أحكام القرآن للجصاص ط العلمية 004

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

    
 
  
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
 
 
 
 
  
 
الكتاب: أحكام القرآن
المؤلف: أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي (المتوفى: 370هـ)
المحقق: عبد السلام محمد علي شاهين
الناشر: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
الطبعة: الأولى، 1415هـ/1994م
عدد الأجزاء: 3
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
 
أموالهم حق معلوم} قال: "الصدقة حق معلوم". وروى حجاج عن الحكم عن ابن عباس قال: "نسخت الزكاة كل صدقة". والحجاج عن أبي جعفر مثله.
واختلف الرواة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. فروي عنه ما يحتج به كل واحد من الفريقين، فروى طلحة بن عبيد الله قصة الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما عليه، فذكر الصلاة والزكاة والصيام، فقال: هل علي شيء غير هذا؟ قال: لا. وروى عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك فيه". وروى دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت الحق الذي يجب عليك". فهذه الأخبار يحتج بها من تأول "حقا معلوما" على الزكاة، وأنه لا حق على صاحب المال غيرها. واحتج ابن سيرين بأن الزكاة حق معلوم وسائر الحقوق التي يوجبها مخالفوه ليست بمعلومة. واحتج من أوجب فيه حقا سوى الزكاة بما روى الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي المال حق سوى الزكاة؟ فتلا: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} [البقرة: 177] الآية. فذكر الزكاة في نسق التلاوة بعد قوله: {وآتى المال على حبه} ويحتجون أيضا بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها في عسرها ويسرها إلا برز لها بقاع قرقر تطأه بأخفافها"، وذكر البقر والغنم، فقال أعرابي: يا أبا هريرة وما حقها؟ قال: "تمنح الغزيرة وتعطي الكريمة وتحمل على الظهر وتسقي اللبن". وفي حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا يا رسول الله وما حقها؟ قال: "إطراق فحلها، وإعارة دلوها ومنحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله". وروى الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني مقبلا قال "هم الأخسرون ورب الكعبة" فقلت: يا رسول الله من هم؟ قال: "هم الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا حثا عن يمينه وعن شماله وبين يديه ما من رجل يموت ويترك إبلا لم يؤد زكاتها إلا جاءته يوم القيامة تنطحه بقرونها وتطأه بأخفافها كلما بعدت أخراها أعيدت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس".
قال أبو بكر: هذه الأخبار كلها مستعملة، وفي المال حق سوى الزكاة باتفاق المسلمين، منه ما يلزم من النفقة على والديه إذا كانا فقيرين وعلى ذوي أرحامه، وما يلزم من طعام المضطر، وحمل المنقطع به وما جرى مجرى ذلك من الحقوق اللازمة عندما يعرض من هذه الأحوال.
وقوله تعالى: {للسائل والمحروم} ، قال ابن عباس رواية وعائشة وابن المسيب
(3/547)
 
 
ومجاهد رواية وعطاء وأبو العالية والنخعي وعكرمة "المحروم المحارف". وقال الحسن "المحروم الذي يطلب فلا يرزق". وقال ابن عباس رواية ومجاهد: "المحروم الذي ليس له في الإسلام سهم"، وفي لفظ آخر: "الذي ليس له في الغنيمة شيء". وقال عكرمة "الذي لا ينمو له مال"، وقال الزهري وقتادة: "المحروم المسكين المتعفف"، وقال عمر بن عبد العزيز: "المحروم الكلب" قال أبو بكر: من تأوله على الكلب فإنه لا يجوز أن يكون المراد عنده بحق معلوم الزكاة; لأن إطعام الكلب لا يجزي من الزكاة. فينبغي أن يكون المراد عنده حقا غير الزكاة فيكون في إطعام الكلب قربة، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن في كل ذي كبد حرى أجرا، وإن رجلا سقى كلبا فغفر الله له". والأظهر في قوله: {حق معلوم} أنه الزكاة; لأن الزكاة واجبة لا محالة، وهي حق معلوم، فوجب أن يكون مرادا بالآية; إذ جائز أن ينطوي تحتها ويكون اللفظ عبارة عنها; ثم جائز أن يكون جميع ما تأول السلف عليه المحروم مرادا بالآية في جواز إعطائه الزكاة، وهو يدل على أن الزكاة إذا وضعت في صنف واحد أجزأ; لأنه اقتصر على السائل والمحروم دون الأصناف المذكورة في آية الصدقات. وفرق الله - تعالى - في الآية بين السائل والمحروم; لأن الفقير قد يحرم نفسه بتركه المسألة، وقد يحرمه الناس بترك إعطائه، فإذا لم يسأل فقد حرم نفسه بترك المسألة، فسمي محروما من هذا الوجه; لأنه يصير محروما من وجهين: من قبل نفسه ومن قبل الناس، وقد روي عن الشعبي أنه قال: أعياني أن أعلم ما المحروم. آخر سورة الذاريات.
(3/548)
 
 
ومن سورة الطور
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {وسبح بحمد ربك حين تقوم} قال ابن مسعود وأبو الأحوص ومجاهد: "حين تقوم من كل مكان سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك". وروى علي بن هاشم قال: سئل الأعمش أكان إبراهيم يستحب إذا قام من مجلسه أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك؟ قال: "ما كان يستحب أن يجعل ذلك سنة". وقال الضحاك عن عمر: "يعني به افتتاح الصلاة" قال أبو بكر: يعني به قوله: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، إلى آخره وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك بعد التكبير وقال أبو الجوزاء: "حين تقوم من منامك" قال أبو بكر: يجوز أن يكون عموما في جميع ما روي من هذه التأويلات.
قوله تعالى: {وإدبار النجوم} روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنه ركعتا الفجر وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار في ركعتي الفجر، منها حديث سعد بن هشام عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" وروى عبيد بن عمير عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرع إلى شيء من النوافل إسراعه إلى ركعتي الفجر ولا إلى غنيمة. وروى أيوب عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الركعتان قبل صلاة الفجر واجبتان على كل مسلم". وروي عنه أنه قال: "لا تدعوهما فإن فيهما الرغائب" وقال: "لا تدعوهما وإن طرقتكم الخيل". آخر سورة الطور.
(3/549)
 
 
ومن سورة النجم
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى} يحتج به من لا يجيز أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحوادث من جهة اجتهاد الرأي، بقوله: {إن هو إلا وحي يوحى} وليس كما ظنوا; لأن اجتهاد الرأي إذا صدر عن الوحي جاز أن ينسب موجبه وما أدى إليه أنه عن وحي.
وقوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى} . روي عن ابن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع قالوا: رأى جبريل في صورته التي خلقه الله عليها مرتين وروي عن ابن عباس: "أنه رأى ربه بقلبه"; وهذا يرجع إلى معنى العلم وعن ابن مسعود والضحاك: "سدرة المنتهى في السماء السادسة وإليها ينتهي ما يعرج إلى السماء" وقيل: "سميت سدرة المنتهى; لأنه ينتهي إليها أرواح الشهداء "وقال الحسن: "جنة المأوى هي التي يصير إليها أهل الجنة". وفي هذه الآية دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صعد إلى السماء وإلى الجنة بقوله تعالى: رآه عند سدرة المنتهى وإن عندها جنة المأوى.
وقوله تعالى: {إلا اللمم} قال ابن عباس رواية: لم أر أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه". وروي عن ابن مسعود وأبي هريرة: "أنه النظرة والغمزة والقبلة والمباشرة، فإذا مس الختان الختان فهو الزنا ووجب الغسل"، وعن أبي هريرة أيضا: "إن اللمم النكاح"، وعنه أيضا: "إن اللمة من الزنا ثم يتوب فلا يعود". وقال ابن عباس رواية: "اللمم ما بين الحدين حد الدنيا وحد الآخرة". وقال ابن عباس أيضا رواية "هو الذي يلم بالمرأة" وقال عطاء: "اللمم ما دون الجماع" وقال مجاهد: "أن تصيب الذنب ثم تتوب". وروى عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إن تغفر تغفر جما وأي عبد لك لا ألما" ويقال: إن اللمم هو الهم بالخطيئة من جهة حديث النفس بها
(3/550)
 
 
من غير عزم عليها وقيل: إن اللمم مقاربة الشيء من غير دخول فيه، يقال: ألم بالشيء إلماما إذا قاربه وقيل: إن اللمم الصغير من الذنوب; لقوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31] .
وقوله تعالى: {ألا تزر وازرة وزر أخرى} هو كقوله: {ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه} [النساء: 111] ، وكقوله: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} [الأنعام: 164] وقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} في معنى ذلك ويحتج به في امتناع جواز تصرف الإنسان على غيره في إبطال الحجر على الحر العاقل البالغ.
وقوله تعالى: {وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى} . قال أبو بكر: لما كان قوله: {الذكر والأنثى} اسما للجنسين استوعب الجميع، وهذا يدل على أنه لا يخلو من أن يكون ذكرا أو أنثى، وأن الخنثى وإن اشتبه علينا أمره لا يخلو من أحدهما; وقد قال محمد بن الحسن: إن الخنثى المشكل إنما يكون ما دام صغيرا فإذا بلغ فلا بد من أن تظهر فيه علامة ذكر أو أنثى. وهذه الآية تدل على صحة قوله. آخر سورة النجم.
(3/551)
 
 
ومن سورة القمر
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله لا يقلب العادات بمثله إلا ليجعله دلالة على صحة نبوة النبي. صلى الله عليه وسلم وروى انشقاق القمر عشرة من الصحابة، منهم عبد الله بن مسعود وابن عمر وأنس وابن عباس وحذيفة وجبير بن مطعم في آخرين كرهت ذكر أسانيدها للإطالة.
فإن قيل: معناه سينشق في المستقبل عند قيام الساعة; لأنه لو كان قد انشق في زمان النبي صلى الله عليه وسلم لما خفي على أهل الآفاق قيل له: هذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه خلاف ظاهر اللفظ وحقيقته، والآخر: أنه قد تواتر الخبر به عن الصحابة ولم يدفعه منهم أحد وأما قوله: "إنه لو كان ذلك قد وقع لما خفي على أهل الآفاق" فإنه جائز أن يستره الله عنهم بغيم أو يشغلهم عن رؤيته ببعض الأمور لضرب من التدبير ولئلا يدعيه بعض المتنبئين في الآفاق لنفسه، فأظهره للحاضرين عند دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم واحتجاجه عليهم.
وقوله تعالى: {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم} الآية، يدل على جواز المهايأة على الماء; لأنهم جعلوا شرب الماء يوما للناقة ويوما لهم ويدل أيضا على أن المهايأة قسمة المنافع; لأن الله - تعالى - قد سمى ذلك قسمة وإنما هي مهايأة على الماء لا قسمة الأصل. واحتج محمد بن الحسن بذلك في جواز المهايأة على الماء على هذا الوجه، وهذا يدل من قوله على أنه كان يرى شرائع من كان قبلنا من الأنبياء ثابتة ما لم يثبت نسخها. آخر سورة القمر.
(3/552)
 
 
ومن سورة الرحمن
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {والحب ذو العصف والريحان} روي عن ابن عباس وقتادة والضحاك أن العصف التبن. وعن ابن عباس ومجاهد والضحاك: "الريحان الورق"، وعن ابن عباس أيضا أن الريحان الحب وقال الحسن: "هو الريحان الذي يشم". قال أبو بكر: لا يمتنع أن يكون جميع ذلك مرادا; لوقوع الاسم عليه، والظاهر من الريحان أنه المشموم، ولما عطف الريحان على الحب ذي العصف والعصف هو ساقه دل على أن الريحان ما يخرج من الأرض وله رائحة مستلذة قبل أن يصير له ساق، وذلك نحو الضيمران والنمام والآس الذي يخرج ورقه ريحانا قبل أن يصير ذا ساق; لأن العطف يقتضي ظاهره أن المعطوف غير المعطوف عليه.
وقوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} مراده من أحدهما; لأنه إنما يخرج من الملح دون العذب، وهو كقوله: {يا معشر الجن والأنس ألم يأتكم رسل منكم} [الأنعام: 130] ، وإنما أرسل من الإنس وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك: "المرجان صغار اللؤلؤ" وقيل: "المرجان المختلط من الجواهر، من مرجت أي خلطت" وقيل: "إنه ضرب من الجواهر كالقضبان يخرج من البحر". وقيل: إنما قال: {يخرج منهما} لأن العذب والملح يلتقيان فيكون العذب لقاحا للملح، كما يقال يخرج الولد من الذكر والأنثى وإنما تلده الأنثى، وقال ابن عباس: إذا جاء القطر من السماء تفتحت الأصداف فكان من ذلك اللؤلؤ".
وقوله تعالى: {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} ، روي أنها تحمر وتذوب كالدهن، روي أن سماء الدنيا من حديد فإذا كان يوم القيامة صارت من الخضرة إلى الاحمرار من حر نار جهنم كالحديد إذا أحمي بالنار.
وقوله تعالى: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} ; قيل فيه: لا يسأل سؤال استفهام لكن سؤال تقرير وتوقيف وقيل فيه: لا يسأل في أول أحوال حضورهم يوم
(3/553)
 
 
القيامة لما يلحقهم من الدهش والذهول ثم يسألون في وقت آخر.
وقوله تعالى: {فيهما فاكهة ونخل ورمان} يحتج به لأبي حنيفة في أن الرطب والرمان ليسا من الفاكهة; لأن الشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره هذا هو ظاهر الكلام. ومفهومه إلا أن تقوم الدلالة على أنه انفرد بالذكر، وإن كان من جنسه لضرب من التعظيم وغيره، كقوله تعالى: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} [البقرة: 98] . آخر سورة الرحمن.
(3/554)
 
 
ومن سورة الواقعة
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون} . روي عن سلمان أنه قال: "لا يمس القرآن إلا المطهرون" فقرأ القرآن، ولم يمس المصحف حين لم يكن على وضوء. وعن أنس بن مالك في حديث إسلام عمر قال: فقال لأخته: أعطوني الكتاب الذي كنتم تقرءون فقالت: إنك رجس، وإنه لا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأه; وذكر الحديث. وعن سعد أنه أمر ابنه بالوضوء لمس المصحف وعن ابن عمر مثله وكره الحسن والنخعي مس المصحف على غير وضوء وروي عن حماد أن المراد القرآن الذي في اللوح المحفوظ {لا يمسه إلا المطهرون} يعني الملائكة، وقال أبو العالية في قوله: {لا يمسه إلا المطهرون} قال: "هو في كتاب مكنون ليس أنتم من أصحاب الذنوب"، وقال سعيد بن جبير وابن عباس "المطهرون الملائكة" وقال قتادة: "لا يمسه عند الله إلا المطهرون فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي والنجس والمنافق".
قال أبو بكر: إن حمل اللفظ على حقيقة الخبر فالأولى أن يكون المراد القرآن الذي عند الله والمطهرون الملائكة، وإن حمل على النهي، وإن كان في صورة الخبر كان عموما فينا; وهذا أولى; لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أخبار متظاهرة أنه كتب في كتابه لعمرو بن حزم: "ولا يمس القرآن إلا طاهر" فوجب أن يكون نهيه ذلك بالآية; إذ فيها احتمال له. آخر سورة الواقعة.
(3/555)
 
 
ومن سورة الحديد
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح} الآية. روي عن الشعبي قال: فصل ما بين الهجرتين فتح الحديبية وفيه أنزلت هذه الآية، قالوا: يا رسول الله فتح هو؟ قال: "نعم عظيم". وقال سعيد عن قتادة: "هو فتح مكة" قال أبو بكر: أبان عن فضيلة الإنفاق قبل الفتح على ما بعده لعظم عناء النفقة فيه وكثرة الانتفاع به; ولأن الإنفاق في ذلك الوقت كان أشد على النفس لقلة المسلمين وكثرة الكفار مع شدة المحنة والبلاء وللسبق إلى الطاعة. ألا ترى إلى قوله: {الذين اتبعوه في ساعة العسرة} [التوبة: 117] وقوله: {والسابقون الأولون} [التوبة: 100] ؟ فهذه الوجوه كلها تقتضي تفضيلها.
وقوله تعالى: {فطال عليهم الأمد} الآية. يدل على أن كثرة المعاصي ومساكنتها وألفها تقسي القلب وتبعد من التوبة، وهو نحو قوله: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين:14] .
وقوله تعالى: {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم} روى البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كل مؤمن شهيد" لهذه الآية وجعل قوله: {والشهداء} صفة لمن تقدم ذكره من المؤمنين; وهو قول عبد الله ومجاهد وقال ابن عباس ومسروق وأبو الضحى والضحاك: "هو ابتداء كلام وخبره: {لهم أجرهم ونورهم} .
وقوله تعالى: {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها} قال أبو بكر: أخبر عما ابتدعوه من القرب والرهبانية، ثم ذمهم على ترك رعايتها بقوله: {فما رعوها حق رعايتها} . والابتداع قد يكون بالقول وهو ما ينذره ويوجبه على نفسه، وقد يكون بالفعل بالدخول فيه، وعمومه يتضمن الأمرين، فاقتضى ذلك أن كل من ابتدع قربة قولا أو فعلا فعليه رعايتها، وإتمامها، فوجب على ذلك أن من دخل في
(3/556)
 
 
صلاة أو صوم أو حج أو غيرها من القرب فعليه إتمامها، ولا يلزمه إتمامها إلا وهي واجبة عليه فيجب عليه القضاء إذا أفسدها وروي عن أبي أمامة الباهلي قال: "كان ناس من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فلم يرعوها حق رعايتها، فعابهم الله بتركها فقال: {ورهبانية ابتدعوها} الآية". آخر سورة الحديد.
(3/557)
 
 
من سورة المجادلة
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} إلى قوله: {وإن الله لعفو غفور} روى سفيان عن خالد عن أبي قلابة قال: "كان طلاقهم في الجاهلية الإيلاء والظهار، فلما جاء الإسلام جعل الله في الظهار ما جعل فيه، وجعل في الإيلاء ما جعل فيه. " وقال عكرمة: "كانت النساء تحرم بالظهار حتى أنزل الله: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} الآية". وأما المجادلة التي كانت في المرأة، فإن عبد الله بن محمد حدثنا قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن أبي إسحاق في قوله: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} : "في امرأة يقال لها خويلة" وقال عكرمة: بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت، قالت إن زوجها جعلها عليه كظهر أمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أراك إلا قد حرمت عليه" وهو يومئذ يغسل رأسه، فقالت: انظر جعلني الله فداك يا نبي الله قال: "ما أراك إلا قد حرمت عليه" فأعادت ذلك مرارا، فأنزل الله: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} إلى قوله: {ثم يعودون لما قالوا} قال قتادة: "حرمها ثم يريد أن يعود لها فيطأها فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا".
قال أبو بكر: قوله عليه السلام: "ما أراك إلا قد حرمت عليه" يحتمل أن يريد به تحريم الطلاق على ما كان عليه حكم الظهار، ومحتمل أن يريد به تحريم الظهار; والأولى أن يكون المراد تحريم الطلاق لأن حكم الظهار مأخوذ من الآية والآية نزلت بعد هذا القول، فثبت أن مراده تحريم الطلاق ورفع النكاح; وهذا يوجب أن يكون هذا الحكم قد كان ثابتا في الشريعة قبل نزول آية الظهار، وإن كان قبل ذلك من حكم أهل الجاهلية. فإن قيل: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم فيها بالطلاق بقوله: "ما أراك إلا قد حرمت" فكيف حكم فيها بعينها بالظهار بعد حكمه بالطلاق بذلك القول بعينه في شخص بعينه؟ وإنما النسخ يوجب الحكم في المستقبل بخلاف الأول في الماضي قيل له: لم
(3/558)
 
 
يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالطلاق، وإنما علق القول فيه فقال: "ما أراك إلا قد حرمت" فلم يقطع بالتحريم، وجائز أن يكون الله - تعالى - قد أعلمه قبل ذلك أنه سينسخ هذا الحكم وينقله من الطلاق إلى تحريم الظهار الآن، فجوز النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل الله الآية فلم يثبت الحكم فيه، فلما نزلت الآية حكم فيها بموجبها.
وقوله تعالى: {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} ، يعني والله أعلم في تشبيهها بظهر الأم، لأن الاستمتاع بالأم محرم تحريما مؤبدا، وهي لا تحرم عليه بهذا القول تحريما مؤبدا، فكان ذلك منكرا من القول وزورا.
وقوله تعالى: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} وذلك خطاب للمؤمنين يدل على أن الظهار مخصوص به المؤمنون دون أهل الذمة فإن قيل فقد قال الله: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} ولم يخصص المذكورين في الثانية قيل له: المذكورون في الآية الثانية هم المذكورون في الآية الأولى، فوجب أن يكون خاصا في المسلمين دون غيرهم.
وأما قوله: {ثم يعودون لما قالوا} فقد اختلف الناس فيه، فروى معمر عن طاوس عن أبيه: {ثم يعودون لما قالوا} قال: "الوطء، فإذا حنث فعليه الكفارة" وهذا تأويل مخالف للآية; لأنه قال: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} وقد روى سفيان عن ابن أبي نجيح عن طاوس قال: "إذا تكلم بالظهار لزمه" وروي عن ابن عباس: "أنه إذا قال أنت علي كظهر أمي لم تحل له حتى يكفر" وروي عن ابن شهاب وقتادة: "إذا أراد جماعها لم يقربها حتى يكفر".
وقد اختلف فقهاء الأمصار في معنى العود، فقال أصحابنا والليث بن سعد: "الظهار يوجب تحريما لا يرفعه إلا الكفارة" ومعنى العود عندهم استباحة وطئها فلا يفعله إلا بكفارة يقدمها. وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف: "لو وطئها ثم ماتت لم يكن عليه كفارة" وقال الثوري: "إذا ظاهر منها لم تحل له إلا بعد الكفارة، وإن طلقها ثم تزوجها لم يطأها حتى يكفر"، وهذا موافق لقول أصحابنا، وقال ابن وهب عن مالك: "إذا أجمع بعد الظهار على إمساكها، وإصابتها فقد وجبت عليه الكفارة، فإن طلقها بعد الظهار ولم يجمع على إمساكها، وإصابتها فلا كفارة عليه، وإن تزوجها بعد ذلك لم يمسها حتى يكفر كفارة الظهار". وذكر ابن القاسم عنه أنه إذا ظاهر منها ثم وطئها ثم ماتت فلا بد من الكفارة; لأنه وطئ بعد الظهار وقال أشهب عن مالك: "إذا أجمع بعد الظهار على إمساكها، وإصابتها وطلب الكفارة فماتت امرأته فعليه الكفارة" وقال الحسن: "إذا أجمع رأي المظاهر على أن يجامع امرأته فقد لزمته الكفارة، وإن أراد تركها بعد ذلك; لأن العود
(3/559)
 
 
هو الإجماع على مجامعتها". وقال عثمان البتي فيمن ظاهر من امرأته ثم طلقها قبل أن يطأها قال: "أرى عليه الكفارة راجعها أو لم يراجعها، وإن ماتت لم يصل إلى ميراثها حتى يكفر". وقال الشافعي: "إن أمكنه أن يطلقها بعد الظهار فلم يطلق فقد وجبت الكفارة ماتت أو عاشت". وحكي عن بعض من لا يعد خلافا أن العود أن يعيد القول مرتين.
قال أبو بكر: روت عائشة وأبو العالية أن آية الظهار نزلت في شأن خولة حين ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بعتق رقبة فقال: لا أجد، فقال: "صم شهرين متتابعين" قال: لو لم آكل في اليوم ثلاث مرات كاد أن يغشى على بصري، فأمره بالإطعام وهذا يدل على بطلان قول من اعتبر العزم على إمساكها ووطئها; لأنه لم يسأله عن ذلك، وبطلان قول من اعتبر إرادة الجماع; لأنه لم يسأله، وبطلان قول من اعتبر الطلاق; لأنه لم يقل هل طلقتها، وبطلان قول من اعتبر إعادة القول; لأنه لم يسأله هل أعدت القول مرتين; فثبت قول أصحابنا وهو أن لفظ الظهار يوجب تحريما ترفعه الكفارة.
ومعنى قوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا} يحتمل وجهين. أحدهما: ذكر الحال الذي خرج عليه الخطاب، وهو أنه قد كان من عادتهم في الجاهلية الظهار فقال: {الذين يظاهرون من نسائهم} قبل هذه الحال {ثم يعودون لما قالوا} والمعنى: ويعودون بعد الإسلام إلى ذلك، كما قال تعالى: {فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد} [يونس: 46] ومعناه: والله شهيد، فيكون نفس القول عودا إلى العادة التي كانت لهم في ذلك، كما قال: {حتى عاد كالعرجون القديم} [يس: 39] . والمعنى: حتى صار كذلك، وكما قال أمية بن أبي الصلت:
هذي المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
معناه: صارا كذلك; لأنهما في الثدي لم يكونا كذلك وكما قال لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
ويحور يرجع، وإنما معناه ههنا يصير رمادا. كذلك: {ثم يعودون لما قالوا} أنهم يصيرون إلى حال الظهار الذي كان يكون مثله منهم في الجاهلية. والوجه الآخر: أنه معلوم أن حكم الله في الظهار إيجاب تحريم الوطء موقتا بالكفارة، فإذا كان الظهار مخصوصا بتحريم الوطء دون غيره ولا تأثير له في رفع النكاح وجب أن يكون العود هو العود إلى استباحة ما حرمه بالظهار، فيكون معناه: يعودون للمقول فيه، كقوله عليه
(3/560)
 
 
السلام: "العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه"، وإنما هو عائد في الموهوب، وكقولنا: اللهم أنت رجاؤنا، أي من رجونا; وقال تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر:99] يعني: الموقن به وقال الشاعر:
أخبر من لاقيت أن قد وفيتم ... ولو شئت قال المنبئون أساءوا
وإني لراجيكم على بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء
يعني مرجوا وكذلك قوله: {ثم يعودون لما قالوا} معناه: لما حرموا، فيستبيحونه فعليهم الكفارة قبل الاستباحة ويبطل قول من اعتبر البقاء على النكاح من وجهين: أحدهما: أن الظهار لا يوجب تحريم العقد والإمساك فيكون العود إمساكها على النكاح; لأن العود لا محالة قد اقتضى عودا إلى حكم معنى قد تقدم إيجابه، فلا يجوز أن يكون للإمساك على النكاح فيه تأثير. والثاني: أنه قال: {ثم يعودون} و "ثم" يقتضي التراخي، ومن جعل العود البقاء على النكاح فقد جعله عائدا عقيب القول بلا تراخ، وذلك خلاف مقتضى الآية. وأما من جعل العود العزيمة على الوطء فلا معنى لقوله أيضا; لأن موجب القول هو تحريم الوطء لا تحريم العزيمة، والعزيمة على المحظور، وإن كانت محظورة فإنما تعلق حكمها بالوطء، فالعزيمة على الانفراد لا حكم لها، وأيضا لا حظ للعزيمة في سائر الأصول ولا تتعلق بها الأحكام، ألا ترى أن سائر العقود، والتحريم لا يتعلق بالعزيمة فلا اعتبار بها؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا به أو يعملوا به".
فإن قيل: هلا كان العود إعادة القول مرتين; لأن اللفظ يصلح أن يكون عبارة عنه كما قال الله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] ومعناه لفعلوا مثل ما نهوا عنه. قيل له: هذا خطأ من وجهين. أحدهما: أن إجماع السلف والخلف جميعا قد انعقد بأن هذا ليس بمراد، فقائله خارج عن نطاق الإجماع. والثاني: أنه يجعل قوله: {ثم يعودون لما قالوا} تكرارا للقول واللفظ مرتين، والله تعالى لم يقل ثم يكررون القول مرتين، ففيه إثبات معنى لا يقتضيه اللفظ ولا يجوز أن يكون عبارة عنه. وإن حملته على أنه عائد لمثل القول ففيه إضمار لمثل ذلك القول وذلك لا يجوز إلا بدلالة، فالقائل بذلك خارج عن الإجماع ومخالف لحكم الآية ومقتضاها.
فإن قيل: وأنت إذا حملته على تحريم الوطء وأن تقديم الكفارة لاستباحة الوطء فقد زلت عن الظاهر قيل له: إذا كان الظهار قد أوجب تحريم الوطء فالذي يستبيحه منه هو الذي حرمه بالقول، فجاز أن يكون ذلك عودا لما قال; إذ هو مستبيح لذلك الوطء الذي حرمه بعينه وكان عودا لما قال من إيجاب التحريم. ومن جهة أخرى أن الوطء إذا
(3/561)
 
 
كان مستحقا بعقد النكاح، وحكم الوطء الثاني كالأول في أنه مستحق بسبب واحد ثم حرمه بالظهار، جاز أن يكون الإقدام على استباحته عودا لما حرم فكان هذا المعنى مطابقا للفظ.
فإن قيل: إن كانت الاستباحة هي الموجبة للكفارة فليس يخلو ذلك من أن يكون العزيمة على الاستباحة وعلى الإقدام على الوطء أو إيقاع الوطء، فإن كان المراد الأول فهذا يلزمك إيجاب الكفارة بنفس العزيمة قبل الوطء كما قال مالك والحسن بن صالح. وإن كان المراد إيقاع الوطء فواجب أن لا تلزمه الكفارة إلا بعد الوطء، وهذا خلاف الآية، وليس هو قولك أيضا. قيل له: المعنى في ذلك هو ما قد بينا من الإقدام على استباحة الوطء، فقيل له: إذا أردت الوطء وعدت لاستباحة ما حرمته فلا تطأ حتى تكفر، لا أن الكفارة واجبة ولكنها شرط في رفع التحريم، كقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [لنحل:98] يعني فقدم الاستعاذة قبل القراءة، وقوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} [المائدة: 6] والمعنى: إذا أردتم القيام وأنتم محدثون فقدموا الغسل. وقوله: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} [المجادلة: 12] . وكقوله: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] ، والمعنى: إذا أردتم ذلك.
قال أبو بكر: قد ثبت بما قدمنا أن الظهار لا يوجب كفارة، وإنما يوجب تحريم الوطء، ولا يرتفع إلا بالكفارة، فإذا لم يرد وطأها فلا كفارة عليه، وإن ماتت أو عاشت فلا شيء عليه; إذ كان حكم الظهار إيجاب التحريم فقط موقتا بأداء الكفارة، وأنه متى لم يكفر فالوطء محظور عليه فإن وطئ سقط الظهار والكفارة وذلك لأنه علق حكم الظهار وما أوجب به من الكفارة بأدائها قبل الوطء لقوله: {من قبل أن يتماسا} ، فمتى وقع المسيس فقد فات الشرط فلا تجب الكفارة بالآية; لأن كل فرض محصور بوقت أو معلق على شرط فإنه متى فات الوقت وعدم الشرط لم يجب باللفظ الأول واحتيج إلى دلالة أخرى في إيجاب مثله في الوقت الثاني. فهذا حكم الظهار إذا وقع المسيس قبل التكفير، إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا ظاهر من امرأته فوطئها قبل التكفير ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "استغفر الله ولا تعد حتى تكفر" فصار التحريم الذي بعد الوطء واجبا بالسنة.
وقد اختلف السلف فيمن وطئ ما الذي يجب عليه من الكفارة بعده، فقال الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم وابن المسيب: "ليس عليه إلا كفارة واحدة"، وكذلك قول مجاهد وطاوس وابن سيرين في آخرين وقد روي عن عمرو بن العاص وقبيصة بن ذؤيب
(3/562)
 
 
والزهري وقتادة "عليه كفارتان". قال: وروي عن ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول الله ظاهرت من امرأتي فجامعتها قبل أن أكفر؟ فقال: "استغفر الله ولا تعد حتى تكفر" فلم يوجب عليه كفارتين بعد الوطء.
واختلف الفقهاء في توقيت الظهار، فقال أصحابنا والثوري والشافعي: "إذا قال أنت علي كظهر أمي اليوم بطل الظهار بمضي اليوم"، وقال ابن أبي ليلى ومالك والحسن بن صالح: "هو مظاهر أبدا" قال أبو بكر: تحريم الظهار لا يقع إلا موقتا بأداء الكفارة، فإذا وقته المظاهر وجب توقيته; لأنه لو كان مما لا يتوقت لما انحل ذلك التحريم بالتكفير كالطلاق، فأشبه الظهار اليمين التي يحلها الحنث، فوجب توقيته كما يتوقت اليمين وليس كالطلاق; لأنه لا يحله شيء.
فإن قيل: تحريم الطلاق الثلاث يقع موقتا بالزوج الثاني ولا يتوقت بتوقيت الزوج إذا قال أنت طالق اليوم قيل له: إن الطلاق لا يتوقت بالزوج الثاني، وإنما يستفيد الزوج الأول بالزوج الثاني إذا تزوجها بعد ثلاث تطليقات مستقبلات والثلاث الأول واقعة على ما كانت. وإنما استفاد طلاقا غيرها، فليس في الطلاق توقيت بحال، والظهار موقت لا محالة بالتكفير فجاز توقيته بالشرط.
واختلفوا في الظهار هل يدخل عليه إيلاء؟ فقال أصحابنا والحسن بن صالح والثوري في إحدى الروايتين والأوزاعي "لا يدخل الإيلاء على المظاهر، وإن طال تركه إياها" وروى ابن وهب عن مالك "لا يدخل على حر إيلاء في ظهار إلا أن يكون مضارا لا يريد أن يفيء من ظهاره. وأما العبد فلا يدخل على ظهاره إيلاء". وقال ابن القاسم عنه" يدخل الإيلاء على الظهار إذا كان مضارا لا يريد أن يفيء من ظهاره. "وأما العبد فلا يدخل على ظهاره إيلاء. وقال ابن القاسم عنه" يدخل الإيلاء على الظهار إذا كان مضارا ومما يعلم به ضراره أن يقدر على الكفارة فلا يكفر فإنه إذا علم ذلك وقف مثل المولي فإما كفر، وإما طلقت عليه امرأته". وروي عن الثوري أن الإيلاء يدخل على الظهار قال أبو بكر ليس الظهار كناية عن الطلاق ولا صريحا فلا يجوز إثبات الطلاق به إلا بتوقيف وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو رد" ومن أدخل الإيلاء على المظاهر فقد أدخل عليه ما ليس منه وأيضا نص الله على حكم المولي بالفيء أو عزيمة الطلاق. ونص على حكم المظاهر بإيجاب كفارة قبل المسيس فحكم كل واحد منهما منصوص عليه فغير جائز حمل أحدهما على الآخر; إذ من حكم المنصوصات أن لا يقاس بعضها على بعض وأن كل واحد منها مجرى على بابه، ومحمول على معناه دون غيره، وأيضا فإن معنى الإيلاء وقوع الحنث ووجوب الكفارة بالوطء في المدة ولا تتعلق كفارة الظهار بالوطء فليس هو إذا في معنى الإيلاء ولا في حكمه، وأيضا فإن المولى سواء قصد الضرار أو لم يقصد
(3/563)
 
 
لا يختلف حكمه وقد اتفقنا أنه متى لم يقصد الضرار بالظهار لم يلزمه حكم الإيلاء بمضي المدة فوجب أن لا يلزمه، وإن قصد الضرار فإن قيل لم يعتبر ذلك في الإيلاء; لأن نفس الإيلاء ينبئ عن قصد الضرار.
فإذ هو حلف على الامتناع من الوطء في المدة. قيل له: الظهار قصد إلى الضرار من حيث حرم وطأها إلا بكفارة يقدمها عليه فلا فرق بينهما فيما يقتضيانه من المضارة.
واختلف السلف ومن بعدهم وفقهاء الأمصار في الظهار من الأمة فروى عبد الكريم عن مجاهد عن ابن عباس قال "من شاء باهلته أنه ليس من أمة ظهار" وهذا قول إبراهيم والشعبي وابن المسيب وهو قول أصحابنا والشافعي. وروي عن ابن جبير والنخعي وعطاء وطاوس وسليمان بن يسار قالوا: "هو ظهار". وهو قول مالك والثوري والأوزاعي والليث والحسن بن صالح، وقالوا: "يكون مظاهرا من أمته كما هو من زوجته". وقال الحسن: "إن كان يطأها فهو مظاهر، وإن كان لا يطأها فليس بظهار".
قال أبو بكر: قال الله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم} وهذا اللفظ ينصرف من الظهار إلى الحرائر دون الإماء، والدليل عليه قوله تعالى: {أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن} [النور: 31] فكان المفهوم من قوله: {أو نسائهن} [النور: 31] الحرائر، لولا ذلك لما صح عطف قوله: {أو ما ملكت أيمانهن} عليه; لأن الشيء لا يعطف على نفسه، وقال تعالى: {وأمهات نسائكم} [النساء: 23] ، فكان على الزوجات دون ملك اليمين فلما كان حكم الظهار مأخوذا من الآية، وكان مقتضاها مقصورا على الزوجات دون ملك اليمين، لم يجز إيجابه في ملك اليمين، إذ لا مدخل للقياس في إثبات ظهار في غير ما ورد فيه ووجه آخر، وهو ما بينا فيما سلف أنهم قد كانوا يطلقون بلفظ الظهار، فأبدل الله تعالى به تحريما ترفعه الكفارة، فلما لم يصح طلاق الأمة لم يصح الظهار منها. ووجه آخر، وهو: أن الظهار يوجب تحريما من جهة القول يوجب الكفارة، والأمة لا يصح تحريمها من جهة القول، فأشبه سائر المملوكات من الطعام والشراب متى حرمها بالقول لم تحرم، ألا ترى أنه لو حرم على نفسه طعاما أو شرابا لم يحرم ذلك عليه، وإنما يلزمه إذا أكل أو شرب كفارة يمين؟ فكذلك ملك اليمين وجب أن لا يصح الظهار منها; إذ لا يصح تحريمها من جهة القول.
(3/564)
 
 
في الظهار بغير الأم
واختلفوا فيمن قال لامرأته أنت علي كظهر أختي أو ذات محرم منه، فقال أصحابنا" "هو مظاهر، وإن قال كظهر فلانة وليست بمحرم منه لم يكن مظاهرا"، وهو
(3/564)
 
 
قول الثوري والحسن بن صالح والأوزاعي وقال مالك وعثمان البتي: "يصح الظهار بالمحرم والأجنبية" وللشافعي قولان. أحدهما: أن الظهار لا يصح إلا بالأم. والآخر: أنه يصح بذوات المحارم.
قال أبو بكر: لما صح الظهار بالأم وكانت ذوات المحارم كالأم في التحريم وجب أن يصح الظهار بهن إذ لا فرق بينهن في جهة التحريم. ألا ترى أن الظهار بالأم من الرضاعة صحيح مع عدم النسب لوجود التحريم فكذلك سائر ذوات المحارم. وروي نحو قول أصحابنا عن جابر بن زيد والحسن وإبراهيم وعطاء وقال الشعبي "إن الله - تعالى - لم ينس أن يذكر البنات والأخوات والعمات إنما الظهار من الأم" وأيضا لما قال تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم} اقتضى ظاهره الظهار بكل ذات محرم; إذ لم يخصص الأم دون غيرها ومن قصره على الأم فقد خص بلا دليل.
فإن قيل لما قال تعالى: {ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم} دل على أنه أراد الظهار بالأم قيل له إنما ذكر الأمهات; لأنهن مما اشتمل عليهن حد الآية وذلك لا ينفي أن يكون قوله: {والذين يظاهرون من نسائهم} عموما في سائر من أوقع التشبيه بظهرها من سائر ذوات المحارم وأيضا فإن ذلك يدل على صحة الظهار من سائر ذوات المحارم; لأنه قد نبه على المعنى الذي من أجله ألزمه حكم الظهار، وهو قوله: {ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} فأخبر أنه ألزمهم هذا الحكم; لأنهن لسن بأمهاتهم، وأن قولهم هذا منكر من القول وزور فاقتضى ذلك إيجاب هذا الحكم في الظهار بسائر ذوات المحارم; لأنه إذ ظاهر بأجنبية فليست هي أخته ولا ذات محرم منه، وهذا القول منكر من القول وزور; لأنه يملك بضع امرأته وهي مباحة له وذوات المحارم محرمات عليه تحريما مؤبدا.
فإن قيل يلزمك على هذا إيجاب الظهار بالأجنبية; لعموم الآية ولدلالة فحواها على جواز الظهار بسائر ذوات المحارم، إذ لم تفرق الآية بين شيء منهن; ولأن تشبيهها بالأجنبية منكر من القول وزور قيل له لا يجب ذلك; لأن الأجنبية لما كانت قد تحل له بحال لم يكن قوله أنت علي كظهر الأجنبية مفيدا للتحريم في سائر الأوقات; لجواز أن يملك بضع الأجنبية فتكون مثلها وفي حكمها. وأيضا لا خلاف أن التحريم بالأمتعة وسائر الأموال لا يصح بأن يقول أنت علي كمتاع فلان أو كمال فلان; لأن ذلك قد يملكه بحال فيستبيحه.
واختلفوا في الظهار بغير الظهر فقال أصحابنا" إذا قال أنت علي كيد أمي أو كرأسها أو ذكر شيئا يحل له النظر إليه منها لم يكن مظاهرا، وإن قال كبطنها أو كفخذها
(3/565)
 
 
ونحو ذلك كان مظاهرا; لأنه لا يحل له النظر إليه كالظهر". وقال ابن القاسم "قياس قول مالك أن يكون مظاهرا بكل شيء من الأم" وقال الثوري والشافعي" إذا قال أنت علي كرأس أمي أو كيدها فهو مظاهر; لأن التلذذ بذلك منها محرم.
قال أبو بكر نص الله - تعالى - على حكم الظهار، وهو أن يقول: "أنت علي كظهر أمي" والظهر مما لا يستبيح النظر إليه، فوجب أن يكون سائر ما لا يستبيح النظر إليه في حكمه، وما يجوز له أن يستبيح النظر إليه فليس فيه دلالة على تحريم الزوجة بتشبيهها به; إذ ليس تحريمها من الأم مطلقا، فوجب أن لا يصح الظهار به; إذ كان الظهار يوجب تحريما، وأيضا لما جاز له استباحة النظر إلى هذه الأعضاء أشبه سائر الأشياء التي يجوز أن يستبيح النظر إليها مثل الأموال والأملاك.
واختلفوا فيما يحرمه الظهار، فقال الحسن: "للمظاهر أن يجامع فيما دون الفرج" وقال عطاء: "يجوز أن يقبل أو يباشر; لأنه قال: {من قبل أن يتماسا} " وقال الزهري وقتادة: {من قبل أن يتماسا} الوقوع نفسه" وقال أصحابنا: "لا يقرب المظاهر ولا يلمس ولا يقبل ولا ينظر إلى فرجها لشهوة حتى يكفر". وقال مالك مثل ذلك، وقال: "لا ينظر إلى شعرها ولا صدرها حتى يكفر; لأن ذلك لا يدعوه إلى خير". وقال الثوري: "يأتيها فيما دون الفرج، وإنما نهي عن الجماع". وقال الأوزاعي: "يحل له فوق الإزار كالحائض" وقال الشافعي: "يمنع القبلة والتلذذ احتياطا".
قال أبو بكر: لما قال تعالى: {من قبل أن يتماسا} كان ذلك عموما في حظر جميع ضروب المسيس من لمس بيد أو غيرها، وأيضا لما قال: {والذين يظاهرون من نسائهم} فألزمه حكم التحريم لتشبيهه بظهرها، وجب أن يكون ذلك التحريم عاما في المباشرة والجماع كما أن مباشرة ظهر الأم ومسه محرم عليه. وأيضا حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا زياد بن أيوب قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة: أن رجلا ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، قال: "فاعتزلها حتى تكفر" ; ورواه معمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وقال: "لا تقربها حتى تكفر"، وذلك يمنع المسيس والقبلة.
(3/566)
 
 
في ظهار المرأة من زوجها
قال أصحابنا: "لا يصح ظهار المرأة من زوجها"، وهو قول مالك والثوري والليث والشافعي وذكر الطحاوي عن ابن أبي عمران عن علي بن صالح عن الحسن بن زياد أنها
(3/566)
 
 
إذا قالت لزوجها أنت علي كظهر أمي أو كظهر أخي كانت مظاهرة من زوجها، قال علي: فسألت محمد بن الحسن فقال: ليس عليها شيء، فأتيت أبا يوسف فذكرت له قوليهما فقال: هذان شيخا الفقه أخطئا، هو تحريم، عليها كفارة يمين كقولها أنت علي حرام. وقال الأوزاعي "هي يمين تكفرها" وقال الحسن بن صالح: "تعتق رقبة وتكفر بكفارة الظهار، فإن لم تفعل وكفرت يمينا رجونا أن يجزيها". وروى مغيرة عن إبراهيم قال: خطب مصعب بن الزبير عائشة بنت طلحة فقالت: هو عليها كظهر أبيها إن تزوجته، فلما ولي الإمارة أرسل إليها، فأرسلت تسأل والفقهاء يومئذ بالمدينة كثير، فأفتوها أن تعتق رقبة وتزوجها; وقال إبراهيم: لو كانت عنده يعني عند زوجها يوم قالت ذلك ما كان عليها عتق رقبة، ولكنها كانت تملك نفسها حين قالت ما قالت وروي عن الأوزاعي أنها إذا قالت: "إن تزوجته فهو علي كظهر أبي" كانت مظاهرة، ولو قالت وهي تحت زوج كان عليها كفارة يمين. قال أبو بكر: لا يجوز أن تكون عليها كفارة يمين; لأن الرجل لا تلزمه بذلك كفارة يمين، وهو الأصل، فكيف يلزمها ذلك كما أن قول الرجل: "أنت طالق" لا يكون غير طالق، كذلك ظهارها لا يلزمها به شيء. ولا يصح منها ظهار بهذا القول; لأن الظهار يوجب تحريما بالقول وهي لا تملك ذلك كما لا تملك الطلاق; إذ كان موضوعا لتحريم يقع بالقول.
واختلفوا فيمن قال أنت علي كظهر أبي، فقال أصحابنا والأوزاعي والشافعي: "ليس بشيء"، وقال مالك: "هو مظاهر" قال أبو بكر: إنما حكم الله - تعالى - بالظهار فيمن شبهها بظهر الأم ومن جرى مجراها من ذوات المحارم التي لا يجوز له أن يستبيح النظر إلى ظهرها بحال، وهو يجوز له النظر إلى ظهر أبيه والأب والأجنبي في ذلك سواء، ولو قال: "أنت علي كظهر الأجنبي" لم يكن شيئا، فكذلك ظهر الأب.
واختلفوا فيمن ظاهر مرارا، فقال أصحابنا والشافعي: "عليه لكل ظهار كفارة إلا أن يكون في مجلس واحد وأراد التكرار فتكون عليه كفارة واحدة" وقال مالك: "من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة فليس عليه إلا كفارة واحدة، وإن ظاهر ثم كفر ثم ظاهر فعليه الكفارة أيضا". وقال الأوزاعي: "عليه كفارة واحدة، وإن كان في مقاعد شتى".
قال أبو بكر: الأصل أن الظهار لما كان سببا لتحريم ترفعه الكفارة أن تجب بكل ظهار كفارة، إلا أنهم قالوا إذا أراد التكرار في مجلس واحد فعليه كفارة واحدة; لاحتمال اللفظ لما أراد من التكرار فإن قيل: قوله: {والذين يظاهرون من نسائهم} يقتضي إيجاب كفارة واحدة، وإن ظاهر مرارا; لأن اللفظ لا يختص بالمرة الواحدة دون المرار
(3/567)
 
 
الكثيرة قيل له: لما كانت الكفارة في رفع التحريم متعلقة بحرمة اللفظ أشبه اليمين، فمتى حلف مرارا لزمته لكل يمين كفارة إذا حنث، ولم يكن قوله: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} [المائدة: 89] موجبا للاقتصار بالأيمان الكثيرة على كفارة واحدة.
واختلفوا في المظاهر هل يجبر على التكفير؟ فقال أصحابنا: "لا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفر" وذكر الطحاوي عن عباد بن العوام عن سفيان بن حسين قال: سألت الحسن وابن سيرين عن رجل ظاهر من امرأته فلم يكفر تهاونا، قال: تستعدي عليه; قال: وسألت أبا حنيفة، فقال: تستعدي عليه وقال مالك: "عليها أن تمنعه نفسها ويحول الإمام بينه وبينها" وقول الشافعي يدل على أنه يحكم عليه بالتكفير. قال أبو بكر: قال أصحابنا: "يجبر على جماع المرأة فإن أبى ضربته رواه هشام; وهذا يدل على أنه يجبر على التكفير ليوفيها حقها من الجماع.
واختلفوا في الرقبة الكافرة عن الظهار، فقال عطاء ومجاهد وإبراهيم، وإحدى الروايتين عن الحسن: "يجزي الكافر"، وهو قول أصحابنا والثوري والحسن بن صالح، وروي عن الحسن: "أنه لا يجزي في شيء من الكفارات إلا الرقبة المؤمنة"، وهو قول مالك والشافعي.
قال أبو بكر: ظاهر قوله: {فتحرير رقبة} يقتضي جواز الكافرة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم للمظاهر: "أعتق رقبة" ولم يشترط الإيمان، ولا يجوز قياسها على كفارة القتل لامتناع جواز قياس المنصوص بعضه على بعض; ولأن فيه إيجاب زيادة في النص وذلك عندنا يوجب النسخ.
واختلفوا في جواز الصوم مع وجود رقبة للخدمة، فقال أصحابنا: "إذا كانت عنده رقبة للخدمة ولا شيء له غيرها أو كان عنده دراهم ثمن رقبة ليس له غيرها لم يجزه الصوم"، وهو قول مالك والثوري والأوزاعي وقال الليث والشافعي: "من له خادم لا يملك غيره فله أن يصوم"، قال الله: {فتحرير رقبة} {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} . فأوجب الرقبة بديا على واجدها ونقله إلى الصوم عند عدمها، فلما كان هذا واجدا لها لم يجزه غيره.
فإن قيل: هو بمنزلة من معه ماء يخاف على نفسه العطش فيجوز له التيمم قيل له: لأنه مأمور في هذه الحال باستبقاء الماء وهو محظور عليه استعماله، وليس بمحظور عليه عند الجميع عتق هذه الرقبة، فعلمنا أنه واجد.
واختلفوا في عتق أم الولد والمدبر والمكاتب ونحوهم في الكفارة، فقال أصحابنا:
(3/568)
 
 
"لا يجوز عتق أم الولد والمدبر والمكاتب إذا كان قد أدى شيئا عن الكتابة، ولا المدبر، فإن لم يكن أدى شيئا أجزأه، وإن اشترى أباه ينوي به عن كفارته جاز، وكذلك كل ذي رحم محرم، ولو قال: كل عبد أشتريه فهو حر، ثم اشترى عبدا ينويه عن كفارته ولم يجزه" وقال زفر: "لا يجزي المكاتب، وإن لم يكن أدى شيئا". وقال مالك: "لا يجزي المكاتب ولا المدبر ولا أم الولد ولا معتق إلى سنين عن الكفارة ولا الولد والوالد". وقال الأوزاعي: "لا يجزي المكاتب ولا المدبر ولا أم الولد" وقال عثمان البتي: "يجزي المدبر وأم الولد في كفارة الظهار واليمين". وقال الليث: "يجزي أن يشتري أباه فيعتقه بالكفارة التي عليه" وقال الشافعي: "لا يجزي من إذا اشتراه عتق عليه،" يجزي المدبر ولا يجزي المكاتب، وإن لم يؤد شيئا، ويجزي المعتق إلى سنين ولا تجزي أم الولد".
قال أبو بكر: أما أم الولد والمدبر فإنهما لا يجزيان من قبل أنهما قد استحقا العتق من غير جهة الكفارة. ألا ترى أن ما ثبت لهما من حق العتاق يمنع بيعهما ولا يصح فسخ ذلك عنهما؟ فمتى أعتقهما فإنما عجل عتقا مستحقا، وليس كذلك من قال له المولى: "أنت حر بعد شهر أو سنة"; لأنه لم يثبت له حق بهذا القول يمنع بيعه. ألا ترى أنه يجوز له أن يبيعه؟ وأما المكاتب فإنه، وإن لم يجز بيعه فإن الكتابة يلحقها الفسخ، وإنما لا يجوز بيعه كما لا يجوز بيع الآبق والعبد المرهون والمستأجر فلا يمنع ذلك جواز عتقه عن الكفارة، فإذا أعتق المكاتب قبل أن يؤدي شيئا فقد أسقط المال فصار كمن أعتق عبدا غير مكاتب، وإن كان قد أدى شيئا لم يجز من قبل أن الأداء لا ينفسخ بعتقه فقد حصل له عن عتقه بدل فلا يجزي عن الكفارة، وأما إذا اشترى أباه فإنه يجزي إذا نوى; لأن قبوله للشرى بمنزلة قوله أنت حر; والدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه". ومعلوم أن معناه: يعتقه بشرائه إياه، فجعل شراءه بمنزلة قوله: "أنت حر" فأجزأ، بمنزلة من قال لعبده: أنت حر.
واختلفوا في مقدار الطعام، فقال أصحابنا والثوري: "لكل مسكين نصف صاع بر أو صاع تمر أو شعير" وقال مالك مد بمد هشام، وهو مدان إلا ثلثا بمد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك من الحنطة، وأما الشعير فإن كان طعام أهل بلده فهو مثل الحنطة وكذلك التمر، وإن لم يكونا طعام أهل البلد أطعمهم من كل واحد منهما وسطا من شبع الشعير والتمر". وقال الشافعي: "لكل مسكين مد من طعام بلده الذي يقتات حنطة أوشعير أو أرز أو تمر أو أقط، وذلك بمد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعتبر مد أحدث بعده". حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن سليمان الأنباري قالا: حدثنا
(3/569)
 
 
ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر قال: كنت امرأ أصيب من النساء، وذكر قصة ظهاره من امرأته وأنه جامع امرأته وسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "حرر رقبة"، فقلت: والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي، قال: "فصم شهرين متتابعين"، قال: وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟ قال "فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا"، قلت: والذي بعثك بالحق نبيا لقد بتنا وحشين وما لنا طعام قال: "فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها".
فإن قيل: روى إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة عن عطاء بن يسار: أن خولة بنت مالك بن ثعلبة ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مريه فليذهب إلى فلان فإن عنده شطر وسق فليأخذه صدقة عليه ثم يتصدق به على ستين مسكينا". وروى عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن خولة: أن زوجها ظاهر منها فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يتصدق بخمسة عشر صاعا على ستين مسكينا. قيل له: قد روينا حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء وأنه أمره بأن يطعم وسقا من تمر ستين مسكينا، وهذا أولى; لأنه زائد على خبرك وأيضا فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أعانه بهذا القدر، ولا دلالة فيه على أن ذلك جميع الكفارة، وقد بين ذلك في حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن يزيد بن زيدان زوج خولة ظاهر منها وذكر الحديث، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا; وهذا يدل على أنه أعانه ببعض الكفارة. وقد روي ذلك أيضا في حديث يوسف بن عبد الله بن سلام رواه يحيى بن زكريا عن محمد بن إسحاق عن معمر بن عبد الله عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: حدثتني خولة بنت مالك بن ثعلبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعان زوجها حين ظاهر منها بعذق من تمر وأعانته هي بعذق آخر، وذلك ستون صاعا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدق به".
اختلفوا في المظاهر يجامع قبل أن يطعم؟ فقال أصحابنا ومالك والشافعي: لا يجامع حتى يطعم إذا كان فرضه الطعام" وروى زيد بن أبي الزرقاء عن الثوري: "أنه إذا أراد أن يطأها قبل أن يطعم لم يكن آثما". وروى المعافى والأشجعي عن الثوري: "أنه لا يقربها حتى يطعم"، قال النبي صلى الله عليه وسلم للمظاهر بعدما ذكر عجزه عن الصيام: "ثم لا يقربها حتى يكفر" وأيضا لما اتفق الجميع على أن الجماع محظور عليه قبل عتق الرقبة وجب بقاء حظره إذا عجز; إذ جائز أن يجد الرقبة قبل الإطعام فيكون الوطء واقعا قبل العتق.
(3/570)
 
 
باب كيف يحيي أهل الكتاب
قال الله تعالى: {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله} . روى سعيد عن قتادة عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه; إذ أتى عليهم يهودي، فسلم عليهم فردوا عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون ما قال"؟ قالوا سلم يا نبي الله قال: "قال سام عليكم أي تسأمون دينكم". وقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك أي عليك ما قلت". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إسحاق بن الحسين قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا سفيان عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا لقيتم المشركين في الطريق فلا تبدءوهم بالسلام واضطروهم إلى أضيقه". قال أبو بكر: قد روي في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون بقولهم السام أنكم تسأمون دينكم، وروي أنهم يريدون به الموت; لأن السام اسم من أسماء الموت.
قال أبو بكر: ذكر هشام عن محمد عن أبي حنيفة قال: "نرى أن نرد على المشرك السلام ولا نرى أن نبدأ". وقال محمد: "وهو قول العامة من فقهائنا" وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا عمرو بن مرزوق قال: حدثنا شعبة عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: صحبنا عبد الله في سفر ومعنا أناس من الدهاقين، قال: فأخذوا طريقا غير طريقنا، فسلم عليهم، فقلت لعبد الله: أليس هذا تكره؟ قال: إنه حق الصحبة قال أبو بكر: ظاهره يدل على أن عبد الله بدأهم بالسلام; لأن الرد لا يكره عند أحد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم" قال أبو بكر: وإنما كره الابتداء; لأن السلام من تحية أهل الجنة، فكره أن نبدأ به الكافر; إذ ليس من أهلها، ولا يكره الرد على وجه المكافأة. قال الله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} [النساء: 86] . وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا الحسن بن المثنى قال: حدثنا عثمان قال: حدثنا عبد الواحد قال: حدثنا سليمان الأعمش قال: قلت لإبراهيم: أختلف إلى طبيب نصراني أسلم عليه؟ قال: نعم، إذا كانت لك إليه حاجة فسلم عليه.
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا} قال قتادة: "كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لهم تفسحوا" وقال ابن عباس: "هو مجلس القتال". قال قتادة: {وإذا قيل انشزوا فانشزوا} قال: "إذا دعيتم إلى خير" وقيل: انشزوا أي ارتفعوا في المجلس; ولهذا ذكر أهل العلم; لأنهم أحق بالرفعة، وهذا يدل
(3/571)
 
 
على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يرفع مجلس أهل العلم على غيرهم ليبين للناس فضلهم ومنزلتهم عنده، وكذلك يجب أن يفعل بعد النبي صلى الله عليه وسلم وقال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} . وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" فرتب أولي الأحلام والنهى في أعلى المراتب; إذ جعلهم في المرتبة التي تلي النبوة.
وقوله تعالى: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} روى ليث عن مجاهد قال: قال علي: "إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم، ثم نسخت". وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "إن المسلمين أكثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه، فلما نزلت: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} كف كثير من المسلمين عن المسألة، فأنزل الله: {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات} الآية. فوسع لهم".
قال أبو بكر: قد دلت الآية على أحكام ثلاثة. أحدها: تقديم الصدقة أمام مناجاتهم للنبي صلى الله عليه وسلم لمن يجد. والثاني: الرخصة في المناجاة لمن لا يجد الصدقة بقوله: {فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم} ، فهذا يدل على أن المسألة كانت مباحة لمن لم يجد الصدقة. والثالث: وجوب الصدقة أمام المسألة بقوله: {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم} . حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن مجاهد في قوله: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} الآية، قال علي: "ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت وما كانت إلا ساعة".
قوله تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} قال أبو بكر: المحادة أن يكون كل واحد منهما في حد وحيز غير حد صاحبه وحيزه، فظاهره يقتضي أن يكون المراد أهل الحرب; لأنهم في حد غير حدنا، فهو يدل على كراهة مناكحة أهل الحرب، وإن كانوا من أهل الكتاب; لأن المناكحة توجب المودة، قال الله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم: 21] آخر سورة المجادلة.
(3/572)
 
 
ومن سورة الحشر
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر} قال مجاهد وقتادة: "أول الحشر جلاء بني النضير من اليهود، فمنهم من خرج إلى خيبر ومنهم من خرج إلى الشام" وقال الزهري: قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صالحهم على الجلاء فأجلاهم إلى الشام، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من شيء إلا الحلقة، والحلقة السلاح.
قال أبو بكر: قد انتظم ذلك معنيين: أحدهما مصالحة أهل الحرب على الجلاء عن ديارهم من غير سبي ولا استرقاق ولا دخول في الذمة ولا أخذ جزية، وهذا الحكم منسوخ عندنا إذا كان بالمسلمين قوة على قتالهم على الإسلام; أو أداء الجزية وذلك لأن الله قد أمر بقتال الكفار حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية، قال الله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله} إلى قوله: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29] ، وقال: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] ; فغير جائز إذا كان بالمسلمين قوة على قتالهم، وإدخالهم في الذمة أو في الإسلام أن يجلوهم، ولكنه لو عجز المسلمون عن مقاومتهم في إدخالهم في الإسلام أو الذمة جاز لهم مصالحتهم على الجلاء عن بلادهم والمعنى الثاني: جواز مصالحة أهل الحرب على مجهول من المال; لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على أراضيهم وعلى الحلقة وترك لهم ما أقلت الإبل، وذلك مجهول.
وقوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} فيه أمر بالاعتبار والقياس في أحكام الحوادث ضرب من الاعتبار، فوجب استعماله بظاهر الآية.
وقوله تعالى: {ما قطعتم من لينة} قال ابن عباس وقتادة: "كل نخلة لينة سوى العجوة" وقال مجاهد وعمرو بن ميمون: "كل نخلة لينة"، وقيل: "اللينة كرام النخل" وروى ابن جريج عن مجاهد: ما قطعتم من لينة النخلة، نهى بعض المهاجرين عن قطع النخل وقال: إنما هي مغانم المسلمين، فنزل القرآن بتصديق من نهى وبتحليل من قطعها
(3/573)
 
 
من الإثم. قال أبو بكر: صوب الله الذين قطعوا والذين أبوا وكانوا فعلوا ذلك من طريق الاجتهاد، وهذا يدل على أن كل مجتهد مصيب. وقد روي عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن: "أغر على أبنى صباحا وحرق". وروى قتادة عن أنس قال: "لما قاتل أبو بكر أهل الردة قتل وسبى وحرق" وروى عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال: لما تحصن بنو النضير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع نخله وتحريقه، فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت ترضى بالفساد فأنزل الله: {ما قطعتم من لينة} الآية. وروى عثمان بن عطاء عن أبيه قال: "لما وجه أبو بكر الجيش إلى الشام كان فيما أوصاهم به ولا تقطع شجرة مثمرة".
قال أبو بكر: تأوله محمد بن الحسن على أنهم قد علموا أن الله سيغنمهم إياها وتصير للمسلمين إذا غزوا أرض الحرب، وأرادوا الخروج فإن الأولى أن يحرقوا شجرهم وزروعهم وديارهم. وكذلك قال أصحابنا في مواشيهم: "إذا لم يمكنهم إخراجها ذبحت ثم أحرقت". وأما ما رجوا أن يصير فيئا للمسلمين فإنهم إن تركوه ليصير للمسلمين جاز، وإن أحرقوه غيظا للمشركين جاز، استدلالا بالآية وبما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في أموال بني النضير.
وقوله تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل} . الآية الفيء الرجوع، ومنه الفيء في الإيلاء في قوله: {فإن فاءوا} ، وأفاءه عليه إذا رده عليه والفيء في مثل هذا الموضع ما صار للمسلمين من أموال أهل الشرك، فالغنيمة فيء والجزية فيء والخراج فيء; لأن جميع ذلك مما ملكه الله المسلمين من أموال أهل الشرك. والغنيمة، وإن كانت فيئا فإنها تختص بمعنى لا يشاركها فيه سائر وجوه الفيء; لأنها ما أخذ من أموال أهل الحرب عنوة بالقتال، فمنها ما يجري فيه سهام الغانمين بعد إخراج الخمس لله - عز وجل -. وروى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب قال: كانت أموال بني النضير فيئا مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله. قال أبو بكر: فهذا من الفيء الذي جعل الأمر فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لأحد فيه حق إلا من جعله له النبي صلى الله عليه وسلم فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفق منها على أهله ويجعل الباقي في الكراع والسلاح; وذلك لما بينه الله في كتابه، وهو أن المسلمين لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب، ولم يأخذوه عنوة، وإنما أخذوه صلحا، وكذلك كان حكم فدك وقرى عرينة فيما ذكره
(3/574)
 
 
الزهري وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الغنيمة الصفي وهو ما كان يصطفيه من جملة الغنيمة قبل أن يقسم المال. وكان له أيضا سهم من الخمس، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم من الفيء هذه الحقوق يصرفها في نفقة عياله والباقي في نوائب المسلمين، ولم يكن لأحد فيها حق إلا من يختار هو صلى الله عليه وسلم أن يعطيه وفي هذه الآية دلالة على أن كل مال من أموال أهل الشرك لم يغلب عليه المسلمون عنوة، وإنما أخذ صلحا أنه لا يوضع في بيت مال المسلمين ويصرف على الوجوه التي يصرف فيها الخراج والجزية; لأنه بمنزلة ما صار للنبي صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير حين لم يوجف المسلمون عليه.
وقوله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول} الآية. قال أبو بكر: بين الله حكم ما لم يوجف عليه المسلمون من الفيء فجعله للنبي صلى الله عليه وسلم على ما قدمنا من بيانه، ثم ذكر حكم الفيء الذي أوجف المسلمون عليه فجعله لهؤلاء الأصناف، وهم الأصناف الخمس المذكورون في غيرها، وظاهره يقتضي أن لا يكون للغانمين شيء منه إلا من كان منهم من هذه الأصناف، وقال قتادة: "كانت الغنائم في صدر الإسلام لهؤلاء الأصناف ثم نسخ بقوله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} [الأنفال: 41] " قال أبو بكر: لما فتح عمر رضي الله عنه العراق سأله قوم من الصحابة قسمته بين الغانمين، منهم الزبير وبلال وغيرهما، فقال: إن قسمتها بينهم بقي آخر الناس لا شيء لهم; واحتج عليهم بهذه الآية إلى قوله: {والذين جاءوا من بعدهم} ، وشاور عليا وجماعة من الصحابة في ذلك، فأشاروا عليه بترك القسمة، وأن يقر أهلها عليها ويضع عليها الخراج، ففعل ذلك، ووافقته الجماعة عند احتجاجه بالآية، وهذا يدل على أن هذه الآية غير منسوخة وأنها مضمومة إلى آية الغنيمة في الأرضين المفتتحة، فإن رأى قسمتها أصلح للمسلمين وأرد عليهم قسم، وإن رأى إقرار أهلها عليها، وأخذ الخراج منهم فيها فعل; لأنه لو لم تكن هذه الآية ثابتة الحكم في جواز أخذ الخراج منها حتى يستوي الآخر والأول فيها لذكروه له وأخبروه بنسخها، فلما لم يحاجوه بالنسخ دل على ثبوت حكمها عندهم وصحة دلالتها لديهم على ما استدل به عليه، فيكون تقدير الآيتين بمجموعهما: واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه في الأموال سوى الأرضين وفي الأرضين إذا اختار الإمام ذلك، وما أفاء الله على رسوله من الأرضين فلله وللرسول إن اختار تركها على ملك أهلها، ويكون ذكر الرسول ههنا لتفويض الأمر عليه في صرفه إلى من رأى; فاستدل عمر رضي الله عنه من الآية بقوله: {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} وقوله: {والذين جاءوا من بعدهم} وقال: لو قسمتها بينهم لصارت دولة بين الأغنياء منكم، ولم يكن لمن جاء بعدهم من المسلمين شيء، وقد جعل لهم فيها الحق
(3/575)
 
 
بقوله: {والذين جاءوا من بعدهم} فلما استقر عنده حكم دلالة الآية وموافقة كل الصحابة على إقرار أهلها عليها ووضع الخراج بعث عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان فمسحا الأرضين ووضعا الخراج على الأوضاع المعلومة ووضعا الجزية على الرقاب وجعلاهم ثلاث طبقات: اثني عشر وأربعة وعشرين وثمانية وأربعين، ثم لم يتعقب فعله هذا أحد ممن جاء بعده من الأئمة بالفسخ فصار ذلك اتفاقا.
واختلف أهل العلم في أحكام الأرضين المفتتحة عنوة، فقال أصحابنا والثوري: "إذا افتتحها الإمام عنوة فهو بالخيار إن شاء قسمها وأهلها وأموالهم بين الغانمين بعد إخراج الخمس، وإن شاء أقر أهلها عليها وجعل عليها وعليهم الخراج ويكون ملكا لهم ويجوز بيعهم وشراؤهم لها" وقال مالك: "ما باع أهل الصلح من أرضهم فهو جائز وما افتتح عنوة فإنه لا يشتري منهم أحد; لأن أهل الصلح من أسلم منهم كان أحق بأرضه وماله، وأما أهل العنوة الذين أخذوا عنوة فمن أسلم منهم أحرز له إسلامه نفسه وأرضه للمسلمين; لأن بلادهم قد صارت فيئا للمسلمين" وقال الشافعي: "ما كان عنوة فخمسها لأهله وأربعة أخماسها للغانمين، فمن طاب نفسا عن حقه للإمام أن يجعلها وقفا عليهم، ومن لم يطب نفسا فهو أحق بماله".
قال أبو بكر: لا تخلو الأرض المفتتحة عنوة من أن تكون للغانمين لا يجوز للإمام صرفها عنهم بحال إلا بطيبة من أنفسهم، أو أن يكون الإمام مخيرا بين إقرار أهلها على أملاكهم فيها ووضع الخراج عليها وعلى رقاب أهلها على ما فعله عمر في أرض السواد، فلما اتفق الجميع من الصحابة على تصويب عمر فيما فعله في أرض السواد بعد خلاف من بعضهم عليه على إسقاط حق الغانمين عن رقابها دل ذلك على أن الغانمين لا يستحقون ملك الأرضين، ولا رقاب أهلها إلا بأن يختار الإمام ذلك لهم; لأن ذلك لو كان ملكا لهم لما عدل عنهم بها إلى غيرهم ولنازعوه في احتجاجه بالآية في قوله: {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} وقوله: {والذين جاءوا من بعدهم} ، فلما سلم له الجميع رأيه عند احتجاجه بالآية دل على أن الغانمين لا يستحقون ملك الأرضين إلا باختيار الإمام ذلك لهم. وأيضا لا يختلفون أن للإمام أن يقتل الأسرى من المشركين ولا يستبقيهم، ولو كان ملك الغانمين قد ثبت فيهم لما كان له إتلافه عليهم كما لا يتلف عليهم سائر أموالهم، فلما كان له أن يقتل الأسرى وله أن يستبقيهم فيقسمهم بينهم ثبت أن الملك لا يحصل للغانمين بإحراز الغنيمة في الرقاب والأرضين إلا أن يجعلها الإمام لهم ويدل على ذلك أيضا ما روى الثوري عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين نصفا لنوائبه وحاجته ونصفا
(3/576)
 
 
بين المسلمين، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما; فلو كان الجميع ملكا للغانمين لما جعل نصفه لنوائبه وحاجته وقد فتحها عنوة; ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة عنوة ومن على أهلها فأقرهم على أملاكهم فقد حصل بدلالة الآية، وإجماع السلف والسنة تخيير الإمام في قسمة الأرضين أو تركها ملكا لأهلها، ووضع الخراج عليها. ويدل عليه حديث سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت الشام مدها ودينارها، ومنعت مصر أردبها ودينارها، وعدتم كما بدأتم". شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه فأخبر - عليه السلام - عن منع الناس لهذه الحقوق الواجبة لله - تعالى - في الأرضين وأنهم يعودون إلى حال أهل الجاهلية في منعها، وذلك يدل على صحة قول عمر في السواد وأن ما وضعه هو من حقوق الله تعالى التي يجب أداؤها.
فإن قيل: ليس فيما ذكرت من فعل عمر في السواد إجماع; لأن حبيب بن أبي ثابت وغيره قد رووا عن ثعلبة بن يزيد الحماني قال: دخلنا على علي بالرحبة فقال: لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لقسمت السواد بينكم قيل له الصحيح عن علي أنه أشار على عمر بترك قسمة السواد، وإقرار أهله عليه، ومع ذلك فإنه لا يجوز أن يصح عن علي ما ذكرت; لأنه لا يخلو من خاطبهم علي بذلك من أن يكونوا هم الذين فتحوا السواد فاستحقوا ملكه وقسمته بينهم من غير خيار للإمام فيه، أو أن يكون المخاطبون به غير الذين فتحوه، أو خاطب به الجيش وهم أخلاط منهم من شهد فتح السواد ومنهم من لم يشهده; وغير جائز أن يكون الخطاب لمن لم يشهد فتحه; لأن أحدا لا يقول إن الغنيمة تصرف إلى غير الغانمين ويخرج منها الغانمون، وأن يكونوا أخلاطا فيهم من شهد الفتح واستحق الغنيمة وفيهم من لم يشهده، وهذا مثل الأول; لأن من لم يشهد الفتح لا يجوز أن يسهم له وتقسم الغنيمة بينه وبين الذين شهدوه أو أن يكون خاطب به من شهد الفتح دون غيره، فإن كان كذلك وكانوا هم المستحقين له دون غيرهم من غير خيار للإمام فيه فغير جائز أن يجعل حقهم لغيرهم; لأن بعضهم يضرب وجوه بعض.; إذ كان أتقى لله من أن يترك حقا يجب عليه القيام به إلى غيره; لما وصفت وعلى أنه لم يخصص بهذا الخطاب الذين فتحوه دون غيرهم، وفي ذلك دليل على فساد هذه الرواية.
وقد اختلف الناس بعد ثبوت هذا الأصل الذي ذكرنا وصحة الرواية عن عمر في كافة الصحابة على ترك قسمة السواد، وإقرار أهله عليه، فقال قائلون: "أقرهم على أملاكهم وترك أموالهم في أيديهم ولم يسترقهم"، وهو الذي ذكرناه من مذهب أصحابنا.
(3/577)
 
 
وقال آخرون: "إنما أقرهم على أرضهم على أنهم وأرضهم فيء للمسلمين وأنهم غير ملاك لها" وقال آخرون: "أقرهم على أنهم أحرار والأرضون موقوفة على مصالح المسلمين".
قال أبو بكر: ولم يختلفوا أن من أسلم من أهل السواد كان حرا وأنه ليس لأحد أن يسترقه، وقد روي عن علي أن دهقانا أسلم على عهده فقال له: "إن أقمت في أرضك رفعنا الجزية عن رأسك وأخذناها من أرضك، وإن تحولت عنها فنحن أحق بها"،. وكذلك روي عن عمر رضي الله عنه في دهقانة نهر الملك حين أسلمت; فلو كانوا عبيدا لما زال عنهم الرق بالإسلام.
فإن قيل فقد قالا: إن تحولت عنها فنحن أحق بها قيل له: إنما أرادا بذلك أنك إن عجزت عن عمارتها عمرناها نحن وزرعناها لئلا تبطل الحقوق التي قد وجبت للمسلمين في رقابها وهو الخراج; وكذلك يفعل الإمام عندنا بأراضي العاجزين عن عمارتها ولما ثبت بما وصفنا أن من أسلم من أهل السواد فهو حر، ثبت أن أراضيهم على أملاكهم كما كانت رقابهم مبقاة على أصل الحرية، ومن حيث جاز للإمام عند مخالفينا أن يقطع حق الغانمين عن رقابها ويجعلها موقوفة على المسلمين بصرف خراجها إليهم جاز إقرارها على أملاك أهلها ويصرف خراجها إلى المسلمين; إذ لا حق للمسلمين في نفي ملك ملاكها عنها بعد أن لا يحصل للمسلمين ملكها، وإنما حقهم في الحالين في خراجها لا في رقابها بأن يتملكوها.
وذكر يحيى بن آدم عن الحسن بن صالح قال: سمعنا أن الغنيمة ما غلب عليه المسلمون حتى يأخذوه عنوة بالقتال وأن الفيء ما صولحوا عليه"; قال الحسن: "فأما سوادنا هذا فإنا سمعنا أنه كان في أيدي النبط، فظهر عليهم أهل فارس، فكانوا يؤدون إليهم الخراج، فلما ظهر المسلمون على أهل فارس تركوا السواد، ومن لم يقاتلهم من الدهاقين على حالهم ووضعوا الجزية على رءوس الرجال ومسحوا ما كان في أيديهم من الأرضين، ووضعوا عليهم الخراج، وقبضوا على كل أرض ليست في يد أحد فكانت صوافي للإمام". قال أبو بكر: كأنه ذهب إلى أن النبط لما كانوا أحرارا في مملكة أهل فارس فكانت أملاكهم ثابتة في أراضيهم، ثم ظهر المسلمون على أهل فارس وهم الذين قاتلوا المسلمين ولم يقاتلهم النبط كانت أراضيهم ورقابهم على ما كانت عليه في أيام الفرس; لأنهم لم يقاتلوا المسلمين، فكانت أرضوهم ورقابهم في معنى ما صولح عليه وأنهم إنما كانوا يملكون أراضيهم ورقابهم لو قاتلوهم. وهذا وجه كان يحتمله الحال لولا أن محاجة عمر لأصحابه الذين سألوه قسمة السواد كانت من غير هذا الوجه، وإنما احتج بدلالة الكتاب دون ما ذكره الحسن.
(3/578)
 
 
فإن قيل: إنما دفع عمر السواد إلى أهله بطيبة من نفوس الغانمين على وجه الإجارة، والأجرة تسمى خراجا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان" ومراده أجرة العبد المشترى إذا رد بالعيب قال أبو بكر: هذا غلط من وجوه. أحدها: أن عمر لم يستطب نفوس القوم في وضع الخراج وترك القسمة، وإنما شاور الصحابة وحاج من طلب القسمة بما أوضح به قوله، ولو كان قد استطاب نفوسهم لنقل كما نقل ما كان بينه وبينهم من المراجعة والمحاجة.
فإن قيل: قد نقل ذلك، وذكر ما رواه إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: كنا ربع الناس فأعطانا عمر ربع السواد فأخذناه ثلث سنين. ثم وفد جرير إلى عمر بعد ذلك فقال عمر: والله لولا أني قاسم مسئول لكنتم على ما قسم لكم، فأرى أن تردوه على المسلمين ففعل، فأجازه عمر بثمانين دينارا، فأتته امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين إن قومي صالحوك على أمر ولست أرضى حتى تملأ كفي ذهبا وتحملني على جمل ذلول وتعطيني قطيفة حمراء، قال: ففعل قال أبو بكر: ليس فيه دليل على أنه كان ملكهم رقاب الأرضين، وجائز أن يكون أعطاهم ربع الخراج ثم رأى بعد ذلك أن يقتصر بهم على أعطياتهم دون الخراج; ليكونوا أسوة لسائر الناس. وكيف يكون ذلك باستطابة منه لنفوسهم وقد أخبر عمر أنه رأى رده على المسلمين وأظهر أنه لا يسعه غيره لما كان عنده أنه الأصلح للمسلمين. وأما أمر المرأة فإنه أعطاها من بيت المال; لأنه قد كان جائزا له أن يفعله من غير أخذ ما كان في أيديهم من السواد، وأما قوله: "إن الخراج أجرة" ففاسد من وجوه: أحدها: أنه لا خلاف أن الإجارات لا تجوز إلا على مدة معلومة إذا وقعت على المدة، وأيضا فإن أهلها لم يخلوا من أن يكونوا عبيدا أو أحرارا، فإن كانوا عبيدا فإن إجارة المولى من عبده لا تجوز، وإن كانوا أحرارا فكيف جاز أن تترك رقابهم على أصل الحرية ولا تترك أراضيهم على أملاكهم، وأيضا لو كانوا عبيدا لم يجز أخذ الجزية من رقابهم; لأنه لا خلاف أن العبيد لا جزية عليهم، وأيضا لا خلاف أن إجارة النخل والشجر غير جائزة، وقد أخذ عمر الخراج من النخل والشجر فدل على أنه ليس بأجرة.
وقد اختلف الفقهاء في شرى أرض الخراج واستئجارها، فقال أصحابنا: "لا بأس بذلك"، وهو قول الأوزاعي وقال مالك: "أكره استئجار أرض الخراج" وكره شريك شرى أرض الخراج وقال: لا تجعل في عنقك صغارا وذكر الطحاوي عن ابن أبي عمران عن سليمان بن بكار قال: سأل رجل المعافى بن عمران عن الزرع في أرض الخراج، فنهاه عن ذلك، فقال له قائل: فإنك تزرع أنت فيها فقال: يا ابن أخي ليس في الشر قدوة، وقال الشافعي: "لا بأس بأن يكتري المسلم أرض خراج كما يكتري دوابهم"
(3/579)
 
 
قال: والحديث الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الخراج ولا لمشرك أن يدخل المسجد الحرام" إنما هو خراج الجزية. قال أبو بكر: روي عن عبد الله بن مسعود أنه اشترى أرض خراج، وروي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا" قال عبد الله: وبراذان ما براذان وبالمدينة ما بالمدينة وذلك أنه كانت له ضيعة براذان وراذان من أرض الخراج. وروي أن الحسن والحسين ابني علي رضي الله عنهم اشتروا من أرض السواد; فهذا يدل على معنيين. أحدهما: أنها أملاك لأهلها. والثاني: أنه غير مكروه للمسلم شراها. وروي عن علي وعمر فيمن أسلم من أهل الخراج: "أنه إن أقام على أرضه أخذ منه الخراج". وروي عن ابن عباس أنه كره شرى أرض أهل الذمة، وقال: "لا تجعل ما جعل الله في عنق هذا الكافر في عنقك"; وقال ابن عمر مثل ذلك، وقال: "لا تجعل في عنقك الصغار" قال أبو بكر: وخراج الأرض ليس بصغار; لأنه لا نعلم خلافا بين السلف أن الذمي إذا كانت له أرض خراج فأسلم أنه يؤخذ الخراج من أرضه ويسقط عن رأسه، فلو كان صغارا لسقط بالإسلام. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "منعت العراق قفيزها ودرهمها" يدل على أنه واجب على المؤمنين; لأنه أخبر عما يمنع المسلمون من حق الله في المستقبل، ألا ترى أنه قال:"وعدتم كما بدأتم؟ " والصغار لا يجب على المسلمين، وإنما يجب على الكفار للمسلمين.
وقوله تعالى: {والذين تبوأوا الدار والأيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم} ، يعني والله أعلم: أن ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول وللذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، يعني الأنصار، وقد كان إسلام المهاجرين قبل إسلام الأنصار، ولكنه أراد الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل هجرة المهاجرين.
وقوله تعالى: {ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} . قال الحسن: يعني أنهم لا يحسدون المهاجرين على فضل آتاهم الله - تعالى - وقيل: لا يجدون في أنفسهم ضيقا لما ينفقونه عليهم.
وقوله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} ، الخصاصة الحاجة; فأثنى الله عليهم بإيثارهم المهاجرين على أنفسهم فيما ينفقونه عليهم، وإن كانوا هم محتاجين إليه.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له: معي دينار فقال: "أنفقه على نفسك" فقال: معي دينار آخر فقال: "أنفقه على عيالك" فقال: معي دينار آخر قال: تصدق به"، وأن رجلا جاء ببيضة من ذهب فقال: يا رسول الله تصدق بهذه فإني ما
(3/580)
 
 
أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه من الشق الآخر فأعرض عنه، إلى أن أعاد القول، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورماه بها فلو أصابته لعقرته، ثم قال: "يأتيني أحدكم بجميع ما يملك فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى"، وأن رجلا دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب والرجل بحال بذاذة، فحث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فطرح قوم ثيابا أو دراهم، فأعطاه ثوبين، ثم حثهم على الصدقة، فطرح الرجل أحد ثوبيه، فأنكره النبي صلى الله عليه وسلم. ففي هذه الأخبار كراهة الإيثار على النفس والأمر بالإنفاق على النفس ثم الصدقة بالفضل قيل له: إنما كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك; لأنه لم يثق منه بالصبر على الفقر وخشي أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه. ألا ترى أنه قال: "يأتيني أحدهم بجميع ما يملك فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس؟ " فإنما كره الإيثار لمن كانت هذه حاله، فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على النفس فلم يكونوا بهذه الصفة بل كانوا كما قال الله تعالى: {والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس} [البقرة: 177] ، فكان الإيثار منهم أفضل من الإمساك، والإمساك ممن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار.
وقد روى محارب بن دثار عن ابن عمر قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: إن فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها تسعة أهل أبيات حتى رجعت إلى الأول، فنزلت: {ومن يوق شح نفسه} الآية. وروى الأعمش عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن قد خفت أن تصيبني هذه الآية: {ومن يوق شح نفسه} ، فو الله ما أقدر على أن أعطي شيئا أطيق منعه فقال عبد الله: هذا البخل وبئس الشيء البخل، ولكن الشح أن تأخذ مال أخيك بغير حق وروي عن سعيد بن جبير في قوله تعالى -: {ومن يوق شح نفسه} قال ادخار الحرام ومنع الزكاة". آخر سورة الحشر.
(3/581)
 
 
ومن سورة الممتحنة
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} ; روي أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى كفار قريش ينتصح لهم فيه، فأطلع الله نبيه على ذلك، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"أنت كتبت هذا الكتاب"؟ قال: نعم، قال: "وما حملك على ذلك؟ " قال: أما والله ما ارتبت في الله منذ أسلمت ولكني كنت امرأ غريبا في قريش وكان لي بمكة مال وبنون فأردت أن أدافع بذلك عنهم، فقال عمر: ائذن لي يا رسول الله فأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مهلا يا ابن الخطاب إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإني غافر لكم". حدثنا بذلك عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري في قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} عن عروة بن الزبير بمعنى ما قدمنا.
قال أبو بكر: ظاهر ما فعله حاطب لا يوجب الردة وذلك لأنه ظن أن ذلك جائز له; ليدفع به عن ولده وماله كما يدفع عن نفسه بمثله عند التقية ويستبيح إظهار كلمة الكفر، ومثل هذا الظن إذا صدر عنه الكتاب الذي كتبه فإنه لا يوجب الإكفار، ولو كان ذلك يوجب الإكفار لاستتابه النبي صلى الله عليه وسلم فلما لم يستتبه وصدقه على ما قال علم أنه ما كان مرتدا. وإنما قال عمر ائذن لي فأضرب عنقه; لأنه ظن أنه فعله عن غير تأويل.
فإن قيل: قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما منع عمر من قتله; لأنه شهد بدرا، وقال: "ما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" فجعل العلة المانعة من قتله كونه من أهل بدر قيل له: ليس كما ظننت; لأن كونه من أهل بدر لا يمنع أن يكون كافرا مستحقا للنار إذا كفر، وإنما معناه: ما يدريك لعل الله قد علم أن أهل بدر، وإن أذنبوا لا يموتون إلا على التوبة; ومن علم الله منه وجود التوبة إذا أمهله فغير جائز أن يأمر بقتله أو يفعل ما يقتطعه به عن التوبة، فيجوز أن يكون مراده أن في
(3/582)
 
 
معلوم الله أن أهل بدر، وإن أذنبوا فإن مصيرهم إلى التوبة والإنابة.
وفي هذه الآية دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر، وأنه لا يكون بمنزلة الخوف على نفسه; لأن الله نهى المؤمنين عن مثل ما فعل حاطب مع خوفه على أهله وماله، وكذلك قال أصحابنا أنه لو قال لرجل: "لأقتلن ولدك أو لتكفرن" أنه لا يسعه إظهار الكفر. ومن الناس من يقول فيمن له على رجل مال فقال: "لا أقر لك حتى تحط عني بعضه" فحط عنه بعضه أنه لا يصح الحط عنه وجعل خوفه على ذهاب ماله بمنزلة الإكراه على الحط، وهو فيما أظن مذهب ابن أبي ليلى وما ذكرناه يدل على صحة قولنا، ويدل على أن الخوف على المال والأهل لا يبيح التقية أن الله فرض الهجرة على المؤمنين، ولم يعذرهم في التخلف لأجل أموالهم وأهلهم، فقال: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم} [التوبة: 24] الآية. وقال: {قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن