أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

    
 
  
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
 
 
 
 
  
 
الكتاب: أحكام القرآن
المؤلف: القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري الاشبيلي المالكي (المتوفى: 543هـ)
راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا
الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان
الطبعة: الثالثة، 1424 هـ - 2003 م
عدد الأجزاء:4
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
 
قال مالك: وبلغني أن حكيم بن حزام أخرج ما كان أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - في المؤلفة، فتصدق بعد ذلك به.
وأما الحارث بن الحارث بن كلدة فهو ابن طبيب العرب وكان منهم.
ولا خفاء بعيينة ولا بمالك بن عوف سيد هوازن.
وأما سهيل بن عمرو فرجل عظيم، إن كان مؤلفا بالعطية فلم يمت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا، وهو مؤلف على الإسلام باليقين؛ فإنه لما استأثر الله برسوله، وبلغ الخبر إلى مكة ماج أهل مكة، فقام سهيل بن عمرو خطيبا، فقال: والله إني لأعلم أن هذا الأمر سيمتد امتداد الشمس في طلوعها إلى غروبها، فلا يغرنكم هذا من أنفسكم يعني أبا سفيان.
وروي عنه أنه حبس على باب عمر، فأذن لأهل بدر وصهيب ونوعه.
فقال له أبو سفيان، ومشيخة قريش: يأذن للعبيد ويذرنا، فقال سهيل بن عمرو: دعيتم فأجابوا، وأسرعوا وأبطأتم، أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم من هذا الذي تنافسون فيه؛ إلى أمثال هذا الخبر، مما يدل على قوة البصيرة في الدين والبصر.
وأما حويطب بن عبد العزى فلم يثبت عندي أمره، إنما هو من مسلمة الفتح، واستقرض منه النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين ألف درهم، وصح دينه ويقينه.
وأما مخرمة بن نوفل بن أمية بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب فأمه رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف، والد المسور بن مخرمة، حسن إسلامه، وهو الذي نصب أعلام الحرم لعمر مع حويطب بن عبد العزى، «وهو الذي خبأ له النبي - صلى الله عليه وسلم - القثاء، فقال: خبأت هذا لك، خبأت هذا لك».
وأما عمير بن وهب بن خلف أبو أمية الجمحي فليس منهم، مسلم حنيفي، أما إنه كان من أشدهم عداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء لقتله بما شرط له صفوان بن أمية، فلما دخل المسجد دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما كان بينه وبين صفوان، فأسلم، وحديثه طويل.
وأما هشام بن عمرو فلا أعرف.
(2/527)
 
 
وأما الحارث بن هشام فكان في أول أمره كأبي جهل بن هشام؛ وهي شنشنة أعرفها من أخزم، ومن يشبه أخاه فلم يظلم.
حسن إسلامه، وكان بالمسك ختامه.
وأما سعيد بن يربوع فهو الملقب بالصرم، مخزومي قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أينا أكبر؟ قال: أنا أقدم منك، وأنت أكبر وخير مني»، ولم أعلم تأليفه.
وأما عدي بن قيس فلم أعرفه.
وأما العباس بن مرداس فكبير قومه، حسن إسلامه، وخبره مشهور.
وأما طليق بن سفيان، وابنه حكيم؛ فهو وابنه مذكوران في المؤلفة قلوبهم.
وأما خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية فلا أعرف قصته.
«وأما شيبة بن عثمان فكان في نفسه شيء، ثم أراد أن يقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما دنا منهم عرفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاه، فلما دنا منه أخذه أفكل، فمسح صدره فأسلم وحسن إسلامه».
وأما أبو السنابل بن بعكك العبدري فهو من مسلمة الفتح، واسمه حبة؛ لا أعرفه.
وأما عكرمة بن عامر فلا أعرفه، أما إنه من بني عبد الدار، ولست أحصل.
وأما زهير بن أمية، وخالد بن هشام فلا أعرفهما.
وأما هشام بن الوليد فهو أخو خالد بن الوليد.
وأما سفيان بن عبد الأسد فلا أعرفه.
وأما أبو السائب فلم يكن منهم.
وأما مطيع بن الأسود فلست أعلم.
وأما أبو جهم بن حذيفة بن غانم من بني عدي، واسمه عامر، فلا أعرفه منهم، على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه في الصحيح: «وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه»
(2/528)
 
 
رواه النسائي. وقال فيه: «وأما أبو جهم بشر لا خير فيه» وربك أعلم.
وأما أحيحة فهو أخو صفوان بن أمية لا أعرف.
وأما نوفل بن معاوية الديلي فلا أعرفه منهم.
وأما علقمة بن علاثة العامري الكلابي فهو منهم وأسيد بن ربيعة، وحسن الإسلام عندهما.
وأما خالد بن هوذة فهو والد العداء بن خالد مبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - في العبد أو الأمة، من بني أنف الناقة، غير ممدوح.
والحطيئة لا أعرف، وكذلك أخوه حرملة.
وأما الأقرع بن حابس فمشهور فيهم.
وأما قيس بن مخرمة بن المطلب القرشي المطلبي فلا أعلمه منهم.
وأما جبير بن مطعم فلم يكن منهم.
وأما هشام بن عمرو فلا أعرفه.
وقد عد فيهم زيد الخير الطائي، وهم أكثر من هذا كله.
استدراك: وأما معاوية فلم يكن منهم؛ كيف يكون ذلك، وقد ائتمنه النبي - صلى الله عليه وسلم - على وحي الله وقراءته وخلطه بنفسه، وأما حاله في أيام أبي بكر وعمر فأشهر من هذا وأظهر.
وقد قدمنا أن أصناف المؤلفة قلوبهم مختلفة؛ فمنهم ضعيف الإيمان قوي بالأدلة والعطاء، ولم يكن جميعهم كافرا؛ فحصلوا هذا فإنه مهم في القصة.
(2/529)
 
 
[مسألة بقاء المؤلفة قلوبهم]
المسألة العاشرة: اختلف في بقاء المؤلفة قلوبهم، فمنهم من قال: هم زائلون؛ قاله جماعة، وأخذ به مالك.
ومنهم من قال: هم باقون؛ لأن الإمام ربما احتاج أن يستأنف على الإسلام، وقد قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين.
والذي عندي: أنه إن قوي الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم، كما كان يعطيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الصحيح قد روي فيه: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ».
المسألة الحادية عشرة: إذا قلنا بزوالهم فإن سهمهم سيعود إلى سائر الأصناف كلها، أو ما يراه الإمام، حسبما تقدم بيانه في أصل الخلاف وقال الزهري: يعطى نصف سهمهم لعمار المساجد، ولا دليل عليه. والأول أصح.
وهذا مما يدلك على أن الأصناف الثمانية محل لا مستحقون؛ إذ لو كانوا مستحقين لسقط سهمهم بسقوطه عن أرباب الأموال، ولم يرجع إلى غيرهم، كما لو أوصى لقوم معينين فمات أحدهم لم يرجع نصيبه إلى من بقي منهم.
 
[مسألة شراء الرقاب وعتقها]
المسألة الثانية عشرة: قوله تعالى {وفي الرقاب} [التوبة: 60]: وفيه قولان: أحدها: أنهم المكاتبون؛ قاله علي، والشافعي، وأبو حنيفة، وجماعة.
الثاني: أنه العتق، وذلك بأن يبتاع الإمام رقيقا فيعتقهم، ويكون ولاؤهم لجميع المسلمين؛ قاله ابن عمر.
وعن مالك أربع روايات:
(2/530)
 
 
إحداها: أنه لا يتعين مكاتبا، ولا في آخر نجم من نجومه، ولو خرج به حرا.
وقد قال مرة: فلمن يكون الولاء؟ وقال آخرا: ما يعجبني ذلك، وما بلغني أن أبا بكر ولا عمر ولا عثمان فعلوا ذلك.
الثانية: روى عنه مطرف أنه يعطى المكاتبون.
الثالثة: قال: يشتري من زكاته رقبة فيعتقها، يكون ولاؤها لجميع المسلمين.
الرابعة: قال مالك: لا آمر أحدا أن يشتري رقبة من زكاة ماله فيعتقها.
وبه قال الشافعي وأبو حنيفة.
والصحيح أنه شراء الرقاب وعتقها، كذلك هو ظاهر القرآن؛ فإن الله حيث ذكر الرقبة في كتابه إنما هو العتق، ولو أراد المكاتبين لذكرهم باسمهم الأخص، فلما عدل إلى الرقبة دل على أنه أراد العتق.
وتحقيقه أن المكاتب قد دخل في جملة الغارمين بما عليه من دين الكتابة، فلا يدخل في الرقاب، وربما دخل في المكاتب بالعموم، ولكن في آخر نجم يعتق به، ويكون ولاؤه لسيده، ولا حرج على معطي الصدقة في ذلك؛ فإن تخليصه من الرق، وفكه من حبس الملك هو المقصود، ولا يتأتى عن الولاء؛ فإن الغرض تخليص المكاتب من الرق، وفكه من حبس الملك هو المقصود، وكذلك قال مالك في كتاب محمد.
 
[مسألة اشترى الإمام من رجل أباه وأخذ المال ليعتقه عن نفسه]
المسألة الثالثة عشرة: لو اشترى الإمام من رجل أباه وأخذ المال ليعتقه عن نفسه، فاختلف العلماء فيه على قولين.
وكذلك اختلف [فيه] قول مالك؛ فمنعه في كتاب محمد، وأجازه في المختصر.
والأول أصح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الولاء لمن أعطى الثمن»، ولأنه إذا أعتقه عن نفسه لم يكن للثمن مقابل يوازيه.
(2/531)
 
 
[مسألة فك الأسارى من الزكاة]
المسألة الرابعة عشرة: وكذلك اختلف العلماء في فك الأسارى منها؛ فقد قال أصبغ: لا يجوز ذلك.
وقال ابن حبيب: يجوز ذلك.
وإذا كان فك المسلم عن رق المسلم عبادة وجائزا من الصدقة فأولى وأحرى أن يكون ذلك في فك المسلم عن رق الكافر وذله.
 
[مسألة هل نعتق من الزكاة رقبة]
المسألة الخامسة عشرة: إذا قلنا: إنه يعان منها المكاتب، فهل نعتق منها بعض رقبة ينبني عليها؟ فإذا كان نصف عبد أو عشرة يكون فيه فكه عن الرق بما قد سبق من عتقه فإنه يجوز؛ ذكره مطرف، وكذلك أقول. والله أعلم.
 
[مسألة الولاء بين المعتقين]
المسألة السادسة عشرة: ويكون الولاء بين المعتقين كالشريكين.
وقد بيناه في كتب المسائل، فإن فيه تفريعا كثيرا.
 
[مسألة الغارمين هم الذين ركبهم الدين ولا وفاء عندهم به]
المسألة السابعة عشرة قوله تعالى {والغارمين} [التوبة: 60]: وهم الذين ركبهم الدين، ولا وفاء عندهم [به]، ولا خلاف فيه.
اللهم إلا من ادان في سفاهة، فإنه لا يعطى منها، نعم ولا من غيرها إلا أن يتوب، فإنه إن أخذها قبل التوبة عاد إلى سفاهة مثلها أو أكبر منها، والديون وأصنافها كثيرة. وتفصيله في كتب الفقه.
المسألة الثامنة عشرة: فإن كان ميتا قضي منها دينه؛ لأنه من الغارمين.
وقال ابن المواز: لا يقضى.
وقد ثبت في الصحيح عن البخاري وغيره: «ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [الأحزاب: 6]
(2/532)
 
 
؛ فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه».
 
[مسألة المراد بسبيل الله]
المسألة التاسعة عشرة: قوله تعالى {وفي سبيل الله} [التوبة: 60]: قال مالك: سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله هاهنا الغزو من جملة سبيل الله، إلا ما يؤثر عن أحمد وإسحاق فإنهما قالا: إنه الحج.
والذي يصح عندي من قولهما أن الحج من جملة السبل مع الغزو؛ لأنه طريق بر، فأعطي منه باسم السبيل، وهذا يحل عقد الباب، ويخرم قانون الشريعة، وينثر سلك النظر، وما جاء قط بإعطاء الزكاة في الحج أثر.
وقد قال علماؤنا: ويعطى منها الفقير بغير خلاف؛ لأنه قد سمي في أول الآية، ويعطى الغني عند مالك بوصف سبيل الله تعالى، ولو كان غنيا في بلده أو في موضعه الذي يأخذ به، لا يلتفت إلى غير ذلك من قوله الذي يؤثر عنه.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: غاز في سبيل الله».
وقال أبو حنيفة: لا يعطى الغازي [في سبيل الله] إلا إذا كان فقيرا، وهذه زيادة على النص، وعنده أن الزيادة على النص نسخ، ولا نسخ في القرآن إلا بقرآن مثله أو بخبر متواتر.
وقد بينا أنه فعل مثل هذا في الخمس في قوله: {ولذي القربى} [الأنفال: 41]؛ فشرط في قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفقر؛ وحينئذ يعطون من الخمس.
وهذا كله ضعيف حسبما بيناه.
(2/533)
 
 
وقال محمد بن عبد الحكم: يعطى من الصدقة في الكراع والسلاح، وما يحتاج إليه من آلات الحرب، وكف العدو عن الحوزة؛ لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته.
«وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصدقة مائة ناقة في نازلة سهل بن أبي حثمة إطفاء للثائرة».
 
[مسألة ابن السبيل هو الذي انقطعت به الأسباب في سفره]
المسألة الموفية عشرين: قوله تعالى {وابن السبيل} [التوبة: 60]: يريد الذي انقطعت به الأسباب في سفره، وغاب عن بلده ومستقر ماله وحاله فإنه يعطى منها.
قال مالك في كتاب ابن سحنون: إذا وجد من يسلفه فلا يعطى.
وليس يلزمه أن يدخل تحت منة أحد، وقد وجد منة الله ونعمته.
 
[مسألة ادعى الرجل استحقاق الزكاة لكونه من أهلها هل يقبل قوله أم لا]
المسألة الحادية والعشرون: إذا جاء الرجل وقال: أنا فقير، أو مسكين، أو غارم، أو في سبيل الله، أو ابن السبيل، هل يقبل قوله، أم يقال له: أثبت ما تقول؟ فأما الدين فلا بد من أن يثبت.
وأما سائر الصفات فظاهر الحال يشهد لها ويكتفى به فيها.
ثبت «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إليه قوم ذوو حاجة مجتابي النمار، فحث على الصدقة عليهم».
وفي حديث: أبرص وأقرع وأعمى قال مخبرا عنهم: «إنا على ما ترى».
فاكتفى بظاهر الحال.
وكذلك ابن السبيل يكتفى بغربته، وظاهر حالته، وكونه في سبيل الله معلوم بفعله لذلك وركونه فيه.
وإن قال: أنا مكاتب أثبت ذلك؛ لأن الأصل الرق حتى يثبت الحرية أو سببها.
وإن ادعى زيادة على الفقر عيالا، فقال القرويون: يكشف عن ذلك إن قدر، وهذا لا يلزم؛ لأن حديث أبرص وأعمى وأقرع ذكر ذلك عنهم وأنا ابن سبيل
(2/534)
 
 
أسألك بعيرا أتبلغ عليه في سفري، ولم يكلفه إثبات السفر، وهو غائب عنه؛ فصار هذا أصلا في دعوى كل شيء غائب من هذا الباب.
 
[مسألة بأي صنف يبدأ بالزكاة]
المسألة الثانية والعشرون: إذا قلنا: إن الأصناف الثمانية مستحقون، فيأخذ كل أحد حقه وهو الثمن، ولا مسألة معنا.
وإن قلنا: إن الإمام يجتهد، وهو الصحيح؛ فاختلف العلماء بأي صنف يبدأ.
فأما العاملون فإن قلنا: إن أجرتهم من بيت المال، فلا كلام.
وإن قلنا: إن أجرتهم من الزكاة فبهم نبدأ، فنعطيهم الثمن على قول، وقدر أجرتهم على الصحيح في الشرع؛ فإن الخبر بأن يعطى كل أجير أجره قبل أن يجف عرقه مأثور اللفظ صحيح المعنى.
فإن أخذ العامل حقه فلا يبقى صنف يترجح فيه إلا صنفين؛ هما سبيل الله والفقراء، أو ثلاثة أصناف إن قلنا: إن الفقراء والمساكين صنفان، فأما سبيل الله إذا اجتمع مع الفقر فإن الفقر مقدم عليه إلا أن ينزل بالمسلمين حاجة إلى مال الصدقة فيما لا بد منه من دفع مضرة، كما تقدم، فإنه يقدم على كل نازلة.
وأما الفقراء والمساكين فالصحيح أنهم صنفان، ولا نبالي بما قال الناس فيهما، وها أنا ذا أريحكم منه بعون الله؛ فإن قال القائل بأن الفقير من له شيء والمسكين من لا شيء له، أو بعكسه، فإن من لا شيء له هو المقدم على من له شيء، فهذا المعنى ساقط لا فائدة فيه.
وأما إن قلنا: إن الفقير هو الذي لا يسأل، والمسكين هو الذي يسأل فالذي لا يسأل أولى؛ لأن السائل أقرب إلى التفطن والغنى، والعلم به ممن لا يسأل، ولا يفطن له فيتصدق عليه.
ولا خلاف أن الزمن مقدم على الصحيح، وأن المحتاج مقدم على سائر الناس، وأن المسلم مقدم على الكتابي.
وقد سقط اعتبار الهجرة والتقرب بذهاب
(2/535)
 
 
زمانهما، فلا معنى للاحتجاج على ذلك كله، والحمد لله الذي من بالمعرفة وكفانا المئونة.
 
[مسألة أعطى الإمام صدقة الرجل لولده ووالده وزوجه الذين تلزمه نفقة]
المسألة الثالثة والعشرون: هذه الأوصاف التي ذكرنا شأنها في الأصناف التي قدمنا بيانها إنما تعتبر عند علمائنا فيمن لا قرابة بينه وبين المتصدق، فإن وقعت القرابة ففي ذلك تفصيل عريض طويل.
فأما صدقة التطوع فقد «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لزينب امرأة ابن مسعود: زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم به».
يعني بحليها الذي أرادت أن تتصدق به.
وفي حديث بئر حاء: «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة: أرى أن تجعلها في الأقربين»، فجعلها أبو طلحة في أقاربه، وبني عمه.
وهذا كله صحيح ثابت في كل أم وبنت من الحديث.
وأما صدقة الفرض فإن أعطى الإمام صدقة الرجل لولده ووالده وزوجه الذين تلزمه نفقة جميعهم فإنه يجزئه.
وأما إن تناول هو ذلك بنفسه فلا يجوز أن يعطيها بحال لمن تلزمه نفقته؛ لأنه يسقط [في ذلك] بها عن نفسه فرضا.
وأما إن أعطاها لمن لا تلزمه نفقتهم فقد اختلف العلماء في ذلك؛ فمنهم من جوزه، ومنهم من كرهه.
قال مالك: خوف المحمدة.
وقال مطرف: رأيت مالكا يدفع زكاته لأقاربه.
وقال الواقدي وهو إمام عظيم: قال مالك: أفضل من وضعت فيه زكاتك قرابتك الذين لا تعول.
(2/536)
 
 
وقد «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لزوجة عبد الله بن مسعود: لك أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة».
 
[مسألة إعطاء الزكاة للزوجين]
واختلف علماؤنا في إعطاء الزكاة للزوجين، فقال القاضي أبو الحسن: إن ذلك من منع مالك محمول على الكراهية.
وذكر عن ابن حبيب إن كان يستعين في النفقة عليها بما يعطيه فلا يجوز، وإن كان معه ما ينفق عليها ويصرف ما يأخذ منها من نفقته وكسوته على نفسه فذلك جائز.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز بحال.
والصحيح جوازه لحديث زينب امرأة ابن مسعود المتقدم ذكره.
فإن قيل: ذلك في صدقة التطوع.
قلنا: صدقة التطوع والفرض هاهنا واحد؛ لأن المنع منه إنما هو لأجل عوده عليه، وهذه العلة لو كانت مراعاة لاستوى فيه التطوع والفرض.
 
[مسألة إذا كان الفقير قويا هل يعطي من الزكاة]
المسألة الرابعة والعشرون: إذا كان الفقير قويا، فقال مالك في مختصر ما ليس في المختصر: يعطى، يعني لتحقيق صفة الاستحقاق فيه.
وقال يحيى بن عمر: لا يجزيه، وبه قال الشافعي، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي».
خرجه الترمذي مع غيره، وزاد فيه: «إلا لذي فقر مدقع أو غرم مفظع». وقال: هذا غريب، والحديث المطلق دون زيادة لا يركن إليه، ولا ينبغي أن يعول على هذا؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان
(2/537)
 
 
يعطيها للفقراء الأصحاء، ووقوفها على الزمنى باطل، وهذا أولى من ذلك بالاتباع، وأقوى منه في الارتباط والانتزاع.
 
[مسألة من كان له نصاب من الزكاة هل يجوز له أخذها أم لا]
المسألة الخامسة والعشرون: من كان له نصاب من الزكاة، هل يجوز له أخذها أم لا؟ فقال علماؤنا تارة: من ملك نصابا فلا يأخذ منها شيئا؛ لأنه غني تؤخذ منه فلا تدفع إليه.
وفي القول الثاني: يأخذ منها، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سأل وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا».
والصحيح ما قاله مالك والشافعي: إن من كانت عنده كفاية تغنيه فهو الغني، وإن كان أقل من نصاب، ومن زاد على النصاب، ولم تكن فيه كفاية لمؤنته ولا سداد لخلته فليس بغني فيأخذ منها.
 
[مسألة هل يعطى الفقير من الزكاة نصابا أم لا]
المسألة السادسة والعشرون: اختلف العلماء، هل يعطى من الزكاة نصابا أم لا؟ على قولين.
وقال بعض المتأخرين: إن كان في البلد زكاتان: نقد، وحرث، أخذ ما يبلغه إلى الأخرى.
والذي أراه أن يعطى نصابا، وإن كان في البلد زكاتان وأكثر، فإن الغرض إغناء الفقير، حتى يصير غنيا، فإذا أخذ تلك فإن حضرت زكاة أخرى وعنده ما يكفيه أخذها غيره، وإلا عاد عليه العطاء.
(2/538)
 
 
[مسألة الصدقة إلى آل محمد]
المسألة السابعة والعشرون: لا تصرف الصدقة إلى آل محمد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الصدقة لا تحل لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس».
والمسألة مشكلة جدا، وقد أفضنا فيها في شرح الحديث ما شاء الله أن نفيض فيه.
وبالجملة إن الصدقة محرمة على محمد - صلى الله عليه وسلم - بإجماع أمته، وهي محرمة على بني هاشم في قول أكثر أهل العلم.
وقال الشافعي: بنو المطلب وبنو هاشم واحد؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن بني هاشم وبني المطلب لم يفترقوا في جاهلية ولا في إسلام».
قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاهم الخمس عوضا عن الصدقة ولم يعطه أحدا من قبائل قريش.
وقال محمد بن المواز: آل محمد عشيرته الأقربون: بنو عبد المطلب، وآل هاشم، وآل عبد مناف، وآل قصي، وآل غالب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] نادى بأعلى صوته: «يا آل قصي، يا آل غالب، يا آل عبد مناف، يا فاطمة بنت محمد، يا صفية عمة رسول الله، اعملوا لما عند الله؛ فإني لست أملك لكم من الله شيئا».
فبين بمناداته عشيرته الأقربين.
وقال ابن عباس وقد سئل عنها: نحن هم. يعني آل محمد خاصة، وأبى ذلك علينا قومنا.
فأما مواليهم، فقال ابن القاسم في الحديث الذي جاء: لا تحل الصدقة لآل محمد إنما ذلك في الزكاة لا في التطوع، وإنما هم بنو هاشم أنفسهم.
قيل له يعني مالكا: فمواليه؟ قال: لا أدري ما الموالي؟ وكأنه لم يرهم من ذلك فاحتججت عليه بقوله: «مولى القوم منهم»، فقال: وقد قال: «ابن أخت القوم منهم».
(2/539)
 
 
قال أصبغ: وذلك في البر والحرمة، كقوله - عليه السلام -: «أنت ومالك لأبيك».
قال مطرف وابن الماجشون: مواليهم منهم لا تحل لهم [الصدقة].
وقال مالك في الواضحة: لا يعطى آل محمد من التطوع.
وأجازه ابن القاسم في كتاب محمد، وهو الأصح؛ لأن الوسخ إنما قرن بالفرض خاصة.
فإن قيل: قد روى أبو داود عن أبي رافع، «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلا على الصدقة من بني مخزوم، فقال لأبي رافع: اصحبني، فإنك تصيب منها؛ فقال: حتى آتي رسول الله فأسأله. فأتاه فسأله، فقال: مولى القوم من أنفسهم، وإنا لا تحل لنا الصدقة».
(2/540)
 
 
وهذا نص في المسألة، فلو صح لوجب قبوله، وقد قال علماؤنا في ذلك جوابان:
الأول: أن ذلك على التنزيه منه.
الثاني: أن أبا رافع كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يخدم ويطعم، فكره له ترك المال الذي لم يذم، وأخذه لمال هو أوساخ الناس، فكسب غيره أولى منه.
فإن قيل: فقد روي أن ابن عباس قال: بعثني أبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في إبل أعطاها إياه من الصدقة.
قلنا: لم يصح.
وجوابه لو صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف من العباس، فرد إليه ما استسلف من الصدقة، فأكلها بالعوض.
وقد روينا ذلك مفسرا مستوفى في شرح الحديث.
وقد قال أبو يوسف: يجوز صرف صدقة بني هاشم إلى فقرائهم، فيقال له: أيأكلون من أوساخهم؟ هذا جهل بحقيقة العلة وجهة الكرامة.
 
[مسألة إذا اختص أهل كل بلد بزكاة بلده فهل يجوز نقلها]
المسألة الثامنة والعشرون: قوله: {إنما الصدقات للفقراء} [التوبة: 60]: مقابلة جملة بجملة، وهي جملة الصدقة بجملة المصرف لها، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث البخاري وغيره حين أرسل معاذا إلى اليمن: «قل لهم: إن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» فاختص أهل كل بلد بزكاة بلده؛ فهل يجوز نقلها أم لا؟ في ذلك ثلاثة أقوال:
الأول: لا تنقل، وبه قال سحنون.
وقال ابن القاسم، إلا أنه زاد إن نقل بعضها لضرورة رأيته صوابا.
الثاني: يجوز نقلها، وقاله مالك أيضا.
الثالث: يقسم في الموضع سهم الفقراء والمساكين، وينقل سائر السهام، باجتهاد الإمام.
(2/541)
 
 
والصحيح ما قاله ابن القاسم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ، ولأن الحاجة إذا نزلت وجب تقديمها على من ليس بمحتاج فالمسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه.
 
[الآية السابعة والعشرون قوله تعالى ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب]
الآية السابعة والعشرون:
قوله تعالى {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} [التوبة: 65].
فيها مسألتان:
المسألة الأولى: روي أنها نزلت في غزوة تبوك.
قال الطبري: «بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه، فقالوا: يظن هذا أنه يفتح قصور الشام وحصونها، فأطلعه الله على ما في قلوبهم وقولهم، فدعاهم، فقال: قلتم كذا وكذا؟ فحلفوا: ما كنا إلا نخوض ونلعب، فكان ممن إن شاء الله عفا عنه يقول: أسمع آية تقشعر منها الجلود، وتجث القلوب، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك، لا يقل أحد أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت. قال: فأصيب يوم اليمامة، فما أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره».
وروى الدارقطني عن مالك عن نافع، عن ابن عمر قال: «رأيت عبد الله بن أبي يشتد قدام النبي - صلى الله عليه وسلم - والحجارة تنكبه، وهو يقول: يا محمد، إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ لا تعتذروا».
وروي أن ذلك كله نزل فيما كان من المنافقين في هذه الغزوة.
(2/542)
 
 
[مسألة الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق]
المسألة الثانية: لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدا أو هزلا، وهو كيفما كان كفر؛ فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلف فيه بين الأمة، فإن التحقيق أخو الحق والعلم، والهزل أخو الباطل والجهل.
قال علماؤنا: نظروا إلى قوله: {أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} [البقرة: 67].
فإن كان الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق فقد اختلف الناس في ذلك على أقاويل، جماعها ثلاثة: الفرق بين البيع وغيره.
الثاني: لا يلزم الهزل.
الثالث: أنه يلزم.
فقال في كتاب محمد: يلزم نكاح الهازل.
وقال أبو زيد عن ابن القاسم في العتبية: لا يلزم.
وقال علي بن زياد: يفسخ قبل وبعد.
وللشافعي في بيع الهازل قولان؛ وكذلك يتخرج من قول علمائنا فيه القولان.
قال متأخرو أصحابنا: إن اتفقا على الهزل في النكاح والبيع لم يلزم، وإن اختلفا غلب الجد الهزل.
قال الإمام ابن العربي: فأما الطلاق فيلزم هزله، وكذلك العتق؛ لأنه من جنس واحد يتعلق بالتحريم والقربة، فيغلب اللزوم فيه على الإسقاط.
 
[الآية الثامنة والعشرون قوله تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين]
واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} [التوبة: 73].
فيها ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: [المجاهدة]: فيها ثلاثة أقوال:
الأول: قال ابن مسعود: جاهدهم بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم تستطع فقطب في وجوههم.
(2/543)
 
 
الثاني: قال ابن عباس: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان.
الثالث: قال الحسن: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين بإقامة الحدود عليهم.
واختاره قتادة، وكانوا أكثر من يصيب الحدود.
المسألة الثانية: قال علماء الإسلام ما تقدم، فأشكل ذلك واستبهم، ولا أدري صحة هذه الأقوال في السند.
أما المعنى فإن من المعلوم في الشريعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجاهد الكفار بالسيف على اختلاف أنواعهم، حسب ما تقدم بيانه.
وأما المنافقون فكان مع علمه بهم يعرض عنهم، ويكتفي بظاهر إسلامهم، ويسمع أخبارهم فيلغيها بالبقاء عليهم، وانتظار الفيئة إلى الحق بهم، وإبقاء على قومهم، لئلا تثور نفوسهم عند قتلهم، وحذرا من سوء الشنعة في أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؛ فكان لمجموع هذه الأمور يقبل ظاهر إيمانهم، وبادئ صلاتهم، وغزوهم، ويكل سرائرهم إلى ربهم، وتارة كان يبسط لهم وجهه الكريم، وأخرى كان يظهر التغيير عليهم.
وأما إقامة الحجة باللسان فكانت دائمة، وأما قول من قال: إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود فيهم لأن أكثر إصابة الحدود كانت عندهم، فإنه دعوى لا برهان عليها، وليس العاصي بمنافق، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا، لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا، وأخبار المحدودين يشهد مساقها أنهم لم يكونوا منافقين.
 
[مسألة معنى قوله تعالى واغلظ عليهم]
المسألة الثالثة: قوله تعالى {واغلظ عليهم} [التوبة: 73]: الغلظة نقيض الرأفة، وهي شدة القلب وقوته على إحلال الأمر بصاحبه. وليس ذلك في اللسان.
؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب».
(2/544)
 
 
[الآية التاسعة والعشرون قوله تعالى يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر]
وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير} [التوبة: 74].
فيها ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى {ولقد قالوا كلمة الكفر} [التوبة: 74]: فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه قول الجلاس بن سويد: إن كان ما جاء به محمد حقا فلنحن شر من الحمر.
ثم إنه حلف ما قال؛ قاله عروة ومجاهد وابن إسحاق.
الثاني: أنه عبد الله بن أبي ابن سلول حين قال: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} [المنافقون: 8]؛ قاله قتادة.
الثالث: أنه جماعة المنافقين قالوا ذلك؛ قاله الحسن.
وهو الصحيح؛ لعموم القول، ووجود المعنى فيه وفيهم، وجملة ذلك اعتقادهم وقولهم إنه ليس بنبي.
 
[مسألة الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق والمعرفة]
المسألة الثانية: في هذا دليل على أن الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق والمعرفة، وإن كان الإيمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله دون غيره من الأقوال والأفعال، حسبما بيناه في أصول الفقه ومسائل الخلاف، وذلك لسعة الحل وضيق العقد، وذلك كالطلاق يقع بالنية والقول، وليس يقع النكاح إلا باللفظ المخصوص مع القول به.
 
[مسألة الكافر الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان]
المسألة الثالثة: قوله: {فإن يتوبوا يك خيرا لهم} [التوبة: 74]: فيه دليل على توبة الكافر الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان، وهو الذي يسميه الفقهاء الزنديق.
(2/545)
 
 
وقد اختلف في ذلك العلماء، فقال مالك: لا تقبل له توبة.
وقال الشافعي: تقبل.
وليست المسألة كذلك، وإنما يقول مالك: إن توبة الزنديق لا تعرف؛ لأنه كان يظهر الإيمان ويسر الكفر، ولا يعلم إيمانه إلا بقوله.
وكذلك يفعل الآن، وفي كل حين، يقول: أنا مؤمن، وهو يضمر خلاف ما يظهر، فإذا عثرنا عليه وقال: تبت لم يتغير حاله.
وقبول التوبة لا يكون إلا لتوبة تتغير فيها الحالة الماضية بنقيضها في الآتية.
ولهذا قلنا: إنه إذا جاء تائبا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلنا توبته، وهو المراد بالآية، فإنها ليست بعموم، فتتناول كل حالة؛ وإنما تقتضي القبول المطلقة فيكفي في تحقيق المعنى للفظ وجوده من جهة، وقد بينا المسألة على الاستيفاء في مسائل الخلاف، وهذا القدر يتعلق بالأحكام، وقد بيناه.
 
[الآية الموفية ثلاثين قوله تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن]
ولنكونن من الصالحين} [التوبة: 75] {فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} [التوبة: 76] {فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} [التوبة: 77].
فيها عشر مسائل:
المسألة الأولى: هذه الآية اختلف في شأن نزولها على ثلاثة أقوال:
الأول: أنها نزلت في شأن مولى لعمر قتل حميما لثعلبة، فوعد إن وصل إلى الدية أن يخرج حق الله فيها، فلما وصلت إليه الدية لم يفعل.
الثاني: أن ثعلبة كان له مال بالشام فنذر إن قدم من الشام أن يتصدق منه، فلما قدم لم يفعل.
الثالث: وهو أصح الروايات أن «ثعلبة بن حاطب الأنصاري المذكور قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ادع الله أن يرزقني مالا أتصدق منه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويحك يا ثعلبة، قليل
(2/546)
 
 
تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. ثم عاود ثانية، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما ترضى أن تكون مثل نبي الله، فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تصير معي الجبال ذهبا وفضة لصارت. فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني لأعطين كل ذي حق حقه. فدعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها، ونزل واديا من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمو حتى ترك الجمعة، وطفق يلقى الركبان يوم الجمعة ويسألهم عن الأخبار، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه، فأخبر بكثرة غنمه وبما صار إليه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا ويح ثعلبة ثلاث مرات، فنزلت: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103]. ونزلت فرائض الصدقة، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلين على الصدقة: رجل من جهينة، وآخر من بني سليم، وأمرهما أن يمرا بثعلبة وبرجل آخر من بني سليم، يأخذان منهما صدقاتهما، فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، ما أدري ما هذا؟ انطلقا حتى تفرغا وعودا. وسمع بهما السلمي، فعمد إلى خيار إبله، فعزلها للصدقة، ثم استقبلهما بها، فلما رأوها قالوا: ما يجب عليك هذا، وما نريد أن نأخذ منك هذا. قال: بل فخذوه. فإن نفسي بذلك طيبة، فأخذوها منه، فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرا بثعلبة، فقال: أروني كتابكما وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب لهما كتابا في حدود الصدقة، وما يأخذان من الناس فأعطياه الكتاب، فنظر إليه، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية، فانطلقا عني حتى أرى رأيي. فأتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رآهما قال: يا ويح ثعلبة قبل أن يكلمهما، ودعا للسلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة، والذي صنع السلمي؛ فأنزل الله: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله} [التوبة: 75] الآية؛ وعند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من أقارب ثعلبة، فخرج حتى أتاه، فقال: ويحك يا ثعلبة، قد أنزل الله فيك كذا وكذا فخرج حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأل أن يقبل صدقته منه، فقال: إن الله منعني أن
(2/547)
 
 
أقبل منك صدقتك فقام يحثو التراب على رأسه؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد أمرتك فلم تطعني فرجع ثعلبة إلى منزله، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقبض منه شيئا، ثم أتى إلى أبي بكر فلم يقبض منه شيئا، ثم أتى إلى عثمان بعد عمر فلم يقبض منه شيئا، وتوفي في خلافة عثمان - رضي الله عنه -». وهذا الحديث مشهور.
 
[مسألة العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر في عقده إلى غيره]
المسألة الثانية: قوله: {ومنهم من عاهد الله} [التوبة: 75]: قيل: إنه عاهد بقلبه، والدليل عليه قوله: {ومنهم من عاهد الله} [التوبة: 75] إلى قوله: {فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه} [التوبة: 77] وهذا استنباط ضعيف، واستدلال عليه فاسد فإنه يحتمل أن يكون عاهد الله بلسانه، ولم يعتقد بقلبه العهد.
ويحتمل أن يكون عاهد الله بهما جميعا، ثم أدركته سوء الخاتمة فإن الأعمال بخواتيمها، والأيام بعواقبها.
ولفظ اليمين ورد في الحديث، وليس في ظاهر القرآن يمين إلا مجرد الارتباط والالتزام، أما أنه بصيغة القسم في المعنى فإن اللام تدل عليه، وقد أتى بلامين: اللام الواحدة الأولى لام القسم بلا كلام، والثانية لام الجواب، وكلاهما للتأكيد.
ومنهم من قال: إنهما لاما القسم، وليس يحتاج إلى ذلك، وقد بيناه في الملجئة، وكيفما كان الأمر بيمين أو بالتزام مجرد عن اليمين، أو بنية، فإنه عهد.
وكذلك قال علماؤنا: إن العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ولا يفتقر في عقده إلى غيره، فإنه يلزمه منه ما يلتزمه بقصده، وإن لم يتلفظ به.
قال الشافعي وأبو حنيفة: لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ما رواه أشهب عن مالك، وقد سئل: إذا نوى رجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه، يلزمه ذلك أم لا؟ فقال يلزمه، كما يكون مؤمنا بقلبه، وكافرا بقلبه.
وهذا أصل بديع، وتحريره أن يقال عقد لا يفتقر المرء فيه إلى غيره في التزامه، فانعقد عليه بنية.
أصله الإيمان والكفر.
(2/548)
 
 
وقد بيناه في كتاب الإنصاف أحسن بيان، فلينظر هناك إن شاء الله تعالى وقد أشرنا إلى هذا الغرض قبل هذا بمرماة من النظر تصيبه، وهذا يعضده ويقويه.
 
[مسألة الوفاء بالنذر]
المسألة الثالثة: إن كان نذرا فالوفاء بالنذر واجب من غير خلاف، وتركه معصية.
وإن كانت يمينا فليس الوفاء باليمين باتفاق، بيد أن المعنى فيه [إن كان نذر الرجل أو] إن كان فقيرا لا يتعين عليه فرض الزكاة، فسأل الله مالا يلتزم فيه ما ألزمه من الصدقة، ويؤدي ما تعين عليه فيه من الزكاة، فلما آتاه الله ما سأل ترك ما التزم مما كان يلزمه في أصل الدين لو لم يلتزمه، لكن التعاطي بطلب المال لأداء الحقوق هو الذي أورطه، إذ كان والله أعلم بغير نية خالصة، أو كان بنية لكن سبقت فيه البداية المكتوب عليه فيها الشقاوة.
 
[مسألة عاهد الله من لا يعرفه]
المسألة الرابعة: إن كان هذا المعاهد عارفا بالله فيفهم وجه المعاهدة، وإن كان غير عارف بالله فكيف يصح معاهدة الله مع من لا يعرفه.
قلنا: إن كان وقت المعاهدة عارفا بالله، ثم أذهب المعرفة سوء الخاتمة فلا كلام، وإن كان في وقت المعاهدة منافقا يظهر الإيمان ويسر الكفر فإن قلنا: إن الكفار يعرفون الله فالمعاهدة مفهومة، وإن قلنا: لا يعرفونه وهو الصحيح فإن حقيقة المعاهدة عند علمائنا معاقدة بعزيمة محققة بذكر الله، فإن عاهد الله من لا يعرفه فإنما ذلك إذا ذكره في المعاقدة فخاص من خواص أوصافه، وإن لم يتحقق ربه فينعقد ذلك عليه، ويلزمه حكمه، وينفذ عليه عقابه؛ لأن العقد يتعلق بهذا الذكر اللازم.
 
[مسألة معنى قوله تعالى بخلوا به]
المسألة الخامسة: قوله تعالى {بخلوا به} [التوبة: 76]: اختلف فيه؛ فقيل: البخل منع الواجب، والشح منع المستحب قال تعالى: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله} [آل عمران: 180] إلى: القيامة. وقال تعالى: {ولا يجدون في صدورهم} [الحشر: 9].
(2/549)
 
 
وقيل: هما واحد.
وقد سبقت الإشارة إليه في المتقدم من القول، وما حكيناه هاهنا هو الصحيح، وعليه تدل الأحاديث حسبما بيناه فيها، وظواهر القرآن، حسبما بيناه فيها.
 
[مسألة أربع من كن فيه كان منافقا خالصا]
المسألة السادسة: قوله: {فأعقبهم نفاقا في قلوبهم} [التوبة: 77]: النفاق في القلب هو الكفر، وإذا كان في الأعمال فهو معصية، وقد حققنا ذلك في شرح الصحيح والأصول، وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر». روته الصحاح والأئمة
، وتباين الناس فيه حزقا، وتفرقوا فرقا، بسبب أن المعاصي بالجوارح لا تكون كفرا عند أهل الحق، ولا في دليل التحقيق.
وظاهر هذا الحديث يقتضي أنه إذا اجتمعت فيه هذه الخصال صح نفاقه وخلص، وإذا كان منهن واحدة كانت فيه من النفاق خصلة، وخصلة من النفاق نفاق، وعقدة من الكفر كفر، وعليه يشهد ظاهر هذه الآية بما قال فيه من نكثه لعهده، وغدره الموجب له حكم النفاق؛ فقالت طائفة: إن ذلك إنما هو لمن يحدث بحديث يعلم كذبه، ويعهد بعهد لا يعتقد الوفاء به، وينتظر الأمانة للخيانة فيها.
وتعلقوا فيما ذهبوا إليه من ذلك بحديث خرجه البزار عن سلمان قال: «دخل أبو بكر وعمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من خلال المنافقين ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان. فخرجا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثقيلين، فلقيهما علي فقال لهما: مالي أراكما ثقيلين؟ قالا: حديثا سمعناه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من
(2/550)
 
 
خلال المنافقين إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا وعد أخلف. فقال علي: أفلا سألتماه؟ فقالا: هبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: لكني سأسأله. فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لقيني أبو بكر وعمر، وهما ثقيلان، ثم ذكر ما قالا: فقال: قد حدثتهما، ولم أضعه على الموضع الذي يضعونه، ولكن المنافق إذا حدث وهو يحدث نفسه أنه يكذب، وإذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف، وإذا ائتمن وهو يحدث نفسه أنه يخون».
قال القاضي الإمام: هذا ليس بممتنع لوجهين: أحدهما ضعف سنده.
والثاني أن الدليل الواضح قد قام على أن متعمد هذه الخصال لا يكون كافرا، وإنما يكون كافرا باعتقاد يعود إلى الجهل بالله وصفاته أو التكذيب له.
وقالت طائفة: إنما ذلك مخصوص بالمنافقين زمان رسول الله.
أفادني أبو بكر الفهري بالمسجد الأقصى: «أن مقاتل بن حيان قال خرجت زمان الحجاج بن يوسف، فلما كنت بالري أخبرت أن سعيد بن جبير بها مختف من الحجاج، فدخلت عليه، فإذا هو في ناس من أهل وده. قال: فجلست حتى تفرقوا. ثم قلت: إن لي والله مسألة قد أفسدت علي عيشي. ففزع سعيد، ثم قال: هات. فقلت: بلغنا أن الحسن ومكحولا وهما من قد علمت في فضلهما وفقههما فيما يرويان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صلى وصام، وزعم أنه مؤمن: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان. ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه ثلث النفاق. وظننت أني لا أسلم منهن أو من بعضهن، ولم يسلم منهن كثير من الناس. قال: فضحك سعيد، وقال: همني والله من الحديث مثل الذي أهمك. فأتيت ابن عمر وابن عباس فقصصت عليهما ما قصصت علي، فضحكا
(2/551)
 
 
وقالا: همنا والله من الحديث مثل الذي أهمك. فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أناس من أصحابه، فقلنا: يا رسول الله، إنك قد قلت: ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مؤمن: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، ومن كانت فيه خصلة منهن ففيه ثلث النفاق، فظننا أنا لم نسلم منهن أو من بعضهن ولن يسلم منهن كثير من الناس. قال: فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: ما لكم ولهن؟ إنما خصصت به المنافقين، كما خصهم الله في كتابه. أما قولي: إذا حدث كذب فذلك قول الله عز وجل: {إذا جاءك المنافقون} [المنافقون: 1] لا يرون نبوتك في قلوبهم، أفأنتم كذلك؟ قال: فقلنا: لا. قال: فلا عليكم، أنتم من ذلك برآء. وأما قولي: إذا وعد أخلف، فذلك فيما أنزل الله علي: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله} [التوبة: 75] إلى: يكذبون. أفأنتم كذلك؟ قال: فقلنا: لا، والله لو عاهدنا الله على شيء لوفينا بعهده. قال: فلا عليكم، أنتم من ذلك برآء. وأما قولي: إذا ائتمن خان، فذلك فيما أنزل الله: {إنا عرضنا الأمانة} [الأحزاب: 72] إلى: {جهولا} [الأحزاب: 72]. فكل مؤمن مؤتمن على دينه، والمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية، ويصوم ويصلي في السر والعلانية، والمنافق لا يفعل ذلك إلا في العلانية، أفأنتم كذلك؟ قلنا: لا. قال: فلا عليكم، أنتم من ذلك برآء. قال: ثم خرجت من عنده فقضيت مناسكي، ثم مررت بالحسن بن أبي الحسن البصري، فقلت له: حديث بلغني عنك. قال: وما هو؟ قلت: من كن فيه فهو منافق. قال: فحدثني بالحديث. قال: فقلت: أعندك فيه شيء غير هذا؟ قال: لا. قلت: ألا أحدثك حديثا حدثني به سعيد بن جبير، فحدثته به، فتعجب منه، وقال: إن لقينا سعيدا سألناه عنه، وإلا قبلناك.»
(2/552)
 
 
قال القاضي: هذا حديث مجهول الإسناد، وأما معناه ففيه نحو من الأول، وهو تخصيصه من عمومه، وتحقيقه بصفته، أما قوله: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله} [المنافقون: 1] الآية، فإنه كذب في الاعتقاد، وهو كفر محض.
وأما قوله: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله} [التوبة: 75] فهي الآية التي نتكلم فيها الآن، وهي محتملة يمكن أن يصحبها الاعتقاد، بخلاف ما عاهد عليه عند العهد.
ويحتمل أن يكون بنية الوفاء حين العهد، وطرأ عليه ذلك بعد تحصيل المال.
وأما قوله: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال} [الأحزاب: 72].
وقوله فيه: إن المؤمن يصلي في السر والعلانية، ويغتسل ويصوم كذلك، فقد يترك الصلاة والغسل تكاسلا إذا أسر، ويفعلها رياء إذا جهر ولا يكذب بهما، وكذلك في الصوم مثله، ولا يكون منافقا بذلك، لما بيناه من أن المنافق من أسر الكفر، والعاصي من آثر الراحة، وتثاقل في العبادة.
وقالت طائفة: هذا فيمن كان الغالب عليه هذه الخصال.
والذي عندي أنه لو غلبت عليه المعاصي ما كان بها كافرا ما لم تؤثر في الاعتقاد.
والذي عندي أن البخاري روى عن حذيفة أن النفاق كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان؛ وذلك أن أحدا لا يعلم منه هذا، كما كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمه منه النبي، وإنما هو القتل دون تأخير، فإن ظهر ذلك من أحد في زماننا فيكون كقوله: «من ترك الصلاة فقد كفر، وأيما عبد أبق من مواليه فقد كفر».
وقد قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إن أخوة يوسف عاهدوا أباهم فأخلفوه، وحدثوه فكذبوه، وائتمنهم عليه فخانوه، وما كانوا منافقين.
(2/553)
 
 
وقد حققنا ذلك في كتاب المشكلين.
تحقيقه أن الحسن بن أبي الحسن البصري عالم من علماء الأمة قال: النفاق نفاقان: نفاق الكذب، ونفاق العمل، فأما نفاق الكذب فكان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما نفاق العمل فلا ينقطع إلى يوم القيامة.
 
[مسألة رؤية الله في الآخرة]
المسألة السابعة: قوله تعالى {إلى يوم يلقونه} [التوبة: 77]: فيه قولان: أحدهما: أن الضمير عائد إلى الله تعالى.
والثاني: أنه عائد على النفاق.
عبر عنه بجزائه، كأنه قال: فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقون جزاءه.
وعلى ذكر هذه الآية أنبئكم أني كنت بمجلس الوزير العادل أبي منصور بن حمير على رتبة بيناها في كتاب " ترتيب الرحلة للترغيب في الملة "، فقرأ القارئ: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} [الأحزاب: 44] وكنت في الصف الثاني من الحلقة، فظهر أبو الوفاء علي بن عقيل إمام الحنبلية بها، وكان معتزلي الأصول، فلما سمعت الآية قلت لصاحب لي كان يجلس على يساري: هذه الآية دليل على رؤية الله في الآخرة، فإن العرب لا تقول: " لقيت فلانا " إلا إذا رأته.
فصرف وجهه أبو الوفاء المذكور إلينا مسرعا، وقال: تنتصر لمذهب الاعتزال في أن [الله] لا يرى في الآخرة، فقد قال: {فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه} [التوبة: 77].
وعندك أن المنافقين لا يرون الله في الآخرة، وقد شرحنا وجه الآيتين في المشكلين، وتقدير الآية: فأعقبهم هو نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه، فيحتمل عود ضمير " يلقونه " إلى ضمير الفاعل في أعقبهم المقدر بقولنا هو، ويحتمل أن يعود إلى النفاق مجازا على تقدير الجزاء كما بيناه. .
 
[مسألة مخالفة العهد ونكث العهد]
المسألة الثامنة: قوله تعالى {بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} [التوبة: 77]: يريد به تحريم مخالفة العهد ونكث العهد كيفما تصرفت حاله.
(2/554)
 
 
روى البخاري عن نافع قال: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده، فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة»، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله وبيعة رسوله؛ وإني لا أعلم غدرا أعظم من أن يبايع رجل على بيعة الله وبيعة رسوله، ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه، ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه.
وقال ابن خياط: إن بيعة عبد الله ليزيد كانت كرها، وأين يزيد من ابن عمر، ولكن رأى بدينه وعلمه التسليم لأمر الله، والفرار عن التعرض لفتنة فيها من ذهاب الأموال والأنفس ما لا يفي بخلع يزيد.
ولو تحقق أن الأمر يعود بعده في نصابه، فكيف وهو لا يعلم ذلك؟ وهذا أصل عظيم فتفهموه والتزموه ترشدوا إن شاء الله تعالى.
 
[مسألة قال إن ملكت كذا فهو صدقة أو علي صدقة]
المسألة التاسعة: قوله تعالى {لئن آتانا من فضله لنصدقن} [التوبة: 75]: دليل على أنه من قال: إن ملكت كذا فهو صدقة، أو علي صدقة، إنه يلزمه؛ وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعي لا يلزمه ذلك، والخلاف في الطلاق مثله، وكذلك في العتق، إلا أن أحمد بن حنبل يقول: إنه يلزم ذلك في العتق، ولا يلزم في الطلاق.
وظاهر هذه الآية يدل على ما قلناه خلافا للشافعي، وتعلق الشافعي بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا طلاق قبل نكاح، ولا نذر فيما لا يملك ابن آدم».
وسرد أصحابه في هذا الباب أحاديث كثيرة لم يصح شيء منها، فلا معول عليه، ولم يبق إلا ظاهر هذه الآية، والمعاني مشتركة بيننا.
وقد حققنا المسألة بطرقها في كتاب التخليص.
وأما أحمد فزعم أن العتق قربة، وهي تثبت في الذمة بالنذر، بخلاف الطلاق فإنه تصرف في محله، وهو لا يثبت في الذمة.
(2/555)
 
 
وقال علماؤنا: إن كان الطلاق لا يثبت في الذمة فإن القول ينعقد من المتكلم إذا صادف محلا، وربطه بملك، كما لو قال رجل لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، فإن القول ينعقد ويصح ويلزم، وإذا دخلت الدار وقع الطلاق بالقول السابق له، اللازم المنعقد، المضاف إلى محل صحيح تصح إضافة الطلاق إليه، وهي الزوجة؛ فكذلك إذا قال لها: إذا تزوجتك فأنت طالق، وإذا ملكت هذا العبد فهو حر؛ لأنه أضاف التصرف إلى محله في وقت يصح وقوعه فيه؛ فيلزمه كما لو قال لزوجته: إذا دخلت الدار فأنت طالق، أو قال لعبده: إذا دخلت الدار فأنت حر.
 
[مسألة صحة الإيمان شرط لقبول الصدقة والصلاة وسائر الأعمال]
المسألة العاشرة: قوله تعالى {فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه} [التوبة: 77]: حيل بينهم وبين التوبة، وصرح بنفاقهم وكفرهم؛ فلذلك لم تقبل صدقاتهم؛ لأن صحة الإيمان شرط لقبول الصدقة والصلاة وسائر الأعمال؛ ولذلك لم يقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان؛ اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلمه بسريرته، واطلاعه على بنيات صدره.
 
[الآية الحادية والثلاثون قوله تعالى ولا تصل على أحد منهم مات أبدا]
الآية الحادية والثلاثون: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} [التوبة: 84].
فيها خمس مسائل:
المسألة الأولى: سبب نزولها: ثبت في الصحاح والمصنفات حديث عبد الله بن عباس وغيره قال: «سمعت عمر بن الخطاب يقول: لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة عليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولت حتى قمت في صدره، فقلت: يا رسول الله: أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل كذا يوم كذا وكذا يعدد عليه آثامه قال: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: أخر عني يا عمر، إني خيرت فاخترت، قد قيل لي: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} [التوبة: 80]. لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت.
(2/556)
 
 
قال: ثم صلى عليه، ومشى معه، فقام على قبره حتى فرغ منه قال: فعجبت لي ولجراءتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله ورسوله أعلم. قال: فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان: {ولا تصل على أحد} [التوبة: 84] إلى آخر الآيتين. قال: فما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد على منافق، ولا قام على قبره، حتى قبضه الله».
وفي الصحيح أيضا عن ابن عمر قال: «جاء عبد الله بن عبد الله بن أبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حين مات أبوه، فقال: أعطني قميصك أكفنه فيه، وصل عليه، واستغفر له. فأعطاه قميصه، وقال: إذا فرغتم فآذنوني فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر، وقال: أليس قد نهى الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال: أنا بين خيرتين: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم. فصلى عليه فأنزل الله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} [التوبة: 84] فترك الصلاة عليهم».
 
[مسألة معنى قوله تعالى استغفر لهم أو لا تستغفر لهم]
المسألة الثانية: اختلف الناس في قوله: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} [التوبة: 80] هل هو إياس أو تخيير؟ فقال قوم: هو إياس بدليل ثلاثة أشياء: أحدها: أنه قال: {فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80].
الثاني: أنه قال: إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم مبالغة، كقول القائل: لو سألتني مائة مرة ما أجبتك.
(2/557)
 
 
الثالث: أنه علل ذلك بقوله: {ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله} [التوبة: 80] وهذه العلة موجودة بعد الزيادة على السبعين، وحيث توجد العلة يوجد الحكم.
وقال قوم: هو تخيير من الله لنبيه، والدليل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: «إني خيرت فاخترت؛ قد قيل لي: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت».
وهذا أقوى؛ لأن هذا نص صريح صحيح من النبي - صلى الله عليه وسلم - في التخيير، وتلك استنباطات، والنص الصريح أقوى من الاستنباط.
فأما قولهم: إنه قال: {فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80] فهذا في السبعين، وليس ما وراء السبعين كالسبعين، لا من دليل الخطاب ولا من غيره؛ أما من دليل الخطاب فإن دليل الخطاب لا يكون في الأسماء؛ وإنما يكون في الصفات، حسبما بيناه في أصول الفقه، ورددناه على الدقاق من أصحاب الشافعي الذي يجعله في الأسماء والصفات، وهو خطأ صراح وأما من غير دليل الخطاب فظاهر أيضا؛ لأن الحكم إذا علق على اسم علم بقي غيره خاليا عن ذلك الحكم، فيطلب الحكم فيه من دليل آخر.
وأما قولهم: إنها مبالغة فدعوى.
ولعله تقدير لمعنى، حتى لقد قال [في] ذلك الأستاذ أبو بكر بن فورك - رحمه الله -: إن التعديل في الخمسة؛ لأنها نصف العقد، وزيادة الواحدة أدنى المبالغة، وزيادة الاثنين لأقصى المبالغة، ومنه سمي الأسد سبعا، عبارة عن غاية القوة، وفي الأمثال: أخذه أخذة سبعة أي: غاية الأخذ، على أحد التأويلات، وهذا تحكم؛ إذ يحتمل أن يقول: إن الاثنين أوسط المبالغة، والثلاثة نهايتها، وذلك في الثمانية، ومنه يقال في المثل لمن بالغ في عوض السلعة: أثمنت.
أي: بلغت الغاية في الثمن، وهذه التحكمات لا قوة فيها، والاشتقاقات لا دليل عليها؛ وإنما هي ملحة، فإذا عضدها الدليل كانت صحيحة.
وأما قولهم: إنه علله بالكفر، وذلك موجود بعد السبعين، والكافر لا يغفر له.
قلنا: أما قولهم: إن ذلك موجود بعد السبعين، فيقال له: هذا الحكم من عدم
(2/558)
 
 
المغفرة إنما كان معلقا بالسبعين، والزيادة غير معتبرة به، كما تقدم بيانه، وإنما علم عدم المغفرة في الكافر بدليل آخر، ورد من طرق، منها قوله: {سواء عليهم أستغفرت لهم} [المنافقون: 6] الآية.
 
[مسألة إعطاء قميص النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي المنافق ليكفن فيه]
المسألة الثالثة: في إعطاء القميص: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: روي «أن عبد الله إذ طلب القميص كان على النبي قميصان قال: أعطه الذي يلي جلدك».
وقالوا: «إنه إنما أعطاه قميصه مكافأة على إعطائه قميصه يوم بدر للعباس، فإنه لما أسر واستلب ثوبه رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك، فأشفق، وطلب له قميصا، فما وجد له في الجملة قميصا يقادره إلا قميص عبد الله، لتقاربهما في طول القامة، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعطائه القميص أن ترتفع اليد عنه في الدنيا، حتى لا يلقاه في الآخرة، وله عنده يد يكافئه بها».
 
[مسألة الصلاة على الكفار]
المسألة الرابعة: قوله تعالى {ولا تصل على أحد منهم} [التوبة: 84] الآية: نص في الامتناع من الصلاة على الكفار، وليس فيه دليل على الصلاة على المؤمنين.
وقد وهم بعض أصحابنا فقال: إن الصلاة على الجنازة فرض على الكفاية، بدليل قوله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا} [التوبة: 84] فنهى الله عن الصلاة على الكفار، فدل على وجوبها على المؤمنين، وهذه غفلة عظيمة؛ فإن الأمر بالشيء نهي عن أضداده كلها عند بعض العلماء لفظا، وباتفاقهم معنى.
فأما النهي عن الشيء فقد اتفقوا في الوجهين على أنه أمر بأحد أضداده لفظا أو معنى، وليست الصلاة على المؤمنين ضدا مخصوصا للصلاة على الكافرين؛ بل كل طاعة ضد لها، فلا يلزم من ذلك تخصيص الصلاة على المؤمنين دون سائر الأضداد.
المسألة الخامسة: صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابن أبي اختلف فيها على ثلاثة أقوال:
الأول: ما تقدم من أنه خير فاختار.
الثاني: ما روي أنه فعل ذلك مراعاة لولده، وعونا له على صحة إيمانه، إيناسا له
(2/559)
 
 
وتأليفا لقومه؛ فقد روي «أنه لما صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسلم من الخزرج ألف رجل».
الثالث: ما روى أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: «دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال: قد كنت أسمع قولك، فامنن علي اليوم، وكفني بقميصك، وصل علي. فكفنه رسول الله بقميصه، وصلى عليه. قال ابن عباس: فالله أعلم أي صلاة هي، وإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يخادع إنسانا قط. قال عكرمة: غير أنه قال يوم الحديبية كلمة حسنة قال المشركون: إنا منعنا محمدا أن يطوف بالبيت، وإنا نأذن لك. فقال: لا، لي في رسول الله أسوة حسنة.»
قال القاضي: واتباع القرآن أولى في قوله تعالى: {إنهم كفروا بالله} [التوبة: 84] الآية.
فأخبر عنه بالكفر والموت على الفسق.
وهذا عموم في الذي نزلت الآية بسببه، وفي كل منافق مثله.
 
[الآية الثانية والثلاثون قوله تعالى ليس على الضعفاء ولا على المرضى]
ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم} [التوبة: 91] {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون} [التوبة: 92].
فيها سبع مسائل:
المسألة الأولى: في سبب نزولها: فيه خمسة أقوال:
الأول: نزلت في العرباض بن سارية.
الثاني: نزلت في بني مقرن من مزينة؛ قاله مجاهد.
الثالث: نزلت في عبد الله بن الأزرق، وابن أبي ليلى.
الرابع: نزلت في سبعة من قبائل شتى؛ قاله محمد بن كعب.
(2/560)
 
 
الخامس: في أبي موسى، وأصحابه؛ قاله الحسن.
وهو الصحيح.
ثبت أن «أبا موسى قال: أتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من الأشعريين، فاستحملناه، فأبى أن يحملنا، فاستحملناه فحلف ألا يحملنا، ثم لم يلبث النبي أن أتى بنهب إبل، فأمر لنا بخمس ذود، فلما قبضناها قلنا: تغفلنا النبي يمينه، لا نفلح بعدها أبدا، فأتيته فقلت: يا رسول الله؛ إنك حلفت ألا تحملنا، وقد حملتنا. قال: أجل، ولكني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير منها».
 
[مسألة الخروج لغزوة تبوك]
المسألة الثانية: في المعنى: إن الله لما استنفرهم لغزو الروم، ودعاهم إلى الخروج لغزوة تبوك بادر المخلصون، وتوقف المنافقون والمتثاقلون، وجعلوا يستأذنون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التخلف، ويعتذرون إليه بأعذار منها كفر، كقول الحر بن قيس: ائذن لي ولا تفتني ببنات بني الأصفر؛ فإني لا أقدر على الصبر عنهن، فأنزل الله تعالى: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا} [التوبة: 49].
ومنهم من قال: {لا تنفروا في الحر قل نار جهنم} [التوبة: 81].
وقال في أهل العذر الصحيح: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى} [التوبة: 91] إلى: {من سبيل} [التوبة: 91].
وهم الذين صدقوا في حالهم، وكشفوا عن عذرهم، وهي:
المسألة الثالثة: التي بين الله في قوله: {وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم} [التوبة: 90].
فأخبر الله سبحانه أن الناس ثلاثة أقسام: صنف معذر، وهو المقصر.
وصنف ذو عذر.
وصنف لم يعتذر بعذره، ولا أظهر شيئا من أمره، بل أعرض عن ذلك كله، يقال: عذر الرجل بتشديد الذال: إذا قصر، وأعذر إذا أبان عن عذره، وكل واحد منها يدخل على صاحبه.
وقد قرئ المعذرون بإسكان العين، وتخفيف
(2/561)
 
 
الذال، وبذلك قال جماعة من الناس؛ لكن يكشف المعنى فيه حقيقة الحال منه، ولذلك عقبه الله تعالى بقوله: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة: 91] وهم الذين أبدوا عن عذر صحيح، أو علم الله صدق عذرهم فيما لم يبد عليهم دليل من حالهم.
والعجب من القاضي أبي إسحاق يقول: إن سياق الكلام يقتضي أنهم الذين لا عذر لهم: وأنهم مذمومون؛ لأنهم جاءوا ليؤذن لهم، ولو كانوا من الضعفاء أو المرضى لم يحتاجوا أن يستأذنوا؛ وليس الأمر كذلك؛ بل كل أحد يستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعلمه بحاله، فإن كان مرئيا فالعيان شاهد لنفسه، وإن كان غير مرئي مثل عجز البدن وقلة المال، فالله شهيد به، وهو أعدل الشاهدين، يلقي اليقين على رسوله بصدق عذر المعتذرين إليه، ويخلق له القبول في قلبه له.
 
[مسألة معنى قوله تعالى ما على المحسنين من سبيل]
المسألة الرابعة: قوله تعالى {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة: 91]: يريد من طريق إلى العقوبة على فعله؛ لأنه إحسان في نفسه، والحسن ما لم ينه عنه الشرع، والقبيح ما نهى عنه وقد بينا ذلك هاهنا وفي كتب الأصول.
 
[مسألة يقتص من قاطع يده]
المسألة الخامسة: هذا عموم ممهد في الشريعة، أصل في رفع العقاب والعتاب عن كل محسن.
قال علماؤنا في الذي يقتص من قاطع يده فيفضي ذلك بالسراية إلى إتلاف نفسه، فقال أبو حنيفة: يلزمه الدية.
وقال مالك والشافعي: لا دية عليه؛ لأنه محسن في اقتصاصه من المعتدي عليه، فلا سبيل إليه.
وكذلك إذا صال فحل على رجل فقتله في دفعه عن نفسه فلا ضمان عليه عندنا؛ وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يلزمه لمالكه قيمته، وكذلك في مسائل الشريعة كلها.
وقد أومأنا إلى ذلك في مسائل الخلاف، وقررنا هذا الأصل في كتب الأصول.
 
[مسألة عذر المعتذر بالحاجة والفقر عن التخلف في الجهاد]
المسألة السادسة: قوله تعالى {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه} [التوبة: 92]: أقوى دليل على قبول عذر المعتذر بالحاجة والفقر عن التخلف في الجهاد إذا ظهر من حاله صدق الرغبة، مع دعوى المعجزة، كإفاضة العين، وتغيير الهيئة؛ لقوله:
(2/562)
 
 
{تولوا وأعينهم تفيض} [التوبة: 92] الآية، ويدل على أنه لا يلزم الفقير الخروج في الغزو والجهاد تعويلا على النفقة من المسألة، حاشا ما قاله علماؤنا دون سائر الفقهاء: إن ذلك إذا كانت عادة لزمه ذلك، وخرج على العادة؛ وهو صحيح؛ لأن إذا لم يتغير يتوجه الفرض عليه توجهه عليه، ولزمه أداؤه، وهي: المسألة السابعة: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: من قرائن الأحوال ما يفيد العلم الضروري، ومنها ما يحتمل الترديد؛ فالأول كمن يمر على دار قد علا فيها النعي، وخمشت فيها الخدود، وحلقت الشعور، وسلقت الأصوات، وخرقت الجيوب، ونادوا على صاحب الدار بالثبور، فيعلم أنه قد مات.
وأما الثاني فكدموع الأيتام على أبواب الحكام قال الله تعالى مخبرا عن إخوة يوسف: {وجاءوا أباهم عشاء يبكون} [يوسف: 16] وهم الكاذبون، وجاءوا على قميصه بدم كذب، ومع هذا فإنها قرائن يستدل بها في الغالب، وتنبني عليها الشهادة في الوقت وغيره بناء على ظواهر الأحوال وغالبها.
 
[الآية الثالثة والثلاثون قوله تعالى يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم]
قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} [التوبة: 94].
فيها ست مسائل: المسألة الأولى: هذه الآية نزلت بعد ذكر المنافقين هاهنا، ونزلت بعد ذكر المؤمنين بعد هذا بآيات، فأما هذه التي أعقبت ذكر المنافقين فمعناها التهديد، وأما الآية التي نزلت بعد هذا فمعناها الأمر، وتقديرها: اعملوا بما يرضي الله، وذلك أن النفاق موضع
(2/563)
 
 
ترهيب، والإيمان محل ترغيب، فقوبل أهل كل محل من الخطاب بما يليق به، كما قيل للكفار: اعملوا ما شئتم، على معنى التهديد.
 
[مسألة معنى قوله تعالى وسيرى الله عملكم ورسوله]
المسألة الثانية: قوله تعالى {وسيرى الله عملكم ورسوله} [التوبة: 94]: الباري راء مرئي، يرى الخلق، ويرونه، فأما رؤيتهم له ففي محل مخصوص، ومن قوم مخصوصين، وأما رؤيته للخلق فدائمة، فهو تعالى يعلم ويرى.
وقال جماعة من المبتدعة: إنه يعلم ولا يرى، ومتى أخبر عنه بالرؤية فإنها راجعة إلى العلم، وقد دللنا في كتب الأصول على أنه راء برؤية، كما أنه عالم بعلم؛ لأنه أخبر عن نفسه بذلك، وخبره صادق، ولو لم يكن رائيا لكان مئوفا؛ لأن الحي إذا لم يكن مدركا كان مئوفا، وهو المتقدس عن الآفات والنقائص، وهذه العمدة العقلية لعلمائنا؛ فقد أخبر سبحانه عن نفسه بما يجب له من صفته، وقام الدليل عليه من نعته، فلزمنا اعتقاده والإخبار به.
المسألة الثالثة: قوله تعالى {وسيرى الله عملكم} [التوبة: 94]: ذكره بصيغة الاستقبال؛ لأن الأعمال مستقبلة، والباري يعلم ما يعمل قبل أن يعمل، ويراه إذا عمل؛ لأن العلم يتعلق بالموجود والمعدوم، والرؤية لا تتعلق إلا بالموجود، وقد قال في الحديث الصحيح، «عن جبريل: ما الإحسان؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك».
المسألة الرابعة: قال الأستاذ أبو بكر: قوله: {وسيرى الله عملكم} [التوبة: 94]: معناه يجعله في الظهور محل ما يرى.
وروى ابن القاسم، عن مالك في الآية: أنه كان يقال: ابن آدم، اعمل وأغلق عليك سبعين بابا، يخرج الله عملك إلى الناس.
وهذا الذي قاله الأستاذ أبو بكر، والإمام مالك، إنما يكون فيما يتعلق برؤية الناس، فأما رؤية الله فإنها تتعلق بما يسره، كما تتعلق بما يظهره؛ لأنه لا تؤثر الحجب في رؤيته، ولا تمنع الأجسام عن إدراكه.
(2/564)
 
 
وفي الأثر «عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو أن رجلا عبد الله في صخرة لا باب لها، ولا كوة لأخرج الله عمله إلى الناس كائنا ما كان، والله يطلع المؤمنين على ما في قلوب إخوانهم من خير فيحبونه، أو شر فيبغضونه».
وقال الله: «إذا تقرب إلي عبدي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإذا أتاني يمشي آتيته أهرول، ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به».
وفي الصحيح: «إذا أحب الله عبدا نادى في السماء يا جبريل؛ إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل: يا ملائكة السماء؛ إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه ملائكة السماء؛ ثم يوضع له القبول في الأرض، ولا أراه في البغض إلا مثل ذلك».
إيضاح مشكل: قوله: " إذا تقرب العبد مني شبرا تقربت منه ذراعا مثل؛ لأن البارئ سبحانه يستحيل عليه القرب بالمساحة؛ وإنما قربه بالعلم والإحاطة للجميع، وبالرحمة والإحسان لمن أراد ثوابه.
وقوله أيضا: أتيته أهرول مثله في التمثيل، والإشارة به إلى أن الثواب يكون أكثر من العمل، فضرب زيادة الأفعال بين الخلق في المجازاة على البعض مثلا في زيادة ثوابه على أعمالهم.
وقوله: لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل، إشارة إلى أن المواظبة على العمل توجب مواظبة الثواب، وتطهر المواظبة الأعضاء عن المعاصي؛ فحينئذ تكون الجوارح لله خالصة؛ فعبر بنفسه تعالى عنها تشريفا لها حين خلصت من المعاصي.
ومثله النزول، فإنه عبارة عن إفاضة الخير ونشر الرحمة. .
(2/565)
 
 
[مسألة المنافقين يعتقدون الكفر ويظهرون أعمال الإيمان كأنها أعمال بر]
المسألة الخامسة: أما الآية الأولى في المنافقين فهي على رسم التهديد، كما بيناه، ومعناها أن المنافقين يعتقدون الكفر، ويظهرون أعمال الإيمان كأنها أعمال بر، وهي رياء وسمعة بغير اعتقاد ولا نية، فالله يراها كذلك، ويطلع عليها عباده المؤمنين، فأما اطلاع رسوله فبعينيه، وأما اطلاع المؤمنين فبالعلامات من الأعمال والأمارات الدالة على الاعتقاد، وذلك كما قال: من أسر سريرة ألبسه الله رداءها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وأما الآية الثانية في المؤمنين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فإن الله يراه ويعلمه، فيعلمه رسوله والمؤمنون على النحو الذي تقدم، ونرد العلمين إلى عالم الغيب والشهادة فنجزيهم بأعمالهم ومواقعها.
أما المنافق فنقدم إلى عمله فنجعله هباء منثورا.
وأما المؤمن الذي خلط في أعماله طاعة بمعصية فإنه يوازن بها في الكفتين، فما رجح منها على مقدار عمله فيها أظهره عليها، وحكم به لها.
والمرء يكون في موطنين: أحدهما: موطن الخاتمة عند قبض الروح، وهي: المسألة السادسة: فإنه وقت كشف الغطاء، وسلامة البصر عن العمى، فيقال له: {فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق: 22].
فانظر إلى ما كنت غافلا عنه، أو به متهاونا.
والحالة الثانية عند الوزن، وتطاير الصحف والأنباء، حينئذ يكون بإظهار الجزاء، وشرح صفة الأنباء ومواطنه في كتاب الذكر.
 
[الآية الرابعة والثلاثون قوله تعالى الأعراب أشد كفرا ونفاقا]
وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم} [التوبة: 97].
فيها ثلاث مسائل:
(2/566)
 
 
المسألة الأولى: في قوله تعالى {الأعراب} [التوبة: 97]: اعلموا وفقكم الله لسبيل العلم تسلكونها، وصرفكم عن الجهالات ترتكبونها أن بناء " عرب " ينطلق في لسان العرب على معان لا تنتظم في مساق واحد، وعلى رأي من يريد أن يجعل الأبنية تنظر إلى المعاني من مشكاة واحدة؛ فإن ذلك قد يجده الطالب له، وقد يعسر عليه، وقد يعدمه وينقطع له.
وهذا البناء مما لم يتفق لي ربط معانيه به.
وقد جاء ذكر الأعراب في القرآن هاهنا، وجاء في السنة ذكر العرب في أحاديث كثيرة؛ ولغة العرب منسوبة إلى العرب، والعرب اسم مؤنث، فإذا صغروه أسقطوا الهاء فقالوا: عريب.
ويقال: عرب وعرب بفتح الفاء والعين، وبضم الفاء وبإسكان العين.
والعاربة والعرباء؛ وهم أوائلهم، أو قبائل منهم، يقال إنهم سبع، سماهم ابن دريد وغيره.
ويقال الأعراب والأعاريب.
وقال ابن قتيبة: الأعرابي لزيم البادية، والعربي منسوب إلى العرب وكأنه يشير إلى أن هذه النسبة قد تكون نسبة جنس كالأعرابي، وقد تكون نسبة لسان، وإن كان من الأعاجم إذا تعلمها.
وتحقيق القول أن الأعراب جمع، وهو بناء له في الواحد أمثال منها: فعل وفعل وفعل وفعل، كقفل وأقفال، وفلس وأفلاس، وحمل وأحمال، وجمل وأجمال، ولم أجد عربا بكسر الفاء إلا في نوع من النبات لا يستجيب مع سائر الأبنية، ويا ليت شعري، ما الذي يمنع أن يكون الأعرابي منسوبا إلى الأعراب، والعربي منسوبا إلى العرب، ويكون الأعراب هم العرب.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا سلمان؛ لا تبغضني فتفارق دينك. قال: وكيف أبغضك يا رسول الله؟ قال: تبغض العرب».
(2/567)
 
 
وقال: «من غش العرب لم يدخل في شفاعتي».
وقال: «من اقتراب الساعة هلاك العرب».
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لتفرن من الدجال حتى تلحقوا بالجبال. قيل: يا رسول الله؛ فأين العرب يومئذ؟ قال: هم قليل».
وقال أيضا: «سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش».
ومن غريب هذا الاسم أن بناءه في التركيب للتعميم بناء الحروف في المخارج على الترتيب.
المسألة الثانية: وهي فائدة القول: اعلموا وفقكم الله أن الله تعالى علم آدم الأسماء كلها، فكان مما علم من الأسماء العرب والأعراب والعربية، ولا نبالي كيف كانت كيفية التعلم من لدن آدم إلى الأزمنة المتقادمة قبلنا، وقبل فساد اللغة، فكان هذا اسم اللسان، واسم القبيلة، حتى بعث الله محمدا سيدها، بل سيد الأمم - صلى الله عليه وسلم - فأعطى الله لها اسما شريفا، وهو نبي، رسول إلى سائر أسمائه حسبما بيناها في شرح الصحيح والقبس وغيره، وأعطى من آثر دينه على أهله وماله اسما أشرف من " عرب " ومن " قرش " وهو " هجر " فقال: المهاجرون، وأعطى من آوى وناضل اسما أشرف من الذي كان وهو " نصر " فقال: الأنصار، وعمهم باسم كريم شريف الموضع والمقطع، وهو " صحب " فقال: أصحابي، وأعطى من لم يره حظا في التشريف باسم عام يدخلون به في الحرمة، وهي
(2/568)
 
 
الأخوة، فقال: «وددت أني رأيت إخواننا. قلنا: ألسنا بإخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون من بعد»
فمن دخل في الهجرة أو ترسم بالنصرة فقد كمل له شرف الصحبة، ومن بقي على رسمه الأول بقي عليه اسمه الأول، وهم الأعراب.
ولذلك قيل «لما صار سلمة بن الأكوع في الرعية قال له الحجاج: يا سلمة، تعربت، ارتددت على عقبيك. فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن لي في التعريب»
وبعد هذا فاعلموا وهي:
المسألة الثالثة: أن كل مسلم كان عليه فرضا أن يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون معه، حتى تتضاعف النصرة، وتنفسح الدوحة، وتحتمي البيضة، ويسمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دينهم، ويتعلموا شريعتهم حتى يبلغوها إلى يوم القيامة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «تسمعون ويسمع منكم»، ويسمع ممن سمع منكم، فمن ترك ذلك، وبقي في إبله وماشيته، وآثر مسقط رأسه، فقد غاب عن هذه الحظوظ، وخاب عن سهم الشرف، وكان من صار مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ صار إليه مؤهلا لحمل الشريعة وتبليغها، متشرفا بما تقلد من عهدتها، وكان من بقي في موضعه خائبا من هذا الحظ منحطا عن هذه المرتبة.
والذين كانوا معه يشاهدون آياته، ويطالعون غرته البهية، كان الشك يختلج في صدورهم، والنفاق يتسرب إلى قلوبهم، فكيف بمن غاب عنه، فعن هذا وقع البيان بقوله: {الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} [التوبة: 97]؛ فمنهم من يتخذ ما ينفق في سبيل الله، وعلى إعلاء كلمة الله مغرما لا مغنما، ومنهم من يسلم له اعتقاده؛ فيتخذ ما ينفق وسيلة إلى الله، وقربة ورغبة في صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضاه عنه.
(2/569)
 
 
[الآية الخامسة والثلاثون قوله تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار]
الآية الخامسة والثلاثون] تكملة: من خواص هؤلاء الخواص وسادة هؤلاء السادة {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} [التوبة: 100].
وهي الآية الخامسة والثلاثون، وفيها سبع مسائل:
المسألة الأولى: في تحقيق السبق: وهو التقدم في الصفة، أو في الزمان، أو في المكان، فالصفة الإيمان، والزمن لمن حصل في أوان قبل أوان، والمكان من تبوأ دار النصرة، واتخذه بدلا عن موضع الهجرة، وهم على ثماني مراتب: الأولى: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعد، وبلال، وغيرهم.
الثانية: دار الندوة.
الثالثة: مهاجرة أصحاب الحبشة، كعثمان، والزبير.
الرابعة: أصحاب العقبتين، وهم الأنصار.
الخامسة: قوم أدركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بقباء قبل أن يدخل المدينة.
السادسة: من صلى إلى القبلتين.
السابعة: أهل بدر.
الثامنة: أهل الحديبية، وبهم انقطعت الأولية.
واختار الشافعي الثامنة في تفسير الآية، واختار في تفسيرها ابن المسيب، وقتادة، والحسن من صلى إلى القبلتين.
 
[مسألة القراءة في قوله والأنصار]
المسألة الثانية: القراءة في قوله: {والأنصار} [التوبة: 100]: بالخفض عطفا على المهاجرين، فيكونون أيضا فيها على مراتب منهم العقبيون، ومنهم أهل القبلتين، ومنهم البدريون، ومنهم الرضوانية، ويكون الوقف فيهما واحدا.
(2/570)
 
 
وقرئ: والأنصار برفع الراء، عطفا على " والسابقون " ويعزى ذلك إلى عمر وقراءة الحسن، واختاره يعقوب، وسواء كانت القراءة برفع الراء أو خفضها ففي الأنصار سابق ومصل في كل طائفة واحد.
 
[مسألة أول السابقين من المهاجرين]
المسألة الثالثة: أول السابقين من المهاجرين أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فإنه أول من أسلم.
والدليل عليه «قول عمرو بن عبسة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: من اتبعك على هذا الأمر؟ قال: حر وعبد».
وبهذا احتج شيخ السنة أبو الحسن علي بن الجبائي في مجلس ابن ورقاء أمير البصرة حين ادعى أن عليا أولهم إسلاما وكانا شيعيين.
وذكر أيضا أن حسان أنشد النبي - صلى الله عليه وسلم - بحضرتهم:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
الثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدق الرسلا
فلم ينكر ذلك عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا قال له: إنما كان أول من صدق علي بن أبي طالب.
وقد روى أبو محمد عبد الله بن الجارود، أنبأنا محمد بن حسان النيسابوري، أنبأنا عبد الرحمن بن معدي عن مجالد، عن الشعبي، قال: سألت ابن عباس، من أول الناس إسلاما؟ قال: أبو بكر، أو ما سمعت قول حسان:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدق الرسلا
وهذا خبر اشتهر وانتشر، فقال أحمد بن حنبل، حدثنا أبو معمر، أنبأنا أبو عبد الرحمن عن مجالد عن الشعبي قال: قال ابن عباس: أول من صلى أبو بكر، ثم تمثل بأبيات حسان، وذكرها ثلاثة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مبينا فضل
(2/571)
 
 
أبي بكر وسبقه لعمر بن الخطاب حين غامره: «دعوا لي صاحبي، فإني بعثت إلى الناس كافة، فقالوا: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت»، وأسلم على يدي أبي بكر خلق كثير، منهم الزبير، وطلحة، وسعد، وعثمان، وأهل العقبتين، وليس في تقدمة إسلام علي - رضي الله عنه - حديث يعول عليه، لا عن سلمان، ولا عن الحسن، ولا عن أحد.
 
[مسألة قراءة قوله تعالى والذين اتبعوهم بإحسان]
المسألة الرابعة: قوله: {والذين اتبعوهم بإحسان} [التوبة: 100]: وقد روي أن عمر قرأ الذين بإسقاط الواو نعتا للأنصار، فراجعه زيد بن ثابت، فسأل أبي بن كعب، فصدق زيدا فرجع إليه عمر، وثبتت الواو.
وقد بينا ذلك في تفسير قوله: أنزل القرآن على سبعة أحرف.
وقد اختلف في التابعين؛ فقيل: هم من أسلم بعد الحديبية؛ كخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، ومن داناهم من مسلمة الفتح؛ وقد ثبت «أن عبد الرحمن بن عوف شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالد: دعوا لي أصحابي، فوالذي نفس محمد بيده، لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه». خرجه البرقاني وغيره. وقيل: هم الذين لم يروا النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولا عاينوا معجزاته؛ ولكنهم سمعوا خبره في القرن الثاني من القرن الأول، وهو اسم مخصوص بالقرن الثاني، فيقال صحابي وتابعي بهذه الخطة، لما ذكر في هذه الآية، وكفانا أن اتقينا الله، واهتدينا بهدي رسول الله، واقتفينا آثاره، واسم الأخوة التي قدمنا تبيانا لنا.
 
[مسألة الصلاة في أول الوقت]
المسألة الخامسة: إذا ثبتت هذه المراتب، وبينت الخطط فإن السابق إلى كل خير، والمتقدم إلى الطاعة أفضل من المصلي فيها والتالي بها.
قال الله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} [الحديد: 10].
(2/572)
 
 
ولكن من سبق أكرم عند الله مرتبة، وأوفى أجرا، ولو لم يكن للسابق من الفضل إلا اقتداء التالي به، واهتداؤه بهديه، فيكون له ثواب عمله في نفسه، ومثل ثواب من اتبعه مقتديا به؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من سن سنة حسنة في الإسلام كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا».
ولذلك قلنا: إن الصلاة في أول الوقت أفضل من تأخيرها عنه، ولا خلاف في المذهب فيه، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها»؛ وقد بيناه في غير موضع.
 
[مسألة السبق يكون بالصفات والزمان والمكان]
المسألة السادسة: قد بينا أن السبق يكون بالصفات والزمان والمكان، وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات.
والدليل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم. فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فاليهود غدا والنصارى بعد غد».
فأخبر النبي أن من سبقنا من الأمم بالزمان فجئنا بعدهم سبقناهم بالإيمان، والامتثال لأمر الله، والانقياد إليه، والاستسلام لأمره، والرضا بتكليفه، والاحتمال لوظائفه، لا نعترض عليه، ولا نختار معه، ولا نبدل بالرأي شريعته، كما فعل أهل الكتاب.
وذلك بتوفيق الله لما قضاه، وبتيسيره لما يرضاه، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
(2/573)
 
 
[مسألة هل للأعراب حق في الفيء والغنيمة]
المسألة السابعة: لما ذم الله الأعراب بنقصهم وحطهم عن المرتبة الكاملة لسواهم ترتبت على ذلك أحكام ثلاثة: أولها: أنه لا حق لهم في الفيء والغنيمة، حسبما يأتي في سورة الحشر إن شاء الله.
ثانيها: أن إمامتهم بأهل الحضر ممنوعة لجهلهم بالسنة وتركهم للجمعة.
ثالثها: إسقاط شهادة البادية عن الحضارة.
واختلف في تعليل ذلك؛ فقيل: لأن الشهادة مرتبة عالية، ومنزلة شريفة، وولاية كريمة، فإنها قبول قول الغير على الغير، وتنفيذ كلامه عليه؛ وذلك يستدعي كمال الصفة، وقد بينا نقصان صفته في علمه ودينه.
وقيل: إنما ردت شهادته عليه، لما فيه من تحقيق التهمة إذا شهد أهل البادية بحقوق أهل الحاضرة، وتلك ريبة؛ إذ لو كان صحيحا لكان أولى الناس بذلك الحضريون، فعدم الشهادة عندهم ووجودها عند البدويين ريبة تقتضي التهمة، وتوجب الرد، وعن هذا قال علماؤنا: إن شهادتهم عليهم فيما يكون بينهم كالجراح ونحوها مما لا يكون في الحضر ماضية.
وقال أبو حنيفة: تجوز شهادة البدوي على الحضري؛ لأنه لا يراعي كل تهمة؛ ألا تراه يقبل شهادة العدو على عدوه.
وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف، فلينظره هنالك من أراد استيفاءه.
 
[الآية السادسة والثلاثون قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها]
وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم} [التوبة: 103].
فيها ست مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى {خذ} [التوبة: 103]: هو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقتضي بظاهره اقتصاره عليه، فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه، وزوال تكليفها بموته، وبهذا تعلق مانعو الزكاة على
(2/574)
 
 
أبي بكر الصديق، وقالوا عليه: إنه كان يعطينا عوضا عنها التطهير، والتزكية لنا، والصلاة علينا، وقد عدمناها من غيره، ونظم في ذلك شاعرهم فقال:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا ... فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر
وإن الذي سألوكم فمنعتم ... لكالتمر أو أحلى لديهم من التمر
سنمنعهم ما دام فينا بقية ... كرام على الضراء في العسر واليسر
وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة، وغيرهم كفر بالله من غير تأويل، وأنكر النبوة، وساعد مسيلمة، وأنكر وجوب الصلاة والزكاة.
وفي هذا الصنف الذي أقر بالصلاة، وأنكر الزكاة وقعت الشبهة لعمر حين خالف أبا بكر في قتالهم، وأشار عليه بقبول الصلاة منهم وترك الزكاة، حتى يتعهد الأمر، ويظهر حزب الله، وتسكن سورة الخلاف؛ فشرح الله صدر أبي بكر للحق، وقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق في المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إ