أحكام القرآن للجصاص ط العلمية 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

    
 
  
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
 
 
 
 
  
 
الكتاب: أحكام القرآن
المؤلف: أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي (المتوفى: 370هـ)
المحقق: عبد السلام محمد علي شاهين
الناشر: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
الطبعة: الأولى، 1415هـ/1994م
عدد الأجزاء: 3
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
 
أقر بالزنا مرة واحدة ثم مات أو قامت عليه بينة بالزنا فمات قبل أن يحد لم يجب عليه المهر في ماله ولو مات بعد إقراره بالسرقة مرة واحدة لكانت السرقة مضمونة عليه باتفاق منهم جميعا فقد حصل من قولهم جميعا إيجاب الضمان بالإقرار مرة واحدة وسقوط المهر مع الإقرار بالزنا من غير حد.
واحتج الآخرون بما روى الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن علي أن رجلا أقر عنده بسرقة مرتين فقال قد شهدت على نفسك بشهادتين فأمر به فقطع وعلقها في عنقه ولا دلالة في هذا الحديث على أن مذهب علي رضي الله عنه أنه لا يقطع إلا بالإقرار مرتين إنما قال شهدت على نفسك بشهادتين ولم يقل لو شهدت بشهادة واحدة لما قطعت وليس فيه أيضا أنه لم يقطعه حتى أقر مرتين.
ومما يحتج به لأبي يوسف من طريق النظر أن هذا لما كان حدا يسقط بالشبهة وجب أن يعتبر عدد الإقرار فيه بالشهادة فلما كان أقل من يقبل فيه شهادة شاهدين وجب أن يكون أقل ما يصح به إقراره مرتين كالزنا اعتبر عدد الإقرار فيه بعدد الشهود وهذا يلزم أبا يوسف أن يعتبر عدد الإقرار في شرب الخمر بعدد الشهود وقد سمعت أبا الحسن الكرخي يقول إنه وجد عند أبي يوسف في شرب الخمر أنه لا يحد حتى يقر مرتين كعدد الشهود ولا يلزم عليه حد القذف لأن المطالبة به حق لآدمي وليس كذلك سائر الحدود وهذا الضرب من القياس مدفوع عندنا فإن المقادير لا تؤخذ من طريق المقاييس فيما كان هذا صفته وإنما طريقها التوقيف والاتفاق.
(2/536)
 
 
باب السرقة من ذوي الأرحام
قال أبو بكر قوله {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} عموم في إيجاب قطع كل سارق إلا ما خصه الدليل, على النحو الذي قدمنا, وعلى ما حكينا عن أبي الحسن, ليس بعموم وهو مجمل محتاج فيه إلى دلالة من غيره في إثبات حكمه. ومن جهة أخرى على أصله أن ما ثبت خصوصه بالاتفاق لا يصح الاحتجاج بعمومه, وقد بيناه في أصول الفقه; وهو مذهب محمد بن شجاع. إلا أنه وإن كان عموما عندنا لو خلينا ومقتضاه فقد قامت دلالة خصوصه في ذي الرحم المحرم. وقد اختلف الفقهاء فيه.
(2/536)
 
 
ذكر الاختلاف في ذلك
قال أصحابنا: "لا يقطع من سرق من ذي الرحم" وهو الذي لو كان أحدهما رجلا والآخر امرأة لم يجز له أن يتزوجها من أجل الرحم الذي بينهما. ولا تقطع أيضا عندهم
(2/536)
 
 
المرأة إذا سرقت من زوجها, ولا الزوج إذا سرق من امرأته. وقال الثوري: "إذا سرق من ذي رحم منه لم يقطع". وقال مالك: "يقطع الزوج فيما سرق من امرأته والمرأة فيما تسرق من زوجها في غير الموضع الذي يسكنان فيه, وكذلك في الأقارب". وقال عبيد الله بن الحسن في الذي يسرق من أبويه: "إن كان يدخل عليهم لا يقطع, وإن كانوا نهوه عن الدخول عليهم فسرق قطع". وقال الشافعي: "لا قطع على من سرق من أبويه أو أجداده, ولا على زوج سرق من امرأته أو امرأة سرقت من زوجها". والدليل على صحة قول أصحابنا قول الله عز وجل: {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم} [النور: 61] إلى قوله: {أو ما ملكتم مفاتحه} [النور: 61] فأباح تعالى الأكل من بيوت هؤلاء, وقد اقتضى ذلك إباحة الدخول إليها بغير إذنهم; فإذا جاز لهم دخولها لم يكن ما فيها محرزا عنهم, ولا قطع إلا فيما سرق من حرز وأيضا إباحة أكل أموالهم يمنع وجوب القطع فيها, لما لهم فيها من الحق كالشريك ونحوه.
فإن قيل فقد قال: {أو صديقكم} [النور: 61] ويقطع فيه مع ذلك إذا سرق من صديقه. قيل له ظاهر الآية ينفي القطع من الصديق أيضا, وإنما خصصناه بدلالة الاتفاق ودلالة اللفظ قائمة فيما عداه; وعلى أنه لا يكون صديقا إذا قصد السرقة. ودليل آخر, وهو أنه قد ثبت عندنا وجوب نفقة هؤلاء عند الحاجة إليه وجواز أخذها منه بغير بدل, فأشبه السارق من بيت المال, لثبوت حقه فيه بغير بدل يلزمه عند الحاجة إليه.
فإن قيل: قد ثبت هذا الحق عند الضرورة في مال الأجنبي ولم يمنع من القطع بالسرقة منه. قيل له: يعترضان من وجهين: أحدهما: أنه في مال الأجنبي يثبت عند الضرورة وخوف التلف وفي مال هؤلاء يثبت بالفقر وتعذر الكسب, والوجه الآخر: أن الأجنبي يأخذه ببدل وهؤلاء يستحقونه بغير بدل كمال بيت المال. وأيضا فلما استحق عليه إحياء نفسه وأعضائه عند الحاجة إليه بالإنفاق عليه, وكان هذا السارق محتاجا إلى هذا المال في إحياء يده لسقوط القطع, صار في هذه الحالة كالفقير الذي يستحق على ذي الرحم المحرم منه الإنفاق عليه لإحياء نفسه أو بعض أعضائه. وأيضا فهو مقيس على الأب بالمعنى الذي قدمناه; والله تعالى أعلم.
(2/537)
 
 
باب فيمن سرق ما قد قطع فيه
قال أصحابنا فيمن سرق ثوبا فقطع فيه ثم سرقه مرة أخرى وهو بعينه: "لم يقطع فيه". والأصل فيه أنه لا يجوز عندنا إثبات الحدود بالقياس, وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق, فلما عدمناهما فيما وصفنا لم يبق في إثباته إلا القياس, ولا يجوز ذلك عندنا.
(2/537)
 
 
فإن قيل: هلا قطعته بعموم قوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} قبل السرقة قيل له: السرقة الثانية لم يتناولها العموم لأنها توجب قطع الرجل لو وجب القطع, والذي في الآية قطع اليد. وأيضا فإن وجوب قطع السرقة متعلق بالفعل والعين جميعا, والدليل عليه أنه متى سقط القطع وجب ضمان العين, كما أن حد الزنا لما تعلق بالوطء كان سقوط الحد موجبا ضمان الوطء, ولما تعلق وجوب القصاص بقتل النفس كان سقوط القود موجبا ضمان النفس; فكذلك وجوب ضمان العين في السرقة عند سقوط القطع يوجب اعتبار العين في ذلك. فلما كان فعل واحد في عينين لا يوجب إلا قطعا واحدا, كان كذلك حكم الفعلين في عين واحدة ينبغي أن لا يوجب إلا قطعا واحدا; إذ كان لكل واحد من العينين أعني الفعل والعين تأثير في إيجاب القطع.
فإن قيل: فلو زنى بامرأة فحد ثم زنى بها مرة أخرى حد ثانيا مع وقوع الفعلين في عين واحدة. قيل له: لأنه لا تأثير لعين المرأة في تعلق وجوب الحد بها, وإنما يتعلق وجوب حد الزنا بالوطء لا غير; والدليل على ذلك أنه متى سقط الحد ضمن الوطء ولم يضمن عين المرأة, وفي السرقة متى سقط القطع ضمن عين السرقة. وأيضا فلما صارت السرقة في يده بعد القطع في حكم المباح التافه, بدلالة أن استهلاكها لا يوجب عليه ضمانها, وجب أن لا يقطع فيها بعد ذلك كما لا يقطع في سائر المباحات التافهة في الأصل وإن حصلت ملكا للناس كالطين والخشب والحشيش والماء; ومن أجل ذلك قالوا: إنه لو كان غزلا فنسجه ثوبا بعدما قطع فيه ثم سرقه مرة أخرى قطع لأن حدوث هذا الفعل فيه يرفع حكم الإباحة المانعة كانت من وجوب القطع, كما لو سرق خشبا لم يقطع فيه, ولو كان بابا منجورا فسرق قطع لخروجه بالصنعة عن الحال الأولى. وأيضا لما كان وقوع القطع فيه يوجب البراءة من استهلاكه قام القطع فيه مقام دفع قيمته, فصار كأنه عوضه منه, وأشبه من هذا الوجه وقوع الملك له في المسروق, لأن استحقاق البدل عليه يوجب له الملك, فلما أشبه ملكه من هذا الوجه سقط القطع لأنه يسقط بالشبهة أن يشبه المباح من وجه ويشبه الملك من وجه.
(2/538)
 
 
باب السرق يوجد قبل إخراج السرقة
قال أبو بكر رحمه الله: اتفق فقهاء الأمصار على أن القطع غير واجب إلا أن يفرق بين المتاع وبين حرزه, والدار كلها حرز واحد, فكما لم يخرجه من الدار لم يجب القطع; وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عمر, وهو قول إبراهيم. وروى يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم قال: بلغ عائشة أنهم كانوا يقولون: إذا لم
(2/538)
 
 
يخرج بالمتاع لم يقطع, فقالت عائشة: "لو لم أجد إلا سكينا لقطعته". وروى سعيد عن قتادة عن الحسن قال: "إذا وجد في بيت فعليه القطع" قال أبو بكر: دخوله البيت لا يستحق به اسم السارق, فلا يجوز إيجاب القطع به, وأخذه في الحرز أيضا لا يوجب القطع لأنه باق في الحرز, ومتى لم يخرجه من الحرز فهو بمنزلة من لم يأخذه فلا يجب عليه القطع; ولو جاز إيجاب القطع في مثله لما كان لاعتبار الحرز معنى; والله أعلم.
(2/539)
 
 
باب غرم السارق بعد القطع
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري وابن شبرمة: "إذا قطع السارق فإن كانت السرقة قائمة بعينها أخذها المسروق منه, وإن كانت مستهلكة فلا ضمان عليه", وهو قول مكحول وعطاء والشعبي وابن شبرمة وأحد قولي إبراهيم النخعي. وقال مالك: "يضمنها إن كان موسرا ولا شيء عليه إن كان معسرا". وقال عثمان البتي والليث والشافعي: "يغرم السرقة وإن كانت هالكة" وهو قول الحسن والزهري وحماد وأحد قولي إبراهيم. قال أبو بكر: أما إذا كانت قائمة بعينها فلا خلاف أن صاحبها يأخذها; وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع سارق رداء صفوان ورد الرداء على صفوان. والذي يدل على نفي الضمان بعد القطع قوله تعالى: {فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله} والجزاء اسم لما يستحق بالفعل; فإذا كان الله تعالى جعل جميع ما يستحق بالفعل هو القطع, لم يجز إيجاب الضمان معه لما فيه من الزيادة في حكم المنصوص, ولا يجوز ذلك إلا بمثل ما يجوز به النسخ, وكذلك قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} , فأخبر أن جميع الجزاء هو المذكور في الآية; لأن قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} ينفي أن يكون هناك جزاء غيره. ومن جهة السنة حديث عبد الله بن صالح قال: حدثني المفضل بن فضالة عن يونس بن يزيد قال: سمعت سعد بن إبراهيم يحدث عن أخيه المسور بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أقمتم على السارق الحد فلا غرم عليه". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن نصر بن صهيب قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شجاع الآدمي قال: حدثني خالد بن خداش قال: حدثني إسحاق بن الفرات قال: حدثنا الفضل بن فضالة عن يونس عن الزهري عن سعد بن إبراهيم عن المسور بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بسارق, فأمر بقطعه وقال: "لا غرم عليه". وقال عبد الباقي: هذا هو الصحيح; وأخطأ فيه خالد بن خداش, فقال المسور بن مخرمة.
ويدل عليه من جهة النظر امتناع وجوب الحد والمال بفعل واحد, كما لا يجتمع
(2/539)
 
 
الحد والمهر والقود والمال, فوجب أن يكون وجوب القطع نافيا لضمان المال; إذ كان المال في الحدود لا يجب إلا مع الشبهة, وحصول الشبهة ينفي وجوب القطع. ووجه آخر: وهو أن من أصلنا أن الضمان سبب لإيجاب الملك فلو ضمناه لملكه بالأخذ الموجب للضمان فيكون حينئذ مقطوعا في ملك نفسه وذلك ممتنع, فلما لم يكن لنا سبيل إلى رفع القطع وكان في إيجاب الضمان إسقاط القطع, امتنع وجوب الضمان
(2/540)
 
 
باب الرشوة
قال الله تعالى: {سماعون للكذب أكالون للسحت} قيل إن أصل السحت الاستئصال, يقال: أسحته إسحاتا: إذا استأصله وأذهبه, قال الله عز وجل: {فيسحتكم} [طه: 61] أي يستأصلكم به. ويقال: أسحت ماله, إذا أفسده وأذهبه. فسمي الحرام سحتا لأنه لا بركة فيه لأهله ويهلك به صاحبه هلاك الاستئصال. وروى ابن عيينة عن عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق قال: سألت عبد الله بن مسعود عن السحت أهو الرشوة في الحكم؟ فقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ولكن السحت أن يستشفع بك على إمام فتكلمه فيهدي لك هدية فتقبلها. وروى شعبة عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق قال: سألت عبد الله عن الجور في الحكم, فقال: "ذلك كفر "; وسألته عن السحت, فقال: "الرشا". وروى عبد الأعلى بن حماد: حدثنا حماد عن أبان عن ابن أبي عياش عن مسلم, أن مسروقا قال: قلت لعمر: يا أمير المؤمنين أرأيت الرشوة في الحكم من السحت؟ قال: "لا, ولكن كفر, إنما السحت أن يكون لرجل عند سلطان جاه ومنزلة ويكون للآخر إلى السلطان حاجة, فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه". وروي عن علي بن أبي طالب قال: "السحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستجعال في القضية". فكأنه جعل السحت اسما لأخذ ما لا يطيب أخذه. وقال إبراهيم والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك: "السحت الرشا". وروى منصور عن الحكم عن أبي وائل عن مسروق قال: "إن القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت, وإذا أكل الرشوة بلغت به الكفر". وقال الأعمش عن خيثمة عن عمر قال: "بابان من السحت يأكلهما الناس: الرشا ومهر الزانية". وروى إسماعيل بن زكريا عن إسماعيل بن مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هدايا الأمراء من السحت". وروى أبو إدريس الخولاني عن ثوبان قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما". وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي". وروى أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبي
(2/540)
 
 
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم".
قال أبو بكر: اتفق جميع المتأولين لهذه الآية على أن قبول الرشا محرم, واتفقوا على أنه من السحت الذي حرمه الله تعالى.
(2/541)
 
 
مطلب: في وجوه الرشوة
والرشوة تنقسم إلى وجوه: منها الرشوة في الحكم, وذلك محرم على الراشي والمرتشي جميعا, وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي" والرائش وهو الذي يمشي بينهما فذلك لا يخلو من أن يرشوه ليقضي له بحقه أو بما ليس بحق له, فإن رشاه ليقضي له بحقه فقد فسق الحاكم بقبول الرشوة على أن يقضي له بما هو فرض عليه, واستحق الراشي الذم حين حاكم إليه وليس بحاكم, ولا ينفذ حكمه; لأنه قد انعزل عن الحكم بأخذه الرشوة, كمن أخذ الأجرة على أداء الفروض من الصلاة والزكاة والصوم. ولا خلاف في تحريم الرشا على الأحكام وأنها من السحت الذي حرمه الله في كتابه. وفي هذا دليل على أن كل ما كان مفعولا على وجه الفرض والقربة إلى الله تعالى أنه لا يجوز أخذ الأجرة عليه, كالحج وتعليم القرآن والإسلام; ولو كان أخذ الأبدال على هذه الأمور جائزا لجاز أخذ الرشا على إمضاء الأحكام, فلما حرم الله أخذ الرشا على الأحكام واتفقت الأمة عليه دل ذلك على فساد قول القائلين بجواز أخذ الأبدال على الفروض والقرب. وإن أعطاه الرشوة على أن يقضي له بباطل فقد فسق الحاكم من وجهين: أحدهما: أخذ الرشوة, والآخر: الحكم بغير حق; وكذلك الراشي. وقد تأول ابن مسعود ومسروق السحت على الهدية في الشفاعة إلى السلطان, وقال: "إن أخذ الرشا على الأحكام كفر". وقال علي رضي الله عنه وزيد بن ثابت ومن قدمنا قوله: "الرشا من السحت". وأما الرشوة في غير الحكم, فهو ما ذكره ابن مسعود ومسروق في الهدية إلى الرجل ليعينه بجاهه عند السلطان, وذلك منهي عنه أيضا لأن عليه معونته في دفع الظلم عنه, قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الله في عون المرء ما دام المرء في عون أخيه". ووجه آخر من الرشوة, وهو الذي يرشو السلطان لدفع ظلمه عنه, فهذه الرشوة محرمة على آخذها غير محظورة على معطيها. وروي عن جابر بن زيد والشعبي قالا: "لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم" وعن عطاء وإبراهيم مثله. وروى هشام عن الحسن قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي" قال الحسن: "ليحق باطلا أو يبطل حقا, فأما أن تدفع عن مالك فلا بأس". وقال يونس عن الحسن: "لا بأس أن يعطي الرجل من ماله ما يصون به عرضه". وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: "اجعل مالك جنة
(2/541)
 
 
دون دينك ولا تجعل دينك جنة دون مالك". وروى سفيان عن عمرو عن أبي الشعثاء قال: "لم نجد زمن زياد شيئا أنفع لنا من الرشا". فهذا الذي رخص فيه السلف إنما هو في دفع الظلم عن نفسه بما يدفعه إلى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه; وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم غنائم خيبر وأعطى تلك العطايا الجزيلة, أعطى العباس بن مرداس السلمي شيئا, فسخطه فقال شعرا, فقال النبي: "اقطعوا عنا لسانه فزادوه حتى رضي".
وأما الهدايا للأمراء والقضاة, فإن محمد بن الحسن كرهها وإن لم يكن للمهدي خصم ولا حكومة عند الحاكم ذهب في ذلك إلى حديث أبي حميد الساعدي في قصة ابن اللتبية1 حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة, فلما جاء قال: هذا لكم وهذا أهدي لي, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام نستعملهم على ما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي فهلا جلس في بيت أبيه فنظر أيهدى له أم لا". وما روي عنه عليه السلام أنه قال: "هدايا الأمراء غلول وهدايا الأمراء سحت". وكره عمر بن عبد العزيز قبول الهدية, فقيل له: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها, فقال: كانت حينئذ هدية وهي اليوم سحت. ولم يكره محمد للقاضي قبول الهدية ممن كان يهاديه قبل القضاء; فكأنه إنما كره منها ما أهدي له لأجل أنه قاض ولولا ذلك لم يهد له. وقد دل على هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " هلا جلس في بيت أبيه وأمه فنظر أيهدى له أم لا" فأخبر أنه إنما أهدي له لأنه عامل, ولولا أنه عامل لم يهد له, وأنه لا يحل له; وأما من كان يهاديه قبل القضاء وقد علم أنه لم يهده إليه لأجل القضاء, فجائز له قبوله على حسب ما كان يقبله قبل ذلك. وقد روي أن بنت ملك الروم أهدت لأم كلثوم بنت علي امرأة عمر, فردها عمر ومنع قبولها.
__________
1 قوله: ابن اللتبية" بضم اللام وسكون التاء وفتحها وكسر الباء الموحدة. ويقال له "ابن الأتبية" كذا في شرح صحيح البخاري للعيني. "لمصححه".
(2/542)
 
 
باب الحكم بين أهل الكتاب
قال الله تعالى: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} ظاهر ذلك يقتضي معنيين: أحدهما: تخليتهم وأحكامهم من غير اعتراض عليهم, والثاني: التخيير بين الحكم والإعراض إذا ارتفعوا إلينا. وقد اختلف السلف في بقاء هذا الحكم, فقال قائلون منهم: "إذا ارتفعوا إلينا فإن شاء الحاكم حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم وردهم إلى دينهم". وقال آخرون: "التخيير منسوخ, فمتى ارتفعوا إلينا حكمنا بينهم من غير تخيير".
(2/542)
 
 
فممن أخذ بالتخيير عند مجيئهم إلينا الحسن والشعبي وإبراهيم رواية; وروي عن الحسن: "خلوا بين أهل الكتاب وبين حاكمهم, وإذا ارتفعوا إليكم فأقيموا عليهم ما في كتابكم". وروى سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال: "آيتان نسختا من سورة المائدة: آية القلائد, وقوله تعالى: {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيرا إن شاء حكم بينهم أو أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم, حتى نزلت: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنزل الله في كتابه". وروى عثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} قال: نسخها قوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} وروى سعيد بن جبير عن الحكم عن مجاهد: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} قال: نسختها: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} وروى سفيان عن السدي عن عكرمة مثله.
قال أبو بكر: فذكر هؤلاء أن قوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} ناسخ للتخيير المذكور في قوله: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} ومعلوم أن ذلك لا يقال من طريق الرأي لأن العلم بتواريخ نزول الآي لا يدرك من طريق الرأي والاجتهاد, وإنما طريقه التوقيف ولم يقل من أثبت التخيير إن آية التخيير نزلت بعد قوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} وإن التخيير نسخه. وإنما حكي عنهم مذاهبهم في التخيير من غير ذكر النسخ, فثبت نسخ التخيير بقوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} كرواية من ذكر نسخ التخيير. ويدل على نسخ التخيير قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] الآيات, ومن أعرض عنهم فلم يحكم في تلك الحادثة التي اختصموا فيها بما أنزل الله. ولا نعلم أحدا قال إن في هذه الآيات: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} [المائدة: 44] منسوخا إلا ما يروى عن مجاهد رواه منصور عن الحكم عن مجاهد أن قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} [المائدة: 44] نسخها ما قبلها: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} وقد روى سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد أن قوله: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} منسوخ بقوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} قبل أن تعقد لهم الذمة يدخلوا تحت أحكام الإسلام بالجزية فلما أمر الله بأخذ الجزية منهم وجرت عليهم أحكام الإسلام أمر بالحكم بينهم بما أنزل الله فيكون حكم الآيتين جميعا ثابتا: التخيير في أهل العهد الذين لا ذمة لهم ولم يجر عليهم أحكام المسلمين كأهل الحرب إذا هادناهم وإيجاب الحكم بما أنزل الله في أهل الذمة
(2/543)
 
 
الذين يجري عليهم أحكام المسلمين. وقد روي عن ابن عباس ما يدل على ذلك; روى محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن الآية التي في المائدة قول الله تعالى: {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} إنما نزلت في الدية بين بني قريظة وبين بني النضير, وذلك أن بني النضير كان لهم شرف يدون دية كاملة, وأن بني قريظة يودون نصف الدية; فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم, فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك فجعل الدية سواء. ومعلوم أن بني قريظة والنضير لم تكن لهم ذمة قط, وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير وقتل بني قريظة, ولو كان لهم ذمة لما أجلاهم ولا قتلهم, وإنما كان بينه وبينهم عهد وهدنة فنقضوها. فأخبر ابن عباس أن آية التخيير نزلت فيهم, فجائز أن يكون حكمها باقيا في أهل الحرب من أهل العهد, وحكم الآية الأخرى في وجوب الحكم بينهم بما أنزل الله تعالى ثابتا في أهل الذمة فلا يكون فيها نسخ. وهذا تأويل سائغ لولا ما روي عن السلف من نسخ التخيير بالآية الأخرى. وروي عن ابن عباس رواية أخرى وعن الحسن ومجاهد والزهري: أنها نزلت في شأن الرجم حين تحاكموا إليه وهؤلاء أيضا لم يكونوا أهل ذمة, وإنما تحاكموا إليه طلبا للرخصة وزوال الرجم, فصار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت مدراسهم ووقفهم على آية الرجم وعلى كذبهم وتحريفهم كتاب الله, ثم رجم اليهوديين وقال: "اللهم إني أول من أحيا سنة أماتوها".
وقال أصحابنا أهل الذمة محمولون في البيوع والمواريث وسائر العقود على أحكام الإسلام كالمسلمين, إلا في بيع الخمر والخنزير, فإن ذلك جائز فيما بينهم لأنهم مقرون على أن تكون مالا لهم, ولو لم يجز مبايعتهم وتصرفهم فيها والانتفاع بها لخرجت من أن تكون مالا لهم ولما وجب على مستهلكها عليهم ضمان". ولا نعلم خلافا بين الفقهاء فيمن استهلك لذمي خمرا أن عليه قيمتها. وقد روي أنهم كانوا يأخذون الخمر من أهل الذمة في العشور, فكتب إليهم عمر" أن ولوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها" فهذان مال لهم يجوز تصرفهم فيهما, وما عدا ذلك فهو محمول على أحكامنا لقوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب إلى أهل نجران: "إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله" فجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في حظر الربا ومنعهم منه كالمسلمين, قال الله تعالى: {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل} [النساء: 161] فأخبر أنهم منهيون عن الربا وأكل المال بالباطل, كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء: 29] فسوى بينهم وبين المسلمين في المنع
(2/544)
 
 
من الربا والعقود الفاسدة المحظورة, وقال تعالى: {سماعون للكذب أكالون للسحت} فهذا الذي ذكرناه مذهب أصحابنا في عقود المعاملات والتجارات والحدود أهل الذمة والمسلمون فيها سواء, إلا أنهم لا يرجمون لأنهم غير محصنين. وقال مالك: "الحاكم مخير إذا اختصموا إليه بين أن يحكم بينهم بحكم الإسلام أو يعرض عنهم فلا يحكم بينهم" وكذلك قوله في العقود والمواريث وغيرها.
واختلف أصحابنا في مناكحتهم فيما بينهم, فقال أبو حنيفة هم مقرون على أحكامهم لا يعترض عليهم فيها إلا أن يرضوا بأحكامنا, فإن رضي بها الزوجان حملا على أحكامنا, وإن أبى أحدهما لم يعترض عليهم, فإذا تراضيا جميعا حملهما على أحكام الإسلام إلا في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة فإنه لا يفرق بينهم, وكذلك إن أسلموا". وقال محمد: "إذا رضي أحدهما حملا جميعا على أحكامنا وإن أبى الآخر, إلا في النكاح بغير شهود خاصة". وقال أبو يوسف: "يحملون على أحكامنا وإن أبوا إلا في النكاح بغير شهود نجيزه إذا تراضوا بها". فأما أبو حنيفة فإنه يذهب في إقرارهم على مناكحاتهم, إلى أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر مع علمه بأنهم يستحلون نكاح ذوات المحرم ومع علمه بذلك لم يأمر بالتفرقة بينهما; وكذلك اليهود والنصارى يستحلون كثيرا من عقود المناكحات المحرمة ولم يأمر بالتفرقة بينهم حين عقد لهم الذمة من أهل نجران ووادي القرى وسائر اليهود والنصارى الذين دخلوا في الذمة ورضوا بإعطاء الجزية. وفي ذلك دليل على أنه أقرهم على مناكحاتهم كما أقرهم على مذاهبهم الفاسدة واعتقاداتهم التي هي ضلال وباطل, ألا ترى أنه لما علم استحلالهم للربا كتب إلى أهل نجران: "إما أن تذروا الربا, وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله". فلم يقرهم عليه حين علم تبايعهم به. وأيضا قد علمنا أن عمر بن الخطاب لما فتح السواد أقر أهلها عليها وكانوا مجوسا, ولم يثبت أنه أمر بالتفريق بين ذوي المحارم منهم مع علمه بمناكحاتهم. وكذلك سائر الأمة بعده جروا على منهاجه في ترك الاعتراض عليهم; وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا.
فإن قيل فقد روي عن عمر أنه كتب إلى سعد يأمره بالتفريق بين ذوي المحارم منهم وأن يمنعهم من المذهب فيه. قيل له: لو كان هذا ثابتا لورد النقل به متواترا كوروده في سيرته فيهم في أخذ الجزية ووضع الخراج وسائر ما عاملهم به, فلما لم يرد ذلك من جهة التواتر علمنا أنه غير ثابت. ويحتمل أن يكون كتابه إلى سعد بذلك إنما كان فيمن رضي منهم بأحكامنا; وكذلك نقول إذا تراضوا بأحكامنا. وأيضا قد بينا أن قوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} ناسخ للتخيير المذكور في قوله: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو
(2/545)
 
 
أعرض عنهم} والذي ثبت نسخه من ذلك هو التخيير, فأما شرط المجيء منهم فلم تقم الدلالة على نسخه, فينبغي أن يكون حكم الشرط باقيا والتخيير منسوخا, فيكون تقديره مع الآية الأخرى: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} وإنما قال: "إنهم يحملون على أحكامنا إذا رضوا بها إلا في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة" من قبل أنه لما ثبت أنه ليس لنا اعتراض عليهم قبل التراضي منهم بأحكامنا, فمتى تراضوا بها وارتفعوا إلينا فإنما الواجب إجراؤهم على أحكامنا في المستقبل, ومعلوم أن العدة لا تمنع بقاء النكاح في المستقبل وإنما تمنع الابتداء لأن امرأة تحت زوج لو طرأت عليها عدة من وطء بشبهة لم يمنع ما وجب من العدة بقاء الحكم, فثبت أن العدة إنما تمنع ابتداء العقد ولا تمنع البقاء; فمن أجل ذلك لم يفرق بينهما. ومن جهة أخرى أن العدة حق الله تعالى وهم غير مؤاخذين بحقوق الله تعالى في أحكام الشريعة, فإذا لم تكن عندهم عدة واجبة لم تكن عليها عدة, فجاز نكاحها الثاني. وليس كذلك نكاح ذوات المحارم; إذ لا يختلف فيها حكم الابتداء والبقاء في باب بطلانه, وأما النكاح بغير شهود فإن الذي هو شرط في صحة العقد وجود الشهود في حال العقد, ولا يحتاج في بقائه إلى استصحاب الشهود; لأن الشهود لو ارتدوا بعد ذلك أو ماتوا لم يؤثر ذلك في العقد; فإذا كان إنما يحتاج إلى الشهود للابتداء لا للبقاء لم يجز أن يمنع البقاء في المستقبل لأجل عدم الشهود. ومن جهة أخرى أن النكاح بغير شهود مختلف فيه بين الفقهاء, فمنهم من يجيزه, والاجتهاد سائغ في جوازه, ولا يعترض على المسلمين إذا عقدوه ما لم يختصموا فيه, فغير جائز فسخه إذا عقدوه في حال الكفر; إذ كان ذلك سائغا جائزا في وقت وقوعه, لو أمضاه حاكم ما بين المسلمين جاز ولم يجز بعد ذلك فسخه وإنما اعتبر أبو حنيفة تراضيهما جميعا بأحكامنا من قبل قول الله تعالى: {فإن جاءوك فاحكم بينهم} فشرط مجيئهم, فلم يجز الحكم على أحدهما بمجيء الآخر.
فإن قال قائل: إذا رضي أحدهما بأحكامنا فقد لزمه حكم الإسلام فيصير بمنزلته لو أسلم فيحمل الآخر معه على حكم الإسلام. قيل له: هذا غلط, لأن رضاه بأحكامنا لا يلزمه ذلك إيجابا, ألا ترى أنه لو رجع عن الرضا قبل الحكم عليه لم يلزمه إياه وبعد الإسلام يمكنه الرضا بأحكامنا؟ وأيضا إذا لم يجز أن يعترض عليهم إلا بعد الرضا بحكمنا فمن لم يرض به مبقى على حكمه لا يجوز إلزامه حكما لأجل رضا غيره. وذهب محمد إلى أن رضا أحدهما يلزم الآخر حكم الإسلام كما لو أسلم. وذهب أبو يوسف إلى ظاهر قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} .
قوله تعالى: {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله} يعني: الله أعلم
(2/546)
 
 
فيما تحاكموا إليك فيه; فقيل: إنهم تحاكموا إليه في حد الزانيين, وقيل: في الدية بين بني قريظة وبني النضير; فأخبر تعالى أنهم لم يتحاكموا إليه تصديقا منهم بنبوته, وإنما طلبوا الرخصة; ولذلك قال: {وما أولئك بالمؤمنين} يعني هم غير مؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم بنبوتك وعدولهم عما يعتقدونه حكما لله مما في التوراة. ويحتمل أنهم حين طلبوا غير حكم الله ولم يرضوا به فهم كافرون غير مؤمنين.
وقوله تعالى: {وعندهم التوراة فيها حكم الله} يدل على أن حكم التوراة فيما اختصموا فيه لم يكن منسوخا, وأنه صار بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم شريعة لنا لم ينسخ; لأنه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله, كما لا يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت. وهذا يدل على أن شرائع من قبلنا من الأنبياء لازمة لنا ما لم تنسخ, وأنها حكم الله بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن الحسن في قوله تعالى: {فيها حكم الله} بالرجم; لأنهم اختصموا إليه في حد الزنا. وقال قتادة: فيها حكم الله بالقود لأنهم اختصموا في ذلك. وجائز أن يكونوا تحاكموا إليه فيهما جميعا من الرجم والقود. قوله تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} روي عن الحسن وقتادة وعكرمة والزهري والسدي, أن النبي صلى الله عليه وسلم مراد بقوله: {يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} قال أبو بكر: وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على الزانيين منهم بالرجم وقال: "اللهم إني أول من أحيا سنة أماتوها" وكان ذلك في حكم التوراة; وحكم فيه بتساوي الديات وكان ذلك أيضا حكم التوراة; وهذا يدل على أنه حكم عليهم بحكم التوراة لا بحكم مبتدأ شريعة.
وقوله تعالى: {وكانوا عليه شهداء} قال ابن عباس: "شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في التوراة". وقال غيره: "شهداء على ذلك الحكم أنه من عند الله".
وقال عز وجل: {فلا تخشوا الناس واخشون} قال فيه السدي: لا تخشوهم في كتمان ما أنزلت". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة: حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال: "إن الله تعالى أخذ على الحكام ثلاثا: أن لا يتبعوا الهوى, وأن يخشوه ولا يخشوا الناس, وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا". ثم قال: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى} [ص: 26] الآية, وقال: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} إلى قوله: {فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} فتضمنت هذه
(2/547)
 
 
الآية معاني: منها الأخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم على اليهود بحكم التوراة. ومنها: أن حكم التوراة كان باقيا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب نسخه; ودل ذلك على أن ذلك الحكم كان ثابتا لم ينسخ بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومنها إيجاب الحكم بما أنزل الله تعالى وأن لا يعدل عنه ولا يحابي فيه مخافة الناس. ومنها: تحريم أخذ الرشا في الأحكام, وهو قوله تعالى: {ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا} .
وقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} قال ابن عباس: "هو في الجاحد لحكم الله". وقيل: "هي في اليهود خاصة". وقال ابن مسعود والحسن وإبراهيم: "هي عامة" يعني فيمن لم يحكم بما أنزل الله وحكم بغيره مخبرا أنه حكم الله تعالى, ومن فعل هذا فقد كفر فمن جعلها في قوم خاصة وهم اليهود, لم يجعل" من" بمعنى الشرط, وجعلها بمعنى الذي لم يحكم بما أنزل الله, والمراد قوم بأعيانهم. وقال البراء بن عازب, وذكر قصة رجم اليهود فأنزل الله تعالى {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} الآيات, إلى قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قال: "في اليهود خاصة" وقوله: {فأولئك هم الظالمون} و {فأولئك هم الفاسقون} " في الكفار كلهم". وقال الحسن: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} نزلت في اليهود وهي علينا واجبة. وقال أبو مجلز: "نزلت في اليهود". وقال أبو جعفر: نزلت في اليهود ثم جرت فينا". وروى سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} نزلت في بني إسرائيل؟ قال: "نعم, الإخوة لكم بنو إسرائيل, إن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة, ولتسلكن طريقهم قد الشراك". قال إبراهيم النخعي: "نزلت في بني إسرائيل ورضي لكم بها". وروى الثوري عن زكريا عن الشعبي قال الأولى للمسلمين والثانية لليهود والثالثة للنصارى". وقال طاوس: "ليس بكفر ينقل عن الملة" وروى طاوس عن ابن عباس قال: "ليس الكفر الذي يذهبون إليه في قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} "وقال ابن جريج عن عطاء كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق". وقال علي بن حسين رضي الله عنهما: "ليس بكفر شرك ولا ظلم شرك ولا فسق شرك".
قال أبو بكر: قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} لا يخلو من أن يكون مراده كفر الشرك والجحود أو كفر النعمة من غير جحود; فإن كان المراد جحود حكم الله أو الحكم بغيره مع الإخبار بأنه حكم الله, فهذا كفر يخرج عن الملة وفاعله مرتد إن كان قبل ذلك مسلما; وعلى هذا تأوله من قال: "إنها نزلت في بني
(2/548)
 
 
إسرائيل وجرت فينا" يعنون أن من جحد منا حكم الله أو حكم بغير حكم الله ثم قال إن هذا حكم الله, فهو كافر كما كفرت بنو إسرائيل حين فعلوا ذلك, وإن كان المراد به كفر النعمة فإن كفران النعمة قد يكون بترك الشكر عليها من غير جحود, فلا يكون فاعله خارجا من الملة; والأظهر هو المعنى الأول لإطلاقه اسم الكفر على من لم يحكم بما أنزل الله. وقد تأولت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بما أنزل الله من غير جحود لها, وأكفروا بذلك كل من عصى الله بكبيرة أو صغيرة, فأداهم ذلك إلى الكفر والضلال بتكفيرهم الأنبياء بصغائر ذنوبهم.
قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين} الآية فيه إخبار عما كتب الله على بني إسرائيل في التوراة لأن القصاص في النفس وفي الأعضاء المذكورة. وقد استدل أبو يوسف بظاهر هذه الآية على إيجاب القصاص بين الرجل والمرأة في النفس, لقوله تعالى: {أن النفس بالنفس} , وهذا يدل على أنه كان من مذهبه أن شرائع من كان قبلنا حكمها ثابت إلى أن يرد نسخها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أو بنص القرآن.
وقوله في نسق الآية: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} دليل على ثبوت هذا الحكم في وقت نزول هذه الآية من وجهين: أحدهما: أنه قد ثبت أن ذلك مما أنزل الله ولم يفرق بين شيء من الأزمان, فهو ثابت في كل الأزمان إلى أن يرد نسخه. والثاني: معلوم أنهم استحقوا سمة الظلم والفسق في وقت نزول الآية لتركهم الحكم بما أنزل الله تعالى من ذلك وقت نزول الآية, إما جحودا له أو تركا لفعل ما أوجب الله من ذلك, وهذا يقتضي وجوب القصاص في سائر النفوس ما لم تقم دلالة نسخه أو تخصيصه.
وقوله تعالى: {والعين بالعين} معناه عند أصحابنا في العين إذا ضربت فذهب ضوءها, وليس هو على أن تقلع عينه; هذا عندهم لا قصاص فيه لتعذر استيفاء القصاص في مثله, ألا ترى أنا لا نقف على الحد الذي يجب قلعه منها؟ فهو كمن قطع قطعة لحم من فخذ رجل أو ذراعه أو قطع بعض فخذه, فلا يجب فيه القصاص; وإنما القصاص عندهم فيما قد ذهب ضوءها وهي قائمة أن تشد عينه الأخرى وتحمى له مرآة فتقدم إلى العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوءها.
وأما قوله تعالى: {والأنف بالأنف} فإن أصحابنا قالوا: إذا قطعه من أصله فلا قصاص فيه; لأنه عظم لا يمكن استيفاء القصاص فيه, كما لو قطع يده من نصف الساعد وكما لو قطع رجله من نصف الفخذ لا خلاف في سقوط القصاص فيه لتعذر استيفاء
(2/549)
 
 
المثل; والقصاص هو أخذ المثل, فمتى لم يكن كذلك لم يكن قصاصا. وقالوا: إنما يجب القصاص في الأنف إذا قطع المارن, وهو ما لان منه ونزل عن قصبة الأنف. وروي عن أبي يوسف أن في الأنف إذا استوعب القصاص, وكذلك الذكر واللسان. وقال محمد: "لا قصاص في الأنف واللسان والذكر إذا استوعب".
وقوله تعالى: {والأذن بالأذن} فإنه يقتضي وجوب القصاص فيها إذا استوعبت لإمكان استيفائه, وإذا قطع بعضها فإن أصحابنا قالوا: "فيه القصاص إذا كان يستطاع ويعرف قدره".
وقوله عز وجل: {والسن بالسن} فإن أصحابنا قالوا: لا قصاص في عظم إلا السن, فإن قلعت أو كسر بعضها ففيها القصاص, لإمكان استيفائه, إن كان الجميع فبالقلع كما يقتص من اليد من المفصل, وإن كان البعض فإنه يبرد بمقداره بالمبرد, فيمكن استيفاء القصاص فيه. وأما سائر العظام فغير ممكن استيفاء القصاص فيها لأنه لا يوقف على حده; وقد اقتضى ما نص الله تعالى في هذه الأعضاء أن يؤخذ الكبير من هذه الأعضاء بصغيرها, والصغير بالكبير, بعد أن يكون المأخوذ منه مقابلا لما جني عليه لا غيره.
وقوله تعالى: {والجروح قصاص} يعني إيجاب القصاص في سائر الجراحات التي يمكن استيفاء المثل فيها. ودل به على نفي القصاص فيما لا يمكن استيفاء المثل فيه لأن قوله: {والجروح قصاص} يقتضي أخذ المثل سواء, ومتى لم يكن مثله فليس بقصاص.
وقد اختلف الفقهاء في أشياء من ذلك, منها القصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس, وقد بيناه في سورة البقرة, وكذلك بين العبيد والأحرار
(2/550)
 
 
ذكر الخلاف في ذلك
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والشافعي: "لا تؤخذ اليمنى باليسرى لا في العين ولا في اليد, ولا تؤخذ السن إلا بمثلها من الجاني". وقال ابن شبرمة" تفقأ العين اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى وكذلك اليدان, وتؤخذ الثنية بالضرس والضرس بالثنية". وقال الحسن بن صالح: "إذا قطع أصبعا من كف فلم يكن للقاطع من تلك الكف أصبع مثلها قطع مما يلي تلك الأصبع, ولا يقطع أصبع كف بأصبع كف أخرى, وكذلك تقلع السن التي تليها إذا لم تكن للقاطع سن مثلها وإن بلغ ذلك الأضراس, وتفقأ العين اليمنى باليسرى إذا لم تكن له يمنى, ولا تقطع اليد اليمنى باليسرى ولا اليسرى باليمنى".
(2/550)
 
 
قال أبو بكر: لا خلاف أنه إذا كان ذلك العضو من الجاني باقيا, لم يكن للمجني عليه استيفاء القصاص من غيره ولا يعدو ما قابله من عضو الجاني إلى غيره مما بإزائه وإن تراضيا به, فدل ذلك على أن المراد بقوله تعالى: {والعين بالعين} إلى آخر الآية استيفاء مثله مما يقابله من الجاني, فغير جائز إذا كان كذلك أن يتعدى إلى غيره, سواء كان مثله موجودا من الجاني أو معدوما, ألا ترى أنه إذا لم يكن له أن يعدو اليد إلى الرجل لم يختلف حكمه أن تكون يد الجاني موجودة أو معدومة في امتناع تعديه إلى الرجل؟ وأيضا فإن القصاص استيفاء المثل, وليست هذه الأعضاء مماثلة, فغير جائز أن يستوعبها ولم يختلفوا أن اليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء وأن الشلاء تؤخذ بالصحيحة, وذلك لقوله تعالى: {والجروح قصاص} وفي أخذ الصحيحة بالشلاء استيفاء أكثر مما قطع; وأما أخذ الشلاء بالصحيحة فهو جائز لأنه رضي بدون حقه.
واختلف في القصاص في العظم, فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد: "لا قصاص في عظم ما خلا السن". وقال الليث والشافعي مثل ذلك, ولم يستثنيا السن. وقال ابن القاسم عن مالك: عظام الجسد كلها فيها القود إلا ما كان منها مجوفا مثل الفخذ وما أشبهه فلا قود فيه, وليس في الهاشمة قود وكذلك المنقلة, وفي الذراعين والعضد والساقين والقدمين والكعبين والأصابع إذا كسرت ففيها القصاص". وقال الأوزاعي: "ليس في المأمومة قصاص".
قال أبو بكر: لما اتفقوا على نفي القصاص في عظم الرأس كذلك سائر العظام, وقال الله تعالى: {والجروح قصاص} وذلك غير ممكن في العظام. وروى حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن ابن الزبير: أنه اقتص من مأمومة, فأنكر ذلك عليه; ومعلوم أن المنكرين كانوا الصحابة ولا خلاف أيضا أنه لو ضرب أذنه فيبست أنه لا يضرب أذنه حتى تيبس; لأنه لا يوقف على مقدار جنايته; فكذلك العظام. وقد بينا وجوب القصاص في السن فيما تقدم.
قوله تعالى: {فمن تصدق به فهو كفارة له} روي عن عبد الله بن عمر والحسن وقتادة وإبراهيم رواية والشعبي رواية: "أنها كفارة لولي القتيل وللمجروح إذا عفوا". وقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم رواية والشعبي رواية: "هو كفارة للجاني" كأنهم جعلوه بمنزلة المستوفي لحقه, ويكون الجاني كأنه لم يجن. وهذا محمول على أن الجاني تاب من جنايته لأنه لو كان مصرا عليه فعقوبته عند الله فيما ارتكب من نهيه قائمة. والقول الأول هو الصحيح; لأن قوله تعالى راجع إلى المذكور, وهو قوله: {فمن تصدق به فهو كفارة له} فالكفارة واقعة لمن تصدق, ومعناه كفارة لذنوبه.
(2/551)
 
 
قوله تعالى: {وليحكم أهل الأنجيل بما أنزل الله فيه} قال أبو بكر: فيه دلالة على أن ما لم ينسخ من شرائع الأنبياء المتقدمين فهو ثابت, على معنى أنه صار شريعة للنبي صلى الله عليه وسلم لقوله: {وليحكم أهل الأنجيل بما أنزل الله فيه} ومعلوم أنه لم يرد أمرهم باتباع ما أنزل الله في الإنجيل إلا على أنهم يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم لأنه صار شريعة له; لأنهم لو استعملوا ما في الإنجيل مخالفين للنبي صلى الله عليه وسلم غير متبعين له لكانوا كفارا, فثبت بذلك أنهم مأمورون باستعمال أحكام تلك الشريعة على معنى أنها قد صارت شريعة للنبي عليه السلام.
قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: "مهيمنا يعني أمينا" وقيل: شاهدا, وقيل: حفيظا, وقيل: مؤتمنا والمعنى فيه أنه أمين عليه, ينقل إلينا ما في الكتب المتقدمة على حقيقته من غير تحريف ولا زيادة ولا نقصان; لأن الأمين على الشيء مصدق عليه, وكذلك الشاهد. وفي ذلك دليل على أن كل من كان مؤتمنا على شيء فهو مقبول القول فيه, من نحو الودائع والعواري والمضاربات ونحوها; لأنه حين أنبأ عن وجوب التصديق بما أخبر به القرآن عن الكتب المتقدمة سماه أمينا عليها, وقد بين الله تعالى في سورة البقرة أن الأمين مقبول القول فيما اؤتمن فيه, وهو قوله تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه} [البقرة: 283] وقال: {ولا يبخس منه شيئا} [البقرة: 282] فلما جعله أمينا فيه وعظه بترك البخس.
وقد اختلف في المراد بقوله: {ومهيمنا} فقال ابن عباس: "هو الكتاب, وفيه إخبار بأن القرآن مهيمن على الكتب المتقدمة شاهد عليها". وقال مجاهد: "أراد به النبي" صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {فاحكم بينهم بما أنزل الله} يدل على نسخ التخيير على ما تقدم من بيانه.
قوله تعالى: {ولا تتبع أهواءهم} يدل على بطلان قول من يردهم إلى الكنيسة أو البيعة للاستحلاف, لما فيه من تعظيم الموضع وهم يهوون ذلك; وقد نهى الله تعالى عن اتباع أهوائهم. ويدل على بطلان قول من يردهم إلى دينهم لما فيه من اتباع أهوائهم والاعتداد بأحكامهم, ولأن ردهم إلى أهل دينهم إنما هو رد لهم ليحكموا فيهم بما هو كفر بالله عز وجل; إذ كان حكمهم بما يحكمون به كفرا بالله وإن كان موافقا لما أنزل في التوراة والإنجيل لأنهم مأمورون بتركه واتباع شريعة النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} الشرعة والشريعة واحد, ومعناها
(2/552)
 
 
الطريق إلى الماء الذي فيه الحياة, فسمى الأمور التي تعبد الله بها من جهة السمع شريعة وشرعة لإيصالها العاملين بها إلى الحياة الدائمة في النعيم الباقي.
قوله تعالى: {ومنهاجا} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: "سنة وسبيلا". ويقال طريق نهج إذا كان واضحا. قال مجاهد: "وأراد بقوله: شرعة القرآن, لأنه لجميع الناس" وقال قتادة وغيره شريعة التوراة وشريعة الإنجيل وشريعة القرآن". وهذا يحتج به من نفى لزوم شرائع من قبلنا إيانا وإن لم يثبت نسخها لإخباره بأنه جعل لكل نبي من الأنبياء شرعة ومنهاجا. وليس فيه دليل على ما قالوا; لأن ما كان شريعة لموسى عليه السلام فلم ينسخ إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم فقد صارت شريعة للنبي عليه السلام وكان فيما سلف شريعة لغيره; فلا دلالة في الآية على اختلاف أحكام الشرائع. وأيضا فلا يختلف أحد في تجويز أن يتعبد الله رسوله بشريعة موافقة لشرائع من كان قبله من الأنبياء, فلم ينف قوله: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} أن تكون شريعة النبي عليه السلام موافقة لكثير من شرائع الأنبياء المتقدمين. وإذا كان كذلك, فالمراد فيما نسخ من شرائع المتقدمين من الأنبياء وتعبد النبي صلى الله عليه وسلم بغيرها, فكان لكل منكم شرعة غير شرعة الآخر.
قوله عز وجل: {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} قال الحسن: "لجعلكم على الحق", وهذه مشيئة القدرة على إجبارهم على القول بالحق, ولكنه لو فعل لم يستحقوا ثوابا, وهو كقوله: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} [السجدة: 13] وقال قائلون: "معناه: ولو شاء الله لجمعهم على شريعة واحدة في دعوة جميع الأنبياء".
قوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} معناه الأمر بالمبادرة بالخيرات التي تعبدنا بها قبل الفوات بالموت وهذا يدل على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها, نحو قضاء رمضان والحج والزكاة وسائر الواجبات لأنها من الخيرات.
(2/553)
 
 
مطلب: الصوم في السفر أفضل من الإفطار
فإن قيل: فهو يدل على أن فعل الصلاة في أول الوقت أفضل من تأخيرها, لأنها من الواجبات في أول الوقت. قيل له: ليست من الواجبات في أول الوقت, والآية مقتضية للوجوب, فهي فيما قد وجب وألزم; وفي ذلك دليل على أن الصوم في السفر أفضل من الإفطار لأنه من الخيرات.
وقد أمر الله بالمبادرة بالخيرات. وقوله تعالى في هذا الموضع: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} ليس بتكرار لما تقدم من مثله لأنهما نزلا في شيئين مختلفين: أحدهما: في شأن الرجم, والآخر: في
(2/553)
 
 
التسوية بين الديات حين تحاكموا إليه في الأمرين.
قوله تعالى: {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} قال ابن عباس: "أراد أنهم يفتنونه بإضلالهم إياه عما أنزل الله إلى ما يهوون من الأحكام, إطماعا منهم له في الدخول في الإسلام". وقال غيره: "إضلالهم بالكذب على التوراة بما ليس فيها فقد بين الله تعالى حكمه".
قوله تعالى: {فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} ذكر البعض والمراد الجميع, كما يذكر لفظ العموم والمراد الخصوص, وكما قال: {يا أيها النبي} والمراد جميع المسلمين بقوله: {إذا طلقتم النساء} وفيه أن المراد الإخبار عن تغليظ العقاب في أن بعض ما يستحقونه به يهلكهم. وقيل: "أراد تعجيل البعض بتمردهم وعتوهم". وقال الحسن: "أراد ما عجله من إجلاء بني النضير وقتل بني قريظة".
قوله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون} فيه وجهان: أحدهما: أنه خطاب لليهود لأنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه, وإذا وجب على أغنيائهم لم يأخذوهم به; فقيل لهم: أفحكم عبدة الأوثان تبغون وأنتم أهل الكتاب وقيل: إنه أريد به كل من خرج عن حكم الله إلى حكم الجاهلية, وهو ما يقدم عليه فاعله بجهالة من غير علم.
قوله تعالى: {ومن أحسن من الله حكما} إخبار عن حكمه بالعدل والحق من غير محاباة; وجائز أن يقال إن حكما أحسن من حكم كما لو خير بين حكمين نصا وعرف أن أحدهما أفضل من الآخر كان الأفضل أحسن. وكذلك قد يحكمه المجتهد بما غيره أولى منه, لتقصير منه في النظر أو لتقليده من قصر فيه.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} روي عن عكرمة أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر لما تنصح إلى بني قريظة وأشار إليهم بأنه الذبح. وقال السدي: لما كان بعد أحد خاف قوم من المشركين, حتى قال رجل: أو إلى اليهود, وقال آخر: أو إلى النصارى; فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال عطية بن سعد: "نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي ابن سلول, لما تبرأ عبادة من موالاة اليهود وتمسك بها عبد الله بن أبي وقال أخاف الدوائر". والولي هو الناصر; لأنه يلي صاحبه بالنصرة, وولي الصغير لأنه يتولى التصرف عليه بالحياطة, وولي المرأة عصبتها لأنهم يتولون عليها عقد النكاح.
(2/554)
 
 
مطلب: الكافر لا يكون وليل للمسلم
وفي هذه الآية دلالة على أن الكافر لا يكون وليا للمسلم لا في التصرف ولا في النصرة; ويدل على وجوب البراءة من الكفار والعداوة لهم; لأن الولاية ضد العداوة, فإذا أمرنا بمعاداة اليهود والنصارى لكفرهم فغيرهم من الكفار بمنزلتهم. ويدل على أن الكفر كله ملة واحدة, لقوله تعالى: {بعضهم أولياء بعض} على أن اليهودي يستحق الولاية على النصراني في الحال التي كان يستحقها لو كان المولى عليه يهوديا, وهو أن يكون صغيرا أو مجنونا وكذلك الولاية بينهما في النكاح هو على هذا السبيل. ومن حيث دلت على كون بعضهم أولياء بعض فهو يدل على إيجاب التوارث بينهما, وعلى ما ذكرنا من كون الكفر كله ملة واحدة وإن اختلفت مذاهبه وطرقه. وقد دل على جواز مناكحة بعضهم لبعض, اليهودي للنصرانية والنصراني لليهودية. وهذا الذي ذكرنا إنما هو في أحكامهم فيما بينهم, وأما فيما بينهم وبين المسلمين فيختلف حكم الكتابي وغير الكتابي في جواز المناكحة وأكل الذبيحة.
قوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} يدل على أن حكم نصارى بني تغلب حكم نصارى بني إسرائيل في أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وقوله: {منكم} يجوز أن يريد به العرب لأنه لو أراد المسلمين لكانوا إذا تولوا الكفار صاروا مرتدين, والمرتد إلى النصرانية واليهودية لا يكون منهم في شيء من أحكامهم, ألا ترى أنه لا تؤكل ذبيحته وإن كانت امرأة لم يجز نكاحها ولا يرثهم ولا يرثونه ولا يثبت بينهما شيء من حقوق الولاية؟ وزعم بعضهم أن قوله: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} يدل على أن المسلم لا يرث المرتد لإخبار الله أنه ممن تولاه من اليهود والنصارى ومعلوم أن المسلم لا يرث اليهودي ولا النصراني, فكذلك لا يرث المرتد قال أبو بكر: وليس فيه دلالة على ما ذكرنا; لأنه لا خلاف أن المرتد إلى اليهودية لا يكون يهوديا والمرتد إلى النصرانية لا يكون نصرانيا, ألا ترى أنه لا تؤكل ذبيحته ولا يجوز تزويجها إن كانت امرأة وأنه لا يرث اليهودي ولا يرثه؟ فكما لم يدل ذلك على إيجاب التوارث بينه وبين اليهودي والنصراني, كذلك لا يدل على أن المسلم لا يرثه, وإنما المراد أحد وجهين: إن كان الخطاب لكفار العرب فهو دال على أن عبدة الأوثان من العرب إذا تهودوا أو تنصروا كان حكمهم حكمهم في جواز المناكحة وأكل الذبيحة والإقرار على الكفر بالجزية, وإن كان الخطاب للمسلمين فهو إخبار بأنه كافر مثلهم بموالاته إياهم, فلا دلالة فيه على حكم الميراث.
فإن قال قائل: لما كان ابتداء الخطاب في المؤمنين; لأنه قال: {يا أيها الذين آمنوا
(2/555)
 
 
لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} لم يحتمل أن يريد بقوله: {ومن يتولهم منكم} مشركي العرب. قيل له: لما كان المخاطبون بأول الآية في ذلك الوقت هم العرب, جاز أن يريد بقوله: {ومن يتولهم منكم} العرب, فيفيد أن مشركي العرب إذا تولوا اليهود أو النصارى بالديانة والانتساب إلى الملة يكونون في حكمهم وإن لم يتمسكوا بجميع شرائع دينهم. ومن الناس من يقول فيمن اعتقد من أهل ملتنا بعض المذاهب الموجبة لإكفار معتقديها: إن الحكم بإكفاره لا يمنع أكل ذبيحته ومناكحة المرأة منهم إذا كانوا منتسبين إلى ملة الإسلام, وإن كفروا باعتقادهم لما يعتقدونه من المقالة الفاسدة; إذ كانوا في الجملة متولين لأهل الإسلام منتسبين إلى حكم القرآن, كما أن من انتحل النصرانية أو اليهودية كان حكمه حكمهم وإن لم يكن متمسكا بجميع شرائعهم, ولقوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} وكان أبو الحسن الكرخي ممن يذهب إلى ذلك.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج: "نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومن قاتل معه أهل الردة". وقال السدي: "هي في الأنصار". وقال مجاهد: "في أهل اليمن". وروى شعبة عن سماك بن حرب عن عياض الأشعري قال: "لما نزلت: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه} أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء معه إلى أبي موسى, فقال هم قوم هذا".
(2/556)
 
 
مطلب: الدليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم
في الآية دلالة على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وذلك لأن الذين ارتدوا من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إنما قاتلهم أبو بكر وهؤلاء الصحابة, وقد أخبر الله أنه يحبهم ويحبونه وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم, ومعلوم أن من كانت هذه صفته فهو ولي الله. ولم يقاتل المرتدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم غير هؤلاء المذكورين وأتباعهم; ولا يتهيأ لأحد أن يجعل الآية في غير المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من العرب ولا في غير هؤلاء الأئمة; لأن الله تعالى لم يأت بقوم يقاتلون المرتدين المذكورين في الآية غير هؤلاء الذين قاتلوا مع أبي بكر.
(2/556)
 
 
مطلب: الدليل على صحة إمامة إبي بكر رضي الله عنه
ونظير ذلك أيضا في دلالته على صحة إمامة أبي بكر قوله تعالى: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا} [الفتح: 16] لأنه كان الداعي لهم إلى قتال أهل الردة, وأخبر تعالى
(2/556)
 
 
بوجوب طاعته عليهم بقوله: {فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما} [الفتح: 16] .
فإن قال قائل: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي دعاهم. قيل له: قال الله تعالى: {فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا} [التوبة: 83] فأخبر أنهم لا يخرجون معه أبدا ولا يقاتلون معه عدوا. فإن قال قائل جائز أن يكون عمر هو الذي دعاهم. قيل له: إن كان كذلك فإمامة عمر ثابتة بدليل الآية, وإذا صحت إمامته صحت إمامة أبي بكر لأنه هو المستخلف له.. فإن قيل جائز أن يكون علي هو الذي دعاهم إلى محاربة من حارب. قيل له: قال الله تعالى: {تقاتلونهم أو يسلمون} [الفتح: 16] وعلي رضي الله عنه إنما قاتل أهل البغي وحارب أهل الكتاب على أن يسلموا أو يعطوا الجزية, ولم يحارب أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم على أن يسلموا غير أبي بكر, فكانت الآية دالة على صحة إمامته.
(2/557)
 
 
باب العمل اليسير في الصلاة
قال الله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} روي عن مجاهد والسدي وأبي جعفر وعتبة بن أبي حكيم: أنها نزلت في علي بن أبي طالب حين تصدق بخاتمه وهو راكع وروي عن الحسن أنه قال: "هذه الآية صفة جميع المسلمين; لأن قوله تعالى: {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} صفة للجماعة وليست للواحد". وقد اختلف في معنى قوله {وهم راكعون} فقيل فيه: إنهم كانوا على هذه الصفة في وقت نزول الآية, منهم من قد أتم الصلاة ومنهم من هو راكع في الصلاة. وقال آخرون: "معنى {وهم راكعون} أن ذلك من شأنهم, وأفرد الركوع بالذكر تشريفا له". وقال آخرون: "معناه أنهم يصلون بالنوافل كما يقال فلان يركع أي يتنفل". فإن كان المراد فعل الصدقة في حال الركوع فإنه يدل على إباحة العمل اليسير في الصلاة, وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار في إباحة العمل اليسير فيها, فمنها أنه خلع نعليه في الصلاة, ومنها أنه مس لحيته وأنه أشار بيده, ومنها حديث ابن عباس أنه قام على يسار النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بذؤابته وأداره إلى يمينه, ومنها أنه كان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع, فإذا سجد وضعها وإذا رفع رأسه حملها. فدلالة الآية ظاهرة في إباحة الصدقة في الصلاة لأنه إن كان المراد الركوع فكان تقديره: "الذين يتصدقون في حال الركوع فقد دلت على إباحة الصدقة في هذه الحال, وإن كان المراد وهم يصلون فقد دلت على إباحتها في سائر أحوال الصلاة; فكيفما تصرفت الحال فالآية دالة على إباحة الصدقة في الصلاة.
(2/557)
 
 
فإن قال قائل: فالمراد أنهم يتصدقون ويصلون, ولم يرد به فعل الصدقة في الصلاة. قيل له: هذا تأويل ساقط, من قبل أن قوله تعالى {وهم راكعون} إخبار عن الحال التي تقع فيها الصدقة, كقولك: تكلم فلان وهو قائم, وأعطى فلانا وهو قاعد, إنما هو إخبار عن حال الفعل وأيضا لو كان المراد ما ذكرت, كان تكرارا لما تقدم ذكره في أول الخطاب. قوله تعالى: {الذين يقيمون الصلاة} ويكون تقديره: "الذين يقيمون الصلاة ويصلون" وهذا لا يجوز في كلام الله تعالى فثبت أن المعنى ما ذكرنا من مدح الصدقة في حال الركوع أو في حال الصلاة وقوله تعالى: {ويؤتون الزكاة وهم راكعون} يدل على أن صدقة التطوع تسمى زكاة لأن عليا تصدق بخاتمه تطوعا وهو نظير قوله تعالى: {وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} [الروم: 39] انتظم صدقة الفرض والنفل فصار اسم الزكاة يتناول الفرض والنفل كاسم الصدقة وكاسم الصلاة ينتظم الأمرين.
(2/558)
 
 
باب الأذان
قال الله تعالى: {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا} قد دلت هذه الآية على أن للصلاة أذانا يدعى به الناس إليها; ونحوه قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة: 9] . وقد روى عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ قال: كانوا يجتمعون للصلاة لوقت يعرفونه ويؤذن بعضهم بعضا, حتى نقسوا1 أو كادوا أن ينقسوا, فجاء عبد الله بن زيد الأنصاري وذكر الأذان, فقال عمر: قد طاف بي الذي طاف به ولكنه سبقني. وروى الزهري عن سالم عن أبيه قال: استشار النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على ما يجمعهم في الصلاة, فقالوا البوق; فكرهه من أجل اليهود وذكر قصة عبد الله بن زيد وأن عمر رأى مثل ذلك. فلم يختلفوا أن الأذان لم يكن مسنونا قبل الهجرة, وأنه إنما سن بعدها. وقد روى أبو يوسف عن محمد بن بشر الهمداني قال: سألت محمد بن علي عن الأذان كيف كان أوله وما كان؟ فقال: شأن الأذان أعظم من ذلك, ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسري به جمع النبيون ثم نزل ملك من السماء لم ينزل قبل ليلته فأذن كأذانكم وأقام كإقامتكم ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبيين. قال أبو بكر ليلة أسري به كان بمكة, وقد صلى بالمدينة بغير أذان واستشار أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة, ولو كانت تبدئة الأذان قد تقدمت قبل الهجرة لما استشار فيه وقد ذكر معاذ وابن عمر في قصة الأذان ما ذكرنا.
__________
1 قوله: "نقسوا" مض من النقس بفتح النون وسكون القاف, ومعناه الضرب بالناقوس. "لمصححه".
(2/558)
 
 
والأذان مسنون لكل صلاة مفروضة منفردا كان المصلي أو في جماعة, إلا أن أصحابنا قالوا جائز للمقيم المنفرد أن يصلي بغير أذان; لأن أذان الناس دعاء له, فيكتفي به; والمسافر يؤذن ويقيم, وإن اقتصر على الإقامة دون الأذان أجزأه, ويكره له أن يصلي بغير أذان ولا إقامة; لأنه لم يكن هناك أذان يكون دعاء له. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من صلى في أرض بأذان وإقامة صلى خلفه صف من الملائكة لا يرى طرفاه" وهذا يدل على أن من سنة صلاة المنفرد الأذان. وقال في خبر آخر: " إذا سافرتما فأذنا وأقيما" وقد ذكرنا الأذان والإقامة والاختلاف فيهما في غير هذا الكتاب.
(2/559)
 
 
مطلب: في الاستعانة بالمشركين
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا} فيه نهي عن الاستنصار بالمشركين; لأن الأولياء هم الأنصار. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين أراد الخروج إلى أحد جاء قوم من اليهود وقالوا: نحن نخرج معك, فقال: "إنا لا نستعين بمشرك" , وقد كان كثير من المنافقين يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم المشركين. وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو مسلم: حدثنا حجاج: حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن الزهري: أن ناسا من اليهود غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقسم لهم كما قسم للمسلمين. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد ويحيى بن معين قالا: حدثنا يحيى عن مالك عن الفضل عن عبد الله بن نيار عن عروة عن عائشة قال يحيى: إن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقاتل معه فقال: ارجع ثم اتفقا فقال: "إنا لا نستعين بمشرك".
وقال أصحابنا: لا بأس بالاستعانة بالمشركين على قتال غيرهم من المشركين إذا كانوا متى ظهروا كان حكم الإسلام هو الظاهر, فأما إذا كانوا لو ظهروا كان حكم الشرك هو الغالب فلا ينبغي للمسلمين أن يقاتلوا معهم. ومستفيض في أخبار أهل السير ونقلة المغازي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يغزو ومعه قوم من اليهود في بعض الأوقات وفي بعضها قوم من المشركين. وأما وجه الحديث الذي قال فيه: "إنا لا نستعين بمشرك" فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يثق بالرجل وظن أنه عين للمشركين, فرده وقال: "إنا لا نستعين بمشرك" يعني به من كان في مثل حاله.
قوله تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الأثم} قيل فيه: إن معناه" هلا" وهي تدخل للماضي والمستقبل, فإذا كانت للمستقبل فهي في معنى الأمر, كقوله: "لم لا تفعل" وهي ههنا للمستقبل, يقول: هلا ينهاهم ولم لا ينهاهم وإذا كانت
(2/559)
 
 
للماضي فهو للتوبيخ, كقوله تعالى: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} [النور: 13] {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} [النور: 12] . وقيل في الرباني: إنه العالم بدين الرب, فنسب إلى الرب, كقولهم: "روحاني" في النسبة إلى الروح, "وبحراني" في النسبة إلى البحر. وقال الحسن: "الربانيون علماء أهل الإنجيل, والأحبار علماء أهل التوراة". وقال غيره: "هو كله في اليهود; لأنه متصل بذكرهم". وذكر لنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب قال: "الرباني العالم العامل". وقد اقتضت الآية وجوب إنكار المنكر بالنهي عنه والاجتهاد في إزالته, لذمه من ترك ذلك.
قوله تعالى: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم} . روي عن ابن عباس وقتادة والضحاك أنهم وصفوه بالبخل وقالوا: هو مقبوض العطاء, كقوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} [الإسراء: 29] . وقال الحسن: "قالوا هي مقبوضة عن عقابنا".
(2/560)
 
 
مطلب: في معاني اليد
واليد في اللغة تنصرف على وجوه: منها الجارحة وهي معروفة. ومنها النعمة, تقول: لفلان عندي يد أشكره عليها, أي نعمة ومنها القوة. فقوله أولي الأيدي فسروه بأولي القوى; ونحوه قول الشاعر:
تحملت من ذلفاء ما ليس لي به ... ولا للجبال الراسيات يدان
ومنها الملك, ومنه قوله: {الذي بيده عقدة النكاح} [البقرة: 237] يعني يملكها. ومنها الاختصاص بالفعل, كقوله تعالى: {خلقت بيدي} [ص: 75] أي توليت خلقه. ومنها التصرف, كقولك: "هذه الدار في يد فلان" يعني التصرف فيها بالسكنى أو الإسكان ونحو ذلك. وقيل: إنه قال تعالى: {بل يداه} على وجه التثنية; لأنه أراد نعمتين: إحداهما نعمة الدنيا, والأخرى نعمة الدين. والثاني: قوتاه بالثواب والعقاب, على خلاف قول اليهود, لأنه لا يقدر على عقابنا. وقيل: إن التثنية للمبالغة في صفة النعمة, كقولك: "لبيك وسعديك". وقيل في قوله تعالى: {غلت أيديهم} يعني في جهنم; روي عن الحسن.
قوله تعالى: {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله} فيه إخبار بغلبة المسلمين لليهود الذين تقدم ذكرهم في قوله: {وقالت اليهود يد الله مغلولة} , وفيه دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر به عن الغيب مع كثرة اليهود وشدة شوكتهم; وقد كان من
(2/560)
 
 
حول المدينة منهم تقاوم العرب في الحروب التي كانت تكون بينهم في الجاهلية, فأخبر الله تعالى في هذه الآية بظهور المسلمين عليهم, فكان مخبره على ما أخبر به, فأجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع وبني النضير وقتل بني قريظة وفتح خيبر عنوة وانقادت له سائر اليهود صاغرين حتى لم تبق منهم فئة تقاتل المسلمين. وإنما ذكر النار ههنا عبارة عن الاستعداد للحرب والتأهب لها, على مذهب العرب في إطلاق اسم النار في هذا الموضع; ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك" قيل: لم يا رسول الله؟ قال: "لا ترايا ناراهما" ; وإنما عنى بها نار الحرب, يعني أن حرب المشركين للشيطان وحرب المسلمين لله تعالى فلا يتفقان. وقيل: إن الأصل في العبارة باسم النار عن الحرب, أن القبيلة الكبيرة من العرب كانت إذا أرادت حرب أخرى منها أوقدت النيران على رءوس الجبال والمواضع المرتفعة التي تعم القبيلة رؤيتها, فيعلمون أنهم قد ندبوا إلى الاستعداد للحرب والتأهب لها فاستعدوا وتأهبوا, فصار اسم النار في هذا الموضع مفيدا للتأهب للحرب. وقد قيل فيه وجه آخر, وهو أن القبائل كانت إذا رأت التحالف على التناصر على غيرهم والجد في حربهم وقتالهم, أوقدوا نارا عظيمة ثم قربوا منها وتحالفوا بحرمان منافعها إن هم غدروا أو نكلوا عن الحرب; وقال الأعشى:
وأوقدت للحرب نارا.
قوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} فيه أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الناس جميعا ما أرسله به إليهم من كتابه وأحكامه, وأن لا يكتم منه شيئا خوفا من أحد ولا مداراة له, وأخبر أنه إن ترك تبليغ شيء منه فهو كمن لم يبلغ شيئا, بقوله تعالى: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} فلا يستحق منزلة الأنبياء القائمين بأداء الرسالة وتبليغ الأحكام. وأخبر تعالى أنه يعصمه من الناس حتى لا يصلوا إلى قتله ولا قهره ولا أسره, بقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} وفي ذلك إخبار أنه لم يكن تقية من إبلاغ جميع ما أرسل به إلى جميع من أرسل إليهم وفيه الدلالة على بطلان قول الرافضة في دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم بعض المبعوثين إليهم على سبيل الخوف والتقية; لأنه تعالى قد أمره بالتبليغ, وأخبر أنه ليس عليه تقية بقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} . وفيه دلالة على أن كل ما كان من الأحكام بالناس إليه حاجة عامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغه الكافة وأن وروده ينبغي أن يكون من طريق التواتر, نحو الوضوء من مس الذكر ومن مس المرأة ومما مسته النار ونحوها, لعموم البلوى بها; فإذا لم نجد ما كان منها بهذه المنزلة واردا من طريق التواتر علمنا أن الخبر غير ثابت في الأصل, أو تأويله ومعناه غير ما اقتضاه ظاهره من نحو الوضوء الذي هو غسل اليد دون وضوء الحدث.
(2/561)
 
 
مطلب: في الدليل على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم
وقد دل قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم; إذ كان من أخبار الغيوب التي وجد مخبرها على ما أخبر به; لأنه لم يصل إليه أحد بقتل ولا قهر ولا أسر مع كثرة أعدائه المحاربين له مصالتة والقصد لاغتياله مخادعة, نحو ما فعله عامر بن الطفيل وأربد فلم يصلا إليه; ونحو ما قصده به عمير بن وهب الجمحي بمواطأة من صفوان بن أمية, فأعلمه الله إياه, فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمير بن وهب بما تواطأ هو وصفوان بن أمية عليه وهما في الحجر من اغتياله, فأسلم عمير وعلم أن مثله لا يكون إلا من عند الله تعالى عالم الغيب والشهادة, ولو لم يكن ذلك من عند الله لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم الناس ولا ادعى أنه معصوم من القتل والقهر من أعدائه وهو لا يأمن أن يوجد ذلك على خلاف ما أخبر به فيظهر كذبه مع غناه عن الإخبار بمثله. وأيضا لو كانت هذه الأخبار من عند غير الله لما اتفق في جميعها وجود مخبراتها على ما أخبر به, إذ لا يتفق مثلها في أخبار الناس إذا أخبروا عما يكون على جهة الحدس والتخمين وتعاطي علم النجوم والرزق والفأل ونحوها, فلما اتفق جميع ما أخبر به عنه من الكائنات في المستأنف على ما أخبر به ولا تخلف شيء منها, علمنا أنها من عند الله العالم بما كان وما يكون قبل أن يكون.
قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والأنجيل وما أنزل إليكم من ربكم} فيه أمر لأهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل; لأن إقامتهما هو العمل بهما وبما في القرآن أيضا; لأن قوله تعالى: {وما أنزل إليكم من ربكم} حقيقته تقتضي أن يكون المراد ما أنزل الله على رسوله, فكان خطابا لهم, وإن كان محتملا لأن يكون المراد ما أنزل الله على آبائهم في زمان الأنبياء المتقدمين. وقوله تعالى: {لستم على شيء} مقتضاه: لستم على شيء من الدين الحق حتى تعملوا بما في التوراة والإنجيل والقرآن. وفي هذا دلالة على أن شرائع الأنبياء المتقدمين ما لم ينسخ منها قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فهو ثابت الحكم مأمور به وأنه قد صار شريعة لنبينا عليه السلام لولا ذلك لما أمروا بالثبات عليه والعمل به.
فإن قال قائل: معلوم نسخ كثير من شرائع الأنبياء المتقدمين على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم فجائز إذا كان هذا هكذا أن تكون هذه الآية نزلت بعد نسخ كثير منها, ويكون معناها الأمر بالإيمان على ما في التوراة والإنجيل من صفة النبي صلى الله عليه وسلم ومبعثه وبما في القرآن من الدلالة المعجزة الموجبة لصدقه, وإذا احتملت الآية ذلك لم تدل على بقاء شرائع الأنبياء المتقدمين. قيل له: لا تخلو هذه الآية من أن تكون نزلت قبل نسخ شرائع الأنبياء
(2/562)
 
 
المتقدمين فيكون فيها أمر باستعمالها وإخبار ببقاء حكمها, أو أن تكون نزلت بعد نسخ كثير منها; فإن كان كذلك فإن حكمها ثابت فيما لم ينسخ منها, كاستعمال حكم العموم فيما لم تقم دلالة خصوصه واستعمالها فيما لا يجوز فيه النسخ من وصف النبي صلى الله عليه وسلم وموجبات أحكام العقول فلم تخل الآية من الدلالة على بقاء حكم ما لم ينسخ من شرائع من قبلنا وأنه قد صار شريعة لنبينا عليه السلام.
(2/563)
 
 
مطلب: في الدليل على بطلان قول النصارى في أن المسيح إله
قوله تعالى: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام} فيه أوضح الدلالة على بطلان قول النصارى في أن المسيح إله; لأن من احتاج إلى الطعام فسبيله سبيل سائر العباد في الحاجة إلى الصانع المدبر; إذ كان من فيه سمة الحدث لا يكون قديما, ومن يحتاج إلى غيره لا يكون قادرا لا يعجزه شيء. وقد قيل في معنى قوله: {كانا يأكلان الطعام} إنه كناية عن الحدث; لأن كل من يأكل الطعام فهو محتاج إلى الحدث لا محالة. وهذا وإن كان كذلك في العادة فإن الحاجة إلى الطعام والشراب وما يحتاج المحتاج إليهما من الجوع والعطش ظاهر الدلالة على حدث المحتاج إليهما وعلى أن الحوادث تتعاقب عليه, وأن ذلك ينفي كونه إلها وقديما.
قوله تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم} , قال الحسن ومجاهد والسدي وقتادة: "لعنوا على لسان داود فصاروا قردة وعلى لسان عيسى فصاروا خنازير". وقيل: إن فائدة لعنهم على لسان الأنبياء إعلامهم الإياس من المغفرة مع الإقامة على الكفر والمعاصي; لأن دعاء الأنبياء عليهم السلام باللعن والعقوبة مستجاب. وقيل: إنما ظهر لعنهم على لسان الأنبياء لئلا يوهموا الناس أن لهم منزلة بولادة الأنبياء تنجيهم من عقاب المعاصي.
قوله تعالى: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} معناه لا ينهى بعضهم بعضا عن المنكر; وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي: حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك, ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده, فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض, ثم لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم" إلى قوله فاسقون ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم
(2/563)
 
 
ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا". وقال أبو داود: وحدثنا خلف بن هشام: حدثنا أبو شهاب الحناط, عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة, عن سالم, عن أبي عبيدة, عن ابن مسعود, عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, زاد: "وليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم".
قال أبو بكر: في هذه الآية مع ما ذكرنا من الخبر في تأويلها دلالة على النهي عن مجالسة المظهرين للمنكر, وأنه لا يكتفى منهم بالنهي دون الهجران.
قوله تعالى: {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا} , روي عن الحسن وغيره أن الضمير في" منهم" راجع إلى اليهود; وقال آخرون: هو راجع إلى أهل الكتاب, والذين كفروا هم عبدة الأوثان تولاهم أهل الكتاب على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم ومحاربته.
قوله تعالى: {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء} , روي عن الحسن ومجاهد أنه في المنافقين من اليهود, أخبر أنهم غير مؤمنين بالله وبالنبي وإن كانوا يظهرون الإيمان. وقيل: إنه أراد بالنبي موسى عليه السلام أنهم غير مؤمنين به; إذ كانوا يتولون المشركين.
قوله تعالى {ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} الآية. قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي: "نزلت في النجاشي وأصحابه لما أسلموا". وقال قتادة: "قوم من أهل الكتاب كانوا على الحق متمسكين بشريعة عيسى عليه السلام فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به". ومن الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحا للنصارى وإخبارا بأنهم خير من اليهود, وليس كذلك; وذلك لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول يدل عليه ما ذكر في نسق التلاوة من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله وبالرسول. ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أمعن النظر في مقالتي هاتين الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة وأظهر فسادا من مقالة اليهود; لأن اليهود تقر بالتوحيد في الجملة وإن كان فيها مشبهة تنقص ما أعطته في الجملة من التوحيد بالتشبيه.
(2/564)
 
 
باب تحريم ما أحل الله عز وجل
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} . والطيبات اسم يقع على ما يستلذ ويشتهى ويميل إليه القلب, ويقع على الحلال وجائز أن يكون مراد الآية الأمرين جميعا لوقوع الاسم عليهما, فيكون تحريم الحلال على أحد وجهين: أحدهما: أن يقول: "قد حرمت هذا الطعام على نفسي" فلا يحرم عليه وعليه الكفارة إن
(2/564)
 
 
أكل منه. والثاني: أن يغصب طعام غيره فيخلطه بطعامه فيحرمه على نفسه حتى يغرم لصاحبه مثله. روى عكرمة عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني إذا أكلت اللحم انتشرت فحرمته على نفسي فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} الآية. وروى سعيد عن قتادة قال: كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هموا بترك اللحم والنساء والاختصاء, فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} الآية, فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ليس في ديني ترك النساء ولا اللحم ولا اتخاذ الصوامع". وروى مسروق قال: كنا عند عبد الله, فأتي بضرع, فتنحى رجل, فقال عبد الله: ادن فكل فقال: إني كنت حرمت الضرع; فتلا عبد الله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} كل وكفر وقال الله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 1] إلى قوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 2] . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم مارية; وروي أنه حرم العسل على نفسه, فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمره بالكفارة. وكذلك قال أكثر أهل العلم فيمن حرم طعاما أو جارية على نفسه أنه إن أكل من الطعام حنث, وكذلك إن وطئ الجارية لزمته كفارة يمين.
وفرق أصحابنا بين من قال: "والله لا آكل هذا الطعام" وبين قوله: "حرمته على نفسي" فقالوا في التحريم: إن أكل الجزء منه حنث, وفي اليمين لا يحنث إلا بأكل الجميع; وجعلوا تحريمه إياه على نفسه بمنزلة قوله: "والله لا أكلت منه شيئا "; إذ كان ذلك مقتضى لفظ التحريم في سائر ما حرم الله تعالى, مثل قوله: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} [المائدة: 3] اقتضى اللفظ تحريم كل جزء منه, فكذلك تحريم الإنسان طعاما يقتضي إيجاب اليمين في أكل الجزء منه. وأما اليمين بالله في نفي أكل هذا الطعام فإنها محمولة على الأيمان المنتظمة للشروط والجواب, كقول القائل: "إن أكلت هذا الطعام فعبدي حر" فلا يحنث بأكل البعض منه حتى يستوفي أكل الجميع. فإن قال قائل: قال الله تعالى: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} [آل عمران: 93] فروي أن إسرائيل أخذه عرق النسا, فحرم أحب الأشياء إليه وهو لحوم الإبل إن عافاه الله, فكان ذلك تحريما صحيحا حاظرا لما حرم على نفسه. قيل له: هو منسوخ بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
(2/565)
 
 
مطلب: في الدليل على بطلان قول الممتنعين عن اكل اللحوم والأطعمة اللذيذة تزهدا
وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول الممتنعين من أكل اللحوم والأطعمة اللذيذة
(2/565)
 
 
تزهدا; لأن الله تعالى قد نهى عن تحريمها وأخبر بإباحتها في قوله: {وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا} , ويدل على أنه لا فضيلة في الامتناع من أكلها. وقد روى أبو موسى الأشعري أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدجاج. وروي أنه كان يأكل الرطب والبطيخ. وروى غالب بن عبد الله عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يأكل الدجاجة حبسها ثلاثة أيام فعلفها ثم أكلها. وروى إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال: سمعت ابن عباس يقول: "كل ما شئت واكتس ما أخطأت اثنتين سرفا أو مخيلة". وقد روي أن عثمان وعبد الرحمن بن عوف والحسن بن علي وعبد الله بن أبي أوفى وعمران بن حصين وأنس بن مالك وأبا هريرة وشريحا كانوا يلبسون الخز. ويدل على نحو دلالة الآية التي ذكرنا في أكل إباحة الطيبات قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32] , وقوله عقيب ذكره لما خلق من الفواكه: {متاعا لكم} [المائدة: 96] .
(2/566)
 
 
مطلب: في تحريم إيقاع الطلاق الثلاث
ويحتج بقوله: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} في تحريم إيقاع الطلاق الثلاث لما فيه من تحريم المباح من المرأة.
(2/566)
 
 
باب الأيمان مطلب: في اليمين اللغو
قال الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} عقيب نهيه عن تحريم ما أحل الله. قال ابن عباس: "لما حرموا الطيبات من المآكل والمناكح والملابس حلفوا على ذلك, فأنزل الله تعالى هذه الآية" وأما اللغو فقد قيل فيه إنه ما لا يعتد به, ومنه قول الشاعر:
أو مائة تجعل أولادها ... لغوا وعرض المائة الجلمد
يعني نوقا لا تعتد بأولادها. فعلى هذا لغو اليمين ما لا يعتد به ولا حكم له. وروى إبراهيم الصائغ عن عطاء عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن أحمد بن سفيان الترمذي وابن عبدوس قالا: حدثنا محمد بن بكار: حدثنا حسان بن إبراهيم عن إبراهيم الصائغ عن عطاء, وسئل عن اللغو في اليمين فقال: قالت عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هو كلام الرجل في بيته لا والله وبلى