أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 005

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب : أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
المؤلف : محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (المتوفى : 1393هـ)
 
وَالْفَرَقُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ.
فَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ: مُبِيِّنَةٌ غَايَةَ الْبَيَانِ آيَةَ الْفِدْيَةِ، مُوَضِّحَةٌ: أَنَّ الصِّيَامَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَنَّ الصَّدَقَةَ فِيهَا ثَلَاثَةُ آصُعٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ، وَأَنَّ النُّسُكَ فِيهَا مَا تَيَسَّرَ شَاةٌ فَمَا فَوْقَهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، كَمَا هُوَ نَصُّ الْآيَةِ، وَالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ ; لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ.
وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ الْحَسَنِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَعِكْرِمَةَ، وَنَافِعٍ: أَنَّ الصِّيَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَالصَّدَقَةَ عَلَى عَشْرَةِ مَسَاكِينَ - خِلَافُ الصَّوَابِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَنَّ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: مِنْ أَنَّهُ يُجْزِئُ نِصْفُ صَاعٍ مِنَ الْبُرِّ خَاصَّةً لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَأَمَّا غَيْرُ الْبُرِّ كَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ مَثَلًا، فَلَا بُدَّ مِنْ صَاعٍ كَامِلٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ - خِلَافُ الصَّوَابِ أَيْضًا لِمُخَالَفَتِهِ لِلرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا. وَأَنَّ مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ أَوَّلًا النُّسُكُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نُسُكًا، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ - خِلَافُ الصَّوَابِ أَيْضًا، لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَهِيَ وَاضِحَةٌ صَرِيحَةٌ فِي التَّخْيِيرِ.
وَمِنْ أَصَرَحِهَا فِي التَّخْيِيرِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «إِنْ شِئْتَ فَانْسُكْ نَسِيكَةً، وَإِنْ شِئْتَ فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ» ، اهـ. فَصَرَاحَةُ هَذَا فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ كَمَا تَرَى. وَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ الْجَزَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْرِمًا، فَآذَاهُ الْقَمْلُ فِي رَأْسِهِ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: «صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ، أَيَّ ذَلِكَ فَعَلْتَ أَجْزَأَ عَنْكَ» انْتَهَى مِنَ «الْمُوَطَّأِ» .
وَقَوْلُهُ: «أَيَّ ذَلِكَ فَعَلْتَ أَجْزَأَ عَنْكَ» صَرِيحٌ فِي التَّخْيِيرِ كَمَا تَرَى، مَعَ أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، وَالرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ لِصَرَاحَةِ لَفْظَةِ، أَوْ فِي التَّخْيِيرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَّا حُكْمَهُ الْآنَ: هُوَ حَلْقُ جَمِيعِ شَعْرِ الرَّأْسِ، أَمَّا حَلْقُ بَعْضِ شَعْرِ الرَّأْسِ، أَوْ شَعْرِ بَاقِي الْجَسَدِ غَيْرِ الرَّأْسِ، فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
(5/40)
 
 
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ النُّسُكَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ: بَقَرَةٌ، يُجَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ، وَالْجَوَابَ عَنْهَا.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَخْبَرَهُ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وَكَانَ قَدْ أَصَابَهُ فِي رَأْسِهِ أَذًى، فَحَلَقَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَهْدِيَ هَدْيًا بَقَرَةً. انْتَهَى مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» بَعْدَ أَنْ أَشَارَ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ: هَذَا وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَلَقَ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ رَأْسَهُ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَفْتَدِيَ فَافْتَدَى بِبَقَرَةٍ.
وَلِعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: افْتَدَى كَعْبٌ مِنْ أَذًى كَانَ فِي رَأْسِهِ، فَحَلَقَهُ - بِبَقَرَةٍ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا.
وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ نَافِعٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قِيلَ لِابْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: مَا صَنَعَ أَبُوكَ حِينَ أَصَابَهُ الْأَذَى فِي رَأْسِهِ؟ قَالَ: ذَبْحَ بَقَرَةً. انْتَهَى مِنَ «الْفَتْحِ» . ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّهَا تَدُورُ عَلَى نَافِعٍ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي الْوَاسِطَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَعْبٍ، وَقَدْ عَارَضَهَا مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهَا، مِنْ أَنَّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ كَعْبٌ وَفَعَلَهُ إِنَّمَا هُوَ شَاةٌ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ ذَبَحَ شَاةً لِأَذًى كَانَ أَصَابَهُ، وَهَذَا أَصْوَبُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَاعْتَمَدَ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى رِوَايَةِ نَافِعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ فَقَالَ: أَخَذَ كَعْبٌ بِأَرْفَعِ الْكَفَّارَاتِ، وَلَمْ يُخَالِفِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ ذَبْحِ الشَّاةِ، بَلْ وَافَقَهُ، وَزَادَ. فَفِيهِ: أَنَّ مَنْ أَفْتَى بِأَيْسَرِ الْأَشْيَاءِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَرْفَعِهَا، كَمَا فَعَلَ كَعْبٌ.
قُلْتُ: هُوَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَثْبُتْ لِمَا قَدَّمْتُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ.
وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْهُ الرِّوَايَاتِ الْمَقْضِيَّةَ: أَنَّ النُّسُكَ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ الْمَذْكُورَةِ بَقَرَةٌ، وَأَنَّ الْجَوَابَ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: عَدَمُ ثُبُوتِ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ بِالْبَقَرَةِ، وَمُعَارَضَتُهَا بِمَا هُوَ صَحِيحٌ ثَابِتٌ مِنْ أَنَّ النُّسُكَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ شَاةٌ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ ثَابِتَةٌ، فَهِيَ لَا تُعَارِضُ الرِّوَايَاتِ
(5/41)
 
 
الصَّحِيحَةَ الدَّالَّةَ، عَلَى أَنَّ النُّسُكَ الْمَذْكُورَ: شَاةٌ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّازِمَ هُوَ الشَّاةُ، وَالتَّطَوُّعُ بِالْبَقَرَةِ تَطَوُّعٌ بِأَكْثَرَ مِنَ اللَّازِمِ. وَلَا مَانِعَ مِنَ التَّطَوُّعِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَلْزَمُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمَهُ: هُوَ حَلْقُ الرَّأْسِ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ، أَوْ أَذًى فِي الرَّأْسِ كَكَثْرَةِ الْقَمْلِ فِيهِ، كَمَا هُوَ مَوْضُوعُ آيَةِ الْفِدْيَةِ، وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَا.
أَمَّا إِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ قَبْلَ وَقْتِ الْحَلْقِ لِغَيْرِ عُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يَلْزَمُهُ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّ الْفِدْيَةَ فِي الْعَمْدِ بِلَا عُذْرٍ، حُكْمُهَا حُكْمُ الْفِدْيَةِ لِعُذْرِ الْمَرَضِ، أَوِ الْأَذَى فِي الرَّأْسِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ، إِلَّا فِي الْإِثْمِ، فَإِنَّ الْمَعْذُورَ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَا عُذْرَ لَهُ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ الْمَذْكُورَةُ مَعَ الْإِثْمِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الثَّوْرِيِّ.
وَعَنِ الْحَنَابِلَةِ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَى مَنْ حَلَقَ نَاسِيًا إِحْرَامَهُ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَاحْتَجُّوا بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعُذْرِ بِالنِّسْيَانِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ حَلَقَ لِعُذْرٍ وَمَنْ حَلَقَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ حَلَقَهُ لِعُذْرٍ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، وِفَاقًا لِلْجُمْهُورِ، وَإِنْ كَانَ حَلَقَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الدَّمُ دُونَ الصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ، وَلَا أَعْلَمُ لِأَقْوَالِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصًّا وَاضِحًا يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ.
أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ فِدْيَةَ غَيْرِ الْمَعْذُورِ كَفِدْيَةِ الْمَعْذُورِ، فَاحْتَجُّوا، بِأَنَّ الْحَلْقَ إِتْلَافٌ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ كَقَتْلِ الصَّيْدِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِأَذًى بِهِ وَهُوَ مَعْذُورٌ، فَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى غَيْرِ الْمَعْذُورِ، اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ وَأَمْثَالِهِ لَيْسَ فِيهِ مَقْنَعٌ.
وَأَمَّا الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ فَاسْتَدَلُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ قَالُوا: فَرَتَّبَ الْفِدْيَةَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى الْعُذْرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ عُذْرٌ، لَا يَكُونُ لَهُ هَذَا الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَى الْعُذْرِ خَاصَّةً.
وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَجِلَّاءِ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى اسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيَّةِ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنَّهُ قَوْلٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ: يَعْنِي مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ، وَالْمُقَرَّرُ فِي أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ: عَدَمُ الِاحْتِجَاجِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ.
(5/42)
 
 
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: لَا يَلْزَمُ الْحَنَفِيَّةَ احْتِجَاجُ الشَّافِعِيَّةِ الْمَذْكُورُ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: نَعَمْ نَحْنُ لَا نَعْتَبِرُ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ، وَلَكِنْ نَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِحُكْمِ الْحَالِقِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، لَا بِنَفْيِ الْفِدْيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَا بِإِثْبَاتِهَا، وَقَدْ ظَهَرَ لَنَا مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ خَارِجٍ عَنِ الْآيَةِ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دَمٌ، اهـ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ صِيَامَ الْفِدْيَةِ لَهُ أَنْ يَصُومَهُ حَيْثُ شَاءَ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي النُّسُكِ، وَالصَّدَقَةِ أَيْضًا أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُمَا حَيْثُ شَاءَ ; لِأَنَّ فِدْيَةَ الْأَذَى أَشْبَهُ بِالْكَفَّارَةِ مِنْهَا بِالْهَدْيِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ لِلْفِدْيَةِ مَحَلًّا مُعَيَّنًا، وَلَمْ يَذْكُرْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمَّاهَا نُسُكًا وَلَمْ يُسَمِّهَا هَدْيًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَنْوِيَ بِالنُّسُكِ الْمَذْكُورِ الْهَدْيَ، فَيَجْرِيَ عَلَى حُكْمِ الْهَدْيِ، فَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ، كَمَا قَالَهُ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَخْتَصُّ النُّسُكُ الْمَذْكُورُ بِالْحَرَمِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
أَمَّا إِذَا كَانَ الَّذِي حَلَقَهُ بَعْضَ شَعْرِ رَأْسِهِ لَا جَمِيعَهُ، أَوْ كَانَ شَعْرَ جَسَدِهِ أَوْ بَعْضَهُ، لَا شَعْرَ الرَّأْسِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إِجْمَاعٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا إِنَّمَا ذَكَرَ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ: حَلْقَ الرَّأْسَ، وَظَاهِرُهَا حَلْقُ جَمِيعِهِ لَا بَعْضِهِ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَظْهَرْ لَنَا فِي مُسْتَنَدَاتِ أَقْوَالِهِمْ مَا فِيهِ مَقْنَعٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
فَذَهَبَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ ضَابِطَ مَا تَلْزَمُ بِهِ فِدْيَةُ الْأَذَى مِنَ الْحَلْقِ هُوَ حُصُولُ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْصُلَ لَهُ بِذَلِكَ تَرَفُّهٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُزِيلَ عَنْهُ بِهِ أَذًى. أَمَّا حَلْقُ الْقَلِيلِ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ، أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَحْصُلُ بِهِ تَرَفُّهٌ، وَلَا إِمَاطَةُ أَذًى، فَيَلْزَمُ فِيهِ التَّصَدُّقُ بِحَفْنَةٍ: وَهِيَ يَدٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمُ الظُّفْرُ الْوَاحِدُ لَا لِإِمَاطَةِ أَذًى، وَقَتْلُ الْقَمْلَةِ أَوِ الْقَمَلَاتِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: مَا سَمِعْتُ بِحَدٍّ فِيمَا دُونَ إِمَاطَةِ الْأَذَى أَكْثَرَ مِنْ حَفْنَةٍ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَقَدْ قَالَ فِي قَمْلَةٍ أَوْ قَمَلَاتٍ: حَفْنَةٌ مِنْ طَعَامٍ، وَالْحَفْنَةُ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ. انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَفِي الظُّفْرُ الْوَاحِدُ، لَا لِإِمَاطَةِ الْأَذَى حَفْنَةٌ، اهـ.
(5/43)
 
 
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: إِلَى أَنَّ حَلْقَ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا تَلْزَمُ فِيهِ فِدْيَةُ الْأَذَى كَامِلَةً، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الثَّلَاثَ: يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، فَكَانَ حَلْقُهَا كَحَلْقِ الْجَمِيعِ، وَهَذَا الْقَوْلُ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَالَ الْقَاضِي: إِنَّهَا الْمَذْهَبُ، وَبِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي. أَمَّا حَلْقُ الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ، أَوِ الشَّعْرَتَيْنِ فَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَصَحُّهَا عِنْدَ مُحَقِّقِيهِمْ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ: أَنَّهُ يَجِبُ فِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ مُدٌّ وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ مُدَّانِ.
الثَّانِي: يَجِبُ فِي شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ دِرْهَمٌ، وَفِي شَعْرَتَيْنِ دِرْهَمَانِ.
الثَّالِثُ: يَجِبُ فِي شَعْرَةٍ ثُلُثُ دَمٍ وَفِي شَعْرَتَيْنِ ثُلُثَاهُ.
الرَّابِعُ: أَنْ فِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ دَمًا كَامِلًا. وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ كَامِلَةً فِي أَرْبَعِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا الْخِرَقِيُّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَرِيبًا الرِّوَايَةَ عَنْهُ بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ بِثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا. أَمَّا مَا هُوَ أَقَلُّ مِنَ الْقَدْرِ الَّذِي يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، وَهُوَ ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ، أَوْ شَعْرَتَانِ بِحَسَبِ الرِّوَايَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فَفِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ: مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ: مُدَّانِ، وَعَنْهُ أَيْضًا فِي كُلِّ شَعْرَةٍ: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَطَاءٍ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِنْ حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ، أَوْ رُبُعَ لِحْيَتِهِ، أَوْ حَلَقَ عُضْوًا كَامِلًا كَرَقَبَتِهِ، أَوْ عَانَتِهِ أَوْ أَحَدِ إِبِطَيْهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ: لَزِمَتْهُ فِدْيَةُ الْأَذَى، إِنْ كَانَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ: لَزِمَهُ دَمٌ، وَيَلْزَمُ عِنْدَهُ فِي حَلْقِ أَقَلَّ مِمَّا ذُكِرَ كَحَلْقِ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ الرَّأْسِ، أَوْ رُبُعِ اللِّحْيَةِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ كَامِلٍ صَدَقَةٌ، وَالصَّدَقَةُ عِنْدَهُمْ: نِصْفُ صَاعٍ مَنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعٌ مَنْ غَيْرِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّ فِي كُلِّ شَعْرَةٍ قَبْضَةً مِنْ طَعَامٍ كَمَا ذَكَرَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي.
وَأَمَّا حَلْقُ شَعْرِ الْبَدَنِ غَيْرَ الرَّأْسِ، فَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ: أَنَّهُ إِنْ حَلَقَ عُضْوًا كَامِلًا فَفِيهِ الْفِدْيَةُ أَوِ الدَّمُ، وَإِنْ حَلَقَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ، فَفِيهِ الصَّدَقَةُ، وَأَنَّ حُكْمَ اللِّحْيَةِ عِنْدَهُ كَحُكْمِ الرَّأْسِ، وَحَلْقُ الرُّبُعِ فِيهِمَا كَحَلْقِ الْجَمِيعِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حَلْقَ شَعْرِ الْجَسَدِ غَيْرَ الرَّأْسِ كَحُكْمِ حَلْقِ الرَّأْسِ، فَتَلْزَمُ الْفِدْيَةُ
(5/44)
 
 
فِي ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْجَسَدِ، وَفِي الشَّعْرَةِ، أَوِ الشَّعْرَتَيْنِ مِنَ الْجَسَدِ عِنْدَهُمُ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَإِنْ حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ وَشَعْرَ بَدَنِهِ مَعًا، لَزِمَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِ: فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، خِلَافًا لِأَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ الْقَائِلِ: يَلْزَمُهُ فِدْيَتَانِ، مُحْتَجًّا بِأَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ مُخَالِفٌ لِشَعْرِ الْبَدَنِ ; لِأَنَّ النُّسُكَ يَتَعَلَّقُ بِشَعْرِ الرَّأْسِ، فَيَلْزَمُ حَلْقُهُ، أَوْ تَقْصِيرُهُ بِخِلَافِ شَعْرِ الْبَدَنِ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا فِي النُّسُكِ فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ: فَأَجْزَأَتْ لَهُمَا فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَشَعْرُ الرَّأْسِ وَشَعْرُ الْبَدَنِ حُكْمُهُمَا عِنْدَهُ سَوَاءٌ. وَإِنْ حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ وَبَدَنِهِ: فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دَمَانِ، إِذَا حَلَقَ مِنْ كُلٍّ مِنَ الرَّأْسِ، وَالْجَسَدِ مَا تَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ مُنْفَرِدًا عَنِ الْآخَرِ كَقَوْلِ الْأَنْمَاطِيِّ الْمُتَقَدِّمِ.
قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَابْنُ عَقِيلٍ ; لِأَنَّ الرَّأْسَ يُخَالِفُ الْبَدَنَ، بِحُصُولِ التَّحَلُّلِ بِهِ دُونَ الْبَدَنِ، وَلَنَا أَنَّ الشَّعْرَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي الْبَدَنِ، فَلَمْ تَتَعَدَّدِ الْفِدْيَةُ فِيهِ بِاخْتِلَافِ مَوَاضِعِهِ كَسَائِرِ الْبَدَنِ، وَكَاللِّبَاسِ، وَدَعْوَى الِاخْتِلَافِ تَبْطُلُ بِاللِّبَاسِ فَإِنَّهُ يَجِبُ كَشْفُ الرَّأْسِ، دُونَ غَيْرِهِ، وَالْجَزَاءُ فِي اللُّبْسِ فِيهِمَا وَاحِدٌ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» أَيْضًا: وَإِنْ حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ شَعْرَتَيْنِ، وَمِنْ بَدَنِهِ شَعْرَتَيْنِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ، وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ شَعْرَ الْبَدَنِ كَشَعْرِ الرَّأْسِ، فَإِنْ حَلَقَ مِنْ شَعْرِ بَدَنِهِ مَا فِيهِ تَرَفُّهٌ، أَوْ إِمَاطَةُ أَذًى: لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، وَإِلَّا فَالتَّصَدُّقُ بِحَفْنَةٍ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ.
وَسُئِلَ مَالِكٌ: عَنِ الْمُحْرِمِ يَتَوَضَّأُ فَيُمِرُّ يَدَيْهِ عَلَى وَجْهِهِ، أَوْ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ فِي الْوُضُوءِ، أَوْ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي أَنْفِهِ لِمُخَاطٍ يَنْزِعُهُ، أَوْ يَمْسَحُ رَأْسَهُ، أَوْ يَرْكَبُ دَابَّتَهُ، فَيَحْلِقُ سَاقَهُ الْإِكَافُ أَوِ السَّرْجُ؟ قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ شَيْءٌ، وَهَذَا خَفِيفٌ، وَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهُ. انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْحَطَّابِ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ: وَتَسَاقُطُ شَعْرٍ لِوُضُوءٍ أَوْ رُكُوبٍ، اهـ.
وَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي شَعْرِ الْجَسَدِ. فَاعْلَمْ أَنِّي لَا أَعْلَمُ لِشَيْءٍ مِنْهَا مُسْتَنَدًا مِنْ نَصِّ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ.
(5/45)
 
 
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ قَاسُوا شَعْرَ الْجَسَدِ عَلَى شَعْرِ الرَّأْسِ، بِجَامِعِ أَنَّ الْكُلَّ قَدْ يَحْصُلُ بِحَلْقِهِ التَّرَفُّهُ، وَالتَّنَظُّفُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ اجْتِهَادَهُمْ فِي حَلْقِ بَعْضِ شَعْرِ الرَّأْسِ يُشْبِهُ بَعْضَ أَنْوَاعِ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
 
الْفَرْعُ الرَّابِعَ عَشَرَ فِي حُكْمِ قَصِّ الْمُحْرِمِ أَظَافِرَهُ أَوْ بَعْضَهَا
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّهُ إِنْ قَلَّمَ ظُفْرَيْنِ فَصَاعِدًا: لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ مُطْلَقًا، وَإِنْ قَلَّمَ ظُفْرًا وَاحِدًا، لِإِمَاطَةِ أَذًى عَنْهُ: لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ أَيْضًا، وَإِنْ قَلَّمَهُ لَا لِإِمَاطَةِ أَذًى: لَزِمَهُ إِطْعَامُ حَفْنَةٍ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ.
قَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابُ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَفِي الظُّفْرِ الْوَاحِدِ لَا لِإِمَاطَةِ الْأَذَى حَفْنَةٌ، مَا نَصُّهُ: أَمَّا لَوْ قَلَّمَ ظُفْرَيْنِ فَلَمْ أَرَ فِي ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَالتَّوْضِيحِ، وَابْنِ فَرْحُونَ فِي شَرْحِهِ، لَا وَمَنَاسِكِهِ وَابْنِ عَرَفَةَ، وَالتَّادِلِيِّ، وَالطَّرَّازِ وَغَيْرِهِمْ خِلَافًا فِي لُزُومِ الْفِدْيَةِ، وَلَمْ يُفَصِّلُوا كَمَا فَصَّلُوا فِي الظُّفْرِ الْوَاحِدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مِنْهُ.
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّ الظُّفْرَ إِذَا انْكَسَرَ جَازَ أَخْذُهُ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ بَعْدَ الْكَسْرِ لَا يَنْمُو فَهُوَ كَحَطَبِ شَجَرِ الْحَرَمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّ حُكْمَ الْأَظْفَارِ كَحُكْمِ الشِّعْرِ، فَإِنْ قَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَظْفَارٍ فَصَاعِدًا، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ كَامِلَةٌ، وَأَظْفَارُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنْ قَلَّمَ ظُفْرًا وَاحِدًا أَوْ ظُفْرَيْنِ فَفِيهِ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ فِيمَنْ حَلَقَ شَعْرَةً وَاحِدَةً أَوْ شَعْرَتَيْنِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَصَحَّهَا عِنْدَهُمْ أَنَّ فِي الشَّعْرَةِ مُدًّا، وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ: مُدَّيْنِ، وَبَاقِي الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ مُوَضَّحٌ قَرِيبًا وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الْأَظْفَارِ كَمَذْهَبِهِ فِي الشَّعْرِ، فَفِي أَرْبَعَةِ أَظْفَارٍ، أَوْ ثَلَاثَةٍ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: فِدْيَةٌ كَامِلَةٌ، وَحُكْمُ الظُّفْرِ الْوَاحِدِ كَحُكْمِ الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَحُكْمُ الظُّفْرَيْنِ كَحُكْمِ الشَّعْرَتَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مُوَضَّحًا قَرِيبًا.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ لَوْ قَصَّ أَظْفَارَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ جَمِيعًا بِمَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ قَصَّ أَظْفَارَ يَدٍ وَاحِدَةٍ كَامِلَةً فِي مَجْلِسٍ، أَوْ رِجْلٍ كَذَلِكَ لَزِمَهُ الدَّمُ، وَإِنْ قَطَعَ مَثَلًا خَمْسَةَ أَظْفَارٍ ثَلَاثَةً مِنْ يَدٍ وَاثْنَانِ مِنْ رِجْلٍ، أَوْ يَدٍ أُخْرَى، أَوْ عَكْسَ ذَلِكَ: فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَهِيَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ عَنْ كُلِّ ظُفْرٍ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي بَابِ الْفِدْيَةِ: أَنَّ مَا كَانَ لِعُذْرٍ فَفِيهِ فِدْيَةُ الْأَذَى الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ، وَمَا كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِيهِ الدَّمُ، كَمَا تَقَدَّمَ. أَمَّا لَوْ
(5/46)
 
 
قَصَّ أَظْفَارَ إِحْدَى يَدَيْهِ، أَوْ رِجْلَيْهِ فِي مَجْلِسٍ، وَالْأُخْرَى فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ: يَتَعَدَّدُ الدَّمُ، حَتَّى إِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَلْزَمَهُ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ لِلرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ، إِذَا كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي مَجْلِسٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا دَمٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ تَعَدَّدَتِ الْمَجَالِسُ إِلَّا إِذَا تَخَلَّلَتِ الْكَفَّارَةُ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَوْ قَصَّ أَظَافِرَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّدَقَةُ عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ زُفَرُ: يَجِبُ الدَّمُ بِقَصِّ ثَلَاثَةِ أَظْفَارٍ مِنَ الْيَدِ أَوْ مِنَ الرِّجْلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ، بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الْأَكْثَرِ، وَالثَّلَاثَةُ أَكْثَرُ مِنَ الْبَاقِي بَعْدَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَمْسَةِ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ أَظْفَارِهِ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ بِأَخْذِهَا فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَعَنْهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ بِفِدْيَةٍ، وَلَمْ يَعْتَبِرِ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي حِكَايَتِهِ الْإِجْمَاعَ قَوْلَ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ: إِنَّ الْمُحْرِمَ لَهُ أَنْ يَقُصَّ أَظْفَارَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ النَّصِّ، وَفِي اعْتِبَارِ دَاوُدَ فِي الْإِجْمَاعِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ اعْتِبَارُهُ فِي الْإِجْمَاعِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» : وَلَنَا أَنَّهُ أَزَالَ مَا مُنِعَ إِزَالَتُهُ لِأَجْلِ التَّرَفُّهِ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ كَحَلْقِ الشَّعْرِ، وَعَدَمُ النَّصِّ فِيهِ لَا يَمْنَعُ قِيَاسَهُ. كَشَعْرِ الْبَدَنِ مَعَ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَالْحُكْمُ فِي فِدْيَةِ الْأَظْفَارِ كَالْحُكْمِ فِي فِدْيَةِ الشِّعْرِ سَوَاءٌ، فِي أَرْبَعَةٍ مِنْهَا دَمٌ. وَعَنْهُ فِي ثَلَاثَةٍ دَمٌ، وَفِي الظُّفْرِ الْوَاحِدِ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ وَفِي الظُّفْرَيْنِ: مُدَّانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ فِيهِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ كَذَلِكَ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَإِذَا عَرَفْتَ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ فِي حُكْمِ قَصِّ الْمُحْرِمِ أَظْفَارَهُ، وَمَا يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنِّي لَا أَعْلَمُ لِأَقْوَالِهِمْ مُسْتَنَدًا مِنَ النُّصُوصِ، إِلَّا مَا ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ، مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ أَظْفَارِهِ، أَمَّا لُزُومُ الْفِدْيَةِ، فَلَمْ يَدَّعِ فِيهِ إِجْمَاعًا، وَإِلَّا مَا جَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، مِنْ تَفْسِيرِ آيَةِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنْ أَخْذِ أَظْفَارِهِ كَمَنْعِهِ مِنْ حَلْقِ شَعْرِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ الْآيَةَ [22 \ 29] .
قَالَ صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ» : وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قَالَ: «يَعْنِي
(5/47)
 
 
بِالتَّفَثِ: وَضْعَ إِحْرَامِهِمْ مِنْ حَلْقِ الرَّأْسِ، وَلُبْسِ الثِّيَابِ، وَقَصِّ الْأَظْفَارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ» .
وَقَالَ أَيْضًا: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: التَّفَثُ: حَلْقُ الْعَانَةِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَالْأَخْذُ مِنَ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، اهـ. وَنَحْوُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ وَإِنْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْآيَةَ بِغَيْرِهِ.
وَعَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى: أَنَّ الْأَظْفَارَ كَالشَّعْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُحْرِمِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ بِـ «ثُمَّ» عَلَى نَحْرِ الْهَدَايَا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ اسْمِهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ نَحْرِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ وَقَصَّ الْأَظَافِرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ النَّحْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [2 \ 196] ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ مَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. كَمَا بَيَّنَّاهُ مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَيُؤَيِّدُ التَّفْسِيرَ الْمَذْكُورَ الدَّالَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا كَلَامُ أَهْلِ اللُّغَةِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: التَّفَثُ فِي الْمَنَاسِكِ: مَا كَانَ مِنْ نَحْوِ قَصِّ الْأَظْفَارِ، وَالشَّارِبِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ، وَالْعَانَةِ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَنَحْرِ الْبُدْنِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَلَمْ يَجِئْ فِيهِ شِعْرٌ يُحْتَجُّ بِهِ انْتَهَى مِنْهُ.
قَالَ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» : التَّفَثُ مُحَرَّكَةٌ فِي الْمَنَاسِكِ: الشَّعَثُ، وَمَا كَانَ مِنْ نَحْوِ قَصِّ الْأَظْفَارِ، وَالشَّارِبِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَكَتِفِ الشَّعِثِ وَالْمُغْبَرِّ، اهـ.
وَقَالَ صَاحِبُ «اللِّسَانِ» : التَّفَثُ: نَتْفُ الشَّعْرِ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، إِلَخْ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى التَّفَثِ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ غَرِيبَةٌ لَمْ يَجِدْ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِيهَا شِعْرًا، وَلَا أَحَاطُوا بِهَا خُبْرًا، لَكِنِّي تَتَبَّعْتُ التَّفَثَ لُغَةً فَرَأَيْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ مَعْمَرَ بْنَ الْمُثَنَّى قَالَ: إِنَّهُ قَصُّ الْأَظْفَارِ وَأَخْذُ الشَّارِبِ، وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ إِلَّا النِّكَاحَ، وَلَمْ يَجِئْ فِيهِ شِعْرٌ يُحْتَجُّ بِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْعَيْنِ» : التَّفَثُ: هُوَ الرَّمْيُ وَالْحَلْقُ، وَالتَّقْصِيرُ، وَالذَّبْحُ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَالشَّارِبِ، وَالْإِبِطِ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ نَحْوَهُ، وَلَا أَرَاهُمْ أَخَذُوهُ إِلَّا مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ قُطْرُبٌ: تَفَثَ الرَّجُلُ: إِذَا كَثُرَ وَسَخُهُ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
(5/48)
 
 
حَلَقُوا رُءُوسَهُمْ لَمْ يَحْلِقُوا تَفَثًا ... وَلَمْ يُسِلُّوا لَهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانًا
وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قُطْرُبٌ هُوَ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي التَّفَثِ، وَهَذِهِ صُورَةُ إِلْقَاءِ التَّفَثِ لُغَةً، إِلَى أَنْ قَالَ: قُلْتُ: مَا حَكَاهُ عَنْ قُطْرُبٍ، وَذَكَرَ مِنَ الشِّعْرِ قَدْ ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَذَكَرَ بَيْتًا آخَرَ فَقَالَ: قَضَوْا تَفَثًا وَنَحْبًا ثُمَّ سَارُوا إِلَى نَجْدٍ وَمَا انْتَظَرُوا عَلِيًا
وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَأَصْلُ التَّفَثِ فِي اللُّغَةِ: الْوَسَخُ، تَقُولُ الْعَرَبُ لِلرَّجُلِ تَسْتَقْذِرُهُ: مَا أَتْفَثَكَ أَيْ: مَا أَوْسَخَكَ وَأَقْذَرَكَ.
قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
سَاخِينَ آبَاطَهُمْ لَمْ يَقْذِفُوا تَفَثًا ... وَيَنْزِعُوا عَنْهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانًا
انْتَهَى مِنَ الْقُرْطُبِيِّ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: سَاخِينَ آبَاطَهُمُ. . الْبَيْتَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: سَخَا يَسْخُو سَخْوًا إِذَا سَكَنَ مِنْ حَرَكَتِهِ: يَعْنِي: أَنَّهُمْ سَاكِنُونَ عَنِ الْحَرَكَةِ إِلَى آبَاطِهِمْ بِالْحَلْقِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ:
. . . لَمْ يَقْذِفُوا تَفَثًا ... وَيَنْزِعُوا عَنْهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانًا
 
الْفَرْعُ الْخَامِسَ عَشَرَ: قَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ مَسْأَلَةُ مَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِسَبَبِ إِحْرَامِهِ، مَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ مِنْ لُبْسِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَلْبُوسِ، وَسَنَذْكُرُ فِي هَذَا الْفَرْعِ مَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ لَبِسَ شَيْئًا مِمَّا قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ مُخْتَارًا عَامِدًا، أَثِمَ بِذَلِكَ، وَلَزِمَتْهُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى إِزَالَتِهِ وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، سَوَاءٌ قَصُرَ زَمَانُ اللُّبْسِ أَوْ طَالَ، لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا دَلِيلَ عِنْدَهُمْ لِلُزُومِ الْفِدْيَةِ فِي ذَلِكَ، إِلَّا الْقِيَاسُ عَلَى حَلْقِ الرَّأْسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ، وَاللُّبْسُ الْحَرَامُ الْمُوجِبُ لِلْفِدْيَةِ عِنْدَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يُعْتَادُ فِي كُلِّ مَلْبُوسٍ، فَلَوِ الْتَحَفَ بِقَمِيصٍ أَوْ قَبَاءٍ، أَوِ ارْتَدَى بِهِمَا، أَوِ ائْتَزَرَ سَرَاوِيلَ: فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لُبْسًا لَهُ فِي الْعَادَةِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ كَمَنْ لَفَّقَ إِزَارًا مِنْ خِرَقٍ وَطَبَقَتِهَا وَخَاطَهَا: فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا لَوِ الْتَحَفَ بِقَمِيصٍ أَوْ بِعَبَاءَةٍ أَوْ إِزَارٍ وَنَحْوِهَا وَلَفَّهَا عَلَيْهِ طَاقًا أَوْ طَاقَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ فَلَا فِدْيَةَ، وَسَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ فِي النَّوْمِ أَوِ الْيَقَظَةِ،
(5/49)
 
 
قَالَهُ النَّوَوِيُّ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَهُ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْمُصْحَفَ وَحَمَائِلَ السَّيْفِ، وَأَنْ يَشُدَّ الْهِمْيَانَ وَالْمِنْطَقَةَ فِي وَسَطِهِ، وَيَلْبَسَ الْخَاتَمَ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ هَذَا كُلِّهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْمِنْطَقَةِ وَالْهِمْيَانِ مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً، إِلَّا ابْنَ عُمَرَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَكَرِهَهُمَا، وَبِهِ قَالَ نَافِعٌ مَوْلَاهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ كَوْنِ جَوَازِ شَدِّ الْمِنْطَقَةِ وَالْهِمْيَانِ فِي وَسَطِهِ، هُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً، إِلَّا ابْنَ عُمَرَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ - فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ: مَنْعُ شَدِّ الْمِنْطَقَةِ وَالْهِمْيَانِ، فَوْقَ الْإِزَارِ مُطْلَقًا، وَتَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ عِنْدَهُمْ. أَمَّا شَدُّ الْمِنْطَقَةِ مُبَاشِرَةً لِلْجِلْدِ تَحْتَ الْإِزَارِ، فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ، بِشَرْطِ كَوْنِهِ يُرِيدُ بِذَلِكَ حِفْظَ نَفَقَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ إِلَّا تَحْتَ الْإِزَارِ، لِضَرُورَةِ حِفْظِ النَّفَقَةِ خَاصَّةً، وَإِلَّا فَتَجِبُ الْفِدْيَةُ، وَشَدُّ الْمِنْطَقَةِ لِغَيْرِ النَّفَقَةِ تَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ أَيْضًا، عِنْدَ أَحْمَدَ. وَالْهِمْيَانُ قَرِيبٌ مِمَّا تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ الْيَوْمَ: بِالْكَمَرِ.
قَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابُ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ: وَشَدُّ مِنْطَقَةٍ لِنَفَقَتِهِ عَلَى جِلْدِهِ. قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ فِي «شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ» : الْمِنْطَقَةُ: الْهِمْيَانُ، وَهُوَ مِثْلُ الْكِيسِ تُجْعَلُ فِيهِ الدَّرَاهِمُ، اهـ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِشَدِّ الْمِنْطَقَةِ لِحِفْظِ النَّفَقَةِ، وَمَا فِي «الْمُغْنِي» مَنْ رَفَعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمَرْفُوعُ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَفِي إِسْنَادِهِ يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَهُ فِي: «مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ» ، وَقَالَ فِي: «التَّقْرِيبِ» فِي يُوسُفَ الْمَذْكُورِ: تَرَكُوهُ، وَكَذَّبُوهُ.
وَإِذَا عَلِمْتَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ اللُّبْسَ الْحَرَامَ عَلَى الْمُحْرِمِ، تَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ اللَّحْظَةِ وَالزَّمَنِ الطَّوِيلِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَهُمْ، وَبِهِ جَزَمَ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّ اللَّازِمَ فِي ذَلِكَ هُوَ فِدْيَةُ الْأَذَى الْمَذْكُورَةُ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ. وَدَلِيلُهُمُ الْقِيَاسُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَهُمْ طَرِيقَانِ غَيْرَ هَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ إِحْدَاهُمَا، وَذَكَرَهَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الْإِيضَاحِ، وَآخَرُونَ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالْمُتَمَتِّعِ، فَيَلْزَمُهُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ قَوَّمَهُ دَرَاهِمَ، وَقَوَّمَ الدَّرَاهِمَ طَعَامًا، ثُمَّ
(5/50)
 
 
يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا.
الطَّرِيقُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ عِنْدَهُمْ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا أَنَّهُ كَالْحَلْقِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّرَفُّهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ شَاةٍ، وَبَيْنَ تَقْوِيمِهَا، وَيُخْرِجُ قِيمَتَهَا طَعَامًا، وَيَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا.
الثَّالِثُ: تَجِبُ شَاةٌ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا، لَزِمَهُ الطَّعَامُ بِقِيمَتِهَا.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ كَالْمُتَمَتِّعِ. انْتَهَى مِنَ النَّوَوِيِّ.
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ اللُّبْسَ الْحَرَامَ تَلْزَمُ فِيهِ فِدْيَةُ الْأَذَى، وَهَذَا حَاصِلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّ الْفِدْيَةَ تَجِبُ بِقَلِيلِ اللُّبْسِ وَكَثِيرِهِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَيَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِ: لِلرَّجُلِ الْمُحْرِمِ سَتْرُ وَجْهِهِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْبَيَاضِ الَّذِي وَرَاءَ الْآذَانِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: يَعْنِي جَوَازَ سَتْرِ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا يَجُوزُ كَرَأْسِهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ أَرْجَحُ عِنْدِي كَمَا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي خَرَّ مِنْ بَعِيرِهِ، فَمَاتَ: «لَا وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ» وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ كَوْنُهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا.
فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَى أَنَّ إِحْرَامَ الرَّجُلِ مَانِعٌ مِنْ سَتْرِ وَجْهِهِ، وَمَا أَوَّلَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمُ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، لَيْسَ بِمُقْنِعٍ فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ إِلَيْهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْأَجِلَّاءِ الَّذِينَ خَالَفُوا ظَاهِرَهُ ; لِأَنَّ السُّنَّةَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، وَالْآثَارُ الَّتِي رَوَوْهَا عَنْ عُثْمَانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، لَا يُعَارَضُ بِهَا الْمَرْفُوعُ الصَّحِيحُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالظَّاهِرُ لَنَا: أَنَّ مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: مِنْ جَوَازِ لُبْسِ الْمُحْرِمَةِ الْقُفَّازَيْنِ - خِلَافُ الصَّوَابِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ، وَفِيهِ: «وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» الْحَدِيثَ. وَلَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ صَحِيحٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ يُخَالِفُهُ، وَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، مِنَ النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْمَرْأَةِ الْخُلْخَالَ وَالسُّوَارَ خِلَافُ الصَّوَابِ، وَالظَّاهِرُ: جَوَازُ ذَلِكَ: وَلَا دَلِيلَ يَمْنَعُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(5/51)
 
 
أَمَّا لُبْسُ الرَّجُلِ الْقُفَّازَيْنِ، فَلَمْ يُخَالِفْ فِي مَنْعِهِ أَحَدٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا طَلَى الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِطِينٍ، أَوْ حِنَّاءٍ أَوْ مَرْهَمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ رَقِيقًا لَا يَسْتُرُ فَلَا فِدْيَةَ، وَإِنْ كَانَ ثَخِينًا سَاتِرًا فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ.
وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ سَاتِرًا وَلَوْ تَوَسَّدَ وِسَادَةً، أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، أَوِ انْغَمَسَ فِي مَاءٍ أَوِ اسْتَظَلَّ بِمَحْمَلٍ، أَوْ هَوْدَجٍ، فَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: جَائِزٌ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ، سَوَاءٌ مَسَّ الْمَحْمَلُ رَأْسَهُ أَمْ لَا، وَفِيهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ: أَنَّهُ إِنْ مَسَّ الْمَحْمَلُ رَأَسَهُ، وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ.
وَضَابِطُ مَا تَجِبُ بِهِ الْفِدْيَةُ عِنْدَهُمْ هُوَ: أَنْ يَسْتُرَ مِنْ رَأْسِهِ قَدْرًا يُقْصَدُ سَتْرُهُ، لِغَرَضٍ كَشَدِّ عِصَابَةٍ وَإِلْصَاقِ لُصُوقٍ لِشَجَّةٍ وَنَحْوِهَا، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِنْ شَدَّ خَيْطًا عَلَى رَأْسِهِ لَمْ يَضُرَّهُ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَلَوْ جُرِحَ الْمَحْرِمُ فَشَدَّ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، فَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ فَلَا فِدْيَةَ، وَإِنْ كَانَ فِي الرَّأْسِ، لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ إِحْرَامَ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا فَلَا يَجُوزُ لَهَا سَتْرُهُ بِمَا يُعَدُّ سَاتِرًا، وَلَهَا سَتْرُ وَجْهِهَا عَنِ الرِّجَالِ، وَالْأَظْهَرُ فِي ذَلِكَ: أَنْ تُسْدِلَ الثَّوْبَ عَلَى وَجْهِهَا مُتَجَافِيًا عَنْهُ لَا لَاصِقًا بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنْ يَعْقِدَ الْإِزَارَ وَيَشُدَّ عَلَيْهِ خَيْطَانِ، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُ مِثْلَ الْحُجْزَةِ، وَيُدْخِلَ فِيهَا التِّكَّةَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْإِزَارِ، لَا يَسْتَمْسِكُ إِلَّا بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ لَهُ جَعْلُ حُجْزَةٍ فِي الْإِزَارِ، وَإِدْخَالُ التِّكَّةِ فِيهَا ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ كَالسَّرَاوِيلِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمُ الْأَوَّلُ، وَالْأَخِيرُ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ بِمَنْعِ عَقْدِ الْإِزَارِ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ. أَمَّا عَقْدُ الرِّدَاءِ فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَهُمْ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ خَلُّهُ بِخِلَالٍ، وَرَبْطُ طَرَفِهِ إِلَى طَرَفِهِ الْآخَرِ بِخَيْطٍ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ، وَفِيهِ الْفِدْيَةُ، وَفِيهِ خِلَافٌ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ. وَوَجْهُ تَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ أَنَّ الْإِزَارَ يَحْتَاجُ إِلَى الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الرِّدَاءِ، وَلَوْ حَمَلَ الْمُحْرِمُ عَلَى رَأْسِهِ زِنْبِيلًا، أَوْ حِمْلًا، فَفِي ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ طَرِيقَانِ أَصَحُّهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِهِ السَّتْرَ كَمَا لَا يُمْنَعُ الْمُحْدِثُ مِنْ حَمْلِ الْمُصْحَفِ فِي مَتَاعٍ، اهـ.
وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي جَوَازِ عَقْدِ الْإِزَارِ، وَمَنْعِ عَقْدِ الرِّدَاءِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَيَجُوزُ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنْ يَشُدَّ فِي وَسَطِهِ مِنْدِيلًا أَوْ عِمَامَةً أَوْ حَبْلًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يَعْقِدْهُ فَإِنْ عَقَدَهُ مُنِعَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا أَدْخَلَ بَعْضَ ذَلِكَ الَّذِي شَدَّ عَلَى وَسَطِهِ فِي بَعْضِهِ.
(5/52)
 
 
قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : قَالَ أَحْمَدُ فِي مُحْرِمٍ حَزَمَ عِمَامَةً عَلَى وَسَطِهِ لَا تَعْقِدْهَا، وَيُدْخِلُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ طَاوُسٌ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ قَدْ شَدَّهَا عَلَى وَسَطِهِ، فَأَدْخَلَهَا هَكَذَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِضَرُورَةِ الْعَمَلِ خَاصَّةً، ثُمَّ قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشُقَّ أَسْفَلَ رِدَائِهِ نِصْفَيْنِ، وَيَعْقِدَ كُلَّ نِصْفٍ عَلَى سَاقٍ ; لِأَنَّهُ يُشْبِهُ السَّرَاوِيلَ، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» . وَفِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، وَلُزُومُ الْفِدْيَةِ ; لِأَنَّهُ كَالسَّرَاوِيلِ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي:
لَا فِدْيَةَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، اهـ.
وَأَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ لُبْسَ الْخُفِّ الْمَقْطُوعِ، مَعَ وُجُودِ النَّعْلِ تَلْزَمُ بِهِ الْفِدْيَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: هُوَ أَنَّ الْمُحْرِمَ إِنْ لَبِسَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُهُ لَزِمَتْهُ فِدْيَةُ الْأَذَى، وَيَسْتَوِي عِنْدَهُمُ: الْخِيَاطَةُ وَالْعَقْدُ وَالتَّزَرُّرُ وَالتَّخَلُّلُ وَالنَّسْخُ عَلَى هَيْئَةِ الْمَخِيطِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِذَلِكَ اللُّبْسِ، مِنْ حَرٍّ، أَوْ بَرْدٍ، أَوْ يَطُولَ زَمَنُهُ كَيَوْمٍ كَامِلٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةُ انْتِفَاعِهِ بِهِ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ. أَمَّا إِذَا لَبِسَ الْمُحْرِمُ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُهُ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِلُبْسِهِ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، وَلَمْ يَدُمْ لُبْسُهُ لَهُ يَوْمًا كَامِلًا، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشُدَّ فِي وَسَطِهِ الْحِزَامَ ; لِأَجْلِ الْعَمَلِ خَاصَّةً، وَلَا يَعْقِدُهُ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَثْفِرَ عِنْدَ الرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ. وَعَنْهُ فِي الِاسْتِثْفَارِ لِلرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ قَوْلٌ بِالْكَرَاهَةِ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَالِاسْتِثْفَارُ: شَدُّ الْفَرْجِ بِخِرْقَةٍ عَرِيضَةٍ وَيَوْثَقُ طَرَفَاهَا إِلَى شَيْءٍ مَشْدُودٍ عَلَى الْوَسَطِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ ثَفَرِ الدَّابَّةِ، الَّذِي يُجْعَلُ تَحْتَ ذَنَبِهَا، أَوْ مِنْ ثَفَرِ الدَّابَّةِ بِمَعْنَى: فَرْجِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْطَلِ:
جَزَى اللَّهُ عَنَّا الْأَعْوَرَيْنِ مَلَامَةَ ... وَفَرْوَةَ ثَفَرَ الثَّوْرَةِ الْمُتَضَاجِمِ
فَقَوْلُهُ: ثَفَرَ الثَّوْرَةِ يَعْنِي: فَرْجِ الْبَقَرَةِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ فَرْوَةِ، وَالْمُتَضَاجِمُ الْمَائِلُ وَهُوَ مَخْفُوضٌ بِالْمُجَاوَرَةِ ; لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلثَّفَرِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ. وَفَرْوَةُ: اسْمُ رَجُلٍ جَعَلَهُ فِي الْخُبْثِ، وَالْحَقَارَةِ كَأَنَّهُ فَرْجُ بَقَرَةٍ مَائِلٍ.
وَسَتْرُ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَسَتْرِ رَأْسِهِ: تَلْزَمُ فِيهِ الْفِدْيَةُ، إِنْ سَتَرَ ذَلِكَ بِمَا يُعَدُّ سَاتِرًا كَالْمَخِيطِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا لَوْ سَتَرَهُ بِطِينٍ أَوْ جِلْدِ حَيَوَانٍ يُسْلَخُ، فَيُلْبَسُ، وَلَا يَمْنَعُ عِنْدَهُمْ لُبْسُ الْمَخِيطِ، إِذَا اسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ غَيْرِ الْمَخِيطِ، كَأَنْ يَجْعَلَ الْقَمِيصَ إِزَارًا أَوْ رِدَاءً ; لِأَنَّهُ إِذَا ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ مَثَلًا، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ
(5/53)
 
 
حَتَّى يُحِيطَ بِهِ ; لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ اسْتِعْمَالَ الرِّدَاءِ، وَلَا بَأْسَ عِنْدَهُمْ بِاتِّقَاءِ الشَّمْسِ أَوِ الرِّيحِ بِالْيَدِ يَجْعَلُهَا عَلَى رَأْسِهِ أَوْ وَجْهِهِ. وَلَهُ وَضْعُ يَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ مِنْ غُبَارٍ، أَوْ جِيفَةٍ مَرَّ بِهَا. وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لَهُ عِنْدَهُمْ، إِنْ مَرَّ عَلَى طِيبٍ وَتَلْزَمُ عِنْدَهُمُ الْفِدْيَةُ بِلُبْسِ الْقَبَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُدْخِلْ يَدَهُ فِي كُمِّهِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا إِذَا أَدْخَلَ فِيهِ مَنْكِبَيْهِ، وَأَطْلَقَهُ بَعْضُهُمْ. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُظَلِّلَ الْمُحْرِمُ عَلَى رَأْسِهِ، أَوْ وَجْهِهِ بِعَصًا فِيهَا ثَوْبٌ فَإِنْ فَعَلَ افْتَدَى، وَفِيهِ قَوْلٌ عِنْدَهُمْ: بَعْدَ لُزُومِ الْفِدْيَةِ، وَهُوَ الْحَقُّ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي قَدَّمْنَا فِي التَّظْلِيلِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِثَوْبٍ يَقِيهِ الْحَرَّ، وَهُوَ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ: يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ، فَالسُّنَّةُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَرْفَعَ فَوْقَ رَأْسِهِ شَيْئًا يَقِيهِ مِنَ الْمَطَرِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي رَفْعِهِ فَوْقَهُ شَيْئًا يَقِيهِ مِنَ الْبَرْدِ. وَالْأَظْهَرُ الْجَوَازُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. لِدُخُولِهِ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَذَى مِنَ الْبَرْدِ وَالْحَرِّ وَالْمَطَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ الْفِدْيَةَ الْمَذْكُورَةَ مَنْدُوبَةٌ لَا وَاجِبَةٌ. وَمَا يَذْكُرُهُ الْمَالِكِيَّةُ، مِنْ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِزَارَ، يُكْرَهُ لَهُ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ أَوْ يُمْنَعُ وَأَنَّ ذَلِكَ تَلْزَمُ فِيهِ الْفِدْيَةُ - خِلَافُ التَّحْقِيقِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا، فَلَهُ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ مِنْ غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا فِدْيَةٍ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْفِدْيَةُ تَلْزَمُهُ لِبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الِاسْتِظْلَالِ بِالْخِبَاءِ، وَالْقُبَّةِ الْمَضْرُوبَةِ وَالْفُسْطَاطِ وَالشَّجَرَةِ، وَأَنْ يَرْمِيَ عَلَيْهَا ثَوْبًا. وَعَنْ مَالِكٍ مَنْعُ إِلْقَاءِ الثَّوْبِ عَلَى الشَّجَرَةِ، وَأَجَازَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ قِيَاسًا عَلَى الْخَيْمَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ الِاسْتِظْلَالَ بِالثَّوْبِ عَلَى الْعَصَا عِنْدَهُمْ إِذَا فَعَلَهُ وَهُوَ سَائِرٌ لَا خِلَافَ فِي مَنْعِهِ، وَلُزُومِ الْفِدْيَةِ فِيهِ، وَإِنْ فَعَلَهُ وَهُوَ نَازِلٌ فَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَهُمْ أَشَرْنَا لَهُ قَرِيبًا. وَالْحَقُّ: الْجَوَازُ مُطْلَقًا لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّ مَا ثَبَتَتْ فِيهِ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى رَأْيِ مُجْتَهِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَوْ بَلَغَ مَا بَلَغَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ ; لِأَنَّ سُنَّتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَلَيْسَ قَوْلُ أَحَدٍ حُجَّةً عَلَى سُنَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ صَحَّ عَلَى الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَالُوا: إِذَا وَجَدْتُمْ قَوْلِي يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً، فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ، وَاتَّبِعُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. وَقَدْ قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثْنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ الْحُصَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُهَا تَقُولُ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(5/54)
 
 
حَجَّةَ الْوَدَاعِ، فَرَأَيْتُهُ حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَانْصَرَفَ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَمَعَهُ بِلَالٌ، وَأُسَامَةُ أَحَدُهُمَا يَقُودُ بِهِ رَاحِلَتَهُ، وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الشَّمْسِ. الْحَدِيثَ. وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ، عَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ: فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخُطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ، يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ، حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي جَوَازِ اسْتِظْلَالِ الْمُحْرِمِ الرَّاكِبِ بِثَوْبٍ مَرْفُوعٍ فَوْقَهُ يَقِيهِ حَرَّ الشَّمْسِ. وَالنَّازِلُ أَحْرَى بِهَذَا الْحُكْمِ، عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الرَّاكِبِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمَرْفُوعُ لَا يُعَارَضُ بِمَا رُوِيَ مِنْ فِعْلِ عُمَرَ وَقَوْلِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا، وَلَا بِحَدِيثِ جَابِرٍ الضَّعِيفِ فِي مَنْعِ اسْتِظْلَالِ الْمُحْرِمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: حَمْلُ الْمُحْرِمِ زَادَهُ عَلَى رَأْسِهِ فِي خَرَجٍ أَوْ جِرَابٍ إِنْ كَانَ فَقِيرًا تَدْعُوهُ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ، أَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ لِبُخْلِهِ بِأُجْرَةِ الْحَمْلِ، وَهُوَ غَنِيٌّ، أَوْ لِأَجْلِ تِجَارَةٍ بِالْمَحْمُولِ، فَلَا يَجُوزُ، وَتَلْزَمُ بِهِ الْفِدْيَةُ عِنْدَهُمْ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِبْدَالُ ثَوْبِهِ الَّذِي أَحْرَمَ فِيهِ بِثَوْبٍ آخَرَ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ بَيْعُهُ، وَلَوْ قَصَدَ بِذَلِكَ الِاسْتِرَاحَةَ مِنَ الْهَوَامِّ الَّتِي فِيهِ، إِلَّا أَنْ يَنْقُلَ الْهَوَامَّ مِنْ جَسَدِهِ، أَوْ ثَوْبِهِ الَّذِي عَلَيْهِ إِلَى الثَّوْبِ الَّذِي يُرِيدُ طَرْحَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَطَرْحِهِ لَهَا. قَالَهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ، وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ غَسْلُ ثَوْبِهِ الَّذِي أَحْرَمَ فِيهِ، إِلَّا لِنَجَاسَةٍ فِيهِ، فَيَجُوزُ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ فَقَطْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ أَيْضًا، لِأَجْلِ الْوَسَخِ، فَلَا يَخْتَصُّ الْجَوَازُ بِالنَّجَاسَةِ ; لِأَنَّ الْوَسَخَ مُبِيحٌ لِغَسْلِهِ بِالْمَاءِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَغْسِلَ ثَوْبَ غَيْرِهِ خَوْفَ أَنْ يَقْتُلَ بِغَسْلِهِ إِيَّاهُ بَعْضَ الدَّوَابِّ الَّتِي فِي الثَّوْبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَإِنْ فَعَلَ افْتَدَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الثَّوْبَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ، فَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ بِغَسْلِهِ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ إِنْ كَانَ ذَلِكَ لِنَجَاسَةٍ أَوْ وَسَخٍ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ: أَنْ يَعْصِبَ الْمُحْرِمُ عَلَى جُرْحِهِ خِرَقًا، وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ بِذَلِكَ. وَقَالَ التُّونُسِيُّ: وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: صَغِيرُ خِرَقِ التَّعْصِيبِ وَالرَّبْطِ كَكَبِيرِهَا، وَرَوَى مُحَمَّدٌ: رُقْعَةٌ قَدْرُ الدِّرْهَمِ كَبِيرَةٌ فِيهَا الْفِدْيَةُ. وَظَاهِرُ قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ الْمَالِكِيِّ: أَوْ لَصَقَ خِرْقَةً كَدِرْهَمٍ - أَنَّ الْخِرْقَةَ الَّتِي هِيَ أَصْغَرُ مِنَ الدِّرْهَمِ لَا شَيْءَ فِيهَا. وَقَالَ شَارِحُهُ الْحَطَّابُ: انْظُرْ إِذَا كَانَ بِهِ جُرُوحٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَأَلْصَقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا خِرْقَةً، دُونَ الدِّرْهَمِ، وَالْمَجْمُوعُ كَدِرْهَمٍ، أَوْ أَكْثَرَ. وَظَاهِرُ مَا فِي التَّوْضِيحِ، وَابْنُ الْحَاجِبِ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَسَمِعَ ابْنُ
(5/55)
 
 
الْقَاسِمِ: لَا بَأْسَ، وَلَا فِدْيَةَ فِي جَعْلِ فَرْجِهِ فِي خِرْقَةٍ عِنْدَ النَّوْمِ، فَإِنْ لَفَّهَا عَلَى ذَكَرِهِ لِبَوْلٍ، أَوْ مَذْيٍ افْتَدَى. انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ. وَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَهُمْ: أَنْ يَجْعَلَ الْقُطْنَ فِي أُذُنَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ افْتَدَى ; لِأَنَّ كَشْفَ الْأُذُنِ وَاجِبٌ فِي الْإِحْرَامِ، فَلَا يَجُوزُ تَغْطِيَتُهَا بِالْقُطْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ عَلَى صُدْغِهِ قِرْطَاسًا تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ عِنْدَهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لَعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ عَصْبُ رَأْسِهِ بِعِصَابَةٍ، فَإِنْ فَعَلَ افْتَدَى.
وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ لُبْسُ الْمَصْبُوغِ بِغَيْرِ طِيبٍ، لِمَنْ يَقْتَدِي بِهِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ، إِذَا كَانَ لَوْنُ الصَّبْغِ يُشْبِهُ لَوْنَ صَبْغِ الطِّيبِ: وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ: شَدُّ نَفَقَتِهِ بِعَضُدِهِ أَوْ فَخِذِهِ أَوْ سَاقِهِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ شَدَّ عَضُدَهُ، أَوْ سَاقَهُ، أَوْ فَخِذَهُ بِمَا يُحِيطُ بِهِ لِغَيْرِ نَفَقَةٍ أَوْ لِنَفَقَةِ غَيْرِهِ افْتَدَى. وَإِنْ شَدَّ نَفَقَتَهُ، وَجَعَلَ مَعَهَا نَفَقَةً لِغَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ، فَإِنْ فَرَغَتْ نَفَقَتُهُ أَلْقَى الْمِنْطَقَةَ وَنَحْوَهَا مِمَّا كَانَ يَشُدُّهُ لِحِفْظِهَا وَرَدَّ نَفَقَةَ غَيْرِهِ إِلَى رَبِّهَا فَوْرًا، وَإِنْ تَرَكَ رَدَّهَا إِلَيْهِ افْتَدَى، وَإِنْ ذَهَبَ صَاحِبُهَا، وَهُوَ عَالِمٌ افْتَدَى، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. انْتَهَى مِنَ الْمَوَّاقِ. وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: كَبُّ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ عَلَى الْوِسَادَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: بِكَرَاهَةِ ذَلِكَ مُطْلَقًا لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ. وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ غَمْسُ رَأْسِهِ فِي الْمَاءِ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَطْعَمَ شَيْئًا، قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَنَقَلْنَاهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ وَالْحَطَّابِ.
وَعَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ إِطْعَامَ الشَّيْءِ الْمَذْكُورِ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ، وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ شَعَرٌ يَكُونُ فِيهِ الْقَمْلُ. أَمَّا مَنْ لَا شَعَرَ لَهُ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ الْقَمْلُ فَلَا يُكْرَهُ غَمْسُ رَأْسِهِ فِي الْمَاءِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ، قَالَهُ اللَّخْمِيُّ، وَصَاحِبُ الطِّرَازِ. انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْحَطَّابِ. وَغَسْلُ الرَّأْسِ لِجَنَابَةٍ: لَا خِلَافَ فِيهِ. أَمَّا غَسْلُهُ لِغَيْرِ جَنَابَةٍ بَلْ لِلتَّبَرُّدِ وَنَحْوِهِ: فَفِيهِ عِنْدَهُمْ قَوْلَانِ: بِالْجَوَازِ، وَالْكَرَاهَةِ، وَالْجَوَازُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إِنْ لَبِسَ اللُّبْسَ الْحَرَامَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ، كَمَا تَقَدَّمَ، لَا يَلْزَمُهُ بِذَلِكَ دَمٌ، إِلَّا إِذَا لَبِسَهُ يَوْمًا كَامِلًا ; لِأَنَّ الْيَوْمَ الْكَامِلَ مَظِنَّةُ الِانْتِفَاعِ بِاللُّبْسِ، مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ إِذَا لَبِسَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ، فَعَلَيْهِ دَمٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ إِنْ لَبِسَهُ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الدَّمِ بِحِسَابِهِ، اهـ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ إِنْ كَانَ فَعَلَهُ لِعُذْرٍ فَفِيهِ عِنْدَهُمْ فِدْيَةُ الْأَذَى، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَفِيهِ الدَّمُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالظَّاهِرُ: أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْقَدْرِ الَّذِي تَلْزَمُ بِهِ الْفِدْيَةُ فِي اللُّبْسِ الْحَرَامِ مِنْ نَوْعِ
(5/56)
 
 
الِاخْتِلَافِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوِ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ أَوِ اتَّشَحَ بِهِ، أَوِ اتَّزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ، فَلَا بَأْسَ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ غَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ فِي الْقَبَاءِ، وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي الْكُمَّيْنِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: تَغْطِيَةُ رُبْعِ الرَّأْسِ كَتَغْطِيَةِ جَمِيعِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْأَكْثَرُ وَدَوَامُ لُبْسِ الْمَخِيطِ عِنْدَهُمْ بَعْدَ الْإِحْرَامِ كَابْتِدَائِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ أَيْضًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّوَوِيَّ قَالَ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : وَلَهُ - يَعْنِي الْمُحْرِمَ - أَنْ يَتَقَلَّدَ الْمُصْحَفَ وَحَمَائِلَ السَّيْفِ وَأَنَّ يَشُدَّ الْهِمْيَانَ وَالْمِنْطَقَةَ فِي وَسَطِهِ، وَيَلْبَسَ الْخَاتَمَ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ هَذَا كُلِّهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْمِنْطَقَةِ وَالْهِمْيَانِ مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً إِلَّا ابْنَ عُمَرَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، فَكَرِهَهُمَا وَبِهِ قَالَ نَافِعٌ مَوْلَاهُ.
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّا نَاقَشْنَاهُ فِي كَلَامِهِ وَبَيَّنَّا: أَنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ لَا يُجِيزُونَ شَدَّ الْمِنْطَقَةِ وَالْهِمْيَانِ، إِلَّا تَحْتَ الْإِزَارِ مُبَاشِرًا جِلْدَهُ لِخُصُوصِ النَّفَقَةِ، وَأَنَّ شَدَّ الْهِمْيَانِ فَوْقَ الْإِزَارِ فِيهِ عِنْدَهُمُ الْفِدْيَةُ مُطْلَقًا، وَكَذَلِكَ تَحْتَ الْإِزَارِ لِغَيْرِ حِفْظِ النَّفَقَةِ، وَأَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ تَلْزَمُ عِنْدَهُ الْفِدْيَةُ فِي شَدِّ الْمِنْطَقَةِ لِغَيْرِ حِفْظِ النَّفَقَةِ: أَيْ وَلَوْ كَانَ لِوَجَعٍ بِظَهْرِهِ، وَسَنُتَمِّمُ الْكَلَامَ هُنَا. أَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ لُبْسَ الْخَاتَمِ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ لِلْمُحْرِمِ، فَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ بِمَنْعِ لُبْسِ الْمُحْرِمِ الْخَاتَمَ وَالْخِلَافُ فِي جَوَازِ لُبْسِهِ وَمَنْعِهِ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ.
قَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابُ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ: مُشَبَّهًا عَلَى مَا لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ لِلْمُحْرِمِ كَخَاتَمٍ، مَا نَصُّهُ: قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَفِي الْخَاتَمِ قَوْلَانِ، فَحَمَلَهُمَا فِي التَّوْضِيحِ عَلَى الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ. وَقَالَ اللَّخْمِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ: الْمَعْرُوفُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ مَنْعُهُ ; لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْإِحَاطَةِ بِالْإِصْبَعِ الْمُحِيطِ، وَفِي مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ: لَا بَأْسَ بِهِ. إِلَى أَنْ قَالَ: فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْقَائِلَ بِالْمَنْعِ يَقُولُ: بِالْفِدْيَةِ، وَالْقَائِلَ بِالْجَوَازِ يَقُولُ بِسُقُوطِ الْفِدْيَةِ. انْتَهَى مِنْهُ.
ثُمَّ قَالَ: تَنْبِيهٌ: وَهَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجُوزُ لَهَا لُبْسُ الْخَاتَمِ، اهـ.
وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ النَّوَوِيِّ: وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ هَذَا كُلِّهِ - فِيهِ نَظَرٌ، وَأَمَّا تَقَلُّدُ حَمَائِلِ السَّيْفِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ لِعُذْرٍ يُلْجِئُهُ إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ لَهُ، وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ، فَإِنْ تَقَلَّدَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ: يَنْزِعُهُ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ
(5/57)
 
 
الْمَوَّاقِ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَلَا فِدْيَةَ فِي سَيْفٍ، وَلَوْ بِلَا عُذْرٍ، اهـ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: يَنْزِعُهُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقَلُّدُ السَّيْفِ اخْتِيَارًا عِنْدَهُ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ، أَنْ يَتَقَلَّدَ السَّيْفَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَقَالَ الْخِرَقِيُّ: وَيَتَقَلَّدُ بِالسَّيْفِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَقَالَ فِي «الْمُغْنِي» فِي شَرْحِهِ لِكَلَامِ الْخِرَقِيِّ: فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ «الْحَجِّ» : بَابُ لُبْسِ السِّلَاحِ لِلْمُحْرِمِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِذَا خَشِيَ الْعَدُوَّ لَبِسَ السِّلَاحَ وَافْتَدَى، وَلَمْ يُتَابِعْ عَلَيْهِ فِي الْفِدْيَةِ.
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «اعْتَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذِي الْقِعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ، حَتَّى قَاضَاهُمْ لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ سِلَاحًا إِلَّا فِي الْقِرَابِ» انْتَهَى مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ فِي الْفِدْيَةِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تُوبِعَ فِي لُبْسِ السِّلَاحِ لِلضَّرُورَةِ ; لِأَنَّ مَعْنَى قَاضَاهُمْ لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ سِلَاحًا إِلَّا فِي الْقِرَابِ، أَنَّهُ صَالَحَ كُفَّارَ مَكَّةَ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ، أَنَّهُ إِنْ دَخَلَ مُعْتَمِرًا عَامَ سَبْعٍ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، لَا يُدْخِلُ مَكَّةَ السُّيُوفَ إِلَّا فِي أَغْمَادِهَا، وَالْقِرَابُ غِمْدُ السَّيْفِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ دُخُولِ الْمُحْرِمِ مُتَقَلِّدًا سَيْفَهُ لِلْخَوْفِ مِنَ الْعَدُوِّ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي بَابِ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمَّا اعْتَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذِي الْقِعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ، حَتَّى قَضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ: «فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ السِّلَاحُ إِلَّا السَّيْفُ فِي الْقِرَابِ» الْحَدِيثَ. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ: «لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ سِلَاحٌ إِلَّا فِي الْقِرَابِ» وَفِي لَفْظٍ لَهُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَيْضًا: «وَلَا يَدْخُلُهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ» فَسَأَلُوهُ: مَا جُلُبَّانُ السِّلَاحِ؟ فَقَالَ: «الْقِرَابُ بِمَا فِيهِ» وَالْجُلُبَّانُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَاللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا أَلْفٌ ثُمَّ نُونٌ: هُوَ قِرَابُ السَّيْفِ وَيُطْلَقُ عَلَى أَوْعِيَةِ السِّلَاحِ، وَيُرْوَى بِتَسْكِينِ اللَّامِ، وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ، وَهُوَ شِبْهُ الْجِرَابِ مِنَ الْأُدْمِ يُوضَعُ فِيهِ السَّيْفُ مَغْمُودًا.
وَقَالَ صَاحِبُ «اللِّسَانِ» : وَالْقِرَابُ غِمْدُ السَّيْفِ وَالسِّكِّينِ وَنَحْوِهِمَا وَجَمْعُهُ قُرُبٌ أَيْ: بِضَمَّتَيْنِ، وَفِي صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ: قِرَابُ السَّيْفِ: جَفْنُهُ وَهُوَ وِعَاءٌ يَكُونُ فِيهِ السَّيْفُ بِغِمْدِهِ، وَحِمَالَتِهِ، اهـ وَالْقِرَابُ كَكِتَابٍ، وَمِنْ جَمْعِهِ عَلَى قُرُبٍ بِضَمَّتَيْنِ قَوْلُهُ:
(5/58)
 
 
يَا رَبَّةَ الْبَيْتِ قُومِي غَيْرَ صَاغِرَةٍ ... ضُمِّي إِلَيْكَ رِحَالَ الْقَوْمِ وَالْقُرُبَا
يَعْنِي: ضُمِّي إِلَيْكَ رِحَالَهُمْ وَسِلَاحَهُمْ، فِي أَوْعِيَتِهِ.
وَبِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ: اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ دَخَلُوا مَكَّةَ مُحْرِمِينَ عَامَ سَبْعٍ وَهُمْ مُتَقَلِّدُو سُيُوفِهِمْ فِي أَغْمَادِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ لِعِلَّةِ خَوْفِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ; لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُوثَقُ بِعُهُودِهِمْ.
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ تَقَلَّدُوهَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا حَمَلُوا السِّلَاحَ مَعَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ فِي أَوْعِيَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَتَقَلَّدُوهُ، وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ، فَلَا حُجَّةَ فِي الْأَحَادِيثِ عَلَى تَقَلُّدِ الْمُحْرِمِ حَمَائِلَ السَّيْفِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
 
الْفَرْعُ السَّادِسَ عَشَرَ: قَدْ بَيَّنَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ مَسْأَلَةُ مَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِسَبَبِ إِحْرَامِهِ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنَ الطِّيبِ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذَا الْفَرْعِ مَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ.
اعْلَمْ: أَنَّ الْأَئِمَّةَ الثَّلَاثَةَ مَالِكًا، وَالشَّافِعِيَّ، وَأَحْمَدَ لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ أَنْ يُطَيِّبَ جَسَدَهُ كُلَّهُ أَوْ عُضْوًا مِنْهُ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِنْ فَعَلَهُ قَصْدًا يَأْثَمُ بِهِ، وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إِلَّا إِذَا طَيَّبَ عُضْوًا كَامِلًا، مِثْلَ الرَّأْسِ، وَالْفَخِذِ، وَالسَّاقِ، فَإِنْ طَيَّبَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ غَيْرِهِ، كَتَمْرٍ وَشَعِيرٍ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَ، كَاللِّبَاسِ، وَالتَّطَيُّبِ، لَا لِعُذْرٍ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَتُجْزِئُهُ شَاةٌ وَإِنْ فَعَلَهُ لِعُذْرٍ فَعَلَيْهِ فِدْيَةُ الْأَذَى الْمَذْكُورَةُ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ، عَلَى التَّخْيِيرِ، وَإِنْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ طِيبًا كَثِيرًا: لَزِمَهُ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ صَاحِبَاهُ مُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ: تَجِبُ فِي ذَلِكَ الصَّدَقَةُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ إِنْ طَيَّبَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ لَزِمَهُ بِحَسَبِهِ مِنَ الدَّمِ فَإِنْ طَيَّبَ ثُلُثَ الْعُضْوِ، فَعَلَيْهِ ثُلُثُ دَمٍ مَثَلًا، وَهَكَذَا، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ إِنْ طَيَّبَ رُبُعَ عُضْوٍ: لَزِمَهُ الدَّمُ كَامِلًا كَحَلْقِ رُبُعِ الرَّأْسِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ كَحَلْقِ جَمِيعِهِ. وَهَذَا خِلَافُ الْمَشْهُورِ فِي تَطْيِيبِ بَعْضِ الْعُضْوِ عِنْدَهُمْ. وَظَاهِرُ
(5/59)
 
 
كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ طِيبًا كَثِيرًا عَلَى بَعْضِ عُضْوٍ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّدَقَةُ. وَصَحَّحَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الطِّيبُ قَلِيلًا فَالْعِبْرَةُ بِالْعُضْوِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَالْعِبْرَةُ بِالطِّيبِ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنْ مَسَّ طِيبًا بِإِصْبَعِهِ، فَأَصَابَهَا كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنْ طَيَّبَ شَارِبَهُ كُلَّهُ أَوْ بِقَدْرِهِ مِنْ لِحْيَتِهِ، أَوْ رَأْسِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ إِنِ اكْتَحَلَ بِكُحْلٍ مُطَيَّبٍ، فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَمِثْلُهُ الْأَنْفُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا كَثِيرَةً فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَفِي مَنَاسِكِ الْكِرْمَانِيِّ: لَوْ طَيَّبَ جَمِيعَ أَعْضَائِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَلَوْ كَانَ الطِّيبُ فِي أَعْضَاءَ مُتَفَرِّقَةٍ يُجْمَعُ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَإِنْ بَلَغَ عُضْوًا: فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِلَّا فَصَدَقَةٌ، وَلَوْ شَمَّ طِيبًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ دَخَلَ بَيْتًا مُجَمَّرًا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ أَجْمَرَ ثَوْبَهُ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ كَثِيرًا، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِلَّا فَصَدَقَةٌ انْتَهَى مِنْ تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ طَيَّبَ أَعْضَاءَهُ كُلَّهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، سَوَاءٌ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يَذْبَحْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَذْبَحْ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَاخْتِلَافٍ فِي الْجِمَاعِ، اهـ.
وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي قَوْلُ مُحَمَّدٍ: وَالْحِنَّاءُ عِنْدَهُمْ طِيبٌ، فَلَوْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْحِنَّاءِ، لَزِمَهُ الدَّمُ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «الْحِنَّاءُ طِيبٌ» . قَالُوا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَسَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَوَاهُ فِي «الْمَعْرِفَةِ» ، وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحِنَّاءَ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى: هَذَا حَاصِلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فِي الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ فَحَاصِلُهُ: أَنَّ الطِّيبَ عِنْدَهُمْ نَوْعَانِ: مُذَكَّرٌ وَمُؤَنَّثٌ، أَمَّا الْمُذَكَّرُ فَهُوَ مَا يَظْهَرُ رِيحُهُ، وَيَخْفَى أَثَرُهُ: كَالرَّيْحَانِ، وَالْيَاسَمِينِ، وَالْوَرْدِ، وَالْبَنَفْسَجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُؤَنَّثُ: فَهُوَ مَا يَظْهَرُ رِيحُهُ، وَيَبْقَى أَثَرُهُ: كَالْمِسْكِ وَالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْكَافُورِ وَالْعَنْبَرِ وَالْعُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَأَمَّا الْمُذَكَّرُ فَيُكْرَهُ شَمُّهُ وَالتَّطَيُّبُ بِهِ، وَلَا فِدْيَةَ فِي مَسِّهِ، وَالتَّطَيُّبِ بِهِ وَلَوْ غَسَلَ يَدَيْهِ بِمَاءِ الْوَرْدِ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مِنَ الطِّيبِ الْمُذَكَّرِ، خِلَافًا لِابْنِ فَرْحُونَ فِي مَنَاسِكِهِ ; حَيْثُ قَالَ: إِنَّ مَاءَ الْوَرْدِ فِيهِ الْفِدْيَةُ ; لِأَنَّ أَثَرَهُ يَبْقَى، وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنَّ الطِّيبَ الْمُذَكَّرَ لَا فِدْيَةَ فِي اسْتِعْمَالِهِ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِسْحَاقُ. وَأَمَّا مَا يَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ مِنَ النَّبَاتِ الطَّيِّبِ الرِّيحِ وَلَا يُقْصَدُ التَّطَيُّبُ بِهِ، كَالشِّيحِ، وَالْقَيْصُومِ، وَالزَّنْجَبِيلِ، وَالْإِذْخَرِ، فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ
(5/60)
 
 
عِنْدَهُمْ، فَهُوَ كَرِيحِ الْفَوَاكِهِ الطَّيِّبَةِ كَالتُّفَّاحِ وَاللَّيْمُونِ، وَالْأُتْرُجِّ وَسَائِرِ الْفَوَاكِهِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُ شَمَّهُ لِلْمُحْرِمِ، وَإِنْ خَضَّبَ رَأْسَهُ أَوْ لِحْيَتَهُ بِحِنَّاءٍ، أَوْ خَضَّبَتِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا أَوْ رِجْلَيْهَا، أَوْ طَرَّفَتْ أَصَابِعَهَا بِحِنَّاءٍ ; فَالْفِدْيَةُ عِنْدَهُمْ وَاجِبَةٌ فِي ذَلِكَ. وَأَمَا مُؤَنَّثُ الطِّيبِ: كَالْمِسْكِ، وَالْوَرْسِ، وَالزَّعْفَرَانِ، فَإِنَّ التَّطَيُّبَ بِهِ عِنْدَهُمْ حَرَامٌ، وَفِيهِ الْفِدْيَةُ.
وَمَعْنَى التَّطَيُّبِ بِالطِّيبِ عِنْدَهُمْ: إِلْصَاقُهُ بِالثَّوْبِ، أَوْ بِالْيَدِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ عَلِقَ بِهِ رِيحُ الطِّيبِ دُونَ عَيْنِهِ بِجُلُوسِهِ فِي حَانُوتِ عَطَّارٍ، أَوْ فِي بَيْتٍ تَجَمَّرَ سَاكِنُوهُ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ مَعَ كَرَاهَةِ تَمَادِيهِ فِي حَانُوتِ الْعَطَّارِ أَوِ الْبَيْتِ الَّذِي تَجَمَّرَ سَاكِنُوهُ، هَذَا هُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَإِنْ مَسَّ الطِّيبَ الْمُؤَنَّثَ افْتَدَى عِنْدَهُمْ، وَجَدَ رِيحَهُ أَوْ لَا، لَصِقَ بِهِ أَوْ لَا، وَيُكْرَهُ شَمُّ الطِّيبِ عِنْدَهُمْ مُطْلَقًا.
وَأَظْهَرُ أَقْوَالِ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ بِالْوَرْسِ، وَالزَّعْفَرَانِ: إِذَا تَقَادَمَ عَهْدُهُ، وَطَالَ زَمَنُهُ حَتَّى ذَهَبَ رِيحُهُ بِالْكُلِّيَّةِ - أَنَّهُ مَكْرُوهٌ لِلْمُحْرِمِ، مَا دَامَ لَوْنُ الصَّبْغِ بَاقِيًا وَلَكِنَّهُ لَا فِدْيَةَ فِيهِ لِانْقِطَاعِ رِيحِهِ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَأَقْيَسُ الْأَقْوَالِ: أَنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ الرَّائِحَةَ الطَّيِّبَةَ الَّتِي مُنِعَ مِنْ أَجْلِهَا زَالَتْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنِ اكْتَحَلَ عِنْدَهُمْ بِمَا فِيهِ طِيبٌ، فَالْفِدْيَةُ، وَلَوْ لِضَرُورَةٍ مَعَ الْجَوَازِ لِلضَّرُورَةِ وَبِمَا لَا طِيبَ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ وَلِغَيْرِهَا، فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَشْهُورُهَا: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ عَلَى الرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةِ مَعًا، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا، وَقِيلَ: تَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ.
وَحَاصِلُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ النَّبَا