أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 007

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب : أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
المؤلف : محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (المتوفى : 1393هـ)
 
فَالتَّعْلِيقُ بِهَا يَدُلُّ عَلَى الشَّكِّ فِي وُجُودِ الشَّرْطِ بِلَا نِزَاعٍ.
وَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ التَّعْلِيقِ بِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ أَوِ الْعِلْمِ بِنَفْيِهِ، فَلِأَسْبَابٍ أُخَرَ، وَأَدِلَّةٍ خَارِجَةٍ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
 
تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ (لَوْ) تَقْتَضِي عَدَمَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَأَنَّ (إِنْ) تَقْتَضِي الشَّكَّ فِيهِ - لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْآيَةَ [10 \ 94] . كَمَا أَشَرْنَا لَهُ قَرِيبًا.
لِأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ يُمْكِنُ أَنْ يَشُكَّ فِي ذَلِكَ مِنْ أُمَّتِهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ الْآيَةَ [17 \ 22]- دَلَالَةَ الْقُرْآنِ الصَّرِيحَةَ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ مِنَ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّشْرِيعُ لِأُمَّتِهِ، وَلَا يُرَادُ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَتَّةَ بِذَلِكَ الْخِطَابِ.
وَقَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّ مِنْ أَصْرَحِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ الْآيَةَ [17 \ 23] . فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخِطَابَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ لَا هُوَ نَفْسُهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُشَرِّعُ لَهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَوْ مَعْنَى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَيْ إِنْ يَبْلُغْ عِنْدَكَ الْكِبَرَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَالِدَاكَ أَوْ أَحَدُهُمَا، فَلَا تَقُلْ لَهُمَا: أُفٍّ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَهُوَ حَمْلٌ، وَأَمَّهُ مَاتَتْ وَهُوَ فِي صِبَاهُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: إِنْ يَبْلُغِ الْكِبَرَ عِنْدَكَ هُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُمَا قَدْ مَاتَا قَبْلَ ذَلِكَ بِأَزْمَانٍ.
وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِطَابِ غَيْرُهُ مِنْ أُمَّتِهِ الَّذِي يُمْكِنُ إِدْرَاكُ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا الْكِبَرَ عِنْدَهُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَأَوْرَدْنَا شَاهِدًا لِذَلِكَ؛ رَجَزَ سَهْلِ بْنِ مَالِكٍ الْفَزَارِيِّ فِي قَوْلِهِ:
(7/165)
 
 
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)
يَا أُخْتَ خَيْرِ الْبَدْوِ وَالْحِضَارَهْ ... كَيْفَ تَرَيْنَ فِي فَتَى فَزَارَهْ
أَصْبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطَارَهْ ... إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَهْ
وَقَدْ بَسَطْنَا الْقِصَّةَ هُنَاكَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا الْآيَةَ [17 \ 23] لِكُلِّ مَنْ يَصِحُّ خِطَابُهُ مِنْ أُمَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا لَهُ هُوَ نَفْسُهُ - بَاطِلٌ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَهُ فِي سِيَاقِ الْآيَاتِ: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْآيَةَ [17 \ 39] .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ آيَةَ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْآيَةَ [10 \ 94] لَا يُنْقَضُ بِهَا الضَّابِطُ الَّذِي ذَكَرْنَا ; لِأَنَّهَا كَقَوْلِهِ: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [17 \ 22] . لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [39 \ 65] . فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [10 \ 94] . وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [33 \ 48] . وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [76 \ 24] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى لِيُشَرِّعَ لِأُمَّتِهِ عَلَى لِسَانِهِ.
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ اطِّرَادَ الضَّابِطِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي لَفْظَةِ لَوْ، وَلَفْظَةِ إِنْ، وَأَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِيهِ وَلَا غَرَرَ وَلَا إِيهَامَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ.
قَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى لَفْظَةِ سُبْحَانَ، وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَإِعْرَابَ لَفْظَةِ سُبْحَانَ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» .
وَلَمَّا قَالَ - تَعَالَى -: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ الْآيَةَ - نَزَّهَ نَفْسَهُ تَنْزِيهًا تَامًّا عَمَّا يَصِفُونَهُ بِهِ مِنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، مُبَيِّنًا أَنَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ - جَدِيرٌ بِالتَّنْزِيهِ عَنِ الْوَلَدِ، وَعَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ.
(7/166)
 
 
وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ وَصْفَ الْكُفَّارِ لَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ، نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ مُعْلِمًا خَلْقَهُ فِي كِتَابِهِ أَنْ يُنَزِّهُوهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ - جَاءَ مِثْلُهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [23 \ 91 - 92] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [17 \ 42 - 43] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [21 \ 22] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [4 \ 171] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ الْآيَةَ [15 \ 3] .
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ الْآيَةَ [6 \ 3] .
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ.
قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ الْآيَةَ [6 \ 59] .
وَفِي «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ الْآيَةَ [7 \ 178] وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ الْآيَةَ [2 \ 48] . وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
(7/167)
 
 
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ «بَنِي» إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] .
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ -: (وَقِيلَهُ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ الْهَاءِ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ: (وَقِيلِهِ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَالْهَاءِ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِعْرَابُهُ بِأَنَّهُ عَطْفُ مَحَلٍّ عَلَى (السَّاعَةِ) لِأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [43 \ 85]- مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ.
فَلَفْظُ السَّاعَةِ مَجْرُورٌ لَفْظًا بِالْإِضَافَةِ، مَنْصُوبٌ مَحَلًّا بِالْمَفْعُولِيَّةِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ فِي تَابِعِهِ النَّصْبُ نَظَرًا إِلَى الْمَحَلِّ، وَالْخَفْضُ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَجُرَّ مَا يَتْبَعُ مَا جُرَّ وَمَنْ رَاعَى فِي الِاتِّبَاعِ الْمَحَلَّ فَحَسَنْ
وَقَالَ فِي نَظِيرِهِ فِي الْوَصْفِ: وَاخْفِضْ أَوِ انْصِبْ تَابِعَ الَّذِي انْخَفَضْ كَمُبْتَغِي جَاهٍ وَمَالًا مَنْ نَهَضْ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى سِرَّهُمْ [43 \ 80] .
وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ [43 \ 80] . وَقِيلِهِ يَارَبِّ الْآيَةَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ.
أَيْ، وَقَالَ: قِيلَهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ، إِلَّا أَنَّ الْقَافَ لَمَّا كُسِرَتْ أُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً لِمُجَانِسَةِ الْكَسْرَةِ.
قَالُوا: وَنَظِيرُ هَذَا الْإِعْرَابِ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ
: تَمْشِي الْوُشَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَيْلَهُمُ ... إِنَّكَ يَا بْنَ أَبِي سَلْمَى لَمَقْتُولُ
أَيْ وَيَقُولُونَ قَيْلَهُمْ.
(7/168)
 
 
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِيَعْلَمُ مَحْذُوفَةً ; لِأَنَّ الْعَطْفَ الَّذِي ذَكَرْنَا عَلَى قَوْلِهِ: سَرَّهُمْ، وَالْعَطْفَ عَلَى (السَّاعَةِ) يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَصْلُحُ لِكَوْنِهِ اعْتِرَاضًا، وَتَقْدِيرُ النَّاصِبِ إِذَا دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَيُحْذَفُ النَّاصِبُهَا إِنْ عُلِمَا وَقَدْ يَكُونُ حَذْفُهُ مُلْتَزِمَا
وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى السَّاعَةِ، أَيْ وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَعَلَمُ (قِيلِهِ يَا رَبِّ) .
وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ مَخْفُوضٌ بِالْقِسْمِ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي (قِيلِهِ) لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ بَعْدُ: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ [43 \ 89]- خِطَابٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا نِزَاعٍ، فَادِّعَاءُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي (قِيلِهِ) لِعِيسَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَا وَجْهَ لَهُ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ شَكْوَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى رَبِّهِ عَدَمَ إِيمَانِ قَوْمِهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [25] . وَذُكِرَ مِثْلُهُ عَنْ مُوسَى فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الدُّخَانِ» : فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [44 \ 22] . وَعَنْ نُوحٍ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا [71 \ 5 - 6] . إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ -: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) بِتَاءِ الْخِطَابِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَضَمَّنَتْ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصَّفْحِ عَنِ الْكُفَّارِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ لَهُمْ سَلَامٌ.
(7/169)
 
 
وَالثَّالِثُ: تَهْدِيدُ الْكُفَّارِ بِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَصِحَّةَ مَا يُوعَدُ بِهِ الْكَافِرُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْأَوَّلِ: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [15 \ 85] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ [22 \ 48] .
وَالصَّفْحُ: الْإِعْرَاضُ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْعَفْوِ.
قَالُوا: لِأَنَّ الصَّفْحَ أَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنْ صَفْحَةِ الْعُنُقِ، فَكَأَنَّهُ يُوَلِّي الْمُذْنِبَ بِصَفْحَةِ عُنُقِهِ مُعْرِضًا عَنْ عِتَابِهِ فَمَا فَوْقَهُ.
وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّهُ هُوَ شَأْنُ عِبَادِهِ الطَّيِّبِينَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدُهُمْ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [25 \ 63] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [28 \ 55] . وَقَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: إِنَّهُ قَالَ لَهُ أَبُوهُ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [19 \ 46] . قَالَ لَهُ: سَلَامٌ عَلَيْكَ [19 \ 47] .
وَمَعْنَى السَّلَامِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ إِخْبَارُهُمْ بِسَلَامَةِ الْكُفَّارِ مِنْ أَذَاهُمْ، وَمِنْ مُجَازَاتِهِمْ لَهُمْ بِالسُّوءِ، أَيْ سَلِمْتُمْ مِنَّا لَا نُسَافِهُكُمْ، وَلَا نُعَامِلُكُمْ بِمِثْلِ مَا تُعَامِلُونَنَا.
وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّالِثُ الَّذِي هُوَ تَهْدِيدُ الْكُفَّارِ بِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ الْحَقِيقَةَ - قَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتِ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [38 \ 88] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [6 \ 67] . وَقَوْلِهِ: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [78 \ 4 - 5] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [102 \ 3 - 4] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [102 \ 6 - 7] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
(7/170)
 
 
وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَمَا فِي مَعْنَاهُ - مَنْسُوخٌ بِآيَاتِ السَّيْفِ، وَجَمَاعَاتٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ يَقُولُونَ: هُوَ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ.
وَالْقِتَالُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْقِتَالُ وَالصَّفْحُ عَنِ الْجَهَلَةِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ - وَصْفٌ كَرِيمٌ، وَأَدَبٌ سَمَاوِيٌّ، لَا يَتَعَارَضُ مَعَ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
(7/171)
 
 
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الدُّخَانِ
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ.
أَبْهَمَ - تَعَالَى - هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هُنَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهَا هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [97 \ 1] وَبَيَّنَ كَوْنَهَا (مُبَارَكَةٍ) الْمَذْكُورَةَ هُنَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [97 \ 3] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
فَقَوْلُهُ: فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ أَيْ كَثِيرَةِ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ لَيْلَةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، إِلَى آخِرِ الصِّفَاتِ الَّتِي وُصِفَتْ بِهَا فِي سُورَةِ «الْقَدْرِ» - كَثِيرَةُ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ جِدًّا.
وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، الَّتِي أُنْزِلَ فِيهَا الْقُرْآنُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [2 \ 185] .
فَدَعْوَى أَنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِ، لَا شَكَّ فِي أَنَّهَا دَعْوَى بَاطِلَةٌ لِمُخَالَفَتِهَا لِنَصِّ الْقُرْآنِ الصَّرِيحِ.
وَلَا شَكَّ كُلُّ مَا خَالَفَ الْحَقَّ فَهُوَ بَاطِلٌ.
وَالْأَحَادِيثُ - الَّتِي يُورِدُهَا بَعْضُهُمْ فِي أَنَّهَا مِنْ شَعْبَانَ - الْمُخَالِفَةُ لِصَرِيحِ الْقُرْآنِ - لَا أَسَاسَ لَهَا، وَلَا يَصِحُّ سَنَدُ شَيْءٍ مِنْهَا، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ.
فَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ مُسْلِمٍ يُخَالِفُ نَصَّ الْقُرْآنِ الصَّرِيحَ بِلَا مُسْتَنَدِ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ.
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا.
مَعْنَى قَوْلِهِ: يُفْرَقُ، أَيْ يُفْصَلُ وَيُبَيَّنُ، وَيُكْتَبُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ الَّتِي هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ - كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَيْ ذِي حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ ; لِأَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَنْوَاعِ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَكِيمٌ، أَيْ مُحْكَمٌ، لَا تَغْيِيرَ فِيهِ وَلَا تَبْدِيلَ.
(7/172)
 
 
وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ حَقٌّ ; لِأَنَّ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَبَدَّلُ، وَلِأَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ فِي غَايَةِ الْحِكْمَةِ.
وَهِيَ فِي الِاصْطِلَاحِ وَضْعُ الْأُمُورِ فِي مَوَاضِعِهَا وَإِيقَاعُهَا فِي مَوَاقِعِهَا.
وَإِيضَاحُ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ مِنَ السَّنَةِ يُبَيِّنُ لِلْمَلَائِكَةِ وَيَكْتُبُ لَهُمْ بِالتَّفْصِيلِ وَالْإِيضَاحِ جَمِيعَ مَا يَقَعُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ السَّنَةِ الْجَدِيدَةِ.
فَتَبَيَّنَ فِي ذَلِكَ الْآجَالُ وَالْأَرْزَاقُ، وَالْفَقْرُ وَالْغِنَى، وَالْخِصْبُ وَالْجَدْبُ وَالصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ، وَالْحُرُوبُ وَالزَّلَازِلُ، وَجَمِيعُ مَا يَقَعُ فِي تِلْكَ السَّنَّةِ كَائِنًا مَا كَانَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَمَعْنَى (يُفْرَقُ) يُفْصَلُ وَيُكْتَبُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ مِنْ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ وَآجَالِهِمْ، وَجَمِيعِ أُمُورِهِمْ فِيهَا إِلَى الْأُخْرَى الْقَابِلَةِ. إِلَى أَنْ قَالَ: فَتُدْفَعُ نُسْخَةُ الْأَرْزَاقِ إِلَى مِيكَائِيلَ، وَنُسْخَةُ الْحُرُوبِ إِلَى جِبْرَائِيلَ، وَكَذَلِكَ الزَّلَازِلُ وَالصَّوَاعِقُ وَالْخَسْفُ، وَنُسْخَةُ الْأَعْمَالِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ صَاحِبِ سَمَاءِ الدُّنْيَا وَهُوَ مَلَكٌ عَظِيمٌ، وَنُسْخَةُ الْمَصَائِبِ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَمُرَادُنَا بَيَانُ مَعْنَى الْآيَةِ، لَا الْتِزَامُ صِحَّةِ دَفْعِ النُّسَخِ الْمَذْكُورَةِ لِلْمَلَائِكَةِ الْمَذْكُورِينَ ; لِأَنَّا لَمْ نَعْلَمْ لَهُ مُسْتَنَدًا.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ ; فَهُوَ بَيَانٌ قُرْآنِيٌّ آخَرُ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَيْ فِي لَيْلَةِ التَّقْدِيرِ لِجَمِيعِ أُمُورِ السَّنَةِ، مِنْ رِزْقٍ وَمَوْتٍ، وَحَيَاةٍ وَوِلَادَةٍ، وَمَرَضٍ وَصِحَّةٍ، وَخِصْبٍ وَجَدْبٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ أُمُورِ السَّنَةِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْكِحُ وَيَتَصَرَّفُ فِي أُمُورِهِ وَيُولَدُ لَهُ، وَقَدْ خَرَجَ اسْمُهُ فِي الْمَوْتَى فِي تِلْكَ السَّنَةِ.
وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الصَّحِيحِ لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَالتَّقْدِيرُ الْمَذْكُورُ هُوَ بِعَيْنِهِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ.
(7/173)
 
 
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [21 \ 87]- أَنَّ قَدَرَ بِفَتْحِ الدَّالِ مُخَفَّفًا يَقْدِرُ، وَيَقْدُرُ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ كَيَضْرِبُ وَيَنْصُرُ قَدْرًا بِمَعْنَى قَدَّرَ تَقْدِيرًا، وَأَنَّ ثَعْلَبًا أَنْشَدَ لِذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
فَلَيْسَتْ عَشِيَاتُ الْحِمَى بِرَوَاجِعٍ ... لَنَا أَبَدًا مَا أَرْوَقَ السَّلَمُ النَّضِرُ
وَلَا عَائِدٌ ذَاكَ الزَّمَانُ الَّذِي مَضَى ... تَبَارَكْتَ مَا تَقْدُرْ يَقَعْ وَلَكَ الشُّكْرُ
وَبَيَّنَّا هُنَاكَ، أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقْدُرُ فِيهَا وَقَائِعَ السَّنَةِ.
وَبَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وَأَوْضَحنَا هُنَاكَ أَنَّ الْقَدَرَ بِفَتْحِ الدَّالِ، وَالْقَدْرَ بِسُكُونِهَا - هُمَا مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ مِنْ قَضَائِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ هُدْبَةَ بْنِ الْخَشْرَمِ:
أَلَا يَا لَقَوْمِي لِلنَّوَائِبِ وَالْقَدْرِ ... وَلِلْأَمْرِ يَأْتِي الْمَرْءُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِعِظَمِهَا وَشَرَفِهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ اللَّيَالِي مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ ذُو قَدْرٍ، أَيْ ذُو شَرَفٍ وَمَكَانَةٍ رَفِيعَةٍ - لَا يُنَافِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ; لِاتِّصَافِهَا بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَصِحَّةُ وَصْفِهَا بِكُلٍّ مِنْهُمَا، كَمَا أَوْضَحْنَا مِثْلَهُ مِرَارًا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ: أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَصْدَرٌ مُنْكَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ فِي حَالِ كَوْنِنَا آمِرِينَ بِهِ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْأَخْفَشُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ قَوْلِهِ: (أَنْزَلْنَاهُ) ، وَجَعَلَ (أَمْرًا) بِمَعْنَى: إِنْزَالًا.
وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْمُبَرِّدُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ (يُفْرَقُ) ، فَجُعِلَ (أَمْرًا) بِمَعْنَى فَرْقًا، أَوْ فَرْقٌ بِمَعْنَى (أَمْرًا) .
وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ حَالٌ مِنْ (أَمْرًا) ، أَيْ (يُفْرَقُ فِيهَا بَيْنَ كُلِّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) فِي حَالِ
(7/174)
 
 
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
كَوْنِهِ (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا) وَهَذَا الْوَجْهُ جَيِّدٌ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا سَاغَ إِتْيَانُ الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا ; لِأَنَّ النَّكِرَةَ الَّتِي هِيَ (أَمْرٌ) وُصِفَتْ بِقَوْلِهِ (حَكِيمٍ) كَمَا لَا يَخْفَى.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ (أَمْرًا) مَفْعُولٌ بِهِ لِقَوْلِهِ: (مُنْذِرِينَ) [44 \ 3] . وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِالِاخْتِصَاصِ، فَقَالَ: جَعَلَ كُلَّ أَمْرٍ جَزْلًا فَخْمًا، بِأَنَّ وَصْفَهُ بِالْحَكِيمِ، ثُمَّ زَادَهُ جَزَالَةً وَأَكْسَبَهُ فَخَامَةً، بِأَنْ قَالَ: أَعْنِي بِهَذَا الْأَمْرِ أَمْرًا حَاصِلًا مِنْ عِنْدِنَا، كَائِنًا مِنْ لَدُنَّا، وَكَمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُنَا وَتَدْبِيرُنَا، وَهَذَا الْوَجْهُ أَيْضًا مُمْكِنٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا الْآيَةَ [18 \ 65] . وَفِي سُورَةِ «فَاطِرٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا الْآيَةَ [35 \ 2] .
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ.
هَذَا الَّذِي ادَّعَوْهُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْتِرَاءً، مِنْ أَنَّهُ مُعَلَّمٌ، يَعْنُونَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ عَلَّمَهُ إِيَّاهُ بَشَرٌ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَجْنُونٌ - قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِإِبْطَالِهِ.
أَمَّا دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ مُعَلَّمٌ فَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى تِلْكَ الدَّعْوَى فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [16 \ 103] . وَفِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ إِلَى قَوْلِهِ فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [25 \ 4 - 5] .
وَبَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِافْتِرَائِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [16 \ 103] .
وَفِي الْفُرْقَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا الْآيَةَ [25 \ 4 - 5] .
وَأَمَّا دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ مَجْنُونٌ، فَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهَا وَلِإِبْطَالِهَا فِي سُورَةِ «قَدْ
(7/175)
 
 
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)
أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ الْآيَةَ [23 \ 70] .
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ.
الرَّسُولُ الْكَرِيمُ هُوَ مُوسَى، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي أُرْسِلَ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ - كَثِيرَةٌ وَمَعْرُوفَةٌ.
وَقَوْلُهُ: أَدُّوا إِلَيَّ أَيْ سَلِّمُوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَرْسِلُوهُمْ مَعِي.
فَقَوْلُهُ: عِبَادَ اللَّهِ مَفْعُولٌ بِهِ لِقَوْلِهِ: أَدُّوا.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ مُوسَى طَلَبَ مِنْ فِرْعَوْنَ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيُرْسِلَهُمْ مَعَهُ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، مُصَرَّحًا فِيهَا بِأَنَّ عِبَادَ اللَّهِ هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «طه» : فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ [20 \ 47] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الشُّعَرَاءِ» : فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [26 \ 16 - 17] .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ (أَنْ) فِي قَوْلِهِ: أَنْ أَدُّوا هِيَ الْمُفَسِّرَةُ ; لِأَنَّ مَجِيءَ الرَّسُولِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْقَوْلِ، لَا الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: عِبَادَ اللَّهِ مَفْعُولٌ بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَمَا أَوْضَحَتْهُ آيَةُ «طه» وَآيَةُ «الشُّعَرَاءِ» لَا مُنَادَى مُضَافٌ.
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [40 \ 27] .
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ.
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ أَوْرَثَهُمْ مَا ذَكَرَهُ هُنَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» أَنَّهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ
(7/176)
 
 
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48)
[26 \ 59] كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّرْجَمَةِ، وَفِي «الْأَعْرَافِ» .
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ.
مَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ نَجَّى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ الَّذِي كَانَ يُعَذِّبُهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، مُصَرَّحًا فِيهَا بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [2 \ 49 - 50] . وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ الْآيَةَ [7 \ 141] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْمُؤْمِنِ» : فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ الْآيَةَ [40 \ 25] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ «إِبْرَاهِيمَ» : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ الْآيَةَ [14 \ 16] .
وَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» : وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [26 \ 22] فَتَعْبِيدُهُ إِيَّاهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ عَذَابِهِ لَهُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، مِنْ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ - أَوْضَحَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «يُونُسَ» : وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [10 \ 83] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ «الْقَصَصِ» : إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [28 \ 4] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ [22 \ 19] .
(7/177)
 
 
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)
وَقَدْ تَرَكْنَا إِحَالَاتٍ مُتَعَدِّدَةً بَيَّنَّا فِيهَا بَعْضَ آيَاتِ سُورَةِ «الدُّخَانِ» هَذِهِ، خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ بِكَثْرَةِ الْإِحَالَةِ.
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ الْآيَةَ [19 \ 97] .
(7/178)
 
 
إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْجَاثِيَةِ
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ، مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» - سِتَّةَ بَرَاهِينَ مِنْ بَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ - تَعَالَى -.
الْأَوَّلُ مِنْهَا: خَلْقُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.
الثَّانِي: خَلْقُهُ النَّاسَ.
الثَّالِثُ: خَلْقُهُ الدَّوَابَّ.
الرَّابِعُ: اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
الْخَامِسُ: إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ.
السَّادِسُ: تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ.
وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينَ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُوقِنُونَ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ حُجَجَهُ وَآيَاتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَلِذَا قَالَ: لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ: آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، ثُمَّ قَالَ: آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
وَهَذِهِ الْبَرَاهِينُ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ - جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
(7/179)
 
 
أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا، وَهُوَ خَلْقُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ - فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [50 \ 6 - 8] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [34 \ 9] . وَقَوْلِهِ: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ [10 \ 101] . وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [7 \ 158] . وَقَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [30 \ 22] فِي «الرُّومِ» وَ «الشُّورَى» [42 \ 29] . وَقَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [40 \ 64] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [40 \ 64] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [51 \ 47 - 48] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا إِلَى قَوْلِهِ: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا [78 \ 6 - 12] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَعْرُوفَةٌ.
وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهَا، وَهُوَ خَلْقُهُ النَّاسَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَفِي خَلْقِكُمْ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ. [30 \ 20] . وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْآيَةَ [2 \ 21] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [71 \ 13 - 14] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [39 \ 6] . وَقَوْلِهِ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [51 \ 21] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومَةٌ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْهَا، وَهُوَ خَلْقُهُ الدَّوَابَّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ فَقَدْ جَاءَ أَيْضًا مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَيْضًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الشُّورَى» : وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [42 \ 29] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ الْآيَةَ [2 \ 164] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ
(7/180)
 
 
مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [39 \ 6] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [39 \ 6] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومَةٌ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ مِنْهَا، وَهُوَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [2 \ 164] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «آلِ عِمْرَانَ» : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [3 \ 190] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «فُصِّلَتْ» : وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ الْآيَةَ [41 \ 37] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا الْآيَةَ [36 \ 37 - 38] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [24 \ 44] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [28 \ 71 - 73] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [23 \ 80] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَأَمَّا الْخَامِسُ مِنْهَا، وَهُوَ إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ، وَإِنْبَاتُ الرِّزْقِ فِيهَا، الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِلَى قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [2 \ 164] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا إِلَى قَوْلِهِ: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [80 \ 24 - 32] .
(7/181)
 
 
وَإِيضَاحُ هَذَا الْبُرْهَانِ بِاخْتِصَارٍ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ - أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُكَلَّفٍ أَنْ يَنْظُرَ وَيَتَأَمَّلَ فِي طَعَامِهِ، كَالْخَبْزِ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَعِيشُ بِهِ، مِنْ خَلْقِ الْمَاءِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِنَبَاتِهِ.
هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يَخْلُقَهُ؟
الْجَوَابُ: لَا.
ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خُلِقَ بِالْفِعْلِ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَهُ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِإِنْزَالِهِ عَلَى الْأَرْضِ رَشًّا صَغِيرًا، حَتَّى تُرْوَى بِهِ الْأَرْضُ تَدْرِيجًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ هَدْمٌ وَلَا غَرَقٌ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ [24 \ 43] ؟ .
الْجَوَابُ: لَا.
ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خُلِقَ فِعْلًا، وَأُنْزِلَ فِي الْأَرْضِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْأَتَمِّ الْأَكْمَلِ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يَشُقَّ الْأَرْضَ وَيُخْرِجَ مِنْهَا مِسْمَارَ النَّبَاتِ؟
الْجَوَابُ: لَا.
ثُمَّ هَبْ أَنَّ النَّبَاتَ خَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ، وَانْشَقَّتْ عَنْهُ، فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُخْرِجَ السُّنْبُلَ مِنْ ذَلِكَ النَّبَاتِ؟
الْجَوَابُ: لَا.
ثُمَّ هَبْ أَنَّ السُّنْبُلَ خَرَجَ مِنَ النَّبَاتِ، فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُنَمِّيَ حَبَّهُ وَيَنْقُلَهُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ حَتَّى يُدْرَكَ وَيَكُونَ صَالِحًا لِلْغِذَاءِ وَالْقُوتِ؟
الْجَوَابُ: لَا.
وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [6 \ 99] . وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [78 \ 14 - 16] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [36 \ 33] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
(7/182)
 
 
وَاعْلَمْ أَنَّ إِطْلَاقَهُ - تَعَالَى - الرِّزْقَ عَلَى الْمَاءِ فِي آيَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ - قَدْ أَوْضَحْنَا وَجْهَهُ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا الْآيَةَ [40 \ 13] .
وَأَمَّا السَّادِسُ مِنْهَا، وَهُوَ تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» : وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [2 \ 164] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [30 \ 46] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [15 \ 22] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
 
تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاهِينَ الْعَظِيمَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ - ثَلَاثَةٌ مِنْهَا مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ الَّتِي يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الْبَعْثِ، كَثْرَةً مُسْتَفِيضَةً.
وَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» وَسُورَةِ «النَّحْلِ» وَغَيْرِهِمَا، وَأَحَلْنَا عَلَيْهَا مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَسَنُعِيدُ طَرَفًا مِنْهَا هُنَا لِأَهَمِّيَّتِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
وَالْأَوَّلُ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْمَذْكُورَةِ: هُوَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمَذْكُورُ هُنَا فِي سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ خَلْقَهُ - جَلَّ وَعَلَا - لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - مِنْ أَعْظَمِ الْبَرَاهِينِ عَلَى بَعْثِ النَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ ; لِأَنَّ مَنْ خَلَقَ الْأَعْظَمَ الْأَكْبَرَ لَا شَكَّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ الْأَضْعَفِ الْأَصْغَرِ.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [40 \ 57] أَيْ وَمَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْأَكْبَرِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْأَصْغَرِ، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [36 \ 81] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [46 \ 33] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:
(7/183)
 
 
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ الْآيَةَ [17 \ 99] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [79 \ 27 - 33] .
وَنَظِيرُ آيَةِ «النَّازِعَاتِ» هَذِهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ «الصَّافَّاتِ» : فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا الْآيَةَ [37 \ 11] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْ مَنْ خَلَقْنَا يُشِيرُ بِهِ إِلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا ذَكَرَ مَعَهُمَا الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ إِلَى قَوْلِهِ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [37 \ 5 - 10] .
وَأَمَّا الثَّانِي مِنَ الْبَرَاهِينِ الْمَذْكُورَةِ: فَهُوَ خَلْقُهُ - تَعَالَى - لِلنَّاسِ الْمَرَّةَ الْأُولَى ; لِأَنَّ مَنِ ابْتَدَعَ - خَلْقَهُمْ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ - لَا شَكَّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى، كَمَا لَا يَخْفَى.
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْبُرْهَانِ عَلَى الْبَعْثِ كَثِيرٌ جِدًّا فِي كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [22 \ 5] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [36 \ 78 - 79] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ الْآيَةَ [19 \ 66 - 68] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ الْآيَةَ [30 \ 27] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [17 \ 51] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [21 \ 104] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [50 \ 15] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ [56 \ 62] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى [53 \ 45 - 47] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [75 \ 36 - 40] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ
(7/184)
 
 
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)
إِلَى قَوْلِهِ: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [95 \ 1 - 7] يَعْنِي أَيَّ شَيْءٍ يَحْمِلُكَ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالدِّينِ - أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ - وَقَدْ عَلِمْتَ أَنِّي خَلَقْتُكَ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ أَنَّ مَنِ ابْتَدَعَ الْإِيجَادَ الْأَوَّلَ لَا شَكَّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَتِهِ مَرَّةً أُخْرَى. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا الْبُرْهَانُ الثَّالِثُ مِنْهَا، وَهُوَ إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ: وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَإِنَّهُ يَكْثُرُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَيْضًا عَلَى الْبَعْثِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ; لِأَنَّ مَنْ أَحْيَا الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ النَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ أَحْيَاءٌ بَعْدَ مَوْتٍ.
فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [41 \ 39] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [22 \ 5 - 7] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [30 \ 50] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [7 \ 57] .
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى أَيْ نَبْعَثُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً كَمَا أَخْرَجْنَا تِلْكَ الثَّمَرَاتِ بَعْدَ عَدَمِهَا، وَأَحْيَيْنَا بِإِخْرَاجِهَا ذَلِكَ الْبَلَدَ الْمَيِّتَ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [30 \ 19] يَعْنِي تُخْرَجُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [50 \ 11] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: تَلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ.
أَشَارَ - جَلَّ وَعَلَا - لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَبَيَّنَ لِنَبِيِّهِ أَنَّهُ يَتْلُوهَا عَلَيْهِ مُتَلَبِّسَةً بِالْحَقِّ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَا مِنْ خَلْفِهِ.
(7/185)
 
 
وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ - ذَكَرَهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ بِلَفْظِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [2 \ 251 - 252] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «آلِ عِمْرَانَ» : وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ [3 \ 107 - 108] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: تِلْكَ - بِمَعْنَى هَذِهِ.
وَمِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْبَعِيدِ عَلَى الْإِشَارَةِ إِلَى الْقَرِيبِ، كَقَوْلِهِ: ذَلِكَ الْكِتَابُ [2 \ 2] بِمَعْنَى: هَذَا الْكِتَابُ. كَمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ قَوْلُ خُفَافِ بْنِ نَدْبَةَ السُّلَمِيِّ:
فَإِنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُهَا ... فَعَمْدًا عَلَى عَيْنِي تَيَمَّمْتُ مَالِكًا
أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ ... تَأَمَّلْ خُفَافًا أَنَّنِي أَنَا ذَلِكَا
يَعْنِي أَنَا هَذَا.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ، وَذَكَرْنَا أَوْجُهَهُ فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) - فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: نَتْلُوهَا أَيْ نَقْرَؤُهَا عَلَيْكَ.
وَأَسْنَدَ - جَلَّ وَعَلَا - تِلَاوَتَهَا إِلَى نَفْسِهِ ; لِأَنَّهَا كَلَامُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ، وَأَمَرَ الْمَلَكَ أَنْ يَتْلُوَهُ عَلَيْهِ مُبَلِّغًا عَنْهُ - جَلَّ وَعَلَا -.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [75 \ 16 - 19] .
فَقَوْلُهُ: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ، أَيْ قَرَأَهُ عَلَيْكَ الْمَلَكُ الْمُرْسَلُ بِهِ مِنْ قِبَلِنَا مُبَلِّغًا عَنَّا، وَسَمِعْتَهُ مِنْهُ، فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، أَيْ فَاتَّبِعْ قِرَاءَتَهُ وَاقْرَأْهُ كَمَا سَمِعْتَهُ يَقْرَؤُهُ.
وَقَدْ أَشَارَ - تَعَالَى - إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [20 \ 114] .
وَسَمَاعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ مِنَ الْمَلَكِ الْمُبَلِّغِ عَنِ اللَّهِ كَلَامَ اللَّهِ وَفَهْمُهُ لَهُ - هُوَ مَعْنَى تَنْزِيلِهِ إِيَّاهُ
(7/186)
 
 
عَلَى قَلْبِهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [2 \ 97] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [26 \ 192 - 195] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ [45 \ 6] يَعْنِي آيَاتِهِ الشَّرْعِيَّةَ الدِّينِيَّةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقَيْنِ، وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِطْلَاقَيْنِ أَيْضًا.
أَمَّا إِطْلَاقَاهُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ:
فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا - وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ - فَهُوَ إِطْلَاقُ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ، وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانٍ:
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْآيَاتِ عَلَامَاتُ الدَّارِ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ:
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبِينُهُ ... وَنُؤْيٌ كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثَلَمُ خَاشِعُ
وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا فَهُوَ إِطْلَاقُ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، يَقُولُونَ: جَاءَ الْقَوْمُ بِآيَتِهِمْ، أَيْ بِجَمَاعَتِهِمْ.
وَمِنْهُ قَوْلُ بُرْجُ بْنُ مُسْهِرٍ:
خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لَا حَيَّ مِثْلُنَا ... بِآيَتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلَا
وَقَوْلُهُ: بِآيَاتِنَا، يَعْنِي بِجَمَاعَتِنَا.
وَأَمَّا إِطْلَاقَاهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا: إِطْلَاقُ الْآيَةِ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ، كَآيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ.
وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا: فَهُوَ إِطْلَاقُ الْآيَةِ عَلَى الْآيَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [3 \ 190] .
أَمَّا الْآيَةُ الْكَوْنِيَّةُ الْقَدَرِيَّةُ فَهِيَ بِمَعْنَى الْآيَةِ اللُّغَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْعَلَامَةُ ; لِأَنَّ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ عَلَامَاتٌ قَاطِعَةٌ، عَلَى أَنَّ خَالِقَهَا هُوَ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ.
(7/187)
 
 
وَأَمَّا الْآيَةُ الشَّرْعِيَّةُ الدِّينِيَّةُ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا أَيْضًا مِنَ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ الْعَلَامَةُ ; لِأَنَّ آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ - عَلَامَاتٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهَا، لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ بُرْهَانِ الْإِعْجَازِ، أَوْ لِأَنَّ فِيهَا عَلَامَاتٍ يُعْرَفُ بِهَا مَبْدَأُ الْآيَاتِ وَمُنْتَهَاهَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا مِنَ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، لِتَضَمُّنِهَا جُمْلَةً وَجَمَاعَةً مِنْ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ وَحُرُوفِهِ.
وَاخْتَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ أَصْلَ الْآيَةِ أَيَيَةٌ - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْيَاءَيْنِ بَعْدَهَا - فَاجْتَمَعَ فِي الْيَاءَيْنِ مُوجِبَا إِعْلَالٍ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَحَرِّكَةٌ حَرَكَةً أَصْلِيَّةً بَعْدَ فَتْحٍ مُتَّصِلٍ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
مِنْ وَاوٍ وَيَاءٍ بِتَحْرِيكِ أُصِلْ ... أَلِفًا أَبْدِلْ بَعْدَ فَتْحٍ مُتَّصِلْ
إِنْ حُرِّكَ التَّالِي. . . ... . . . . . . . . إِلَخْ.
وَالْمَعْرُوفُ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ أَنَّهُ إِنِ اجْتَمَعَ مُوجِبَا إِعْلَالٍ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْأَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ تَصْحِيحُ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَإِعْلَالُ الثَّانِي بِإِبْدَالِهِ أَلِفًا، كَالْهَوَى وَالنَّوَى وَالطَّوَى وَالشَّوَى، وَرُبَّمَا صُحِّحَ الثَّانِي وَأُعِلَّ الْأَوَّلُ، كَغَايَةٍ وَرَايَةٍ، وَآيَةٍ - عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ أَقْوَالٍ عَدِيدَةٍ - وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِعْلَالَهُمَا لَا يَصِحُّ، وَلِهَذَا أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ لِحَرْفَيْنِ ذَا الْإِعْلَالُ اسْتُحِقْ ... صُحِّحَ أَوَّلٌ وَعَكْسٌ قَدْ يَحِقْ
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنَّ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.
مَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَبِآيَاتِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِذَلِكَ مَعَ ظُهُورِ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى لُزُومِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ ; أَنَّهُ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُؤْمِنَ بِشَيْءٍ آخَرَ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يُؤْمِنُ بِحَدِيثٍ لَآمَنَ بِاللَّهِ وَبِآيَاتِهِ ; لِظُهُورِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ اللَّهِ مُتَوَعَّدٌ بِالْوَيْلِ، وَأَنَّهُ أَفَّاكٌ أَثِيمٌ، وَالْأَفَّاكُ: كَثِيرُ الْإِفْكِ، وَهُوَ أَسْوَأُ الْكَذِبِ، وَالْأَثِيمُ: هُوَ مُرْتَكِبُ الْإِثْمِ بِقَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ، فَهُوَ مُجْرِمٌ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ - قَدْ ذَكَرَهُ - تَعَالَى - فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَتَوَعَّدَ الْمُكَذِّبِينَ لِهَذَا الْقُرْآنِ بِالْوَيْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبَيَّنَ اسْتِبْعَادَ إِيمَانِهِمْ بِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْمُرْسَلَاتِ:
(7/188)
 
 
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [47 \ 48 - 50] . فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كَقَوْلِهِ هُنَا: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ.
وَقَدْ كَرَّرَ - تَعَالَى - وَعِيدَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْوَيْلِ فِي سُورَةِ «الْمُرْسَلَاتِ» كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ «الْمُرْسَلَاتِ» : فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ كَقَوْلِهِ هُنَا فِي «الْجَاثِيَةِ» : فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِآيَاتِهِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِآيَاتِهِ كَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِهِ - تَعَالَى - وَقَوْلَهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ يُتْلَى، ثُمَّ يُصِرُّ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فِي حَالَةِ كَوْنِهِ مُتَكَبِّرًا عَنِ الِانْقِيَادِ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ آيَاتُ الْقُرْآنِ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ آيَاتِ اللَّهِ، لَهُ الْبِشَارَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَهُوَ الْخُلُودُ فِي النَّارِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «لُقْمَانَ» : وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ [31 \ 7] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْحَجِّ» : وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [22 \ 72] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [47 \ 16] . فَقَوْلُهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ: مَاذَا قَالَ آنِفًا - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُبَالُونَ بِمَا يَتْلُو عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْآيَاتِ وَالْهُدَى.
وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْمَبْحَثِ فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ [41 \ 4 - 5] .
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا خُفِّفَتْ فِيهِ لَفْظَةُ (كَأَنْ) ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَأَنَّ إِذَا خُفِّفَتْ كَانَ اسْمُهَا مُقَدَّرًا، وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُهَا، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
(7/189)
 
 
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)
وَخُفِّفَتْ كَأَنَّ أَيْضًا فَنُوِي ... مَنْصُوبُهَا وَثَابِتًا أَيْضًا رُوِي
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» أَنَّ الْبِشَارَةَ تُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى الْإِخْبَارِ بِمَا يَسُرُّ، وَأَنَّهَا رُبَّمَا أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِمَا يَسُوءُ أَيْضًا. وَأَوْضَحنَا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَفْظَةَ وَيْلٌ كَلِمَةُ عَذَابٍ وَهَلَاكٍ، وَأَنَّهَا مَصْدَرٌ لَا لَفْظَ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ، وَأَنَّ الْمُسَوِّغَ لِلِابْتِدَاءِ بِهَا مَعَ أَنَّهَا نَكِرَةٌ كَوْنُهَا فِي مَعْرِضِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ.
قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ -: يُؤْمِنُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ -: تُؤْمِنُونَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ.
وَقَرَأَهُ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ، وَالسُّوسِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو -: يُومَنُونَ، بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا وَصْلًا وَوَقْفًا.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا فِي الْوَقْفِ دُونَ الْوَصْلِ.
وَالْبَاقُونَ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ مُطْلَقًا.
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَوَعُّدُ الْأَفَّاكِ الْأَثِيمِ بِالْوَيْلِ، وَالْبِشَارَةِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا قَرِيبًا أَنَّ مِنْ صِفَاتِهِ أَنَّهُ إِذَا سَمِعَ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ أَصَرَّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا، أَيْ مَهْزُوءًا بِهَا، مُسْتَخِفًّا بِهَا، ثُمَّ تَوَعَّدَهُ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَذَابِ الْمُهِينِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَّخِذُونَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا، وَأَنَّهُمْ سَيُعَذَّبُونَ عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - قَدْ بَيَّنَهُ - تَعَالَى - فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي آخِرِ
(7/190)
 
 
مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)
«الْكَهْفِ» : ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا [18 \ 106] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْكَهْفِ» أَيْضًا: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ الْآيَةَ [18 \ 56 - 35] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [45 \ 34 - 35] .
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ -: هُزُؤًا بِضَمِّ الزَّايِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مُحَقَّقَةٌ.
وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ الزَّايِ وَإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ هُزْءًا، بِسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مُحَقَّقَةٌ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ.
وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْوَقْفِ، فَعَنْ حَمْزَةَ نَقْلُ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى الزَّايِ، فَتَكُونُ الزَّايُ مَفْتُوحَةً بَعْدَهَا أَلْفٌ، وَعَنْهُ إِبْدَالُهَا وَاوًا مُحَرَّكَةً بِحَرَكَةِ الْهَمْزَةِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ أَيْ لِأَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَهْزِءُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يُرَادُ بِهِ إِلَّا إِهَانَتُهُمْ وَخِزْيُهُمْ وَشِدَّةُ إِيلَامِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ.
وَلَيْسَ فِيهِ تَطْهِيرٌ وَلَا تَمْحِيصٌ لَهُمْ، بِخِلَافِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ عُذِّبُوا فَسَيَصِيرُونَ إِلَى الْجَنَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَذَابِ.
فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِعَذَابِهِمْ مُجَرَّدَ الْإِهَانَةِ، بَلْ لِيَئُولُوا بَعْدَهُ إِلَى الرَّحْمَةِ وَدَارِ الْكَرَامَةِ.
 
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مَعَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ. الْآيَةَ [14 \ 15 - 16] . وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ أَصَحَّ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ (وَرَاءَ) بِمَعْنَى أَمَامَ.
فَمَعْنَى مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ أَيْ أَمَامَهُ جَهَنَّمُ يَصْلَاهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:
(7/191)
 
 
وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [18 \ 79] أَيْ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ.
وَذَكَرْنَا هُنَاكَ الشَّوَاهِدَ الْعَرَبِيَّةَ عَلَى إِطْلَاقِ وَرَاءَ بِمَعْنَى أَمَامَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ آيَةُ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ أَيْ أَمَامَهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ.
أَوْضَحَ فِيهِ أَنَّ مَا كَسَبَهُ الْكُفَّارُ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ لَا يَنْفَعُهُمْ بِشَيْءٍ، فَلَا يُجْلَبُ لَهُمْ بِسَبَبِهِ نَفْعٌ وَلَا يُدْفَعُ عَنْهُمْ بِسَبَبِهِ ضُرٌّ، وَإِنَّمَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَالْمَعْبُودَاتِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا شُرَكَاءُ لِلَّهِ - لَا يَنْفَعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْضًا بِشَيْءٍ.
وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ اللَّتَانِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، قَدْ أَوْضَحَهُمَا اللَّهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ.
أَمَّا الْأُولَى مِنْهُمَا، وَهِيَ كَوْنُهُمْ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا - فَقَدْ أَوْضَحَهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [111 \ 1 - 2] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [92 \ 11] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ الْآيَةَ [104 \ 2 - 4] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [39 \ 50] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ الْآيَةَ [69 \ 27 - 28] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ [7 \ 48] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ إِبْرَاهِيمَ: وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ الْآيَةَ [26 \ 87 - 88] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى الْآيَةَ [34 \ 37] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ [3 \ 10] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [3 \ 116] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْمُجَادَلَةِ» :
(7/192)
 
 
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا الْآيَةَ [58 \ 16 - 17] .
وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْهَا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا، وَهِيَ كَوْنُهُمْ لَا تَنْفَعُهُمُ الْمَعْبُودَاتُ الَّتِي اتَّخَذُوهَا أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ - فَقَدْ أَوْضَحَهَا - تَعَالَى - فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «هُودٍ» : وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ