أحكام القرآن للكيا الهراسي

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
  
 
الكتاب: أحكام القرآن
المؤلف: علي بن محمد بن علي، أبو الحسن الطبري، الملقب بعماد الدين، المعروف بالكيا الهراسي الشافعي (المتوفى: 504هـ)
المحقق: موسى محمد علي وعزة عبد عطية
الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت
تاريخ الطبع:
الطبعة: الثانية، 1405 هـ
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي وضمن خدمة مقارنة التفاسير]
 
 
الجزء الأول
 
مقدمة المؤلف
(بسم الله الرحمن الرحيم) استعنت بالله قال الشيخ الإمام الأجل السيد علم الهدى، شمس الإسلام، عماد الدين، إمام الأئمة، نور الشريعة، قدوة الفريقين: «1» أبو الحسن علي ابن محمد الطبري، رحمه الله ورضي عنه:
الحمد لله الذي أكرمنا بتنزيله، وشرفنا بمعرفة تأويله، وشفى صدورنا بواضح بيانه، وهدانا من ظلم الضلالة، وعماية الجهالة به، وجعله ميزان قسط لا يحيف عن الحق غرب لسانه، وضوء هدى لا يجتنى من الشهاب نور برهانه، وعلم نجاة لا يضل من أم قصد سنته، ولا تنال أيدي الهلكات من تعلق بعروة عصمته..
نحمده على فنون بلائه، وضروب آلائه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من يعتصم بحبله، ويأوي في الشبهات إلى حرز عدله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه ونبيه، أرسله ببيان أوضحه، ولسان أفصحه، وشرع شرحه، ودين فسحه، فلم يدع صلوات الله عليه فسادا إلا أصلحه، ولا عنادا إلا زحزحه، صلوات الله عليه ما هلل ملك وسبحه، وعلى من نصره وصحبه.. وبعد:
__________
(1) يقصد اهل الظاهر واهل الباطل.
(1/1)
 
 
فإني لما تأملت مذاهب القدماء المعتبرين، والعلماء المتقدمين والمتأخرين واختبرت مذاهبهم وآراءهم، ولحظت مطالبهم وأبحاثهم، رأيت مذهب الشافعي رضي الله عنه وأرضاه أسدها وأقومها، وأرشدها وأحكمها، حتى كان نظره في كبر آرائه، ومعظم أبحاثه، يترقى عن حد الظن والتخمين، إلى درجة الحق واليقين.
ولم أجد لذلك سببا أقوى، وأوضح وأوفى، من تطبيقه مذهبه على كتاب الله تعالى، الذي:
(لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) «1» ..
وأنه أتيح له درك غوامض معانيه، والغوص على تيار بحره لاستخراج ما فيه، وأن الله فتح عليه من أبوابه، ويسر عليه من أسبابه، ورفع له من حجابه، ما لم يسهل لمن سواه، ولم يتأت لمن عداه، فكان على ما أخبر الله تعالى عن ذي القرنين في قوله:
(وآتيناه من كل شيء سببا، فأتبع سببا) «2» .
ولما رأيت الأمر كذلك، أردت أن أصنف في أحكام القرآن كتابا أشرح فيه ما انتزعه الشافعي رضي الله عنه، من أخذ الدلائل في غوامض المسائل، وضممت إليه ما نسجته على منواله، واحتذيت فيه على مثاله، على قدر طاقتي وجهدي، ومبلغ وسعي وجدي، ورأيت بعض من عجز عن إدراك مستلكاته «3» فهمه، ولم يصل إلى أغراض معانيه سهمه، جعل عجزه عن فهم معانيه، سببا للقدح في معاليه. ولم يعلم أن الدر
__________
(1) سورة فصلت آية 42.
(2) سورة الكهف آية 84- 85.
(3) طريق الاستدلال ووسائل الاستنباط التي يسلكها.
(1/2)
 
 
در برغم من جهله، وأن آفته من قصور فهمه، وقلة علمه، وما يضر الشمس قصور الأعمى عن إدراكها، والحقائق عجز البليد عن لحاقها..
ولن يعرف قدر هذا الكتاب، وما فيه من العجب العجاب، إلا من وفر حظه من علوم المعقول والمنقول، وتبحر في الفروع والأصول، ثم أكب على مطالعة هذه الفصول بمسكة صحيحة، وقريحة نقية غير قريحة.
وأعوذ بالله من الإعجاب بالإبداع، والميل بالهوى إلى بعض الآراء في مظان النزاع، وأسأله أن يجعل مجامع مساعينا، وجل متاعبنا في طلب مرضاته، إنه ولي قدير، وبالإجابة جدير، فأقول:
لما رأيت أقاويل المفسرين في أحكام القرآن متجاوزة حد البيان، آخذة بطرفي الزيادة والنقصان، جررت في سرحها هذه الفصول، المتضمنة من اللفظ والمعنى شفاء كل عليل، مع انتخابي فيها قصد السبيل، وتوقي التعليل والتطويل ...
فالأول في (بسم الله الرحمن الرحيم) وما فيه من معنى الضمير، فإن فيه ضمير فعل لا يستغني الكلام عنه، لأن الباء من سائر حروف الجر لا بد أن يتصل بفعل، إما مظهر مذكور، وإما مضمر محذوف.
والمضمر في هذا الموضع إما أن يكون خبرا أو أمرا.
فإذا كان خبرا فمعناه: ابدأ بسم الله، ودل الكلام على هذا الضمير لأن القارئ مبتدئ، والحال المشاهدة منبئة عنه، ومغنية عن ذكره..
ومعنى الأمر: ابدءوا بسم الله.
ودل على الأمر قوله تعالى في موضع آخر (اقرأ باسم ربك) «1»
__________
(1) سورة العلق آية 1.
(1/3)
 
 
ويحتمل أن يكون أرادهما بالضمير، لأن الضمير يحتملهما، ولو صرح بأحدهما امتنعت إرادة الآخر.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» «1» ، فإن الحكم لما تعلق بضمير يحتمل رفع الحكم رأسا «2» ، ويحتمل المأثم فلا تبعد إرادتهما، ولو صرح بأحدهما ولم يجز إرادة الثاني..
وقد يجيء من الضمير المحتمل للأمرين، ما لا يصح إرادتهما جميعا معا، فيلحق ذلك بقسم المجمل، كقوله: «الأعمال بالنيات» «3» ، وحكمه. متعلق بضمير يحتمل جواز العمل، ويحتمل فضيلته، وإرادة الجواز تنفي إرادة الفضيلة، وإرادة الفضيلة تقتضي إثبات حكم شيء منه لا محالة، مع إلحاق النقصان فيه ونفي الفضيلة عنه، ويستحيل إرادة نفي الفضيلة والأصل جميعا في حالة واحدة، وليس احتمال الضمير للأمرين موجبا عموما من حيث الصيغة، ولكنه يحتمل إرادتهما، فإن معنى العموم: اشتمال اللفظ على معنيين من جهة واحدة، وليس مجملا أيضا فإن إرادة الكل جائزة.
والفوائد التي ينتظمها قوله: «بسم الله» ..
الأمر باستفتاح الأمور بها تبركا بذلك.
وذكرها على الذبيحة «4» .
__________
(1) رواه الطبراني عن ثوبان وصححه السيوطي.
(2) أي دفع المأثم الناجم عنهما عند الله.
(3) رواه الشيخان وغيرهما.
(4) قال تعالى في سورة الأنعام الآية 121: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) وقال في سورة الحج الآية 36: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف..) أي عند نحرها. [.....]
(1/4)
 
 
وشعار من شعائر الدين.
وطرد الشيطان، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سمى العبد الله تعالى على طعامه لم ينل منه الشيطان، فإذا لم يسمه نال منه معه» «1» ..
وفيه إظهار مخالفة المشركين الذين يفتتحون أمورهم بذكر الأصنام أو غيرها من المخلوقين ...
وهو مفزع الخائف.
ودلالة من قائله على انقطاعه إلى الله.
وأنس للسامع.
وإقرار بالألوهية.
واعتراف بالنعمة.
واستغاثه «2» بالله.
وعبادة له «3» .
وفيه اسمان من أسماء الله تعالى لا يسمى بهما غيره: وهو الله والرحمن، وهو «4» أشهر أسماء الله تعالى، الذي ينسب إليه كل اسم، فيقال:
الرؤوف والكريم من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الكريم.
__________
(1) رواه مسلم بمعناه.
(2) في الجصاص وفي نسخة أخرى: واستعانة بالله، واللفظان صالحان.
(3) في الجصاص: وعياذة به.
(4) أي اسم «الله» جل شأنه.
(1/5)
 
 
يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون (9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10) وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12) وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (13) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون (14) الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون (15)
سورة البقرة
قوله تعالى في شأن المنافقين وإظهارهم الإيمان مع إضمار الكفر «1» وعدم الأمر بقتلهم يدل على جواز استتابة الزنديق، فإنه تعالى ما أمر بقتلهم.
قوله تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا) (9) .
هو مجاز في حق الله تعالى، فإن الخديعة إخفاء الشيء. ولا يخفى على الله شيء. والقوم إن لم يعرفوا الله تعالى فلا يصح أن يقصدوه بالخداع، وكذلك إن عرفوه، ولكنهم عملوا عمل المخادع، ووباله «2» رجع إليهم، وكأنهم إنما يخادعون أنفسهم.
أو يقال: يخادعون رسول الله ...
وقوله تعالى: (يستهزئ بهم) (15) .
يجوز أن يكون مقابلة الكلام بمثله، كقوله: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) «3» ، وكذلك (فاعتدوا عليه) «4» الآية..
__________
(1) أي في قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) سورة البقرة آية 8.
(2) أي نتيجة خداعهم.
(3) سورة الشورى آية 40.
(4) سورة البقرة آية 194 ونص الآية: (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين) ..
(1/6)
 
 
الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (22) وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24) وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون (25) إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين (26) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون (27) كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (28) هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم (29)
وقيل: إنه لما رجع وبال الاستهزاء عليهم فكأنه استهزأ بهم.
ولما كانت جريمتهم أضر على المسلمين، أخبر أنهم في الدرك الأسفل من النار، ودل على أن العقوبات في الدنيا ليست على أقدار الجرائم، وإنما هي على قدر مصالح الدنيا «1» ، وجائز أن لا تشرع العقوبة في الدنيا أصلا وإنما تشرع في الآخرة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمورا في ابتداء الإسلام بالصفح «2» عنهم، والدفع بالتي هي أحسن، وفرض القتال بعد ذلك للمصلحة.
فيجوز أن يقتل من يظهر الكفر دون من يسر للمصلحة، ويجوز خلافه.
ويجوز أن يرد الشرع بقتل النسوان «3» وأن يرد بخلافه، والعقل لا يمنع من ذلك.
قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشا) (22) .
إبانة للقدرة بأن جعلها على مثال الفراش، وليس ذلك لحكم الإطلاق فإنه لو حلف أن لا يبيت على فراش، فبات على الأرض لم يحنث، ولو قال: لا أقعد في السراج فقعد في الشمس لم يحنث، لأن الإطلاق لا ينصرف إليه ... وكذلك في قوله: (والجبال أوتادا) «4» .. فأفهم الفرق بين العرف الشرعي واللغوي، والمذكور على وجه التقييد..
قوله تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعا) (29) :
__________
(1) الرجم للزاني المحصن، والجلد للقاذف، والقطع للسارق.
(2) أي عن الكفار لا عن المنافقين كما يفهم من سياق كلام المؤلف.
(3) ولكنه لم يرد الا بالنهي الا إذا قاتلن كما في الصحيح.
(4) سورة النبإ آية 7.
(1/7)
 
 
وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون (41)
يدل على إباحة الأشياء في الأصل، إلا ما ورد فيه دليل الحظر، وكذلك قوله: (سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض) «1» ..
ودل قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشا) ، إلى قوله: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) (24) . على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد.
وقال: (وبشر الذين آمنوا) (25) : وهو دليل على أنه أول مبلغ إليهم..
وقال العلماء: إذا قال أي عبد بشرني بولادة فلان فهو حر، أن الأول من المبشرين يعتق دون الثاني، لأن البشارة حصلت بخبره دون غيره، وهو ما يحصل به الاستبشار ويأتي «2» على بشرة الوجه.
ولو قال: أي عبد أخبرني بولادتها عتق الثاني مثل الأول، ولذلك يقال: ظهرت تباشير الأمر لأوائله، ولا تطلق البشارة في الشر إلا مجازا..
وقيل: هو عام فيما سر وغم، لأن أصله فيما يظهر أولا في بشرة الوجه من سرور أو غم، إلا أنه كثر فيما يسر فصار الإطلاق أخص به منه بالشر..
قوله تعالى: (ولا تكونوا أول كافر به) (41) .
يدل على أن الكفر وإن كان قبيحا، فالأول من السابق أشد قبحا، وأعظم لمأتمه وجرمه، لقوله: (وليحملن أثقالهم) «3» .. الآية
__________
(1) سورة لقمان آية 20 وسورة الجاثية آية 13.
(2) أي ويظهر.. [.....]
(3) سورة العنكبوت آية 13: (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون) .
(1/8)
 
 
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين (43) أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44) واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين (45) الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون (46) يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (47) واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون (48) وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (49) وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون (50) وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (51) ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون (52) وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون (53) وإذ قال موسى لقومه ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم (54) وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون (55) ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون (56) وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (57) وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين (58) فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (59)
وقوله: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) «1» . وقوله: (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) «2» ، وقال عليه السلام: «إن على ابن آدم القاتل من الإثم في كل قتيل ظلما لأنه أول من سن القتل» «3» .
وقال: «من سن سنة حسنة» «4» الحديث.
وقوله: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (43) .
يجوز أن يرجع إلى صلاة معهودة، متقدمة، ويجوز أن يكون مجملا موقوفا على بيان متأخر عند من يجوز ذلك.
(واركعوا مع الراكعين) (43) :
لعله ذكره لأن صلاة أهل الكتابين لا ركوع فيها، فأراد أن يخصص الركوع ليعلم به تميز صلاتنا عن صلاتهم..
قوله تعالى: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) (59) .
يدل على أنه لا يجوز تغيير الأقوال المنصوص عليها، وأنه يتعين اتباعها.
__________
(1) سورة النحل آية 25.
(2) سورة المائدة آية 32.
(3) رواه البخاري، ج 4، ص 106، ج 9، ص 3- 4، ومسلم ج 11، ص 166 نووي، والترمذي ج 7 ص 436 تحفة الأحوذى، وابن ماجة رقم 2616، ومسند أحمد ج 3 ص 383 والنسائي كتاب التحريم، وهو هنا بالمعنى..
(4) رواه مسلم، ج 16 ص 226، والترمذي ج 4 ص 149، وقال حسن صحيح، وأحمد ج 1 ص 192، وأبو داود وابن ماجة وابن حبان وهو في الموطأ ص 152 ط: الشعب.
(1/9)
 
 
وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين (67) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون (68) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين (69) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون (70) قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون (71) وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون (72)
قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) (67) .
هو مقدم في التلاوة.
وقوله: (قتلتم نفسا) «1» (72) مقدم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة «2» .
ويجوز أن يكون في النزول مقدما وفي التلاوة مؤخرا..
ويجوز أن يكون ترتيب نزولها، على حسب ترتيب تلاوتها، فكان الله تعالى أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها، ثم وقع ما وقع من أمر القتيل، فأمروا أن يضربوه ببعضها «3» ..
ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب ترتيب تلاوتها وإن كان مقدما في المعنى، لأن الواو لا توجب الترتيب، كقول القائل: أذكر إذ أعطيت زيدا ألف درهم إذ بنى داري، والبناء متقدم العطية. ونظيره في قصة نوح بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله:
(قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين- إلى قوله- إلا قليل) «4» ..
فذكر إهلاك من أهلك منهم، ثم عطف عليه بقوله:
(وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها) «5» .
__________
(1) ونص الآية: (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون) .
(2) أي لأن الأمر بذبح البقرة إنما كان سببه قتل النفس كما في الجصاص.
(3) قال الألوسي: والمشهور خلافه.
(4) سورة هود آية 40.
(5) سورة هود آية 41.
(1/10)
 
 
أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (75) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون (76) أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون (77) ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون (78) فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79) وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون (80)
فالمعنى يجب مراعاة ترتيبه لا اللفظ، ويستدل به على جواز تأخير بيان المجمل..
وقد قيل: إنه كان عموما وكان ما ورد بعده نسخا..
فقيل له فهو نسخ قبل مجيء وقته.
فأجابوا: بأنه قد جاء وقته وقصروا في الأداء.
وقد قيل فهلا أنكر عليهم في أول المراجعة؟
فأجابوا: بأن التغليظ ضرب من الكبر.
ودل عليه قوله: (وما كادوا يفعلون) (71) .
وقوله: (لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك) (68) .
لا يعلم إلا بالاجتهاد، فهو دليل على جواز الاجتهاد، ودليل على اتباع الظواهر مع جواز أن يكون الباطن على خلافه.
وقوله: (مسلمة) (71) :
يعني من العيوب، وذلك لا يعلم حقيقة وإنما يعلم ظاهرا..
قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ... الآية) (75) .
دليل على أن العالم بالحق المعاند فيه أبعد عن الرشد، لأنه علم الوعد والوعيد ولم يثنه ذلك عن عناده..
قوله تعالى: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) (80) ، فيه رد على أبي حنيفة في استدلاله بقوله عليه السلام: «دعي الصلاة أيام حيضتك» «1» .. في أن مدة الحيض ما يسمى أيام الحيض، وأقلها ثلاثة
__________
(1) في حديثه صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت حبيش.
(1/11)
 
 
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (81) والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (82) وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون (83)
وأكثرها عشرة، لأن ما دون الثلاثة يسمى يوما أو يومين، وما زاد على العشرة يقال فيه أحد عشر يوما..
فيقال لهم: فقد قال الله تعالى في الصوم: (أياما معدودات) «1» وعنى به جميع الشهر، وقال: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) وعنى به أربعين يوما، وإذا أضيفت الأيام إلى عارض لم يرد به تحديد العدد، بل يقال: أيام مشيك وسفرك وإقامتك وإن كان ثلاثين وعشرين وما شئت من العدد.
ولعله «2» أراد ما كان معتادا لها، والعادة ست أو سبع «3» .
قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) (81) .
فيه دليل على أن المعلق من اليمين على شرطين لا يتنجز بأحدهما «4» ومثله قوله تعالى:
(.. الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) «5» ..
قوله تعالى: (وقولوا للناس حسنا) (83) .
يجوز أن يكون مخصوصا بالمسلمين.
ويجوز أن يكون قد نسخه الأمر بقتال المشركين ولعنهم.
__________
(1) سورة البقرة آية 184.
(2) أي النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) وهي المدة العادية للحيض. [.....]
(4) حيث علق الجزاء وهو الخلود في النار بوجود الشرطين لأن الخطيئة لا تحيط الا بالكافر..
(5) سورة فصلت آية 30، وسورة الأحقاف آية 13.
(1/12)
 
 
ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم (114) ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم (115)
ويجوز أن يكون في الدعاء إلى الله تعالى «1» ..
قوله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) (114) :
قوله «منع» : نزل في شأن المشركين حين منعوا المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام، وسعيهم في خرابه بمنعهم من عمارته بذكر الله وطاعته.
وقوله: (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) (114) .
يدل على أن للمسلمين إخراجهم منها إذا دخلوها، لولا ذلك ما كانوا خائفين بدخولها.
ويدل على مثل ذلك قوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) «2» :
وعمارتها تكون ببنائها وإصلاحها، والثاني: حضورها ولزومها..
كما يقال: فلان يعمر مسجد فلان، أي يحضره ويلزمه..
قوله عز وجل: (ولله المشرق والمغرب) (115) .
يدل على جواز التوجه إلى الجهات في، النوافل، وللمجتهد جواز التعبد بالجميع..
وقوله: (وقالوا اتخذ الله ولدا) الآية (116) :
__________
(1) أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناهما الشامل للجهاد.
(2) سورة التوبة آية 17.
(1/13)
 
 
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (124)
يدل على امتناع اجتماع الملك والولادة، إلا جواز الشراء توسلا إلى العتق بقوله عليه السلام: «فيشتريه فيعتقه» «1» .. أي بالشراء يعتقه، كقوله عليه السلام «الناس عاريان: فبائع نفسه فموبقها؟؟؟، ومشتر نفسه فمعتقها» «2» .. يريد أنه يعتقها بالشراء لا باستئناف عتق.
قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) ، الآية (124) .
دلت على أن التنظف ونفي الأوساخ والأقذار عن الثياب والبدن مأمور به، وقد قال سليمان بن فرج أبو واصل: أتيت أبا أيوب فصافحته فرأى في أظفاري طولا، فقال:
جاء رجل إلى النبي عليه السلام يسأل عن أخبار السماء، فقال:
يجيء أحدكم فيسأل عن أخبار السماء وأظفاره كأنها أظفار الطير يجتمع فيها الوسخ والنفث؟
وقالت عائشة رضي الله عنها:
«خمس لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم: يدعهن في سفر ولا حضر:
المرآة، والكحل، والمشط، والمدري، والسواك» «3» .
قوله تعالى: (إني جاعلك للناس إماما) (124) .
__________
(1) روى مسلم بسنده عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجزى ولد والدا الا ان يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» ورواه أبو داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد..
(2) والحديث في مسلم: كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
(3) قال العراقي في تخريج الأحياء: رواه الطبراني في الأوسط، والبيهقي في سننه، والخرائطي في مكارم الأخلاق واللفظ له، وطرقه كلها ضعيفة.
(1/14)
 
 
الإمام: من يؤتم به في أمر الدين، كالنبي عليه السلام، والخليفة والعالم.
أخبر الله تعالى إبراهيم أنه جاعله للناس إماما، وسأل إبراهيم ربه أن يجعل من ذريته أئمة، فقال تعالى:
(لا ينال عهدي الظالمين) (124) .
ودل قول الله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) على أن الإجابة قد وقعت له في أن من ذريته أئمة، ولكن لا إمامة لظالم حتى لا يقتدى به، ولا يجب على الناس قبول قوله في أمر الدين.
نعم: كان يجوز أن تظهر المعجزة على يد فاسق ظالم، ويجب قبول قوله لوجود الدليل، وإن لم يجب قبول قول الفاسق، لعدم ظهور الصدق الذي هو دليل قبول قوله، فأما دليل المعجزة فلا يختلف بالظلم وعدمه عقلا، غير أن العصمة وجبت للأنبياء سمعا.
ويجوز عقلا وجوب قبول قول الفاسق، ولكن دلت هذه الآية على أن عهد الله تعالى لا ينال الظالمين.
فيحتمل أن يكون ذلك النبوة، ويحتمل أن يكون ما أودعهم من أمر دينه، وأجاز قولهم فيه، وأمر الناس بقبوله منهم.
ويطلق العهد على الأمر، قال الله تعالى:
(إن الله عهد إلينا) «1» ، يعني أمرنا، وقال:
(ألم أعهد إليكم يا بني آدم) «2» . يعني: ألم أقدم إليكم الأمر به.
__________
(1) سورة آل عمران آية 183.
(2) سورة يس آية 60.
(1/15)
 
 
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود (125)
وإذا كان عهد الله هو أوامره، فقوله: (لا ينال عهدي الظالمين) ، لا يريد به أنهم غير مأمورين لأن ذلك خلاف الإجماع، فدل على أن المراد به أن يكونوا بمحل من تقبل منهم أوامر الله، ولا يؤمنون عليها.
قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة «1» للناس وأمنا) ، يحتج به في كون الحرم مأمنا، ويحتمل أن يكون معناه جميع الحرم، كقوله:
(ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) «2» . وقوله: (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) «3» . إلا أن معناه أنه مأمن عن النهب والغارات، ولذلك قال النبي عليه السلام في خطبته يوم فتح مكة:
«إن الله حبس عن مكة الفيل، وملك عليها رسوله والمؤمنين، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة، لا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد» «4» .
نعم، قد روى أبو شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، فلا يسفكن فيها دم، وإن الله تعالى حلها لي ساعة ولم يحلها للناس» «5» .
__________
(1) مثابة أصله من ثاب يثوب إذا رجع، أي يرجعون اليه في كل عام، ولا ينصرف عنه أحد فيرى نفسه قد قضى غرضه. والآية 125 من سورة البقرة.
(2) سورة البقرة آية 191.
(3) سورة التوبة آية 28.
(4) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما في باب تحريم مكة وتحريم صيدها.
(5) أخرجه البخاري بنحوه في الحج، ومسلم في صحيحه ج 9 ص 126 نووي.. [.....]
(1/16)
 
 
ويحتمل أن يكون جعلها مأمنا ما جعل فيها من العلامة العظيمة على توحيد الله تعالى، واختصاصه لها بما يوجب تعظيمها ما شوهد من مر الصيد فيها، فإن سائر بقاع الحرم مشبهة لبقاع الأرض، ويجتمع فيها الكلب والظبي، فلا يهيج الكلب، ولا ينفر منه الظبي، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه، وعاد إلى النفور والهرب.
وقوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) (125) .
يدل على ركعتي الطواف وغيرهما من الصلوات.
وقوله: (أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) (125) .
يدل من وجه على أن الطواف للغرباء أفضل، والصلاة للمقيمين والعاكفين بها أفضل..
ويدل على اشتراط الطهارة للطواف، ويدل على جواز الصلاة في نفس الكعبة ردا على مالك في منع الصلاة المفروضة في الكعبة «1» . دون النفل.
وأمره بتطهير نفس البيت يدل على الصلاة- التي شرعت الطهارة فيها- في نفس البيت.
ودل أيضا قوله تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) «2» على جواز الصلاة «3» ، إذ الشطى الناحية، والمصلى في البيت متوجه إلى ناحية منه.
__________
(1) في الأحكام للجصاص «في البيت» وما هنا أوضح، وهذا الاستدلال مأخوذ من الأمر بتطهير نفس البيت، ومنه الكعبة، ولو لم يشمل ذلك تطهير داخلها للركع السجود لكان المطلوب تطهير ما حولها فقط وهو ما أشار اليه هنا.
(2) سورة البقرة آية 144.
(3) أي فهي البيت.
(1/17)
 
 
وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126)
قوله تعالى: (رب اجعل هذا بلدا آمنا) (126) .
يعني من القحط والغارة لا على ما ظنه بعض الجهال أنه يمنع من سفك الدم في حق من لزمه القتل. فإن ذلك يبعد كونه مقصودا لإبراهيم عليه السلام حتى يقال: إنه طلب من الله أن يكون في شرعه تحريم قتل من التجأ إلى الحرم ممن حرم الله تعالى عليه دخول الحرم والمقام فيه وأمره بالخروج ومنع من معاملته. وتعزيره على ظلمه دون أن يكون مراده منه رفع القبر؟؟؟ «1» والغارات والنهوب والقتال خاصة إذا قيل: يجوز قطع الأيدي في السرقة وإقامة الجلدات في الجرائم الموجبة لها. وكيف يحصل معنى الأمن مع هذا؟
ودل سياق الآية على ذلك. فإنه تعالى قال:
(وارزقهم من الثمرات) «2» .
وقال: (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) «3» .
ومنع الله تعالى من اصطلام «4» أهلها ومنع من الخسف والغرق الذي لجو غيرها وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار أهلها متميزين بالأمن عن غيرهم من أهل القرى.
قوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) «5» ، يوجب الطواف
__________
(1) القتر: جمع قترة وهي بيت الصائد الذي يستتر به عند تصيده وقتر اللحم من باب ضرب وقتل ارتفع قتاره أي دخانه إذا طبخ والمراد المنع من الصيد وأكله فيه.
(2) سورة ابراهيم آية 37.
(3) سورة ابراهيم آية 37.
(4) الاصطلام: الاستئصال واصطلم القوم أبيدوا.
(5) سورة الحج آية 29.
(1/18)
 
 
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127) ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم (128)
لجميع البيت فمن سلك الحجر أو علا شاذروان «1» الكعبة وهي من البيت فلم يطف جميع البيت فلا يجوز.
قوله: (ربنا تقبل منا) (127) .
معناه: يقولان ربنا كما قال تعالى:
(والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم) «2» معناه: يقولون: أخرجوا أنفسكم.
قوله تعالى: (أرنا مناسكنا) (128) .
يقال أن أصل النسك في اللغة الغسل يقال منه: نسك ثوبه إذا غسله وهو في الشرع اسم للعبادة يقال: رجل ناسك إذا كان عابدا.
وقال البراء ابن عازب:
خرج النبي عليه السلام يوم الأضحى فقال:
«إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح» «3» .
وقال عز وجل: (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) «4» يعني ذبح شاة.
ومناسك الحج: ما يقتضيه من الذبح وسائر أفعاله.
وقال عليه السلام حين دخل مكة محرما:
«خذوا عني مناسككم» «5» .
__________
(1) شاذروان الكعبة: البناء المحدودب الذي في جدار البيت وأسقط من أساسه ولم يرفع على استقامته.
(2) سورة الأنعام آية 93.
(3) أخرجه أبو داود الطيالسي ووهب بن جرير عن شعبة عن زبيد اليامى عن الشعبي عن البراء بن عازب. انظر شرح معاني الآثار للطحاوي ج 4 ص 173 وهو في البخاري كتاب العيدين بنحوه.
(4) سورة البقرة آية 196.
(5) الحديث رواه الامام مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي.
(1/19)
 
 
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (130) إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (131) ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132) أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون (133) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون (134) وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (135) قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136) فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137) صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون (138) قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون (139) أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون (140) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون (141) سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (142)
قوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم) الآية (130) .
يدل على لزوم اتباع إبراهيم في شرائعه فيما لم يثبت نسخه.
وقوله تعالى: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) (142) .
يدل على جواز النسخ: لقوله: (ولله المشرق والمغرب) ومعناه: أن الجهات لا تقتضي التوجه في الصلاة إليها لذواتها وإنما وجود التوجه إليها بإيجاب الله تعالى.
وقد دلت الآية أيضا على جواز نسخ السنة بالقرآن «1» لأن النبي عليه السلام كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس- وليس في القرآن ذكر ذلك- ثم نسخ.
ومن يأبى ذلك يقول: قد ذكر ابن عباس أنه نسخ قوله تعالى:
(فأينما تولوا فثم وجه الله) «2» . وكان التوجه إلى حيث كان من الجهات في مضمون الآية ثم نسخ بالتوجه إلى الكعبة.
ولما نسخت القبلة إلى بيت المقدس وصل الخبر إلى أهل قباء في صلاتهم فاستداروا ففهم منه أن الأمة إذا عتقت وهي في الصلاة أنها تأخذ قناعها وتبني وهذا أصل في قبول خبر الواحد في أمر الدين.
ويدل على جواز ثبوت نسخ بقاء الحكم بعد الأمر الأول بقول الواحد.
وأن الدليل الموجب للعلم بثبوت الحكم غير الدليل المبقي ولذلك
__________
(1) راجع القرطبي. [.....]
(2) سورة البقرة آية 115.
(1/20)
 
 
قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون (144) ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين (145) الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون (146) الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (147) ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير (148)
صح ثبوت النسخ بقول الواحد.
ويمكن أن يفهم منه أن المتيمم إذا رأى الماء في خلال الفلاة يتوضأ ويبنى.
وقوله تعالى: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) (144) «1» :
خطاب لمن كان معاينا للكعبة ولمن كان غائبا عنها.
والمراد لمن كان حاضرها إصابة عينها ومن كان غائبا عنها ولا يمكنه إصابة عينها فلا يكلف ما لا يطيق وإنما سبيله الاجتهاد فهو دليل على استعمال الأدلة وهو سبيل القياس في الحوادث أيضا.
ويدل على أن الأشبه من الحوادث حقيقة مطلوبة بالاجتهاد ولذلك صح تكليف طلب القبلة بالاجتهاد لأن لها حقيقة ولو لم يكن هناك قبلة رأسا لما صح تكليفنا طلبها.
قوله: لكل وجهة
«2» وموليها) (148) :
يفيد أن لكل قوم من المسلمين وجهة من أهل سائر الآفاق إلى جهات الكعبة وراءها وقدامها وعن يمينها أو شمالها كأنه أفاد أنه ليس جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها.
__________
(1) والشطر في اللغة يقال على النصف من الشيء وعلى القصد والمراد بالمسجد الحرام البيت من التعبير عن الشيء بما يجاوره وأراد سبحانه أن من بعد عن البيت يقصد الناحية لا عين البيت ابن العربي في الاحكام.
(2) والوجهة هيئة التوجه وتطلق على المكان المتوجه اليه والمراد أن لكل حالة في التوجه الى القبلة مكان يتوجه اليه.
(1/21)
 
 
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون (150) كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (151) فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون (152)
قوله: استبقوا الخيرات)
(148) :
يدل على أن تعجيل الطاعات أفضل من تأخيرها.
قوله تعالى: (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم) (150) .
من الناس من يحتج به في جواز الاستثناء من غير جنسه وقد قال قوم: هو استثناء منقطع «1» ومعناه: لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبهة ويضيعون موضع الحجة وهو مثل قوله:
(ما لهم به من علم إلا اتباع الظن) «2» . معناه: لكن اتباع الظن.
وقال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
ومعناه: لكن بسيوفهم فلول وليس بعيب.
وقيل: أراد بالحجة المحاجة والمجادلة ومعناه: لئلا يكون للناس عليكم حجاج إلا الذين ظلموا منهم يحاجونكم بالباطل.
قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم) (152) .
يحتمل التفكر في دلائله.
ومثله قوله: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) «3» .
__________
(1) كما روى ذلك ابن عطية وذكر القرطبي «وقالت فرقة- الا الذين- استثناء متصل» اهـ ج 2 ص 169.
(2) سورة النساء آية 157.
(3) سورة الرعد آية 28.
(1/22)
 
 
ياأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين (153) ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون (154) ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين (155)
وقوله تعالى بعده: (استعينوا بالصبر والصلاة) (153) :
عقب قوله (فاذكروني أذكركم) .
يدل على أن الصبر وفعل الصلاة معونة في التمسك بأدلة العقول الدالة على وحدانيته.
وهو مثل قوله: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) «1» أخبر أن فعل الصلاة لطف في ترك الفحشاء والمنكر ثم عقبه بقوله:
(ولذكر الله أكبر) .
يعني أن ذكر الله تعالى بالقلب في دلائله أكبر من فعل الصلاة وأن فعل الصلاة معونة في التمسك بهذا الذكر ولطف في إدامته.
قوله تعالى: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات) الآية (154) :
قيل دليل على إحياء الله الشهداء بعد موتهم لا حياة القيامة فإنه قال: «ولكن لا تشعرون» .
وإذا كان الله تعالى يحييهم بعد الموت ليرزقهم فيجوز أن يحيي الكفار ليعذبهم وفيه دليل على عذاب القبر.
قوله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين) (155) :
فقدم ذكر ما علم أنه يصيبهم ليوطنوا أنفسهم عليه فيكون أبعد لهم من الجزع ويكونوا مستعدين له فلا يكون كالهاجم عليهم.
__________
(1) سورة العنكبوت آية 45.
(1/23)
 
 
الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156)
وفيه تعجيل ثواب الله تعالى على العزم وتوطين النفس.
قوله تعالى: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله) (156) :
يعني إقرارهم بالعبودية في تلك الحالة بتفويض الأمور إليه والرضا بقضائه فيما يبتليهم به وأنه لا يقضي إلا بالحق كما قال تعالى:
(والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء) «1» .
وقوله: (وإنا إليه راجعون) إقرار بالبعث وأن الله تعالى يجزي الصابرين على قدر استحقاقهم.
ثم الصبر على جهات مختلفة:
فما كان على فعل الله تعالى فهو بالتسليم والرضا وما كان من فعل العدو فهو بالصبر على جهادهم والثبات على دين الله تعالى لما يصيبهم من ذلك.
ونبهت الآية على فرح الصابرين وما في الصبر من تسلية عن الهم ونفي الجزع وفيه صبر على أن الفرائض لا يثنيه عنها مصاعب الدنيا وشدائدها..
وفي التلفظ بقوله تعالى: (إنا لله وإنا إليه راجعون) غيظ الأعداء لعلمهم بجده واجتهاده ويقتدي به غيره إذا سمعه وربما ترقى الأمر بالصابر المفكر في الدنيا إلى أن- لا يحب- البقاء فيها وهو الزهد في الدنيا والرضا بفعل الله تعالى عالما بأنه صدر من عند من لا يتهم عدله
__________
(1) سورة غافر آية 20.
(1/24)
 
 
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم (160)
ولا يصدر عن غير الحكمة فعله. وأنه لا يجوز أن يفوته ما قد قدر لحوقه به ومن علم أن لكل مصيبة ثوابا فينبغي أن لا يحزن لها.
قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات) (159) مع أمثاله في القرآن:
يدل على وجوب إظهار علوم الدين وتبيينها للناس وعم ذلك المنصوص عليه والمستنبط لشمول اسم الهدى للجميع.
وفيه دليل على وجوب قبول قول الواحد لأنه لا يجب البيان عليه إلا وقد وجب قبول قوله..
وقال: (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) (160) . فحكم بوجوب البيان بخبرهم.
فإن قيل: إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون فيتواتر بهم الخبر..
قلنا: هذا غلط لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه.
ومتى جاز منهم التواطؤ على الكتمان جاز منهم التواطؤ في النقل فلا يكون خبرهم موجبا للعلم.
ودلت الآية أيضا على لزوم إظهار العلم وترك كتمانه ومنع أخذ الأجرة عليه إذ لا تستحق الأجرة على ما عليه فعله كما لا يستحق الأجرة على الإسلام.
وقال: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا) «1» .
__________
(1) سورة البقرة آية 174.
(1/25)
 
 
إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (161)
وذلك يمنع أخذ الأجرة على الإظهار وترك الكتمان لأن قوله:
(ويشترون به ثمنا قليلا) مانع من أخذ البدل عليه من سائر الوجوه إذ كان الثمن في اللغة هو البدل.
وقوله: (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) (160) :
يدل على أن التوبة من الكتمان إنما تكون بإظهار البيان وأنه لا يكتفي في صحة التوبة بالندم على الكتمان فيما سلف دون البيان فيما يستقبل..
قوله تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله) (160) .
فيه دليل على أن على المسلمين لعن من مات كافرا وأن زوال التكليف عنه بالموت لا يسقط عنه مذمة لعن المسلمين وكذلك إذا جن الكافر وأنه ليس لعنتنا له بطريق الزجر عن الكفر بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره..
وقد قال قول من السلف إنه لا فائدة في لعن من مات أو جن منهم لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر فإنه لا يتأثر به..
والمراد بالآية على هذا المعنى أن الناس يلعنونه يوم القيامة ليتأثر بذلك ويتضرر به ويتألم قلبه ويكون ذلك جزاء على كفره كما قال تعالى:
(ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) «1» ..
ويدل على صحة هذا القول أن الآية دالة على الإخبار من الله تعالى بلعنهم لا على الأمر..
__________
(1) سورة العنكبوت آية 25.
(1/26)
 
 
وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (163) إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون (164)
قوله تعالى: (وإلهكم إله واحد) (163) .
دل على الاتحاد في الذات والصفات واستحالة المثل والاتحاد في الوجوه منفردا بالقدم فانتظم وصفه لنفسه بأنه واحد هذه المعاني..
وقوله: (إن في خلق السماوات والأرض) (164) :
بيان توحده في أفعاله وأمر لنا بالاستدلال بها ردا على من نفى حجج العقول..
واعلم أن الدلالة الأصلية على الصانع إثبات حدوث الأجسام والجواهر أما قوله تعالى على التفصيل: (إن في خلق «1» السماوات والأرض) فهو من جهة وقوف السماء على غير عمد ودلالة ذلك من جهة السكون أو الحركة..
وفيه شيء آخر وهو أن وقوف الثقيل بلا مساك «2» يقله تتعجب منه العامة مع أن الثقل لا معنى له إلا اعتمادات يخلقها الله تعالى وليس يجب هوى الجرم وذهابه في جهة دون جهة من جهة كثرة الأجزاء وقلتها غير أن وقوف العظيم غير هاو متعجب منه عند من لا يعرف السبب فيه..
ولا سبب للسكون إلا خلق الله تعالى السكون فيه ولا يقف حجر في الهواء من غير علاقة «3» ودل ذلك على القدرة وخرق العادة:
ولو جاء نبي وتحدى بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزا..
__________
(1) الخلق هنا بمعنى المخلوق إذ الآيات التي تشاهد انما هي في المخلوق الذي هو السماوات والأرض فالاضافة بيانية.
(2) أي بلا شيء يمسك به يستطيع حمله.
(3) بكسر العين ما يحمل به.
(1/27)
 
 
وأما اختلاف الليل والنهار فلتعاقبهما. وتعاقبهما على سنن واحد يدل على أول لاستحالة حوادث لا أول لها..
ودل اتساق هذه الأفعال وحركات الفلك على أن لها صانعا عالما قادرا يدبرها ويديرها.
ودلالة الفلك من جهة أن الجسم السيال كيف يحمل الثقل العظيم وكيف صار الفلك على عظمه وثقل ما فيه مسخرا للرياح وذلك يقتضي مسخرا يسخر الفلك والماء والرياح.
والماء المنزل من السماء فيه دليل من جهة أن الماء شابه السيلان فارتفاعه عجب ثم إمساكه في السحاب غير سائل منه حتى ينقله إلى الموضع الذي يريده بالسحاب المسخرة لنقله فيه فجعل السحاب مركبا للماء والرياح مركبا للسحاب حتى يسوقه من موضع إلى موضع ليعم نفعه سائر خلقه كما قال الله تعالى:
(أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز) «1» . ثم أنزل ذلك الماء قطرة قطرة لا تلتقي واحد مع صاحبتها في الجو مع تحويل الرياح لها حتى تنزل كل قطرة على حيالها إلى موضعها من الأرض فلولا أن مدبرا دبره على هذا الوجه كيف كان يجوز أن ينزل الماء من السحاب مع كثرته وهو الذي تسيل منه السيول العظام على هذا الترتيب والنظام فلو اجتمع القطر وائتلف في الجو لقد كان يكون نزولها مثل السيول المجتمعة منها عند نزولها إلى الأرض فيؤدي ذلك إلى هلاك الحرث والنسل.
واعلم أن من عرف حدوث العالم لأمر مر يعلم أن فعل الله تعالى
__________
(1) سورة السجدة آية 27. [.....]
(1/28)
 
 
في جميع ما ذكرناه لا بآلة فلا العلاقة ماسكة ولا الماء حامل ولا الريح ولا السحاب مركب ولا الرياح سابقة فإنها جمادات لا أفعال لها وإنما هذه عادات أجراها الله تعالى وليست موجبة وكذلك حياة الأراضي بالمياه وخروج أنواع النبات منها ليس بالمياه ولعل إجراء العادة في إنشاء الخلق على النظام المعلوم تنبيه للعباد عند كل حادث من ذلك على قدرته والفكر في عظمته وليشعرهم في كل وقت بما أغفلوه ويحرك خواطرهم للفكر فيما أهملوه فخلق الأرض والسماء ثابتين لا يزولان إلى الوقت المقدر ثم أنشأ الحيوان من الناس وغيرهم من الأرض ثم أنشأ للجميع رزقا منها وأقواتا تبقي حياتهم بها.
ولم يعطهم ذلك الرزق جملة فيظنون أنهم مستغنون بما أعطوا بل جعل لهم قوتا معلوما في كل سنة بمقدار الكفاية لئلا يبطروا ويكونوا مستشعرين بالافتقار إليه في كل حال.
ووكل إليهم بعض الأسباب التي يتوصلون بها إلى ذلك من الحرث والزراعة ليشعرهم أن للأعمال ثمرات من الخير والشر فيكون ذلك باعثا لهم إلى فعل الخير ليجتنوا ثمرته واجتناب الشر ليسلموا من مغبته فيتولى من الأسباب ما لا يتأتى للخلق تحصيله.
ثم جعل تلك الأسباب داعية لهم إلى الكسب والتبذل في الأعمال الشاقة لئلا يبطروا وجعل أخلاقهم متفاوتة ليختلف بذلك صناعاتهم ويختلف درجاتهم في المهن والأعمال وأنزل ما أنزل إلى الأرض بمقدار الحاجة ثم لم يقتصر فيما أنزله من السماء على منافعه في وقت نزوله حتى جعل للماء مخازن وينابيع في الأرض يجتمع فيها ذلك الماء فيخزن أولا فأولا على مقدار الحاجة كما قال تعالى:
(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع)
(1/29)
 
 
(في الأرض)
«1» وقال:
(وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون) «2» ..
ولو كان اقتصر على ما ينزل من السماء من غير حبس له في الأرض إلى وقت الحاجة لكان قد سال كله وكان في ذلك هلاك الحيوانات كلها فجعل الأرض بمثابة بيت يأوي إليه الإنسان والسماء بمنزلة السقف وجعل ما يحدثه من المطر والنبات والحيوان والملابس والمطاعم بمنزلة ما ينقله الإنسان إلى بيته لمصالحه.
ثم سخر هذه الأرض لنا وذللها للمشي عليها وسلوك طرقها ومكننا من الانتفاع بها في بناء الدور والبيوت للسكن من المطر والحر والبرد وتحصينا من الأعداء ولم يحوجنا إلى غيرها وأي موضع أردنا منها بالانتفاع بها «3» . في إنشاء الأبنية مما هو موجود فيها من الحجارة والجص والطين ومما يخرج منها من الخشب والحطب أمكننا ذلك.
وسهل علينا سوى ما أودعها من الجواهر التي عقد بها منافعها من الذهب والفضة والحديد والرصاص والنحاس وغير ذلك كما قال تعالى: (وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام) «4» ..
فهذه كلها وما يكثر تعداده ولا يحيط به علمنا من بركات الأرض ومنافعها..
ثم لما كانت مدة أعمارنا وسائر الحيوان لا بد أن تكون متناهية جعلها كفاتا لنا بعد الموت كما جعلها في الحياة فقال:
__________
(1) سورة الزمر آية 21.
(2) سورة المؤمنون آية 18.
(3) في الجصاص: فأي موضع منها أردنا الانتفاع به في إنشاء الأبنية.
(4) سورة فصلت آية 10.
(1/30)
 
 
(ألم نجعل الأرض كفاتا، أحياء وأمواتا) «1» ، وقال:
(إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها) «2» الآية..
ثم لم يقتصر فيما خلق من النبات والحيوان على الملذ دون المؤلم، ولا على الغذاء دون السم، ولا على الحلو دون المر، بل مزج ذلك كله ليشعرنا أنه غير مريد منا الركون إلى هذه الدار، لئلا تطمئن نفوسنا إليها فنشتغل بها عن الدار الآخرة التي خلقنا لها، فكان النفع في خلق الدواب المؤذية كالنفع في اللذة السارة، ليشعرنا في هذه الدار كيفية الآلام، ليتضح الوعيد بألم الآخرة، وينزجر عن القبائح، فإذا رأى حرا مفرطا تذكر نار جهنم فيتعوذ بالله منها، وإذا رأى بردا مفرطا تذكر برد الزمهرير فيتعوذ منه، واستدل بالقليل الفاني على الكثير الباقي، وانزجر عن القبائح طلبا لنعيم محض لا يشوبه كدر.
وفي قوله تعالى: (والفلك التي تجري في البحر) (164) دلالة على إباحة ركوب البحر تاجرا وغازيا، وطالبا صنوف المآرب.
وقال في موضع آخر:
«هو الذي يسيركم في البر والبحر» «3» . وقال:
«ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله» «4» ..
__________
(1) سورة المرسلات آية 25، ومعنى كفاتا، الموضع الذي يكفت فيه الشيء أي يضم ويجمع.
(2) سورة الكهف آية 7، 8 وتمام الآية (لنبلوهم أيهم أحسن عملا، وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) .
(3) سورة يونس آية 22.
(4) سورة الأسراء آية 66.
(1/31)
 
 
فقد انتظم «1» التجارة وغيرها، كقوله تعالى:
(فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) «2» .
(أن تبتغوا فضلا من ربكم) «3» .
قوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة) (173) عموم في السمك والجراد وغيرهما.
وللناس كلام في جواز تخصيص عموم كلام الله تعالى بالسنة، وقد روى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالطحال والكبد» .
وقد روى عمرو بن دينار عن جابر في قصة جيش الخبط «4» :
فإن البحر ألقى إليهم حوتا أكلوا منه نصف شهر، فلما رجعوا إلى النبي عليه السلام فأخبروه، فقال: هل عندكم منه شيء تطعموني؟
وبالجملة: الخبر عام، وأيضا الكتاب عام، فإذا وقع التنازع في الطافي «5» ، لم يصح الاستدلال بعموم الخبر على عموم الكتاب..
ومنهم من يستدل على تخصيص عموم آية تحريم الميتة بقوله تعالى:
(أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم) «6» .
__________
(1) أي ابتغاء الفضل.
(2) سورة الجمعة آية 10.
(3) سورة البقرة آية 198 وأولها: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) .
(4) الخبط بفتح المعجمة والموحدة: ورق السلم، نوع من الأشجار.
(5) أي السمك الطافي وهو الذي يموت حتف أنفه.
(6) سورة المائدة آية 96. [.....]
(1/32)
 
 
وهذا مع عمومه لا يصلح لتخصيص عموم تحريم الميتة.
واستدلوا عليه بقول النبي عليه السلام أنه قال في حديث صفوان بن سليمان الزرقي. عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة (عن أبي هريرة) عن النبي عليه السلام أنه قال في البحر:
«هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» ..
وسعيد بن سلمة مجهول غير معروف بالتبت، وقد خالفه في سنده يحيى ابن سعيد الأنصاري فرواه عن المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبيه، عن رسول الله عليه السلام، ومثل هذا الاضطراب في السند يوجب اضطراب الحديث، وغير جائز تخصيص آية محكمة به.
وقد روى زياد بن عبد الله البكائي قال: حدثنا سليمان الأعمش، قال: حدثنا أصحابنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«البحر الذكي صيده، والطهور ماؤه» ..
وهذا أضعف عند أهل النقل من الأول.
وقد روي فيه حديث آخر، وهو ما رواه يحيى بن أيوب، عن جعفر بن ربيعة وعمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة، عن أبي معاوية العلوي، عن مسلم بن إبراهيم، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له في البحر:
«هو الطهور ماؤه الحل ميتته» ..
قال أبو بكر الرازي، وهو الذي روى هذه الأخبار:
وحدثنا عبد الباقي بن قانع، قال أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: أخبرنا أبو القاسم بن أبي الزناد قال:
أحكام القرآن ج 1 م 3
(1/33)
 
 
حدثنا إسحاق بن حازم، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر، عن النبي عليه السلام أنه سئل عن البحر، فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» .
وأما أبو عيسى الترمذي فإنه يروي حديث سعيد بن سلمة في صحيحه، ويقول: إنه من آل ابن الأزرق، ويقول: إن المغيرة بن أبي بردة- وهو من بني عبد الدار- أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول:
«سأل رجل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ من البحر؟ ..
فقال عليه السلام: «البحر هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» .
قال أبو عيسى: وفي الباب عن جابر والفراسي، ثم قال وهذا حديث حسن صحيح..
وروى الرازي عن علي أنه قال:
«ما طفا من صيد البحر فلا تأكله» «1» .
وروى أيضا عن جابر وابن عباس كراهة الطافي.
وروى عن أبي بكر الصديق وأبي أيوب إباحة الطافي من السمك..
وروى الرازي في أحكام القرآن- بإسناد له متصل عن جابر- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«ما ألقى البحر أو جزر «2» عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه» ..
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص.
(2) جزر: نضب وبابه ضرب ونصر.
(1/34)
 
 
وروي بإسناد آخر عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«ما جزر البحر عنه فكل «1» ، وما ألقي فكل، وما وجدته طافيا فوق الماء فلا تأكل» .
وروي بإسناد آخر عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إذا صدتموه (وهو حي) فكلوه، وما ألقى البحر (حيا) فمات فكلوه وما وجدتموه ميتا طافيا فلا تأكلوه» ..
وروي بإسناد آخر عن جابر:
«ما وجدتموه وهو حي (فمات) فكلوه، وما ألقى البحر طافيا ميتا فلا تأكلوه» ..
وروى «2» سفيان الثوري وأيوب وحماد عن أبي الزبير موقوفا على جابر..
وبالجملة: هذه الأخبار لا نعرف صحتها على ما يجب، ولكن الإشكال في عموم كتاب الله تعالى، ويقابله أن عموم كتاب الله تعالى أنفقت الأمة على تطرق التخصيص إليه في غير الطافي من ميتات السمك فلم يبق وجه العموم معمولا به، وصار الحديث المتفق على صحته واستعماله في غير الطافي معمولا به في الطافي..
وروى أصحابنا عن سعيد بن بشير، عن أبان بن أبي عياش، عن أنس بن مالك أن النبي عليه السلام قال:
__________
(1) في الأحكام للجصاص عن جابر: «ما جزر عنه البحر فلا تأكل وما ألقى فكل» وما هنا أصح لموافقته الرواية السابقة فلعل الخطأ من الكاتب.
(2) أي روى هذا الحديث كما في الجصاص.
(1/35)
 
 
«كل مما طفا على البحر» ..
وأبان بن أبي عياش ليس هو ممن يثبت ذلك بروايته.
وقال شعبة: لأن أزني سبعين زنية أحب إلي من أن أروى عن ابان ابن أبي عياش..
وقد أباح أبو حنيفة الميتة من الجراد «1» ، ومستنده قوله عليه السلام:
«أحلت لنا ميتتان» «2» ، وقضى بذلك على عموم الكتاب في تحريم الميتة، مع أن مالكا يقول في الجراد أنه إذا أخذ حيا وقطع رأسه وشوي أكل، وما أخذ منه حيا فغفل عنه حتى مات لم يؤكل، إنما هو بمنزلة ما وجد ميتا قبل أن يصاد فلا يؤكل عنده، وهو قول الزهري وربيعة..
وقال مالك: ما قتله مجوسي فلا يؤكل..
وقال الليث بن سعد: أكره الجراد ميتا، فأما إذا أخذته وهو حي فلا بأس به وقال النبي عليه السلام في الجراد:
«أكثر جنود الله: لا آكله ولا أحرمه» «3» ولم يفصل بين ما مات وبين ما قتله آخذه..
وقال عطاء عن جابر: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبنا جرادا فأكلناه..
__________
(1) سمي جرادا لأنه يجرد الأرض أي يلتهم ما فيها ويجتاحه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) رواه أبو داود عن سلمان، ورواه ابن عدى عن ابن عمر.
(1/36)
 
 
وقال عبد الله بن أبي أوفى:
«غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات فنأكل الجراد ولا نأكل غيره» «1» ..
وكانت عائشة تأكل الجراد وتقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكله» ..
وهذه الأخبار مستعملة بالإجماع في تخصيص بعض ما تناوله عموم الكتاب في السمك والجراد، وذلك يدل على بطلان مذهب مالك في الجراد، ومذهب أبي حنيفة في الطافي..
ولأن إسالة الدم إذا لم تعتبر فأي معنى لاشتراط الذكاة في النوعين، وأي أثر للآدمي واصطياده؟ ..
ودل ظاهر تحريم الميتة والمنخنقة على تحريم الأجنة كما قاله أبو حنيفة، وخالفه فيه صاحباه مع الشافعي..
ومالك يقول: إن تم خلقه ونبت شعره أكل وإلا لم يؤكل «2» :
وهو قول سعيد بن المسيب، لأنه عند تمام خلقه تحصل فيه الحياة والذكاة، وقبل ذلك لا حياة، فيبقى على عموم تحريم الميتة.
وذلك ضعيف، فإنه إن لم يكن حيا فلا يكون ميتة، فالميتة ما زايلتها الحياة..
وقد وردت أخبار في أن ذكاة الجنين ذكاة أمه، وبعد حملها على
__________
(1) رواه البخاري بسنده عن ابن أبي أوفى، ورواه مسلم بسنده عن عبد الله بن أبي أوفى، ورواه النسائي والترمذي.
(2) راجع الموطأ كتاب الذبائح باب ذكاة ما في بطن الذبيحة.
(1/37)
 
 
أن ذكاة الجنين مثل ذكاة الأم فإنه عند ذلك لا يكون جنينا، وإذا تم خرج حيا وفيه حياة مستقرة، فلا يخفى حكم الذكاة، فلا يكون في ذكره فائدة..
وقد روى مجالد عن أبي الوداك، عن أبي سعيد أن النبي عليه السلام سئل عن الجنين يخرج ميتا فقال:
«إن شئتم فكلوه، فإن ذكاته ذكاة أمه» «1» .
وأما مالك فإنه ذهب إلى ما روى في حديث سليمان بن عمران عن ابن البراء، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في أجنة الأنعام بأن ذكاتها ذكاة أمها إذا أشعرت.
وروى الزهري عن ابن كعب بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون:
(إذا أشعر الجنين فإن ذكاته ذكاة أمه» ..
والشافعي يقول: «نحن نقول بهما جميعا، إلا أن ذكر الإشعار كان تنبيها على مثله في الذي هو أولى بكونه جزءا من الأم» .
واقتضى عموم تحريم الميتة المنع من دبغ جلدها، لولا الخبر المخصص «2» واقتضى ظاهر الآية أيضا تحريم الانتفاع بدهن الميتة، وروى فيه محمد ابن إسحاق، عن عطاء، عن جابر قال:
__________
(1) رواه جماعة من الثقات عن يحيى بن سعيد ولم يذكروا فيه أنه خرج ميتا.
(2) روى مالك بسنده عن عبد الله بن عباس أنه قال: «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة كان أعطاها مولاة لميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفلا انتفعتم بجلدها؟ فقالوا: يا رسول الله، انها ميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
انما حرم أكلها» ورواه البخاري في الزكاة ومسلم وشرح النووي (كتاب الحيض) وفي رواية لمسلم: إذا دبغ الإهاب فقد طهر.
(1/38)
 
 
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتاه أصحاب الصليب الذين يجمعون الأوداك فقالوا: يا رسول الله، إنا نجمع هذه الأوداك «1» وهي من الميتة وغيرها، وإنما هي للأدم والسفن، فقال صلى الله عليه وسلم:
«لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها» «2» فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى إذا حرم شيئا حرمه على الإطلاق، ودخل تحته تحريم البيع..
وذكر عن عطاء أنه قال: يدهن بشحوم الميتة ظهور السفن، وهذا قول شاذ، فظن أصحاب أبي حنيفة ان تحريم الله تعالى عين الميتة منع الانتفاع بالميتة من الوجوه كلها، ومنع بيعها، ويجوز بيع الأعيان النجسة غير الميتة، إذ التحريم فيها ليس مضافا إلى العين.
قال الشافعي رحمه الله: ينبغي من قوله (حرمت عليكم الميتة) تحريم لبنها، وأبو حنيفة حكم بطهارة أنفحتها وألبانها، ولم يجعل لموضع الخلقة أثرا في تنجيس ما جاوره بما حدث فيه خلقة، قال:
ولذلك يؤكل اللحم بما فيه من العروق بمع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير غسل ولا تطهير لها، فدل ذلك على أن موضع الخلقة لا ينجس بالمجاورة لما خلق فيه، ويلزمه على مساق هذا الحكم بطهارة ودك الميتة، فإن الموت لا يحله أصلا، ونجاسة الخلقة لا تؤثر فيما جاورها..
وله أن يقول: إن الودك في حكم الجزء الباقي معه، واللبن خلق خلقا ينفصل عن الأصل فيحتلب ويستخرج منه، ولو انفصل الودك من الجملة في حياة الجملة كان نجسا بخلاف اللبن، فإذا لم ينجس اللبن
__________
(1) الأوداك: جمع ودك وهو دسم اللحم.
(2) رواه ابن ماجة.
(1/39)
 
 
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173)
في حالة الحياة إذا انفصل فإنما ينجس بالمجاورة، ونجاسة الخلقة لا تؤثر فيما جاورها.
والشعر والعظم من جملة الميتة، فعموم التحريم يشملهما.
قوله تعالى: «والدم» أوجب تحريم الدم مطلقا، وقال في موضع آخر:
(أو دما مسفوحا) «1» ، فلعل التقييد بالسفح تنبيه على ما يمكن سفحه ليخرج منه الكبد والطحال «2» ، أو لئلا تتبع العروق وما فيها من الدم في اللحم «3» ..
وقال تعالى: (ولحم الخنزير) بعد قوله: (حرمت عليكم الميتة) «4» ، وقال: (إلا أن يكون ميتة) - إلى قوله- (أو لحم خنزير فإنه رجس) ، فخص اللحم بالذكر، ولم يقل «حرمت الخنزير» كما قال: «حرمت الميتة» لأنه معظم ما يقصد منه، وفيه مراغمة للكفار الذين يتدينون بأكل لحمه، ومثله تحريم قتل الصيد
__________
(1) سورة الأنعام آية 145: (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) . [.....]
(2) قال ابن العربي: والصحيح أنه لم يخصص وأن الكبد والطحال لحم، يشهد بذلك العيان الذي لا يعارضه بيان ولا يفتقر الى برهان.. ويمكن أن يرد عليه بما ورد «أحلت لنا ميتتان ودمان..» .
(3) وفي الجصاص: روى القاسم بن محمد عن عائشة أنها سئلت عن الدم يكون في اللحم والمذبح، قالت: انما نهى الله عن الدم المسفوح، ولا خلاف بين الفقهاء في جواز أكل اللحم مع بقاء أجزاء الدم في العروق لأنه غير مسفوح، ألا ترى أنه متى صب عليه الماء ظهرت تلك الأجزاء فيه..
(4) سورة المائدة آية 3.
(1/40)
 
 
مع تحريم جميع الأفعال في الصيد. ونص على تحريم البيع إذا نودي للصلاة لأنه أعظم ما يبتغون به منافعهم.
فقيل لهم: فلم لا يخص كجسم الميتة تنبيها على الإجزاء؟ ..
فأجابوا بأنه أريد به مراغمة الكفار في تخصيص اللحم الذي هو أعظم مقاصدهم من الخنزير بالتحريم..
قوله تعالى: (وما أهل به لغير الله) (173) ، ولا يرى ذلك أصحابنا محرما إلا من جهة الإعتقاد، ومقتضاه أن النصراني إذا سمى المسيح على الذبح يحل، وهو ظاهر مذهب الشافعي ومذهب عطاء ومكحول والحسن وسعيد بن المسيب، والمشرك وإن ذبح على اسم الله تعالى لا يحل.
ونقل عن الشافعي خلاف ذلك في النصراني يذبح على اسم المسيح، وليس بصحيح، فإن الله تعالى أباح لنا أكل ذبائحهم مع علمه بأنهم يهلون باسم المسيح، وأن النصراني إذا سمى الله عز وجل ثالث ثلاثة فإنما يريد بمطلقه المسيح، وذلك معلوم من اعتقاده، وبه كفرناه، وليس كالمنافق الذي ليس يحكم بكفره ظاهرا بما يعتقده، والنصراني حكم بكفره لما يعتقده من الشرك فلا يغيره بالتسمية مع الإعتقاد القبيح «1» .
قوله: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد) (173) يحتمل غير باغ في الميتة ولا عاد في الأكل، ويحتمل العدوان بالسفر، فلا جرم اختلف قول الشافعي في إباحة أكل الميتة للمضطر العاصي بسفره.
ويشهد لأحد القولين قوله تعالى: (إلا ما اضطررتم إليه) «2» ، فإنه عام.
ويشهد للقول الآخر قوله: (ولا تقتلوا أنفسكم) «3» ...
__________
(1) في نسخة المبيح.
(2) سورة المائدة آية 119.
(3) سورة النساء آية 29.
(1/41)
 
 
ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (178)
وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة، بل هو عزيمة واجبة، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيا.
وليس تناول الميتة من رخص السفر، أو متعلقا بالسفر، بل هو من نتائج الضرورة سفرا كان أو حضرا، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضا، وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء، وهو الصحيح عندنا..
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص «1» في القتلى) الآية: (178) ظن ظانون أن أول الكلام تام في نفسه، وأن الخصوص بعده في قوله: (الحر بالحر والعبد بالعبد) لا يمنع من التعلق بعموم أوله، وهذا غلط منهم، لأن الثاني ليس مستقلا دون البناء على الأول، إذ قول القائل: «الحر بالحر والعبد بالعبد» لا يفيد حكم القصاص إلا على وجه البناء على الأول، فإن الثاني ليس الأول، وتقديره: كتب عليكم القصاص وهو الحر بالحر قصاصا، والعبد بالعبد قصاصا، فوجب بناء الكلام عليه.
قالوا: أمكن أن يقال: كتب عليكم القصاص مطلقا، وقوله:
(الحر بالحر) لنفي قتل غير القاتل، وهو معنى قوله عليه السلام:
«إن من أعنى الناس على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة: رجل قتل غير
__________
(1) القصاص هو أن يفعل به مثل ما فعل به من قولك اقتص أثر فلان أذا فعل مثل فعله، ومعنى كتب عليكم فرض عليكم، وتمام الآية: (الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) .
(1/42)
 
 
قاتله، ورجل قتل في الحرم، ورجل أخذ بذحول الجاهلية» «1» ..
والذي قالوه ممكن، إلا أن الأظهر ما قلناه من جعل القصاص على هذا الوجه، فتقديره: (كتب عليكم القصاص في القتلى) وكيفيته (الحر بالحر والعبد بالعبد) الآية..
فمن هذا صار الشافعي إلى أن الحر لا يقتل بالعبد.
ونفى أبو حنيفة القصاص بين الأحرار والعبيد مطلقا من الجانبين إلا في النفس.
وأجرى ابن أبي ليلى القصاص بينهم في جميع الجراحات التي يستطاع فيها القصاص..
وقال الليث بن سعد: إذا كان العبد هو الجاني اقتص منه في الأطراف والنفس، ولا يقتص من الحر بالعبد.
وقال: إذا قتل العبد الحر فلولي القتيل أن يأخذ نفس العبد القاتل فيكون له، وإذا جنى على الحر فيما دون النفس فللمجروح القصاص إن شاء..
وقال قائلون من علماء السلف: يقتل السيد بعبده.
وكل ذلك من حيث التعلق بعمومات وردت في القصاص..، ورووا عن سمرة بن جندب، عن النبي عليه السلام أنه قال:
__________
(1) الذحول جمع ذحل وهو الثأر روى أبو يعلى: أن من أشد الناس عتوا رجل قتل غير قاتله، وروى الامام أحمد الحديث كما هنا بلفظ: أن أعدى الناس على الله، وروى أهل السنن بعضه (سيرة ابن كثير ج 3 ص 580) ، راجع: مجمع بحار الأنوار ج 2: 227.
(1/43)
 
 
«من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه» «1» .
والذي ينفيه يقول: إنما جعل الله تعالى للولي السلطان في القصاص «2» ، وولي العبد سيده، فلا يستحق القصاص على نفسه، إذ ليس يستحق السيد القصاص على وجه الإرث انتقالا من العبد إليه، فلا ملك للعبد، وإنما يستوفي الإمام نيابة عن المسلمين إذا كان القصاص ثابتا للمسلمين إرثا، ولا يمكن ذلك في حق العبد.
ولا خلاف أنه لو قتل السيد عبده فلا خطأ فلا تؤخذ قيمته منه لبيت مال المسلمين.
وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رجلا قتل عبده متعمدا، فجلده النبي عليه السلام، ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين.
ولم يقده به» «3» .
ويحمل خبر سمرة على أنه كان بعد عتقه ثم قتله أو جدعه، فسماه عبدا استصحابا للاسم السابق..
ولهم أن يقولوا: وخبركم حكاية حال، فيحمل على أنه كان كافرا، أو أباح العبد له دم نفسه..
وقال الشافعي: يجري القصاص بين الرجال والنساء في النفس وما دونها من الأطراف، وهو قول مالك وابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي،
__________
(1) رواه ابن ماجة رقم 2663 وضعفه أبو بكر بن العربي في الأحكام، ورد ذلك القرطبي فقال: هذا الحديث الذي ضعفه ابن العربي وهو صحيح أخرجه النسائي وأبو داود.
(2) حيث قال: «ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا» سورة الإسراء آية 33.
(3) رواه ابن ماجة ولفظه: قتل رجل عبده عمدا متعمدا، فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة، ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين.
(1/44)
 
 
إلا أن الليث بن سعد قال: إذا جنى الرجل على امرأته عقلها ولم يقتص منه بها، وكأنه رأي أن النكاح ضرب من الرق فأقرن شبهه في القصاص.
وقال عثمان البتي «1» : إذا قتلت امرأة رجلا قتلت، وأخذ من مالها نصف الدية، وكذلك فيما دون النفس، وإن قتلها الرجل فعليه القود ولا يرد عليها شيء..
وعمدة من أوجب القصاص التعلق بالعمومات»
ولا مخصص، وليس في شيء منها ضم الدية إلى القصاص..
وقال عليه السلام: من قتل قتيلا فوليه بخير النظرين بين أن يقتص أو يأخذ الدية» «3» ، ولم يذكر التخيير.
وترك الشافعي العمومات في قتل المسلم بالكافر لأنها منقسمة، فمنها قوله تعالى: (كتب عليكم القصاص في القتلى) .. ومساق ذلك يدل على الإختصاص بالمسلم، فإنه قال: (فمن عفي له من أخيه شيء) ، ولا يكون الكافر أخا للمسلم، وقال: (ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) .
وأما قوله: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) «4» . فلا حجة فيه، فإنا نجعل له سلطانا وهو طلب الدية.
وأما قوله: (وكتبنا عليهم فيها) «5» . فإخبار عن شريعة
__________
(1) هو عثمان بن مسلم البتي البصري الفقيه، وثقه أحمد وغيره، روى له الأربعة.
(2) مثل: «كتب عليكم القصاص في القتلى» وغيرها..
(3) رواه البخاري، كتاب الديات، باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، وأبو داود، ورواه ابن ماجة رقم 2624. [.....]
(4) سورة الإسراء آية 33.
(5) سورة المائدة آية 45.
(1/45)
 
 
من قبلنا فلا يلزمنا ذلك إلا ببيان من شرعنا جديد، مع أن العموم ليس يسقط ببعض ما ذكروه بالكلية، إلا أنه يضعف..
وروى البيلماني ومحمد بن المنكدر عن النبي عليه السلام أنه أفاد مسلما بكافر، وقال: «أنا آخر من وفى بذمته» «1» ، وهما مرسلان لم يلقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وتأول من أوجب قتل المسلم بالكافر ما روي أنه عليه السلام قال:
«ألا لا يقتل مؤمن بكافر» «2» على أنه ذكره في خطبته يوم فتح مكة، وقد كان رجل من خزاعة قتل رجلا من هذيل بذحل الجاهلية، فقال عليه السلام: «ألا إن كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده» «3» ، فكان ذلك تفسيرا لقوله عليه السلام: «كل دم كان في الجاهلية تحت قدمي هاتين» .
لأنه مذكور في خطاب واحد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وذكر أهل المغازي أن عقد الذمة على الجزية كان بعد فتح مكة، وأنه كان قبل ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين عهود إلى مدد، على أنهم داخلون في ذمة الإسلام وحكمه، وكان قوله يوم فتح مكة: «لا يقتل مؤمن بكافر» منصرف إلى المعاهد إذ لم يكن هناك ذمي ينصرف الكلام إليه..
__________
(1) أخرجه الدارقطني من طريق عمار بن مطر عن ابراهيم بن أبي يحيى عن ربيعة عن ابن البيلماني عن ابن عمر، راجع فتح الباري ج 15، ص 287 وقوله: وروى البيلماني كذا في الأصل والصحيح ابن البيلماني.
(2) البخاري بنحوه (باب كتابة العلم) ، وباب لا يقتل المسلم بالكافر من كتاب الديات، ورواه أحمد والترمذي وابن ماجة رقم 2660 ولفظه: لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد بعهده، وأبو داود باب أيقاد المسلم بالكافر؟
(3) رواه أبو داود وابن ماجة وله طرق حسنة.
(1/46)
 
 
ويدل عليه قوله عليه السلام: «ولا ذو عهد في عهده» ، وهذا يدل على أن عهودهم كانت إلى مدة، ولذلك قال: «ولا ذو عهد في عهده» ، كما قال الله تعالى: (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) «1» ، وقال: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) «2» .
وكان المشركون حينئذ ضربين:
أحدهما: أهل الحرب، والآخر: أهل العهد، ولم يكن هناك أهل ذمة، فانصرف الكلام إلى الضربين «3» .
وورود هذا الحديث في خطبة الوداع يبطل هذا التأويل جملة.. «4»
وقال عثمان البتي: يقتل الوالد بولده، للعمومات في القصاص، وروى مثل ذلك عن مالك، ولعلهما لا يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن، وتلك الأخبار منها ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«لا يقتل والد بولده» «5» .
__________
(1) سورة التوبة آية 4.
(2) سورة التوبة آية 2.
(3) قال ابن السمعاني: وأما حملهم الحديث على المستأمن فلا يصح لأن العبرة بعموم اللفظ- أي في قوله: «ولا يقتل مؤمن بكافر» - حتى يقوم دليل على التخصيص، فتح الباري، ج 1، ص 286.
(4) لأنه قرر حكما عاما بعد انتهاء مدة العهد، ولم يكن مرتبطا بظروف خاصة كما كان القول عند فتح مكة.
(5) قال ابن العربي حديث باطل، وهو في سنن ابن ماجة رقم 2661، 2662.
وقال الجصاص: هذا خبر مستفيض مشهور، وقد حكم به عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة من غير خلاف من واحد منهم عليه. ورواه أحمد والنسائي كما في زاد المعاد.
(1/47)
 
 
وحكم به عمر بمحضر من الصحابة، واشتهر بينهم، فكان كقوله:
«لا وصية لوارث» في الاشتهار..
وروى سعيد بن المسيب عن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الأول «1» .
وروى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقاد الوالد بالولد» ..
ومنهم الذين نفوا القول من قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) «2» . الآية، أنه لا يقتل الوالد بمن وليه ابنه إذا قتله الأب، فإذا لم يقتل به فلا يقتل بالابن، لأن حق القصاص له في الحالتين جميعا، وبنوا عليه أنه لا يقتل به إذا كان مشركا..
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه، وكان مشركا محاربا لله ورسوله، وكان مع قريش يقاتل النبي عليه السلام يوم أحد، ولذلك لو قذفه لم يحد على هذا القول..
أما إذا اشترك رجلان أو رجال في قتل رجل ظلما فلا شك أن وعيد القتل يلزمهم، ولا يمكن إخراجهم من كونهم قاتلين، فيجعل الكل كشخص واحد.
وإذا قدر ذلك تعظيما للقتل، فإذا قتل أحدهما عمدا والآخر خطأ فالمخطئ في حكم آخذ جميع النفس، فيثبت لجميعها حكم الخطأ، وانتفى منها حكم العمد، إذ لا يجوز ثبوت حكم الخطأ للجميع،
__________
(1) في الجصاص: عن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
لا يقاد الأب بابنه.
(2) سورة العنكبوت آية 8.
(1/48)
 
 
وثبوت حكم العمد للجميع، وإذا ثبت حكم العمد للجميع وجب القود فيه.
ولا خلاف أنه لا يجمع بين دية كاملة وقود، فوجب لذلك أنه متى وجب للنفس المتلفة على وجه الشركة شيء من الدية أن لا يجب معه قود على أحد، فإن وجوب القود يوجب ثبوت حكم العمد في الجميع، وثبوت حكم العمد في الجميع ينفي وجوب الأرش «1» لشيء منها..
وبنى أبو حنيفة عليه أنه لو كان أحدهما أبا فلا قصاص على الأجنبي، فإن المحل متى كان واحدا وخرج فعل الأب عن كونه موجبا «2» لأنه لم يصادف المحل، صار أيضا الفعل الذي لا يوجب لجميع المحل.
وخروج الروح به شبهة في المحل، ومتى حصل في المحل شبهة امتنع ثبوت الحكم في هذا المحل بفعل الثاني لاتحاد المحل، وكل «3» ذلك لحصول مثل الخطاء للنفس المتلفة، ولا جائز أن يكون خطأ عمدا موجبا للمال والقود في حالة واحدة «4» ، فكل واحد من القاتلين في حكم المتلف لجميعها، فوجب بذلك قسط من الدية على من لم يجب عليه القود، فيصير حينئذ محكوما للجميع بحكم الخطأ، ولا جائز مع ذلك أن يحكم لها بحكم العمد.
وبنوا عليه أنه لو اشترك رجلان في سرقة مال ابن أحدهما، فلا قطع على واحد منهما..
__________
(1) الأرش: دية الجراحات.
(2) أي للقود. [.....]
(3) لعلها: وكان.
(4) إذ نفس المقتول واحدة لا تتبعض، ولا يجوز ان يكون بعضها متلفا وبعضها حيا، لأن ذلك يوجب أن يكون الإنسان حيا ميتا في حال واحدة.
أحكام القرآن ج 1 م 4
(1/49)
 
 
فإن قيل: فقياس الوعيد وظاهر القرآن يوجب مؤاخذة العامد بجنايته وأن لا يؤثر خطأ صاحبه في حقه.
قيل: ولكنه لما وجب بفعله قسط من الدية على العاقلة، والدية وجبت في مقابلة المحل لخفة في جريمته صارت حرمة المحل الواحد واهية بالإضافة إلى الخاطئ، وانتفى عنه حكم العمد المحض، فيورث ذلك في حكم الآخر شبهة لاتحاد المحل المجنى عليه، واستحاله تبعضه، فصار الجميع في حكم ما لا قود فيه.
ولما كان الواجب على الشريك الذي لا قود عليه قسطه من الدية دون جميعها، ثبت أن الجميع قد صار في حكم الخطأ، لولا ذلك لوجب جميع الدية، ألا ترى أنهم لو كانوا من أهل القود لأقدنا منهم جميعا؟
فلما وجب على المشارك الذي لا قود عليه قسطه قسط من الدية قسط، ودل ذلك على «1» سقوط القود، وأن النفس قد صارت في حكم الخطأ، فلذلك توزعت الدية عليهم..
قوله تعالى: (كتب عليكم القصاص في القتلى) .
وقال تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) «2» وقال تعالى: (ومن قتل مظلوما) «3» الآية..، وذلك يدل لأحد قولي الشافعي على الآخر، وهو أنه يتعين القود في العمد، لأنه تعالى قال: (النفس بالنفس) ، وحيث يتخير فالواجب أحد أمرين، فلا يجوز أن يقال إن القصاص واجب بالقول «4» المطلق، بل الواجب أحد الأمرين..
__________
(1) عند الجصاص: قسطه من الدية دل ذلك على.
(2) سورة المائدة آية 45.
(3) سورة الإسراء آية 33.
(4) لعلها بالقتل.
(1/50)
 
 
مثاله أنه إذا قيل لنا: ما الواجب بالحنث في اليمين؟ فلا يجوز أن نقول إنه العتق أو الكسوة أو الإطعام، بل نقول: أحد هذه الخلال الثلاثة لا بعينه.
فإذا لم يكن المال واجبا بالقتل وجب القود على الخصوم.
وروي عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من قتل في رمياء أو عمياء تكون بينهم بحجر أو بسوط أو بعصا فعقله عقل خطأ، ومن قتل عمدا فقود يده، ومن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين «1» » .
ولو كان الواجب أحدهما لما اقتصر على ذكر القود دونهما، لأنه غير جائز أن يكون له أحد أمرين فيقتصر النبي عليه السلام بالبيان على أحدهما دون الآخر..
وعلى القول الآخر يحتج بقوله: (فمن عفي له من أخيه شيء) .. الآية، وهذا يحتمل معاني:
أحدها: أن العفو ما سهل، قال الله تعالى: (خذ العفو) «2» يعني ما سهل من الأخلاق، وقال صلى الله عليه وسلم: «أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله» «3» يعني تسهيل الله على عباده.
وقال تعالى: (فمن عفي له من أخيه شيء) يعني الولي إذا أعطى شيئا من المال فليقبله وليتبعه بالمعروف وليؤد القاتل إليه بإحسان،
__________
(1) رواه ابن ماجة بنحوه رقم 2635، وأبو داود بنحوه باب القصاص من النفس.
(2) سورة الأعراف آية 199 وأصل العفو في اللغة البذل.
(3) رواه الترمذي والدارقطني والبيهقي في الخلافيات.
(1/51)
 
 
فندبه الله تعالى إلى أخذ المال إذا تسهل ذلك من جهة القاتل، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة، كما قال عند ذكر القصاص في سورة المائدة، (فمن تصدق به فهو كفارة له) «1» ، فندبه إلى العفو والصدقة، وكذلك ندبه بما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني، لأنه بدأ بذكر عفو الجاني بإعطاء الدية، ثم أمر الولي بالاتباع، وأمر الجاني بالأداء بإحسان.
وهذا خلاف الظاهر من وجهين:
أحدهما: أن العفو بعد القصاص يقتضي العفو عنه من مستحقه بإسقاطه.
والثاني: أن الضمير في «له» يجب أن ينصرف إلى من عليه القصاص، لأنه الذي تقدم ذكره في قوله: (كتب عليكم القص