أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
  
 
الكتاب: أحكام القرآن
المؤلف: القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري الاشبيلي المالكي (المتوفى: 543هـ)
راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا
الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان
الطبعة: الثالثة، 1424 هـ - 2003 م
عدد الأجزاء:4
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
 
[مقدمة الكتاب]
. . . . الطبري شيخ الدين فجاء فيه بالعجب العجاب، ونثر فيه ألباب الألباب، وفتح فيه لكل من جاء بعده إلى معارفه الباب؛ فكل أحد غرف منه على قدر إنائه، وما نقصت قطرة من مائه، وأعظم من انتقى منه الأحكام بصيرة: القاضي أبو إسحاق، فاستخرج دررها، واستحلب دررها، وإن كان قد غير أسانيدها لقد ربط معاقدها، ولم يأت بعدهما من يلحق بهما.
ولما من الله سبحانه بالاستبصار في استثارة العلوم من الكتاب العزيز حسب ما مهدته لنا المشيخة الذين لقينا، نظرناها من ذلك المطرح، ثم عرضناها على ما جلبه العلماء، وسبرناها بعيار الأشياخ.
فما اتفق عليه النظر أثبتناه، وما تعارض فيه شجرناه، وشحذناه حتى خلص نضاره وورق عراره.
فنذكر الآية، ثم نعطف
(1/3)
 
 
على كلماتها بل حروفها، فنأخذ بمعرفتها مفردة، ثم نركبها على أخواتها مضافة، ونحفظ في ذلك قسم البلاغة، ونتحرز عن المناقضة في الأحكام والمعارضة، ونحتاط على جانب اللغة، ونقابلها في القرآن بما جاء في السنة الصحيحة، ونتحرى وجه الجميع؛ إذ الكل من عند الله، وإنما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ليبين للناس ما نزل إليهم، ونعقب على ذلك بتوابع لا بد من تحصيل العلم بها منها، حرصا على أن يأتي القول مستقلا بنفسه، إلا أن يخرج عن الباب فنحيل عليه في موضوعه مجانبين للتقصير والإكثار، وبمشيئة الله نستهدي، فمن يهد الله فهو المهتدي لا رب غيره.
(1/4)
 
 
[سورة الفاتحة فيها خمس آيات] [الآية الأولى قوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم]
الآية الأولى [قوله تعالى]:
{بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1] فيها مسألتان: المسألة الأولى: قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1].
اتفق الناس على أنها آية من كتاب الله تعالى في سورة النمل، واختلفوا في كونها في أول كل سورة، فقال مالك وأبو حنيفة: ليست في أوائل السور بآية، وإنما هي استفتاح ليعلم بها مبتدؤها.
وقال الشافعي: هي آية في أول الفاتحة، قولا واحدا؛ وهل تكون آية في أول كل سورة؟ اختلف قوله في ذلك؛ فأما القدر الذي يتعلق بالخلاف من قسم التوحيد والنظر في القرآن وطريق إثباته قرآنا، ووجه اختلاف المسلمين في هذه الآية منه، فقد استوفيناه في كتب الأصول، وأشرنا إلى بيانه في مسائل الخلاف، ووددنا أن الشافعي لم يتكلم في هذه المسألة، فكل مسألة له ففيها إشكال عظيم.
ونرجو أن الناظر في كلامنا فيها سيمحي عن قلبه ما عسى أن يكون قد سدل من إشكال به.
(1/5)
 
 
فائدة الخلاف: وفائدة الخلاف في ذلك الذي يتعلق بالأحكام أن قراءة الفاتحة شرط في صحة الصلاة عندنا، وعند الشافعي، خلافا لأبي حنيفة حيث يقول: إنها مستحبة، فتدخل {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1] في الوجوب عند من يراه، أو في الاستحباب [كذلك].
ويكفيك أنها ليست بقرآن للاختلاف فيها، والقرآن لا يختلف فيه، فإن إنكار القرآن كفر.
فإن قيل: ولو لم تكن قرآنا لكان مدخلها في القرآن كافرا؛ قلنا: الاختلاف فيها يمنع من أن تكون آية، ويمنع من تكفير من يعدها من القرآن؛ فإن الكفر لا يكون إلا بمخالفة النص والإجماع في أبواب العقائد.
فإن قيل: فهل تجب قراءتها في الصلاة؟ قلنا: لا تجب، فإن أنس بن مالك - رضي الله عنه - روى «أنه صلى خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، فلم يكن أحد منهم يقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1] ونحوه عن عبد الله بن مغفل».
فإن قيل: الصحيح من حديث أنس: فكانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، وقد قال الشافعي: معناه أنهم كانوا لا يقرءون شيئا قبل الفاتحة.
قلنا: وهذا يكون تأويلا لا يليق بالشافعي لعظيم فقهه، وأنس وابن مغفل إنما قالا هذا ردا على من يرى قراءة: {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1] فإن قيل: فقد روى جماعة قراءتها، وقد تولى الدارقطني جميع ذلك في جزء صححه.
قلنا: لسنا ننكر الرواية، لكن مذهبنا يترجح بأن أحاديثنا؛ وإن كانت أقل فإنها أصح، وبوجه عظيم وهو المعقول في مسائل كثيرة من الشريعة، وذلك أن مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(1/6)
 
 
بالمدينة انقضت عليه العصور، ومرت عليه الأزمنة من لدن زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد [قط]
فيه {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1] اتباعا للسنة.
بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل، وعليه تحمل الآثار الواردة في قراءتها.
 
[مسألة لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب]
المسألة الثانية: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد: الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى: حمدني عبدي يقول العبد: الرحمن الرحيم يقول الله تعالى: أثنى علي عبدي يقول العبد: مالك يوم الدين يقول تعالى: مجدني عبدي يقول العبد: إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله تعالى فهذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين يقول الله: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل».
فقد تولى سبحانه قسمة القرآن بينه وبين العبد بهذه الصفة، فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وهذا دليل قوي، مع أنه ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
(1/7)
 
 
وثبت عنه أنه قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ثلاثا غير تمام».
 
[الآية الثانية الحمد لله رب العالمين والثالثة إياك نعبد وإياك نستعين]
الآية الثانية قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة: 2] اعلموا علمكم الله المشكلات أن البارئ تعالى حمد نفسه، وافتتح بحمده كتابه، ولم يأذن في ذلك لأحد من خلقه، بل نهاهم في محكم كتابه، فقال: {فلا تزكوا أنفسكم} [النجم: 32] ومنع بعض الناس من أن يسمع مدح بعض له، أو يركن إليه، وأمرهم برد ذلك، وقال: «احثوا في وجوه المداحين التراب» رواه المقداد وغيره.
(1/8)
 
 
وكأن في مدح الله لنفسه وحمده لها وجوها منها ثلاث أمهات: الأول: أنه علمنا كيف نحمده، وكلفنا حمده والثناء عليه؛ إذ لم يكن لنا سبيل إليه إلا به.
الثاني: أنه قال بعض الناس معناه: قولوا: الحمد لله، فيكون فائدة ذلك التكليف لنا، وعلى هذا تخرج قراءة من قرأ بنصب الدال في الشاذ.
الثالث: أن مدح النفس إنما نهي عنه لما يدخل عليها من العجب بها، والتكثر على الخلق من أجلها، فاقتضى ذلك الاختصاص بمن يلحقه التغير، ولا يجوز منه التكثر، وهو المخلوق، ووجب ذلك للخالق؛ لأنه أهل الحمد.
وهذا هو الجواب الصحيح، والفائدة المقصودة.
الآية الثالثة قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5] فيها مسألتان:
المسألة الأولى: يقول الله تعالى: فهذه الآية بيني وبين عبدي، وقد روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسندنا لكم، «أنه قال: قال الله تعالى: يا ابن آدم، أنزلت عليك سبعا، ثلاثا لي وثلاثا لك، وواحدة بيني وبينك؛ فأما الثلاث التي لي: ف {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة: 2] {الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 3] {مالك يوم الدين} [الفاتحة: 4] وأما الثلاث التي لك ف {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 7] وأما الواحدة التي بيني وبينك ف {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]» يعني: من العبد العبادة، ومن الله سبحانه العون.
(1/9)
 
 
[مسألة أقوال العلماء في قراءة المأموم الفاتحة]
المسألة الثانية: أقوال العلماء في قراءة المأموم الفاتحة: قال أصحاب الشافعي: هذا يدل على أن المأموم يقرؤها، وإن لم يقرأها فليس له حظ في الصلاة لظاهر هذا الحديث.
ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: يقرؤها إذا أسر خاصة قاله ابن القاسم.
الثاني: قال ابن وهب وأشهب في كتاب محمد: لا يقرأ.
الثالث: قال محمد بن عبد الحكم: يقرؤها خلف الإمام، فإن لم يفعل أجزأه، كأنه رأى ذلك مستحبا، والمسألة عظيمة الخطر، وقد أمضينا القول في مسائل الخلاف في دلائلها بما فيه غنية.
والصحيح عندي وجوب قراءتها فيما يسر وتحريمها فيما جهر إذا سمع قراءة الإمام، لما عليه من فرض الإنصات له، والاستماع لقراءته؛ فإن كان عنه في مقام بعيد فهو بمنزلة صلاة السر؛ لأن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقراءتها عام في كل صلاة وحالة، وخص من ذلك حالة الجهر بوجوب فرض الإنصات، وبقي العموم في غير ذلك على ظاهره، وهذه نهاية التحقيق في الباب، والله أعلم.
 
[الآية الرابعة والخامسة قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم إلخ]
الآية الرابعة والخامسة قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 7] فيها سبع مسائل:
المسألة الأولى: في عدد آياتها: لا خلاف أن الفاتحة سبع آيات، فإذا عددت فيها {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1] آية اطرد العدد، وإذا أسقطتها تبين تفصيل العدد فيها.
قلنا: إنما الاختلاف بين أهل العدد في قوله: {أنعمت عليهم} [الفاتحة: 7] هل هو خاتمة
(1/10)
 
 
آية أو نصف آية؟ ويركب هذا الخلاف في عد {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1]
والصحيح أن قوله: {أنعمت عليهم} [الفاتحة: 7] خاتمة آية؛ لأنه كلام تام مستوفى، فإن قيل: فليس بمقفى على نحو الآيات [قبله]
قلنا: هذا غير لازم في تعداد الآي، واعتبره بجميع سور القرآن وآياته تجده صحيحا إن شاء الله تعالى كما قلنا
 
[مسألة التأمين خلف الإمام]
المسألة الثانية: التأمين خلف الإمام: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا قال الإمام: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 7] فقولوا: آمين؛ فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه».
وثبت عنه أنه قال: «إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه».
فترتيب المغفرة للذنب على أربع مقدمات ذكر منها ثلاثا، وأمسك عن واحدة؛ لأن ما بعدها يدل عليها:
(1/11)
 
 
المقدمة الأولى: تأمين الإمام.
الثانية: تأمين من خلفه.
الثالثة: تأمين الملائكة.
الرابعة: موافقة التأمين.
فعلى هذه المقدمات الأربع تترتب المغفرة.
وإنما أمسك عن الثالثة
اختصارا لاقتضاء الرابعة لها فصاحة؛ وذلك يكون في البيان للاسترشاد والإرشاد، ولا يصح ذلك مع جدل أهل العناد، وقد بيناه في أصول الفقه.
 
[مسألة الخلاف في قول آمين بعد الفاتحة]
المسألة الثالثة: اختلف في قوله: (آمين)، فقيل: هو على وزن فاعيل، كقوله: يا مين، وقيل فيه: أمين على وزن يمين؛ الأولى ممدودة، والثانية مقصورة، وكلاهما لغة، والقصر أفصح وأخصر، وعليها من الخلق الأكثر.
 
[مسألة معنى لفظ آمين]
المسألة الرابعة: معنى لفظ آمين: في تفسير هذه اللفظة: وفي ذلك ثلاثة أقوال: قيل: إنها اسم من أسماء الله تعالى، ولا يصح نقله ولا ثبت قوله.
الثاني: قيل معناه اللهم استجب، وضعت موضع الدعاء اختصارا.
الثالث: قيل معناه كذلك يكون، والأوسط أصح وأوسط.
 
[مسألة ما حسدكم أهل الكتاب على شيء كما حسدوكم على قولكم آمين]
المسألة الخامسة: هذه كلمة لم تكن لمن قبلنا، خصنا الله سبحانه بها، في الأثر عن ابن عباس، أنه قال: " ما حسدكم أهل الكتاب على شيء كما حسدوكم على قولكم: آمين ".
(1/12)
 
 
[مسألة تأمين المصلي]
المسألة السادسة: تأمين المصلي: في تأمين المصلي، ولا يخلو أن يكون إماما أو مأموما أو منفردا، فأما المنفرد فإنه يؤمن
اتفاقا.
وأما المأموم فإنه يؤمن في صلاة السر لنفسه إذا أكمل قراءته، وفي صلاة الجهر إذا أكمل القراءة إمامه يؤمن.
وأما الإمام فقال مالك: لا يؤمن، ومعنى قوله عنده إذا أمن الإمام: إذا بلغ مكان التأمين، كقولهم: أنجد الرجل إذا بلغ نجدا، وقال ابن حبيب: يؤمن.
قال ابن بكير: هو بالخيار، فإذا أمن الإمام فإن الشافعي قال: يؤمن المأموم جهرا، وأبو حنيفة وابن حبيب يقولان: يؤمن سرا.
والصحيح عندي تأمين الإمام جهرا؛ فإن ابن شهاب قال: «وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول آمين»، خرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
وفي البخاري: «حتى إن للمسجد للجة من قول الناس آمين».
وفي كتاب الترمذي: «وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول آمين، حتى يسمع من الصف»، وكذلك رواه أبو داود.
وروي عن وائل بن الأوزاعي: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من قراءة الفاتحة قال: آمين، يرفع بها صوته».
(1/13)
 
 
[مسألة فضل الفاتحة]
المسألة السابعة: فضل الفاتحة: ليس في أم القرآن حديث يدل على فضلها إلا حديثان: أحدهما: حديث: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين».
الثاني: حديث أبي بن كعب: «لأعلمنك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها».
وليس في القرآن حديث صحيح في فضل سورة إلا قليل سنشير إليه، وباقيها لا ينبغي لأحد منكم أن يلتفت إليها.
(1/14)
 
 
[سورة البقرة وفيها تسعون آية] [الآية الأولى الذين يؤمنون بالغيب]
سورة البقرة اعلموا وفقكم الله أن علماءنا قالوا: إن هذه السورة من أعظم سور القرآن؛ سمعت بعض أشياخي يقول: فيها ألف أمر، وألف نهي، وألف حكم، وألف خبر، ولعظيم فقهها أقام عبد الله بن عمر ثماني سنين في تعلمها، وقد أوردنا ذلك عليكم مشروحا في الكتاب الكبير في أعوام، وليس في فضلها حديث صحيح إلا من طريق أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر وإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله شيطان» خرجه الترمذي.
وعدم الهدى وضعف القوى وكلب الزمان على الخلق بتعطيلهم وصرفهم عن الحق، والذي حضر الآن من أحكامها في هذا المجموع تسعون آية: الآية الأولى: قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 3] فيها مسألتان: المسألة الأولى: {يؤمنون} [البقرة: 3]: قد بينا حقيقة الإيمان في كتب الأصول، ومنها تؤخذ المسألة الثانية: حقيقة الغيب واختلاف العلماء فيه: قوله: {بالغيب} [البقرة: 3].
وحقيقته ما غاب عن الحواس مما لا يوصل إليه إلا بالخبر دون النظر، فافهموه.
(1/15)
 
 
وقد اختلف العلماء فيه على أربعة أقوال: الأول: ما ذكرناه كوجوب البعث، ووجود الجنة ونعيمها وعذابها والحساب.
الثاني: بالقدر.
الثالث: بالله تعالى.
الرابع: يؤمنون بقلوبهم الغائبة عن الخلق لا بألسنتهم التي يشاهدها الناس، معناه: ليسوا بمنافقين، وكلها قوية إلا الثاني والثالث فإنه يدرك بصحيح النظر، فلا يكون غيبا حقيقة، وهذا الأوسط، وإن كان عاما فإن مخرجه على الخصوص.
والأقوى هو الأول؛ أنه الغيب الذي أخبر به الرسول - عليه السلام - مما لا تهتدي إليه العقول، والإيمان بالقلوب الغائبة عن الخلق، ويكون موضع المجرور على هذا رفعا، وعلى التقدير الأول يكون نصبا، كقولك: مررت بزيد، ويجوز أن يكون الأول مقدرا نصبا، كأنه يقول: جعلت قلبي محلا للإيمان، وذلك الإيمان بالغيب عن الخلق.
وكل هذه المعاني صحيحة لا يحكم له بالإيمان ولا بحمى الذمار، ولا يوجب له الاحترام، إلا باجتماع هذه الثلاث؛ فإن أخل بشيء منها لم يكن له حرمة ولا يستحق عصمة.
 
[الآية الثانية قوله تعالى ويقيمون الصلاة]
} [البقرة: 3] فيها مسألتان:
المسألة الأولى: قال علماؤنا: في ذكر الصلاة في هذه الآية قولان:
(1/16)
 
 
أحدهما: أنها مجملة، وأن الصلاة لم تكن معروفة عندهم حتى بينها النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: أنها عامة في متناول الصلاة حتى خصها النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله المعلوم في الشريعة.
وقد استوفينا القول في ذلك عند ذكر أصول الفقه، والصحيح عندي أن كل لفظ عربي يرد مورد التكليف في كتاب الله عز وجل مجمل موقوف بيانه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يكون معناه محدودا لا يتطرق إليه اشتراك؛ فإن تطرق إليه اشتراك، واستأثر الله عز وجل برسوله - صلى الله عليه وسلم - قبل بيانه، فإنه يجب طلب ذلك في الشريعة على مجمله، فلا بد أن يوجد، ولو فرضنا عدمه لارتفع التكليف به، وذلك تحقق في موضعه.
وقد قال عمر - رضي الله عنه - في دون هذا أو مثله: " ثلاث وددت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عهد إلينا فيها عهدا ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا ".
فتبين من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أسري به، وفرض عليه الصلاة، ونزل سحرا جاءه جبريل - عليه السلام - عند صلاة الظهر فصلى به وعلمه، ثم وردت الآيات بالأمر بها والحث عليها؛ فكانت واردة بمعلوم على معلوم، وسقط ما ظنه هؤلاء من الموهوم.
المسألة الثانية {ويقيمون} [البقرة: 3]: فيه قولان: الأول: يديمون فعلها في أوقاتها، من قولك: شيء قائم، أي دائم.
والثاني: معناه يقيمونها بإتمام أركانها واستيفاء أقوالها وأفعالها، وإلى هذا المعنى أشار عمر بقوله: " من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع ".
 
[الآية الثالثة قوله تعالى ومما رزقناهم ينفقون]
} [البقرة: 3]
(1/17)
 
 
فيها مسألتان: المسألة الأولى: في اشتقاق النفقة: وهي عبارة عن الإتلاف، ولتأليف " نفق " في لسان العرب معان، أصحها الإتلاف، وهو المراد هاهنا، يقال نفق الزاد ينفق إذا فني، وأنفقه صاحبه: أفناه، وأنفق القوم: فني زادهم، ومنه قوله تعالى: {إذا لأمسكتم خشية الإنفاق} [الإسراء: 100]
المسألة الثانية: في وجه هذا الإتلاف: وذلك يختلف، إلا أنه لما اتصل بالمدح تخصص من إجماله جملة.
وبعد ذلك التخصيص اختلف العلماء فيه على خمسة أقوال: الأول: أنه الزكاة المفروضة، عن ابن عباس.
الثاني: أنه نفقة الرجل على أهله قاله ابن مسعود.
الثالث: صدقة التطوع قاله الضحاك.
الرابع: أنه وفاء الحقوق الواجبة العارضة في المال باختلاف الأحوال ما عدا الزكاة.
الخامس: أن ذلك منسوخ بالزكاة.
التوجيه: أما وجه من قال: " إنه الزكاة " فنظر إلى أنه قرن بالصلاة، والنفقة المقترنة [في كتاب الله تعالى] بالصلاة هي الزكاة.
وأما من قال: إنه النفقة على عياله فلأنه أفضل النفقة.
روي «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له رجل: عندي دينار: قال: أنفقه على نفسك قال: عندي آخر، قال: أنفقه على أهلك»، وذكر الحديث، فبدأ بالأهل بعد النفس.
(1/18)
 
 
وفي الصحيح «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الصدقة على القرابة صدقة وصلة»
وأما من قال: إنه صدقة التطوع فنظر إلى أن الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المختص بها، وهو الزكاة، فإذا جاءت بلفظ الصدقة احتملت الفرض والتطوع، وإذا جاءت بلفظ الإنفاق لم يكن إلا التطوع.
وأما من قال: إنه في الحقوق العارضة في الأموال ما عدا الزكاة فنظر إلى أن الله تعالى لما قرنه بالصلاة كان فرضا، ولما عدل عن لفظها كان فرضا سواها.
وأما من قال: إنه منسوخ فنظر إلى أنه لما كان بهذا الوجه فرضا سوى الزكاة، وجاءت الزكاة المفروضة فنسخت كل صدقة جاءت في القرآن، كما نسخ صوم رمضان كل صوم، ونسخت الصلاة كل صلاة.
ونحو هذا جاء في الأثر التنقيح: إذا تأمل اللبيب المنصف هذه التوجيهات تحقق أن الصحيح المراد بقوله: {يؤمنون بالغيب} [البقرة: 3]: كل غيب أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كائن، وقوله: {ويقيمون الصلاة} [البقرة: 3]: عام في كل صلاة فرضا كانت أو نفلا.
وقوله: {ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة: 3] عام في كل نفقة، وليس في قوة هذا الكلام القضاء بفرضية ذلك كله، وإنما علمنا الفرضية في الإيمان والصلاة والنفقة من دليل آخر، وهذا القول بمطلقه يقتضي مدح ذلك كله خاصة كيفما كانت صفته.
(1/19)
 
 
[الآية الرابعة قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين]
} [البقرة: 8].
المراد بهذه الآية: المراد بهذه الآية وما بعدها المنافقون الذين أظهروا الإيمان، وأسروا الكفر، واعتقدوا أنهم يخدعون الله تعالى، وهو منزه عن ذلك فإنه لا يخفى عليه شيء.
وهذا دليل على أنهم لم يعرفوه، ولو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع، وقد تكلمنا عليه في موضعه.
والحكم المستفاد هاهنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل المنافقين مع علمه بهم وقيام الشهادة عليهم أو على أكثرهم.
اختلاف العلماء في سبب عدم قتل المنافقين: واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: الأول: أنه لم يقتلهم؛ لأنه لم يعلم حالهم سواه، وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه، وإن اختلفوا في سائر الأحكام هل يحكم بعلمه أم لا؟.
الثاني: أنه لم يقتلهم لمصلحة وتألف القلوب عليه لئلا تنفر عنه.
وقد أشار هو - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى، فقال: «أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقتل أصحابه».
الثالث: قال أصحاب الشافعي: إنما لم يقتلهم لأن الزنديق وهو الذي يسر الكفر
(1/20)
 
 
ويظهر الإيمان يستتاب ولا يقتل.
وهذا وهم من علماء أصحابه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستتبهم، ولا يقول أحد: إن استتابة الزنديق غير واجبة.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - معرضا عنهم، مع علمه بهم، فهذا المتأخر من أصحاب الشافعي الذي قال: إن استتابة الزنديق جائزة
قال ما لم يصح قولا واحدا.
وأما قول من قال: إنه لم يقتلهم؛ لأن الحاكم لا يقضي بعلمه في الحدود، فقد قتل بالمجذر بن زياد بعلمه الحارث بن سويد بن الصامت؛ لأن المجذر قتل أباه سويدا يوم بعاث، فأسلم الحارث، وأغفله يوم أحد الحارث فقتله، فأخبر به جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقتله به؛ لأن قتله كان غيلة، وقتل الغيلة حد من حدود الله عز وجل.
القول الصحيح: والصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أعرض عنهم تألفا ومخافة من سوء المقالة الموجبة للتنفير، كما سبق من قوله.
وهذا كما كان يعطي الصدقة للمؤلفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم تألفا لهم، أجرى الله سبحانه أحكامه على الفائدة التي سنها إمضاء لقضاياه بالسنة التي لا تبديل لها.
(1/21)
 
 
[الآية الخامسة قوله تعالى الذي جعل لكم الأرض فراشا]
} [البقرة: 22].
قال أصحاب الشافعي: لو حلف رجل لا يبيت على فراش، ولا يستسرج سراجا، فبات على الأرض، وجلس في الشمس لم يحنث؛ لأن اللفظ لا يرجع إليهما عرفا.
وأما علماؤنا فبنوه على أصلهم في الأيمان أنها محمولة على النية، أو السبب، أو البساط، التي جرت عليه اليمين، فإن عدم ذلك فالعرف، وبعد أن لم يكن ذلك على مطلق اللفظ في اللغة، وذلك محقق في مسائل الخلاف.
والأصل في ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى».
وهذا عام في العبادات والمعاملات، وهذا حديث غريب اجتمعت فيه فائدتان:
(1/22)
 
 
إحداهما: تأسيس القاعدة.
والثانية: عموم اللفظ، في كل حكم منوي.
والذي يقول إنه إن حلف ألا يفترش فراشا وقصد بيمينه الاضطجاع، أو حلف ألا يستصبح، ونوى ألا ينضاف إلى نور عينيه نور يعضده، فإنه يحنث بافتراش الأرض، والتنور بالشمس، وهذا حكم جار على الأصل.
 
[الآية السادسة قوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا]
} [البقرة: 29].
لم تزل هذه الآية مخبوءة تحت أستار المعرفة حتى هتكها الله عز وجل بفضله لنا، وقد تعلق كثير من الناس بها في أن أصل الأشياء الإباحة، إلا ما قام عليه دليل بالحظر، واغتر به بعض المحققين
وتابعهم عليه.
وقد حققناها في أصول الفقه بما الإشارة إليه أن الناس اختلفوا في هذه الآية على ثلاثة أقوال: الأول: أن الأشياء كلها على الحظر حتى يأتي دليل الإباحة.
الثاني: أنها كلها على الإباحة حتى يأتي دليل الحظر.
الثالث: أن لا حكم لها حتى يأتي الدليل بأي حكم اقتضي فيها.
والذي يقول بأن أصلها إباحة أو حظر اختلف منزعه في دليل ذلك؛ فبعضهم تعلق فيه بدليل العقل، ومنهم من تعلق بالشرع.
والذي يقول: إن طريق ذلك الشرع قال: الدليل على الحكم بالإباحة قوله تعالى:
(1/23)
 
 
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} [البقرة: 29] فهذا سياق القول في المسألة إلى الآية.
فأما سائر الأقسام المقدمة فقد أوضحناها في أصول الفقه، وبينا أنه لا حكم للعقل، وأن الحكم للشرع؛ ولكن ليس لهذه الآية في الإباحة ودليلها مدخل ولا يتعلق بها محصل.
وتحقيق ذلك أن الله تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الدلالة، والتنبيه على طريق العلم والقدرة وتصريف المخلوقات بمقتضى التقدير والإتقان بالعلم وجريانها في التقديم والتأخير بحكم الإرادة.
وعاتب الله تعالى الكفار على جهالتهم بها، فقال: {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين} [فصلت: 9] {وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين} [فصلت: 10].
فخلقه سبحانه وتعالى الأرض، وإرساؤها بالجبال، ووضع البركة فيها، وتقدير الأقوات بأنواع الثمرات وأصناف النبات إنما كان لبني آدم؛ تقدمة لمصالحهم، وأهبة لسد مفاقرهم، فكان قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} [البقرة: 29] مقابلة الجملة بالجملة؛ للتنبيه على القدرة المهيئة لها للمنفعة والمصلحة، وأن جميع ما في الأرض إنما هو لحاجة الخلق؛ والبارئ تعالى غني عنه متفضل به.
وليس في الإخبار بهذه العبارة عن هذه الجملة ما يقتضي حكم الإباحة، ولا جواز التصرف؛ فإنه لو أبيح جميعه جميعهم جملة منثورة النظام لأدى ذلك إلى قطع الوصائل والأرحام، والتهارش في الحطام.
(1/24)
 
 
وقد بين لهم طريق الملك، وشرح لهم مورد الاختصاص، وقد اقتتلوا وتهارشوا وتقاطعوا؛ فكيف لو شملهم التسلط وعمهم الاسترسال؛ وإنما يجب على الخلق إذا سمعوا هذا النداء أن يخروا سجدا؛ شكرا لله تعالى لهذه الحرمة لحق ما ذلك من نعمه، ثم يتوكفوا بعد ذلك سؤال وجه الاختصاص لكل واحد بتلك المنفعة.
ونظير هذا من المتعارف بين الخلق على سبيل التقريب لتفهيم الحق ما قال حكيم لبنيه: قد أعددت لكم ما عندي من كراع وسلاح ومتاع وعرض وقرض لما كان ذلك مقتضيا لتسليطهم عليه كيف شاءوا حتى يكون منه بيان كيفية اختصاصهم.
وقد قال الله سبحانه: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»
يعني في الجنة، فلا يصل أحد منهم إليه إلا بتبيان حظه منه وتعيين اختصاصه به.
 
[الآية السابعة قوله تعالى وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات]
} [البقرة: 25].
قال علماؤنا: البشارة هي: الإخبار عن المحبوب، والنذارة هي: الإخبار بالمكروه، وذلك في البشارة يقتضي أول مخبر بالمحبوب، ويقتضي في النذارة كل مخبر.
(1/25)
 
 
وترتب على هذا مسألة من الأحكام، وذلك كقول المكلف: من بشرني من عبيدي بكذا فهو حر.
فاتفق العلماء على أن أول مخبر له به يكون عتيقا دون الثاني.
ولو قال: من أخبرني من عبيدي بكذا فهو حر، فهل يكون الثاني مثل الأول أم لا؟ اختلف الناس فيه؛ فقال أصحاب الشافعي: يكون حرا؛ لأن كل واحد منهم مخبر.
وعند علمائنا لا يكون به حرا؛ لأن الحالف إنما قصد خبرا يكون بشارة، وذلك يختص بالأول، وهذا معلوم عرفا، فوجب صرف اللفظ إليه.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} [آل عمران: 21] فاستعمل البشارة في المكروه.
فالجواب: أنهم كانوا يعتقدون أنهم يحسنون، وبحسب ذلك كان نظرهم للبشرى، فقيل لهم: بشارتكم على مقتضى اعتقادكم عذاب أليم.
فخرج اللفظ على ما كانوا يعتقدون أنهم محسنون، وبحسب ذلك كان نظر له على الحقيقة، كقوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا} [الفرقان: 24]
 
[الآية الثامنة قوله تعالى الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه]
} [البقرة: 27]
العهد على قسمين:
(1/26)
 
 
أحدهما: فيه الكفارة، والآخر لا كفارة فيه، فأما الذي فيه الكفارة فهو الذي يقصد به اليمين على الامتناع عن الشيء أو الإقدام عليه.
وأما العهد الثاني: فهو العقد الذي يرتبط به المتعاقدان على وجه يجوز في الشريعة، ويلزم في الحكم، إما على الخصوص بينهما، وإما على العموم على الخلق، فهذا لا يجوز حله، ولا يحل نقضه، ولا تدخله كفارة، وهو الذي يحشر ناكثه غادرا، ينصب له لواء بقدر غدرته، يقال: هذه غدرة فلان.
وأما مالك فيقول: العهد باليمين، لم يجز حله؛ لأجل العقد، وهو المراد بقوله تعالى: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا} [النحل: 91] وهذا ما لا اختلاف فيه.
 
[الآية التاسعة قوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس]
} [البقرة: 34]
اتفقت الأمة على أن السجود لآدم لم يكن سجود عبادة، وإنما كان على أحد وجهين: إما سلام الأعاجم بالتكفي والانحناء والتعظيم، وإما وضعه قبلة كالسجود للكعبة وبيت المقدس، وهو الأقوى؛ لقوله في الآية الأخرى: {فقعوا له ساجدين} [الحجر: 29].
ولم يكن على معنى التعظيم؛ وإنما صدر على وجه الإلزام للعبادة، واتخاذه قبلة، وقد نسخ الله تعالى جميع ذلك في هذه الملة.
 
[الآية العاشرة قوله تعالى ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين]
} [البقرة: 35].
فيها مسألتان:
(1/27)
 
 
المسألة الأولى: جاء في كتاب التفسير أن إبليس حاول آدم على أكلها، فلم يقدر عليه، وحاول حواء، فخدعها فأكلت فلم يصبها مكروه، فجاءت آدم فقالت له: إن الذي تكره من الأكل قد أتيته فما نالني مكروه.
فلما عاين ذلك آدم اغتر فأكل، فحلت بهما النقمة والعقوبة، وذلك لقول الله سبحانه: {ولا تقربا هذه الشجرة} [البقرة: 35] فجمعهما في النهي، فلذلك لم تنزل بهما العقوبة حتى وجد المنهي عنه منهما جميعا.
واستدل بهذا بعض العلماء على أن من قال لزوجتيه أو أمتيه: إن دخلتما علي الدار فأنتما طالقتان أو حرتان أن الطلاق والعتق لا يقع بدخول إحداهما.
وقد اختلف علماؤنا رحمة الله عليهم في ذلك على ثلاثة أقوال:
فقال ابن القاسم: لا تطلقان ولا تعتقان إلا باجتماعهما في الدار في الدخول، حملا على هذا الأصل، وأخذا بمقتضى مطلق اللفظ.
وقال مرة أخرى: تعتقان جميعا، وتطلقان جميعا بوجود الدخول من إحداهما؛ لأن بعض الحنث حنث، كما لو حلف ألا يأكل هذين الرغيفين، فإنه يحنث بأكل أحدهما، بل بأكل لقمة منهما حسبما بيناه في أصول المسائل.
وقال أشهب: تعتق وتطلق التي دخلت وحدها؛ لأن دخول كل واحدة منهما شرط في طلاقها أو عتقها.
وقد قال مالك في كتاب محمد بن المواز فيمن قال لزوجته: إن وضعت فأنت طالق
(1/28)
 
 
وهي حامل، فوضعت ولدا، وبقي في بطنها آخر: إنها لا تطلق حتى تضع الآخر.
وقال مرة أخرى: تطلق بوضع الأول.
والصحيح أن اليمين إن لم يكن لها نية وبساط يقتضي ذلك من الجمع بينهما أو بساط أو نية، فإن القول قول أشهب، ويشبه أن يكون هذا من علمائنا اختلاف حال لا اختلاف قول؛ فأما الحكم بطلاقهما أو عتقهما معا بدخول واحدة منهما فبعيد؛ لأن بعض الشرط لا يكون شرطا إجماعا، وأما [الحكم] بالحنث بأكل بعض الرغيفين؛ فلأنه محلوف عليه، وبعض الحنث حنث حقيقة؛ لأن الاجتناب الذي عقده لا يوجد منه.
 
[مسألة كيف أكل آدم من الشجرة]
المسألة الثانية: قوله تعالى: {هذه الشجرة} [البقرة: 35]: اختلف الناس كيف أكل آدم من الشجرة على خمسة أقوال: الأول: أنه أكلها سكران
قاله سعيد بن المسيب.
الثاني: أنه أكل من جنس الشجرة لا من عينها، كأن إبليس غره بالأخذ بالظاهر، وهي أول معصية عصى الله بها على هذا القول فاجتنبوه؛ فإن في اتباع الظاهر على وجهه هدم الشريعة حسبما بيناه في غير ما موضع، وخصوصا في كتاب النواهي عن الدواهي.
(1/29)
 
 
الثالث: أنه حمل النهي على التنزيه دون التحريم.
الرابع: أنه أكل متأولا؛ لرغبة الخلد، ولا يجوز تأويل ما يعود على المتأول بالإسقاط.
الخامس: أنه أكل ناسيا.
فأما القول الأول بأنه أكلها سكران: فتعلق به بعض الناس في أن أفعال السكران معتبرة في الأحكام والعقوبات، وأنه لا يعذر في فعل؛ بل يلزمه حكم كل فعل، كما يلزم الصاحي، كما ألزم الله تعالى آدم حكم الخلاف في المعصية مع السكر.
وقد اختلف علماؤنا في أفعال السكران على ثلاثة أقوال: أحدهما: أنها معتبرة.
الثاني: أنها لغو.
الثالث: أن العقود غير معتبرة كالنكاح، وأن الحل معتبر كالطلاق، ولذا إذا أكل من جنسها فدليل على أنه إذا حلف ألا يأكل من هذا الخبز فأكل من جنسه حنث.
وتحقيق المذاهب فيه أن أكثر العلماء قالوا: لا حنث عليه.
وقال مالك وأصحابه: إن اقتضى بساط اليمين تعيين المشار إليه لم يحنث بأكل جنسه، وإن اقتضى بساط اليمين أو سببها أو نيتها الجنس حمل عليه، وحنث بأكل غيره، وعليه حملت قصة آدم؛ فإنه نهي عن شجرة عينت له، وأريد به جنسها، فحمل القول على اللفظ دون المعنى كما تقدم.
وقد اختلف علماؤنا في فرع من هذا، وهو أنه إذا حلف ألا يأكل هذه الحنطة فأكل خبزا منها على قولين: فقال في الكتاب: إنه يحنث؛ لأنها هكذا تؤكل.
(1/30)
 
 
وقال ابن المواز: لا شيء عليه؛ لأنه لم يأكل حنطة، وإنما أكل خبزا، فراعى الاسم والصفة.
ولو قال في يمينه: لا آكل من هذه الحنطة لحنث بأكل الخبز المعمول منها.
وأما حمل النهي على التنزيه فهي وإن كانت مسألة من أصول الفقه وقد بيناها في موضعها، فقد سقط ذلك هاهنا فيها لقوله تعالى: {فتكونا من الظالمين} [البقرة: 35] فقرن النهي بالوعيد؛ ولا خلاف مع ذلك فيه.
وكيف يصح أن يقال له لا تأكلها فتكون من الظالمين، ويرجو أن يكون من الخالدين؟ وأما قوله: إنه أكلها ناسيا فسيأتي في سورة طه إن شاء الله تعالى.
التنقيح: أما القول بأن آدم أكلها سكران ففاسد نقلا وعقلا: أما النقل فلأن هذا لم يصح بحال، وقد نقل عن ابن عباس: " أن الشجرة التي نهي عنها الكرم "، فكيف ينهى عنها ويوقعه الشيطان فيها، وقد وصف الله خمر الجنة بأنها لا غول فيها، فكيف توصف بغير صفتها التي أخبر الله تعالى بها عنها في القرآن.
وأما العقل؛ فلأن الأنبياء بعد النبوة منزهون عما يؤدي إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم.
وأما سائر التوجيهات فمحتملة، وأظهرها الثاني، والله أعلم.
 
[الآية الحادية عشرة قوله تعالى وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة]
} [الأعراف: 22]
(1/31)
 
 
روي أنه لما أكل آدم من الشجرة سلخ عن كسوته، وخلع من ولايته، وحط عن مرتبته، فلما نظر إلى سوأته منكشفة قطع الورق من الثمار وسترها، وهذا هو نص القرآن.
وفي ذلك مسألتان: [المسألة الأولى بأي شيء سترها؟]:
فقالت طائفة: سترها بعقله حين رأى ذلك من نفسه منكشفا، منهم: القدرية، وبه قال أقضى القضاة الماوردي.
ومنهم من قال: إنه سترها استمرارا على عادته، ومنهم من قال: إنما سترها بأمر الله.
فأما من قال: إنه سترها بعقله فإنه بناها على أن العقل يوجب ويحظر ويحسن
(1/32)
 
 
ويقبح، وهو جهل عظيم بيناه في أصول الفقه، وقد وهي أقضى القضاة في ذلك، إلا أنه يحتمل أنه سترها من ذات نفسه من غير أن يوجب ذلك عليه شيء، فيرجع ذلك إلى القول الثاني أنه سترها عادة.
وأما من قال: إنه سترها بأمر الله، فذلك صحيح لا شك فيه؛ لأن الله تعالى لما خلق آدم - عليه السلام - علمه الأسماء وعرفه الأحكام فيها، وأسجل له بالنبوة، ومن جملة الأحكام ستر العورة.
المسألة الثانية: ممن سترها؟ ولم يكن معه إلا أهله الذين ينكشف عليهم وينكشفون عليه.
؟ وقد قدمنا في مسائل الفقه وشرح الحديث وجوب ستر العورة وأحكامها [ومحلها]، ويحتمل أن يكون آدم سترها من زوجه بأمر جازم في شرعه، أو بأمر ندب، كما هو عندنا.
ويحتمل أن يكون ما رأى سترها إلا لعدم الحاجة إلى كشفها؛ لأنه كان من شرعه أنه لا يكشفها إلا للحاجة.
ويجوز أنه كان مأمورا بسترها في الخلوة، «وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بسترها في الخلوة، وقال: الله أحق أن يستحى منه». وذلك مبين في موضعه.
وبالجملة فإن آدم لم يأت من ذلك شيئا إلا بأمر من الله لا بمجرد عقل، إذ قد بينا فساد اقتضاء العقل لحكم شرعي.
(1/33)
 
 
[الآية الثانية عشرة قوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين]
} [البقرة: 43]
كان من أمر الله سبحانه بالصلاة والزكاة والركوع أمر بمعلوم متحقق سابق للفعل بالبيان، وخص الركوع؛ لأنه كان أثقل عليهم من كل فعل. وقيل: إنه الانحناء لغة، وذلك يعم الركوع والسجود
، وقد كان الركوع أثقل شيء على القوم في الجاهلية، حتى قال بعض من أسلم للنبي - صلى الله عليه وسلم -: على ألا أخر إلا قائما، فمن تأوله: على ألا أركع، فلما تمكن الإسلام من قلبه اطمأنت بذلك نفسه.
ويحتمل أن يكونوا أمروا بالزكاة؛ لأنها معلومة في كل دين من الأديان، فقد قال الله تعالى مخبرا عن إسماعيل - عليه السلام -: {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا} [مريم: 55] ثم بين لهم مقدار الجزء الذي يلزم بذله من المال.
والزكاة مأخوذة من النماء، يقال: زكاة الزرع إذا نما، ومأخوذة من الطهارة، يقال: زكاة الرجل، إذا تطهر عن الدناءات.
 
[الآية الثالثة عشرة قوله تعالى فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم]
} [البقرة: 59]
قال بعض علمائنا: قيل لهم قولوا حطة، فقالوا: سقماثاه أزه هذبا، معناه حبة مقلوة في شعرة مربوطة، استخفافا منهم بالدين ومعاندة للنبي - صلى الله عليه وسلم - والحق.
وقد قال بعض من تكلم في القرآن: إن هذا الذم يدل على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها لا يجوز.
(1/34)
 
 
وهذا الإطلاق فيه نظر؛ وسبيل التحقيق فيه أن نقول: إن الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبد بلفظها، أو يقع التعبد بمعناها، فإن كان التعبد وقع بلفظها فلا يجوز تبديلها.
وإن وقع التعبد بمعناها جاز تبديلها بما يؤدي ذلك المعنى، ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه، ولكن لا تبديل إلا باجتهاد.
ومن المستقل بالمعنى
المستوفي لذلك العالم بأن اللفظين الأول والثاني المحمول عليه طبق المعنى.
وبنو إسرائيل قيل لهم قولوا: حطة، أي اللهم احطط عنا ذنوبنا.
فقالوا استخفافا: حبة مقلوة في شعرة [فبدلوه بما لا يعطي معناه].
ولو بدلوه بما لا يعطى معناه جدا لم يجز؛ فهذا أعظم في الباطل وهو الممنوع المذموم منهم. ويتعلق بهذا المعنى نقل الحديث بغير لفظه إذا أدى معناه.
وقد اختلف الناس في ذلك؛ فالمروي عن واثلة بن الأسقع جوازه؛ قال: ليس كل ما أخبرنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ننقله بلفظه؛ حسبكم المعنى.
وقد بينا في أصول الفقه؛ وأذكر لكم فيه فصلا بديعا؛ وهو أن هذا الخلاف إنما يكون في عصر الصحابة ومنهم، وأما من سواهم فلا يجوز لهم تبديل اللفظ بالمعنى، وإن استوفى ذلك المعنى؛ فإنا لو جوزناه لكل أحد لما كنا على ثقة من الأخذ بالحديث؛ إذ كل أحد إلى زماننا هذا قد بدل ما نقل، وجعل الحرف بدل الحرف فيما رواه؛ فيكون خروجا من الإخبار بالجملة.
والصحابة بخلاف ذلك فإنهم اجتمع فيهم أمران عظيمان: أحدهما: الفصاحة والبلاغة؛ إذ جبلتهم عربية، ولغتهم سليقة.
(1/35)
 
 
والثاني: أنهم شاهدوا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله، فأفادتهم المشاهدة عقل المعنى جملة، واستيفاء المقصد كله؛ وليس من أخبر كمن عاين.
ألا تراهم يقولون في كل حديث: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كذا، ولا يذكرون لفظه، وكان ذلك خبرا صحيحا ونقلا لازما؛ وهذا لا ينبغي أن يستريب فيه منصف لبيانه.
 
[الآية الرابعة عشرة قوله تعالى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة]
الآية الرابعة عشرة قوله سبحانه: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} [البقرة: 67]
هذه الآية عظيمة الموقع، مشكلة في النظر؛ لتعلقها بالأصول ومن الفروع بالكلام في الدم، وفي كل فصل إشكال، وذلك ينحصر في خمس مسائل:
المسألة الأولى: في سبب ذلك: روي عن بني إسرائيل أنه كان فيها من قتل رجلا غيلة بسبب مختلف فيه؛ وطرحه بين قوم، وكان قريبه، فادعى به عليهم، ترافعوا إلى موسى - عليه السلام - فقال له القاتل: قتل قريبي هذا هؤلاء القوم، وقد وجدته بين أظهرهم، فانتفوا من ذلك، وسألوا موسى - عليه السلام - أن يحكم بينهم برغبة إلى الله تعالى في تبيين الحق لهم؛ فدعا موسى - عليه السلام - ربه تعالى؛ فأمرهم بذبح بقرة وأخذ عضو من أعضائها يضرب به الميت فيحيا فيخبرهم بقاتله؛ فسألوا عن أوصافها وشددوا فشدد الله سبحانه عليهم حتى انتهوا إلى صفتها المذكورة في القرآن، فطلبوا تلك البقرة فلم يجدوها إلا عند رجل بر بأبويه أو بأحدهما؛ فطلب منهم فيها مسكها مملوءا ذهبا، فبذلوه فيها، فاستغنى ذلك الرجل بعد فقره، وذبحوها فضربوه ببعضها، فقال: فلان قتلني، لقاتله.
(1/36)
 
 
[مسألة الحديث عن بني إسرائيل]
المسألة الثانية: في الحديث عن بني إسرائيل:
كثر استرسال العلماء في الحديث عنهم في كل طريق، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج».
ومعنى هذا [الخبر] الحديث عنهم بما يخبرون [به] عن أنفسهم وقصصهم لا بما يخبرون به عن غيرهم؛ لأن أخبارهم عن غيرهم مفتقرة إلى العدالة والثبوت إلى منتهى الخبر، وما يخبرون به عن أنفسهم، فيكون من باب إقرار المرء على نفسه أو قومه؛ فهو أعلم بذلك.
وإذا أخبروا عن شرع لم يلزم قوله؛ ففي رواية مالك، عن «عمر - رضي الله عنه - أنه قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أمسك مصحفا قد تشرمت حواشيه، فقال: ما هذا؟ قلت: جزء من التوراة؛ فغضب وقال: والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي».
 
[مسألة هل شرع من قبلنا من الأنبياء شرع لنا حتى يثبت نسخه أم لا]
المسألة الثالثة:
أخبرهم سبحانه في هذه القصة عن حكم جرى في زمن موسى - عليه السلام - هل يلزمنا حكمه أم لا؟:
(1/37)
 
 
اختلف الناس في ذلك، والمسألة تلقب بأن شرع من قبلنا من الأنبياء هل هو شرع لنا حتى يثبت نسخه أم لا؟ في ذلك خمسة أقوال: الأول: أنه شرع لنا ولنبينا؛ لأنه كان متعبدا بالشريعة معنا، وبه قال طوائف من المتكلمين، وقوم من الفقهاء؛ واختاره الكرخي
ونص عليه ابن بكير القاضي من علمائنا.
وقال القاضي عبد الوهاب: هو الذي تقتضيه أصول مالك ومنازعه في كتبه، وإليه ميل الشافعي - رحمه الله -.
الثاني: أن التعبد وقع بشرع إبراهيم - عليه السلام - واختاره جماعة من أصحاب الشافعي.
الثالث: أنا تعبدنا بشرع موسى - عليه السلام -.
الرابع: أنا تعبدنا بشرع عيسى - عليه السلام -.
الخامس: أنا لم نتعبد بشرع أحد، ولا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بملة بشر، وهذا الذي اختاره القاضي أبو بكر.
وما من قول من هذه الأقوال إلا وقد نزع فيه بآية، وتلا فيها من القرآن حرفا؛ وقد مهدنا ذلك في أصول الفقه، وبينا أن الصحيح القول بلزوم شرع من قبلنا لنا مما أخبرنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم - عنهم دون ما وصل إلينا من غيره؛ لفساد الطرق إليهم؛ وهذا هو
(1/38)
 
 
صريح مذهب مالك في أصوله
كلها، وستراها مورودة بالتبيين حيث تصفحت المسائل من كتابنا هذا أو غيره.
ونكتة ذلك أن الله تعالى أخبرنا عن قصص النبيين، فما كان من آيات الازدجار وذكر الاعتبار ففائدته الوعظ، وما كان من آيات الأحكام فالمراد به الامتثال له والاقتداء به.
قال ابن عباس - رضي الله عنه -: قال الله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90]
فنبينا - صلى الله عليه وسلم - ممن أمر أن يقتدي بهم، وبهذا يقع الرد على ابن الجويني حيث قال: إن نبينا لم يسمع قط أنه رجع إلى أحد منهم، ولا باحثهم عن حكم، ولا استفهمهم؛ فإن ذلك لفساد ما عندهم.
أما الذي نزل به عليه الملك فهو الحق المفيد للوجه الذي ذكرناه، ولا معنى له غيره.
 
[مسألة القول بالقسامة]
المسألة الرابعة: لما ضرب بنو إسرائيل الميت بتلك القطعة من البقرة قال: دمي عند فلان؛ فتعين قتله، وقد استدل مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب عنه على صحة القول بالقسامة بقول المقتول: دمي عند فلان بهذا، وقال مالك: هذا مما يبين أن قول الميت: دمي عند فلان مقبول ويقسم عليه.
فإن قيل: كان هذا آية ومعجزة على يدي موسى - صلى الله عليه وسلم - لبني إسرائيل
(1/39)
 
 
قلنا: الآية والمعجزة إنما كانت في إحياء الميت، فلما صار حيا كان كلامه كسائر كلام الآدميين
كلهم في القبول والرد، وهذا فن دقيق من العلم لا يتفطن له إلا مالك.
ولقد حققناه في كتاب المقسط في ذكر المعجزات وشروطها، فإن قيل: فإنما قتله موسى - صلى الله عليه وسلم - بالآية.
قلنا: ليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه، فلما أمرهم بالقسامة معه، أو صدقه جبريل فقتله موسى بعلمه، كما قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - الحارث بن سويد، بالمجذر بن زياد بإخبار جبريل - عليه السلام - له بذلك حسبما تقدم، وهي مسألة خلاف كبرى قد بيناها في موضعها.
وروى مسلم، وفي الموطإ، وغيره، «حديث حويصة ومحيصة قال فيه: فتكلم محيصة فقال: يا رسول الله، وذكره إلى قوله: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحويصة ومحيصة، وعبد الرحمن: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم».
وفي مسلم: «يحلف خمسون رجلا منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته».
وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قتل رجلا بالقسامة من بني نصر بن مالك. وقال الدارقطني: نسخة عمرو بن شعيب عن
(1/40)
 
 
أبيه عن جده صحيحة، وقد بينا ذلك في أصول الفقه، واستبعد ذلك البخاري والشافعي وجماعة من العلماء، قالوا: كيف يقبل قوله في الدم، وهو لا يقبل قوله في درهم.
وإنما تستحق بالقسامة الدية، وقد أحكمنا الجواب والاستدلال في موضعه، ونشير إليه الآن بوجهين: أحدهما: أن السنة هي التي تمضي وترد لا اعتراض عليها، ولا تناقض فيها، وقد تلونا أحاديثها.
الثاني: أنه مع أن قوله: لا يقبل في درهم قد قلتم: إن قتيل المحلة يقسم فيه على الدية، وليس هنالك قول لأحد، وإنما هي حالة محتملة للتأويل والحق والباطل، إذ يجوز أن يقتله رجل ويجعله عند دار آخر؛ بل هذا هو الغالب من أفعالهم، وباقي النظر في مسائل الخلاف وشرح الحديث مستطر.
 
[مسألة شددوا فشدد الله عليهم]
المسألة الخامسة:
في هذه الآية دليل على حصر الحيوان [في المعين] بالصفة خلافا لأبي حنيفة حيث يقول: لا يحصر الحيوان بصفة ولا يتعين بحلية.
قال ابن عباس: لو أن بني إسرائيل لما قيل لهم: اذبحوا بقرة بادروا إلى أي بقرة كانت فذبحوها لأجزأ ذلك عنهم، وامتثلوا ما طلب، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم، فما زالوا يسألون ويوصف لهم حتى تعينت. وهذا كلام صحيح، ودليل مليح، والله أعلم.
(1/41)
 
 
[الآية الخامسة عشرة قوله تعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان]
الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} [البقرة: 102]
فيها تسع مسائل: المسألة الأولى: ذكر الطبري وغيره في قصص هذه الآية: أن سليمان - صلى الله عليه وسلم - كانت له امرأة يقال لها: الجرادة، تكرم عليه ويهواها، فاختصم أهلها مع قوم فكان صغو سليمان - عليه السلام - إلى أن يكون الحكم لأهل الجرادة، فعوقب، وكان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يخلو بإحدى نسائه أعطاها خاتمه، ففعل ذلك يوما فألقى الله تعالى صورته على شيطان، فجاءها فأخذ الخاتم فلبسه، ودانت الجن والإنس له، وجاء سليمان - عليه السلام - بعد ذلك يطلبه، فقالت: ألم تأخذه؟ فعلم أنه ابتلي، وعلمت الشياطين أن ذلك لا يدوم لها؛ فاغتنمت الفرصة فوضعت أوضاعا من السحر والكفر وفنونا من النيرجات وسطروها في مهارق، وقالوا: هذا ما كتب آصف بن برخيا كاتب نبي
(1/42)
 
 
الله سليمان، فدفنوها تحت كرسيه: وعاد سليمان إلى حاله، واستأثر الله تعالى به، فقالت الشياطين للناس: إنما كان سليمان يملككم بأمور أكثرها تحت كرسيه، فيها علوم غريبة؛ فدونكم فاحتفروا عليها، ففعلوا واستثاروها، فنفذ عليهم القضاء فصار في أيديهم، وتناقلته الكفرة والفلاسفة عنهم حتى وصل ذلك إلى يهود الحجاز، فكانوا يعملونه ويعلمونه ويصرفونه في حوائجهم ومعايشهم؛ وكانوا بين جاهلية جهلاء وأمة عمياء؛ فلما بعث الله تعالى محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالحق، ونور القلوب، وكشف قناع الألباب، لجأت اليهود إلى أن تعلق ما كان عندها من ذلك لسليمان - عليه السلام - وتزعم أنه مما نزل به جبريل وميكائيل - عليهما السلام - على سليمان - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك قد حمل قوما قبل البعث على أن يتبرءوا من سليمان - عليه السلام - فأنزل الله تعالى الآية.
المسألة الثانية: هذا الذي ذكرنا آنفا مما فيه الحرج في ذكره عن بني إسرائيل لما قدمناه من أنه إنما أذن لنا أن نتحدث عنهم في حديث يعود إليهم، وما كنا لنذكر هذا لولا أن الدواوين قد شحنت به.
أما قولهم: إن سليمان كان صغوه صحة الحكم لقوم الجرادة، فباطل قطعا؛ لأن الأنبياء - صلوات الله عليهم - لا يجوز ذلك عليهم إجماعا فإنهم معصومون عن الكبائر باتفاق.
وأما قولهم بأن شيطانا تصور في صورة ملك أو نبي، فأخذ الخاتم، فباطل قطعا؛ لأن الشياطين لا تتصور على صور الأنبياء؛ وقد بينا ذلك مبسوطا في " كتاب النبي ".
وأما دفنها تحت كرسي سليمان - عليه السلام - فيمكن ألا يعلم بذلك وتبقى حتى يفتتن بها الخلق بعده.
وقد روي أن سليمان - عليه الصلاة والسلام - أخذها ودفنها تحت كرسيه، وذلك مما
(1/43)
 
 
لا يجوز عليه وأنه لم يكن سحرا، أما لو علم أنها سحر فحقها أن تحرق أو تغرق، ولا تبقى عرضة للنقل والعمل.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: {واتبعوا} [البقرة: 102]: قيل: يهود زمان سليمان، وقيل يهود زماننا، واللفظ فيهم عام، ولجميعهم محتمل، وقد كان الكل منهم متبعا لهذا الباطل.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: {ما تتلو الشياطين} [البقرة: 102]
اختلف الناس في حرف " ما ": فمنهم من قال: إنه نفي، ومنهم من قال: إنه مفعول، وهو الصحيح.
ولا وجه لقول من يقول: إنه نفي، لا في نظام الكلام، ولا في صحة المعنى، ولا يتعلق من كونه مفعولا سياق الكلام بمحال عقلا، ولا يمتنع شرعا.
وتقريره: واتبع اليهود ما تلته الشياطين من السحر على ملك سليمان، أي نسبته إليه وأخبرت به عنه، كقوله تعالى {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} [الحج: 52] أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته ما لم يلقه النبي، يحاكيه ويلبس على السامعين به حسبما بيناه.
وما كفر سليمان قط ولا سحر، ولكن الشياطين كفروا بسحرهم، وأنهم يعلمونه الناس؛ ومعتقد الكفر كافر، وقائله كافر، ومعلمه كافر، ويعلمون الناس ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، وما كان الملكان يعلمان أحدا حتى يقولا: {إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} [البقرة: 102]
(1/44)
 
 
[مسألة كيف أنزل الله تعالى الباطل والكفر]
فإن قيل: وهي المسألة الخامسة: كيف أنزل الله تعالى الباطل والكفر؟ قلنا: كل خير أو شر أو طاعة أو معصية أو إيمان أو كفر منزل من عند الله تعالى؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: «ماذا فتح الليلة من الخزائن؟ ماذا أنزل الله تعالى من الفتن؟ أيقظوا صواحب الحجر، رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة» فأخبر - عليه السلام - عن نزول الفتن على الخلق.
 
[مسألة كيف نزل الكفر على الملكين وهم يفعلون ما يؤمرون]
المسألة السادسة: فإن قيل: وكيف نزل الكفر على الملكين وهم يفعلون ما يؤمرون، ويسبحون الليل والنهار لا يفترون، فأنى يصح أن يتكلموا بالكفر ويعلموه؟ قلنا: هذا الذي أشكل على بعضهم حتى روي عن الحسن أنه قرأ الملكين بكسر اللام، وروي أنه كان ببابل علجان، وقد بلغ التغافل أو الغفلة ببعضهم حتى قال: إنما هما داود وسليمان، وتأول الآية: {وما أنزل على الملكين} [البقرة: 102] أي في أيامهما.
وقوله تعالى: {وما يعلمان من أحد} [البقرة: 102] يعني: الشياطين.
وقد روى المفسرون عن نافع قال: قال لي ابن عمر: أطلعت الحمراء؟ قلت: طلعت. قال: لا مرحبا بها ولا أهلا، وأراه لعنها.
قلت: سبحان الله، نجم مسخر مطيع تلعنه؟ قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الملائكة عجت من معاصي بني آدم في الأرض، فقالت: يا رب، كيف
(1/45)
 
 
صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ فأعلمهم الله سبحانه أنهم لو كانوا مكانهم، ويحل الشيطان من قلوبهم محله من بني آدم لعملوا بعملهم، وقد أعطيت بني آدم عشرا من الشهوات فبها يعصونني. قالت الملائكة: ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات، وابتليتنا، لحكمنا بالعدل، وما عصيناك. فأمرهم سبحانه أن يختاروا منهم ملكين من أفضلهم، فتعرض لذلك هاروت وماروت وقالا: نحن ننزل؛ وأعطنا الشهوات، وكلفنا الحكم بالعدل. فنزلا ببابل، فكانا يحكمان حتى إذا أمسيا عرجا إلى مكانهما، ففتنا بامرأة حاكمت زوجها اسمها بالعربية الزهرة وبالنبطية بيرخت وبالفارسية أقاهيد فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبني. قال له الآخر: لقد أردت أن أقول لك ذلك، فهل لك في أن تعرض لها؟ قال له الآخر: كيف بعذاب الله. قال: إنا لنرجو رحمة الله. فطلباها في نفسها قالت: لا حتى تقضيا لي على زوجي؛ فقضيا لها وقصداها وأرادا مواقعتها، فقالت لهما: لا أجيبكما لذلك حتى تعلماني كلاما أصعد به إلى السماء، وأنزل به منها؛ فأخبراها، فتكلمت فصعدت إلى السماء فمسخها الله تعالى كوكبا، فلما أرادا أن يصعدا، لم يطيقا فأيقنا بالهلكة؛ فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فعلقا ببابل فجعلا يكلمان الناس كلامهما، وهو السحر. ويقال: كانت الملائكة قبل ذلك يستغفرون للذين آمنوا، فلما وقعا في الخطيئة استغفروا لمن في الأرض».
قال القاضي: وإنما سقنا هذا الخبر؛ لأن العلماء رووه ودونوه فخشينا أن يقع لمن يضل به.
وتحقيق القول فيه أنه لم يصح سنده، ولكنه جائز كله في العقل لو صح في النقل، وليس بممتنع أن تقع المعصية من الملائكة، ويوجد منهم خلاف ما كلفوه، وتخلق فيهم الشهوات؛ فإن هذا لا ينكره إلا رجلان: أحدهما: جاهل لا يدري الجائز من المستحيل، والثاني: من شم ورد الفلاسفة، فرآهم يقولون: إن الملائكة روحانيون، وإنهم لا تركيب فيهم، وإنما هم بسائط، وشهوات الطعام والشراب والجماع لا تكون
(1/46)
 
 
إلا في المركبات من الطبائع الأربع، وهذا تحكم في القولين من وجهين: أحدهما: أنهم أخبروا عن الملائكة وكيفيتهم بما لم يعاينوه، ولا نقل إليهم، ولا دل دليل العقل عليه.
والثاني: أنهم أحالوا على البسيط أن يتركب، وذلك عندنا جائز؛ بل يجوز عندنا بلا خلاف أن يأكل البسيط ويشرب ويطأ، ولا يوجد من المركب شيء من ذلك.
وهذا الذي اطرد في البسيط من عدم الغذاء، وفي المركب من وجود الغذاء عادة إلا أنه غاية القدرة، وقد مكنا القول في ذلك ومهدناه في الأصول، وخبر الله تعالى عنهم بأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ويفعلون ما يؤمرون، صدق لا خلاف فيه، لكنه خبر عن حالهم، وهي ما يجوز أن تتغير فيكون الخبر عنها بذلك أيضا، وكل حق صدق لا خلاف فيه.
وقد قال علماؤنا: إنه خبر عام يجوز أن يدخله التخصيص، وهذا صحيح أيضا.
وقد روى سنيد في تفسيره أنه دخل إليهما في مغارهما وكلما، وتعلم منهما في زمن الإسلام، وليس التعلم منهما إلا سماع كلامهما، وهما إذا تكلما إنما يقولان: إنما نحن فتنة فلا تكفر أي لا تجعل ما تسمع منا سببا للكفر، كما جعل السامري ما اطلع عليه من أثر فرس جبريل سببا لاتخاذ العجل إلها من دون الله.
وفي هذا من العبرة: الخشية من سوء العاقبة والخاتمة، وعدم الثقة بظاهر الحالة، والخوف من مكر الله تعالى، فهذا بلعام في الآدميين كهاروت وماروت في الملائكة المقربين، فأنزلوا كل فن في مرتبته، وتحققوا مقداره في درجته حسبما رويناه، ولا تذهلوا عن بعض فتجهلوا جميعه.
(1/47)
 
 
[مسألة القول في السحر وحقيقته]
المسألة السابعة: قوله تعالى: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} [البقرة: 102] وقد أوردنا في كتاب " المشكلين " القول في السحر وحقيقته ومنتهى العمل به على وجه يشفي الغليل، وبينا أن من أقسامه فعل ما يفرق به بين المرء وزوجه، ومنه ما يجمع بين المرء وزوجه، ويسمى التولة، وكلاهما كفر، والكل حرام، كفر قاله مالك.
وقال الشافعي: السحر معصية إن قتل بها الساحر قتل، وإن أضر بها أدب على قدر الضرر.
وهذا باطل من وجهين: أحدهما: أنه لم يعلم السحر، وحقيقته أنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى، وتنسب إليه فيه المقادير والكائنات.
والثاني: أن الله سبحانه قد صرح في كتابه بأنه كفر؛ لأنه تعالى قال: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان} [البقرة: 102] من السحر وما كفر سليمان بقول السحر ولكن الشياطين كفروا به وبتعليمه، وهاروت وماروت يقولان: إنما نحن فتنة فلا تكفر، وهذا تأكيد للبيان.
المسألة الثامنة: قوله تعالى: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} [البقرة: 102]
(1/48)
 
 
يعني: بحكمه وقضائه لا بأمره؛ لأن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء، ويقضي على الخلق بها، وقد مهدنا ذلك في موضعه.
المسألة التاسعة: قوله تعالى: {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} [البقرة: 102]
هم يعتقدون أنه نفع لما يتعجلون به من بلوغ الغرض، وحقيقته مضرة، لما فيه من عظيم سوء العاقبة؛ وحقيقة الضرر عند أهل السنة كل ألم لا نفع يوازيه، وحقيقة النفع كل لذة لا يتعقبها عقاب، ولا تلحق فيه ندامة.
والضرر وعدم المنفعة في السحر متحقق
 
[الآية السادسة عشرة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا]
وقولوا انظرنا واسمعوا} [البقرة: 104]
كانت اليهود تأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فتقول: يا أبا القاسم، راعنا، توهم أنها تريد الدعاء، من المراعاة، وهي تقصد به فاعلا من الرعونة.
وروي أن المسلمين كانوا يقولون: راعنا، من الرعي، فسمعتهم اليهود، فقالوا: يا راعنا كما تقدم، فنهى الله تعالى المسلمين عن ذلك، لئلا يقتدي بهم اليهود في اللفظ ويقصدوا المعنى الفاسد منه.
وهذا دليل على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعرض للتنقيص والغض، ويخرج منه فهم التعريض بالقذف وغيره.
وقال علماؤنا: بأنه ملزم للحد، خلافا للشافعي وأبي حنيفة حيث قالا: إنه قول محتمل للقذف وغيره، والحد مما يسقط بالشبهة.
(1/49)
 
 
ودليلنا أنه قول يفهم منه القذف، فوجب فيه الحد كالتصريح.
وقد يكون في بعض المواضع أبلغ من التصريح في الدلالة على المراد، وإنكار ذلك عناد، وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف.
 
[الآية السابعة عشرة قوله تعالى ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه]
وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} [البقرة: 114]
فيها خمس مسائل: المسألة الأولى: فيمن نزلت؟ فيه أربعة أقوال: الأول: أنه بخت نصر.
الثاني: أنهم مانعو بيت المقدس من النصارى اتخذوه كظامة.
والثالث: أنه المسجد الحرام عام الحديبية.
الرابع: أنه كل مسجد؛ وهو الصحيح؛ لأن اللفظ عام ورد بصيغة الجمع؛ فتخصيصه ببعض المساجد أو بعض الأزمنة محال، فإن كان فأمثلها الثالث.
 
[مسألة تعظيم أمر الصلاة]
المسألة الثانية: فائدة الآية: فائدة هذه الآية تعظيم أمر الصلاة فإنها لما كانت أفضل الأعمال وأعظمها أجرا
(1/50)
 
 
كان منعها أعظم إثما، وإخراب المساجد تعطيل لها وقطع بالمسلمين في إظهار شعائرهم وتأليف كلمتهم.
 
[مسألة مفادة قوله تعالى مساجد الله]
المسألة الثالثة: إن قوله تعالى: {مساجد الله} [البقرة: 114] يقتضي أنها لجميع المسلمين عامة، الذين يعظمون الله تعالى، وذلك حكمها بإجماع الأمة؛ على أن البقعة إذا عينت للصلاة خرجت عن جملة الأملاك المختصة بربها، فصارت عامة لجميع المسلمين بمنفعتها ومسجديتها، فلو بنى الرجل في داره مسجدا وحجزه عن الناس، واختص به لنفسه لبقي على ملكه، ولم يخرج إلى حد المسجدية، ولو أباحه للناس كلهم لكان حكمه حكم سائر المساجد العامة، وخرج عن اختصاص الأملاك.
 
[مسألة دخول الكافر المسجد]
المسألة الرابعة: قوله تعالى: {أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين} [البقرة: 114]
يعني إذا استولى عليها المسلمون، وحصلت تحت سلطانهم فلا يتمكن الكافر حينئذ من دخولها يعني إن دخلوها فعلى خوف من إخراج المسلمين لهم منها وأذيتهم على دخولها؛ وهذا يدل على أنه ليس للكافر دخول المسجد بحال، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
 
[الآية الثامنة عشرة قوله تعالى ولله المشرق والمغرب]
فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115]
(1/51)
 
 
فيها أربع مسائل: المسألة الأولى: في سبب نزولها: وفي ذلك سبعة أقوال: الأول: أنها نزلت في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بيت المقدس، ثم عاد فصلى إلى الكعبة؛ فاعترضت عليه اليهود، فأنزلها الله تعالى له كرامة وعليهم حجة قاله ابن عباس.
الثاني: أنها نزلت في تخيير النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ليصلوا حيث شاءوا من النواحي، قاله قتادة.
الثالث: أنها نزلت في صلاة التطوع، يتوجه المصلي في السفر إلى حيث شاء فيها راكبا قاله ابن عمر.
الرابع: أنها نزلت فيمن صلى الفريضة إلى غير القبلة في ليلة مظلمة قاله عامر بن ربيعة.
الخامس: أنها نزلت في النجاشي، آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يصل إلى قبلتنا قاله قتادة.
السادس: أنها نزلت في الدعاء.
السابع: أن معناها أينما كنتم وحيثما كنتم من مشرق أو مغرب فلكم قبلة واحدة تستقبلونها.
قال القاضي: هذه الأقوال السبعة لقائليها تحتمل الآية جميعها.
فأما قول ابن عباس فيشهد له قوله سبحانه وتعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب} [البقرة: 142]
(1/52)
 
 
وأما قول ابن عمر، فسند صحيح، وهو قوي في النظر، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنه كان يحرم في السفر على الراحلة، مستقبل القبلة، ثم يصلي حيث توجهت به بقية الصلاة»، وهو صحيح.
وأما قول عامر بن ربيعة، فقد أسند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يصح عنه، وإن كان المصنفون قد رووه.
وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال أبو حنيفة ومالك: تجزئه، بيد أن مالكا رأى عليه الإعادة في الوقت استحبابا.
وقال المغيرة والشافعي: لا يجزئه؛ لأن القبلة شرط من شروط الصلاة، فلا ينتصب الخطأ عذرا في تركها، كالماء الطاهر والوقت.
وما قاله مالك أصح؛ لأن جهة القبلة تبيح الضرورة تركها في المسايفة، وتبيحها أيضا الرخصة حالة السفر، فكانت حالة عذر أشبه بها؛ لأن الماء الطاهر لا يبيح تركه إلى الماء النجس ضرورة فلا يبيحه خطأ.
 
[مسألة معنى قوله تعالى ولله المشرق والمغرب]
المسألة الثانية: معنى قوله تعالى: {ولله المشرق والمغرب} [البقرة: 115] أي: ذلك له ملك وخلق لجواز الصلاة إليه وإضافته إليه تشريفا وتخصيصا.
 
[مسألة نفي الجهة والمكان عنه تعالى]
المسألة الثالثة: قوله تعالى: {فثم وجه الله} [البقرة: 115]
قيل: معناه فثم الله، هذا يدل على نفي الجهة والمكان عنه تعالى، لاستحالة ذلك عليه، وأنه في كل مكان بعلمه وقدرته.
وقيل: معناه فثم قبلة الله، ويكون الوجه اسما للتوجه.
(1/53)
 
 
وتحقيق القول فيه: أن الله تعالى أمر بالصلاة عبادة، وفرض فيها الخشوع استكمالا للعبادة، وألزم الجوارح السكون، واللسان الصمت إلا عن ذكر الله تعالى، ونصب البدن إلى جهة واحدة؛ ليكون ذلك أنفى للحركات، وأقعد للخواطر، وعينت له جهة الكعبة تشريفا له.
وقيل له: إن الله سبحانه قبل وجهك، معناه أنك قصدت التوجه إلى الله تعالى، وقد عين لك هذا الصوب، فهنالك تجد ثوابك، وتحمد إيابك.
 
[مسألة التوجه إلى جهة بيت المقدس]
المسألة الرابعة: في تنزيل الآية على الأقوال المتقدمة: لا يخفى أن عموم الآية يقتضي بمطلقه جواز التوجه إلى جهتي المشرق والمغرب بكل حال، لكن الله سبحانه خص من ذلك جواز التوجه إلى جهة بيت المقدس في وقت، وإلى جهة الكعبة في حال الاختيار في الفرض والحضر فيها أيضا، وبقيت على النافلة في السفر، وقد تقدم بيان ذلك في القسم الثاني من " الناسخ والمنسوخ ".
 
[الآية التاسعة عشرة قوله تعالى وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن]
قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124]
الآية فيها ثلاث مسائل: المسألة الأولى: ابتلى معناه اختبر، وقد تقدم بيانه في كتاب المشكلين، وبينا أن معناه أمر ليعلم من الامتثال أو التقصير مشاهدة ما علم غيبا، وهو عالم الغيب والشهادة، تختلف الأحوال على المعلومات، وعلمه لا يختلف، بل يتعلق بالكل تعلقا واحدا.
المسألة الثانية: قوله تعالى: {بكلمات} [البقرة: 124] هي: جمع كلمة، ويرجع تحقيقها إلى كلام الباري سبحانه، لكنه تعالى عبر بها عن
(1/54)
 
 
الوظائف التي كلفها إبراهيم - عليه السلام -، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به، كما يسمى عيسى - عليه السلام - كلمة؛ لأنه صدر عن الكلمة، وهي: كن، وتسمية الشيء بمقدمته أحد قسمي المجاز الذي بيناه في موضعه.
المسألة الثالثة: ما تلك الكلمات؟ وقد اختلف العلماء فيها اختلافا كثيرا، لبابه قولان: أحدهما: أنها شريعة الإسلام، فأكملها إبراهيم - عليه السلام -.
قال ابن عباس: وما قام أحد بوظائف الدين مثله يعني والله أعلم قبله؛ فقد قام بها بعده كثير من الأنبياء، وخصوصا محمدا - صلى الله عليه وسلم - وعليهم.
الثاني: أنها الفطرة التي أوعز الله تعالى بها إليه، ورتبها عليه، وروت عائشة - رضي الله عنها - في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم وحلق العانة ونتف الإبط وانتقاص الماء ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة».
وروى عمار بن ياسر الحديث، وقال: «المضمضة والاستنشاق»، وزاد: «الختان»، وذكر «الانتضاح» بدل «انتقاص الماء».
وقد قال بعض علمائنا: إن معنى قوله هنا: «من الفطرة» يعني من السنة، وأنا أقول: إنها من الملة، وقد روي أن إبراهيم ابتلي بها فرضا، وهي لنا سنة، والذي
(1/55)
 
 
يصح أن إبراهيم - عليه السلام - ابتلي بها تكليفا غير معين من الفرض أو الندب في جميعها أو انقسام الحال فيها.
وقد اتفقت الأمة على أنها من الملة، واختلفوا في مراتبها؛ فأما قص الشارب وإعفاء اللحية فمخالفة للأعاجم فإنهم يقصون لحاهم، ويوفرون شواربهم، أو يوفرونهما معا، وذلك عكس الجمال والنظافة.
وأما السواك والمضمضة والاستنشاق فلتنظيف الفم من الطعام والقلح.
وأما قص الأظفار فلتنزيه الطعام عما يلتئم من الوسخ فيها والأقذار.
وأما غسل البراجم فلما يجتمع من الأوساخ في غضونها.
وحلق العانة ونتف الإبط تنظيفا عما يتلبد من الوسخ فيهما على شعرهما ومما يجتمع من الرمص فيهما، والاستنجاء لتنظيف ذلك المحل وتطبيبه عن الأذى والأدواء.
وأما الختان فلنظافة القلفة عما يجتمع من أذى البول فيها، ولم يختتن أحد قبل إبراهيم - عليه السلام -؛ ثبت في الصحيح: «أنه اختتن بالقدوم وهو ابن مائة وعشرين سنة». وقد اختلف العلماء فيه، فرأى الشافعي أنه سنة لما قرن به من إخوته في هذا الحديث، ورأى مالك أنه فرض؛ لأنه تكشف له العورة ولا يباح الحرام إلا للواجب، وقد مهدناه في مسائل الخلاف، فلما أتم إبراهيم - عليه السلام - هذه الوظائف أثنى الله سبحانه عليه، فقال: {وإبراهيم الذي وفى} [النجم: 37].
(1/56)
 
 
سمعت بعض العلماء يقول: وإبراهيم الذي وفى بماله للضيفان، وببدنه للنيران، وبقلبه للرحمن.
 
[الآية الموفية عشرين قوله تعالى وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا]
} [البقرة: 125]
هذا تنبيه من الله تعالى لعباده على فضله، وتعديد لنعمه التي منها جعل البيت الحرام للعرب عموما ولقريش خصوصا مثابة للناس أي معادا في كل عام لا يخلو منهم، يقال: ثاب إلى كذا أي: رجع وعاد إليه، فإن قيل: ليس كل من جاءه عاد إليه.
قلنا: لا يختص ذلك بمن ورد عليه، وإنما المعنى أنه لا يخلو من الجملة، ولم يعدم قاصدا من الناس؛ وكذلك جعله تبارك وتعالى أمنا يلقى الرجل فيه قاتل وليه فلا يروعه.
وهذا كقوله تعالى: {ومن دخله كان آمنا} [آل عمران: 97]
وكذلك: {أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم} [العنكبوت: 67]
وهذا لما كان الله تعالى قد ركب في قلوبهم من تعظيم البقعة وتفضيل الموضع على غيره من الأرض المشابهة له في الصفة، بهذه الخصيصى المعظمة.
وقد سمعت أن الكلب الخارج من الحرم لا يروع الصيد بها، وهذا من آيات الله تعالى فيها؛ وهذا اللفظ وإن كان ورد بالبيت، فإن المراد به الحرم كله؛ لأن الفائدة فيه كانت وعليه دامت.
وقد اختلف العلماء في تفسير الأمن على أربعة أقوال: الأول: أنه أمن من عذاب الله تعالى في الآخرة، والمعنى أن من دخله معظما له
(1/57)
 
 
وقصده محتسبا فيه لمن تقدم إليه.
ويعضده ما روي في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».
الثاني: معناه من دخله كان آمنا من التشفي والانتقام، كما كانت العرب تفعله فيمن أناب إليه من تركها لحق يكون لها عليه.
الثالث: أنه أمن من حد يقام عليه، فلا يقتل به الكافر، ولا يقتص فيه من القاتل، ولا يقام الحد على المحصن والسارق؛ قاله جماعة من فقهاء الأمصار، ومنهم أبو حنيفة، وسيأتي عليه الكلام.
الرابع: أنه أمن من القتال؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «إن الله حبس عن مكة الفيل أو القتل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار».
والصحيح فيه القول الثاني، وهذا إخبار من الله تعالى عن منته على عباده، حيث قرر في قلوب العرب تعظيم هذا البيت، وتأمين من لجأ إليه؛ إجابة لدعوة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل به أهله وولده، فتوقع عليهم الاستطالة، فدعا أن يكون أمنا لهم فاستجيب دعاؤه.
(1/58)
 
 
وأما من قاله: إنه أمن من عذاب الله تعالى، فإن الله تعالى نبه بجعله مثابة للناس وأمنا على حجته على خلقه، والأمن في الآخرة لا تقام به حجة.
وأما امتناع الحد فيه فقول ساقط؛ لأن الإسلام الذي هو الأصل، وبه اعتصم الحرم، لا يمنع من إقامة الحدود والقصاص؛ وأمر لا يقتضيه الأصل أحرى ألا يقتضيه الفرع.
وأما الأمن عن القتل والقتال [فقول لا يصح؛ لأنه قد كان فيه القتل والقتال] بعد ذلك ويكون إلى يوم القيامة، وإنما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التحليل للقتال، فلا جرم لم يكن فيها تحليل قبل ذلك اليوم، ولا يكون لعدم النبوة إلى يوم القيامة، وإنما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن امتناع تحليل القتال شرعا لا عن منع وجوده حسا.
 
[الآية الحادية والعشرون قوله تعالى واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى]
} [البقرة: 125]
فيها مسألتان: المسألة الأولى: في تحقيق المقام: هو مفعل بفتح العين، من قام، كمضرب بفتح العين أيضا، من ضرب؛ فمن الناس من حمله على عمومه في مناسك الحج؛ والتقدير: " واتخذوا من مناسك إبراهيم في الحج عبادة وقدوة ".
والأكثر حمله على الخصوص في بعضها، واختلفوا فيه: فقال قوم: هو الحجر الذي جعل إبراهيم عليه رجله حين غسلت زوج إسماعيل - عليهما السلام - رأسه.
وقد رأيت بمكة صندوقا فيه حجر، عليه أثر قدم قد انمحى واخلولق، فقالوا كلهم: هذا أثر قدم إبراهيم - عليه السلام - وهو موضوع بإزاء الكعبة.
(1/59)
 
 
وقال آخرون: هو الموضع الذي دعا إبراهيم - عليه السلام - فيه ربه تعالى حين استودع ذريته.
فمن حمله على العموم قال: معناه كما قدمنا مصلى: مدعى أي موضعا للدعاء.
ومن خصصه قال: معناه موضعا للصلاة المعهودة؛ وهو الصحيح؛ ثبت من كل طريق «أن عمر - رضي الله عنه - قال: وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله؛ لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى».
الحديث، «فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - طوافه مشى إلى المقام المعروف اليوم، وقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة: 125] وصلى فيه ركعتين»، وبين بذلك أربعة أمور: الأول: أن ذلك الموضع هو المقام المراد في الآية.
الثاني: أنه بين الصلاة وأنها المتضمنة للركوع والسجود لا مطلق الدعاء.
الثالث: أنه عرف وقت الصلاة فيه، وهو عقب الطواف، وغيره من الأوقات مأخوذ من دليل آخر.
الرابع: أنه أوضح أن ركعتي الطواف واجبتان، فمن تركهما فعليه دم.
 
[الآية الثانية والعشرون قوله تعالى سيقول السفهاء من الناس]
ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة: 142]
قال علماؤنا: المراد بذلك اليهود، عابوا على المسلمين رجوعهم إلى الكعبة عن بيت المقدس، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب أولا أن يتوجه إلى بيت المقدس، حتى إذا دانى اليهود في قبلتهم كان أقرب إلى إجابتهم، فإنه - عليه السلام - كان حريصا على تأليف الكلمة، وجمع الناس على الدين، فقابلت اليهود هذه النعمة بالكفران، فأعلمهم الله تعالى أن الجهات كلها له، وأن المقصود وجهه، وامتثال أمره، فحيثما أمر بالتوجه إليه توجه
(1/60)
 
 
إليه؛ وصح ذلك فيه.
وتمام الكلام في القسم الثاني، وهو قريب من الذي تقدم من قبل.
 
[الآية الثالثة والعشرون قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا]
} [البقرة: 143]
الوسط في اللغة: الخيار، وهو العدل. وقال بعضهم: هو من وسط الشيء.
، وليس للوسط الذي هو بمعنى ملتقى الطرفين ههنا دخول؛ لأن هذه الأمة آخر الأمم؛ وإنما أراد به الخيار العدل، يدل عليه قوله تعالى بعده: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} [البقرة: 143]
فأنبأنا ربنا تعالى بما أنعم به علينا من تفضيله لنا باسم العدالة، وتوليته خطة الشهادة على جميع الخليقة، فجعلنا أولا مكانا، وإن كنا آخرا زمانا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نحن الآخرون السابقون».
وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ على الغير قول الغير إلا أن يكون عدلا، وذلك فيما يأتي بعد إن شاء الله تعالى.
 
[الآية الرابعة والعشرون قوله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم]
} [البقرة: 143]
(1/61)
 
 
اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى البيت المقدس، واختلفوا في تأويلها؛ فمنهم من قال: وما كان الله ليضيع إيمانكم بالتوجه إلى القبلة وتصديقكم لنبيكم قاله محمد بن إسحاق، وتابعه عليه معظم المتكلمين، والأصوليون.
وقد روى ابن وهب، وابن القاسم، وابن عبد الحكم، وأشهب عن مالك: أن المراد به صلاتكم، زاد أشهب، وابن عبد الحكم: قال مالك: " أقام الناس يصلون نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا؛ ثم أمروا بالبيت، فقال الله سبحانه وتعالى: وما كان الله ليضيع إيمانكم أي: في صلاتكم إلى البيت المقدس ".
قال: وإني لأذكر بهذه الآية قول المرجئة: إن الصلاة ليست من الإيمان.
فإن قيل: فإن كانت الصلاة من الإيمان فلم قال مالك: إن تاركها غير كافر.
وهذا تناقض، فحققوا وجه التقصي عنه.
فالجواب: إنا وإن قلنا إن الصلاة من الإيمان لم يبعد ذلك تسمية، وقد جاء ذلك في القرآن؛ قال الله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} [الأنفال: 2] إلى قوله تعالى: {الذين يقيمون الصلاة} [الأنفال: 3] إلى قوله تعالى: {أولئك هم المؤمنون} [الأنفال: 4] وكذلك لا يبعد أن يسمى تاركها كافرا.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة».
وقد قال علماؤنا الأصوليون: في ذلك وجهان:
(1/62)
 
 
أحدهما: أن تكون تسمية الصلاة إيمانا وتركها كفرا مجازا.
الثاني: أن يرجع ذلك إلى اعتقاد وجوب الصلاة أو اعتقاد نفي وجوبها؛ وهذا لا يحتاج إليه؛ بل يقول علماؤنا من الفقهاء: إنها تسمى إيمانا، وهي من أركان الإيمان وعهد الإسلام.
ولكن الفرق بين علماء الأصول والمرجئة أن المرجئة قالت: ليست من الإيمان وتاركها في الجنة، وهؤلاء قالوا: ليست من الإيمان وتاركها في المشيئة، وعلماؤنا الفقهاء قالوا: هي من الإيمان وتاركها في المشيئة، قضت بذلك آي القرآن وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خمس صلوات كتبهن الله على عباده في اليوم والليلة من جاء بهن لم يضيع شيئا منهن استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له».
فقضت هذه الآية وهذا الحديث ونظائرهما على كل متشابه جاء معارضا في الظاهر لهما؛ ولم يمتنع أن تسمى الصلاة إيمانا في إطلاق اللفظ، ويحكم لتاركها بالمغفرة تخفيفا ورحمة.
(1/63)
 
 
ويحمل ما جاء من الألفاظ المكفرة؛ كقوله - عليه السلام -: «من ترك الصلاة فقد كفر» ونحوه على ثلاثة أوجه: الأول: على التغليظ.
الثاني: أنه قد فعل فعل الكافر.
الثالث: أنه قد أباح دمه، كما أباحه في الكافر؛ والله أعلم.
 
[الآية الخامسة والعشرون قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام]
وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 144]
الشطر في اللغة يقال على النصف من الشيء، ويقال على القصد، وهذا خطاب لجميع المسلمين، من كان منهم معاينا للبيت، ومن كان غائبا عنه.
وذكر الباري سبحانه المسجد الحرام، والمراد به البيت، كما ذكر في قوله تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} [البقرة: 125]
الكعبة، والمراد به الحرم، لأنه تعالى خاطبنا بلغة العرب، وهي تعبر عن الشيء بما يجاوره أو بما يشتمل عليه؛ وإنما أراد سبحانه أن يعرف أن من بعد عن البيت فإنه يقصد الناحية لا عين البيت، فإنه يعسر [نظره و] قصده؛ بل لا يمكن أبدا إلا للمعاين، وربما التفت المعاين يمينا أو شمالا فإذا به قد زهق عنه، فاستأنف الصلاة؛ وأضيق ما تكون القبلة عند معاينة القبلة.
وقد اختلف العلماء: هل فرض الغائب عن الكعبة استقبال العين؟ أو
(1/64)
 
 
استقبال الجهة؟ فمنهم من قال: [فرضه استقبال العين]؛ وهذا ضعيف؛ لأنه تكليف لما لا يصل إليه.
ومنهم من قال الجهة؛ وهو الصحيح لثلاثة أمور: أحدها: أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف.
الثاني: أنه المأمور به في القرآن، إذ قال: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 144] فلا يلتفت إلى غير ذلك.
الثالث: أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت، ويجب أن يعول على ما تقدم؛ فإن الصف الطويل إذا بعد عن البيت أو طال وعرض أضعافا مضاعفة لكان ممكنا أن يقابل [جميع] البيت.
 
[الآية السادسة والعشرون قوله تعالى ولكل وجهة هو موليها]
} [البقرة: 148]
وهي مشكلة، لباب الكلام فيها في مسألتين: المسألة الأولى: أن الوجهة هي هيئة التوجه كالقعدة بكسر القاف: هيئة القعود، والجلسة: هيئة الجلوس، وفي المراد بها ثلاثة أقوال: الأول: أن المراد بذلك أهل الأديان؛ المعنى لأهل كل ملة حالة في التوجه إلى القبلة؛ روي عن ابن عباس.
الثاني: أن المعنى لكل وجهة في الصلاة إلى بيت المقدس، وفي الصلاة إلى الكعبة؛ قاله قتادة.
الثالث: أن المراد به جميع المسلمين، أي لأهل كل جهة من الآفاق وجهة ممن
(1/65)
 
 
بمكة وممن بعد، ليس بعضها مقدما على البعض في الصواب؛ لأن الله تعالى هو الذي ولى جميعها وشرع جملتها، وهي وإن كانت متعارضة في الظاهر والمعاينة، فإنها متفقة في القصد وامتثال الأمر.
وقرئ: هو مولاها، يعني المصلي؛ التقدير: المصلي هو موجه نحوها، وكذلك قبل في قراءة من قرأ هو موليها؛ إن المعنى أيضا أن المصلي هو متوجه نحوها؛ والأول أصح في النظر، وأشهر في القراءة والخبر.
 
[مسألة المبادرة والاستعجال إلى الطاعات]
المسألة الثانية: قوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} [البقرة: 148]
معناه، افعلوا الخيرات، من السبق، وهو المبادرة إلى الأولية، وذلك حث على المبادرة والاستعجال إلى الطاعات، ولا خلاف فيه بين الأمة في الجملة.
وفي التفضيل اختلاف؛ وأعظم مهم اختلفوا في تفضيله الصلاة؛ فقال الشافعي: أول الوقت فيها أفضل من غير تفصيل؛ لظاهر هذه وغيرها، كقوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} [آل عمران: 133]
وقال أبو حنيفة: آخر الوقت أفضل؛ لأنه عنده وقت الوجوب حسبما مهدناه في مسائل الخلاف.
وأما مالك ففصل القول؛ فأما الصبح والمغرب فأول الوقت فيهما أفضل عنده من غير خلاف.
وأما الظهر والعصر فلم يختلف قوله: إن أول الوقت أفضل للفذ، وإن الجماعة تؤخر " على ما في حديث عمر - رضي الله عنه -.
والمشهور في العشاء أن تأخيرها أفضل لمن قدر عليه، ففي صحيح الحديث «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرها ليلة حتى رقد الناس
(1/66)
 
 
واستيقظوا، ثم قال: لولا أن أشق على أمتي لأخرتها هكذا».
وأما الظهر فإنها تأتي الناس على غفلة فيستحب تأخيرها قليلا حتى يتأهبوا ويجتمعوا.
وأما العصر فتقديمها أفضل.
ولا خلاف في مذهبنا أن تأخير الصلاة لأجل الجماعة أفضل من تقديمها؛ فإن فضل الجماعة مقدر معلوم، وفضل أول الوقت مجهول، وتحصيل المعلوم أولى.
وأما الصبح فتقديمها أفضل، لحديث عائشة - رضي الله عنها - في الصبح