أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 008

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب : أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
المؤلف : محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (المتوفى : 1393هـ)
 
[17 \ 23 - 24] .
فَكُلُّ صِيَغِ الْخِطَابِ هُنَا مُوَجَّهَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَطْعًا لَيْسَ مُرَادًا بِذَلِكَ لِعَدَمِ وُجُودِ وَالِدَيْنِ، وَلَا أَحَدِهِمَا عِنْدَ نُزُولِهَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِهِ لَا يَدْخُلُ مَعَهُ غَيْرُهُ قَطْعًا، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [33 \ 50] .
وَالثَّالِثُ: هُوَ الشَّامِلُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِغَيْرِهِ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَوَّلِ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ [66 \ 1] ، فَهَذَا كُلُّهُ خِطَابٌ مُوَجَّهٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَجَاءَ بَعْدَهَا مُبَاشَرَةً: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ بِخِطَابِ الْجَمِيعِ: تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [66 \ 2] فَدَلَّ أَنَّ الْآيَةَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [66 \ 1] ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَقْوَى دَلِيلٍ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا، إِلَى قَوْلِهِ: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [30 - 31] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ الْآيَةَ، يُشْعِرُ بِأَنَّ كُلَّ الْمُطَلَّقَاتِ مِنَ النِّسَاءِ يُطَلَّقْنَ لِعِدَّتِهِنَّ وَتُحْصَى عِدَّتُهُنَّ.
وَالْإِحْصَاءُ الْعَدَدُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَصَا، وَهُوَ الْحَصَا الصَّغِيرُ كَانَتِ الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُهُ فِي الْعَدَدِ لِأُمِّيَّتِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ عِدَدٍ لِبَعْضِ الْمُطَلَّقَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ جَمِيعَهُنَّ مَعَ أَنَّهُ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ مَنْ لَا عِدَّةَ لَهُنَّ وَهُنَّ غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ، وَمِنَ الْمُطَلَّقَاتِ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ عِدَّتَهُنَّ هُنَا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُ لَا عُمُومَ وَلَا تَخْصِيصَ ; لِأَنَّ لَفْظَ النِّسَاءِ اسْمُ جِنْسٍ يُطْلَقُ عَلَى الْكُلِّ وَعَلَى الْبَعْضِ، وَقَدْ أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْبَعْضِ وَهُوَ الْمُبَيَّنُ حُكْمُهُنَّ بِذِكْرِ عِدَّتِهِنَّ، وَهُنَّ اللَّاتِي يَئِسْنَ وَالصَّغِيرَاتُ وَذَوَاتُ الْحَمْلِ، وَحَاصِلُ عِدَدِ النِّسَاءِ تَتَلَخَّصُ فِي الْآتِي، وَهِيَ أَنَّ الْفُرْقَةَ إِمَّا بِحَيَاةٍ أَوْ بِمَوْتٍ، وَالْمُفَارَقَةُ إِمَّا حَامِلٌ أَوْ غَيْرُ حَامِلٍ، فَالْحَامِلُ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ حَمْلِهَا اتِّفَاقًا، وَلَا عِبْرَةَ بِالْخِلَافِ فِي ذَلِكَ لِصِحَّةِ النُّصُوصِ، وَغَيْرُ الْحَامِلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ
(8/209)
 
 
مَدْخُولٌ بِهَا وَغَيْرُ مَدْخُولٍ، وَالْمُفَارَقَةُ بِالْحَيَاةِ إِمَّا مَدْخُولٌ بِهَا أَوْ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا، فَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا إِجْمَاعًا، وَالْمَدْخُولُ بِهَا إِمَّا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ عَلَى خِلَافٍ فِي الْمُرَادِ بِالْقُرْءِ.
وَأَمَّا مَنْ لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، كَالْيَائِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ، فَعِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [2 \ 228] ، وَفَصْلُ أَنْوَاعِ الْمُطَلَّقَاتِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ، وَأَنْوَاعُ الْعِدَدِ بِالْأَقْرَاءِ أَوِ الْأَشْهُرِ أَوِ الْحَمْلِ، وَبَيَّنَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِمَّا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ هُنَا.
 
تَنْبِيهٌ
كُلُّ مَا تَقَدَّمَ فِي شَأْنِ الْعِدَّةِ، إِنَّمَا هُوَ فِي خُصُوصِ الْحَرَائِرِ، وَبَقِيَ مَبْحَثُ الْإِمَاءِ.
أَمَّا الْإِمَاءُ: فَالْحَوَامِلُ مِنْهُنَّ كَالْحَرَائِرِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَغَيْرُ الْحَوَامِلِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرَّةِ إِلَّا أَنَّ الْحَيْضَةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ تَتَجَزَّأُ فَجُعِلَتْ عِدَّتُهَا فِيهَا حَيْضَتَيْنِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.
أَمَّا ذَاتُ الْأَشْهُرِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ شَهْرًا وَنِصْفًا، وَخَالَفَ مَالِكٌ فَجَعَلَ لَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَيَكُونُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَافَقَ الْجُمْهُورَ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَخَالَفَ الْجُمْهُورَ فِي ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ، وَقَدْ أَخْطَأَ ابْنُ رُشْدٍ مَعَ مَالِكٍ فِي نِقَاشِهِ مَعَهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، فَقَالَ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ:
وَقَدْ اضْطَرَبَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا بِالنَّصِّ أَخَذَ وَلَا بِالْقِيَاسِ عَمِلَ، يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ بِالنَّصِّ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ فَيَجْعَلْ لَهُنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، كَمَا أَخَذَ بِهِ فِي ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ، حَيْثُ جَعَلَ لَهُنَّ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بِالنَّصِّ، وَلَا بِالْقِيَاسِ عَمِلَ، أَيْ: فَلَمْ يُنَصِّفِ الْأَشْهُرَ قِيَاسًا عَلَى الْحَيْضِ، فَكَانَ مَذْهَبُهُ مُلَفَّقًا بَيْنَ الْقِيَاسِ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَالنَّصِّ فِي ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ، فَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْأَئِمَّةَ الثَّلَاثَةَ.
وَاضْطَرَبَ قَوْلُهُ فِي نَظَرِ ابْنِ رُشْدٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَطَّرِدِ الْقِيَاسَ فِيهِمَا، وَلَا أَعْمَلَ النَّصَّ فِيهِمَا، وَلَكِنَّ الْحَقَّ فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ وِجْهَةِ النَّظَرِ عَنِ الْمُخَالِفِ، فَقَدْ يَكُونُ مُحِقًّا، وَقَدْ يَكُونُ فِعْلًا الْحَقُّ مَعَ غَيْرِهِ.
(8/210)
 
 
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالذَّاتِ أَشَارَ الْعَدَوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ: بِأَنَّ وِجْهَةَ نَظَرِ مَالِكٍ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى أَصْلِ الْغَرَضِ مِنَ الْعِدَّةِ وَهُوَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَالشَّهْرُ وَالنِّصْفُ لَا يَكْفِي لِلْمَرْأَةِ نَفْسِهَا أَنْ تُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهَا عَمَّا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا أَمْ لَا، فَأَكْمَلَ لَهَا الْمُدَّةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا.
أَمَّا الْحَيْضَتَانِ: فَفِيهِمَا بَيَانٌ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ. اهـ. مُلَخَّصًا.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْعَدَوِيُّ لَهُ أَصْلٌ مِنَ الشَّرْعِ ; لِأَنَّ ذَاتَ الْأَقْرَاءِ وَجَدْنَاهَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ، كَمَا جَاءَ النَّصُّ فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا خِلَافٌ، وَوَجَدْنَا الْأَمَةَ تَثْبُتُ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا فِي غَيْرِ هَذَا بِحَيْضَتَيْنِ قَطْعًا، وَهِيَ فِيمَا إِذَا كَانَتْ سُرِّيَّةً لِمَالِكِهَا فَأَرَادَ بَيْعَهَا فَإِنَّهُ يَسْتَبْرِئُهَا بِحَيْضَةٍ، وَالَّذِي يَشْتَرِيهَا يَسْتَبْرِئُهَا بِحَيْضَةٍ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، ثُمَّ هُوَ يَفْتَرِشُهَا وَيَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ فِي الْحَيْضَتَيْنِ بَرَاءَةً لِلرَّحِمِ، فَاكْتَفَى بِهِمَا مَالِكٌ وَوَافَقَ الْجُمْهُورَ.
وَأَمَّا الشَّهْرُ وَالنِّصْفُ فَإِنَّهُمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَبَيَّنَ الْمَرْأَةُ فِيهِمَا حَمْلًا ; لِأَنَّهَا مُدَّةُ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى وَهِيَ مَرْحَلَةُ النُّطْفَةِ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْحَقَّ مَعَ مَالِكٍ، وَأَنَّ ابْنَ رُشْدٍ هُوَ الَّذِي اضْطَرَبَتْ مَقَالَتُهُ عَلَى مَالِكٍ، وَقَدْ سُقْنَا هَذَا التَّنْبِيهَ لِبَيَانِ وَاجِبِ طَالِبِ الْعِلْمِ أَمَامَ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ مِنْ ضَرُورَةِ الْبَحْثِ عَنِ السَّبَبِ وَوِجْهَةِ نَظَرِ الْمُخَالِفِ وَعَدَمِ الْمُبَادَرَةِ لِلْإِنْكَارِ، لِأَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَقُّ بِأَنْ يُنْكَرَ عَلَيْهِ وَلَا يُسَارِعَ لِرَدِّ قَوْلٍ قَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ هُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ، اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْمُرَادَ لِاسْتِقْبَالِ عِدَّتِهِنَّ وَفِيهِ مَبْحَثُ الطَّلَاقِ السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَامِلَ وَغَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا بِدْعَةَ فِي طَلَاقِهِمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأُلْحِقَتْ بِهِمَا الصَّغِيرَةُ، وَالطَّلَاقُ الْبِدْعِيُّ هُوَ جَمْعُ الثَّلَاثِ فِي مَرَّةٍ أَوِ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضَةِ أَوْ فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِيهِ. وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُفَرِّقُ الطَّلَقَاتِ عَلَى الصَّغِيرَةِ كُلَّ طَلْقَةٍ فِي شَهْرٍ وَلَا يَجْمَعُهَا، وَقَدْ طَالَ الْبَحْثُ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ، هَلْ يَقَعُ وَيُحْتَسَبُ عَلَى الْمُطَلِّقِ، أَمْ لَا؟
وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَبَلَّغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» .
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الطَّلْقَةِ، وَمَنْ خَالَفَ فِيهَا السُّنَّةَ، وَعَلَيْهِ أَنْ
(8/211)
 
 
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
يُرَاجِعَهَا، وَلْيَعْمَلْ كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ، أَيْ: لِتَسْتَقْبِلْ عِدَّتَهَا مَا لَمْ تَكُنِ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ أَوْ بِالثَّلَاثِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.
وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنِ الِاعْتِدَادِ بِهَذِهِ الطَّلْقَةِ فِي الْحَيْضَةِ فَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيُرَاجِعْهَا» ، يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِدَادِ بِهَا ; لِأَنَّهُ لَا رَجْعَةَ إِلَّا مِنْ طَلَاقٍ.
وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي إِحْكَامِ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا دَاعِيَ إِلَى سَرْدِهِ، وَحَاصِلُهُ مَا قَدَّمْنَا، وَلَمْ يَقُلْ بِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهَا إِلَّا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ عَلَى إِطْلَاقِهِ يُشْعِرُ بِالِاعْتِدَادِ بِالطَّلَاقِ سُنِّيًّا كَانَ أَوْ بِدْعِيًّا.
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ.
ظَاهِرُهُ أَنَّ الْإِمْسَاكَ بِمَعْرُوفٍ إِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، مَعَ أَنَّهُنَّ إِذَا بَلَغْنَ إِلَى ذَلِكَ الْحَدِّ خَرَجْنَ مِنَ الْعِدَّةِ وَانْتَهَى وَجْهُ الْمُرَاجَعَةِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا إِذَا قَارَبْنَ أَجَلَهُنَّ وَلَمْ يَتَجَاوَزْنَهُ أَوْ يَصِلْنَ إِلَيْهِ بِالْفِعْلِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [16 \ 98] .
وَمِثْلُ الْآيَةِ الْحَدِيثُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْخَلَاءَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ» ، مَعَ أَنَّهُ عِنْدَ الْإِتْيَانِ أَوْ أَثْنَاءَهُ لَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَقُولُهُ إِذَا قَارَبَ دُخُولَهُ، فَكَذَلِكَ هُنَا.
أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا فَقَدْ بَحَثَهَا الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَحْثًا وَافِيًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [2 \ 229] ، مِمَّا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ.
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا.
بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِحْصَاءِ الْعِدَّةِ، وَكَوْنِ الْعِدَدِ مُخْتَلِفَةَ الْأَنْوَاعِ مِنْ أَقْرَاءٍ إِلَى أَشْهُرٍ إِلَى وَضْعِ الْحَمْلِ، وَالْمُعْتَدَّاتُ مُتَفَاوِتَاتُ الْأَقْرَاءِ وَأَمَدِ الْحَمْلِ، فَقَدْ تَكُونُ فِي أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ إِحْصَائِهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ حُرْمَةٍ وَحِلِّيَّةٍ، فَتَخْرُجُ مِنْ عِدَّةِ هَذَا وَتَحِلُّ
(8/212)
 
 
لِذَاكَ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [2 \ 235] وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِالْإِحْصَاءِ.
وَالْإِحْصَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمُقَدَّرٍ مَعْلُومٍ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، مُؤَكِّدٌ لِهَذَا كُلِّهِ، وَكَذَلِكَ فِيهِ نَصٌّ صَرِيحٌ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَيًّا كَانَ هُوَ قَدْرًا لَا يَتَعَدَّاهُ لَا بِزِيَادَةٍ وَلَا بِنَقْصٍ، وَلَفْظُ شَيْءٍ أَعَمُّ الْعُمُومَاتِ.
وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى هَذَا الْعُمُومِ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، فَمِنَ الْآيَاتِ الْعَامَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [54 \ 49] . وَقَوْلُهُ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [25 \ 2] . وَقَوْلُهُ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [13 \ 8] . وَقَدْ جَمَعَ الْعَامَّ وَالْخَاصَّ قَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [15 \ 21] .
وَمِنَ التَّقْدِيرِ الْخَاصِّ فِي مَخْصُوصِ قَوْلِهِ: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [36 \ 38 - 40] .
إِنَّهَا قُدْرَةٌ بَاهِرَةٌ وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَإِرَادَةٌ قَاهِرَةٌ، وَسُلْطَةٌ غَالِبَةٌ، قُدْرَةُ مَنْ أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ: أَنَّ حِسَابَ مَسِيرِ هَذِهِ الْأَفْلَاكِ فِي مَنَازِلِهَا أَدَقُّ مَا يَكُونُ مِنْ مِئَاتِ أَجْزَاءِ الثَّانِيَةِ، وَلَوِ اخْتَلَفَ جُزْءٌ مِنَ الثَّانِيَةِ لَاخْتَلَّ نِظَامُ الْعَالَمِ وَلَمَا صَلُحَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ حَيَاةٌ، وَنَحْنُ نُشَاهِدُ حَرَكَةَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَنُقْصَانَهُمَا وَزِيَادَتَهُمَا وَفُصُولَ السَّنَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [73 \ 20] .
وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى يُحْصِيهِ، وَكَذَلِكَ التَّقْدِيرُ لِوُجُودِ الْإِنْسَانِ قَبْلَ وَبَعْدَ وُجُودِهِ، قَالَ تَعَالَى: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [80 \ 18 - 19] ، أَيْ: قَدَّرَ خَلْقَهُ وَصُورَتَهُ وَنَوْعَهُ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا الْآيَةَ، إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [42 \ 49 - 50] .
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ يَرُدُّ بِهَا سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ جَحَدَ وُجُودَ اللَّهِ وَكَفَرَ بِالْبَعْثِ
(8/213)
 
 
كَمَا فِي مُسْتَهَلِّهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [80 \ 17 - 18] .
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةِ مَاءٍ مَهِينٍ، وَلَكِنْ قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى قُدْرَتَهَا وَصُورَتَهَا حَتَّى صَارَتْ خَلْقًا سَوِيًّا، وَجَعَلَ لَهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا، وَشَفَتَيْنِ أَيْ: وَأَنْفًا وَأُذُنَيْنِ وَيَدَيْنِ وَرِجْلَيْنِ وَكُلَّ جِهَازٍ فِيهِ حَيَّرَ الْحُكَمَاءَ فِي صُنْعِهِ وَنِظَامِهِ.
ثُمَّ قَدَّرَ تَعَالَى أَرْزَاقَهُ عَلَى الْأَرْضِ قَبْلَ وُجُودِهِ يَوْمَ خَلَقَ الْأَرْضَ، وَجَعَلَهُ آيَةً عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَاتَبَ الْإِنْسَانَ عَلَى كُفْرِهِ: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [41 \ 9 - 10] .
وَبَعْدَ وُجُودِ الْكَوْنِ وَخَلْقِ الْإِنْسَانِ قَدَّرَ فِي الْإِيجَادِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا [41 \ 24 - 28] .
ثُمَّ إِنَّ صَبَّ هَذَا الْمَاءِ كَانَ بِقَدَرٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ [23 \ 18] .
وَقَوْلِهِ: وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [42 \ 27] ، أَيْ: بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُمْ وَلَوْ زَادَهُ لَفَسَدَ حَالُهُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ قَبْلَهَا: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ [24 \ 27] ، وَبِقَدْرِ مَصْلَحَتِهِمْ يُنَزِّلُ لَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ.
كَمَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [96 \ 6 - 7] .
هَذِهِ لَمْحَةٌ عَنْ حِكْمَةِ تَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَالَّذِي قَدَّرَ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُجُودِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [87 \ 3] .
وَكَمَا فِي حَدِيثِ الْقَلَمِ وَكِتَابَةِ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ وُجُودِهِ بِزَمَانِهِ وَمَكَانِهِ وَمِقْدَارِهِ، إِنَّ آيَةَ الْقُدْرَةِ وَبَيَانَ الْعَجْزِ قُدْرَةُ الْخَالِقِ وَعَجْزُ الْمَخْلُوقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [7 \ 34] .
وَكَقَوْلِهِ: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [35 \ 11] أَيْ:
(8/214)
 
 
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
لَا يَتَعَدَّاهُ وَلَا يَتَخَطَّاهُ، وَقَدْ تَحَدَّاهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [56 \ 83 \ - 87] كَلَّا إِنَّهُمْ مَدِينُونَ وَلَنْ يَسْتَطِيعُوا إِرْجَاعَهَا.
وَهُنَا يُقَالُ لِلدَّهْرِيِّينَ وَالشُّيُوعِيِّينَ الَّذِينَ لَا يَعْتَرِفُونَ بِوُجُودِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَعَزِيزٍ قَهَّارٍ، إِنَّ هَذَا الْكَوْنَ بِتَقْدِيرَاتِهِ وَنُظُمِهِ لَآيَةٌ شَاهِدَةٌ وَبَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [36 \ 83] .
كَمَا يُقَالُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا إِنَّ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ نَافِذٌ، وَمَا قُدِّرَ لِلْعَبْدِ آتِيهِ، وَمَا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ لَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ، طُوِيَتِ الصُّحُفُ وَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ: لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [57 \ 23] .
وَيُقَالُ مَرَّةً أُخْرَى: اعْمَلُوا كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.
فِيهِ إِطْلَاقٌ لِوَضْعِ الْحَمْلِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ هُوَ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنْ يَصْدُقَ بِوَضْعِهِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، وَلَكِنِ اشْتُرِطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَهَرَتْ فِيهِ خِلْقَةُ الْإِنْسَانِ لَا مُضْغَةً وَلَا عَلَقَةً، كَمَا أَنَّ فِيهِ إِطْلَاقَ الْأَجَلِ سَوَاءٌ لِلْمُطَلَّقَةِ أَوِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا مِنْ أَنَّهُ يَنْقَضِي أَجَلُ الْحَوَامِلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - وَهُنَا مَبْحَثُ أَقَلِّ الْحَمْلِ وَأَكْثَرِهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ لِلشَّيْخِ أَيْضًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى الْآيَةَ (13 \ 8) .
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ.
بَيَّنَ تَعَالَى مُدَّةَ الرَّضَاعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [2 \ 233] .
وَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ زِيَادَةً عَلَى الْحَوْلَيْنِ لِتَمْرِينِ الطِّفْلِ عَلَى الْفِطَامِ، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ.
فَإِذَا أَمْكَنَ فِطَامُ الطِّفْلِ قَبْلَهَا بِدُونِ مَضَرَّةٍ عَلَيْهِ فَلَا مَانِعَ، وَعَلَى الْوَالِدِ إِيتَاءُ الْأُجْرَةِ عَلَى مُدَّةِ الرَّضَاعِ إِلَى الْفِطَامِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْمُدَّةَ الشَّرْعِيَّةَ كَمَا هُنَا أَوِ الْفِعْلِيَّةَ قَبْلَهَا. وَلَيْسَ
(8/215)
 
 
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8)
مُلْزَمًا بِمَا زَادَ عَلَى الْحَوْلَيْنِ فِي نَصِّ الْآيَةِ.
وَالِائْتِمَارُ بِمَعْرُوفٍ يُشْعِرُ بِأَنَّ لِلْعُرْفِ دَخْلًا فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ تَنْبِيهٌ صَرِيحٌ بِأَنْ لَا يُضَارَّ أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ بِوَلَدِهِ وَأَنْ تَكُونَ الْمُفَاهَمَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ سَوَاءٌ فِي خُصُوصِ الرَّضَاعِ أَوْ غَيْرِهِ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَعْرُوفِ وَالتَّسَامُحِ وَالْإِحْسَانِ وَفَاءً لِحَقِّ الْعِشْرَةِ السَّابِقَةِ، وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ.
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا الْآيَةَ.
ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الْإِمْلَاءِ أَنَّ كَأَيِّنْ بِمَعْنَى كَمْ فَهِيَ إِخْبَارٌ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ، وَذَكَرَ إِعْرَابَهَا، وَالْمَعْنَى: كَثِيرٌ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا أَيْ: تَكَبَّرَتْ وَطَغَتْ وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ لِلْمَعْنَى بِالْأَمْثِلَةِ وَالشَّوَاهِدِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا [22 \ 45] فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» .
وَمِمَّا قَدَّمَهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [18 \ 59] ، بَيَانٌ لِأَصْحَابِ الرِّئَاسَةِ وَرِجَالِ السِّيَاسَةِ أَنَّ هَلَاكَ الدُّنْيَا بِفَسَادِ الدِّينِ، وَأَنَّ أَمْنَ الْقُرَى وَطُمَأْنِينَةَ الْعَالَمِ بِالْحِفَاظِ عَلَى الدِّينِ.
وَمِنْ هُنَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي عَامَّةِ النَّاسِ لِلْحِفَاظِ عَلَى دِينِهِمْ وَسَلَامَةِ دُنْيَاهُمْ، فَحَمَّلَ الشَّارِعُ مُهِمَّتَهُ لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا كُلٌّ بِحَسَبِهِ بِالْيَدِ أَوْ بِاللِّسَانِ أَوِ الْقَلْبِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ، وَمَعَ ضَعْفِهِ فَفِيهِ الْإِبْقَاءُ عَلَى دَوَامِ الْإِحْسَاسِ بِوُجُودِ الْمُنْكَرِ إِلَى أَنْ يَقْدِرَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى تَغْيِيرِهِ.
قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَفْهُومَ بِبَيَانِ حَالِ الَّذِينَ مَكَّنَهُمْ فِي الْأَرْضِ بِنَصْرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [22 \ 41] .
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى الْأُمَمَ الَّتِي كَذَّبَتْ وَعَتَتْ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَلُوطٍ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ.
ثُمَّ قَالَ: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [22 \ 45] .
(8/216)
 
 
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ.
جَاءَ فِي بَيَانِ السَّمَاوَاتِ أَنَّهَا سَبْعٌ طِبَاقٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا [67 \ 3] .
وَبَيَّنَ الْحَدِيثُ فِي الْإِسْرَاءِ أَنَّ مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَجَاءَ لَفْظُ السَّمَاءِ مُفْرَدًا وَجَمْعًا، فَالْمُفْرَدُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [91 \ 5] . وَقَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [2 \ 22] .
أَمَّا الْأَرْضُ فَلَمْ يَأْتِ لَفْظُهَا إِلَّا مُفْرَدًا، وَلَمْ يَأْتِ تَفْصِيلُهَا كَتَفْصِيلِ السَّمَاءِ سَبْعًا طِبَاقًا، فَاخْتُلِفَ فِي الْمِثْلِيَّةِ فَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مِثْلِيَّةٌ تَامَّةٌ عَدَدًا وَطِبَاقًا وَخَلْقًا، وَقِيلَ: عَدَدًا وَأَقَالِيمَ يَفْصِلُهَا الْبِحَارُ، وَقِيلَ: عَدَدًا طِبَاقًا مُتَرَاكِمَةً كَطَبَقَاتِ الْبَصَلَةِ مَثَلًا، وَلَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّ مِنْ أَوْجُهِ الْبَيَانِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْكِتَابِ وَوُجِدَ فِي السُّنَّةِ فَإِنَّهُ يُبَيَّنُ بِهَا ; لِأَنَّهَا وَحْيٌ، وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ الْأَرْضَ سَبْعُ أَرَضِينَ كَمَا فِي حَدِيثِ: «مَنِ اغْتَصَبَ أَرْضًا أَوْ مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي حَدِيثِ مُوسَى لَمَّا قَالَ: «يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَدْعُوكَ بِهِ فَقَالَ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ كُلُّ النَّاسِ يَقُولُونَ ذَلِكَ، قَالَ: يَا مُوسَى، لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي كِفَّةٍ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ لَمَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
فَهَذِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ أَثْبَتَتْ أَنَّ الْأَرَضِينَ سَبْعٌ، وَلَمْ يَأْتِ تَفْصِيلٌ لِلْكَيْفِيَّةِ وَلَا لِلْهَيْئَةِ فَثَبَتَ عِنْدَنَا الْعَدَدُ وَلَمْ يَثْبُتْ غَيْرُهُ، فَنُثْبِتُهُ وَنَكِلُ غَيْرَهُ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ثُبُوتَ الْعَدَدِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ أَنَّ مِثْلِيَّةَ الْأَرْضِ لِلسَّمَاءِ لَمْ تُذْكَرْ إِلَّا عِنْدَ ذِكْرِ السَّمَاءِ مُجْمَلَةً مَعَ ذِكْرِ الْعَدَدِ وَلَمْ يُذْكَرْ عِنْدَ تَفْصِيلِهَا بِطِبَاقٍ مِمَّا يُشْعِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمِثْلِيَّةِ الْعَدَدُ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا لَا يَتَنَافَى مَعَ أَفْرَادِ اللَّفْظِ ; لِأَنَّ جَمْعَهُ شَاذٌّ.
كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ:
وَأَرَضُونَ شَذَّ وَالسُّنُونَ
(8/217)
 
 
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى أَنَّ هُنَاكَ مِنْ حَالَاتِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْخَلْقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [18 \ 51] ، وَهُمْ لَا يَزَالُونَ عَاجِزِينَ عَنْ كَيْفِيَّةِ خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ إِلَّا تَفْصِيلَاتٍ جُزْئِيَّةً، وَالْمُهِمُّ مِنَ السِّيَاقِ وَالْغَرَضِ الْأَسَاسِيِّ، تَنْبِيهُ الْخَلْقِ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [65 \ 12] .
(8/218)
 
 
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ التَّحْرِيمِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ الْآيَةَ.
تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ قَبْلَهَا بَيَانُ عَلَاقَةِ الْأُمَّةِ بِالْخِطَابِ الْخَاصِّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ كَوْنِهِ الْعَسَلَ أَوْ هُوَ مَارِيَةُ جَارِيَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ إِيضَاحِهِ عَنِ الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ [66 \ 1] ، ظَاهِرٌ فِيهِ مَعْنَى الْعِتَابِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [80 \ 1 - 3] .
وَكِلَاهُمَا لَهُ عَلَاقَةٌ بِالْجَانِبِ الشَّخْصِيِّ سَوَاءٌ ابْتِغَاءُ مَرْضَاةِ الْأَزْوَاجِ، أَوِ اسْتِرْضَاءُ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّشْرِيعَ الْإِسْلَامِيَّ لَا مَدْخَلَ لِلْأَغْرَاضِ الشَّخْصِيَّةِ فِيهِ.
وَبِهَذَا نَأْخُذُ بِقِيَاسِ الْعَكْسِ دَلِيلًا وَاضِحًا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ: إِنَّ إِعْمَارَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ مِنَ التَّنْعِيمِ كَانَ تَطْيِيبًا لِخَاطِرِهَا، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ غَيْرَهَا.
وَمَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ أَنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ أَزْوَاجِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ إِحْلَالُ وَتَجْوِيزُ مَا لَا يَجُوزُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِنَّ، وَهَذَا ظَاهِرٌ بَيِّنٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
أَمَّا تَحِلَّةُ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةُ الْحَنْثِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [2 \ 225] .
أَمَّا حَقِيقَةُ التَّحْرِيمِ هُنَا، وَنَوْعُ الْكَفَّارَةِ، وَهَلْ كَفَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ أَمْ أَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ فَلَمْ يَحْتَجْ لِتَكْفِيرٍ، فَقَدْ أَوْضَحَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الْإِمْلَاءِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ.
(8/219)
 
 
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
وَفِي الْأَضْوَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» : وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [33 \ 4] ، وَذَلِكَ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ نَحْوُ عِشْرِينَ قَوْلًا، وَرَجَّحَ الْقَوْلَ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ ظِهَارٌ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي يَلِيهِ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَنَاقَشَ الْمَسْأَلَةَ بِأَدِلَّتِهَا هُنَاكَ.
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا.
أُطْلِقَتِ التَّوْبَةُ هُنَا وَقُيِّدَتْ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا بِأَنَّهَا تَوْبَةٌ نَصُوحٌ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [66 \ 8] .
وَحَقِيقَةُ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَشُرُوطُهَا وَآثَارُهَا تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [24 \ 31] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا. قَالَ الشَّيْخُ فِي إِمْلَائِهِ: (صَغَتْ) : بِمَعْنَى مَالَتْ وَرَضِيَتْ وَأَحَبَّتْ مَا كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اهـ.
وَقَالَ: (وَقُلُوبُكُمَا) جَمْعٌ مَعَ أَنَّهُ لِاثْنَتَيْنِ هُمَا حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ، فَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَعْنَى مَعْلُومٌ وَالْجَمْعَ أَخَفُّ مِنَ الْمُثَنَّى إِذَا أُضِيفَ. وَقِيلَ هُوَ مِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَيْنِ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [4 \ 11] .
وَجَوَابُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَتُوبَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ، فَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْكُمَا ; لِأَنَّ قُلُوبَكُمَا مَالَتْ إِلَى مَا لَا يُحِبُّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اهـ.
وَقَدَّرَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَمَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ.
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ.
قَالَ أَبُو حَيَّانَ: الْوَقْفُ عَلَى (مَوْلَاهُ) ، وَتَكُونُ الْوَلَايَةُ خَاصَّةً بِاللَّهِ، وَيَكُونُ (جِبْرِيلُ) مُبْتَدَأً وَمَا بَعْدَهُ عُطِفَ عَلَيْهِ، (وَظَهِيرٌ) خَبَرٌ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ جِبْرِيلُ ذُكِرَ مَرَّتَيْنِ بِالْخُصُوصِ أَوَّلًا وَبِالْعُمُومِ ثَانِيًا.
وَقِيلَ: الْوَقْفُ عَلَى (جِبْرِيلَ) مَعْطُوفًا عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ فِي الْوِلَايَةِ، ثُمَّ ابْتُدِئَ بِصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ وَعُطِفَ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ، وَيَدْخُلُ فِيهِمْ جِبْرِيلُ ضِمْنًا. اهـ.
(8/220)
 
 
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
فَعَلَى الْوَقْفِ الْأَوَّلِ يَكُونُ دَرْجُ صَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ تَنْبِيهًا عَلَى عُلُوِّ مَنْزِلَةِ صَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَيَانِ مَنْزِلَتِهِمْ مِنْ عُمُومِ الْمَلَائِكَةِ بَعْدَ جِبْرِيلَ، وَعَلَى الْوَقْفِ الثَّانِي فِيهِ عِطْفُ جِبْرِيلَ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ فِي الْوَلَايَةِ بِالْوَاوِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُوهِمُ التَّعَارُضَ مَعَ الْحَدِيثِ فِي ثُمَّ إِذْ مَحَلُّ الْعَطْفِ هُوَ الْوِلَايَةُ، وَهِيَ قَدْرٌ مُمْكِنٌ مِنَ الْخَلْقِ وَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [8 \ 62] لِأَنَّ النَّصْرَ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ وَيَكُونُ مِنَ الْعِبَادِ، مِنْ بَابِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [9 \ 40] .
وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [59 \ 8] .
وَقَوْلِهِ: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [3 \ 52] ، بِخِلَافِ سِيَاقِ الْحَدِيثِ، فَقَدْ كَانَ فِي مَوْضُوعِ الْمَشِيئَةِ حِينَمَا قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ. فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ» ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَشِيئَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [81 \ 29] ، وَكَقَوْلِهِ: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا [13 \ 31] ، وَكَقَوْلِهِ: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [30 \ 4] .
وَمِنَ اللَّطَائِفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ إِلَى آخِرِ مَا سَمِعْتُهُ مِنَ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْمُتَظَاهِرَتَيْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَتَانِ فَقَطْ تَآمَرَتَا عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا، فَجَاءَ بَيَانُ الْمُوَالِينَ لَهُ ضِدَّهُمَا كُلَّ مَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَةِ. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ، مَا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ كَيْدِهِنَّ وَضَعْفِ الرِّجَالِ أَمَامَهُنَّ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [12 \ 28] ، بَيْنَمَا قَالَ فِي كَيْدِ الشَّيْطَانِ: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [4 \ 76] .
وَقَدْ عَبَّرَ الشَّاعِرُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
مَا اسْتَعْظَمَ الْإِلَهُ كَيْدَهُنَّهْ ... إِلَّا لِأَنَّهُنَّ هُنَّ هُنَّهْ
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا.
فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ الَّتِي يَخْتَارُهَا اللَّهُ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النِّسَاءِ هِيَ تِلْكَ الصِّفَاتُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ.
(8/221)
 
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
وَجَاءَ الْحَدِيثُ «فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَمِينُكَ» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [2 \ 221] .
وَفِي تَقْدِيمِ الثَّيِّبَاتِ عَلَى الْأَبْكَارِ هُنَا فِي مَعْرِضِ التَّخْيِيرِ مَا يُشْعِرُ بِأَوْلَوِيَّتِهِنَّ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ: «هَلَّا بِكْرًا تُدَاعِبُكَ وَتُدَاعِبُهَا» ، وَنِسَاءُ الْجَنَّةِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ، فَفِيهِ أَوْلَوِيَّةُ الْأَبْكَارِ، وَقَدْ أَجَابَ الْمُفَسِّرُونَ بِأَنَّ هَذَا لِلتَّنْوِيعِ فَقَطْ، وَأَنَّ الثَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْأَبْكَارَ فِي الْجَنَّةِ كَمَرْيَمَ ابْنَةِ عِمْرَانَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي مَقَامِ الِانْتِصَارِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَنْبِيهِهِنَّ لِمَا يَلِيقُ بِمَقَامِهِ عِنْدَهُنَّ ذَكَرَ مِنَ الصِّفَاتِ الْعَالِيَةِ دِينًا وَخُلُقًا، وَقَدَّمَ الثَّيِّبَاتِ ; لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ فِيهِنَّ بِحَسَبِ الْعِشْرَةِ وَمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ، لَمْ يُبَيِّنْ هَلْ طَلَّقَهُنَّ، أَمْ لَا؟ مَعَ أَنَّ عَسَى مِنَ اللَّهِ لِلتَّحْقِيقِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُنَّ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْأَحْزَابِ» ، بِأَنَّهُ تَعَالَى خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَبَيْنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَلَمْ يُطَلِّقْهُنَّ، وَلَمْ يُبْدِلْهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْهُنَّ.
وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَإِخْلَالَ الزَّوَاجِ إِلَيْهِ وَتَحْرِيمَ النِّسَاءِ بَعْدَهُنَّ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ الْآيَةَ [33 \ 50] .
وَقَوْلِهِ: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ [33 \ 51] .
وَقَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ الْآيَةَ [33 \ 52] .
وَبَيَّنَ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ فِي ذَلِكَ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ.
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ.
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا نَوْعَ الِاعْتِذَارِ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ وَلَا سَبَبَ النَّهْيِ عَنْهُ لِمَاذَا؟ وَلَا زَمَنَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى نَوْعَ اعْتِذَارِهِمْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ [7 \ 38] .
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ [6 \ 23] .
(8/222)
 
 
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
وَكَقَوْلِهِ بَعْدَهَا: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [6 \ 27] فَهَذَا غَايَةٌ فِي الِاعْتِذَارِ، وَلَكِنَّهُمْ نُهُوا عَنْهُ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ، أَيْ: إِلَى الدُّنْيَا.
وَقَدْ نُهُوا عَنْ هَذَا الِاعْتِذَارِ ; لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [30 \ 57] .
وَقَوْلِهِ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [40 \ 52] .
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا.
تَقَدَّمَتِ الْإِحَالَةُ عَلَى كَلَامِ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ التَّوْبَةِ، وَشُرُوطِ كَوْنِهَا نَصُوحًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا [24 \ 31] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا النُّورِ وَحَالَتِهِمْ تِلْكَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «الْحَدِيدِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [57 \ 12] .
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ.
فِيهِ الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ، وَالْمُنَافِقِينَ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاتَلَ الْكُفَّارَ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ قَاتَلَ الْمُنَافِقِينَ قِتَالَهُ لِلْكُفَّارِ، فَمَا نَوَّعَ قِتَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُنَافِقِينَ وَبَيَّنَهُ؟ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [25 \ 52] ، أَيْ: بِالْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [25 \ 50] .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَافِرُونَ، فَكَانَ جِهَادُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْكُفَّارِ بِالسَّيْفِ وَمَعَ الْمُنَافِقِينَ بِالْقُرْآنِ.
(8/223)
 
 
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
كَمَا جَاءَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَدَمِ قَتْلِهِمْ ; لِئَلَّا يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، وَلَكِنْ كَانَ جِهَادُهُمْ بِالْقُرْآنِ لَا يَقِلُّ شِدَّةً عَلَيْهِمْ مِنَ السَّيْفِ، لِأَنَّهُمْ أَصْبَحُوا فِي خَوْفٍ وَذُعْرٍ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، وَأَصْبَحَتْ قُلُوبُهُمْ خَاوِيَةً كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ، وَهَذَا أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُلَاقَاةِ بِالسَّيْفِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.
أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا عَلَى أَنَّ الْخِيَانَةَ لَيْسَتْ زَوْجِيَّةً.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نِسَاءُ الْأَنْبِيَاءِ مَعْصُومَاتٌ، وَلَكِنَّهَا خِيَانَةٌ دِينِيَّةٌ بِعَدَمِ إِسْلَامِهِنَّ وَإِخْبَارِ أَقْوَامِهِنَّ بِمَنْ يُؤْمِنَّ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ. اهـ.
وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا بِتَحْرِيمِ التَّزَوُّجِ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ، وَالتَّعْلِيلُ لَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ يُؤْذِيهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا [33 \ 53] .
فَإِذَا كَانَ تَسَاؤُلُهُنَّ بِدُونِ حِجَابٍ يُؤْذِيهِ، وَالزَّوَاجُ بِهِنَّ مِنْ بَعْدِهِ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ غَيْرُ التَّسَاؤُلِ وَبِغَيْرِ الزَّوَاجِ؟ إِنَّ مَكَانَةَ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْعَلَاقَةَ الزَّوْجِيَّةَ لَا تَنْفَعُ شَيْئًا مَعَ الْكُفْرِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ فِي عُمُومِ الْقَرَابَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ [26 \ 88] .
وَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ الْآيَةَ [80 \ 34 - 35] .
وَجَعَلَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَهُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأَقَارِبِ كَمَا قَدَّمْنَا.
وَقَدْ سَمِعْتُ مِنَ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مَعْرِضِ مُحَاضَرَةٍ لَهُ الِاسْتِطْرَادَ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ قِصَّةَ هَاتَيْنِ الْمَرْأَتَيْنِ، وَقِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَبِيهِ وَنُوحٍ مَعَ وَلَدِهِ، فَاسْتَكْمَلَ جِهَاتِ الْقَرَابَاتِ زَوْجَةٍ مَعَ زَوْجِهَا، وَوَلَدٍ مَعَ وَالِدِهِ، وَوَالِدٍ مَعَ وَلَدِهِ. وَذَكَرَ حَدِيثَ. «يَا فَاطِمَةُ اعْمَلِي ; فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» .
ثُمَّ قَالَ: لِيَعْلَمِ الْمُسْلِمُ أَنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ نَفْعَ أَحَدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ
(8/224)
 
 
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
إِلَّا بِوَاسِطَةِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَبِمَا يُكْرِمُ اللَّهُ بِهِ مَنْ شَاءَ بِالشَّفَاعَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الْآيَةَ [52 \ 21] .
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
جَاءَ فِي هَذَا الْمَثَلِ بَيَانٌ مُقَابِلٌ لِلْبَيَانِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمَفْهُومِ الْمُخَالِفِ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا تَضُرُّهُ مُعَاشَرَةُ الْكَافِرِ، كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ لَا تَنْفَعُهُ مُعَاشَرَةُ الْمُؤْمِنِ، وَفِي هَذَا الْمَثَلِ قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الْإِمْلَاءِ:
لَقَدِ اخْتَارَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ فِي طَلَبِهَا حُسْنَ الْجِوَارِ قَبْلَ الدَّارِ. اهـ.
أَيْ: فِي قَوْلِهَا: ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ الْآيَةَ [66 \ 11] .
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا.
بَيَّنَ تَعَالَى الْمُرَادَ بِالرُّوحِ بِأَنَّهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي قَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [19 \ 17] ، وَهُوَ جِبْرِيلُ.
كَمَا فِي قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ أَيْ نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى اسْتِدْلَالَهُمْ بِهَا عَلَى أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ابْنُ اللَّهِ وَمِنْ رُوحِهِ تَعَالَى، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَبَيَانُ هَذَا الرَّدِّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا تَعْدِيَةُ أَرْسَلَ بِنَفْسِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أُرْسِلَ يُمْكِنُ إِرْسَالُهُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ فَرْقٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، بَيْنَمَا يُرْسِلُ نَفْسَهُ وَمَا يُرْسِلُ مَعَ غَيْرِهِ كَالرِّسَالَةِ وَالْهَدِيَّةِ، فَيُقَالُ فِيهِ: أَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِكَذَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ الْآيَةَ [27 \ 35] .
فَالْهَدِيَّةُ لَا تُرْسَلُ بِنَفْسِهَا، وَمِثْلُهُ بَعَثْتُ، تَقُولُ: بَعَثْتُ الْبَعِيرَ مِنْ مَكَانِهِ، وَبَعَثْتُ مَبْعُوثًا، وَبَعَثْتُ بِرِسَالَةٍ، ثَانِيًا قَوْلُهُ: فَتَمَثَّلَ لَهَا لَفْظُ الرُّوحِ مُؤَنَّثٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ [56 \ 83 - 84] ، أَنَّثَ الْفِعْلَ فِي بَلَغَتْ، وَهُنَا الضَّمِيرُ مُذَكَّرٌ عَائِدٌ لِجِبْرِيلَ.
وَقَوْلُهُ: فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، وَلَوْ أَنَّهُ مِنْ رُوحِ اللَّهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النَّصَارَى، لَمَا كَانَ فِي حَاجَةٍ إِلَى هَذَا التَّمْثِيلِ.
(8/225)
 
 
ثَالِثًا قَوْلُهُ لَهَا: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ [19 \ 19] وَرَسُولُ رَبِّهَا هُوَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَيْسَ رُوحَهُ تَعَالَى.
رَابِعًا: قَوْلُهُ: لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا [19 \ 19] ، وَلَمْ يُقَلْ لِأَهَبَ لَكِ رُوحًا مِنَ اللَّهِ.
وَمِنْ هَذَا أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ [38 \ 71] يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [15 \ 29] ، أَيْ: نَفَخْتُ فِيهِ الرُّوحَ الَّتِي بِهَا الْحَيَاةُ: فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [15 \ 29] . فَلَوْ أَنَّ الرُّوحَ مِنَ اللَّهِ لَكَانَ آدَمُ أَوْلَى مِنْ عِيسَى ; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إِرْسَالَ رَسُولٍ لَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [3 \ 59] ، فَكَذَلِكَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا بَشَّرَتْهَا بِهِ الْمَلَائِكَةُ: قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [3 \ 47] ، فَكُلٌّ مِنْ آدَمَ وَعِيسَى، قَالَ لَهُ تَعَالَى: كُنْ فَكَانَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(8/226)
 
 
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْمُلْكِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَعْنَى تَبَارَكَ، وَذَكَرَ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ وَاخْتِلَافَهُمْ فِي مَعْنَاهَا. وَرَجَّحَ أَنَّهُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَالِاشْتِقَاقِ أَنَّهُ تَفَاعُلٌ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَالْمَعْنَى: تَكَاثَرَتِ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ مِنْ قَبْلِهِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ عَظَمَتَهُ وَتَقْدِيسَهُ. . إِلَخْ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَنْبِيهًا فِي عَدَمِ تَصْرِيفِهَا وَاخْتِصَاصِهَا بِاللَّهِ تَعَالَى. وَإِطْلَاقُ الْعَرَبِ إِيَّاهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ فِي إِمْلَائِهِ: الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ. أَيْ: نُفُوذُ الْمَقْدُورِ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَتَصَرَّفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِمَا يَشَاءُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. اهـ.
وَالتَّقْدِيمُ لِلْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ هُنَا بِالصِّفَةِ الْخَاصَّةِ بِهِ تَعَالَى، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَارَكَ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ الْمَوْصُولِ.
وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [36 \ 83] ; لِأَنَّ التَّقْدِيمَ بِالتَّسْبِيحِ وَهُوَ التَّنْزِيهُ يُسَاوِي التَّقْدِيمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَارَكَ، وَالْمَوْصُولُ بَعْدَ التَّسْبِيحِ بِصِلَتِهِ كَالْمَوْصُولِ بَعْدَ تَبَارَكَ وَصِلَتِهِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي إِمْلَائِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَلِكِ وَالْمَالِكِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ [59 \ 23] ، وَهُنَا تَجْتَمِعُ الصِّفَتَانِ، فَالَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَمَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الْمَالِكُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْهِ، وَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ.
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.
تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِمَا يُوَضِّحُهَا مِنْ
(8/227)
 
 
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)
الْآيَاتِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [51 \ 56] ، وَقَبْلَهَا فِي سُورَةِ «هُودٍ» عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [11 \ 7] .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إِمْلَائِهِ: جَعَلَ لِلْعَالَمِ مَوْتَتَيْنِ وَإِحْيَاءَتَيْنِ، وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ الْآيَةَ [2 \ 28] .
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَنْ أَنَّ الْمَوْتَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ لَا عَدَمِيٌّ كَمَا زَعَمَ الْفَلَاسِفَةُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَدَمِيًّا لَمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْخَلْقُ.
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ طِبَاقاً ما تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3] الْآيَةَ.
ذِكْرُ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ الطِّبَاقِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ دُونَ تَفَاوُتٍ أَوْ فُطُورٍ بَعْدَ ذِكْرِ أَوَّلِ السُّورَةِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَ هَذِهِ السَّبْعِ مِنْ كَمَالِ قُدْرَتِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْحِكْمَةَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ضِمْنَ تَنْبِيهٍ عَقَدَهُ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ «الذَّارِيَاتِ» .
وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَالْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لَهَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِ سُورَةِ «ق» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [50 \ 6] وَقَالَ فِي إِمْلَائِهِ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ، مِنْ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ وَالْحِكْمَةِ وَالدِّقَّةِ فِي الصُّنْعِ، وَتَدْخُلُ السَّمَاوَاتُ فِي ذَلِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [27 \ 88] . وَإِتْقَانُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [20 \ 50] .
وَقَوْلِهِ: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ [32 \ 7] . وَهَذَا الْحَالُ لِلسَّمَاءِ فِي الدُّنْيَا فَقَطْ، وَسَتَنْفَطِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ [82 \ 1] : إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [84 \ 1] : وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ [25 \ 25] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ.
تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا
(8/228)
 
 
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
[21 \ 32] فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَعِنْدَ قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ [50 \ 6] فِي سُورَةِ «ق» وَلَعَلَّ مَجِئَ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [67 \ 2] تَوْجِيهٌ إِلَى حُسْنِ صُنْعِ اللَّهِ وَإِبْدَاعِهِ فِي خَلْقِهِ: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [67 \ 3] .
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ.
تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ زِينَةِ السَّمَاءِ بِالْمَصَابِيحِ، وَجَعْلِهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ بَيَانًا كَامِلًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [15 \ 16 - 18] .
وَقَدْ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ هَذَا الْبَحْثِ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» لَا بُدَّ مِنْ ضَمِّهِ إِلَى هَذَا الْمَبْحَثِ هُنَاكَ ; لِارْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ.
تَنْبِيهٌ
فَقَدْ ظَهَرَتْ تِلْكَ الْمُخْتَرَعَاتُ الْحَدِيثَةُ، وَنَادَى أَصْحَابُ النَّظَرِيَّاتِ الْجَدِيدَةِ وَالنَّاسُ يَنْقَسِمُونَ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يُبَادِرُ بِالْإِنْكَارِ، وَآخَرُ يُسَارِعُ لِلتَّصْدِيقِ، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِنُصُوصٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ. وَلَعَلَّ مِنَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّظَرِيَّاتِ الْحَدِيثَةَ قِسْمَانِ: نَظَرِيَّةٌ تَتَعَارَضُ مَعَ صَرِيحِ الْقُرْآنِ، فَهَذِهِ مَرْدُودَةٌ بِلَا نِزَاعٍ كَنَظَرِيَّةِ ثُبُوتِ الشَّمْسِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [36 \ 38] .
وَنَظَرِيَّةٌ لَا تَتَعَارَضُ مَعَ نَصِّ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ وَسَائِلِ الْعِلْمِ مَا يُؤَيِّدُهَا وَلَا يَرْفُضُهَا. فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُنَا مَوْقِفَ التَّثَبُّتِ وَلَا نُبَادِرُ بِحُكْمٍ قَاطِعٍ إِيجَابًا أَوْ نَفْيًا، وَذَلِكَ أَخْذًا مِنْ قَضِيَّةِ الْهُدْهُدِ وَسَبَأٍ مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ لَمَّا جَاءَ يُخْبِرُهُمْ، وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَعْلَمْ عَنْهُمْ شَيْئًا فَلَمْ يُكَذِّبِ الْخَبَرَ بِكَوْنِهِ مِنَ الْهُدْهُدِ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ عَنْهُمْ سَابِقًا، مَعَ أَنَّهُ وَصَفَ حَالَهُمْ وَصْفًا دَقِيقًا.
وَكَانَ مَوْقِفُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَوْقِفَ التَّثَبُّتِ مَعَ مَا لَدَيْهِ مِنْ إِمْكَانِيَّاتِ الْكَشْفِ وَالتَّحْقِيقِ مِنَ
(8/229)
 
 
الرِّيحِ، وَالطَّيْرِ، وَالْجِنِّ، فَقَالَ لِلْمُخْبِرِ وَهُوَ الْهُدْهُدُ: سَنَنْظُرُ، أَصْدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.
وَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْآوِنَةِ لَسْنَا أَشَدَّ إِمْكَانِيَّاتٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ آنَذَاكَ، وَلَيْسَ الْمُخْبِرُونَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ أَقَلَّ مِنَ الْهُدْهُدِ، فَلْيَكُنْ مَوْقِفُنَا عَلَى الْأَقَلِّ مَوْقِفَ مَنْ سَيَنْظُرُ أَيُصَدِّقُ الْخَبَرَ أَمْ يُظْهِرُ كَذِبَهُ؟ وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّنْبِيهِ هُوَ أَلَّا نُحَمِّلَ لَفْظَ الْقُرْآنِ فِيمَا هُوَ لَيْسَ صَرِيحًا فِيهِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، ثُمَّ يَظْهَرُ كَذِبُ النَّظَرِيَّةِ أَوْ صِدْقُهَا، فَنَجْعَلُ الْقُرْآنَ فِي مَعْرِضِ الْمُقَارَنَةِ مَعَ النَّظَرِيَّاتِ الْحَدِيثَةِ، وَالْقُرْآنُ فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [41 \ 42] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ.
الْمَنْصُوصُ هُنَا إِرْجَاعُ الْبَصَرِ كَرَّتَيْنِ، وَلَكِنْ حَقِيقَةُ النَّظَرِ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ.
الْأُولَى فِي قَوْلِهِ: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [67 \ 3] .
وَالثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [67 \ 3] .
وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [67 \ 4] .
وَلَيْسَ بَعْدَ مُعَاوَدَةِ النَّظَرِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ مِنْ تَأْكِيدٍ، وَالْحَسِيرُ: الْعَيِيُّ الْكَلِيلُ الْعَاجِزُ الْمُتَقَطِّعُ دُونَ غَايَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَنْ مَدَّ طَرَفًا إِلَى مَا فَوْقَ غَايَتِهِ ... ارْتَدَّ خَسْآنَ مِنَ الطَّرَفِ قَدْ حَسَرَا
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُقَالُ قَدْ حَسُرَ بَصَرُهُ يَحْسُرُ حُسُورًا، أَيْ: كَلَّ وَانْقَطَعَ نَظَرُهُ مِنْ طُولِ مَدًى، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهُوَ حَسِيرٌ وَمَحْسُورٌ أَيْضًا.
قَالَ:
نَظَرْتُ إِلَيْهَا بِالْمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى ... فَعَادَ إِلَيَّ الطَّرَفُ وَهُوَ حَسِيرُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا.
فَالدُّنْيَا تَأْنِيثُ الْأَدْنَى أَيِ: السَّمَاءُ الْمُوَالِيَةُ لِلْأَرْضِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ بَقِيَّةَ السَّمَاوَاتِ لَيْسَتْ فِيهَا مَصَابِيحُ الَّتِي هِيَ النُّجُومُ وَالْكَوَاكِبُ كَمَا قَالَ: بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [37 \ 6] . وَيَدُلُّ لِهَذَا
(8/230)
 
 
الْمَفْهُومِ مَا جَاءَ بِهِ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ النُّجُومَ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَمْرَانِ هُنَا، وَهُمَا: زِينَةُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ. وَالثَّالِثَةُ عَلَامَاتٌ وَاهْتِدَاءٌ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ تَتَعَلَّقُ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا. لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَنْفُذُ إِلَى السَّمَاوَاتِ الْأُخْرَى ; لِأَنَّهَا أَجْرَامٌ مَحْفُوظَةٌ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: «لَهَا أَبْوَابٌ وَتُطْرَقُ وَلَا يَدْخُلُ مِنْهَا إِلَّا بِإِذْنٍ» .
وَكَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [7 \ 40] .
وَكَذَلِكَ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى اهْتِدَاءٍ بِهَا فِي سَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ كُلٌّ فِي وَضْعِهِ الَّذِي أَوْجَدَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الزِّينَةَ لَنْ تُرَى لِوُجُودِ جِرْمِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَثَبَتَ أَنَّ النُّجُومَ خَاصَّةٌ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا.
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ [37 \ 6 - 7] .
وَمَفْهُومُ الدُّنْيَا عَدَمُ وُجُودِهَا فِيمَا بَعْدَهَا، وَلَا وُجُودَ لِلشَّيْطَانِ فِي غَيْرِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا.
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ.
هِيَ الشُّهُبُ مِنَ النَّارِ، وَالشُّهُبُ النَّارُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [27 \ 7] ، وَالرُّجُومُ وَالشُّهُبُ هِيَ الَّتِي تُرْمَى بِهَا الشَّيَاطِينُ عِنْدَ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [72 \ 9] .
وَقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [37 \ 10] .
وَهُنَا سُؤَالٌ، وَهُوَ إِذَا كَانَ الْجِنُّ مِنْ نَارٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [55 \ 15] ، فَكَيْفَ تَحْرِقُهُ النَّارُ؟
فَأَجَابَ عَنْهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: إِنَّ النَّارَ يَكُونُ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، فَالْأَقْوَى يُؤَثِّرُ عَلَى الْأَضْعَفِ، وَمِمَّا يَشْهَدُ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [67 \ 5] وَالسَّعِيرُ: أَشَدُّ النَّارِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّارَ طَبَقَاتٌ بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ، وَهَذَا أَمْرٌ مَلْمُوسٌ، فَقَدْ تَكُونُ الْآلَةُ مَصْنُوعَةً مِنْ حَدِيدٍ وَتُسَلَّطَ عَلَيْهَا آلَةٌ مِنْ حَدِيدٍ أَيْضًا، أَقْوَى مِنْهَا فَتَكْسِرُهَا.
(8/231)
 
 
إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)
كَمَا قِيلَ: لَا يَفِلُّ الْحَدِيدَ إِلَّا الْحَدِيدُ، فَلَا يَمْنَعُ كَوْنُ أَصْلِهِ مِنْ نَارٍ أَلَّا يَتَعَذَّبَ بِالنَّارِ، كَمَا أَنَّ أَصْلَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، وَمِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَبَعْدَ خَلْقِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْذِيبَ بِالصَّلْصَالِ وَلَا بِالْفَخَّارِ، فَقَدْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِضَرْبَةٍ مِنْ قِطْعَةٍ مِنْ فَخَّارٍ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ.
قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي إِمْلَائِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِثْبَاتٌ أَنَّ لِلنَّارِ حِسًّا وَإِدْرَاكًا وَإِرَادَةً، وَالْقُرْآنُ أَثْبَتَ لِلنَّارِ أَنَّهَا تَغْتَاظُ وَتُبْصِرُ وَتَتَكَلَّمُ وَتَطْلُبُ الْمَزِيدَ، كَمَا قَالَ هُنَا: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [67 \ 8] .
وَقَالَ: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [25 \ 12] .
وَقَالَ: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [50] .
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا.
بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ لِلنَّارِ خَزَنَةً، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْخَزَنَةَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالنَّارِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [66 \ 6] .
كَمَا بَيَّنَ عِدَّتَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [74] .
وَقَالَ: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [74 \ 31] .
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي إِمْلَائِهِ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَدْخُلُونَهَا جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [8 \ 38] .
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ.
قَالَ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي إِمْلَائِهِ: هَذَا سُؤَالُ الْمَلَائِكَةِ لِأَهْلِ النَّارِ، وَالنَّذِيرُ بِمَعْنَى الْمُنْذِرِ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، وَإِنْ ذُكِرَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ إِنْكَارَهُ وَنَظِيرُهُ مِنَ
(8/232)
 
 
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)
الْقُرْآنِ: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ [2 \ 117] : بِمَعْنَى مُبْدِعٍ، وَأَلِيمٌ [2 \ 10] : بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ.
وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعِ ... يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ
فَالسَّمِيعُ بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ.
وَقَوْلُ غَيْلَانَ:
وَيَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلَاتٍ ... يَصُدُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمٌ
أَيْ: مُؤْلِمٌ، وَالْإِنْذَارُ إِعْلَامٌ مُقْتَرِنٌ بِتَخْوِيفٍ.
وَقَالَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُنْذِرَهُ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى بِأَدِلَّتِهِ بِتَوَسُّعٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] ، وَسَاقَ هَذِهِ الْآيَةَ هُنَاكَ.
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ.
قَدْ اعْتَرَفُوا بِمَجِئِ النَّذِيرِ إِلَيْهِمْ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [35 \ 24] .
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ.
قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي إِمْلَائِهِ: أَيْ: قَالَ أَهْلُ النَّارِ: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) مَنْ يَعْقِلُ عَنِ اللَّهِ حُجَجَهُ (أَوْ نَعْقِلُ) حُجَجَ اللَّهِ (مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) ، أَيِ: النَّارِ، فَهُمْ يَسْمَعُونَ، وَلَكِنْ لَا يَسْمَعُونَ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَيَعْقِلُونَ وَلَكِنْ لَا يَعْقِلُونَ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [2 \ 7] .
وَقَالَ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [18 \ 57] .
وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِدَّةُ نُصُوصٍ صَرِيحَةٍ فِي ذَلِكَ، مِنْهَا أَصْلُ خِلْقَتِهِمُ الْكَامِلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا
(8/233)
 
 
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
[76 \ 2] .
وَفِي آخِرِ سُورَةِ «الْمُلْكِ» هَذِهِ قَوْلُهُ: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [67 \ 23] .
وَلَكِنَّهُمْ سَمِعُوا وَعَصَوْا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [2 \ 93] .
وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [8 \ 21] . وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا [8 \ 21] .
وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا [8 \ 31] .
وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [41 \ 26] .
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى سَبَبَ عَدَمِ اسْتِفَادَتِهِمْ بِمَا يَسْمَعُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هَزُوًا [45 \ 7 - 9] .
وَقَوْلِهِ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا [31 \ 7] .
فَقَوْلُهُمْ هُنَا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ، أَيْ: سَمَاعَ تَعَقُّلٍ وَتَفَهُّمٍ.
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ.
قَالَ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي إِمْلَائِهِ: الِاعْتِرَافُ الْإِقْرَارُ، أَيْ: أَقَرُّوا بِذَنْبِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ الْإِقْرَارُ وَالنَّدَمُ، وَتَقَدَّمَ لَهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ انْتِفَاعِ الْكُفَّارِ بِإِقْرَارِهِمْ هَذَا بِتَوَسُّعٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [7 \ 53] .
وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، آيَةِ «الْمُلْكِ» هُنَاكَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ اعْتِرَافَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَوَانِ بِالْمُعَايَنَةِ،
(8/234)
 
 
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
كَمَا جَاءَ فِي حَقِّ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [10 \ 90] ، فَقِيلَ لَهُ: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [10 \ 91] .
وَجَاءَ أَصْرَحَ مَا يَكُونُ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [6 \ 158] .
فَلَمَّا جَاءَ بَعْضُ آيَاتِ اللَّهِ وَظَهَرَ الْحَقُّ، لَمْ يَكُنْ لِلْإِيمَانِ مَحَلٌّ بَعْدَ الْمُعَايَنَةِ: لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، أَيْ: مِنْ قَبْلِ الْمُعَايَنَةِ كَحَالَةِ فِرْعَوْنَ الْمَذْكُورَةِ ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِالْمُغَيَّبَاتِ، فَإِذَا عَايَنَهَا لَمْ تَكُنْ حِينَذَاكَ غَيْبًا، فَيَفُوتُ وَقْتُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ عِنْدَ اللَّهِ، وَعَلَيْهِ حَدِيثُ التَّوْبَةِ: «مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» .
 
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ.
الْخَشْيَةُ: شِدَّةُ الْخَوْفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [21 \ 49] .
وَبَيَّنَ تَعَالَى مَحَلَّ تِلْكَ الْخَشْيَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [35 \ 28] ; لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَيُرَاقِبُونَهُ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى حَقِيقَةَ خَشْيَةِ اللَّهِ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [2 \ 74] .
وَقَوْلُهُ: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [59 \ 21] .
فَالَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ هُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَمُرَاقَبَتَهُ إِيَّاهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ مَهْمَا تَخَسَّفُوا وَتَسَتَّرُوا وَهُمْ دَائِمًا مُنِيبُونَ إِلَى اللَّهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوّ