أحكام القرآن للجصاص ط العلمية 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

    
 
  
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
 
 
 
 
  
 
الكتاب: أحكام القرآن
المؤلف: أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي (المتوفى: 370هـ)
المحقق: عبد السلام محمد علي شاهين
الناشر: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
الطبعة: الأولى، 1415هـ/1994م
عدد الأجزاء: 3
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
 
باب التجارة في الحج
قال الله عقيب ذكر الحج، والتزود له: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} يعني المخاطبين بأول الآية وهم المأمورون بالتزود للحج وأباح لهم التجارة فيه وروى أبو يوسف عن العلاء بن السائب عن أبي أمامة قال: قلت لابن عمر: إني رجل أكري الإبل إلى مكة أفيجزي من حجتي؟ قال: ألست تلبي فتقف وترمي الجمار؟ قلت: بلى. قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل ما سألتني، فلم يجبه حتى أنزل الله هذه الآية: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} فقال: "أنتم حاج". وقال عمرو بن دينار: قال ابن عباس: كانت ذو المجاز وعكاظ متجرا للناس في
(1/374)
 
 
باب الوقوف بعرفة
قال الله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام} قال أبو بكر: قد دل ذلك على أن مناسك الحج الوقوف بعرفة، وليس في ظاهره دلالة على أنه من فروضه، فلما قال في سياق الخطاب: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} أبان بذلك عن فرض الوقوف ولزومه وذلك لأن أمره بالإفاضة مقتض للوجوب، ولا تكون الإفاضة فرضا إلا والكون بها فرضا حتى يفيض منها; إذ لا يتوصل إلى الإفاضة إلا بكونه قبلها هناك.
وقد اختلف في تأويل قوله: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} فروي عن عائشة وابن عباس وعطاء والحسن ومجاهد وقتادة والسدي: أنه أراد الإفاضة من عرفة، قالوا: وذلك; لأن قريشا ومن دان دينها يقال لهم الحمس كانوا يقفون بالمزدلفة ويقف سائر العرب بعرفات، فلما جاء الإسلام أنزل الله تعالى على نبيه: {ثم أفيضوا من حيث أفاض
(1/375)
 
 
باب الوقوف بجمع
قال الله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام} ولم يختلف أهل العلم أن المشعر الحرام هو المزدلفة وتسمى جمعا. فمن الناس من يقول: إن هذا الذكر هو صلاة المغرب، والعشاء اللتين يجمع بينهما بالمزدلفة، والذكر الثاني في قوله: {واذكروه كما هداكم} هو الذكر المفعول عند الوقوف بالمزدلفة غداة جمع، فيكون الذكر الأول غير الثاني. والصلاة تسمى ذكرا، قال النبي عليه السلام: "من نام عن صلاة، أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" وتلا عند ذلك قوله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} [طه: 214] فسمى الصلاة ذكرا، فعلى هذا قد اقتضت الآية تأخير صلاة المغرب إلى أن
(1/378)
 
 
باب أيام منى والنفر فيها
قال الله عز وجل: {واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} . قال أبو بكر: روى سفيان وشعبة عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيام منى ثلاثة أيام التشريق، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه". واتفق أهل العلم على أن قوله بيان لمراد الآية في قوله: {أيام معدودات} ولا خلاف بين أهل العلم أن المعدودات أيام التشريق; وقد روي ذلك عن علي وعمر وابن عباس وابن عمر وغيرهم، إلا شيء رواه ابن أبي ليلى عن المنهال عن زر عن علي قال: المعدودات: يوم النحر ويومان بعده واذبح في أيها شئت. وقد قيل: إن هذا وهم، والصحيح عن علي أنه قال ذلك في المعلومات. وظاهر الآية ينفي ذلك أيضا; لأنه قال: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} وذلك لا يتعلق بالنحر وإنما يتعلق برمي الجمار المفعول في أيام التشريق. وأما المعلومات فقد روي عن علي وابن عمر: أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده، واذبح في أيها شئت قال ابن عمر: المعدودات أيام التشريق، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: المعلومات: العشر، والمعدودات أيام التشريق. وقد روى ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس: المعلومات: يوم النحر وثلاثة أيام بعده أيام التشريق، والمعدودات يوم النحر وثلاثة أيام بعده التشريق وروى عبد الله بن موسى: أخبرنا عمارة بن ذكوان عن مجاهد عن ابن عباس قال: المعدوات أيام العشر، والمعلومات أيام النحر فقوله: المعدودات إنها أيام العشر، لا شك في أنه خطأ ولم يقل به أحد، وهو خلاف الكتاب، قال الله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} وليس في العشر حكم يتعلق بيومين دون الثلاث. وقد روي عن ابن عباس بإسناد صحيح أن المعلومات العشر، والمعدودات أيام التشريق، وهو قول الجمهور من التابعين، منهم الحسن ومجاهد وعطاء والضحاك وإبراهيم في آخرين منهم. وقد روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد: أن المعلومات العشر، والمعدودات
(1/382)
 
 
باب من يبدأ به في النفقة عليه
قال الله تعالى: {يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين} الآية. فالسؤال واقع عن مقدار ما ينفق، والجواب صدر عن القليل، والكثير مع بيان من تصرف إليه النفقة، فقال تعالى: {قل ما أنفقتم من خير} فذاك يتناول القليل، والكثير لشمول اسم الخير لجميع الإنفاق الذي يطلب به وجه الله، وبين فيمن تصرف إليه بقوله: {فللوالدين والأقربين} ومن ذكر في الآية، وأن هؤلاء أولى من غيرهم ممن ليس هو في منزلتهم بالقرب والفقر وقد بين في آية أخرى ما يجب عليه فيه النفقة، وهو قوله: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} فروي عن ابن عباس قال: ما يفضل عن أهلك، وقال قتادة: "العفو الفضل". فأخبر في هذه الآية أن النفقة فيما يفضل عن نفسه وأهله وعياله; وعلى هذا المعنى قال عليه السلام: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" وفي خبر آخر: "خير الصدقة ما أبقت غنى، وابدأ بمن تعول"، فهذا موافق لقوله: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة: 219] . وقد روي عن النبي عليه السلام أخبار في التبدئة بالأقرب في النفقة، فمنها حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول; أمك وأبوك وأختك وأخوك وأدناك فأدناك"; وروى مثله ثعلبة بن زهدم وطارق عن النبي عليه السلام وقد دل ذلك على معنى الآية في قوله: {قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين} وإنما المراد بها تقديم الأقرب فالأقرب في الإنفاق. وروي عن الحسن البصري أن الآية في الزكاة والتطوع جميعا، وأنها ثابتة الحكم غير منسوخة عليه. وقال السدي: هي منسوخة بفرض الزكاة. قال أبو بكر: هي ثابتة الحكم عامة في الفرض والتطوع، أما الفرض فلم يرد به الوالدين
(1/387)
 
 
باب تحريم الخمر
قال الله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} . هذه الآية قد اقتضت تحريم الخمر لو لم يرد غيرها في تحريمها لكانت كافية مغنية وذلك لقوله: {قل فيهما إثم كبير} ، والإثم كله محرم بقوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والأثم} فأخبر أن الإثم محرم، ولم يقتصر على إخباره بأن فيها إثما حتى وصفه بأنه كبير، تأكيدا لحظرها.
وقوله: {ومنافع للناس} لا دلالة فيه على إباحتها; لأن المراد منافع الدنيا; وإن في سائر المحرمات منافع لمرتكبيها في دنياهم، إلا أن تلك المنافع لا تفي بضررها من
(1/390)
 
 
باب تحريم الميسر
قال الله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير} قال أبو بكر: دلالته على تحريم الميسر كهي على ما تقدم من بيانه. ويقال: إن اسم الميسر في أصل اللغة إنما هو للتجزئة، وكل ما جزأته فقد يسرته; يقال للجازر: الياسر; لأنه يجزئ الجزور، والميسر الجزور نفسه إذا تجزى. وكانوا ينحرون جزورا ويجعلونه أقساما يتقامرون عليها بالقداح على عادة لهم في ذلك، فكل من خرج له قدح نظروا إلى ما عليه من السمة فيحكمون له بما يقتضيه أسماء القداح; فسمي على هذا سائر ضروب القمار ميسرا. وقال ابن عباس وقتادة ومعاوية بن صالح وعطاء وطاوس ومجاهد: الميسر القمار، وقال عطاء وطاوس ومجاهد: حتى لعب الصبيان بالكعاب، والجوز. وروي عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجرا فإنها من الميسر" وروى سعيد بن أبي هند عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله". وروى حماد بن سلمة عن قتادة عن حلاس أن رجلا قال لرجل: إن أكلت كذا وكذا بيضة فلك كذا وكذا، فارتفعا إلى علي فقال: هذا قمار; ولم يجزه.
ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم القمار وأن المخاطرة من القمار; قال ابن عباس: إن المخاطرة قمار وإن أهل الجاهلية كانوا يخاطرون على المال، والزوجة، وقد كان ذلك مباحا إلى أن ورد تحريمه. وقد خاطر أبو بكر الصديق المشركين حين نزلت:
(1/398)
 
 
باب التصرف في مال اليتيم
قال الله تعالى: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم} . قال أبو بكر: اليتيم المنفرد عن أحد أبويه فقد يكون يتيما من الأم مع بقاء الأب، وقد يكون يتيما من الأب مع بقاء الأم; إلا أن الأظهر عند الإطلاق هو اليتيم من الأب، وإن كانت الأم باقية، ولا يكاد يوجد الإطلاق في اليتيم من الأم إذا كان الأب باقيا. وكذلك سائر ما ذكر الله من أحكام الأيتام إنما المراد بها الفاقدون لآبائهم وهم صغار، ولا يطلق ذلك عليهم بعد البلوغ إلا على وجه المجاز لقرب عهدهم باليتم. والدليل على أن اليتيم اسم للمنفرد تسميتهم للمرأة المنفردة عن الزوج يتيمة سواء كانت كبيرة، أو صغيرة; قال الشاعر:
إن القبور تنكح الأيامى ... النسوة الأرامل اليتامى
وتسمى الرابية يتيمة لانفرادها عما حواليها; قال الشاعر يصف ناقته:
قوداء يملك رحلها ... مثل اليتيم من الأرانب
يعني الرابية. ويقال: درة يتيمة; لأنها مفردة لا نظير لها. وكتاب لابن المقفع في
(1/399)
 
 
باب نكاح المشركات
قال الله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} قال: ثم استثنى أهل الكتاب فقال: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان} [المائدة: 5] ، قال: عفائف غير زوان. فأخبر ابن عباس أن قوله: {ولا تنكحوا
(1/402)
 
 
باب الحيض
قوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} والمحيض قد يكون اسما للحيض نفسه، ويجوز أن يسمى به موضع الحيض كالمقيل والمبيت هو موضع القيلولة وموضع البيتوتة. ولكن في فحوى اللفظ ما يدل على أن المراد بالمحيض في هذا الموضع هو الحيض، لأن الجواب ورد بقوله: {هو أذى} وذلك صفة لنفس الحيض لا للموضع الذي فيه. وكانت مسألة القوم عن حكمه وما يجب عليهم فيه، وذلك لأنه قد كان قوم من اليهود يجاورونهم بالمدينة وكانوا يجتنبون مؤاكلة
(1/407)
 
 
باب بيان معنى الحيض ومقداره
قال أبو بكر: الحيض اسم لمقدار من الدم يتعلق به أحكام، منها: تحريم الصلاة والصوم وحظر الجماع وانقضاء العدة واجتناب دخول المسجد ومس المصحف وقراءة القرآن، وتصير المرأة به بالغة. فإذا تعلق بوجود الدم هذه الأحكام كان له مقدار ما سمي حيضا، وإذا لم يتعلق به هذه الأحكام لم يسم حيضا، ألا ترى أن الحائض ترى الدم في أيامها وبعد أيامها على هيئة واحدة فيكون ما في أيامها منه حيضا لتعلق هذه الأحكام به مع وجوده، وما بعد أيامها فليس بحيض لفقد هذه الأحكام مع وجوده؟ وكذلك نقول في الحامل: إنها لا تحيض، وهي قد ترى الدم، ولكن ذلك الدم لما لم يتعلق به ما ذكرنا من الأحكام لم يسم حيضا، فالمستحاضة قد ترى الدم السائل دهرا، ولا يكون حيضا، وإن كان كهيئة الدم الذي يكون مثله حيضا إذا رأته في أيامها فالحيض اسم لدم يفيد في الشرع تعلق هذه الأحكام به إذا كان له مقدار ما; والنفاس والحيض فيما يتعلق بهما من تحريم الصلاة والصوم وجماع الزوج واجتناب ما يجتنبه الحائض سواء، وإنما يختلفان من وجهين: أحدهما: أن مقدار مدة الحيض ليس هو مقدار مدة النفاس، والثاني: أن النفاس لا تأثير له في انقضاء العدة ولا في البلوغ. وكان أبو الحسن يحد الحيض بأنه الدم الخارج من الرحم الذي تكون به المرأة بالغة في ابتدائه بها، وما تعتاده النساء في الوقت بعد الوقت. وإنما أراد بذلك عندنا أن تكون بالغة في ابتدائه بها إذا لم يكن قد تقدم بلوغها قبل ذلك من جهة السن أو الاحتلام أو الإنزال عند الجماع، فأما إذا تقدم بلوغها قبل ذلك بما وصفنا ثم رأت دما، فهو حيض إذا رأته مقدار مدة الحيض وإن لم تصر بالغة في ابتدائه بها.
وقد اختلف الفقهاء في مقدار مدة الحيض، فقال أصحابنا: أقل مدة الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة وهو قول سفيان الثوري، وهو المشهور عن أصحابنا جميعا. وقد روي عن أبي يوسف ومحمد: إذا كان يومين وأكثر اليوم الثالث فهو حيض والمشهور عن محمد مثل قول أبي حنيفة. وقال مالك: لا وقت لقليل الحيض، ولا لكثيره. وحكى عبد الرحمن بن مهدي عن مالك أنه كان يرى أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما; حدثنا عبد الله بن جعفر بن فارس قال: حدثنا هارون بن سليمان الجزار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي بذلك. وقال الشافعي: أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما. وروى عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن علي بن ثابت، عن محمد بن زيد، عن سعيد بن جبير قال: الحيض إلى ثلاثة عشر، فإذا زادت فهي استحاضة. وقال عطاء: إذا زادت على خمسة عشر فهي استحاضة. وقد كان
(1/410)
 
 
ذكر الاختلاف في أقل مدة الطهر
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري والحسن بن صالح والشافعي: أقل الطهر خمسة عشر يوما وهو قول عطاء. وأما مالك بن أنس فإنه لا يوقت فيه شيئا في إحدى الروايات، وفي رواية عبد الملك بن حبيب عنه أن الطهر لا يكون أقل من خمسة عشر. وقال الأوزاعي: قد يكون الطهر أقل من خمسة عشر، ويرجع فيه إلى مقدار طهر المرأة قبل ذلك. وقد حكي عن الشافعي أنه علم أن طهر المرأة أقل من خمسة عشر جعل القول قولها. وذكر الطحاوي عن أبي عمران عن يحيى بن أكثم أنه قال: أقل الطهر تسعة عشر يوما واحتج فيه بأن الله تعالى جعل عدل كل حيضة وطهر شهرا، والحيض في العادة أقل من الطهر، فلم يجز أن يكون الحيض خمسة عشر، فوجب أن يكون عشرة وأن يكون باقي الشهر طهرا وهو تسعة عشر; لأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما. وقد حكينا عن سعيد بن جبير أن الطهر أقله ثلاثة عشر يوما. والدليل على أن أقله خمسة عشر يوما أنه لما كان أكثر الحيض عشرة أيام، وقد جعل الله تعالى الشهر الواحد بدلا من حيض وطهر، وجب أن يكون الطهر أكثر منه; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحمنة: "تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر" فأثبت الست أو السبع حيضا وجعل في الشهر طهرا، اقتضى ذلك أن يكون هذا حكم جميع
(1/417)
 
 
ذكر الاختلاف في الطهر العارض في حال الحيض
قال أصحابنا جميعا فيمن ترى يوما دما ويوما طهرا: إن ذلك كدم متصل وكذلك قال أبو يوسف: إذا كان الطهر بين الدمين أقل من خمسة عشر فهو كدم متصل. وقال محمد: إذا كان الطهر الذي بين الدمين أقل من ثلاثة أيام فهو كدم متصل، وإذا كان ثلاثة أيام أو أكثر من العشرة فإنه ينظر إلى الدمين والطهر الذي بينهما، فإن كان الطهر أكثر منهما فصل بين الدمين، وإن كانا سواء أو أقل فهو كدم متصل، ومتى كان الطهر أكثر من الدمين ففصل بينهما اعتبر كل واحد من الدمين بنفسه، فإن كان الأول منهما ثلاثة أيام فإنه يكون حيضا، وكذلك إن لم يكن الأول ثلاثا وكان الآخر منهما ثلاثا
(1/418)
 
 
باب الإيلاء
قال الله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} قال أبو بكر: الإيلاء في اللغة هو الحلف يقولون: آلى يؤلي إيلاء وألية; قال كثير:
قليل الألايا حافظ ليمينه ... وإن بدرت منه الألية برت
فهذا أصله في اللغة. وقد اختص في الشرع بالحلف على ترك الجماع الذي يكسب الطلاق بمضي المدة، حتى إذا قيل آلى فلان من امرأته عقل به ذلك.
وقد اختلف فيما يكون به موليا على وجوه: أحدها: ما روي عن علي وابن عباس رواية الحسن وعطاء: أنه إذا حلف أن لا يقربها لأجل الرضاع لم يكن موليا، وإنما
(1/430)
 
 
باب الأقراء
قال الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} اختلف السلف في المراد بالقرء المذكور في هذه الآية، فقال علي وعمر وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبو موسى: هو الحيض وقالوا: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. وروى وكيع عن عيسى الحافظ عن الشعبي عن ثلاثة عشر رجلا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الخبر فالخبر، منهم أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس، قالوا: الرجل أحق بامرأته ما لم
(1/440)
 
 
باب حق الزوج على المرأة وحق المرأة على الزوج
قال الله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} قال أبو بكر رحمه الله: أخبر الله تعالى في هذه الآية أن لكل واحد من الزوجين على صاحبه حقا، وأن الزوج مختص بحق له عليها ليس لها عليه مثله بقوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} ولم يبين في هذه الآية ما لكل واحد منهما على صاحبه من الحق مفسرا، وقد بينه في غيرها وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمما بينه الله تعالى من حق المرأة عليه قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: 19] وقوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} وقال تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} وقال تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} [النساء: 34] وكانت هذه النفقة من حقوقها عليه. وقال تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} [النساء: 4] فجعل من حقها عليه أن يوفيها صداقها، وقال تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} [النساء: 20] فجعل من حقها عليه أن لا يأخذ مما أعطاها شيئا إذا أراد فراقها وكان النشوز من قبله; لأن ذكر الاستبدال يدل على ذلك. وقال تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة} [النساء: 129] فجعل من حقها عليه ترك إظهار الميل إلى غيرها; وقد دل ذلك على أن من حقها القسم بينها وبين سائر نسائه; لأن فيه ترك إظهار الميل إلى غيرها، ويدل عليه أن عليه وطأها بقوله تعالى: {فتذروها كالمعلقة} [النساء: 129] يعني: لا فارغة فتتزوج ولا ذات زوج; إذ لم يوفها حقها من الوطء، ومن حقها أن لا يمسكها ضرارا على ما تقدم من بيانه. وقوله تعالى: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف} إذا كان خطابا للزوج فهو يدل على أن من حقها إذا لم يمل إليها أن لا يعضلها عن غيره بترك طلاقها. فهذه كلها من حقوق المرأة على الزوج، وقد انتظمت هذه الآيات إثباتها لها.
ومما بين الله من حق الزوج على المرأة قوله تعالى: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} [النساء: 34] فقيل فيه: "حفظ مائه في رحمها ولا تحتال في إسقاطه" ويحتمل: حفظ فراشها عليه، ويحتمل: حافظات لما في بيوتهن من مال
(1/453)
 
 
باب عدد الطلاق
قال الله عز وجل: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} قال أبو بكر: قد ذكرت في معناه وجوه: أحدها أنه بيان للطلاق الذي تثبت معه الرجعة، يروى ذلك عن عروة بن الزبير وقتادة. والثاني: أنه بيان لطلاق السنة المندوب إليه، ويروى ذلك عن ابن عباس ومجاهد. والثالث: أنه أمر بأنه إذا أراد أن يطلقها ثلاثا فعليه تفريق الطلاق، فيتضمن الأمر بالطلاق مرتين ثم ذكر بعدهما الثالثة. قال أبو بكر: فأما قول من قال: إنه بيان لما يبقى معه الرجعة من الطلاق; فإنه وإن ذكر معه الرجعة عقيبه فإن ظاهره يدل على أنه قصد به بيان المباح منه وأما ما عداه فمحظور، وبين مع ذلك حكمه إذا أوقعه على الوجه المأمور به بذكر الرجعة عقيبه. والدليل على أن المقصد فيه الأمر بتفريق الطلاق وبيان حكم ما يتعلق بإيقاع ما دون الثلاث من الرجعة، أنه قال: {الطلاق مرتان} وذلك يقتضي التفريق لا محالة; لأنه لو طلق اثنتين معا لما جاز أن يقال طلقها مرتين، كذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال أعطاه مرتين; حتى يفرق الدفع، فحينئذ يطلق عليه. وإذا كان هذا هكذا، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلق بالتطليقتين من بقاء الرجعة، لأدى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرتين; إذ كان هذا الحكم ثابتا في المرة الواحدة إذا طلق اثنتين، فثبت بذلك أن ذكره للمرتين إنما هو أمر بإيقاعه مرتين ونهي عن الجمع بينهما في مرة واحدة. ومن جهة أخرى أنه لو كان اللفظ محتملا للأمرين لكان الواجب حمله على إثبات الحكم في إيجاب الفائدتين، وهو الأمر بتفريق الطلاق متى أراد أن يطلق اثنتين وبيان حكم الرجعة إذا طلق كذلك، فيكون اللفظ مستوعبا للمعنيين. وقوله تعالى: {الطلاق مرتان} وإن كان ظاهره الخبر فإن معناه الأمر، كقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} {والوالدات يرضعن أولادهن} وما جرى هذا المجرى مما هو في صيغة الخبر
(1/458)
 
 
باب ذكر الاختلاف في الطلاق بالرجال
قال أبو بكر رحمه الله: اتفق السلف ومن بعدهم من فقهاء الأمصار على أن الزوجين المملوكين خارجان من قوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} واتفقوا على أن الرق يوجب نقصان الطلاق، فقال علي وعبد الله: الطلاق بالنساء يعني أن المرأة إن كانت حرة فطلاقها ثلاث حرا كان زوجها أو عبدا، وأنها إن كانت أمة فطلاقها اثنتان حرا كان زوجها أو عبدا; وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومحمد والثوري والحسن بن صالح. وقال عثمان وزيد بن ثابت وابن عباس: الطلاق بالرجال يعنون أن الزوج إن كان عبدا فطلاقه اثنتان سواء كانت الزوجة حرة أو أمة، وإن كان حرا فطلاقه ثلاث حرة كانت الزوجة أو أمة; وهو قول مالك والشافعي. وقال ابن عمر: أيهما رق نقص الطلاق برقه وهو قول عثمان البتي. وقد روى هشيم عن منصور بن زاذان عن عطاء عن ابن عباس قال: الأمر إلى المولى في الطلاق أذن له العبد أو لم يأذن ويتلو هذه الآية {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء} [النحل: 75] روى هشام عن أبي الزبير عن أبي معبد مولى ابن عباس، أن غلاما كان لابن عباس طلق امرأته تطليقتين، فقال له ابن عباس: ارجعها لا أم لك فإنه ليس لك من الأمر شيء. فأبى، فقال: هي لك فاتخذها. فهذا يدل على أنه رأى طلاقه واقعا لولاه لم يقل له ارجعها وقوله: هي لك يدل على أنها كانت أمة. وجائز أن يكون الغلام حرا;
(1/466)
 
 
ذكر الحجاج لإيقاع الطلاق الثلاث معا
قال أبو بكر: قوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} الآية، يدل على وقوع الثلاث معا مع كونه منهيا عنها، وذلك; لأن قوله: {الطلاق مرتان} قد أبان عن حكمه إذا أوقع اثنتين بأن يقول أنت طالق أنت طالق في طهر واحد; وقد
(1/467)
 
 
باب الخلع
قال الله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} فحظر على الزوج بهذه الآية أن يأخذ منها شيئا مما أعطاها إلا على الشريطة المذكورة، وعقل بذلك أنه غير جائز له أخذ ما لم يعطها وإن كان المذكور هو ما أعطاها، كما أن قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23] قد دل على حظر ما فوقه من ضرب أو شتم. وقوله تعالى: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} قال طاوس: يعني فيما افترض على كل واحد منهما في العشرة والصحبة. وقال القاسم بن محمد مثل ذلك. وقال الحسن: هو أن تقول المرأة: والله لا أغتسل لك من جنابة. وقال أهل اللغة: إلا أن يخافا معناه: إلا أن يظنا. وقال أبو محجن الثقفي، أنشده الفراء رحمه الله تعالى:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالعراء فإنني أخاف ... إذا ما مت أن لا أذوقها
وقال آخر:
أتاني كلام عن نصيب يقوله ... وما خفت يا سلام أنك عائبي
يعني: ما ظننت.
وهذا الخوف من ترك إقامة حدود الله على وجهين: إما أن يكون أحدهما سيئ
(1/473)
 
 
ذكر اختلاف السلف وسائر فقهاء الأمصار فيما يحل أخذه بالخلع
روي عن علي: أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاوس وسعيد بن جبير. وروي عن عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس ومجاهد وإبراهيم والحسن رواية أخرى: أنه جائز له أن يخلعها على أكثر مما أعطاها ولو بعقاصها. وقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد: إذا كان النشوز من قبلها حل له أن يأخذ منها ما أعطاها ولا يزداد، وإن كان النشوز من قبله لم يحل له أن يأخذ منها شيئا، فإن فعل جاز في القضاء. وقال ابن شبرمة: تجوز المبارأة إذا كانت من غير إضرار منه، وإن كانت على إضرار منه لم تجز. وقال ابن وهب عن مالك: إذا علم أن زوجها أضر بها وضيق عليها وأنه ظالم لها قضى عليها الطلاق ورد عليها مالها. وذكر ابن القاسم عن مالك أنه جائز للرجل أن يأخذ منها في الخلع أكثر مما أعطاها ويحل له، وإن كان النشوز من قبل الزوج حل له أن يأخذ ما أعطته على الخلع إذا رضيت بذلك، ولم يكن في ذلك ضرر منه لها وعن الليث نحو ذلك. وقال الثوري: إذا كان الخلع من قبلها فلا بأس أن يأخذ منها شيئا، وإذا كان من قبله فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا. وقال الأوزاعي في رجل خالع امرأته وهي مريضة: إن كانت ناشزة كان في ثلثها، وإن لم تكن ناشزة رد عليها وكانت له عليها الرجعة، وإن خالعها قبل أن يدخل بها على جميع ما أصدقها ولم يتبين منها نشوز أنهما إذا اجتمعا على فسخ النكاح قبل أن يدخل بها، فلا أرى بذلك بأسا. وقال الحسن بن حي: إذا كانت الإساءة من قبله فليس له أن يخلعها بقليل ولا كثير، وإذا كانت الإساءة من قبلها والتعطيل لحقه كان له أن يخالعها على ما تراضيا عليه وكذلك قول عثمان البتي. وقال الشافعي: إذا كانت المرأة مانعة ما يجب عليها لزوجها حلت الفدية للزوج، وإذا حل له أن يأكل ما طابت به نفسا على غير فراق حل له أن يأكل ما طابت به نفسا وتأخذ الفراق به.
(1/475)
 
 
باب المضارة في الرجعة
قال الله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} . قال أبو بكر: المراد بقوله: {فبلغن أجلهن} مقاربة البلوغ والإشراف عليه لا حقيقته; لأن الأجل المذكور هو العدة، وبلوغه هو انقضاؤها، ولا رجعة بعد انقضاء العدة. وقد عبر عن العدة بالأجل في مواضع، منها قوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} ومعناه معنى ما ذكر في هذه الآية; وقال تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4] وقال: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن} وقال: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} فكان المراد بالآجال المذكورة في هذه الآي هي العدد; ولما ذكره الله تعالى في قوله: {فإذا بلغن أجلهن} والمراد مقاربته دون انقضائه; ونظائره كثيرة في القرآن واللغة، قال الله تعالى: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] ومعناه: إذا أردتم الطلاق وقاربتم أن تطلقوا فطلقوا للعدة; وقال تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} [النحل: 98] معناه: إذا أردت قراءته; وقال: {وإذا قلتم فاعدلوا} [الأنعام: 152] وليس المراد العدل بعد القول، ولكن قبله، يعزم على أن لا يقول إلا عدلا. فعلى هذا ذكر بلوغ الأجل وأراد به مقاربته دون وجود نهايته; وإنما ذكر مقاربة البلوغ عند الأمر بالإمساك بالمعروف وإن كان عليه ذلك في سائر أحوال بقاء النكاح; لأنه قرن إليه التسريح وهو انقضاء العدة، وجمعهما في الأمر والتسريح إنما له حال واحد ليس يدوم، فخص حال بلوغ الأجل بذلك لينتظم المعروف الأمرين جميعا.
(1/481)
 
 
باب النكاح بغير ولي
قال الله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} الآية. قوله تعالى: {فبلغن أجلهن} المراد حقيقة البلوغ بانقضاء العدة. والعضل يعتوره معنيان: أحدهما: المنع، والآخر الضيق; يقال: "عضل الفضاء بالجيش" إذا ضاق بهم، والأمر المعضل هو الممتنع، وداء عضال: ممتنع. وفي التضييق يقال: "عضلت عليهم الأمر" إذا ضيقت، و "عضلت المرأة بولدها" إذا عسر ولادها، وأعضلت; والمعنيان متقاربان; لأن الأمر الممتنع يضيق فعله وزواله والضيق ممتنع أيضا. وروي أن الشعبي سئل عن مسألة صعبة فقال: "زباء ذات وبر لا تنساب ولا تنقاد، ولو نزلت بأصحاب محمد لأعضلت بهم". وقوله تعالى: {فلا تعضلوهن} معناه: لا تمنعوهن أو لا تضيقوا عليهن في التزويج.
وقد دلت هذه الآية من وجوه على جواز النكاح إذا عقدت على نفسها بغير ولي ولا
(1/483)
 
 
ذكر الاختلاف في ذلك
اختلف الفقهاء في عقد المرأة على نفسها بغير ولي، فقال أبو حنيفة: "لها أن تزوج نفسها كفوا وتستوفي المهر ولا اعتراض للولي عليها" وهو قول زفر "وإن زوجت نفسها غير كفو فالنكاح جائز أيضا وللأولياء أن يفرقوا بينهما". وروي عن عائشة أنها زوجت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر من المنذر بن الزبير وعبد الرحمن غائب; فهذا يدل على أن من مذهبهما جواز النكاح بغير ولي، وهو قول محمد بن سيرين والشعبي والزهري وقتادة. وقال أبو يوسف: "لا يجوز النكاح بغير ولي، فإن سلم الولي جاز، وإن أبى أن يسلم والزوج كفو أجازه القاضي" وإنما يتم النكاح عنده حين يجيزه القاضي; وهو قول محمد. وقد روي عن أبي يوسف غير ذلك، والمشهور عنه ما ذكرناه. وقال الأوزاعي: "إذا ولت أمرها رجلا فزوجها كفوا فالنكاح جائز، وليس للولي أن يفرق بينهما". وقال ابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح والشافعي: "لا نكاح إلا بولي". وقال ابن شبرمة: "لا يجوز النكاح إلا بولي، وليس الوالدة بولي ولا أن تجعل المرأة وليها رجلا إلا قاض من قضاة المسلمين". وقال ابن القاسم عن مالك: "إذا كانت امرأة معتقة أو مسكينة أو دنية لا خطر لها، فلا بأس أن تستخلف رجلا ويزوجها، ويجوز". وقال مالك: "وكل امرأة لها مال وغنى وقدر فإن تلك لا ينبغي أن يزوجها إلا الأولياء أو السلطان" قال: وأجاز مالك للرجل أن يزوج المرأة وهو من فخذها وإن كان غيره أقرب منه إليها. وقال الليث في المرأة تزوج بغير ولي: "إن غيره أحسن منه يرفع أمرها إلى السلطان، فإن كان كفؤا أجازه ولم يفسخه" وذلك في الثيب، وقال في السوداء تزوج بغير ولي: "إنه جائز"، قال: "والبكر إذا زوجها غير ولي والولي قريب حاضر فهذا الذي أمره إلى الولي يفسخه له السلطان إن رأى لذلك وجها، والولي من قبل هذا أولى من الذي أنكحها".
قال أبو بكر: وجميع ما قدمنا من دلائل الآي الموجبة لجواز عقدها تقضي بصحة قول أبي حنيفة في هذه المسألة; ومن جهة السنة حديث ابن عباس، حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر، عن صالح بن كيسان، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس، أن رسول الله
(1/485)
 
 
باب الرضاع
قال الله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} الآية. قال أبو بكر: ظاهره الخبر، ولكنه معلوم من مفهوم الخطاب أنه لم يرد به الخبر; لأنه لو كان خبرا لوجد مخبره، فلما كان في الوالدات من لا يرضع علم أنه لم يرد به الخبر. ولا خلاف أيضا في أنه لم يرد به الخبر. وإذا لم يكن المراد حقيقة اللفظ الذي هو الخبر، لم يخل من أن يكون المراد إيجاب الرضاع على الأم وأمرها به; إذ قد يرد الأمر في صيغة الخبر، كقوله: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ، وأن يريد به إثبات حق الرضاع للأم وإن أبى الأب، أو تقدير ما يلزم الأب من نفقة الرضاع فلما قال في آية أخرى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق: 6] وقال تعالى: {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} دل ذلك على أنه ليس المراد الرضاع شاءت الأم أو أبت، وأنها مخيرة في أن ترضع أو لا ترضع; فلم يبق إلا الوجهان الآخران، وهو أن الأب إذا أبى استرضاع الأم أجبر عليه، وأن أكثر ما يلزمه في نفقة الرضاع للحولين، فإن أبى أن ينفق نفقة الرضاع أكثر منهما لم يجبر عليه. ثم لا يخلو بعد ذلك قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن} من أن يكون عموما في سائر الأمهات مطلقات كن أو غير مطلقات، أو أن يكون معطوفا على ما تقدم ذكره من المطلقات مقصور الحكم عليهن، فإن كان المراد سائر الأمهات المطلقات منهن والمزوجات فإن النفقة الواجبة للمزوجات منهن هي نفقة الزوجية وكسوتها لا للرضاع; لأنها لا تستحق نفقة الرضاع مع بقاء الزوجية، فتجتمع لها نفقتان إحداهما للزوجية والأخرى للرضاع; وإن كانت مطلقة فنفقة الرضاع أيضا مستحقة بظاهر الآية; لأنه أوجبها بالرضاع، وليست في هذه الحال زوجة ولا معتدة منه; لأنه يكون معطوفا على قوله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} فتكون منقضية العدة بوضع الحمل، وتكون النفقة المستحقة أجرة الرضاع; وجائز أن يكون طلقها بعد الولادة، فتكون عليها العدة بالحيض.
وقد اختلفت الرواية عن أصحابنا في وجوب نفقة الرضاع ونفقة العدة معا، ففي إحدى الروايتين أنها تستحقهما معا، وفي الأخرى أنها لا تستحق للرضاع شيئا مع نفقة العدة.
فقد حوت الآية الدلالة على معنيين: أحدهما: أن الأم أحق برضاع ولدها في
(1/488)
 
 
ذكر اختلاف الفقهاء في وقت الرضاع
قال أبو بكر: قد كان بين السلف اختلاف في رضاعة الكبير، فروي عن عائشة أنها كانت ترى رضاع الكبير موجبا للتحريم كرضاع الصغير، وكانت تروي في ذلك حديث سالم مولى أبي حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسهلة بنت سهيل وهي امرأة أبي حذيفة: "أرضعيه خمس رضعات ثم يدخل عليك" وكانت عائشة إذا أرادت أن يدخل عليها رجل أمرت أختها أم كلثوم أن ترضعه خمس رضعات ثم يدخل عليها بعد ذلك; وأبى سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقلن: لعل هذه كانت رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده. وقد روي أن سهلة بنت سهيل قالت: يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم علي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة". فيحتمل أن يكون ذلك خاصا لسالم كما تأوله سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم كما خص أبا زياد بن دينار بالجذعة في الأضحية وأخبر أنها لا تجزي عن أحد بعده. وقد روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن رضاع الكبير لا يحرم، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن كثير قال: أخبرنا سفيان عن أشعث بن سليم عن أبيه عن مسروق عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل فقالت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة، فقال صلى الله عليه وسلم: "انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة". فهذا يوجب أن يكون حكم الرضاع مقصورا على حال الصغر وهي الحال التي يسد اللبن فيها جوعته ويكتفي في غذائه به. وقد روي عن أبي موسى أنه كان يرى رضاع الكبير; وروي عنه ما يدل على رجوعه، وهو ما روى أبو حصين عن أبي عطية قال: قدم رجل بامرأته من المدينة، فوضعت فتورم ثديها، فجعل يمجه ويصبه، فدخل في بطنه جرعة منه، فسأل أبا موسى فقال: "بانت منك" فأتى ابن مسعود فأخبره ففصل، فأقبل بالأعرابي إلى الأشعري فقال:
(1/496)
 
 
ذكر عدة المتوفى عنها زوجها
قال الله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} والتربص بالشيء الانتظار به، قال الله تعالى: {فتربصوا به حتى حين} [المؤمنون: 25] وقال تعالى: {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر} [التوبة: 98] يعني ينتظر، وقال تعالى: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} [الطور: 30] فأمرهن الله تعالى بأن يتربصن بأنفسهن هذه المدة عن الأزواج. ألا ترى أنه عقبه بقوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن} ؟ وقد كانت عدة المتوفى عنها زوجها سنة، بقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج} [البقرة: 240] فتضمنت هذه الآية أحكاما: منها توقيت العدة سنة، ومنها: أن نفقتها وسكناها كانت في تركة زوجها ما دامت معتدة بقوله تعالى: {وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول} . ومنها: أنها كانت ممنوعة من الخروج في هذه السنة فنسخ منها من المدة ما زاد على أربعة أشهر وعشرا، ونسخ أيضا وجوب نفقتها وسكناها في التركة بالميراث لقوله تعالى: {أربعة أشهر وعشرا} من غير إيجاب نفقة ولا سكنى، ولم يثبت نسخ الإخراج، فالمنع من الخروج في العدة الثانية قائم; إذ لم يثبت نسخه. وقد حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج، وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في هذه الآية يعني قوله تعالى: {وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج} [البقرة: 240] قال: كان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها سنة، فنسختها آية المواريث، فجعل لهن الربع أو الثمن مما ترك الزوج قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث إلا أن يرضى
(1/501)
 
 
ذكر الاختلاف في خروج المعتدة من بيتها
قال أصحابنا: لا تنتقل المبتوتة ولا المتوفى عنها زوجها عن بيتها الذي كانت تسكنه، وتخرج المتوفى عنها زوجها بالنهار ولا تبيت في غير منزلها، ولا تخرج المطلقة ليلا ولا نهارا إلا من عذر; وهو قول الحسن. وقال مالك: "لا تنتقل المطلقة المبتوتة ولا الرجعية ولا المتوفى عنها، ولا يخرجن بالنهار، ولا يبتن عن بيوتهن". وقال الشافعي: "ولم يكن الإحداد في سكنى البيوت فتسكن المتوفى عنها زوجها أي بيت كانت فيه جيدا أو رديا، وإنما الإحداد في الزينة".
قال أبو بكر: أما المطلقة فلقوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق: 1] فحظر خروجها وإخراجها في العدة إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، وذلك ضرب من العذر، فأباح خروجها لعذر. وقد اختلف في الفاحشة المذكورة في هذه الآية، وسنذكرها في موضعها إن شاء الله. وأما المتوفى عنها زوجها فإن الله تعالى قال في العدة الأولى: {متاعا إلى الحول غير إخراج} ثم نسخ منها ما زاد على الأربعة الأشهر والعشر، فبقي حكم هذه العدة الثانية على ما كان عليه من ترك الخروج; إذ لم يرد لها نسخ وإنما النسخ فيما زاد.
وقد وردت السنة بمثل ما دل عليه الكتاب، حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن مالك عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها قتله عبد له، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1/506)
 
 
ذكر إحداد المتوفى عنها زوجها
روي عن جماعة من الصحابة أن عليها اجتناب الزينة والطيب، منهم عائشة وأم سلمة وابن عمر وغيرهم، ومن التابعين سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار، وحكاه عن فقهاء المدينة; وهو قول أصحابنا وسائر فقهاء الأمصار لا خلاف بينهم فيه. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم; حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا القعنبي، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة أنها أخبرته بهذه الأحاديث قالت زينب: دخلت على أم حبيبة حين توفي أبوها أبو سفيان، فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره، فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها، ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" قالت زينب: ودخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها، فدعت بطيب فمست منه ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وهو على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" قالت زينب: وسمعت أمي أم سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا" مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول لا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول" قال حميد: فقلت لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره. فحظر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الاكتحال في العدة، وأخبر بالعدة التي كانت تعتد إحداهن وما تجتنبه من الزينة والطيب، ثم قال: "إنما هي أربعة أشهر وعشر" فدل بذلك على أن هذه العدة معتد بها العدة التي كانت سنة في اجتناب الطيب والزينة.
(1/508)
 
 
باب التعريض بالخطبة في العدة
قال الله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في
(1/510)
 
 
باب متعة المطلقة
قال الله عز وجل: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن} تقديره: ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة; ألا ترى أنه عطف عليه قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} فلو كان الأول بمعنى: ما لم تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة أو لم تفرضوا; لما عطف عليها المفروض لها، فدل ذلك على أن معناه: "ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة" وقد تكون "أو" بمعنى "الواو" قال الله تعالى: {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} [الإنسان: 24] معناه: "ولا كفورا". وقال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط} [النساء: 43] والمعنى: "وجاء أحد منكم من الغائط وأنتم مرضى ومسافرون". وقال تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} [الصافات: 147] معناه: "ويزيدون" فهذا موجود في اللغة وهي في النفي أظهر في دخولها عليه أنها بمعنى الواو منه ما قدمنا من قوله تعالى: {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} [الإنسان: 24] معناه: "ولا كفورا" لدخولها على النفي. وقال تعالى: {حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم} [الأنعام: 146] "أو" في هذه المواضع بمعنى الواو، فوجب على هذا أن يكون قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} لما دخلت على النفي أن تكون بمعنى الواو، فيكون شرط وجوب المتعة المعنيين جميعا من عدم المسيس والتسمية جميعا بعد الطلاق. وهذه الآية تدل على أن للرجل أن يطلق امرأته قبل الدخول بها في الحيض، وأنها ليست كالمدخول بها، لإطلاقه إباحة الطلاق من غير تفصيل منه بحال الطهر دون الحيض.
وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار في وجوب المتعة، فروي عن علي أنه قال: "لكل مطلقة متعة"، وعن الزهري مثله. وقال ابن عمر: "لكل مطلقة متعة إلا التي تطلق وقد فرض لها صداق ولم تمس فحسبها نصف ما فرض لها"، وروي عن القاسم بن محمد مثله. وقال شريح وإبراهيم والحسن: "تخير التي تطلق قبل الدخول ولم يفرض على المتعة". وقال شريح وقد سألوه في متاع فقال: "لا نأبى أن نكون من المتقين" فقال: إني محتاج، فقال: "لا نأبى أن نكون من المحسنين". وقد روي عن الحسن وأبي العالية: "لكل مطلقة متاع". وسئل سعيد بن جبير عن المتعة على الناس كلهم؟ فقال: "لا، على المتقين". وروى ابن أبي الزناد عن أبيه في كتاب البيعة: "وكانوا لا يرون
(1/518)
 
 
ذكر تقدير المتعة الواجبة
قال الله تعالى: {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف} وإثبات المقدار على اعتبار حاله في الإعسار واليسار طريقه الاجتهاد وغالب الظن، ويختلف ذلك في الأزمان أيضا; لأن الله تعالى شرط في مقدارها شيئين: أحدهما: اعتبارها بيسار الرجل وإعساره، والثاني: أن يكون بالمعروف مع ذلك; فوجب اعتبار المعنيين في ذلك. فإذا كان كذلك وكان المعروف منهما موقوفا على عادات الناس فيها والعادات قد تختلف وتتغير، وجب بذلك مراعاة العادات في الأزمان وذلك أصل في جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث; إذ كان ذلك حكما مؤديا إلى اجتهاد رأينا. وقد ذكرنا أن شيخنا أبا الحسن رحمه الله يقول: "يجب مع ذلك اعتبار حال المرأة أيضا" وذكر ذلك أيضا علي بن موسى القمي في كتابه، واحتج بأن الله تعالى علق الحكم في تقدير المتعة بشيئين: حال الرجل بيساره وإعساره، وأن يكون مع ذلك بالمعروف. قال: فلو اعتبرنا حال الرجل وحده عاريا من اعتبار حال المرأة، لوجب أن يكون لو تزوج امرأتين إحداهما شريفة والأخرى دنية مولاة ثم طلقهما قبل الدخول ولم يسم لهما أن تكونا متساويتين في المتعة، فتجب لهذه الدنية كما تجب لهذه الشريفة; وهذا منكر في عادات الناس وأخلاقهم غير معروف. قال: ويفسد من وجه آخر قول من اعتبر حال الرجل وحده دونها، وهو أنه لو كان رجلا موسرا عظيم الشأن فتزوج امرأة دنية مهر مثلها دينار، أنه لو دخل بها وجب لها مهر مثلها; إذ لم يسم لها شيئا دينار واحد، ولو طلقها قبل الدخول لزمته المتعة على قدر حاله، وقد يكون ذلك أضعاف مهر مثلها، فتستحق قبل الدخول بعد الطلاق أكثر مما تستحقه بعد الدخول. وهذا خلف من القول; لأن الله تعالى قد أوجب للمطلقة قبل الدخول نصف ما أوجبه لها بعد الدخول، فإذا كان القول باعتبار حال الرجل دونها يؤدي إلى مخالفة معنى. الكتاب ودلالته وإلى خلاف المعروف في العادات سقط ووجب اعتبار حالها معه. ويفسد أيضا من وجه آخر: وهو أنه لو تزوج رجلان موسران أختين فدخل أحدهما: بامرأته كان لها مهر مثلها ألف درهم، إذ لم يسم لها مهرا; وطلق الآخر امرأته قبل الدخول من غير تسمية أن تكون المتعة لها على قدر حال الرجل، وجائز أن يكون ذلك أضعاف مهر أختها فيكون ما تأخذه المدخول بها أقل مما تأخذه المطلقة، وقيمة البضعين واحدة وهما متساويتان في المهر، فيكون الدخول مدخلا عليها ضررا ونقصانا في البدل; وهذا منكر غير معروف. فهذه الوجوه كلها تدل على اعتبار حال المرأة معه.
وقد قال أصحابنا: إنه إذا طلقها قبل الدخول ولم يسم لها وكانت متعتها أكثر من
(1/525)
 
 
ذكر اختلاف أهل العلم في الطلاق بعد الخلوة
قال أبو بكر: تنازع أهل العلم في معنى قوله: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} واختلفوا في المسيس المراد بالآية، فروي عن علي وعمر وابن عمر وزيد بن ثابت: "إذا أغلق بابا وأرخى سترا ثم طلقها فلها جميع المهر". وروى سفيان الثوري عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال: "لها الصداق كاملا" وهو قول علي بن الحسين وإبراهيم في آخرين من التابعين. وروى فراس عن الشعبي عن ابن مسعود قال: "لها نصف الصداق وإن قعد بين رجليها"، والشعبي عن ابن مسعود مرسل; وروي عن شريح مثل قول ابن مسعود. وروى سفيان الثوري عن عمر عن عطاء عن ابن عباس: "إذا فرض الرجل قبل أن يمس فليس لها إلا المتاع". فمن الناس من ظن أن قوله في هذا كقول عبد الله بن مسعود، وليس كذلك; لأن قوله "فرض" يعني أنه لم يسم لها مهرا، وقوله "قبل أن يمس" يريد قبل الخلوة; لأنه قد تأوله على الخلوة في حديث طاوس عنه، فأوجب لها المتعة قبل الخلوة.
واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: "الخلوة الصحيحة تمنع سقوط شيء من المهر بعد الطلاق وطئ أو لم يطأ; وهي أن لا يكون أحدهما محرما أو مريضا أو لم تكن حائضا أو صائمة في رمضان أو رتقاء، فإنه إن كان كذلك ثم طلقها وجب لها نصف المهر إذا لم يطأها، والعدة واجبة في هذه الوجوه كلها إن طلقها فعليها العدة". وقال سفيان الثوري: "لها المهر كاملا إذا خلا بها ولم يدخل بها إذا جاء ذلك من قبله، وإن كانت رتقاء فلها نصف المهر". وقال مالك: "إذا خلا بها وقبلها وكشفها إن كان ذلك قريبا فلا أرى لها إلا نصف المهر، وإن تطاول ذلك فلها المهر إلا أن تضع له ما شاءت". وقال الأوزاعي: "إذا تزوج امرأة فدخل بها عند أهلها قبلها ولمسها ثم طلقها ولم يجامعها، أو أرخى عليها سترا أو أغلق بابا فقد تم الصداق". وقال الحسن بن صالح: "إذا خلا بها فلها نصف المهر; إذ لم يدخل بها، وإن ادعت الدخول بعد الخلوة فالقول قولها بعد الخلوة". وقال الليث: "إذا أرخى عليها سترا
(1/529)
 
 
باب الصلاة الوسطى وذكر الكلام في الصلاة
قال الله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} فيه أمر بفعل الصلاة وتأكيد وجوبها بذكر المحافظة، وهي الصلوات الخمس المكتوبات المعهودات في اليوم والليلة وذلك لدخول الألف واللام عليها إشارة بها إلى معهود. وقد انتظم ذلك القيام بها واستيفاء فروضها وحفظ حدودها وفعلها في مواقيتها وترك التقصير فيها; إذ كان الأمر بالمحافظة يقتضي ذلك كله. وأكد الصلاة الوسطى بإفرادها بالذكر مع ذكره سائر الصلوات، وذلك يدل على معنيين: إما أن تكون أفضل الصلوات وأولاها بالمحافظة عليها فلذلك أفردها بالذكر عن الجملة، وإما أن تكون المحافظة عليها أشد من المحافظة على غيرها. وقد روي في ذلك روايات مختلفة يدل بعضها على الوجه الأول وبعضها على الوجه الثاني، فمنها ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال: هي الظهر; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالهجير ولا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان والناس في قائلتهم وتجارتهم، فأنزل الله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} وفي بعض ألفاظ الحديث: "فكانت أثقل الصلوات على الصحابة فأنزل الله تعالى ذلك". قال زيد بن
(1/536)
 
 
باب الفرار من الطاعون
قال الله تعالى: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} قال ابن عباس: "كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون فماتوا فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم الله". وروي عن الحسن أيضا أنهم فروا من الطاعون. وقال عكرمة: "فروا من القتال". وهذا يدل على أن الله تعالى كره فرارهم من الطاعون; وهو نظير قوله تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} [النساء: 78] وقوله تعالى: {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم} [الجمعة: 8] وقوله تعالى: {قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل} [الأحزاب: 16] وقوله تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [الأعراف: 34] . وإذا كانت الآجال موقتة محصورة لا يقع فيها تقديم ولا تأخير عما قدرها الله عليه، فالفرار من الطاعون عدول عن مقتضى ذلك; وكذلك الطيرة والزجر والإيمان بالنجوم، كل ذلك فرار من قدر الله عز وجل الذي لا محيص لأحد عنه.
وقد روي عن عمرو بن جابر الحضرمي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف". وروى يحيى بن أبي كثير عن سعيد بن المسيب عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا عدوى ولا طيرة، وإن تكن الطيرة في شيء فهي في الفرس والمرأة والدار، وإذا سمعتم بالطاعون
(1/545)
 
 
باب الامتنان بالصدقة
قال الله تعالى: {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى} الآية، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس} وقال تعالى: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى} وقال تعالى: {وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} [الروم: 39] أخبر الله تعالى في هذه الآيات أن الصدقات إذا لم تكن خالصة لله عارية من من وأذى فليست بصدقة; لأن إبطالها هو إحباط ثوابها فيكون فيها بمنزلة من لم يتصدق; وكذلك سائر ما يكون سبيله وقوعه على وجه القربة إلى الله تعالى، فغير جائز أن يشوبه رياء ولا وجه غير القربة، فإن ذلك يبطله كما قال تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد: 33] وقال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} [البينة: 5] فما لم يخلص لله تعالى من القرب فغير مثاب عليه فاعله. ونظيره أيضا قوله تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} [الشورى: 20] ومن أجل ذلك قال أصحابنا: "لا يجوز الاستئجار على الحج وفعل الصلاة وتعليم القرآن وسائر الأفعال التي شرطها أن تفعل على وجه القربة; لأن أخذ الأجر عليها يخرجها عن أن تكون قربة لدلائل هذه الآيات ونظائرها". وروى عمرو عن الحسن في قوله تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} قال: هو المتصدق يمن بها، فنهاه الله عن ذلك وقال: ليحمد الله إذ هداه للصدقة. وعن الحسن في قوله تعالى: {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم} قال: "يتثبتون أين يضعون أموالهم" وعن الشعبي قال: "تصديقا ويقينا من أنفسهم". وقال قتادة: "ثقة من أنفسهم". والمن في الصدقة أن يقول المتصدق: قد أحسنت إلى فلان ونعشته وأغنيته; فذلك ينغصها على المتصدق بها عليه. والأذى قوله: أنت أبدا فقير وقد بليت بك وأراحني الله منك; ونظيره من القول الذي فيه تعيير له بالفقر فقال تعالى: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى} يعني والله أعلم: ردا جميلا ومغفرة قيل فيها ستر الخلة على السائل، وقيل العفو عمن ظلمه خير من صدقة يتبعها أذى; لأنه يستحق المأثم بالمن والأذى ورد السائل بقول جميل فيه السلامة من المعصية; فأخبر الله تعالى أن ترك الصدقة برد جميل
(1/553)
 
 
باب المكاسبة
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} . فيه إباحة المكاسب وإخبار أن فيها طيبا. والمكاسب وجهان: أحدهما: إبدال الأموال وإرباحها، والثاني إبدال المنافع. وقد نص الله تعالى على إباحتها في مواضع من كتابه، نحو قوله تعالى: {وأحل الله البيع} وقوله تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله} [المزمل: 20] وقال تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} [البقرة: 198] يعني، والله أعلم: من يتجر ويكري ويحج مع ذلك. وقال تعالى في إبدال المنافع: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق: 6] وقال شعيب عليه السلام: {قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج} [القصص: 27] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من استأجر أجيرا فليعلمه أجره" وقال صلى الله عليه وسلم: "لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه". وقد روى الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه". وقد روي عن جماعة من السلف في قوله تعالى: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم} أنه من التجارات، منهم الحسن ومجاهد.
وعموم هذه الآية يوجب الصدقة في سائر الأموال; لأن قوله تعالى: {ما كسبتم} ينتظمها، وإن كان غير مكتف بنفسه في المقدار الواجب فيها، فهو عموم في أصناف الأموال مجمل في المقدار الواجب فيها، فهو مفتقر إلى البيان; ولما ورد البيان من النبي صلى الله عليه وسلم بذكر مقادير الواجبات فيها صح الاحتجاج بعمومها في كل مال اختلفنا في إيجاب الحق فيه، نحو أموال التجارة.
ويحتج بظاهر الآية على من ينفي إيجاب الزكاة في العروض، ويحتج به أيضا في إيجاب صدقة الخيل وفي كل ما اختلف فيه من الأموال، وذلك; لأن قوله تعالى: {أنفقوا} المراد به الصدقة، والدليل عليه قوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} يعني: تتصدقون. ولم يختلف السلف والخلف في أن المراد به الصدقة. ومن أهل العلم من قال: إن هذا في صدقة التطوع; لأن الفرض إذا أخرج عنه الرديء كان الفضل باقيا في ذمته حتى يؤدى. وهذا عندنا يوجب صرف اللفظ عن الوجوب إلى النفل من وجوه:
(1/554)
 
 
باب إعطاء المشرك من الصدقة
قال تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} . قال أبو بكر: ما تقدم في هذا الخطاب وما جاء في نسقه يدل على أن قوله تعالى: {ليس عليك هداهم} إنما معناه في الصدقة عليهم; لأنه ابتدأ الخطاب بقوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي} عطف عليه قوله تعالى: {ليس عليك هداهم} ثم عقب ذلك بقوله تعالى: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} فدل ما تقدم من الخطاب في ذلك وتأخر عنه من ذكر الصدقات أن المراد إباحة الصدقة عليهم وإن لم يكونوا على دين الإسلام. وقد روي ذلك عن جماعة من السلف; روي عن جعفر بن أبي
(1/558)
 
 
مطلب في جواز الاستدلال بالسيما والأماراة
وهذا يدل على أن لما يظهر من السيما حظا في اعتبار حال من يظهر ذلك عليه،
(1/560)
 
 
باب الربا
قال الله تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} إلى قوله: {وأحل الله البيع وحرم الربا} وقال أبو بكر أصل الربا في اللغة هو الزيادة، ومنه الرابية لزيادتها على ما حواليها من الأرض، ومنه الربوة من الأرض وهي المرتفعة، ومنه قولهم "أربى فلان على فلان في القول أو الفعل" إذا زاد عليه. وهو في الشرع يقع على معان لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة; ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى النساء ربا في حديث أسامة بن زيد، فقال: "إنما الربا في النسيئة". وقال عمر بن الخطاب: "إن من الربا أبوابا لا تخفى منها السلم في السن" يعني الحيوان. وقال عمر أيضا: "إن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن، وإن النبي قبض قبل أن يبينه لنا، فدعوا الربا والريبة"، فثبت بذلك أن الربا قد صار اسما شرعيا; لأنه لو كان باقيا على حكمه في أصل اللغة لما خفي على عمر; لأنه كان عالما بأسماء اللغة; لأنه من أهلها. ويدل عليه أن العرب لم تكن تعرف بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة نساء ربا وهو ربا في الشرع، وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء المجملة المفتقرة إلى البيان، وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعان لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة، نحو الصلاة والصوم والزكاة; فهو مفتقر إلى البيان، ولا يصح الاستدلال بعمومه في تحريم شيء من العقود إلا فيما قامت دلالته أنه مسمى في الشرع بذلك. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا من مراد الله بالآية نصا وتوقيفا. ومنه ما بينه دليلا، فلم يخل مراد الله من أن يكون معلوما عند أهل العلم بالتوقيف والاستدلال.
والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان فرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به، ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد وإذا كان متفاضلا من جنس واحد. هذا كان المتعارف المشهور بينهم، ولذلك قال الله تعالى: {وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله} [الروم: 39] فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال العين; لأنه لا عوض لها من جهة المقرض.
(1/563)
 
 
ومن أبواب الربا الشرعي السلم في الحيوان
قال عمر: "إن من الربا أبوابا لا تخفى منها السلم في السن" ولم تكن العرب تعرف ذلك ربا، فعلم أنه قال ذلك توقيفا. فجملة ما اشتمل عليه اسم الربا في الشرع النساء والتفاضل على شرائط قد تقرر معرفتها عند الفقهاء. والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا، والشعير مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا" وذكر التمر والملح والذهب والفضة، فسمى الفضل في الجنس الواحد من المكيل والموزون ربا. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد الذي رواه عنه عبد الرحمن بن عباس: "إنما الربا في النسيئة" وفي بعض الألفاظ: "لا ربا إلا في النسيئة" فثبت أن اسم الربا في الشرع يقع على التفاضل تارة وعلى النساء أخرى. وقد كان ابن عباس يقول: "لا ربا إلا في النسيئة، ويجوز بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا" ويذهب فيه إلى حديث أسامة بن زيد; ثم لما تواتر عنده الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم التفاضل في الأصناف الستة رجع عن قوله. قال جابر بن زيد: رجع ابن عباس عن قوله في الصرف وعن قوله في المتعة. وإنما معنى حديث أسامة النساء في الجنسين، كما روى في حديث عبادة بن الصامت وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحنطة بالحنطة مثلا
(1/564)
 
 
ومن أبواب الربا الدين بالدين
وقد روى موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن الكالئ بالكالئ" وفي بعض الألفاظ: "عن الدين بالدين" وهما سواء. وقال في حديث أسامة بن زيد: "إنما الربا في النسيئة" إلا أنه في العقد عن الدين بالدين وأنه معفو عنه بمقدار المجلس; لأنه جائز له أن يسلم دراهم في كر حنطة وهما دين بدين، إلا أنهما إذا افترقا قبل قبض الدراهم بطل العقد، وكذلك بيع الدراهم بالدنانير جائز وهما دينان، وإن افترقا قبل التقابض بطل.
(1/565)
 
 
ومن أبواب الربا الذي تضمنت الآية تحريمه
الرجل يكون عليه ألف درهم دين مؤجل فيصالحه منه على خمسمائة حالة فلا يجوز. وقد روى سفيان عن حميد عن ميسرة قال: سألت ابن عمر: يكون لي على الرجل الدين إلى أجل فأقول عجل لي وأضع عنك؟ فقال: "هو ربا". وروي عن زيد بن ثابت أيضا النهي عن ذلك. وهو قول سعيد بن جبير والشعبي والحكم. وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء. وقال ابن عباس وإبراهيم النخعي: "لا بأس بذلك".
والذي يدل على بطلان ذلك شيئان: أحدهما: تسمية ابن عمر إياه ربا، وقد بينا أن أسماء الشرع توقيف. والثاني: أنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلا من الأجل، فأبطله الله تعالى وحرمه وقال: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} وقال تعالى: {وذروا ما بقي من الربا} حظر أن يؤخذ للأجل عوض، فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجلة فوضع عنه على أن يعجله فإنما جعل الحط بحذاء الأجل، فكان هذا هو معنى الربا الذي نص الله تعالى على تحريمه. ولا خلاف أنه لو كان عليه ألف درهم حالة فقال له: أجلني وأزيدك فيها مائة درهم; لا يجوز; لأن المائة عوض من الأجل، كذلك الحط في معنى الزيادة; إذ جعله عوضا من الأجل. وهذا هو الأصل في امتناع جواز أخذ الأبدال عن الآجال; ولذلك قال أبو حنيفة فيمن دفع إلى خياط ثوبا فقال إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم: "إن الشرط الثاني باطل فإن خاطه غدا فله أجر مثله; لأنه جعل الحط بحذاء الأجل، والعمل في الوقتين على صفة واحدة" فلم يجزه; لأنه بمنزلة بيع الأجل على النحو الذي بيناه. ومن أجاز من السلف إذا قال عجل لي وأضع عنك فجائز أن يكون أجازوه إذا لم يجعله شرطا فيه، وذلك بأن يضع عنه بغير شرط ويعجل الآخر الباقي بغير شرط; وقد ذكرنا الدلالة على أن التفاضل قد يكون ربا على حسب ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأصناف الستة، وأن النساء قد يكون ربا في البيع بقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد" وقوله: "إنما الربا في النسيئة" وأن السلم في الحيوان قد يكون ربا بقوله: "إنما الربا في النسيئة" وقوله: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد" وتسمية عمر إياه ربا وشرى ما بيع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن لما بينا، وشرط التعجيل مع الحط.
وقد اتفق الفقهاء على تحريم التفاضل في الأصناف الستة التي ورد بها الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات كثيرة، وهو عندنا في حيز التواتر لكثرة رواته واتفاق الفقهاء على استعماله. واتفقوا أيضا في أن مضمون هذا النص معني به تعلق الحكم يجب اعتباره في
(1/566)
 
 
باب البيع
قوله عز وجل: {وأحل الله البيع} عموم في إباحة سائر البياعات لأن لفظ البيع موضوع لمعنى معقول في اللغة وهو تمليك المال بمال بإيجاب وقبول عن تراض منهما، وهذا هو حقيقة البيع في مفهوم اللسان; ثم منه جائز ومنه فاسد إلا أن ذلك غير مانع من اعتبار عموم اللفظ متى اختلفنا في جواز بيع أو فساده. ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية وإن كان مخرجها مخرج العموم فقد أريد به الخصوص; لأنهم متفقون على حظر كثير من البياعات، نحو بيع ما لم يقبض وبيع ما ليس عند الإنسان وبيع الغرر والمجاهيل وعقد البيع على المحرمات من الأشياء; وقد كان لفظ الآية يوجب جواز هذه البياعات، وإنما خصت منها بدلائل، إلا أن تخصيصها غير مانع اعتبار عموم لفظ الآية فيما لم تقم الدلالة على تخصيصه. وجائز أن يستدل بعمومه على جواز البيع الموقوف
(1/568)
 
 
باب عقود المداينات
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} قال أبو بكر ذهب قوم إلى أن الكتاب والإشهاد على الديون الآجلة قد كانا واجبين بقوله تعالى: {فاكتبوه} إلى قوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} ثم نسخ الوجوب بقوله تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته} روي ذلك عن أبي سعيد الخدري والشعبي والحسن. وقال آخرون: "هي محكمة لم ينسخ منها شيء". وروى عاصم الأحول وداود بن أبي هند عن عكرمة قال: قال ابن عباس: "لا والله إن آية الدين محكمة وما فيها نسخ". وقد روى شعبة عن فراس عن الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى قال: "ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيها وقد قال الله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم}
(1/583)
 
 
باب الحجر على السفيه
قال الله تعالى: {فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل
(1/590)
 
 
ذكر اختلاف فقهاء الأمصار في الحجر على السفيه
كان أبو حنيفة رضي الله عنه لا يرى الحجر على الحر البالغ العاقل لا لسفه ولا لتبذير ولا لدين وإفلاس، وإن حجر عليه القاضي ثم أقر بدين أو تصرف في ماله ببيع أو هبة أو غيرهما جاز تصرفه وإن لم يؤنس منه رشد فكان فاسدا ويحال بينه وبين ماله، ومع ذلك إن أقر به لإنسان أو باعه جاز ما صنع من ذلك; وإنما يمنع من ماله ما لم يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا بلغها دفع إليه ماله وإن لم يؤنس منه رشد. وقول عبيد الله بن الحسن في الحجر كقول أبي حنيفة. وروى شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال: "لا يحجر على حر". وروى ابن عون عن محمد بن سيرين قال: "لا يحجر على حر إنما يحجر على العبد"، وعن الحسن البصري مثل ذلك. وقال أبو يوسف: "إذا كان سفيها حجرت عليه وإذا فلسته وحبسته حجرت عليه، ولم أجز بيعه ولا شراءه ولا إقراره بدين إلا ببينة تشهد به عليه أنه كان قبل الحجر". وذكر الطحاوي عن ابن أبي عمران عن ابن سماعة
(1/593)
 
 
ومن هذا الباب أيضا شهادة أحد الزوجين للآخر
وقد اختلف الفقهاء فيها، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والأوزاعي والليث: "لا تجوز شهادة واحد منهما للآخر". وقال الثوري: "تجوز شهادة
(1/618)
 
 
ومن هذا الباب أيضا شهادة الأجير
وقد ذكر الطحاوي، عن محمد بن سنان، عن عيسى، عن محمد، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة: "أن شهادة الأجير غير جائزة لمستأجره في شيء وإن كان عدلا استحسانا".
قال أبو بكر: روى هشام وابن رستم عن محمد "أن شهادة الأجير الخاص غير جائزة لمستأجره، وتجوز شهادة الأجير المشترك له" ولم يذكر خلافا عن أحد منهم; وهو قول عبيد الله بن الحسن. وقال مالك: "لا تجوز شهادة الأجير لمن استأجره إلا أن يكون مبرزا في العدالة، وإن كان الأجير في عياله لم تجز شهادته له". وقال الأوزاعي: "لا
(1/619)
 
 
باب الشاهد واليمين
اختلف الفقهاء في الحكم بشاهد واحد مع يمين الطالب، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة: "لا يحكم إلا بشاهدين ولا يقبل شاهد ويمين في شيء". وقال مالك والشافعي: "يحكم به في الأموال خاصة".
قال أبو بكر: قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} يوجب بطلان القول بالشاهد واليمين وذلك لأن قوله: {واستشهدوا} يتضمن الإشهاد على عقود المداينات التي ابتدأ في الخطاب بذكرها، ويتضمن إقامتها عند الحاكم ولزوم الحاكم الأخذ بها لاحتمال اللفظ للحالين ولأن الإشهاد على العقد إنما الغرض فيه إثباته عند التجاحد فقد تضمن لا محالة
(1/623)
 
 
باب الرهن
قال الله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} يعني والله أعلم: إذا عدمتم التوثق بالكتاب والإشهاد فالوثيقة برهان مقبوضة، فأقام الرهن في باب التوثق في الحال التي لا يصل فيها إلى التوثق بالكتاب والإشهاد مقامها. وإنما ذكر حال السفر لأن الأغلب فيها عدم الكتاب والشهود; وقد روي عن مجاهد أنه كان يكره الرهن إلا في السفر. وكان عطاء لا يرى به بأسا في الحضر. فذهب مجاهد إلى أن حكم الرهن لما كان مأخوذا من الآية وإنما أباحته الآية في السفر، لم يثبت في غيره. وليس هذا عند سائر أهل العلم كذلك; ولا خلاف بين فقهاء الأمصار وعامة السلف في جوازه في الحضر. وقد روى إبراهيم عن الأسود عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه". وروى قتادة عن أنس قال رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعا له عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لأهله، فثبت جواز الرهن في الحضر بفعله صلى الله عليه وسلم وقال تعالى" {واتبعوه} [الأعراف: 158] وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21] فدل على أن تخصيص الله لحال السفر بذكر الرهن إنما هو لأن الأغلب فيها عدم الكاتب والشهيد. وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "في خمس وعشرين من الإبل ابنة مخاض وفي ست وثلاثين ابنة لبون" لم يرد به وجود المخاض واللبن بالأم، وإنما أخبر عن الأغلب الأعم من الحال، وإن كان جائزا أن لا يكون بأمها مخاض ولا لبن; فكذلك ذكر السفر هو على هذا الوجه. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا قطع في ثمر حتى يؤويه الجرين" والمراد استحكامه وجفافه لا حصوله في الجرين; لأنه لو حصل في بيته أو حانوته بعد استحكامه وجفافه فسرقه سارق قطع فيه، فكان ذكر الجرين على الأغلب الأعم من حاله في استحكامه; فكذلك ذكره لحال السفر هو على هذا المعنى.
وقوله: {فرهان مقبوضة} يدل على أن الرهن لا يصح إلا مقبوضا من وجهين: أحدهما: أنه عطف على ما تقدم من قوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} فلما كان استيفاء العدد المذكور
(1/634)
 
 
ذكر اختلاف الفقهاء في رهن المشاع
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: "لا يجوز رهن المشاع فيما يقسم ولا فيما لا يقسم". وقال مالك والشافعي: "يجوز فيما لا يقسم وما يقسم". وذكر ابن المبارك عن الثوري في رجل يرتهن الرهن ويستحق بعضه قال: "يخرج من الرهن ولكن له أن يجبر الراهن على أن يجعله رهنا، فإن مات قبل أن يجعله رهنا كان بينه وبين الغرماء". وقال الحسن بن صالح: "يجوز رهن المشاع فيما لا يقسم ولا يجوز فيما يقسم".
قال أبو بكر: لما صح بدلالة الآية أن الرهن لا يصح إلا مقبوضا، من حيث كان رهنه على جهة الوثيقة وكان في ارتفاع القبض ارتفاع معنى الرهن وهو الوثيقة، وجب أن لا يصح رهن المشاع فيما يقسم وفيما لا يقسم; لأن المعنى الموجب لاستحقاق القبض وإبطال الوثيقة مقارن للعقد وهو الشركة التي يستحق بها دفع القبض للمهايأة، فلم يجز
(1/635)
 
 
باب ضمان الرهن
قال الله تعالى: {فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته} فعطف بذكر الأمانة على الرهن، فذلك يدل على أن الرهن ليس بأمانة، وإذا لم يكن أمانة كان مضمونا; إذ لو كان الرهن أمانة لما عطف عليه الأمانة لأن الشيء لا يعطف على نفسه وإنما يعطف على غيره.
واختلف الفقهاء في حكم الرهن، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن أبي ليلى والحسن بن صالح: "الرهن مضمون بأقل من قيمته ومن الدين". وقال الثقفي عن عثمان البتي: "ما كان من رهن ذهبا أو فضة أو ثيابا فهو مضمون يترادان الفضل، وإن كان عقارا أو حيوانا فهلك فهو من مال الراهن، والمرتهن على حقه إلا أن يكون الراهن اشترط الضمان فهو على شرطه". وقال ابن وهب عن مالك: "إن علم هلاكه فهو من مال الراهن ولا ينقص من حق المرتهن شيء، وإن لم يعلم هلاكه فهو من مال المرتهن وهو ضامن لقيمته، يقال له صفه فإذا وصفه حلف على صفته وتسمية ماله فيه، ثم يقومه أهل البصر بذلك، فإن كان فيه فضل عما سمى فيه أخذه الراهن، وإن كان أقل مما سمى الراهن حلف على ما سمى وبطل عنه الفضل، وإن أبى الراهن أن يحلف أعطي المرتهن ما فضل بعد قيمة الرهن". وروى عنه ابن القاسم مثل ذلك، وقال فيه: "إذا شرط أن المرتهن مصدق في ضياعه وأن لا ضمان عليه فيه، فشرطه باطل وهو ضامن". وقال الأوزاعي: "إذا مات العبد الرهن فدينه باق لأن الرهن لا يغلق" ومعنى قوله لا يغلق الرهن أنه لا يكون بما فيه إذا علم ولكن يترادان الفضل إذا لم يعلم هلاكه. وقال الأوزاعي في قوله: "له غنمه وعليه غرمه" قال: "فأما غنمه فإن كان فيه فضل رد إليه، وأما غرمه فإن كان فيه نقصان وفاه إياه". وقال الليث: "الرهن مما فيه إذا هلك ولم تقم بينة على ما فيه إذا اختلفا في ثمنه، فإن قامت البينة على ما فيه ترادا الفضل". وقال الشافعي: "هو أمانة لا ضمان عليه فيه بحال إذا هلك، سواء كان هلاكه ظاهرا أو خفيا".
(1/638)
 
 
ذكر اختلاف الفقهاء في الانتفاع بالرهن
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والحسن بن زياد وزفر: "لا يجوز للمرتهن الانتفاع بشيء من الرهن ولا للراهن أيضا" وقالوا: "إذا آجر المرتهن الرهن بإذن الراهن أو آجره الراهن بإذن المرتهن فقد خرج من الرهن ولا يعود". وقال ابن أبي ليلى: "إذا آجره المرتهن بإذن الراهن فهو رهن على حال والغلة للمرتهن قضاء من حقه". وقال ابن القاسم عن مالك: "إذا خلى المرتهن بين الرهن والراهن يكريه أو يسكنه أو يعيره لم يكن رهنا، وإذا آجره المرتهن بإذن الراهن لم يخرج من الرهن، وكذلك إذا أعاره المرتهن بإذن الراهن فهو رهن على حاله، فإذا آجره المرتهن بإذن الراهن فالأجر لرب الأرض ولا يكون الكري رهنا بحقه إلا أن يشترط المرتهن"، فإن اشترط في البيع أن يرتهن ويأخذ حقه من الكري، فإن مالكا كره ذلك. وإن لم يشترط ذلك في البيع وتبرع به الراهن بعد البيع فلا بأس به; وإن كان البيع وقع بهذا الشرط إلى أجل معلوم أو شرط فيه البائع بيعه الرهن ليأخذها من حقه، فإن ذلك جائز عند مالك في الدور والأرض وكرهه في الحيوان. وذكر المعافى عن الثوري أنه كره أن ينتفع من الرهن بشيء ولا يقرأ في المصحف المرهون. وقال الأوزاعي غلة الرهن لصاحبه ينفق عليه منها والفضل له، فإن لم تكن غلة وكان يستخدمه فطعامه بخدمته، فإن لم يكن يستخدمه فنفقته على صاحبه. وقال الحسن بن صالح: "لا يستعمل الرهن ولا ينتفع به إلا أن يكون دارا
(1/644)
 
 
المجلد الثاني
سورة آل عمران
مدخل
...
سورة آل عمران
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} إلى آخر القصة. قال الشيخ أبو بكر: قد بينا في صدر الكتاب معنى المحكم والمتشابه, وأن كل واحد منهما ينقسم إلى معنيين: أحدهما: يصح وصف القرآن بجميعه, والآخر إنما يختص به بعض القرآن دون بعض; قال الله تعالى: {الر كتاب أحكمت آياته} [هود: 1] وقال تعالى: {الر تلك آيات الكتاب الحكيم} [يونس: 1] فوصف جميع القرآن في هذه المواضع بالإحكام; وقال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني} [الزمر: 23] فوصف جميعه بالمتشابه, ثم قال في موضع آخر: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} فوصف ههنا بعضه بأنه محكم وبعضه بأنه متشابه; والإحكام الذي عم به الجميع هو الصواب والإتقان اللذان يفضل بهما القرآن كل قول. وأما موضع الخصوص في قوله تعالى: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب} فإن المراد به اللفظ الذي لا اشتراك فيه ولا يحتمل عند سامعه إلا معنى واحدا, وقد ذكرنا اختلاف الناس فيه. إلا أن هذا المعنى لا محالة قد انتظمه لفظ الإحكام المذكور في هذه الآية, وهو الذي جعل أما للمتشابه الذي يرد إليه ويحمل معناه عليه. وأما المتشابه الذي عم به جميع القرآن في قوله تعالى: {كتابا متشابها} [الزمر: 23] فهو التماثل ونفى الاختلاف والتضاد عنه. وأما المتشابه المخصوص به بعض القرآن فقد ذكرنا أقاويل السلف فيه; وما روي عن ابن عباس "أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ" فهذا عندنا هو أحد أقسام المحكم والمتشابه; لأنه لم ينف أن يكون للمحكم والمتشابه وجوه غيرهما. وجائز أن يسمى الناسخ محكما لأنه ثابت الحكم, والعرب تسمي البناء الوثيق محكما, ويقولون في العقد الوثيق الذي لا يمكن حله محكما, فجائز أن يسمى الناسخ محكما; إذ كانت صفته الثبات والبقاء, ويسمى المنسوخ متشابها من حيث أشبه في التلاوة المحكم, وخالفه في
(2/3)
 
 
ثبوت الحكم فيشتبه على التالي حكمه في ثبوته ونسخه, فمن هذا الوجه جائز أن يسمى المنسوخ متشابها. وأما قول من قال: إن المحكم هو الذي لم تتكرر ألفاظه والمتشابه هو الذي تتكرر ألفاظه; فإن اشتباه هذا من جهة اشتباه وجه الحكمة فيه على السامع, وهذا سائغ عام في جميع ما يشتبه فيه. وجه الحكمة فيه على السامع إلى أن يتبينه ويتضح له وجهه; فهذا مما يجوز فيه إطلاق اسم المتشابه. وما لا يشتبه فيه وجه الحكمة على السامع, وهذا فهو المحكم الذي لا تشابه فيه على قول هذا القائل, فهذا أيضا أحد وجوه المحكم والمتشابه وإطلاق الاسم فيه سائغ جائز. وأما ما روي عن جابر بن عبد الله أن المحكم ما يعلم تعيين تأويله والمتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله, كقوله تعالى: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها} [الأعراف: 187] وما جرى مجرى ذلك, فإن إطلاق اسم المحكم والمتشابه سائغ فيه; لأن ما علم وقته ومعناه فلا تشابه فيه, وقد أحكم بيانه, وما لا يعلم تأويله ومعناه ووقته فهو مشتبه على سامعه فجائز أن يسمى بهذا الاسم. فجميع هذه الوجوه يحتمله اللفظ على ما روي فيه, ولولا احتمال اللفظ لما ذكروا لما تأولوه عليه. وما ذكرناه من قول من قال: إن المحكم هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدا والمتشابه ما يحتمل معنيين, فهو أحد الوجوه الذي ينتظمها هذا الاسم; لأن المحكم من هذا القسم سمي محكما لإحكام دلالته وإيضاح معناه وإبانته. والمتشابه منه سمي بذلك; لأنه أشبه المحكم من وجه واحتمل معناه وأشبه غيره مما يخالف معناه معنى المحكم فسمي متشابها من هذا الوجه. فلما كان المحكم والمتشابه يعتورهما ما ذكرنا من المعانى احتجنا إلى معرفة المراد منهما بقوله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} مع علمنا بما في مضمون هذه الآية وفحواها من وجوب رد المتشابه إلى المحكم وحمله على معناه دون حمله على ما يخالفه; لقوله تعالى في صفة المحكمات: {هن أم الكتاب} والأم هي التي منها ابتداؤه وإليها مرجعه, فسماها أما, فاقتضى ذلك بناء المتشابه عليها ورده إليها. ثم أكد ذلك بقوله: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} فوصف متبع المتشابه من غير حمله له على معنى المحكم بالزيغ في قلبه, وأعلمنا أنه مبتغ للفتنة, وهي الكفر والضلال في هذا الموضع كما قال تعالى: {والفتنة أشد من القتل} [البقرة: 191] يعني والله أعلم: الكفر; فأخبر أن متبع المتشابه وحامله على مخالفة المحكم في قلبه زيغ يعني الميل عن الحق يستدعي غيره بالمتشابه إلى الضلال والكفر. فثبت بذلك أن المراد بالمتشابه المذكور في هذه الآية هو اللفظ المحتمل للمعاني الذي يجب رده إلى المحكم وحمله على معناه. ثم نظرنا بعد ذلك في المعاني التي تعتور هذا اللفظ وتتعاقب عليه مما قدمنا ذكره في أقسام
(2/4)
 
 
المتشابه عن القائلين بها على اختلافها مع احتمال اللفظ, فوجدنا قول من قال بأنه الناسخ والمنسوخ, فإنه إن كان تاريخهما معلوما فلا اشتباه فيهما على من حصل له العلم بتاريخهما, وعلم يقينا أن المنسوخ متروك الحكم, وأن الناسخ ثابت الحكم, فليس فيهما ما يقع فيه اشتباه على السامع العالم بتاريخ الحكمين اللذين لا احتمال فيهما لغير النسخ. وإن اشتبه على السامع من حيث إنه لم يعلم التاريخ, فهذا ليس أحد اللفظين أولى بكونه محكما من الآخر ولا بكونه متشابها منه; إذ كل واحد منهما يحتمل أن يكون ناسخا ويحتمل أن يكون منسوخا; فهذا لا مدخل له في قوله تعالى: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} . وأما قول من قال: "إن المحكم ما لم يتكرر لفظه والمتشابه ما تكرر لفظه" فهذا أيضا لا مدخل له في هذه الآية; لأنه لا يحتاج إلى رده إلى المحكم, وإنما يحتاج إلى تدبره بعقله وحمله على ما في اللغة من تجويزه. وأما قول من قال: "إن المحكم ما علم وقته وتعيينه والمتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله, كأمر الساعة وصغائر الذنوب التي آيسنا الله من وقوع علمنا بها في الدنيا" وإن هذا الضرب أيضا منها خارج عن حكم هذه الآية; لأنا لا نصل إلى علم معنى المتشابه برده إلى المحكم. فلم يبق من الوجوه التي ذكرنا