... نحل بلادا كلها حل قبلنا ... ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير ...
يريد البقاء وقال الزجاج المفلح الفائز بما فيه غاية صلاح حاله قال ابن الأنباري ومنه حي على الفلاح معناه هلموا الى سبيل الفوز ودخول الجنة
قوله تعالى إن الذين كفروا في نزولها أربعة أقوال
أحدها أنها نزلت في قادة الأحزاب قاله أبو العالية
والثاني أنها نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته قاله الضحاك
الثالث انها نزلت في طائفة من إليهود ومنهم حيي بن أخطب قاله ابن السائب
والرابع أنها نزلت في مشركي العرب كأبي جهل وأبي طالب وأبي لهب وغيرهم ممن لم يسلم
قال مقاتل فأما تفسيرها فالكفر في اللغة التغطية تقول كفرت الشيء إذا غطيته فسمي الكافر كافرا لأنه يغطي الحق
قوله تعالى سواء عليهم أي متعادل عندهم الانذار وتركه والإنذار إعلام مع تخويف وتناذر بنو فلان هذا الأمر إذا خوفه بعضهم بعضا
قال شيخنا على بن عبيد الله هذه الآية وردت بلفظ العموم والمراد بها الخصوص لأنها آذنت بأن الكافر حين إنذاره لا يؤمن وقد آمن كثير من الكفار عند
(1/27)
 
 
إنذارهم ولو كانت على ظاهرها في العموم لكان خبر الله لهم خلاف مخبره ولذلك وجب نقلها الى الخصوص
قوله تعالى ختم الله على قلوبهم الختم الطبع والقلب قطعة من دم جامدة سوداء وهو مستكن في الفؤاد وهو بين النفس ومسكن العقل وسمي قلبا لتقلبه وقيل لأنه خالص البدن وإنما خصه بالختم لأنه محل الفهم
قوله تعالى وعلى سمعهم يريد على أسماعهم فذكره بلفظ التوحيد ومعناه الجمع فاكتفى بالواحد عن الجميع ونظيره قوله تعالى ثم يخرجكم طفلا الحج 5
وأنشدوا من ذلك ... كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... فان زمانكم زمن خميص ...
أي في أنصاف بطونكم ذكر هذا القول أبو عبيدة والزجاج وفيه وجه آخر وهو أن العرب تذهب بالسمع مذهب المصدر والمصدر يوحد تقول يعجبني حديثكم ويعجبني ضربكم فأما البصر والقلب فهما اسمان لا يجريان مجرى المصادر في مثل هذا المعنى ذكره الزجاج وابن القاسم وقد قرأ عمرو بن العاص وأبن أبي عبلة وعلى أسماعهم
قوله تعالى وعلى أبصارهم غشاوة الغشاوة الغطاء
قال الفراء أما قريش وعامة العرب فيكسرون الغين من غشاوة وعكل يضمون الغين وبعض العرب يفتحها وأظنها لربيعة وروى المفضل عن عاصم غشاوة بالنصب على تقدير جعل على أبصارهم غشاة فأما العذاب فهو الألم المستمر وماء عذب إذا استمر في الحلق سائغا
قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله اختلفوا فيمن نزلت على قولين
(1/28)
 
 
أحدهما أنها في المنافقين ذكره السدي عن ابن مسعود وابن عباس وبه قال أبو العالية وقتادة وابن زيد
والثاني أنها في منافقي أهل الكتاب رواه أبو صالح عن ابن عباس وقال ابن سيرين كانوا يتخوفون من هذه الآية وقال قتادة هذه الآية نعت المنافق يعرف بلسانه وينكر بقلبه و يصدق بلسانه ويخالف بعمله ويصبح على حالة ويمسي على غيرها ويتكفأ تكفأ السفينة كلما هبت ريح هب معها
قوله تعالى يخادعون الله
قال ابن عباس كان عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير والجد بن القيس إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ونشهد أن صاحبكم صادق فاذا خلوا لم يكونوا كذلك فنزلت هذه الآية
فأما التفسير فالخديعة الحيلة والمكر وسميت خديعة لأتها تكون في خفاء والمخدع بيت داخل البيت تختفي فيه المرأة ورجل خادع إذا فعل الخديعة سواء حصل مقصوده أو لم يحصل فاذا حصل مقصوده قيل قد خدع وانخدع الرجل استجاب للخادع سواء تعمد الاستجابة أو لم يقصدها والعرب تسمي الدهر خداعا لتلونه بما يخفيه من خير وشر
وفي معنى خداعهم الله خمسة أقوال
أحدها انهم كانوا يخادعون المؤمنين فكأنهم خادعوا الله روي عن ابن عباس واختاره ابن قتيبة
والثاني انهم كانوا يخادعون نبي الله فأقام الله نبيه مقامه كما قال إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله الفتح 10 قاله الزجاج
(1/29)
 
 
والثالث أن الخادع عند العرب الفاسد وأنشدوا ... أبيض اللون لذيذ طعمه ... طيب الريق إذا الريق خدع ...
أي فسد رواه محمد بن القاسم عن ثعلب عن ابن الاعرابي قال ابن القاسم فتأويل يخادعون الله يفسدون ما يظهرون من الايمان بما يضمرون من الكفر
والرابع أنهم كانوا يفعلون في دين الله مالو فعلوه بينهم كان خداعا
والخامس أنهم كانوا يخفون كفرهم ويظهرون الإيمان به
قوله تعالى وما يخدعون إلا أنفسهم قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وما يخادعون وقرأ الكوفيون واين عامر يخدعون والمعنى أن وبال ذلك الخداع عائد عليهم
ومتى يعود وبال خداعهم عليهم فيه قولان
أحدهما في دار الدنيا وذلك بطريقين أحدهما بالاستدراج والإمهال الذي يزيدهم عذابا باطلاع النبي والمؤمنين على أحوالهم التي أسروها
والقول الثاني ان عود الخداع عليهم في الآخرة وفي ذلك قولان
أحدهما أنه يعود عليهم عند ضرب الحجاب بينهم وبين المؤمنين وذلك قوله قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب الحديد 13
والثاني أنه يعود عليهم عند اطلاع أهل الجنة عليهم فاذا رأوهم طمعوا في نيل راحة من قبلهم فقالوا أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله الأعراف 50 فيجيبونهم إن الله حرمهما على الكافرين الأعراف 51
(1/30)
 
 
قولهتعالي وما يشعرون أي وما يعلمون وفي الذي لم يشعروا به قولان
أحدهما انه إطلاع الله نبيه على كذبهم قاله ابن عباس
والثاني أنه إسرارهم بأنفسهم بكفرهم قاله ابن زيد
قوله تعالى في قلوبهم مرض المرض ها هنا الشك قاله عكرمة وقتادة فزادهم الله مرضا هذا الإخبار من الله تعالى أنه فعل بهم ذلك و الأليم بمعنى المؤلم والجمهور يقرؤون يكذبون بالتشديد وقرأ الكوفيون سوى أبان عن عاصم بالتخفيف مع فتح الياء
قوله تعالى وإذا قيل لهم لآتفسدوا في الأرض اختلفوا فيمن نزلت على قولين
أحدهما أنها نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو قول الجمهور منهم ابن عباس ومجاهد
والثاني أن المراد بها قوم لم يكونوا خلقوا حين نزولها قاله سلمان الفارسي وكان الكسائي يقرأ بضم القاف من قيل والحاء من حيل والغين من غيض والجيم من جئ والسين من سئ و سيئت وكان ابن عامر يضم من ذلك ثلاثة حيل و سبق و سئ وسئيت وكان نافع يضم سئ و سيئت ويكسر البواقي والآخرون يكسرون جميع ذلك
وقال الفراء أهل احجاز من قريش ومن جاورهم من بني كنانة يكسرون القاف في قيل ودجئ وغيض وكثير من عقيل ومن جاورهم وعامة أسد يشمون الى الضم من قيل وجئ
(1/31)
 
 
وفي المراد بالفساد ها هنا خمسة أقوال
أحدها أنه الكفر قاله ابن عباس
والثاني العمل بالمعاصي قاله أبو الغالية ومقاتل
والثالث أنه الكفر والمعاصي قاله السدي عن أشياخه
والرابع انه ترك امتثال الأوامر واجتناب النواهي قاله مجاهد
والخامس أنه النفاق الذي صادفوا به الكفار وأطلعوهم على أسرار المؤمنين ذكره شيخنا علي بن عبيد الله
قوله تعالى أنما نحن مصلحون فيه خمسة أقوال
أحدها أن معناه إنكار ماعرفوا به وتقديره ما فعلنا شيئا يوجب الفساد
والثاني أن معناه إنا نقصد الإصلاح بين المسلمين والكافرين والقولان عن ابن عباس
والثالث انهم أرادوا مصافاة الكفار صلاح لا فساد قاله مجاهد وقتادة
والرابع أنهم أرادوا أن فعلنا هذاهو الصلاح وتصديق محمد هو الفساد قاله السدي
والخامس أنهم ظنوا أن مصافاة الكفار صلاح في الدنيا لا في الدين لأنهم اعتقدوا أن الدولة إن كانت للنبي صلى الله عليه و سلم فقد أمنوه بمبايعته وإن كانت للكفار فقد أمنوهم بمصافاتهم ذكره شيخنا
قوله تعالى ألا إنهم هم المفسدون قال الزجاج ألا كلمة يبتدأ بها ينبه بها المخاطب تدل على صحة ما بعدها وهم تأكيد للكلام
(1/32)
 
 
وفي قوله تعالى ولكن لا يشعون قولان
أحدهما لا يشعرون أن الله يطلع نبيه على فسادهم
والثاني لا يشعرون أن ما فعلون فساد لا صلاح
قوله تعالى وإذا قيل لهم آمنوا في المقول لهم قولان
أحدهما أنهم إليهود قاله ابن عباس ومقاتل
والثاني المنافقون قاله مجاهد وابن زيد وفي القائلين لهم قولان
أحدهما انهم أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قاله ابن عباس ولم يعين أحدا من الصحابة
والثاني أنهم معينون وهم سعد بن معاذ وأبو لبابة وأسيد ذكره مقاتل
وفي الإيمان الذي دعوا إليه قولان
أحدهما أنه التصديق بالنبي وهو قول من قال هم إليهود والثاني أنه العمل بمقتضى ما أظهروه وهو قول من قال هم المنافقون
وفي المراد بالناس ها هنا ثلاثة أقوال أحدها جميع الصحابة قاله ابن عباس
والثاني عبد الله بن سلام ومن أسلم معه من اليهود قاله مقاتل والثالث معاذ بن جبل وسعد بن معاد وأسيد بن حضير وجماعة من وجوه الأنصار عدهم الكلبي وفيمن عنوا بالسفهاء ثلاثة أقوال أحدها جميع الصحابة قاله ابن عباس والثاني النساء والصبيان قاله الحسن والثالث ابن سلام وأصحابة قاله مقاتل وفيما عنوه بالغيب من إيمان الذين زعموا انهم السفهاء ثلاثة أقوال أحدها انهم أرادوا دين الإسلام قاله ابن عباس والسدي والثاني أنهم أرادوا البعث والجزاء قاله مجاهد والثالث أنهم عنوا مكاشفة الفريقين بالعداوة من غير نظر في عاقبة وهذا الوجه والذي قبله يخرج على أنهم المنافقون والأول يخرج على أنهم إليهود قال ابن قتيبة والسفهاء الجهلة
(1/33)
 
 
يقال سفه فلان رأيه إذا جهله ومنه قيل للبذاء سفه لأنه جهل قال الزجاج وأصل السفه في اللغة خفة الحلم ويقال ثوب سفيه إذا كان رقيقا باليا وتسفهت الريح الشجر إذا مالت به قال الشاعر ... مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعإليها مر الرياح النواسم ...
قوله تعالى ولكن لا يعلمون
قال مقاتل لا يعلمون أنهم هم السفهاء
قوله تعالى وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلو الى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون
اختلفوا فيمن نزلت على قولين أحدهما أنها نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه قاله ابن عباس والثاني أنها نزلت في المنافقين وغيرهم من أهل الكتاب الذين كانوا يظهرون للنبي صلى الله عليه و سلم من الإيمان ما يلقون رؤساءهم بضده قاله الحسن
فأما التفسير ف لى بمعنى مع كقوله تعالى من أنصاري الى الله أي مع الله والشياطين جمع شيطان قال الخليل كل متمرد عند العرب شيطان وفي هذا الاسم قولان أحدهما أنه من شطن أي بعد عن الخير فعلى هذا تكون النون أصلية
قال أمية بن أبي الصلت في صفة سليمان عليه السلام ... أيما شاطن عصاه عكاه ... ثم يلقى في السجن والأغلال ...
عكاه أوثقه وقال النابغة
(1/34)
 
 
نأت بسعاد عنك نوى شطون ... فبانت والفؤاد بها رهين
والثاني أنه من شاط يشيط إذا التهب واحترق فتكون النون زائدة وأنشدوا ... وقد يشيط على أرماحنا البطل ...
أي يهلك
وفي المراد بشياطينهم ثلاثة أقوال أحدها انهم رؤوسهم في الكفر قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن والسدي والثاني إخوانهم من المشركين قاله أبو العالية ومجاهد والثالث كهنتهم قاله الضحاك والكلبي
قوله تعالى إنا معكم
قيه قولان احدهما أنهم أرادوا إنا معكم على دينكم والثاني إنا معكم على النصرة والمعاضدة والهزء السخرية
قوله تعالى الله يستهزئ بهم
اختلف العلماء في المراد باستهزاء الله بهم على تسعة أقوال
أحدها أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار فيسرعون إليه فيغلق ثم يفتح لهم باب آخر فيسرعون فيغلق فيضحك منهم المؤمنون روي عن ابن عباس
والثاني أنه إذا كان يوم القيامة جمدت النار لهم كما تجمد الإهالة في القدر فيمشون فتنخسف بهم روي عن الحسن البصري
والثالث أن الاستهزاء بهم إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب فيبقون في الظلمة فيقال لهم ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا الحديد 13 قاله مقاتل
(1/35)
 
 
والرابع أن المراد به يجازيهم على استهزائهم فقوبل اللفظ بمثله لفظا وإن خالفه معنى فهو كقوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها الشورى 40 وقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم البقرة 194 وقال عمرو بن كلثوم ... ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا ...
أراد فنعاقبه بأغلط من عقوبته
والخامس أن الاستهزاء من الله التخطئة لهم والتجهيل فمعناه الله يخطئ فعلهم ويجهلم في الإقامة على كفرهم
والسادس أن استهزاءة استدراجه إياهم
والسابع أنه إيقاع استهزائهم بهم ورد خداعهم ومكرهم عليهم ذكر هذا الأقوال محمد بن القاسم الأنباري
والثامن أن الاستهزاء بهم أن يقال لأحدهم في النار وهو في غاية الذل ذق إنك أنت العزيز الكريم الدخان 49 ذكره شيخنا في كتابه
والتاسع أنه لما أظهروا من أحكام إسلامهم في الدنيا خلاف ما أبطن لهم في الآخرة كان كالاستهزاءبهم
قوله تعالى ويمدهم في طغيانهم يعمهون
فيه أربعة أقوال أحدها يمكن لهم قاله ابن مسعود والثاني يملي لهم قاله ابن عباس والثالث يزيدهم قاله مجاهد والرابع يمهلهم قاله الزجاج
والطغيان الزيادة على القدر والخروج عن حيز الاعتدال في الكثرة يقال طغى البحر إذا هاجت أمواجه وطغى السيل إذا جاء بماء كثير وفي المراد بطغاينهم قولان أحدهما أنه كفرهم قاله الجمهور والثاني أنه عتوهم وتكبرهم قاله ابن قتيبة ويعمهون بمعنى يتحيرون يقال رجل عمه وعامه أي متحير
(1/36)
 
 
قال الراجز ... ومخفق من لهله ولهله ... من مهمه يجتبنه في مهمه ... أعمى الهدى بالجاهلين العمه ...
وقال ابن قبية يعمهون يركبون رؤوسهم فلا يبصرون
قوله تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى
في نزولها ثلاثة أقوال أحدها أنها نزلت في جميع الكفار قاله ابن مسعود وابن عباس والثاني أنها في أهل الكتاب قاله قتادة والسدي ومقاتل والثالث أنها في المنافقين قاله مجاهد واشتروا بمعنى استبدلوا والعرب تجعل من آثر شيئا على شئ مشتريا له وبائعا للآخر والضلالة والضلال بمعنى واحد
وفيها للمفسرين ثلاثة أقوال
أحدها ان المارد هاهنا الكفر والمراد بالهدى الإيمان روي عن الحسن وقتادة والسدي
والثاني أنها الشك والهدى اليقين
والثالث أنها الجهل والهدى العلم
وفي كيفية استبدالهم الضلالة بالهدى ثلاثة أقوال أحدها أنهم آمنوا ثم كفروا قاله مجاهد والثاني أن اليهود آمنوا بالنبي قبل مبعثه فلما بعث كفروا به
(1/37)
 
 
قاله مقاتل والثالث ان الكفار لما بلغهم ما جاء به النبي من الهدى فردوه واختاروا الضلال كانو كمن أبدل شيئا بشئ ذكره شيخنا علي بن عبيد الله
قوله تعالى فما ربحت تجارتهم
من مجاز الكلام لأن التجارة لا تربح وإنما يربح فيها ومثله قوله تعالى بل مكر الليل والنهار سبأ 33 يريد بل مكرهم في الليل والنهار ومثله فاذا عزم الأمر محمد 21 أي عزم عليه وأنشدوا ... حارث قد فرجت عني همي ... فنام ليلي وتجلى غمي ...
والليل لا ينام بل ينام فيه وإنما يستعمل مثل هذا فيما يزول فيه الإشكال ويعلم مقصود قائله فأما إذا أضيف الى ما يصلح أن يوصف به وأريد به ما سواه لم يجز مثل أن تقول ربح عبدك وتريد ربحت في عبدك و الى هذا المعنى ذهب الفراء وابن قبية والزجاج
قوله تعالى وما كانوا مهتدين
فيه خمسة أقوال أحدها وما كانوا في العلم بالله مهتدين والثاني وما كانوا مهتدين من الضلالة والثالث وما كانوا مهتدين الى تجارة المؤمنين والرابع وما كانوا مهتدين في اشتراء الضلالة والخامس أنه قد لا يربح التاجر ويكون على هدى من تجارته غير مستحق للذم فيما اعتمده فنفى الله عز و جل عنهم الأمرين مبالغة في ذمهم
قوله تعالى مثلهم كمثل الذي استوقد نارا
هذه الآية نزلت في المنافقين والمثل بتحريك الثاء ما يضرب ويوضع لبيان النظائر في الاحوال وفي قوله تعالى استوقد قولان
(1/38)
 
 
أحدهما أن السين زائدة وأنشدوا ... وداع دعا يا من يجيب الى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب ...
أراد فلم يجبه وهذا قول الجمهور منهم الاخفش وابن قتيبة
والثاني ان السين داخلة للطلب أراد كمن طلب من غيره نارا
قوله تعالى فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في طلمات لا يبصرون
وفي أضاءت قولان أحدهما أنه من الفعل المتعدي قال الشاعر ... أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه ...
وقال آخر ... أضاءت لنا النار وجها أغر ... ملتبسا بالفؤاد التباسا ...
والثاني أنه من الفعل اللازم قال أبو عبيد يقال أضاءت النار وأضاءها غيرها وقال الزجاج يقال ضاء القمر وأضاء
وفي ما قولان أحدهما أنها زائدة تقديره أضاءت حوله والثاني أنها بمعنى الذي وحول الشئ ما دار من جوانبه والهاء عادة على المستوقد فان قيل كيف وحد فقال كمثل الذي استوقد ثم جمع فقال ذهب الله بنورهم فالجواب أن ثعلبا حكى عن الفراء أنه قال إنما ضرب المثل للفعل لا لأعيان الرجال وهو مثل للنفاق وإنما قال ذهب الله بنورهم لأن المعنى ذاهب الى المنافقين فجمع لذلك قال ثعلب وقال غير الفراء معنى الذي الجمع وحد اولا للفظه وجمع بعد لمعناه كما قال الشاعر
(1/39)
 
 
فان الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم با أم خالد ...
فجعل الذي جمعا
فصل
اختلف العلماء في الذي ضرب الله تعالى له هذا المثل من أحوال المنافقين على قولين أحدهما أنه ضرب بكلمة الإسلام التي يلفظون بها ونورها صيانة النفوس وحقن الدماء فاذا ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه وهذا المعنى موي عن ابن عباس والثاني أنه ضرب لإقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول فذهاب نورهم إقبالهم على الكافرين والضلال وهذا قول مجاهد
وفي المراد ب الظلمات ها هنا أربعة أقوال أحدها العذاب قاله ابن عباس والثاني ظلمة الكفر قاله مجاهد والثالث ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت قاله قتادة والرابع أنها نفاقهم قاله السدي
فصل
وفي ضرب المثل لهم بالنار ثلاث حكم
إحداها أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره لا من قبل نفسه فاذا ذهبت تلك النار بقي في طلمة فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم كان نور إيمانهم كالمستعار
والثانية أن ضياء النار يحتاج في دوامه الى مادة الحطب فهو له كغذاء الحيوان فكذلك نور الإيمان يحتاج الى مادة الاعتقاد ليدوم
(1/40)
 
 
والثانية أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد معها ضياء فشبه حالهم بذلك
قوله تعالى صم بكم عمي
الصمم انسداد منافذ السمع وهو أشد من الطرش وفي البكم ثلاثة أقوال أحدها أنه الخرس قاله مقاتل وأبو عبيد وابن فارس والثاني أنه عيب في اللسان لا يتمكن معه من النطق وقيل إن الخرس يحدث عنه والثالث أنه عيب في الفؤاد يمنعه ان يعي شيئا فيفهمه فيجمع بين الفساد في محل الفهم ومحل النطق ذكر هذين القولين شيخنا
قوله تعالى فهم لا يرجعون
فيه ثلاثة أقوال أحدها لا يرجعون عن ضلالتهم قاله قتادة ومقاتل والثاني لا يرجعون الى الإسلام قاله السدي والثالث لا يرجعون عن الصمم والبكم والعمى وإنما أضاف الرجوع إليهم لأنهم انصرفوا باختيارهم لغلبة أهوائهم عن تصفح الهدى بآلات التصفح ولم يكن بهم صمم ولا بكم حقيقة ولكونهم لما التفتوا عن سماع الحق والنطق به كانوا كالصمم البكم والعرب تسمي المعرض عن الشئ أعمى والملتفت عن سماعه أصم قال مسكين الدارمي ... ما ضر جارا لي أجاوره ... ألا يكون لبابه ستر ... أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواري جارتي الخدر ... وتصم عما بينهم أذني ... حتى يكون كأنه وقر ...
قوله تعالى أو كصيب من السماء أو حرف مردود على قوله مثلهم كمثل الذي استوقد نارا البقرة 17 واختلف العلماء فيه على ستة أقوال
(1/41)
 
 
أحدها انه داخل ها هنا للتخيير تقول العرب جالس الفقهاء أو النحويين ومعناه انت مخير في مجالسة أي الفريقين شئت فكأنه خيرنا بين أن نضرب لهم المثل الأول او الثاني
والثاني انه داخل للابهام فيما قد علم الله تحصيله فأبهم عليهم مالا يطلبون تفصيله فكأنه قال مثلهم كأحد هذين ومثله قوله تعالى فهي كالحجارة أو أشد قسوة البقرة 74 والعرب تبهم ما لا فائدة في تفصيله قال لبيد ... تمنى ابتناي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا ألا من ربيعة أو مضر ...
أي هل أنا إلا من أحد هذين الفريقين وقد فنيا فسبيلي أن أفنى كما فنيا
والثالث أنه بمعنى بل وأنشد الفراء ... بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها او انت في العين أملح ...
والرابع أنه للتفصيل ومعناه بعضهم يشبه بالذي استوقد نارا وبعضهم بأصحاب الصيب ومثله قوله تعالى كونوا هودا أو نصارى البقرة 135 معناه قال بعضهم وهم إليهود كونوا هودا وقال النصارى كونوا نصارى وكذا قوله فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون الأعراف 4 معناه جاء بعضهم بأسنا بياتا وجاء بعضهم بأسنا وقت القائلة
والخامس انه بمعنى الواو ومثله قوله تعالى أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم النور 61 قال جرير ... نال الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر ... 4
السادس أنه للشك في حق المخاطبين إذ الشك مرتفع عن الحق عز و جل ومثله قوله تعالى وهو أهون عليه الروم 37 يريد فالإعادة أهون من الابتداء فيما تظنون
(1/42)
 
 
فأما التفسير لمعنى الكلام او كأصحاب صيب فأضمر الأصحاب لأن في قوله يجعلون أصابعهم في آذانهم دليلا عليه والصيب المطر قال ابن قبية هو فيعل من صاب يصوب إذا نزل من السماء وقال الزجاج كل نازل من علو الى استفال فقد صاب يصوب قال الشاعر ... كأنهم صابت عليهم سحابة ... صواعقها لطيرهن دبيب ...
وفي الرعد ثلاثة أقوال
أحدها انه صوت ملك يزجر السحاب وقد روي هذا المعنى مرفوعا الى النبي صلى الله عليه و سلم وبه قال ابن عباس ومجاهد وفي رواية عن مجاهد أنه صوت مل يسبح وقال عكرمة هو ملك يسوق السحاب كما يسوق الحادي الابل
والثاني أنه ريح تختنق بين السماء والأرض وقد روي عن أبي الجلد أنه قال الرعد الريح واسم أبي الحلد جيلان بن أبي فروة البصري وقد روى عنه قتادة
والثالث انه اصطكاك أجرام السحاب حكاه شيخنا علي بن عبيد الله
وفي البرق ثلاثة أقوال
أحدها أنه مخاريق يسوق بها الملك السحاب روي هذا المعنى مرفوعا الى النبي صلى الله عليه و سلم وهو قول علي بن أبي طالب وفي رواية عن علي قال هو ضربة بمخراق من حديد وعن ابن عباس أنه ضربة بسوط من نور قال ابن الانباري المخاريق ثياب تلف ويضرب بها الصبيان بعضهم بعضا فشبه السوط الذي يضرب به السحاب بذلك المخراق
(1/43)
 
 
قال عمرو بن كلثوم ... كأن سيوفنا فينا وفيهم ... مخاريق بأيدي لاعبينا ...
وقال مجاهد البرق مصع ملك والمصع الضرب والتحريك
الثاني ان البرق الماء قاله أبو الجلد وحكى ابن فارس أن البرق تلألؤ الماء
والثالث أنه نار تتقدح من اصطكاك اجرام السحاب لسيره وضرب بعضه لبعض حكاه شيخنا
والصواعق جمع صاعقة وهي صوت شديد من صوت الرعد يقع معه قطعة من نار تحرق ما تصيبه وروي عن شهر بن حوشب أن الملك الذي يسوق السحاب إذا اشتد غضبه طار من فيه النار فهي الصواعق وقال غيره هي نار تنقدح من اصطكاك اجرام السحاب قال ابن قتيبة وإنما سميت صاعقة لأنها أصابت قتلت يقال صعقتهم أي قتلتهم
قوله تعالى والله محيط بالكافرين
فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه لا يفوته أحد منهم فهو جامعهم يوم القيامة ومثله قوله تعالى أحاط بكل شئ علما الطلاق 12 قاله مجاهد
والثاني أن الإحاطة الإهلاك مثل قوله تعالى وأحيط بثمره الكهف 42
والثالث أنه لا يخفى عليه ما يفعلون
قوله تعالى يكاد البرق يخطف أبصارهم يكاد بمعنى يقارب وهي كلمة إذا أثبتت انتفى الفعل وإذا نفيت ثبت الفعل وسئل بعض المتأخرين فقيل له ... أنحوي هذا العصر ماهي كلمة ... جرت بلساني جرهم وثمود ... إذا نفيت والله يشهد أثبتت ... وإن أثبتت قامت مقام جحود
(1/44)
 
 
ويشهد للاثبات عند النفي قوله تعالى لا يكادون يفقهون حديثا النساء 87 وقوله إذا أخرج يده لم يكد يراها النور 40 ومثله ولا يكاد يبين الزخرف 52 ويشهد للنفي عند الإثبات قوله تعالى يكاد البرق البقرة 20 و يكاد سنا برقه النور 43 و يكاد زيتها يضئ النور 35 وقال ابن قتيبة كاد بمعنى هم ولم يفعل وقد جاءت بمعنى الإثبات قال ذو الرمة ... ولو أن لقمان الحكيم تعرضت ... لعينيه مي سافرا كاد يبرق ...
أي لو تعرضت له لبرق أي دهش وتحير
قلت وقد قال ذو الرمة في المنفية ما يدل على أنها تستعمل أنها تستعمل للاثبات وهو قوله ... اذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح ...
أراد لم يبرح
قوله تعالى يخطف أبصارهم
قرأ الجمهور بفتح الياء وسكون الخاء وفتح الطاء وقرأ أبان بن تغلب وأبان ابن يزيد كلاهما عن عاصم بفتح الياء وسكون الخاء وكسر الطاء مخففا ورواه الجعفي عن أبي بكر عن عاصم بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الطاء وهي قرأءة الحسن كذلك إلا أنه كسر الياء وعنه فتح الياء والخاء مع كسر الطاء المشددة
ومعنى يخطف يستلب وأصل الاختطاف الاستلاب ويقال لما يخرج به الدلو خطاف لأنه يختطف ما علق به قال النابغة ... خطاطيف حجن في حبال متينة ... تمد بها أيد إليك نوازع ...
والحجن المتعقفة وجمل خيطف سريع المر وتلك السرعة الخطفى
(1/45)
 
 
قوله تعالى كلما أضاه لهم
قال الزجاج يقال ضاء الشئ يضوء وأضاء يضئ وهذه اللغة الثانية هى المختارة
فصل
واختلف العلماء ما الذي يشبه الرعد مما يتعلق بأحوال المنافقين على ثلاثة أقوال
أحدها أنه التخويف الذي في القرآن قاله ابن عباس
والثاني أنه ما يخافون أن يصيبهم من المصائب إذا علم النبي والمؤمنون بنفاقهم قاله مجاهد والسدي
والثالث انه ما يخافونه من الدعاء الى الجهاد وقتال من يبطنون مودنه ذكره شيخنا
واختلفوا ما الذي يشبه البرق من أحوالهم على ثلاثة أقوال أحدهما أنه ما يتبين لهم من مواعظ القرأن وحكمه
والثاني أنه ما يشئ لهم من نور إسلامهم الذي يظهرونه والثالث انه مثل لما ينالونه بإظهار الإسلام من حقن دمائهم فانه بالإضافة الى ما ذخر لهم في الأجل كالبرق
واختلفوا في معنى قوله يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق على قولين أحدهما أنهم كانوا يفرون من سماع القرآن لئلا يأمرهم بالجهاد مخالفة الموت قاله الحسن والسدي والثاني أنه مثل لإعراضهم عن القرآن كراهية له قاله مقاتل
واختلفوا في معنى كلما أضاء لهم مشوا فيه على أربعة أقوال
أحدها أن معناه كلما أتاهم القرأن بما يحبون تابعوه قاله ابن عباس والسدي
(1/46)
 
 
والثاني أن إضاءة البرق حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم وأموالهم فيسرعون الى متابعته قاله قتادة
والثالث انه تكلمهم بالاسلام ومشيهم فيه اهتداؤهم به فاذا تركواذلك وقفوا في ضلالة قاله مقاتل
والرابع أن إضاءته لهم تركهم بلا ابتلاء ولا امتحان ومشيهم فيه إقامتهم على المسالمة باظهار ما يظهرونه ذكره شيخنا
فأما قوله تعالى وإذا أظلم عليهم فمن قال إضاءته إتيانه إياهم بما يحبون قال إظلامه إتيانه إياهم بما يكرهون وعلى هذا سائر الأقوال التي ذكرناها بالعكس
ومعنى قاموا وقفوا
قوله تعالى ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم قال مقاتل معناه لو شاء لأذهب أسماعهم وأبصارهم عقوبة لهم قال مجاهد من أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة في نعت المنافقين
قوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون
اختلف العلماء فيمن عنى بهذا الخطاب على أربعة أقوال أحدها أنه عام في جميع الناس وهو قول ابن عباس
والثاني أنه خطاب لليهود دون غيرهم قاله الحسن ومجاهد والثالث أنه خطاب للكفار من مشركي العرب وغيرهم قاله السدي والرابع أنه خطاب للمنافقين وإليهود قاله مقاتل والناس اسم للحيوان الآدمي وسموا بذلك لتحركهم في مراداتهم والنوس الحركة وقيل سموا أناسا لما يعتريهم من النسيان
(1/47)
 
 
وفي المراد بالعبادة هاهنا قولان أحدهما التوحيد والثاني الطاعة رويا عن ابن عباس والخلق والإيجاد وإنما ذكر من قبلهم لأنه أبلغ في التذكير وأقطع للجحد وأحوط في الحجة وقيل إمنا ذكر من قبلهم لينبههم على الاعتبار بأحوالهم من إثابة مطيع ومعاقبة عاص
وفي لعل قولان
أحدهما أنها بمعنى كي وأنشدوا في ذلك ... وقلتم لنا كفوا الحروب لعنا ... نكف ووثقتم لنا كل موثق ... فلما كففنا الحرب كانت عهودكم ... كلمع سراب في الملا متألق ...
يريد لكي نكف و الى هذا المعنى ذهب مقاتل وقطرب وابن كيسان
والثاني أنها بمعنى الترجي ومعناها اعبدوا الله راجين للتقوى ولآن تقوا أنفسكم بالعبادة عذاب ربكم وهذا قول سيبويه قال ابن عباس لعلكم تتقون الشرك وقال الضحاك لعلكم تتقون النار وقال مجاهد لعلكم تطيعون
قوله تقالى الذي جعل لكم الأرض فراشا
إنما سميت الأرض أرضا لسعتها من قولهم أرضت القرحة إذا اتسعت
وقيل لانحطاطها عن السماء وكل ما سفل أرض وقيل لأن الناس يرضونها بأقدامهم وسميت السماء سماء لعلوها قال الزجاج وكل ما علا على الأرض فاسمه بناء وقال ابن عباس البناء هاهنا بمعنى السقف
قوله تعالى وأنزل من السماء يعني من السحاب
ماء معنى المطر
(1/48)
 
 
فلا تجعلوا لله أندادا يعني شركاء أمثالا يقال هذا ند هذا ونديده وفيما أريد بالأنداد هاهنا قولان أحدهما الأصنام قاله ابن زيد والثاني رجال كانوا يطيعونهم في معصية الله قاله السدي
قوله تعالى وأنتم تعلمون
فيه ستة أقوال
أحدهما وأنتم تعلمون أنه خلق السماء وأنزل الماء وفعل ما شرحه في هذه الآيات وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وقتادة و مقاتل
الثاني وانتم تعلمون أنه ليس ذلك في كتابكم التوراة والانجيل روي عن ابن عباس أيضا وهو يخرج على قول من قال الخطاب لأهل الكتاب
والثالث وأنتم تعلمون انه لا ند له قاله مجاهد
والرابع أن العلم هاهنا بمعنا العقل قاله ابن قتبية
والخامس وأنتم تعلمون أنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه ذكره شيخنا علي بن عبيد الله
والسادس وأنتم تعلمون أنها حجارة سمعته من الشسيخ أبي محمد بن الخشاب
قوله تعالى وإن كنتم في ريب
سبب نزلوها أن إليهود قالوا هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي وإنا لفي شك منه فنزلت هذه الآية وهذا مروي عن ابن عباس ومقاتل و إن ها هنا لغير شك لأن الله تعالى علم أنهم مرتابون ولكن هذا عادة العرب يقول الرجل لابنه إن كنت ابني فأطعني وقيل إنها هاهنا بمعنى إذ قال أبو زيد ومنه قوله تعالى وذروا ما بقي من الربى إن كنتم مؤمين البقرة 278
(1/49)
 
 
قوله تعالى فأتوا بسورة من مثله قال ابن قتيبة السورة تهمز و لا تهمز فمن همزها جعلها من أسأرت يعني أفضلت لأنها قطعة من القرآن ومن لم يهمزها جلعها من سورة البناء أي منزلة بعد منزلة قال النابغة في النعمان ... ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب ...
والسورة في هذا البيت سورة المجد وهي مستقارة من سورة البناء وقال ابن الأنباري قال أبو عبيدة إنما سميت السورة سورة لأنه يرتفع فيها من منزلة الى منزلة مثل سورة البناء معنى أعطاك سورة أي منزلة شرف ارتفعت إليها عن منازل الملوك قال ابن القاسم ويجوز أن تكون سميت سورة لشرفها تقول العرب له سورة في المجد أي شرف وارتفاع او لأنها قطعة من القرآن من قولك أسأرت سؤرا أي أبقيت بقية وفي هاء مثله قولان أحدهما أنها تعود على القرآن المنزل قاله قاله قتادة والفراء و مقاتل والثاني أنها تعود على النبي صلى الله عليه و سلم فيكون التقدير فأتوا بسورة من مثل هذا العبد الأمي ذكره أبو عبيدة والزجاج وابن القاسم فعلى هذا القول تكون من لا بتداء الغاية وعلى الأول تكون زائدة
قوله تعالى وادعوا شهداءكم من دون الله
فيه قولان أحدهما أن معناه اسعينوا من المعونة قاله السدي والفرء والثاني استغيثوا من الاستغانة وأنشدوا ... فلما التقت فرساننا ورجالهم ... دعوا يال كعب واعتزينا لعامر ...
وهذا قول ابن قتيبة
(1/50)
 
 
وفي شهدائهم ثلاثة أقوال
أحدهما أنهم آلهتم قاله ابن عباس والسدي و مقاتل والفراء قال ابن قتيبة وسموا شهداء لأنهم يشهدونهم ويحضرونهم وقال غيره لأنهم عيدوهم ليشهدوا لهم عند الله
و الثاني أنهم أعوانهم روي عن ابن عباس أيضا
والثالث أن معناه قأتوا بناس يشهدون ما تأتون به مثل القرأن روي عن مجاهد
قوله تعالى إن كنتم صادقين أي في قولكم إن هذا القرأن ليس من عند الله قاله ابن عباس
قوله تعالى فان لم تفعلوا في هذه الآية مضمر مقدر يقتضي الكلام تقديمه وهو انه لما تحداهم بما في الآية الماضية من التحدي فسكتوا عن الإجابة قال فان لم تفعلوا وفي قوله تعالى ولن تفعلوا أعظم دلالة على صحة نبوة نبينا لأنه أخبر أنهم لا يفعلون ولم يفعلوا
قوله تعالى فأتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين
والوقود بفتح الواو الحطب وبضمها التوقد كالوضوء بالفتح الماء وبالضم المصدر وهو اسم حركات المتوضئ وقرأ الحسن و قتادة وقودها بضم الواو والاختيار الفتح والناس أو قدوا فيها بطريق العذاب والحجارة لبيان قوتها وشدتها إذ هي محرقة للحجارة وفي هذه الحجارة قولان احدهما أنها أصنامهم التي عبدوها قاله الربيع بن أنس والثاني أنها حجارة الكبريت وهي أشد الأشياء حرا إذا أحميت يعذبون بها ومعنى اعدت هيئت وإنما خوفهم بالنار إذا لم يأتوا بمثل القرآن لأنهم إذا كذبوه وعجزوا عن الاتيان بمثله ثبتت عليهم الحجة وصار الخلاف عنادا وجزاء المعاندين النار
(1/51)
 
 
قوله تعالى وبشر الذين آمنوا
البشارة أول خبر يرد على الإنسان وسمي بشارة لأنه يؤثر في بشرته فان كان خيرا أثره المسرة والإنبساط وإن شرا أثر الانجماع والغم والأغلب في عرف الاستعمال أن تكون البشارة بالخير وقد تستعمل في الشر ومنه قوله تعالى بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما النساء 138
قوله تقالى وعملوا الصالحات
يشمل كل عمل صالح وقد روي عن عثمان بن عفان أنه قال أخلصوا الأعمال
وعن على رضي الله عنه أنه قال أقاموا الصلوات المفروضات فأما الجنات فجمع جنة وسميت الجنة جنة لاستتار أرضها بأشجارها وسمي الجن جنا لاستتارهم والجنين من ذلك والدرع جنة وجن الليل إذا ستر وذكر عن المفضل أن الجنة كل بستان فه نخل وقال الزجاج كل نبت كثف وكثر وستر بعضه بعضا فهو جنة
قوله تعالى تجري من تحتها أي من تحت شجرها لا من تحت أرضها
قوله تعالى هذا الذي رزقنا من قبل فيه ثلاثة أقوال
أحدها ان معناه هذا الذي طعمنا من قبل فرزق الغداة كرزق العشيء روي عن ابن عباس والضحاك و مقاتل
والثاني هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا قاله مجاهد وابن زيد
والثالث أن ثمر الجنة إذا جني خلفه مثله فاذا لأوا ما خلف الجنى اشتبه عليهم فقالوا هذا الذي رزقنا من قيل قاله يحيى بن أبي كثير وأبو عبيدة
(1/52)
 
 
قوله تعالى وأتوا به متشابها
فيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه متشابه في المنظر واللون مختلف في الطعم قاله مجاهد وابو العالية والضحاك والسدي و مقاتل
والثاني انه متشابه في جودته لا ردئ فيه قاله الحسن وابن جريج
والثالث أنه يشبه ثمار الدنيا في الخلقة والاسم غير أنه أحسن في المنظر والطعم قاله قتادة وابن زيد فان قال قائل ما وجه الامتنان بمتشابهه وكلما تنوعت المطاعم واختلفت الوانها كان أحسن فالجواب أنا إن قلنا إنه متشابه المنظر مختلف الطعم كان أغرب عند الخلق وأحسن فانك لو رأيت تفاحة فيها طعم سائر الفاكهة كان نهاية في العجب وإن قلنا إنه متشابه في الجودة جاز اختلافه في الألوان والطعوم وإن قلنا إنه يشبه صورة ثمار الدنيا مع اختلاف المعاني كان اطرف وأعجب وكل هذه مطالب مؤثرة
قوله تعالى ولهم فيها أزواج مطهرة أي في الخلق فانهن لا يحصن ولا يبلن ولا يأتين الخلاء وفي الخلق فانهن لا يحسدن و لايغرن ولا ينظرن الى غير أزواجهن
قال ابن عباس نقية عن القذى والأذى قال الزجاج ومطهرة أبلغ من طاهرة لأنه للتكثير والخلود البقاء الدائم الذي لا انقطاع له
قوله تعالى إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا
في سبب نزولها قولان
أحدهما أنه نزل قوله تعالى ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له الحج 73 ونزل قوله كمثل العنكبوت
(1/53)
 
 
اتخذت بيتا العنكبوت 41 قالت إليهود وما هذا من الأمثال فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس والحسن وقتادة و مقاتل والفراء
والثاني انه لما ضرب الله المثلين المتقدمين وهما قوله تقالى كمثل الذي استوقد نارا البرقة 17 وقوله أو كصيب من السماء البقرة 19 قال المنافقون الله أجل وأعلى من ان يضرب هذه الأمثال فنزلت هذه الآية رواه السدي عن أشياخه وروي عن الحسن و مجاهد نحوه
والحياء بالمد الانقباض والاحتشام غير أن صفات الحق عز و جل لا يطلع لها على ماهية وإنما تمر كما جاءت وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم إن ربكم حيي كريم وقيل معنى لا يستحيي لا يترك وحكى ابن جرير الطبري عن بعض اللغويين أن معنى لا يستحيي لا يخشى ومثله وتخشى الناس والله أحق ان تخشاه الأحزاب 37 أي تستحيي منه فالاستحياء والخشية ينوب كل واحد منهما عن الآخر وقرأ مجاهد وابن محيصن لا يستحي بياء واحدة وهي لغة
قوله تعالى أن يضرب مثلا
قال ابن عباس أن يذكر شبها واعلم أن فائدة المثل أن يبين للمضروب له الأمر الذي ضرب لأجله فينجلي غامضه
قوله تعالى ما بعوضه
ما زائدة وهذا اختيار أبي عبيدة والزجاج والبصريين وانشدوا للنابغة ... قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... الى حمامتنا أو نصفه فقد ...
وذكر ابو جعفر الطبري أن المعنى ما بين بعوضة الى ما فوقها ثم حذف ذكر بين و الى إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في ما الثانية دلالة عليهما كما قالت
(1/54)
 
 
العرب مطرنا مازبالة فالثعلبية وله عشرون ما ناقة فجملا وهي أحسن الناس ما قرنا فقدما يعنون ما بين قرنها الى قدمها وقال غيره نصب البعوضة على البدل من المثل
وروى الأصمعي عن نافع بعوضة بالرفع على إضمار هو والبعوضة صفيرة البق
قوله تعالى فما فوقها فيه قولان
أحدهما أن معناه فما فوقها في الكبر قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج والفراء
والثاني فما فوقها في الصغر فيكون معناه فما دونها قاله أبو عبيدة
قال ابن قتيبة وقد يكون الفوق بمعنى دون وهو من الأضداد ومثله الجون يقال للأسود والأبيض والصريم الصبح والليل والسدفة الظلمة والضوء والحلل الصغير والكبير والناهل العطشان والريان والمائل القائم واللاطئ بالأرض والصارخ المغيث والمستغيث والهاجد المصلي بالليل والنائم والروهة الارتفاع والانحدار والتلعة ما ارتفع من الارض وما انهبط من الارض والظن يقين وشك والاقرأء الحيض والاطهار والمفرع في الجبل المصعد والمنحدر والوراء خلفا وقداما وأسررت الشئ أخفيته وأعلنته وأخفيت الشئ اظهرته وكتمته ورتوت الشئ شددته وأرخيته وشعبت الشئ جمعته وفرقته وبعت الشئ بمعنى بعته واشتريته وشربت الشئ اشتريته وبعته والحي خلوف غيب ومختلفون
واختلفوا في قوله يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا هل هو من تمام قول الذين قالوا ماذا أراد الله بهذا مثلا البقرة 26 أو هو مبتدأ من كلام الله عز و جل على قولين
(1/55)
 
 
أحدهما أنه تمام الكلام الذي قبله قاله الفراء وابن قتيبة قال الفراء كأنهم قالوا ماذا اراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد يضل به هذا ويهدي به هذا ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله فقال الله وما يضل به إلا الفاسقين البقرة 26
والثاني أنه مبتدأ من قول الله تعالى قاله السدي ومقاتل
فأما الفسق فهو في اللغة الخروج يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها فالفاسق الخارج عن طاعة الله الى معصيته
وفي المراد بالفاسقين هاهنا ثلاثة أقوال احدها أنهم إليهود قاله أبن عباس ومقاتل والثاني المنافقون قاله أبو العالية والسدي والثالث جميع الكفار
قوله تعالى الذين ينقضون عهد الله
هذه صفة للفاسقين وقد سبقت فيهم الأقوال الثلاثة والنقض ضد الإبرام ومناه حل الشئ بعد عقده وينصرف النقض الى كل شئ بحسبه فنقض البناء تفريق جمعه بعد إحكامه ونقض العهد الإعراض عن المقام على أحكامه
وفي هذا العهد ثلاثة أقوال
احدها أنه ما عهد الى أهل الكتاب من صفة محمد صلى الله عليه و سلم والوصية باتباعه قاله ابن عباس و مقاتل
والثاني أنه ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا قاله السدي
والثالث أنه الذي أخذه عليهم حين استخرج ذرية آدم من ظهره قاله الزجاج ونحن وإن لم نذكر ذلك العهد فقد ثتب بخبر الصادق فيجب الايمان به
وفي من قولان أحدهما أنها زائدة والثاني أنها لابتداء الغاية كأنه قال ابتداء نقض العهد من بعد ميثاقه وفي هاء ميثاقه قولان أحدهما أنها ترجع الى الله تعالى والثاني أنها ترجع الى العهد فتقديره بعد إحكام التوفيق فيه
(1/56)
 
 
وفي الذي أمر الله أن يوصل ثلاثة أقوال أحدها الرحم والقرابة قاله ابن عباس وقتادة والسدي والثاني أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم قطعوه بالتكذيب قاله الحسن والثالث الإيمان بالله وأن لا يفرق بين أحد من رسله فآمنوا ببعض وكفروا بعض قاله مقاتل
وفي فسادهم في الأرض ثلاثة أقوال أحدها أنه استدعاؤهم الناس الى الكفر قاله ابن عباس والثاني أنه العمل بالمعاصي قاله السدي و مقاتل والثالث أنه قطعهم الطريق على من جاء مهاجرا الى النبي صلى الله عليه و سلم ليمنعوا الناس من الاسلام
والخسران في اللغة لنقصان
قوله تعالى كيف تكفرون بالله في كيف قولان
أحدهما أنه استفهام في معنى التعجب وهذا التعجب للمؤمنين أي اعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون وقد ثبتت حجة الله عليهم قاله ابن قتيبة والزجاج
والثاني أنه استفهام خارج مخرج التقرير والتوبيخ تقديره ويحكم كيف تكفرون بالله قال العجاج ... أطربا وأنت قنسري ... والدهر بالانسان دواري ...
أراد أتطرب وأنت يشخ كبير قاله ابن الانباري
قوله تعالى وكنتم أمواتا
قال الفراء أي وقد كنتم أمواتا ومثله أو جاؤوكم حصرت صدورهم النساء 90 أي قد حصرت ومثله إن كان قميصه قد من دبر فكذبت يوسف 26 أي فقد كذبت ولولا إضمار قد لم يجز مثله في الكلام
وفي الحياتين والموتتين اقوال أصحها أن الموتة الأولى كونهم نطفا وعلقا
(1/57)
 
 
ومضغا فأحياهم في الأرحام ثم يميتهم بعد خروجهم الى الدنيا ثم يحييهم للبعث يوم القيامة وهذا قول ابن عباس وقتادة و مقاتل والفراء وثعلب والزجاج وابن قتيبة وابن الانباري
قوله تعالى هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعا أي لأجلكم فبعضه للانتفاع وبعضه للاعتبار
ثم استوى الى السماء أي عمد الى خلقها والسماء لفظها لفظ الواحد ومعناها معنى الجمع بدليل قوله فسواهن
وأيها أسبق في الخلق الأرض ام السماء فيه قولان أحدهما الأرض قاله مجاهد والثاني السماء قاله مقاتل
واختلفوا في كيفية تكميل خلق الأرض وما فيها فقال ابن عباس بدأ بخلق الارض في يومين ثم خلق السموات في يومين وقدر فيها أقواتها في يومين وقال الحسن و مجاهد جمع خلق الارض وما فيها في أربعة أيام متوالية ثم خلق السماء في يومين
والعليم جاء على بناء فعيل للمبالغة في وصفه بكمال العلم
قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة
كان أبوا عبيدة يقول إذ ملغاة وتقدير الكلام وقال ربك وتابعه ابن قتيبة وعاب ذلك عليهما الزجاج وابن القاسم وقال الزجاج إذ معناها الوقت فكأنه قال ابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة
والملائكة من الألوك وهي الرسالة قال لبيد ... وغلام أرسلته أمه ... بألوك فبذلنا ما سأل ...
وواحد الملائكة ملك والاصل فيه ملأك وأنشد سيبويه
(1/58)
 
 
فلست لإنسي ولكن لملأك ... تنزل من جو السماء يصوب ...
قال أبو إسحاق ومعنى ملأك صاحب رسالة يقال مألكة ومألكة وملأكة ومآلك جمع مألكة قال الشاعر ... أبلغ النعمان عني مألكا ... أنه قد طال حبسي وانتظاري ...
وفي هؤلاء الملائكة قولان أحدهما أنهمن جميع الملائكة قاله السدي عن أشياخه والثاني أنهم الذين كانوا مع إبليس حين أهبط الى الأرض ذكره أبو صالح عن ابن عباس
ونقل أنه كان في الأرض قبل آدم خلق فأفسدوا فبعث الله إبليس في جماعة من الملائكة فأهلكوهم
واختلفوا ما المقصود في إخبار الله عز و جل الملائكة بخلق آدم على ستة أقوال
أحدها أن الله تعالى علم في نفس إبليس كبرا فأحب أن يطلع الملائكة عليه وأن يظهر ما سبق عليه في علمه رواه الضحاك عن ابن عباس والسدي عن أشياخه
والثاني أنه أراد أن يبلو طاعة الملائكة قاله الحسن
والثالث أنه لما خلق النار خافت الملائكة فقالوا ربنا لمن خلقت هذه قال لمن عصاني فخافوا وجود المعصية منهم وهم لا يعلمون بوجود خلق سواهم فقال لهم إني جاعل في الأرض خليفة البقرة 30 قاله ابن زيد
والرابع أنه أراد إظهار عجزهم عن الإحاطة بعلمه فأخبرهم حتى قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها فاجابهم إني أعلم ما لا تعلمون
والخامس أنه أراد تعظيم آدم بذكره بالخلافة قبل وجوده ليكونوا معظمين له إن أوجده
(1/59)
 
 
والسادس أنه أراد إعلامهم بانه خلقه ليسكنه الارض وإن كانت ابتداء خلقه في السماء
والخليفة هو القائم مقام غيره يقال هذا خلف فلان وخليفته قال ابن الانباري والاصل في الخيلفة خليف بغير هاء فدخلت الهاء للمبالغة في مدحه بهذا الوصف كما قالوا علامة ونسابة وراوية وفي معنى خلافة آدم قولان
أحدهما انه خليفة عن الله تعالى في إقامة شرعه ودلائل توحيده والحكم في خلقه وهذا قول ابن مسعود و مجاهد
والثاني انه خلف من سلف في الارض قبله وهذا قول ابن عباس والحسن
قوله تعالى أتجعل فيها من يفسد فيها
فيه ثلاثة أقوال
أحدها أن ظاهر الالف الاستفهام دخل على معنى العلم ليقع به تحقيق قال جرير ... ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح ...
معناه أنتم خير من ركب المطايا
والثاني انهم قالوه لاستعلام وجه الحكمةة لا على وجه الاعتراض ذكره الزجاج
والثالث أنهم سألوا عن حال أنفسهم فتقديره أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن نسبح بحمدك أم لا
وهل علمت الملائكة أنهم يفسدون بتوقيف من الله تعالى أم قاسوا على حال من قبلهم فيه قولان
أحدهما أنه بتوقيف من الله تعالى قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن و مجاهد وقتادة وابن زيد وابن قتيبة وروى السدي عن أشياخه أنهم قالوا ربنا وما يكون
(1/60)
 
 
ذلك الخليفة قال يكون له ذرية يفسدون في الارض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا فقالوا اتجعل فيها من يفسد فيها
والثاني أنهم قاسوه على أحوال من سلف قبل آدم روي نحو هذا عن ابن عباس وأبي العالية و مقاتل
قوله تعالى ويسفك الدماء
قرأ الجمهور بكسر الفاء وضمها ابن مصرف وابراهيم بن أبي عبلة وهما لغتان وروي عن طلحة وابن مقسم ويسفك بضم الياء وفتح السين وتشديد الفاء مع كسرها وهي لتكثير الفعل وتكريره وسفك الدم صبه وإراقته وسفحه وذلك مستعمل في كل مضيع إلا أن السفك يختص الدم والصب والسفح والإراقة يقال في الدم وفي غيره
وفي معنى تسبيحهم أربعة أقوال أحدها أنه الصلاة قاله ابن مسعود وابن عباس والثاني انه قوله سبحان الله قاله مقتادة والثالث أنه التعظيم والحمد قاله أبو صالح والرابع انه الخضوع والذل قاله محمد بن القاسم الانباري
قوله تعالى ونقدس لك
القدس الطهارة وفي معنى تقديسهم ثلاثة أقوال أحدها أن معناه نتطهر لك من أعمالهم قاله ابن عباس والثاني نعظمك ونكبرك قاله مجاهد والثالث نصلي لك قاله قتادة
قوله تعالى إني أعلم ما لا تعلمون
فيه أربعة أقوال أحدها ان معناه أعلم ما في نفس إبليس من البغى والمعصية قاله ابن عباس و مجاهد والسدي عن أشياخه والثاني أعلم أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء
(1/61)
 
 
وصالحون قاله قتادة والثالث أعلم أني أملأ جهنم من الجنة والناس قاله ابن زيد
والرابع أعلم عواقب الامور فانا أبتلي من تظنون أنه مطيع فيؤديه الابتلاء الى المعصية كابليس ومن تظنون به المعصية فيطيع قاه الزجاج
الإشارة الى خلق آدم عليه السلام
روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الله عز و جل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الارض فجاء بنو آدم على قدر الارض منهم الاحمر والأبيض والاسود وبين ذلك والسهل والحزن وبين ذلك والخبيث والطيب قال الترمذي هذا حديث صحيح وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال خلق الله تعالى آدم طوله ستون ذراعا وأخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي ص - أنه قال خلق الله آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة ما بين العصر الى الليل قال ابن عباس لما نفخ فيه الروح أتته النفخة من قبل رأسه فجعلت لا تجري منه في شئ إلا صار لحما ودما
قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها
في تسمية آدم قولان أحدهما لأنه خلق من أديم الارض قاله ابن عباس وابن جبير و الزجاج والثاني انه من الأدمة في اللون قاله الضحاك والنضر بن شميل وقطرب
وفي الاسماء التي علمه قولان أحدهما أنه علمه كل الاسماء وهذا قول ابن عباس
(1/62)
 
 
وسعيد بن جبير و مجاهد وقتادة والثاني انه علمه أسماء معدودة لمسميات مخصوصة ثم فيها أربعة أقوال احدها أنه علمه أسماء الملائكة قاله أبو القالية والثاني أنه علمه أسماء الاجناس دون أنواعها كقولك إنسان وملك وجني وطائر قاله عكرمة والثالث انه علمه أسماء ما خلق من الارض من الدواب والهوام والطير قال الكلبي و مقاتل وابن قتيبة والرابع أنه علمه أسماء ذريه قاله ابن زيد
قوله تعالى ثم عرضهم
يريد أعيان الخلق على الملائكة قال ابن عباس الملائكة هاهنا هم الذين كانوا مع إبليس خاصة
قوله تعالى أنبئوني أخبروني
قوله تعالى إن كنتم صادقين
فيه قولان أحدهما إن كنتم صادقين أني لا أخلق خلقا هو أفضل منكم وأعلم قاله الحسن والثاني أني أجعل فيها من يفسد فيها قاله السدي عن أشياخه
قوله تعالى قالوا سبحانك
قال الزجاج لا اختلاف بين أهل اللغة أن التسبيح هو التنزيه لله تعالى عن كل سوء والعليم بمعنى العالم جاء على بناء فعيل للمبالغة وفي الحكيم قولان أحدهما أنه بمعنى الحاكم قاله ابن قتيبة والثاني المحكم للأشياء قاله الخطابي
قوله تعالى قال يا آدم أنبئهم أي أخبرهم وروي عن ابن عباس أنبئهم بكسر الهاء قال أبو علي قرأءة الجمهور على الأصل لأن أصل هذا الضمير أن تكون الهاء مضمومة فيه ألا ترى أنك تقول ضربهم وأبناءهم وهذا لهم ومن كسر أتبع كسر الهاء التي قبلها وهي كسرة الباء والهاء والميم تعود على الملائكة وفي الهاء والميم
(1/63)
 
 
من أسمائهم قولان أحدهما أنها تعود على المخلوقات التي عرضها قاله الاكثرون
والثاني أنها تعود على الملائكة قاله الربيع بن أنس
وفي الذي أبدوه قولان أحدهما أ