ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل
المؤلف: أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي الغرناطي، أبو جعفر (المتوفى: 708هـ)
 
 
سورة أم القرآن
غ _ وهى بجملتها من مغفلات صاحب كتاب الدرة وكذا ما بعد إلى الآية السادسة من سورة البقرة وهى قوله تعالى: "وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ".
وقد تقدم أني أعلم على المغفل بعلامة غ.
وأرجع إلى أم القرآن فأقول: هى أم القرآن ومطلع الكتاب العزيز وأول سورة في الترتيب الثابت ومشروعية حمده سبحانه فى ابتداء الأمور وختامها متقرر معلوم وقد تكرر فى الكتاب العزيز افتتاحا واختتاما، وأمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى "وقل الحمد لله " والمتردد من صفة حمدة حمده سبحانه في معظم الوارد منه في الكتاب العزيز ما افتتحت به أم القرآن من قوله تعالى "الحمد لله " وما ورد في سورة الجاثية من قوله: "فلله الحمد " [آية 36] ثم وقع إتباع المفتتح من السور بحمده جل وتعالى بأوصاف مختلفات مما انفرد به سبحانه فالسائل أن يسأل في ذلك أربعة سؤالات:
السؤال الأول: ما الفرق بين الوارد في أم القرآن وما جرى مجراها مما افتتح بقوله "الحمد لله "وبين الواقع في سورة الجاثية من قوله "فلله الحمد "؟
السؤال الثاني: ما وجه افتتاح السور الخمس وهى: سورة أم القرآن والأنعام والكهف وسبأ وفاطر بقوله "الحمد لله " واختصاصها بذلك مع تساوي السور كلها في استقلالها بأنفسها وامتياز بعضها من بعض؟
السؤال الثالث: ما وجه تخصيص كل آية منها بما ورد من أوصافه تعالى المتبع بها حمده؟ ففى أم القرآن: "الحمد لله رب العالمين " وفي الأنعام: "الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور " وفي الكهف: "الذي أنزل على عبده الكتاب " وفي سبأ: "الذي له ما في السماوات وما في الأرض " وفي فاطر: "فاطر السماوات والأرض ".
فهل هذا التخصيص لمناسبة تقتضيه حتى لا يلائم سورة منها من ذلك في غيرها؟
(1/11)
 
 
السؤال الرابع: ما وجه كون الوارد من حمده في الخواتم والانتهاءات لم يطرد فيه ما أطرد في افتتاح هذه السور من اختلاف التوابع بل جرى على أسلوب واحد فقال سبحانه: "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين " وقال تعالى: "وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين " وقال تعالى: "وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين " وقال تعالى: "وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين " فورد هذا مكتفي فيه بوصفه سبحانه بأنه رب العالمين
والجواب عن السؤال الأول: بعد تمهيده وهو أن نقول أن قوله تعالى: "الحمد لله " مبتدأ وخبر وكذلك قوله: "فلله الحمد " وتأخر في هذه الثانية المبتدأ، والحاصل في الموضعين معنى واحد وهو حمده سبحانه بما هو أصله.
ومعلوم أن التقديم والتأخير فيما بين المبتدأ والخبر إذا لم يقع عارض مما يعرض في التركيب، ككون المبتدأ مما يلزم صدر الكلام، أو كون الخبر كذلك، فيلزم تقديم ما له الصدرية إلى غير ذلك من العوارض وهى كثيرة، فما لم يعرض عارض يوجب لأحدهما التقديم أو التأخير فتقديم أيهما كان وتأخير الآخر عربي فصيح، إلا أن مرتبة المبتدأ التقديم ليبنى عليه الخبر، فتقديمه عند عدم العوارض اللفظية أولى كما فى القرآن.
وإذا وضح هذا فللسائل أن يقول: ما الموجب لتقديم الخبر على المبتدإ فى سورة الجاثية؟ وهل كان يسوغ عكس الواقع؟
والجواب: أن العوارض الموجبة لتقديم ما مرتبته التأخير وتأخير ما مرتبته التقديم ليست منحصرة فى جهة التركيب اللفظي، بل قد يعرض من جهة المعنى.
وتقدير الكلام ما يقتضى ذلك ويوجبه.
وإذا تقرر هذا فنقول: إن قوله تعالى: "فلله الحمد " ورد على تقدير الجواب بعد إرغام المكذب وقهره ووقوع الأمر مطابقاً لأخبار الرسل عليه السلام، وظهور ما كذب الجاحد به، فعند وضوح الأمر كأن قد قيل لمن الحمد ومن أهله؟ فكان الجواب على ذلك فقيل: "فلله الحمد ".
نظير هذا قوله تعالى: "لمن الملك "؟ ثم قال: "لله الواحد القهار "، ألا ترى تلاقى الآيتين فيما تقدمهما فالمتقدم فى سورة غافر قوله تعالى: "لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ ".
فعند ظهور الأمر للعيان ومشاهدة ما قد كان خبراً قيل لهم: "لمن الملك اليوم ".
وتقد فى سورة الجاثية قوله تعالى: "وبدا لهم سيئآت ما عملوا " الآيات.
وإنما ذلك يوم التلاقي والعرض عليه سبحانه فعند المعاينة وزوال الارتياب والشكوك كأن قد قيل لهم: لمن الحمد ومن أهله؟
(1/12)
 
 
فورد الجواب بقوله: "فلله الحمد ".
فالآية
كالآية، والمقدر المدلول عليه كالمنطوق، والإيجاز مستدع لذلك.
ولما تقدم ذكر الملك فى آية غافر منطوقاً به لم يحتج إلى إعادة ذكره، فقيل: "لله الواحد القهار " ولم يقل: فلله الملك لتقدم ذكره.
ولما كان الحمد فى سورة الجاثية لم يتقدم ذكره، وإنما هو مقدر يدل عليه السابق لم يكن بد من الافصاح به فى الجواب فقيل: فلله الحمد ولأجل ما قصد من تقريع المكذبين وتوبيخهم عند انقطاع الدعاوى ووضوح الأمر أتبع حمده تعالى بقوله: "رب السماوات ورب الأرض رب العالمين ".
فذكر ربوبته تعالى لما أبداه وأوجده من أعظم مخلوقاته وأبدع مصنوعاته، قال تعالى: "لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس " وأعاد ذكر ربوبيته مع كل من هذه المخلوقات العظام، المنصوبة للاستدلال بها والاعتبار بعظيم خلقها وما فيها، فقال: "رب السماوات ورب الأرض " ثم أتبع بما يعم ربوبيته لذلك كله فقال: "رب العالمين ".
والعالم ما سواه سبحانه من جميع مخلوقاته ثم قال: "وله الكبرياء في السماوات والأرض " أى الانفراد بالعظمة والجلال والخلق والأمر، وهو العزيز الذى ذل كل مخلوق لعزته وقهره، الحكيم فى أفعاله الذى جلت حكمته عن أن تدرك الأفهام غاياتها أو يحيط ذوو التفكر بنهاياتها فناسب ما ورد هنا من الإطالة بتكرر - ما ذكر - مقصود الآية، وذلك هو الجارى متى قصد تعنيف المشركين ومن عبد مع الله غيره وهو وارد فى غير ما موضع من كتاب الله تعالى وتكرير لفظ "رب " فى قوله: "ورب الأرض ".
مما يشهد لهذا الغرض من قصد تقريع الجاحدين.
ولما كان الوارد فى أم القرآن خطاباً للمؤونين وتعليما للمستجيبين مجردا عما قصد فى آية الجاثية من توبيخ المكذبين ورد على ما قدم من الاكتفاء.
وكل على ما يجب ويناسب.
والجواب عن السؤال الثانى: إن وجه تخصيص السور الخمس بما افتتحت به من حمده تعالى ما ذكر آنفا.
أما أم القرآن فهى أول السور ومطلع القرآن العظيم بالترتيب الثابت فافتتاحها بحمده تعالى بين.
أما سورة الأنعام فمشيرة إلى إبطال مذهب الثنويه ومن قال بمثل قولهم ممن جعل الأفعال بين فاعلين إلى ما يرجع إلى هذا وقد بسطت هذا فى كتاب البرهان.
وإذا كانت هذه السورة مشيرة إلى ما ذكر وانفردت بذلك فافتتاحها بحمده تعالى بين
وفى الجواب عن السؤال الثانى لهذا زيادة بيان.
وأما سورة الكهف فكذلك لبنائها على قصة أصحاب الكهف وذكر ذى القرنين حسبما ألفت يهود لسائلهم من كفار قريش وذلك مما لم يتكرر فى القرآن فافتتحت بحمده تعالى وذلك
(1/13)
 
 
بين
وأما سورة سبأ فإن قصة سبأ لم يرد فيها أيضاً فى غير هذه السورة إلا الإيماء الوارد فى قوله فى سورة النمل "وجئتك من سبإ بنبإ يقين " فلما تضمنت سورة سبأ من هذا ما تضمنت ومن قصص داود وسليمان عليهما السلام وما منحهما الله سبحانه وتعالى من تسخير الجبال والطير والجن وإلانة الحديد ولم يجتمع مثل هذا التعريف فى سواها افتتحها سبحانه بحمده وانفراده بملك السماوات والأرض وما فيهما وأنه أهل الحمد فى الدنيا والآخرة
وأما سورة فاطر ففيهما التعريف بخلق الملائكة عليهم السلام وجعلهم رسلا أولى أجنحة إلى خلق السماوات والأرض وامساكهما ان تزولا وانفراده بذلك ولم يقع هذا التعريف فى غيرها من سور القرآن فناسب هذه المقاصد المفردة التى لم ترد فى غير هذه السور ما افتتحت به ولا يلزم على هذا اطراد ذلك فى كل سورة انفردت بحكم أو تعريف ليس فى غيرها بل جواز ذلك منسحب على الجميع واختصاص هذه السور بذلك واضح لانفرادها بما ذكرناه
والجواب عن السؤال الثالث: أن أم القرآن لما كانت أول سورة ومطلع آياته وهو المبين لكل شئ والمعرف بوحدانيته سبحانه وانفراده بالخلق والاختراع وملك الدارين فناسب ذلك من أوصافه العلية ما يشير إلى ذلك كله من أنه رب العالمين وأنه الرحمن الرحيم وأنه ملك يوم الدين حتى تنقطع الدعاوى وتظهر الحقائق ويبرز ما كان خبرا إلى العيان وهذا واضح
وأما مناسبة الوصف الوارد فى سورة الأنعام فمن حيث ما وقع فيها من الإشارة إلى من عبد الأنوار وجعل الخير والشر من الظلمة فافتتحها تعالى بوصفه بأنه خالق السماوات والأرض وهى الأجرام التى عنها الظلمات وفيها الأجرام النيرات وذكر تعالى أنه خالق الأنوار وأعاد سبحانه ذكر ما فيه الدلالة البينة على بطلان مذهب من عبد النيرات أو شيئا منها فى قوله تعالى: "وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض " الآيات فقال: "فلما جن عليه الليل رأى كوكبا " ثم قال عليه السلام على جهة الفرض لإقامة الحجة على قومه: "هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الآفلين " ثم قال ذلك فى الشمس والقمر مستدلا بتغيرها وتقلبها فى الطلوع والغروب على أنها حادثة مربوبة مسخرة طائعة لموجدها المنزه عن سمات التغير والحدوث فقال عليه السلام عند ذلك لقومه: "إنى برئ مما تشركون " فأخبر عن حاله قبل هذا الاعتبار وبعده.
قال تعالى: "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (آل عمران: 67) " وفى طي قوله: "وما كان من
(1/14)
 
 
المشركين " تنزيه عن عبادة النيرات وغيرها مما سواه تعالى وبان من هذا كله ما افتتحت به السورة من انفراده تعالى بخلق السماوات والأرض والظلمات والنور فوضح التناسب والتلازم.
وأما سورة الكهف فإنها لما انطوت على التعريف بقصة أصحاب الكهف ولقاء موسى عليه السلام الخضر وما كان من أمرهما وذكر الرجل الطواف وبلوغه مطلع الشمس ومغربها وبنائه سد يأجوج ومأجوج وكل هذا إخبار بما لا مجال للعقل فى إدراكه ولا تعرف حقبقته إلا بالوحى والإنباء الصدق الذى لا عوج فيه ولا أمت ولا
زيغ ناسب ذلك ذكر افتتاح السورة المعرفة بذلك الوحى المقكوع به قوله: "الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا " والتناسب فى هذا أوضح من أن يتوقف فيه.
وأما سورة سبأ فلما تضمنت ما منح سبحانه داود وسليمان من تسخير الجبال والطير وإلانة الحديد ناسب ذلك ما به افتتحت السورة من أن الكل ملكه وخلقه فهو المسخر لها والمتصرف فى الكل بما يشاء فقال تعالى: "الحمد لله الذى له ما فى السماوات وما فى الأرض " وهذا واضح التناسب.
وأما سورة فاطر فمناسبة صفه تعالى باختراع السماوات والأرض لما ذكره من خلق عامري السماوات من الملائكة وجعلهم رسلاً أولى أجنحة وإمساكه السماوات والأرض أن تزولا أبين شئ وأوضحه وليس شئ من هذه الأوصاف العلية بمناسب لغير موضعه كمناسبة موضعه الوارد فيه.
فقد بان مجئ كل واحد منهما فى موضعه ملائماً لما اتصل به، والله أعلم.
والجواب عن السؤال الرابع: أن الخواتم والانتهاءات فى السور والآيات لما كان كان غير مقصود بها ما قصد فى المواضع المتقدمة وانما هى مشروعية للمؤمنين عند خواتم أعمالهم وانقضاء أمورهم وقع الاكتفاء فيها بقوله: "الحمد لله رب العالمين "، إذ فى طي ذلك اعتراف للمؤمن وعلمه بانفراد موجده جل وتعالى بالخلق والأمر وملك الدارين، وأهليته سبحانه وتعالى لكل ما تضمنت الأوصاف كلها فى السور المذكورة، وليس موضع توبيخ ولا تقريع فناسب الاكتفاء بما ذكر، والله أعلم.
الآية الثانية
قوله تعالى: "الحمد لله رب العالمين*الرحمن الرحيم*مالك يوم الدين " اتفق القراء السبعة على الاتباع فى هذه الصفات العلية وإجرائها على ما قبلها.
وقال تعالى فى سورة البقرة: "ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا
(1/15)
 
 
والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس " وفي سورة النساء: "لكن الراسخون فى العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل إليك من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ".
اتفق القراء السبعة فى هذه الصفات الأربع وهى قوله فى آية البقرة: والموفون والصابرين، وفى آية النساء: والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة.
على القطع كما اتفقوا فى أم القرآن فى الأربع صفات الواردة فيها على الاتباع، وقد اتفقت ثمانيتها فى أنها صفات ثناء ومدح وتعظيم ثم اختلفوا فيما ذكرنا من الاتباع والقطع ولم يجروها مجرى واحداً، وقد ترجم سيبويه رحمه الله على ما ينصب على التعظيم والمدح، وقال فى الترجمة بعد إشارتها إلى أن الوجه الانتصاب على ما ذكر من القطع بمقتضى مفهوم الترجمة فاتبع بأن قال: "فإن شئت جعلته صفة مجرى على الأول، وإن شئت قطعته فابتدأته " واستشهد على القطع بما ورد من قول العرب: " "الحمد لله الحميد هو والملك لله أهل الملك " فنصب الحميد ولهذا اتبع بالضمير المؤكد المستتر فى الصفة ليظهر النصب فى الصفتين.
ثم اتبع بجواز الرفع والاتباع وأشار إلى أن القطع هو المختار فى الباب إذا كان الموصوف معلوما والصفة المدح والثناء وهذا حاصل قوله وقول الجمهور وعليه ورد ما أورده من الآيات وما ذكر عن العرب من الإثبات.
ثم إنه أشار إلى ضعف القطع فى قوله فى أثناء كلامه "وسمعت بعض العرب يقول الحمد لله رب العالمين - يعنى بالنصب - فسألت عنها يونس فزعم أنها
عربية.
وعادته رحمه الله التعبير بهذه العبارة عما هو دون غيره فى القوة، من ذلك قوله فى أول أبواب الاشتغال عقب بيت ذي الرمة:
إذا ابن أبي موسى بلال بلغته فقام بفأس بين وصليك جازر
فقال عقبه: "والنصب عربى كثير والرفع أجود " ولما استشهد على اختياره النصب فيما تقدم قبله جملة فعلية ببيتي الربيع بن ضبع الفزاري:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا أرد رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به وحدى وأخشى الرياح والمطرا
بنصب الذئب وهو المختار أتبع بأن أن قال: "وقد يبتدأ فيحمل على ما مثل ما يحمل
(1/16)
 
 
عليه وليس قبله منصوب وهو عربي وذلك قولك: لقيت زيداً وعمرو كلمته، ولم يخالف أحد فى أن النصب فى هذا أفصح.
وقال فى مسألة: أنت عبد الله ضربته واختياره الرفع فى عبد الله لما جعل الضمير المنفصل قبله مبتدأ وهو أنت فضعف مقوي النصب فى عبد الله وهو الاستفهام للفصل بالمبتدأ، فقال بعد اختياره الرفع لما ذكر: إلا أنك إن شئت نصبته كما نصبت زيداً ضربته.
ثم قال عربي جيد بعد ما قدم أن الرفع عنده أولى.
وقال فى مسألة: رأيت متاعك بعضه فوق بعض ".
وجوز الرفع والنصب على معنيين فقال عقب ذلك والرفع فى هذا أعرف.
ثم قال بعد: وإن نصبت فهو عربي جيد وقال بعد إنشاده:
إن على الله أن تباعيا تؤخذ كرهاً أو تجئ طائعاً
قال: فذا عربي حسن والأول أعرف وأكثر.
فقد تبين من متعارف إطلاقه ما يريد يهذه العبارة وقد ترددت فى كتابه كثيرا فحكايته هذه القراءة عن بعض العرب بعد إيثار القطع عن جميعهم إذ لا يقتضى إطلاق كلامه غير ذلك وعليه فهمه الناس عنه وجرى عليه كلام جميعهم اعتماداً على تلقيه من العرب ثم حكى ما يعارض ما تمهد من ذلك بما ذكر من هذه القراءة.
فهذا مع سؤاله يونس عن هذه القراءة وجواب يونس بأنها عربية، وقد بينا مراده بهذه العبارة وقول سيبويه فى أخباره عن قول يونس "فزعم " حاصل من ذلك كله ضعف القطع فى هذه الصفة مع أنها مدح وتعظيم.
فالوجه على ما تأصل فيما قدمنا قطعها بتضعيف هذه القراءة معارض.
لما اتفقوا عليه فهو مما أشكل ولم أر من تعرض له من نحوي ولا مفسر إلا بما لا يصح.
وقد أطنب أبو الفضل ابن الخطيب [الرازى]- رحمه الله - فى التفسير المنسوب إليه، فيما أورد فى تفسير الفاتحة وما تعرض لهذا بشئ وكذلك غيره من النحويين والمفسرين إلا من قال إن القطع فى هذه القراءة هو الوجه وإياه أراد سيبويه وإن جواب يونس بقوله: "عربية " إنما يريد إنها فصيحة كالمثل المذكور معها وهذا خطأ بين ومن أمعن النظر فى الكلام يراه من هذا.
وقد زعم بعض من عاصرناه من النحويين أن سيبويه إنما قصد بما حكاه عن بعض العرب من هذه القراءة فسأل يونس عنها الرد على من قال: إن القطع لا يكون إلا بعد اتباع.
فهذا أيضاً فاسد إذ لم يتقدم من كلام سيبويه رحمه الله ما يبني عليه هذا لا فى الترجمة ولا في المثل ولا فيما أنشده من قول الأخطل:
[نفسي فداء أمير المؤمنين إذا أبدى التواجد يوم باسل ذكر
الخائض الغمر والميمون طائره خليفة الله يستسقى به المطر]
ومهلهل:
[وللقد خبطن بيوت يشكر خبطه أخوالنا وهم بنو الأعمام]
ولا تعرض له إلا بعد ما ذكر بعض ما سمعه من قراءة بعضهم: "الحمد لله رب العالمين " بالنصب وسؤال يونس عنها وبناء الباب على ما تقدم وتعقيبه بما به اتبع الترجمة وكل ذلك جار على ما فهمه
(1/17)
 
 
الجماعة من اختيار القطع وإن لم يتقدم اتباع.
ثم إن القطع قبل الاتباع قد تحصل مما أورده من المثالين المسموعين والآيات وما أنشده قبل الاتباع وبعده من غير تفصيل فى الحالين وذلك كله يقتضي استواء الحكم ما لم يكن الموصوف يفتقر إلى زيادة بيان، فإنه قد يحسن إذ ذاك بيان، ولما لم يقع فيما صدر به سيبويه الباب إلا ما هو معلوم غير محتاج إلى زيادة بيان وإذا ثبت هذا ولم تقع إشارة إلى ما زعم هذا القائل من هذا التفصيل فلا يتوقف القطع على الشرطين المذكورين: من كون الصفة للثناء والتعظيم، وكون الموصوف معلوماً.
وهل يطرد هذا الحكم فى كل ما وجد فيه أم يتفصل؟ هذا حكم آخر وسيستوفى بعد إن شاء الله.
أما تقدم الاتباع فليس بشرط وإنما تعلق القائل بذلك مما ذكر أبو طاهر فى باب شاذ مما يشير إلى أنه قول قائل من النحويين، إلا أنه لم يتعرض لكلام سيبويه وإنما الخطأ فى نسبة ذلك لسيبويه مع فساد هذا القول فى نفسه.
فإذا تقرر ما أصلناه من أن الوجه فيما الصفة فيه مدح أو ذم والموصوف معلوم قطع الصفة وأنه الأفصح، فللسائل أن يسأل عن وجه ضعف النصب فى القراءة المذكورة مع حصول شرط القطع؟ ولم اتفق القراء على خلاف ما تمهد أنه الوجه؟
والجواب عن ذلك - والله أعلم - أن اختيار القطع بعد حصول شرطية مطرد ما لم تكن الصفة خاصة بما جرت عليه لا تليق بغيره ولا يتصف بها سواه ولا شك أن هذا الضرب قليل جداً فلذلك لم يفصح سيبويه رحمه الله باشتراطه واكتفى بالوارد مما ذكره عن بعض العرب فإذا كانت الصفة مما لا يشارك فيها الموصوف غيره وكانت مختصة بمن جرت عليه فالوجه فيها الاتباع ويطرد ذلك فى صفات الله سبحانه مما لا يتصف به غيره، وأوضح ذلك هذه الصفة العلية ألا ترى أن ربوبيته تعالى للعالم بأسره لا تنبغى لغيره ولا يتصف بها سواه فلما كانت على ما ذكرته لم يكن فيها القطع والمراد السماع على هذا كاف فى الدلالة فمنه الآية المذكورة ومنه قوله تعالى: "حم*تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم*غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول ".
لما كان وصفه تعالى بغافر الذنب وما بعده لا يليق بغيره تعالى لم يكن إلا الاتباع، والاتباع لا يكون بعد قطع فلزم الاتباع فى الكل، ومن هذا قول عمرو بن الجموح:
الحمد لله العلي ذى المنن الواهب الرزاق ديان الدين
وهذا مع تكرار الصفات وذلك من مسوغات القطع على صفة ما، وعند بعضهم من غير تقييد بصفة، وأما الاتباع فيما لم يقع فيه إلا صفتان من صفاته تعالى فأكثر من أن يحصى، فهذا شاهد السماع وهو كاف وله وجه من القياس وهو شبيه بالوارد فى سورة
(1/18)
 
 
النجم فى قوله تعالى: "وأنه هو أضحك وأبكى*وأنه هو أمات وأحيا ".
ثم قال تعالى بعد: "وأنه هو أغنى وأقنى*وأنه هو رب الشعرى ".
فورد فى هذه الجمل الاربع الفصل بالضمير المرفوع بين اسم ان وخبرها ليحرز بمفهومه نفى الاتصاف عن غيره تعالى بهذه الأخبار وكان الكلام فى قوة أن لو قيل: وأنه هو لا غيره وذلك أنه لما كان يمكن المباهت الجاحد ادعاء هذه الأوصاف لنفسه مباهتاً ومغالطاً كقول طاغية إبراهيم عليه السلام جواباً لإبراهيم عليه السلام حين قال: "ربي الذي يحيي ويميت " فقال الطاغية مباهتاً ومخيلاً لأمثاله: أنا أحيي وأميت فأوهم بفعلة يطلق عليها هذه العبارة مجازاً بقتله من لم يستوجب القتل وتسريحه من وجب عليه القتل وهذا جار فى هذه الجمل المفصول فيها بالضمير فأتى به لما ذكر ولم يرد هذا الضمير فى قوله تعالى: "وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى "لأن ذلك مما لا يتعاطاه أحد لا حقيقة ولا مجازا وبالاعتراف بذلك أخبر تعالى عن عتاة الكفار العرب وغيرهم حين قال تعالى: "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " وكذلك قوله تعالى: "وأنه أهلك عاداً الأولى " لكون اهلاك القرون المكذبة مما لا يمكن أن ينسب لغير الله تعالى فلم يعرض فى هذا مفهوم يحتاج التحرز منه لم يرد هنا فصل بضمير كما ورد فيما تقدم.
وإذا تأملت القطع فى صفات الثناء والمدح وجدت ما مهدناه جارياً على هذا، ألا ترى أنك إذا قلت: مررت بزيد العلم، فاتبعت الصفة لموصوفها مع كون الصفة صالحة لمن أجريت عليه ولغيره لم يكن ذلك ليدفع غير زيد عن مشاركته فى صفته التي أجريتها عليه، فإذا قطعت قلت: ممرت بزيد العلم هو، برفع الصفة على تقدير مبتدأ أي هو العلم أحرز ذلك الضمير المبتدأ بمفهومه أن غير زيد ليس بعالم أو أنه ليس كزيد وكأنك قلت هو العلم لا غيره كما فى الآي المتقدمه، وكذا القطع فى النصب من غير فرق.
فإذا كانت الصفة لم تخص من جرت عليه لم يكن هناك مفهوم محرز منه فلم يكن القطع ليحرز هنا فائدة فلم يحتاج إليه وعليه ورد السماع كما تقدم فقد تعاضد السماع والقياس كما بينا ووجب الاتباع فى قوله تعالى: "الحمد لله رب العالمين " وهو مما لم يتعرض له أحد بما يخاص مع لزوم الجواب عنه.
الآية الثالثة: من أم القرآن قوله تعالى: "الرحمن الرحيم " فيها سؤال واحد وهو أن يقول القائل: ما وجه الفصل بهاتين الصفتين العليتين من قوله: "الرحمن الرحيم " بين الصفتين المقتضيتين ملك الدارين بما فيها وهما "رب العالمين "
(1/19)
 
 
"ملك يوم الدين " من حيث أن الحمد لله رب العالمين يتضمن أن لا رب سواه فهو ملك الكل فقد كان المطابق لهذا إيصال ملك يوم الدين به حتى يقع وصفه بملك الدارين جميعاً وبالانفراد فيهما بالخلق والأمر والحكم كمت هو وكما ورد فى قوله تعالى: "له الحمد فى الأولى والآخرة ".
فالجارى مع هذا أن لو قيل: الحمد لله رب العالمين ملك يوم الدين والفصل بالرحمن الرحيم مما يكسر هذا الغرض فما وجه ذلك؟
والجواب عن ذلك: أنه تعالى خصص هذه الأمة بخصائص الاعتناء والتكريم، قال تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس ".
وجعل نبينا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم والمصطفى من كافة الخلق والتابع يشرف بشرف المتبوع وقد خاطبه تعالى بخطاب الرحمة والتلطف والاعتناء فقال تعالى: "عفا الله عنك لم أذنت لهم " فقدم العفو بين يدي ما صورته العتب لئلا ينصدع قلبه صلى الله عليه وسلم فكذلك تلطف لعباده من أمة هذا النبي الكريم وأمنهم من خوفهم وإشفاقهم من عرض أعمالهم وحسابهم فقال: "الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم *ملك يوم الدين ".
لما كان تعالى قد وصف هذا اليوم بأنه يوم تشخص فيه الأبصار "وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى "، قدم هنا تعريفهم بأنه "الرحمن الرحيم " وأنه ملك ذلك اليوم فأنس هذه الأمة كما أنس نبيهم وذلك أبين شئ.
الآية الرابعة:
قوله تعالى: "ملك يوم الدين " وفى قراءة عاصم والكسائي "مالك يوم الدين " وفى سورة آل عمران: "قل اللهم مالك الملك " ولم يقرأ بغيره، وفى سورة الناس "ملك الناس " ولم يقرأ أيضاً بغيره.
ومدار الآيات الثلاث على تعريف العباد بأنه سبحانه الملك المالك ثم ورد فيها من الاختلاف ما ذكر.
فللسائل أن يسأل فيقول: ما وجه هذا الاختلاف؟
وهل اختصاص آية أم القرآن بالقراءتين لموجب يخصها مع اتحاد المقصود فى الآيات الثلاث من أنه سبحانه المنفرد بملك الكل وإيجادهم وأنه الملك المالك؟ أم ذلك لاختلاف المقاصد؟
والجواب: إن الآيات الثلاث حاصل منها ما ذكر أنه مقصود من أنه سبحانه ملك مالك
أما آية الفاتحة فبإفصاح القراءتين، وأما آية آل عمران فلفظ الملك المضاف إليه
(1/20)
 
 
مالك فى قوله تعالى: "مالك الملك " يفهم أنه الملك لأن الملك من له الملك فأفهم لفظ الملك المضاف إليه مالك أنه ملك فحصل الاكتفاء بهذا وأفهمت الآية الأمرين.
وأما آية الناس فقوله تعالى: "برب الناس " مغن عن الإفصاح بمالك الناس لأن الرب المالك فكأن قد قيل: قل أعوذ بمالك الناس ملك الناس فاقتضى الإيجاز الاتصال ووحدة الكلام من حيث المعنى
أما آية الفاتحة فقوله فيها: "ملك يوم الدين " آية انفردت عما قبلها بالتعريف بما لم تعرف به الآية التى قبلها من التنصيص على أنه ملك يوم الحساب فمصرف الكلامين فى الآيتين إلى مقصودين وذلك أن قوله تعالى: "الحمد لله رب العالمين " كلام مصرفه بحسب التفصيل الوارد هنا إلى حال الدنيا مع انسحاب معناه على الدارين ولكن ورد الكلام مفصلا فقال: "الحمد لله رب العالمين " فمصرف هذا بسبقية المفهوم وتقييد ما بعده وما يقتضيه التناظر والتقابل إلى حال الدنيا ثم قال: "ملك يوم الدين " فمصرف هذا إلى الآخرة فهذا فى التفصيل كقوله تعالى: "له الحمد فى الأولى والآخرة " فلم يكن ما مصرفه إلى حال الدنيا ليقع به الاستغناء عما مصرفه إلى حال الآخرة فلم يكن بد من الإفصاح بالصفتين فورد ذلك فى القراءتين بخلاف ما فى آية آل عمران وآية الناس فإن الآيتين من حيث الاتصال فى المعنى فى قوة آية واحده والكلام فيهما مطلق غير مقيد فيتناول بحسب إطلاقه الحكم فى الدارين مع أنه كلام واحد.
فإن قلت: إذا كان قوله "ملك يوم الدين " بحسب المصرف كما تقدم آية انفردت وأين مقصدها الآية قبلها على ما تمهد فقد صارت آيتا أم القرآن بحسب مصرف كل آية منهما كآية آل عمران وآية الناس فيحتاج فى كل واحدة منهما على ما تمهد إلى ما يفهم أنه سبحانه ملك مالك وقد حصل ذلك من الآيات الثلاث فما المفهم لذلك من قوله تعالى: "رب العالمين "
فالجواب أنه مفهوم من عموم قوله تعالى: "رب العالمين " إذ لم يقع مثل هذا العموم والاستيفاء من هذه الآى فى غير هذه فإن لفظ العالمين يشمل كل مخلوق وإذا كان رب الكل ومالكهم فإن جميعهم تحت قهره وملكه فلا ملك لغيره سبحانه.
فقد حصل من كل واحدة من هذه الآى الأربع أنه سبحانه الملك المالك وتبين أنه لا يلائم الآية من أم القرآن إلا ما ورد فيها من القرآتين وان الآيات الاخر لو قرئت بالوجهين لكان تكرارا فورد كل على ما يجب ولا يناسب خلافه.
والله أعلم.
(1/21)
 
 
سورة البقرة
غ - قوله سبحانه: "الم ".
أقول وأسأل الله توفيقه:
إن القول الوارد عنهم فى هذه الحروف المقطعة الواردة فى أوائل السور على كثرته وانتشاره منحصر فى طرفين أحدهما: القول بأنها مما ينبغى أن لايتكلم فيه ويؤمن بها كما جاءت من غير تأويل
والثانى: القول بتأويلها على مقتضى اللسان وهذا مسلك الجمهور، وهذا الذى نعتقد أنه الحق لأن العرب تحديت بالقرآن وطلبت بمعارضته أو التسليم والانقياد وبمعرفتهم أنه بلسانهم ومعروف تخاطبهم وعجزهم مع ذلك عنه قامت الحجة عليهم وعلى كافة الخلق، وإذا سلم هذا فكيف يرد فى شئ منه خطابهم بما لا طريق لهم إلى فهمه، فلو كان هذا لتعلقوا به ووجدوا السبيل إلى التعلل فى العجز عنه وهذا مبسوط فى كتب الناس وغير خاف وقد انتشرت تأويلات المفسرين وتكاثرت والملائم بما نحن بسبيله ما أذكره مما لم أر من تعرض له وهو اختصاص كل سورة من المفتتحة بهذه الحروف بما افتتحت به منها فهذا ما يسأل عنه ولم أر من تعرض وهو راجح إلى ما قصدته هنا وما سوى هذا مما يتعلق بالسؤال على الحروف كورودها على حرف وعلى حرفين إلى خمسة وتخصيص هذه الحروف الأربعة عشرة وكثرة الوارد منها على ثلاثة إلى غير هذا فليس من مقصدنا فى هذا الكتاب أما الأول فمن شرطنا.
والجواب عنه: أن وجه اختصاص كل سورة منها بما به اختصت من هذه الحروف حتى لم يكن ليرد "الم " فى موضع "الر " ولا "حم " فى موضع "طس " ولا "ن " فى موضع "ق " إلى سائرها، أن هذه الحروف لافتتاح السور بها ووقوعها مطالع لها كأنها أسماء لها بل هى جارية مجرى الأسماء من غير فرق وهذا إذا لم نقل بقول من جعلها أسماء للسور والعرب تراعى فى الكثير من المسميات أخذ أسمائها من نادر أو مستغرب يكون فى المسمى من خلق أو صفة تخصه أو تكون فيه أحكم أو أكثر أو أسبق لإدراك الرائى للمسمى، ويسمون الجملة من الكلام والقصيدة الطويلة من الشعر بما هو أشهر فيها أو بمطلعها إلى أشباه هذا وعلى ذلك جرت أسماء سور الكتاب العزيز كتسمية سورة البقرة بهذا الاسم لغريب قصة البقرة المذكورة فيها وعجيب الحكمة فى أمرها وتسمية سورة الأعراف بالأعراف لما لم يرد ذكر الأعراف فى غيرها وتسمية سورة النساء بهذا الاسم
(1/22)
 
 
لما تردد فيها وكثر من أحكام النساء وتسمية الأنعام لما ورد فيها من تفصيل أحوالها وان كان قد ورد لفظ الأنعام فى غيرها إلا أن التفصيل الوارد فى قوله تعالى: "ومن الأنعام حمولة وفرشا " إلى قوله "أم كنتم شهداء " لم يرد فى غير هذه السورة كما ورد ذكر النساء فى سور إلا ما تكرر وبسط من أحكامهن لم يرد فى غير سورة النساء وكذا سورة المائدة لم يرد ذكر المائدة فى غيرها فسميت بما يخصها.
فإن قلت: قد ورد فى سورة هود ذكر نوح وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام ولم تختص باسم هود وحده ـ عليه السلام ـ فما وجه تسميتها بسورة هود على ما أصلت وقصة نوح فيها أطول وأوعب؟
قلت: تكررت هذه القصص فى سورة الأعراف وسورة هود وسورة الشعراء بأوعب مما وردت فى غيرها ولم يتكرر فى واحدة من هذه السور الثلاث اسم هود عليه السلام كتكرره فى هذه السورة فإنه تكرر فيها عند ذكر قصته فى أربع مواضع والتكرر من أعمد الأسباب التى ذكرناها.
فإن قيل: فقد تكرر اسم نوح فى هذه السورة فى ستة مواضع وذلك أكثر من تكرر اسم هود
قلت: لما أفردت لذكر نوح وقصته مع قومه سورة برأسها فلم يقع فيها غير ذلك كانت أولى بأن تسمى باسمه ـ عليه السلام ـ من سورة تضمنت قصته وقصة غيره من الأنبياء عليهم السلام وإن تكرر اسمه فيها أكثر من ذلك.
أما هود ـ عليه السلام ـ فلم يفرد لذكره سورة ولا تكرر اسمه مرتين فما فوقها فى سورة غير سورة هود فكانت أولى السور بأن تسمى باسمه ـ عليه السلام ـ.
وتسمية سائر سور القرآن جار فيها من رعى التسمية ما يجاريها فأقول: - وأسأل الله عصمته وسلامته -
إن هذه السور إنما وضع فى أول كل سورة منها ما كثر ترداده فيما تركب من كلمها ويوضح لك ما ذكرت أنك إذا نظّرت سورة منها بما يماثلها فى عدد كلمها وحروفها وجدت الحروف المفتتح بها تلك السور إفرادا وتركيبا أكثر عددا فى كلمها منها فى نظيرتها ومماثلتها فى عدد كلمها وحروفها فإن لم تجد سورة منها ما يماثلها فى عدد كلمها ففى اطراد ذلك فى المتماثلات مما يوجد له النظير ما يشعر بأن هذه لو وجد مماثلها لجرى على ما ذكرت لك وقد اطرد هذا فى أكثرها فحق لكل سورة منها أن لا يناسبها غير الوارد فيها فلو وقع فى موضع "ق " من سورة "ق " "ن " من سورة "ن والقلم " وموضع ن ق لم يمكن لعدم المناسبة المتأصل رعيها فى كتاب الله تعالى فإذا أخذت كل افتتاح منها معتبرا بما قدمته لك لم تجد: "كهيعص " يصح فى
(1/23)
 
 
موضع "حم عسق " ولا العكس ولا "حم " فى موضع "طس " ولا العكس ولا "المر " فى موضع "الم " ولا عكس ذلك، ولا "المر " فى موضع "المص " بجعل الصاد فى موضع الراء ولا العكس فقد بان وجه اختصاص كل سورة بما به افتتحت، وأنه لا يناسب سورة منها ما افتتح غيرها، والله أعلم بما أراد.
الآية الثانية:
قوله تعالى: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " فوصفه سبحانه بكونه هدى للمتقين وقال تعالى فى وصف التوراة والإنجيل فى أول سورة آل عمران: "وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس " ولم يقل هنا هدى للمتقين فللسائل أن يسأل عن الفرق الموجب اختصاص كل من الموضعين بما ورد فيه وهل كان يحسن ورود الناس فى موضع المتقين وورود المتقين فى موضع الناس؟
والجواب: أن الملائم المناسب ما ورد وأن عكسه غير ملائم ولا مناسب ووجه ذلك أن الكتاب المشار إليه هو الكتاب العزيز على ما فى مآخذ المفسرين من التفصيل وهو مما خصت به هذه الأمة، والتوراة كتاب موسى عليه السلام لبنى إسرائيل والإنجيل كتاب عيسى عليه السلام ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم الفضل المعلوم فأشير بالمتقين إلى حال المخصوصين به، وقيل فى الآخرين: هدى للناس ليشعر بحال أهل الكتابين وفضل أهل الكتاب العزيز عليهم فلا يلائم كل موضع إلا بما ورد فيه.
فإن قيل: إنما صح لهم الوصف بالتقوى بعد اهتدائهم بالكتاب وتصديقهم به والتزامهم ما تضمنه.
قلت: لحظ فى ذلك الغاية فهو من باب التسمية بالمآل وهو باب واسع ومنه: "إنى أرانى أعصر خمرا " وإذا تقرر ما ذكرناه فعكس الوارد غير ملائم، والله أعلم بما أراد.
الآية الثالثة: قوله تعالى: "يخادعون الله والذين ءآمنوا وما يخدعون الا أنفسهم وما يشعرون " وقال بعد: "ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يشعرون ".
ثم قال بعد: "ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون " فنفى عنهم هنا العلم وفى الآيتين قبل الشعور فيسأل عن الفرق الموجب لهذا التخصيص.
والجواب عن ذلك: إن الشعور راجع إلى معنى الإحساس مأخوذ من الشعار وهو ما يلى الجسد ويباشره فيدرك ويحس من غير افتقار إلى فكر أو تدبر، فيشترك فى مثل
(1/24)
 
 
هذا الإدراك العاقل من الحيوان وغير العاقل وأما العلم فلا يكون إلا عن فكر ونظر يحصله، وقد تكون مقدماته حسية أو غير حسية على قول المحققين من أرباب النظر فهو مما يخص العقلاء ولما كان الإيمان وهو التصديق لا يحصل إلا عن نظر وفكر يحصل العلم بالمصدق به، ولا يكون النظر والفكر إلا من عاقل يعرف الصواب من الخطإ وقد نفى المنافقون ذلك عن المؤمنين ونسبوهم إلى السفه وهو خفة الحلم وعدم التثبت فى الأمور وذلك فى قولهم: "أنؤمن كما آمن السفهاء " فرد الله ذلك عليهم بقوله: "ألا إنهم هم السفهاء " ونفى عنهم العلم فنفى عنهم ما نفوه عن غيرهم ووصفوا بما نسبوه لغيرهم ولما كان الفساد فى الأرض وروم مخادعة من لا ينخدع منتحل لا يخفى فساده على أحد ويوصل إلى ذلك بأول إدراك ناسبه أيضاً نفى الشعور ولم يكن ليناسبه نفى العلم فجاء كل على ما يناسب ويلائم.
وتعرض أبو الفضل بن الخطيب لما ورد فى هذه الآية فقال: إنما قال فى آخر هذه الآية "لا يعلمون " وفيما قبلها "لا يشعرون " لوجهين: أن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلى نظرى وأما أن النفاق وما فيه من البغى يقضى إلى الفساد فى الأرض فضرورى جار مجرى المحسوس
والثانى أنه لما ذكر السفه وهو جهل كان ذكر العلم أحسن طباقا له والله أعلم انتهى، وما ذكرته أجرى مع لفظ الآي وأبين.
الآية الرابعة:
قوله تعالى: "وتركهم فى ظلمات لا يبصرون صم بكم عمى فهم لا يرجعون " وورد فيما بعد: "ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لايسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون " ففى الأولى "لا يرجعون " وفى الثانية "لا يعقلون " مع اتحاد الأوصاف الواردة مورد التسبب والعلة فيما نسب لهم.
والجواب عنه: أنه لما مثل حال المنافقين بحال مستوقد النار لطلب الإضاءة وأنه لما أضاءت ما حولها أذهبها الله وطفيت فلم يكن له ما يستضئ به ويرجع إليه فنفى عنهم وجود ما يرجعون إليه من ضياء يدفع حيرتهم وهذا بين.
أما الآية الثانية فإنه مثل حال الكافرين فيها بحال الغنم فى كونها يصاح بها وتنادى فلا تفهم عن راعيها ولا تسمع إلا صوتاً لا تعقل معناه ولا نفهم ما يراد به كذلك الكفار
(1/25)
 
 
فى خطاب الرسل إياهم فلا يجيبونهم ولا يعقلون ما يراد بهم وهذا مناسب وكل على ما يجب.
فإن قيل أما تمثيل الكفار وتشبيههم بالغنم فيما ذكر فقد أفصح ذلك قوله تعالى: "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام " فقد وضح هذا ما ذكرته إلا أن آية البقرة إنما ورد فيها ببادى سياق الكلام وظاهره تشبيه الكفار بالنعاق بالغنم لا بالغنم فكيف يرجع تقدير الآية إلى ما ذكرت؟
فالجواب: أن إيجاز الكلام يقتضى حذف ما يفهمه السياق اختصاراً فالتقدير فى الآية ما مر من الإشارة إلى التشبيه بالطرفين ومنه قول الشاعر:
وإنى لتعرونى لذكراك فترة كما انتفض العصفور بلله القطر
فشبه فى ظاهر الكلام ما يعروه من الفترة بانتفاض العصفور وليس مراده هذا وإنما يريد تشبيه ما يعروه بما يعرو العصفور بعد ما يدركه من بل المطر من الفترة وأنه ينتفض عندها كما ينتفض العصفور فحذف فى كل من الطرفين ما أثبت نظيره.
فالتقدير فى البيت: وإن لتعرونى لذكراك فترة فانتفض كما تعرو العصفور فترة فينتفض فشبه ما يعروه بما يعرو العصفور والانتفاض بالانتفاض وعلى هذا حمل سيبويه الآية قال: "لم يشبهوا بما ينعق وإنما شبهوا بالمنعوق به " وإنما المعنى: مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذين لا يسمع.
قال [سيبويه]: "ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى " وهذا تقدير معنى الآية.
فإن قلت فكيف تقدير الإعراب؟
قلت: الأقرب فيه أن يكون على حذف مضاف أى ومثل داعى الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع وعلى هذا حمله أكثر الناس وان شئت جعلت ما قدرنا عليه المعنى تقديراً للمعنى والإعراب وقد أخذه على ذلك جملة من شيوخنا ومن قبلهم.
الآية الخامسة:
قوله تعالى: "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) " وفى سورة يونس: "أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين "، وفى سورة هود: "أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ".
يسأل عن قوله فى الأولى: "من مثله " وفى الثانية: "مثله " وما الفرق بين الموضعين؟ ولم قيل فى سورة هود بعشر سور؟ ولم وصف بمفتريات؟ ولم قال فى البقرة: "فادعوا شهدائكم " وفى الموضعين الآخريين: "من استطعتم " فهذه أربع سؤالات.
(1/26)
 
 
والجواب عن السؤال الأول: أن المراد إراءتهم ما يرفع شكهم فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكأن قد قيل: إن شككتم فى نبوته وتخصيصنا إياه بذلك فلتأتوا برجل منكم غيره يصدر عنه أو يأتى بسورة واحدة من نمط طا سمعتم من محمد صلى الله عليه وسلم وائتوا بشهداء يشهدون أن غيره قد سمع منه ما طلبتم به فإذا عجزتم عن ذلك مع التماثل فى الخلق والعلم بمقادير الكلام، إذ ليس بغير لسانكم المألوف عندكم فإذا عجزتم عن ذلك ولابد من عجزكم فاتخذوا وقاية تنجيكم من النار التى يخبركم أنها معدة لمن يكذبه فلما كان المراد هنا ما ذكرناه من التعيضية فى قوله تعالى: "من مثله " وأما الوارد فى سورة يونس فإنما أريد به ما يجرى مع قوله تعالى: "أم يقولون افتراه ".
فقيل لهم: إذا كان مفترى كما تزعمون فما المانع لكم عن معارضته فائتوا بسورة مماثلة للقرآن، فالمراد هنا نفى كلام مماثل للقرآن وإقامة الحجة عليهم بعجزهم عن ذلك والمراد فى البقرة نفى شخص يماثله صلى الله عليه وسلم فى أن يسمع منه ما يماثل سورة واحدة من مثل القرآن فى فصاحته وعجائبه، فاختلف المقصدان فى السورتين مع الائتلاف فى تعجيزهم عن هذا وهذا فلما اختلفا لم يكن بد من "من " فى الأولى لإحراز معناها ولم يأت فى يونس لحصول المعنى المقصود فيها دون من.
فإن قلت فإن "من " لا تمنع هذا المعنى المقصود فى يونس قلت: إذا كان المعنى يحصل بثبوتها وسقوطها على السواء فقد بقى رعى الإيجاز وهو مقتض سقوطها، أما المعنى المقصود فى البقرة فلا يحصل الا بمن فلم يكن بد منها هنا، فورد ذلك كله على ما يجب ويناسب.
والجواب عن السؤال الثانى: وهو قوله تعالى فى سورة هود: "بعشر سور " فإنه والله أعلم لما قيل مفتريات فوسع عليهم ناسبة التوسعة فى العدد المطلوب لأن الكلام المفترى أسهل فناسبته التوسعة.
أما الوارد فى السورتين قبل فلم يذكر لهم فيها أن يكون مفترى بل السابق من الآيتين الممثالة مطلقا فذلك أصعب وأشق عليهم مع عجزهم فى كل حال، فوقع الطلب حيث التضييق بسورة واحدة وحيث التوسعة بعشر سور مناسبة جليلة واضحة وقد جاوب بما هذا معناه بعض المفسرين.
والجواب عن الثالث: أنه وصف لهم المطلوب منهم هنا بأن يكون مفترى ليحصل عجزهم بكل جهة فلا يقدرون على وجود شخص مماثل له صلى الله عليه وسلم فى ظاهر الصورة الجنسية سمع منه ما يسمع من محمد صلى الله عليه وسلم ولا يقدرون على مثل سورة واحدة من سور القرآن.
ولما كان ظاهر هاتين الآيتين المماثلة مطلقا قيل بعد ذلك:
(1/27)
 
 
"ائتوا " بكلام مفترى على سهولة ما لا يتقيد بسوى الفصاحة وجاء ذلك من طلبهم بالتدريج، فأولا بالممثالة من غير ذكر: "مفترى " ثم قيل لهم: جيئوا بمفترى فلم يبق لهم عذر إلا العناد.
والجواب عن الرابع: أن قوله تعالى فى سورة البقرة: "وادعوا شهدائكم " المراد به من يشهد لكم أن شخصا مثله صلى الله عليه وسلم قد سمع منه ما طلب منكم إذ لا يكتفى فى مثل هذا بمجرد دعوى المدعى فقيل لهم: ائتوا بسورة من شخصه مثله فى الجنسية وبمن يبتعد لكم بأن قد فعلتم.
وقيل لهم فى سورة يونس فئتوا بسورة مثل القرآن واستعينوا عى ذلك بمن قدرتم فلم يطلبوا هنا بمن يشهد لهم وانما قيل لهم: استعينوا فى النظم والتأليف بمن قدرتم لأن سماع ذلك منهم أن لو كان ولا سبيل إليه لا يحتاج معه إلى شهادة شاهد، أما لو ادعوا أن أحداً سمع منه مثل القرآن لما قتع منهم بمجرد دعواهم ألا ترى استرواحهم إلى اقناع جهلتهم بما حكى سبحانه وتعالى عنهم بقوله: "لو نشاء لقلنا مثل هذا " والوارد فى هود كالوارد فى يونس.
الآية السادسة: هى أول آية تعرض لها صاحب كتاب الدرة وأجاب بغير ما هنا والله ينفع جميعنا بفضله.
وما يقع بعد مما لم يتعرض له صاحب كتاب الدرة من الآيات فننبه عليه بعلامة: ليعلم أنه من المفل كما تقدم.
قوله تعالى: "وقلنا يآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة " وفى سورة الأعراف: "ويآدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة "، فى هذا سؤالان:
الأول: ورود أمرهما بالأكل فى البقرة بواو النسق المقتضية عدم الترتيب ما لم يفهم من غيرها، وفى الأعراف: بالفاء المقتضية الترتيب والتعقيب والأمر واحد والقصة واحدة.
والثانى: وصف الأكل فى البقرة بالرغد ولم يقع هذا الوصف فى الأعراف مع اتحاد الأمر كما ذكرنا.
والجواب عن السؤال الأول: والله أعلم أن الوارد فى الآيتين مختلف فى الموضعين أما الوارد فى البقرة فقصد به الإخبار والإعلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما جرى فى قصة آدم صلوات الله وسلامه عليه وابتداء خلقه وأمر الملائكة بالسجود له وما جرى من إبليس عن السجود ثم ما أمر آدم من سكنى الجنة والأكل منها ولم يقصد غير التعريف بذلك من غير ترتيب زمانى أو تحديد غاية فناسبه الواو وليس
(1/28)
 
 
موضع الفاء، وأما آية الأعراف فمقصودها تعداد نعم الله جل وتعالى على آدم وذريته ألا ترى ما تقدمها من قوله تعالى: "ولقد مكناكم فى الأرض " وما اتبع به هذا من ذكر الخلق والتصوير وأمر الملائكة بالسجود لآدم ثم قوله مفردا لإبليس: "اخرج منها مذءوما مدحورا " ثم بعد ذلك أمر آدم عليه السلام بالهبوط متبعاً بالتأنيس له ووصية ذريته فى قوله تعالى: "يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان " فتاسب هذا القصد العطف بالفاء المقتضية الترتيب والواو لا تقتضى ذلك وإنما بابها الجمع حيث لا يراد ترتيب وليس موضع شرط وجزاء فيكون ذلك مسوغاً لدخول الفاء، وإنما ورد هنا لما ذكرته من قصد تجريد التفصيل المحصل لتعداد النعم، ولما اختلف القصدان اختلفت العبارة عنهما، فورد كل على ما يناسب. والله أعلم.
وأما السؤال الثانى فالجواب عنه: أن ورود الرغد فى آية البقرة وسقوط ذلك فى الأعراف إنما ذلك لأن المعنى من هنا التبعيض ومعناها بما هو تبعيض قد يسبق منه إرادة التقليل وهو غير مراد هنا، وإنما مصرف التبعيض هنا إلى المأكول منه، فإن ما اشتملت عليه الجنة من ذلك إذا أكلت منه ذرية آدم بأجمعها فإنما تأكل بعضا إذ فيها من كل متنعم به ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فاجتمع هنا أن البعضية مرادة بالنظر إلى ما انطوت عليه الجنة وإباحة التوسعة فى أكلها مقصودة وليس ثم ما يحرزها فقال تعالى: "رغداً " ليحصل المعنى التوسعة وتجردت "من " لإحراز معناها ولم يكن هنا بد إذ ليس فى السياق ما يحرز ذلك المعنى من التوسعة وذلك قوله تعالى: "من حيث شئتما " لإباحة ما فى أماكنها ومن المحال أن يباح لهما الأكل من حيث شاءا منها على اتساع المساحة وكثرة المآكل ثم يحجر عليهما التوسع فى الأكل والرغد فيه، هذا متناقض.
فإن قيل: قد وقع فى سورة البقرة: "حيث شئتما " وتلك توسعة فى الأماكن
قلت: ليس موقع حيث شئتما " موقع "من حيث شئتما " لأن "من حيث شئتما " يحرز ويعطى إباحة الأكل من ثمر كل موضع فيها.
أما حيث إذا لم يكن معها "من " فإنها تعطى بأظهر الاحتمالين إباحة الأكل فى كل موضع لا من ثمر كل موضع فقد يقال للشخص كل هذا العنقود حيث شئت من هذا البستان فإنما أبيح له أكل عنقود معين مخصوص حيث شاء من أماكن ذلك البستان ولم يتعرض بهذه العبارة لإباحة أكل ما فى كل موضع منه الا باحتمال ضعيف.
أما إذا قيل له كل من حيث شئت من مواضع هذا البستان فقد أبيح له الأكل من كل ما فى مواضعه، وحصلت التوسعة فى المأكل ولم يحصل ذلك عند سقوط "من " على ما تقدم
(1/29)
 
 
آنفا، فقد وضح افتراق الموضعين، وتعين ورود رغداً فى البقرة إذ ليس ثم ما يحرزه وتعين سقوطه فى الأعراف لوجود ما بحرزه. والله أعلم بما أراد.
الآية السابعة:
قوله تعالى: "قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى ".
وفى الأعراف "قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو " وفى سورة طه "قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ".
ويسأل عن أى شئ لم ترد هذه الزيادة فى قوله فى البقرة: "قلنا اهبطوا منها جميعا "؟
والجواب عن ذلك: أنه لم يرد ذلك هنا اكتفاء بما فى الآية قبلها وهو قوله: "وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ".
فلو قيل ذلك فى الآية بعدها مع الاتصال والتقارب لكان تكرارا لا يحرز فائدة لم تحصل بخلاف ما فى سورة الأعراف وسورة طه فورد كل على ما يجب ويناسب والله أعلم.
الآية الثامنة:
قوله تعالى فى البقرة: "فمن تبع هداى " وفى سورة طه: "فمن اتبع هداى ".
هنا سؤالان: ما فائدة اختلافهما وما وجه تخصيص كل موضع منهما بما اختص به؟
والجواب عنه والله أعلم: أن تبع واتبع محصلان للمعنى على الوفاء، و"تبع " فعل وهو الأصل و"اتبع " فرع عليه لأنه يزيد عليه وهو منبئ عن زيادة فى معنى فعل بمقتضى التضعيف فعلى هذا وبحسب لحظة ورعيه ورد فمن تبع وفمن اتبع وتقدم فى الترتيب المتقرر فمن تبع لإنبائه عن الاتباع من غير تعمل ولا تكلف ولا مشقة، وأما اتبع فإن هذه البنية أعنى بنية افتعل تنبئ عن تعمل وتحميل للنفس فقدم ما لا تعمل فيه وأخر اتبع لما يقتضيه من الزيادة ولم تكن إحدى العباراتين لتعطى المجموع فقدم ما هو أصل وأخر ما هو فرع عن الأول وكلاهما هدى ورحمة وورد كل على ما يناسب ويلائم.
وجواب ثان ينبئ عليه ما تقدم فيكون جوابا واحدا وهو ان اتبع مزيد منبئ عن التعمل والعلاج كما تقدم ولا يفهم ذلك من تبع الذى هو الأصل وانما ينبئ فى الأظهر عن قضية يتلو فيها التابع المتبوع متقيدا به فى فعله من غير كبير تعمل ولا علاج وكل من العبارتين أعنى تبع واتبع إنما يستعمل فى الغالب حيث يراد مقتضاه مما بينا، ألا ترى قول الخليل عليه السلام فى اخبار الله تعالى عنه: "فمن تبعنى فانه منى " حين أشار بقوله "فانه منى " إلى الخاصة من سالكى سبيله باتباعه القديم، فعبر بما يشير إلى غاية التمسك والقرب حين قال: "منى " فناسب ذلك قوله: "تبعنى " يريد الجرى على
(1/30)
 
 
مقتضى الفطرة وميز الحق بديها بسابقة التوفيق من غير إطالة نظر من حال هؤلاء من قيل فيه: "ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله " وهذه الآية وأمثالها مراد بها من تعامى عن النظر فى الدلالات وترك واضح الاعتبار وحمل نفسه بقدر الله على ما لا يشهد له نظر ولا يقوم عليه برهان فكأن هؤلاء تعلموا فى ذلك وعالجوا أنفسهم حتى انقادت طباعهم إلى غير ما تشهد به من الفطرة ولذلك استعير لمن جرى على حال هؤلاء البيع والشراء فقيل: "أولئك الذين اشروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم " لما كان ما بسط من الدلائل ونصب من الآيات والشواهد واضحا وكانوا ذوى أسماع وأبصار وأفئدة فما اعتبروا ولا أجدت عليهم كان سلوكهم سبل الغى والضلال تعملا وتركا للرشد على بصيرة ولذلك أخبر الله تعالى عن حال هؤلاء فى فعلهم ومرتكبهم بالجحود فسماه بهذا فى قوله تعالى: "فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ إذ كانوا يجحدون بآيات الله ".
ولا يقال جحد إلا فيمن كتو معلوما بعد حصوله وتظاهر بباطل فقد اعتمل نفسه غى ذلك فعبر عن مثل هذا بأتبع ولم يكن موضع "تبع " وكذلك قيل لمن وسم بالاسراف فى المخالفات من عصاة الموحدين فقيل لهم: "واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم " وذلك لإلفتهم المخالفات وانقياد نفوسهم لها
حتى احتاجوا فى الإقلاع عن ذلك والأخذ فى خلاف حالهم إلى التعمل والعلاج، وكذا قيل لمن ألف الطاعات وارتاض لالتزامها: "لا تتبعواخطوات الشيطان " لإلفة نفوسهم الطاعات حتى انهم وقعت منهم مخالفة فبتعمل وعلاج لأنها خلاف المألوف فتأمل ما يرد هذا فانه يوضح بعضه، وإذا تقرر هذا فتأمل ما بين القضيتين، فأقول: لما تقدم فى آية البقرة قوله تعالى: " وقلنا يآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما " إلى قوله: "فمن تبع هداى " ولم يرد فيها مما كان من إبليس سوى ما أخبر به تعالى عنه من قوله: "فأزلهما الشيطان عنها " من غير تعرض لكيفية تناوله ما فعل ولا ابداء علة ولا كبير معالجة ناسب هذا: "تبع "، ولما ورد فى آية طه ذكر الكيفية فى إغوائه بقوله له: "هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " وقد حصل فى هذا الإشارة إلى ما بسط من قوله فى الأعراف: "ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة الا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين " وقسمه على ذلك فكان هذه كله قد تحصل مذكورا فى آية طه بما تضمنته من الإشارة إليه، فأفهمت الآية قوة كيد اللعين واستحكام حيلته حتى احتنك الكثير من ذريته
(1/31)
 
 
وحملهم على عبادة الطواغيت وتلقت النفوس المتعاقبة ذلك منه بقبول فصار تمييز الحق لا يحصل إلا بمعالجة وتعمل فناسبه فمن اتبع كما ناسب ما تقدم فى آية البقرة فمن تبع، من حيث لم يبسك فيها من كيد اللعين ما بسط فى آية طه فورد كل على ما يناسب معنى ونظما وإيجازا وإطالة بإطالة ثم إذا لحظ الترتيب فالجارى على رعية تقديم ما هو الأصل وتأخير ما هو الفرع فقيل فى آية البقرة: فمن تبع وفى آية طه: فمن اتبع، وحصل رعي الوجوه الثلاثة ووضح أنه مقتضى النظم والله أعلم بما أراد.
 
الآية التاسعة:
قوله تعالى: "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) " وقال بعد: "استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين "
يسأل عما أعقب به فى كل الموضعين وما وجه تخصيصه وهل يجوز وقوع كل منهما فى موضع الآخر؟
والجواب: ان قوله تعالى: "وانها لكبيرة .....
الآية.
وقوله فى الآية الثانية: "إن الله مع الصابرين ".
كلا الإخبارين مناسب لقوله: "واستعينوا بالصبر والصلاة " فلا سؤال فى هذا وإنما يسأل عن تخصيص كل من الموضعين بما خص به اتباعا؟
والجواب عن ذلك أن قوله تعالى: "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " مشير إلى التثاقل عنها والتكاسل الجاريين فى الغالب والأكثر مع ضعف اليقين وقلة الإخلاص وذلك مناسب لحال بنى إسرائيل ممن ذكرت فى الآيات قبل ألا ترى قوله تعالى فى المنافقين وإنما أكثرهم من يهود: "ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ".
وقوله: "وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى " فلما كان قوله تعالى فى الآية الأولى: "واستعينوا بالصبر والصلاة " مكتنفا بأمر بني إسرائيل ونهيهم ناسب هذا قوله تعالى: "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " ولما كانت الآية الثانية معقبا بها أمر المؤمنين فى قوله تعالى: "يا أيها الذين ءآمنوا استعينوا بالصبر والصلاة " وحال من وسم بالإيمان حال رضى واستقامة ناسبهم وصفهم بالصبر إذ بالصبر على الطاعات حصول الدرجات فجاء كل على ما يناسب ولم يكن ليلائم واحدا من الموضعين غير ما أعقب به. والله أعلم بما أراد.
الآية العاشرة:
قوله تعالى: "واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل " ووقع بعد: "ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها
(1/32)
 
 
شفاعة "، فأخر ذكر الشفاعة فى هذه الآية وقدم فى الأولى يسأل عن ذلك.
ووجه ذلك والله أعلم أنه لما تقدم فى الآية الأولى قوله تعالى: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " والمأمور بالبر قد يأخذ به ويتمسك بموجبه فيسلم من العصيان وتكون فى ذلك نجاته وإذا أمكن هذا فقد وقع الاهتداء بأمر هؤلاء الذين قيل لهم: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " فهو مظنة عندهم لرجائهم أن ينفع عند مشاهدة الجزاء الإحسانى للمأمورين بالبر حين قبلوا وامتثلوا أخذاً بظاهر حال الأمرين وإن كانوا يبطنون خلاف ما يظهرون وهذا جار على مألوف طمع اليهود، وقد ورد فى ذكر المنافقين تعلقهم فى القيامة بقولهم للمؤمنين: "ألم نكن معكم " فطمع من زاد على كونه مع المتعلق به أنه أمره فاقتدى بأمره واهتدى المأمور لما بخلوصه أخذا بظاهر ما صدر عن الآمر وان كان الآمر يبطن خلاف ما أمر به غيره إلا أن هذا أمكن من التعلق بالكينونة فى الدنيا مع الناجين وإذا تعلق هؤلاء بمجرد كونهم كانوا مع المؤمنين فتعلق من أمر بالبر زائد إلى كونه من المأمورين، وإن كان أمرة تظاهرا وراءا أمكن، إلا أن كل ذلك لا ينفع ما لم يكن إيمان مخلص فلتوهم هؤلاء إمكان الشفاعة من أمرهم بالبر وطمعهم فى ذلك كان آكد شئ نفى الشفاعة لهم لإمكان توهمها ولم يتقدم فى الآية الأخرى ما يستدعى هذا فقدم فيها ذكر الفئة التى هى أولى وأحرى فى كمال التخلص على ما عهد فى الدنيا لو أمكنت والله أعلم بما أراد.
 
الآية الحادية عشرة من سورة البقرة
قوله تعالى: "وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ "الآية.
وفى سورة الأعراف:: "وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ " فالقضية فى السورتين واحدة وقد ورد فى سورة البقرة: "نجيناكم " مضعفا وفى الأعراف: "أنجيناكم " غير مضاعف، وفى سورة البقرة: "يذبحون " وفى سورة الأعراف: "يقتلون "، وقد ورد فى سورة إبراهيم "يسومونكم سوء العذاب ويذبحون " منسوقا بحرف العطف ففى هذه الآية ثلاث سؤالات تعرض منها صاحب كتاب الدرة للفرق بين "يذبحون " وقوله تعالى فى سورة إبراهيم "ويذبحون " وأغفل ما سوى ذلك.
والجواب عن الأول: ان الوارد فى سورة البقرة مقصود به تعداد وجوه الإنعام على بنى إسرائيل وتوالى الامتنان ليبين شنيع مرتكبهم فى مقابلة ذلك الإنعام بالكفر ولنقدم
(1/33)
 
 
لذلك تمهيداً فنقول: أنه تعالى بدأ عباده بالنعم وأحسن إليهم قبل إيجادهم حين ذكرهم فى الأزل بخصوص التكريم وسبقت رحمته غضبه وله المن والطول وعلى لحظ ما ذكرنا ورعيه جرى خطاب الخلق فى دعائهم إلى عبادته فقال تعالى فى أول وارد من ذلك فى كتابه العزيز على المعتمد من مقتضى الترتيب الثابت: "يأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون " إلى قوله: "فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون " فذكرهم سبحانه بإيجادهم بعد العدم وجعله الأرض فراشا لهم والسماء بناء وانزال الماء من السماء واخراج الثمرات به وكل هذا انعام وإحسان منه لعباده من غير حاجة به إلى ذلك فدعا سبحانه الخلق لعبادته مذكراً بإنعامه عليهم وبهذا أمر رسله فقال لموسى عليه السلام: "وذكرهم بأيام الله " أى بآلائه ونعمائه وعلى هذا جرى خطاب بنى إسرائيل فى سورة البقرة فى أول خطاب خوطبوا به ودعوا إلى عبادة الله وتصديق من قدم لهم فى أمره وأخذ عليهم العهد فى الإيمان به فقال تعالى: "يا بنى إسرائيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم ".
فأجمل تعالى ثم فصل فذكر نجاتهم من آل فرعون وفرق البحر بهم ونجاتهم وهلاك عدوهم بالغرق ثم ذكر عفوه عنهم فى عبادة العجل وتوبته عليهم وبعثهم من موتهم عند طلبهم الرؤيا، وتظلياهم بالغمام إلى ما ذكر تعالى بعد هذا.
فلما كان موضع تعداد نعم وآلاء ذكروا بها ليزدجروا عن المخالفة والعناد ناسبه التضعيف لاثباته بالكثرة ولو قيل هنا واذ أنجيناكم لما أنبأبذلك ولا ناسب المقصود مما ذكر، وأيضا فإن التضعيف فى: نجيناكم يناسب التضعيف الوارد بعده فى قوله: "يذبحون "، ولم يكن لفظ أنجيناكم غير مضاعف ليناسب.
والجواب عن السؤال الثانى: والله أعلم ان الذبح منبئ عن القتل وصفته وأما اسم القتل فلا يفهم الا اعدام الحياة ويتناول من غير المقتول فى الغالب فعبر أولا بما يوفى المقصود من الاخبار بالقتل مع احراز الإيجاز، إذ لو ذكر القتل وأتبع الصفة لما كان ايجازا، فعدل إلى ما يحصل عنه المقصود مع ايجاز فقيل: "يذبحون " وعبر فى سورة الأعراف بالقتل لأنه أوجز من لفظ يذبحون لأجل التضعيف إذ لفظ يذبحون أثفل لتضعيفه وقد حصلت صفة القتل فى سورة البقرة فأحرز الإيجاز فى الكل وجاء على ما يجب ويناسب والله أعلم.
والجواب عن السؤال الثالث: وهو قوله تعالى فى سورة إبراهيم: "ويذبحون أبنائكم ويستحيون
(1/34)
 
 
نسائكم " منسوقا بواو العطف فوجه ذلك والله أعلم ان هذه السورة مبنية على الإجمال والايجاز فيما تضمنته من قصص الرسل وغير ذلك ولم يقصد فيها بسط قصة كما ورد فى غيرها مما بنى على الاستيفاء وكلا المرتكبين مقصود معتمد عند العرب:
يرمون بالخطب الطوال وتارة وحى الملاحظ خيفة الرقباء
وعلى هذا جرى خطابهم فى الكتاب العزيز وتأمل المقصدين فقد ورد فى سورة الأعراف وسورة هود قصص نوح وهود وصالح ولوط وموسى عليهم السلام فتأمل ما ما بين ورود هذه القصص الخمس فى هاتين السورتين وورودها خمستها فى سورة القمر وكيف مدت أطناب الكلام فى السورتين الاوليين ثم أوجزت فى سورة القمر أبلغ ايجاز وأوفاه بالمقصود، فلما كان مبنى سورة إبراهيم عليه السلام على الإيجاز فيما تضمنت من هذه القصص افتتاحا واختتاما لقوله تعالى: "ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد " إلى قوله تعالى: "فردوا أيديهم فى أفواههم " وما بعد هذه من الآى وانه انضم فى هذه السورة إلى قصد الإيجاز تغليظ الوعيد فلبنائها على هذين الغرضين ورد فيها قوله تعالى: "واذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم " إلى قوله تعالى: "يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنائكم " فأشار قوله سبحانه: "بسومونكم سوء العذاب " إلى جملة ما امتحنوا به من فرعون وآله من استخدامهم واذلالهم بالأعمال الشاقة وامتهانهم واستحياء نسائهم لذلك وذبح الذكور فلما وقعت الإشارة إلى هذه الجملة مما كانوا يمتحنونهم به جرد منها وعين يالذكر أشدها واعظمها امتحانا فجئ به معطوفا كما أنه مغاير لما تقدمه فقيل: "ويذبحون أبنائكم " فعين من الجملة هذا وخص بالذكر تعريفا بمكانة وشدة الامر فيه، وهو مما أجمل أولا وشمله الكلام المتقدم.
كما ورد فى قوله تعالى: "من كان عدوا لله وملائكته " ثم قال: "وجبريل وميكال " فخصهما بالذكر والتعيين اعلاما بمكانهما فى الملائكة بعد أن شملهم قوله تعالى: "وملائكته " فالوارد فى سورة إبراهيم من هذه القبيل وقد تبين زجهه واتضحت مناسبته والله أعلم بما أراد.
وأما إعراب آية البقرة فيمكن فى قوله تعالى: "يذبحون أبنائكم " أن يحمل على البدل وعلى الاستئناف وهو الأولى وكأن قد قيل وما ذاك؟ فقيل: يذبحون أبنائكم ولا إشكال فى الأخرى.
(1/35)
 
 
الآية الثانية عشرة:
قوله جل وتعالى: "وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) " وفى سورة الأعراف: "وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) ".
فى ذلك عشرة سؤالات:
الأول: قوله تعالى فى سورة البقرة: "واذ قلنا ادخلوا " وفى سورة الأعراف: "واذ قيل لهم اسكنوا ".
الثانى: قوله فى البقرة: "فكلوا " وفى الأعراف: "وكلوا ".
الثالث: قوله تعالى فى البقرة: "رغدا " ولم يأت ذلك فى سورة الاعراف.
الرابع: قوله تعالى: "ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ".
وفى الأعراف: "وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا ".
الخامس: قوله تعالى فى البقرة: "يغفر لكم خطاياكم " وفى الأعراف فى قراءة الجماعه غير أبى عمرو وابن عامر: خطيئاتكم " مجموعا جمع سلامه.
السادس: قوله: "وسنزيد المحسنين " وفى الأعراف: "سنزيد المحسنين ".
السابع: زيادة منهم فى الأعراف وسقوط ذلك فى البقرة.
الثامن: قوله تعالى: "فأنزلنا " وفى الأعراف: "فأرسلنا ".
التاسع: قوله تعالى: "على الذين ظلموا " وفى الأعراف: "عليهم ".
العاشر: "بما كانوا يفسقون " وفى الأعراف: "بما كانوا يظلمون ".
والجواب عن الأول: ان أمرهم بدخول القرية مغاير من حيث المعنى لأمرهم بسكناها وان كان الامر بدخولهم قد يشير بما نسق معه إلى سكناها لكن ليس نصا بل ولا هو ظاهر فبينت آية الأعراف ذلك وأوضحت المقصود، وحصل الامر بالدخول والسكنى وتبين وجه ورود العبارتين على الترتيب.
والجواب عن الثانى: أن قوله تعالى: "فكلوا " بحرف التعقيب وجهه ان الاكل لا
(1/36)
 
 
يكون الا بعد الدخول ولا يكون قبله بوجه ولا نعه لتعذر وانما يكون مرتبا عليه فجئ بالحرف المحرز لذلك المعنى وانه على التعقيب من غير مهله.
وأما الوارد فى سورة الأعراف فإن السكن منجر معه الاكل ومساوق له ولا يمكن ان يكون مرتبا عليه فجاء بالحرف الصالح لذلك المعنى.
والجواب عن الثالث: وهو ورود قوله: "رغدا " فى البقرة وسقوط ذلك غى الأعراف أن تحته معنى مقصودا لا يحصل من شئ مما ورد فى الآية وانطوت عليه من الكلام، بخلاف آية الأعراف فإن مفهوم السكنى وهو الملازمة ولاقامة مع الامر بالاكل حيث شاؤوا مع انضمام معنى الامتنان والانعام المقصود فى الآية كل ذلك مشعر ومعرف بتمادى الاكل وقوة السياق مانعه من التحجير والاقتصار فحصل معنى الرغد فوقع الاكتفاء بهذا المفهوم الحاصل قطعا من سياق آية الأعراف ولو لم يرد فى سورة البقرة لم يفهم من سياق الآية كفهمه من سياق آية الاعراف.
وأما قوله سبحانه فى سورة البقرة: "وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة " وعكس ذلك فى الأعراف فوجه ذلك والله أعلم ان قولهم: حطة دعاء أمروا به فى سجودهم فلو ورد فى السورتين على حد سواء لأوهم من حيث مقتضى الواو من الاحتمال أنهم أمروا بالسجود والقول منفصلين غير مساوق أحدهما للآخر على أحد محتملات الواو فى عدم الرتبة فقدم وأخر فى السورتين ليحرز المجموع أن المراد بهدا القول ان يكون فى حال السجود لا قبله ولابعده وتعين بهذا معنى المعيه من محتملات الواو وتحرر المقصود وان المراد: وادخلوا الباب سجدا قائلين فى سجودكم حطة فاكتفى بتقلب الورود عن الافصاح بمعنى المعيه ايجازا جليلا وبلاغة عظيمة وقدم فى البقرة الأمر بالسجود لأن ابتداء السجود يتقدم ابتداء الدعاء ثم يتساوق المطلوبان فجاء ذلك على الترتيب الثابت فى السور ولآى والله أعلم.
ومما يجب تمهيده لتخليص هذه المفهوم ان العرب الفصحاء إذا أخبرت عن مخبر ما أو أناطت به حكما من الأحكام وقد شركه غيره فى ذلك الحكم أو فيما أخبر به عنه وفد عطفت أحدهما على الآخر بالواو المقتضية عدم الترتيب فنهم مع ذلك إنما يبدأون بلأهم والأولى قال سيبويه رحمه الله: "كأنهم يقدمون ما بيانه أهم لهم وهم به أعنى " هذا معنى كلامه رحمه الله، قال الله سبحانه وتعالى: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " فهذان مطلوبان مقامهما فى الطلب اليمانى معلوم ولكن المبدؤ به أهم.
وقال الله تعالى: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول " وقال تعالى: "آمنوا بالله ورسوله " وقال تعالى: "والله ورسوله أحق أن يرضوه ".
(1/37)
 
 
وهذا أكثر من أن يحصى وعكس الوارد منه ليس بالأفصح فعلى هذا التمهيد يفهم ما قدمنا فإن قوله تعالى: "وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة " مقتضاه على ما تمهد الابتداء بأول الأمرين فلا يمكن تحصيل ذلك فى الآيتين الا بالمساوقة وكونهما معا فى حالة واحدة فتدبر ذلك والله أعلم بما أراد، وأما الاختلاف فى جمع خطيئة فى السورتين فانها تجمه من حيث ثبوت تاء التأنيث فى الواحدة منها فى بالألف والتاء وتجمع أيضا مكسرة على فعائل كظعينه وظعائن وسفينه وسفائن وصحيفه وصحائف فالأصل خطاى مثل ظعائن ثم ترجع بمقتضى التصريف إلى خطايا كمطيه ومطايا فورد جمعها فى البقرة مكسرا ليناسب ما بنيت عليه آيات البقرة من تعداد النعم والالاء حسبما يتبين فى جواب السؤال لأن جموع التكسير ما عدا الاربعة أبنية التى هى: أفعل وأفعال وأفعله وفعله إنما ترد فى الغالب للكثرة فطابق الوارد فى البقرة ما قصد من تكثير الآلاء والنعم وأما الجمع بالألف والتاء فبابه القلة فى الغالب أيضا ما لم يقترن به ما يبين أن المراد به الكثرة فناسب ما ورد فى الأعراف من حيث لم تبن آيها من قصد تعدد النعم على ما بنيت عليع آى البقرة فجاء كل على ما بناسب والله أعلم.
وأما زيادة واو العطف فى قوله تعالى: "وسنزيد "
فى البقرة وهو السؤال الخامس فإنما جئ بها هنا لأن المتقدم قبل هذه الآية من لدن قوله سبحانه: "يا بنى إسرائيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم " إنما هى ألاء ونعم كما تقدم عددت عليهم على التفصيل شيئا بعد شئ فناسب ذلك عطف قضية الزيادة بالواو ليجرى على ما تقدم من تعداد الآلاء وضروب الإنعام بالعفو عن الزلات والامتنان بضروب الإحسان، لهذا القصد من احراز التعداد ورد: "وسنزيد " هنا بالواو ولم يكن ليحصل ذلط لو لم ترد الواو هنا وأما آية الأعراف فلم يرد قبلها ما ورد فى سورة البقرة وأما قوله: "فبدل الذين ظلموا قولا غير الذى قيل لهم " وفى الأعراف: "فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذى قيل لهم " فوجهه والله أعلم أن لفظ الذين ظلموا لفظ عام يحتمل التخصيص، والتخصيص يكون بدليل عقلى ودليل سمعى ومن المعلوم أن الامة من الناس والطائفة الكبيرة إذا خوطبوا بأمر أو نهى لم يكونوا فى تقلبه على حد سواء وهذا معلوم ويبين هذا فى هؤلاء المقصودين بهذا الإخبار قوله تعالى: "منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون " وقوله تعالى: "من أهل الكتاب أمة قائمة " وغير ذلك.
وإذا تأملت هذه الآية فهمت منها نفسها أنها ليست على عمومها، فزادت آية الأعراف تخصيصا سمعيا بما بعطيه حرف التبعيض فى قوله تعالى: "منهم "
(1/38)
 
 
وآية الأعراف مخصصه للعموم البادى من آية البقرة ولهذا القصد من التخصيص ورد فى سورة البقرة: "فأنزلنا على الذين ظلموا " ولم يرد فيها فأنزلنا عليهم لأنه لو ورد كذلك لكان يتناول المتقدم ذكرهم على التعميم وليس مقصود فنحرز بقوله: "فأنزلنا على الذين ظلموا " أن المعذب هو الظالم من تقدم وجاء فى الأعراف: "عليهم " لتخصيص ذكر الظال بقوله: "منهم " فجاء كل على ما يجب.
ويزيد ذلك بيانا ان قوله: "فأرسلنا " يقتضى بظهور ما وذلك بحسب مفهوم الارسال انسحاب العذاب لأن المعذب قد حرز ذكره وأما لفظ أنزل فلا يقتضى الانسحاب والتعيم بحسب اقتضاء أرسل فلهذا ورد مع ما لم يرد عمومه وهذا
جواب السؤال الثامن.
ولم يبق إلا قوله تعالى: "بما كانوا يفسقون " و: "بما كانوا يظلون " وهو السؤال التاسع ووجه ذلك والله أعلم أنه لما وصف اعتداؤهم نيطت بهم أولا صفة الظلم ومن المعلوم أن مواقعه تتسع ثم لما ذكر من اعتدائهم وسوء مرتكبهم غير ما تقدم وتضاعف موجب وبيل جزائهم وصفوا بالفسق المنبئ عن حال أوبق من الظلم.
ألا ترى أنه صفة ابليس قال تعالى: "الا ابليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ".
وقد جعل الله تعالى الفسق نقيض الإيمان وفى طرف منه فى قوله: "أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون " والظلم قد بقع على أضعف المعاصى قال تعالى: "ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله " وقال: "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " ولوقوعه على مختلفات المآثم ومطابقته لما قل أو كثر منها على وصف بالعظم حين أريد به الشرك.
قال تعالى: "ان الشرك لظلم عظيم " ويقول الشاكى للحاكم: ان هذا ظالم وقد ظلمنى فى خردلة فما فوقها ولا يلزمه من هذا القول شئ إذا صح له أدنى تعلق أما ان قال فاسق أو فسق فليس كذلك وكما يترقى فى الجزاء الاحسانى كذلك يترقى فى الطرف الآخر وهو فى الحقيقة ضد الترقى وسنزيد هذا ان شاء الله فى سورة المائدة بيانا فى وصفه سبحانه من لم يحكم بما أنزل الله بالكفر ثم بالظلم ثم بالفسق وإذا تقرر هذا فتأمل آيات البقرة من لدن قوله تعالى: "يا بنى إسرائيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم " إلى ذكر وصفهم بتظليلهم بالغمام كيف ذكروا أولا بالظلم فقال تعالى عقب ذكرهم تظليلهم بالغمام: "وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " ثم أردف ذكر اعتدائهم فى تبديلهم قولا غير الذى قيل لهم وأعقب بقوله: "فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون " وجعل الفسق ختام وصفهم الجارى جزاء على
(1/39)
 
 
مرتكباتهم ولم يقع بعده ذكر علة منوطة بجزاء ما وقع منهم وإذا تأملت آية الأعراف وجدتها جارية على منهج ما ورد فى سورة البقرة
وان أول وصفهم المبنى جزاء على مرتكباتهم قولع: "فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون " ثم قال تعالى: "واسألهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر " إلى قوله تعالى: "كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون " فطابق هذا ما ورد فى البقرة من تقدم وصفهم أولا بالظلم ثم بعد ذلك بالفسق ووضح الاتفاق فى ختام القصة فى السورتين من غير اختلاف فيهما.
 
الآية الثالثة عشرة من البقرة:
قوله تعالى: "فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا " وفى الأعراف: "فابجست " مع ان المعنى واحد فمعنى الانبجاس الانفجار يسأل عن وجه اختصاص كل من الموضعين بما ورد فيه.
والجواب والله أعلم ان الفعلين وان اجتمعا فى المعنى فليسا على حد سواء بل الانبجاس ابتداء الانفجار والانفجار بعدة غاية له قال القرطبى: "الانحباس أول الانفجار "، وقال ابن عطيه: "انبجست انفجرت لكنه أخف من الانفجار " وإذا تقرر هذا فأقول أن الواقع فى الأعراف طلب بنى إسرائيل من موسى عليه السلان السقيا قال تعالى: "وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه " والوارد فى سورة البقرة طلب موسى عليه السلام من ربه قال تعالى: "واذ استسقى موسى لقومه " فطلبهم ابتداء فناسبه الابتداء وطلب موسى عليه السلام غاية لطلبهم لأنه واقع بعده ومرتب عليه فناسب الابتداء الابتداء والغاية الغاية، فقيل جوابا لطلبهم: "فانبجست " وقيل اجاية لطلبه: "فانفجرت " وتناسب ذلك وجاء على ما يجب ولم يكن ليناسب العكس. والله أعلم.
الآية الرابعة عشرة من سورة البقرة:
قوله تعالى: "وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله " وفى سورة آل عمران: "ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة " فأخر فى سورة آل عمران ما قدم ذكره فى سورة البقرة فيسأل عن ذلك ووجهه والله أعلم أنهم لما سألوا فى البقرة عن مأكلهم ما فيه خسة وما يستلزم الذلة والصغار والمهنة فى التوصل إلى الانتفاع به وذلك ما طلبوه فى قولهم: "فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها " عوضا مما لا تكلف فيه ولا مشقة من المن والسلوى الذى كان ينزل عليهم عند الحاجة بغير
(1/40)
 
 
مؤنة ولهذا قيل لهم: "أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير " فلما سألوا ما يستلزم مهنة النفس ودناءة الحال لما أجرى به الله تعالى العادة من أن الذى سألوه لا يتوصل إليه الا بتكلف ومشقة فلما سألوا ما حاصله خسة وامتهان ناسب ذلك أن يناط به وينبئ عليه ذكر ضرب الذلة والمسكنة عليهم ثم أعقب ذلك ما باؤوا به من غضب الله الذى سبق به القدر عليهم ونعوذ بالله من غضبه.
ولما تقدم فى آل عمران قوله تعالى: "لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون " ناسب هذا تقديم ما لا نصرة لهم معه ولا فلاح وهو ما باؤوا به من غضب الله عليهم فقال تعالى: "وباؤوا بغضب من الله " فجاء كل على ما يناسب ويلائم والله أعلم بما أراد.
الآية الخامسة عشرة:
قوله تعالى: "ذلك بأنهم كانوا يكفرون بالله ويقتلون النبيين بغير الحق " وفى سورة آل عمران: "إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق " وفيها بعد: "لن يضروكم إلا أذى " إلى قوله تعالى: "ذلط بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق " بتنكير حق فى هذين الموضعين وتعريفه فى البقرة واختصاص الآية الأخيرة بجمع التكسير فيما جمع فى الآيتين جمع سلامه فقيل: "النبيين فى الآيتين وقيل فى هذه الأخيرة الأنبياء مكسرا فهذان سؤالان.
والجواب عن الأول والله أعلم، بعد العلم بأن المذكورين فى الآيات الثلاث من بنى إسرائيل قد اجتمعوا فى الكفر والاعتداء أن هذه الآية الأخيرة لما كانت فيمن شاهد منهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وعاين تلك البراهين واستوضح أنه الذى أخبر به موسى وغيره صلى الله عليهم أجمعين وتكاثرت الأدلة فى أمره ثم لم يجد ذلك عليهم إلا التمادى فى الكفر والعناد من بعد ما تبين لهم الحق كان الأنسب لمرتكبهم فى كفرهم أن يعبر عنهم أنهم ارتكبوه بغير سبهة ولا سبب يمكن التعلق به فقوله تعالى: "بغير حق " كأنه مرادف لأن لو قيل: بغير سبب ولا سبهة وذلك أوغل فى ذمهم وسوء حالهم لأنهم لا يمكنهم فى مرتكبهم تعلق بشئ البتة ولا أدنى شبهة ولما كانت الأولى فى سورة البقرة إنما هى فى سلفهم ممن لم يشاهد أمر محمد صلى اله عليه وسلم وقد وقع الافصاح فيها بكفرهم بعد تعريفهم بذكر آلاء ونعم وقد ورد فيها أن بعض تلك المرتكبات أو أكثرها قد عفى عنهم فيها ولا شك أن بعضهم قد سلم مما وقع فيه الأكثر من كفرهم
(1/41)
 
 
وقد أفصحت آي بذلك فيما ذكر عقبها من أن الكفر السابق عمومه فى جميعهم ليس على ما يبدو منه والله أعلم وإنما هو راجع إلى أكثرهم فقد دخله خصوص يدل عليه قوله تعالى: "فبدل الذين ظلموا منهم قولا " وقوله تعالى: "وأكثرهم فاسقون "، فهم وإن وصفوا من الكفر والاعتداء بما وصفوا ليسوا فى ارتكاب البهت والمجاهرة بالباطل وموالاة التمرد والاعتداء وحال معاينة البراهين كحييى بن أخطب وأشباهه من المعاصرين لنبينا صلى الله عليه وسلم والمشاهدين أمره فناسب حال أولئك الذين لم يشاهدوه ما وقع التعبير به من قوله تعالى: "بغير الحق " إذ ليس المعرف فى قوة المنكر المرادف لقولك بغير سبب وأيضا فقد تقر عندهم من كتابهم أن مسوغ قتل النفس تقدم قتل النفس بغير حق قال تعالى: "وكتبنا عليهم فيها - أى فى التوراة - أن النفس بالنفس " وتقرر أيضا فى كتابهم رجم الزانى المحصن وقد عرفنا ذلك من دينهم
بالخبر الصحيح وأنهم اعترفوا بذلك عند النبى صلى الله عليه وسلم بعد إنكارهم وقوله تعالى فى خطاب موسى عليه السلام لهم بقوله: "ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين " فعرف بعظيم جريمة الارتداد والظاهر أن حكم المرتد عندهم القتل كحكمه عندنا وكيف ما كان فقد استقر عندهم ما يسوغ القتل ويوجبه بعد الإيمان وقد علموا أن الاتبياء عليهم السلام مبرؤون من ذلك كله فقوله تعالى: "بغير الحق " أى بغير وجه الحق المبيح للقتل فالألف واللام للعهد فى المسوغ المتقرر فى شريعتهم فقد افترق مقصد الآيتين وأما الأولى من آيتى آل عمران فخاصة بالمتمادين منهم على الكفر ولا تتناول الآية من أولها إلى آخرها خلافه فهى كالآية الثانية فيما أعطته ودلت عليه من التمرد والتمادى على الضلال فناسبها التذكير كالتى بعدها وهما معا بخلاف آية البقرة إذ لم يتقدم فى هاتين ما تقدم فى تلك ولا حال المذكورين فى هاتين كحال من ذكر فى تلك والله أعلم بما أراد.
والجواب عن السؤال الثانى: أن جمع التكسير يشمل أولى العلم وغيرهم وجمع السلامة يختص فى أصل الوضع بأولى العلم وإن وجد فى غيرهم فبحكم الالحاق والتشبيه كقوله تعالى: "إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين " وما يلحق بهذا.
وإذا تقرر هذا فورود جمع السلامة فى قوله فى سورة البقرة: "ويقتلون النبيين بغير الحق " مناسب من جهتين: إحداهما شرف الجمع لشرف المجموع والثانية مناسبة زيادة المد لزيادة أداة التعريف فى لفظ الحق وأما الآية الأولى من سورة آل عمران فمثل الأولى فى مناسبة الشرف ومناسبة زيادة المد للزيادة فى الفعل
(1/42)
 
 
العامل فى اللفظ المجموع فى قراءة من قرأ: "يقاتلون " ولما لم يكن فى الآية الثالثة سوى شرف المجموع وكانت العرب تتسع فى جموع التكسير فتوقعها على أولى العلم وغيرهم أتى بالجمع هنا مكسرا لتحصل اللغتان حتى لا يبقى لمن تحدى بالقرآن حجة إذ هم مخاطبون بما فى لغاتهم فلا يقصر فى شئ من خطابهم على أحد الجائزين دون الآخر إلا ألا يتكرر فإذ ذلك يرد على وجه واحد مما يجوز فيه فتفهم ما أجملته فسوف يتضح لك به إذا استوفيته ما يعينك على فهم الإعجاز.
الآية السادسة عشرة
قوله تعالى: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " وقال فى المائدة: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " وفى سورة الحج: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله بفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شئ شهيد ".
فيها أربع سؤالات: تقديم النصارى فى سورة البقرة وتأخيرهم فى المائدة وتخصيص آية البقرة بقوله تعالى: "فلهم أجرهم عند ربهم " ورفع "الصابئون "فىالمائدة ولم يتبع وانفراد سورة الحج بسياقها وزيادة ذكر المجوس والذين أشركوا.
فأقول وأسأل الله توفيقه: إن المؤمنين أحق بالتقديم وهم أهل الخطاب والمتكلم معهم فى الآى قبل، فهم من حيث أحوالهم معظم من قصد بالخطاب والتأنيس ثم إن أهل الكتابين يلون المؤمنين فإنهم ليسوا كافرين بكل الرسل ولا منكرين بكل الرسل ولا منكرين لكل ما أنزل من الكتب فقد كانوا أقرب شئ لولا التبديل والتغيير والتحريف المقدر وقوعه عليهم، فإنهم قد قدم إليهم فنكثوا ونقضوا وكفروا بمن قدم إليهم من أمره، واليهود أقدم تعريفا وأسبق زمانا فلما اجتمع الأصناف الثلاثة فى أنهم أهل الكتاب والمقرون بالبداءة والعودة وإرسال الرسل على اختلاف حالاتهم فى ذلك وأزمانهم كان تقديمهم على غيرهم أوضح شئ على الوارد فى سورة البقرة إلا أن ذكرهم لم يقع بحرف مرتب بل وقع الاكتفاء يترتيب الذكر لاستوائهم فى الغايات من استواء العواقب وإن الفائز من الكل إنما هو من كانت خاتمته فى دار التكليف الموافاة على الإيمان والإسلام وإن أكرمكم عند الله أتقاكم وإن الموافى فى الكل على المفر والكفر فى النار ثم عذابهم بحسب جرائمهم جزاء وفاقا فرتبوا ذكرا بحسب حالهم الدنياوى ولم يتقعد الترتيب بالحرف المرتب لحظا
(1/43)
 
 
لحالهم الاخراوى فجرى ذكرهم فى سورة البقرة على هذا وأخر ذكر الصابئين لتأخرهم عن هؤلاء الأصناف فى أنهم ليسوا من أهل الكتاب أو ليسوا مثلهم فى ما وراء ما ذكر من أحوالهم فإيراد ذكرهم على ما في سورة البقرة بين، ثم قدم ذكر الصابئين فى سورة المائدة وزيادة بيان للغرض المذكور من أنه لا ترتيب فى الغاية الأخراوية إلا بنظر آخر لا بحسب الدنياوى والاشتراك فيما قبل الموافاة بل المستجيب المؤمن من الكل مخلص والمكذب متورط ثم مراتب الجزاء بحسب الأعمال فأوضح تقديم ذكر الصابئين فى سورة المائدة ما ذكرناه فإن قلت لم لم يقدم ذكرهم على الكل؟ قلت: لا وجه لهذا لمكانة المؤمنين وشرفهم فإن قلت فهلا قدموا على يهود قلت: قد كانت يهود أولى الناس بأن يكونوا فى رعيل من
المستجيبين ومعهم جرى الكلام قبل هذا نعيا عليهم وبيانا لمرتكباهم ولعظيم ما جرى على من لم يؤمن منهم وترددت فيهم عدة آيات وذلك مم