معاني القرآن وإعرابه للزجاج 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: معاني القرآن وإعرابه
المؤلف: إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج (المتوفى: 311هـ)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)
أنه العود الذي عليه العذق، والعرجون عود العذق
الذي تركبه الشماريخ من العذق، فإذَا جَفَّ وَقدُمَ دَق وَصَغُرَ
فحينئذ يشبه الهِلَالَ في آخر الشهر، وفي أول مطلعه.
وتقدير (عُرْجُون) فُعْلُول. منَ الانعراج (1).
* * *
 
(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
المعنى لا يذهب أحدهما بمعنى الآخر.
(وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
لكل وَاحِدٍ منهما فَلَك، ومعنى يسبحون يَسيرُونَ فيه بانبساط.
وكل من انبسط في شيء فَقَدْ سَبحَ فيه، ومن ذلك السباحة في الماء.
* * *
 
(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
خوطب بهذا أَهْلُ مَكَةَ، وقيل حَمَلْنَا ذُريتَهُمْ لأن من حمل مع
نوح عليه السلام في الفلك فهم آباؤهم، وذُرياتُهُم.
والمشحون في اللغة المملوء، شحنت السفينة إذا ملأتها.
وشحنت المدينة وأشحنتها إذا مَلأتها.
* * *
 
وقوله: (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)
الأكثر في التفسير أن مِنْ مِثْلِه من مثل سفينة نوح، وقيل من مثله
يغنَى به الإبل، وأن الإبل في البريَّةِ بمنزلة السُّفُنِ في البحر.
* * *
 
(وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)
أي فلا مُغِيثَ لهم.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {والقمر قَدَّرْنَاهُ}: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرٍو برفعِه، والباقون بنصبِه. فالرفعُ على الابتداء، والنصبُ بإضمارِ فعلٍ على الاشتغالِ، والوجهان مُسْتويانِ لتقدُّمِ جملةٍ ذاتِ وجهين، وهي قوله: «والشمسُ تجري» فإنْ راعَيْتَ صدرَها رَفَعْتَ لتعطِفَ جملةً اسميةً على مثلِها، وإنْ راعَيْتَ عَجْزَها نَصَبْتَ لتعطِفَ فعليةً على مثلِها. وبهذه الآيةِ يَبْطُلُ قولُ الأخفشِ: إنه لا يجوزُ النصبُ في الاسم إلاَّ إذا كان في جملةِ الاشتغالِ ضميرٌ يعود على الاسمِ الذي تضمَّنَتْه جملةٌ ذاتُ وجهين. قال: لأنَّ المعطوفَ على الخبرِ خبرٌ فلا بُدَّ مِنْ ضميرٍ يعودُ على المبتدأ فيجوزُ: «زيدٌ قام وعمراً أكرمتُه في داره»، ولو لم يَقُلْ «في داره» لم يَجُز. ووجهُ الردِّ مِنْ هذه الآية أنَّ أربعةً من السبعةِ نصبوا، وليس في جملة الاشتغال ضميرٌ يعودُ على الشمس. وقد أُجْمع على النصب في قولِه تعالى: {والسمآء رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] بعد قوله: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 5].
قوله: «منازلَ» فيه أوجهٌ، أحدها: أنه مفعولٌ ثانٍ؛ لأنَّ «قَدَّرنا» بمعنى صَيَّرْنا. الثاني: أنه حالٌ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ قبل «منازل» تقديرُه: ذا منازلَ. الثالث: أنه ظرفٌ أي: قَدَّرْنا مسيرَه في منازلَ، وتقدَّم نحوُه أولَ يونس.
قوله: «كالعُرْجُون» العامّةُ على ضَمِّ العينِ والجيم. وفي وزنِه وجهان، أحدهما: أنه فُعْلُول فنونُه أصليةٌ، وهذا هو المرجَّحُ. والثاني: وهو قولُ الزجَّاج أنَّ نونَه مزيدةٌ، ووزنُه فُعْلُوْن، مشتقاً من الانعراجِ وهو الانعطافُ، وقرأ سليمان التيمي بكسر العين وفتح الجيم، وهما لغتان كالبُزيُوْن والبِزْيون. والعُرْجُوْن: عُوْد العِذْقِ ما بين الشَّماريخ إلى مَنْبِته من النخلةِ. وهو تشبيهٌ بديعٌ، شبَّه به القمرَ في ثلاثة أشياء: دقتِه واستقواسِه واصفرارِه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/288)
 
 
مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
(إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
منصوبة مفعول لها، المعنى: ولا يُنْقَذُونَ إِلَّا لرَحْمَةٍ مِنَّا وَلمَتَاعٍ إِلَى حِينٍ.
إلى انقضاء الأجل.
* * *
 
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
ما أسلفتم من ذُنُوبكم، وما تعملونه فيما تستقبلون، وقيل ما بين
أيديكم وَمَا خلفكم، على معنى اتقُوا أن ينزل بكم من العذاب مثلُ
الذي نزلْ بالأمَمِ قَبْلَكُمْ، وَمَا خَلْفَكُمْ، أي اتقوا عذاب الآخرة.
وَمِثْلُه (فَإن أعرضوا فَقَدْ أنْذَرْتُكُم صَاعِقَةً مثلَ صاعِقَةِ عادٍ وثمود).
* * *
 
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
أي أطعموا وتصَدَّقُوا.
(قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَ).
كأنهم يقولون هذا على حد الاستهزاء.
وجاء في التفسير أنها نَزَلَتْ في الزنادقة، وقيل في قوم من اليهود.
* * *
 
(وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
متى إنجاز هذا الوعْد، أردنا ذلك.
* * *
 
(مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
في (يَخِصِّمُونَ) أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ.
سكونُ الخاء والصاد مع تشديد الصادِ على جمع بين ساكنين، وهو أشد الأربعة وَأَرْدَؤُهَا، وكان بعض من
(4/289)
 
 
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
يروي قراءة أهل المدينة يذهب إلى أن هذا لم يُضْبَطْ عن أهل المدينة
كما لم يضبط عن أبي عمْرٍو إلى بارِئكم.
وإنَّمَا زعم أن هذا تُخْتَلَسُ فيه الحركة اختلاساً وهي فتحة الخاء، والقول كما قال.
والقراءة الجيِّدَة (يَخَصِّمُونَ) بفتح الخاء، والأصل يَخْتَصِمُونَ.
فطرحت فتحة التاء على الخاء، وأدغمت في الصاد، وكسرُ الخاء جيِّدٌ أيضاً - تكسر الخاء لِسُكُونها وسُكُونِ - الصاد.
وَقُرِئَتْ يختصمون، وهي جيدة أيضاً ومعناها يأخذهم وبعضهم يَخْصِمُ بَعْضاً، ويجوز أن يكون تأخذهم وهم عِنْدَ أنْفُسهم يخصمون
في الحجة في أنهم لا يبعثون، فتقوم الساعة وهم متشاغلون في متصرفاتهم (1).
* * *
 
(فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
لا يستطيع أحد أن يوصي في شيء من أَمْرِهِ.
(وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ).
لا يلبث إلى أن يصير إلى أهله ومنزله. يموت في مكانه.
* * *
 
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)
الصور كما جاء في التفسير القرن الذي ينفُخ فيه إسْرافيلُ.
وقد قال أَبُو عُبَيدة: إنَّ الصورَ جمع صُورَة، وصورة جمعها صور.
كما قال الله عزَّ وجلَّ: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)
وما قرأ أحد أحْسنَ صُورَكُمْ وَلَا قرأ أحد: وَنُفِخَ في الصُّوَرِ من وجه يثبُتُ.
والأجداث القبور، واحدها جَدَثٌ، وَيَنْسِلُونَ: يخرجون بسرعة.
* * *
 
وقوله: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
(قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)
هذا وقف التمام، وهذا قول المشركين (2).
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {يَخِصِّمُونَ}: قرأ حمزةُ بسكون الخاء وتخفيف الصادِ مِنْ خَصِم يَخْصَمُ. والمعنى: يَخْصَمُ بعضُهم بعضاً، فالمفعولُ محذوفٌ. وأبو عمرٍو وقالون بإخفاءِ فتحةِ الخاء وتشديدِ الصاد. ونافعٌ وابن كثير وهشام كذلك، إلاَّ أنَّهم بإخلاصِ فتحةِ الخاءِ. والباقون بكسرِ الخاء وتشديدِ الصادِ. والأصلُ في القراءاتِ الثلاثِ: يَخْتَصِمون فأُدْغِمت التاءُ في الصاد، فنافعٌ وابن كثير وهشام نَقَلوا فتحَها إلى الساكنِ قبلَها نَقْلاً كاملاً، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتَها تنبيهاً على أنَّ الخاءَ أصلُها السكونُ، والباقون حَذَفُوا حركتَها، فالتقى ساكنان لذلك، فكسروا أوَّلَهما، فهذه أربعُ قراءاتٍ، قُرِئ بها في المشهور.
ورُوِي عن أبي عمرٍو وقالون سكونُ الخاءِ وتشديدُ الصادِ. والنحاةُ يَسْتَشْكِلونها للجمعِ بَيْن ساكنين على غير حَدَّيْهما. وقرأ جماعةٌ «يِخِصِّمُون» بكسرِ الياءِ والخاءِ وتشديد الصاد وكسروا الياءَ إتباعا. وقرأ أُبَيٌّ «يَخْتَصِمُون» على الأصل. قال الشيخُ: «ورُوِي عنهما - أي عن أبي عمرٍو وقالون - بسكونِ الخاء وتخفيفِ الصاد مِنْ خَصِم».
قلت: هذه هي قراءةُ حمزةَ ولم يَحْكِها هو عنه وهذا يُشْبِهُ قولَه: {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} في البقرةِ [الآية: 20]، و {لاَّ يهدي} في يونس [الآية: 35].
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين:
قوله: {ياويلنا}: العامَّةُ على الإِضافةِ إلى ضمير المتكلمين دون تأنيثٍ. وهو «وَيْل» مضافٌ لِما بعده. ونقل أبو البقاء عن الكوفيين أنَّ «وَيْ» كلمةٌ برأسِها. و «لنا» جارٌّ ومجرور «. انتهى. ولا معنى لهذا إلاَّ بتأويلٍ بعيدٍ: هو أَنْ يكونَ يا عجبُ لنا؛ لأنَّ وي تُفَسَّرُ بمعنى اعجب منا. وابن أبي ليلى:» يا وَيْلتنا «بتاء التأنيث، وعنه أيضاً» يا ويْلتا «بإبدال الياءِ ألفاً. وتأويلُ هذه أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يقول: يا ويلتي.
والعامَّةُ على فتح ميم» مَنْ و «بَعَثَنا» فعلاً ماضياً خبراً ل «مَنْ» الاستفهامية قبلَه. وابن عباس والضحاك، وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرفُ جر. و «بَعْثِنا» مصدرٌ مجرور ب مِنْ. ف «مِنْ» الأولى تتعلَّق بالوَيْل، والثانيةُ تتعلَّقُ بالبعث.
والمَرْقَدُ يجوز أَنْ يكونَ مصدراً أي: مِنْ رُقادِنا، وأن يكونَ مكاناً، وهو مفردٌ أُقيم مُقامَ الجمعِ. والأولُ أحسنُ؛ إذ المصدرُ يُفْرَدُ مطلقاً.
قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ} في «هذا» وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأٌ وما بعده/ خبرُه. ويكونُ الوقفُ تاماً على قوله «مِنْ مَرْقَدِنا». وهذه الجملةُ حينئذٍ فيها وجهان، أحدهما: أنها مستأنفة: إمَّا من قولِ اللَّهِ تعالى، أو مِنْ قولِ الملائكةِ. والثاني: أنها من كلام الكفارِ فتكون في محلِّ نصب بالقول. والثاني من الوجهين الأولين: «هذا» صفةٌ ل «مَرْقَدِنا» و «ما وَعَد» منقطعٌ عَمَّا قبله.
ثم في «ما» وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والخبرُ مقدرٌ أي: الذي وَعَدَه الرحمنُ وصَدَقَ فيه المرسلون حَقٌّ عليكم. وإليه ذهب الزجَّاج والزمخشري. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هذا وَعْدُ الرحمن. وقد تقدَّم لك أولَ الكهف: أنَّ حَفْصاً يقف على «مَرْقَدنا» وَقْفةً لطيفةً دونَ قَطْعِ نَفَسٍ لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّ اسمَ الإِشارةِ تابعٌ ل «مَرْقَدِنا». وهذان الوجهان يُقَوِّيان ذلك المعنى المذكور الذي تَعَمَّد الوقفَ لأجلِه. و «ما» يَصِحُّ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً كما تقدَّم تقريرُه. ومفعولا الوعدِ والصدقِ محذوفان أي: وعَدَناه الرحمن وصَدَقَناه المرسلون. والأصل: صَدَقَنا فيه. ويجوز حَذْفُ الخافض وقد تقدَّم لك نحو «صَدَقني سِنَّ بَكْرِهِ» أي في سِنِّه. وتقدَّم قراءتا «صيحة واحدة» نصباً ورفعاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/290)
 
 
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)
وقوله: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ).
(هذا) رفع بالابتداء، والخبر (مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ)، وهذا قول
المشركين، أعني هذا ما وعد الرحمن، ويجوز أن يكون " هذا " من
نعت مرقدنا على معنى من بَعَثَنا من مَرْقَدِنَا هَذَا الذي كنا راقدين فيه.
ويكون ما وعد الرحمن وصدق المرسلون على ضربين:
أحدهما على إضمار هذا.
والثاني على إضمار حق، فيكون المعنى حق ما وعد الرحمن.
والقول الأول أعني ابتداء هذا عليه التفسير، وهو قول أهل
اللغة.
* * *
 
(إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)
و (إِلَّا صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ) وقد مضى إعْرَابُهما.
(فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ).
فالمعنى إن إهلاكَهُمْ كان بصيحة وبعثهم وَإحْيَاءَهم بصيحة.
* * *
 
(فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
المعنى من جوزي فإنما يجازى بعمله.
* * *
 
(إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)
و (فَاكِهُونَ) تفسيره فرحون.
وجاء في التفسير أَنَّ شُغْلَهُمْ افتضاض الأبكار، وقيل في شغل عما فيه أهل النار، ويقرأ في شُغُل وَشُغْل وَشُغْل وشُغُل. يجوز في العربية.
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)
وظُلَلٍ، ويجوز ظُلُلٍ.
(4/291)
 
 
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
(عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ).
وهي الفرش في الحجال، وَقِيلَ انهَا الفرش، وقيلَ الأسِزةُ.
وهي على الحقيقة الفرش كانت في حجال أو غير حجال.
* * *
 
(لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)
أي ما يَتمَنوْنَ، يقال: فلان في خَيْرِ مَا ادَّعَى، أي ما تمنى، وهو
مأخوذ من الدعاء.
المعنى كل مما يدعو أهلُ الجنةِ يَأتِيهِمْ.
* * *
 
(سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
(سَلَامٌ) بدل من (ما) المعنى لهم ما يتمنون به سلام، أي وهذا
مُنَى أهل الجنة أن يسلِّمَ اللَّه - عزَّ وجلَّ - عَلَيْهم.
و (قَوْلًا) منصوب على معنى لهم سلام يقوله اللَّه - عزَّ وجلَّ - قَوْلاً.
* * *
 
(وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
أي انفردوا عن المؤمنين.
* * *
 
(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)
وتقرأ أعْهِدْ - بالكسر، والفتحُ أكثر، على قولك عَهِدَ يَعْهَدُ.
والكسر يجوز على ضربين:
على عَهدَ يَعْهِدُ، وعلى عهِدَ يَعْهِد مثل حَسِبَ يَحْسِبُ، ومعناه ألم أتقدم إليكم بِعَهْدِ الِإيمان وترك عبادة الشيطان (1).
* * *
 
(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
(جُبْلًّا)
ويقرأ (جِبِلًّا) - بكسر الجيم والباء، ويُقْرأ جُبُلًا - بضم الجيم والباء
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {أَعْهَدْ}: العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ على الأصلِ في حرفِ المضارعة. وطلحة والهذيل بن شرحَبيل الكوفي بكسرِها. وقد تقدَّم أنَّ ذلك لغةٌ في حرفِ المضارعةِ بشروطٍ ذُكرت في الفاتحة وثَمَّ حكايةٌ. وقرأ ابنُ وثَّاب «أَحَّدْ» بحاءٍ مشددةَ. قال الزمخشري: «وهي لغةُ تميمٍ، ومنه» دَحَّا مَحَّا «أي: دَعْها معها، فقُلِبَتْ الهاءُ حاءً ثم العينُ حاءً، حين أُريد الإِدغامُ. والأحسنُ أَنْ يُقال: إنَّ العينَ أُبْدِلَتْ حاءً. وهي لغةُ هُذَيلٍ. فلمَّا أُدْغِم قُلب الثاني للأول، وهو عكسُ بابِ الإِدغامِ. وقد مضى تحقيقُه آخرَ آلِ عمران. وقال ابن خالويه:» وابن وثاب والهذيل «أَلَمْ إعْهَدْ» بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء، وهي على لغةِ مَنْ كسرَ أولَ المضارعِ سوى الياءِ. ورُوي عن ابنِ وثَّاب «اعْهِد» بكسرِ الهاءِ. يُقال: عَهِد وعَهَد «انتهى. يعني بكسر الميم والهمزة أنَّ الأصلَ في هذه القراءةِ أَنْ يكونَ كسرَ حَرْفَ المضارعةِ ثم نَقَلَ حركتَه إلى الميمِ فكُسِرَتْ، لا أنَّ الكسرَ موجودٌ في الميمِ وفي الهمزةِ لفظاً، إذ يَلْزَمُ من ذلك قَطْعُ همزةِ الوصلِ وتحريكُ الميمِ مِنْ غيرِ سبب. وأمَّا كَسْرُ الهاءِ فلِما ذُكِرَ من أنه سُمِعَ في الماضي» عَهَدَ «بفتحها. وقولُه:» سوى الياء «وكذا قال الزمخشريُّ هو المشهورُ. وقد نُقِل عن بعضِ كَلْبٍ أنهم يَكْسِرون الياءَ فيقولون: يِعْلَمُ.
وقال الزمخشري فيه:» وقد جَوَّزَ الزجَّاجُ أن يكون من باب: نَعِمَ يَنْعِمُ، وضَرَب يَضْرِب «يعني أنَّ تخريجَه على أحدِ وجهين: إمَّا الشذوذِ فيما اتَّحذ فيه فَعِل يَفْعِلُ بالكسر فيهما، كنَعِمَ يَنْعِمُ وحَسِب يَحْسِبُ وبَئِسَ يَبْئِسُ، وهي ألفاظٌ عَدَدْتُها في البقرة، وإمَّا أنه سُمِعَ في ماضيه الفتحُ كضَرَبَ، كما حكاه ابنُ خالَوَيْه. وحكى الزمخشري أنه قُرِئ» أَحْهَدْ «بإبدالِ العينِ حاءً، وقد تقدَّم أنها لغةُ هُذَيْلٍ، وهذه تُقَوِّي أنَّ أصلَ» أَحَّد «: أَحْهَد فأُدْغِمَ كما تقدَّم. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/292)
 
 
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
- وتُقْرَأُ جُبْلاً على إسكان الباء وضم الجيم، ويجوز جَبْلًا بفتح الجيم
وَجِبْلًا بكسر الجيم، ويجوز أيْضاً جِبَلاً - بكسر الجيم وفتح الباء بغير
تشديد اللام، على جمع جِبْلَةٍ. وجِبَل، والجِبْلَةُ في جميع ذلك معناه
خليقة كثيرة وخلق كثير (1).
* * *
 
وقوله: (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
المطموس الأعمى الذي لا يُتَبَين له جَفْن. لَا يُرَى شَفْرُ عينه، أي
لو نشاء لأعْميْنَاهُمْ فعدلوا عن الطريق فمن أَيْنَ يُبْصرونَ لو فعَلْنا ذلك
بهم.
* * *
(وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ
 
(67)
(مَكَانَتِهِمْ)
ومكاناتهم، والمكانة والمكانُ في معنىً وَاحدٍ.
(فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ).
أي لم يقدروا على ذَهاب وَلَا مَجِيءٍ.
* * *
 
(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
(نَنْكُسْهُ)
وَ (نُنَكِّسْهُ) وَ (نَنْكِسْهُ)، يقال نكسْتُه أَنْكُسُه وأَنْكِسُهُ جميعاً، ومعناه من
أطَلْنا عُمْرَهُ نَكَّسْنَا خلقَه، فَصَارَ بدلُ القوة ضَعْفَاً وَبَدَلُ الشبَابِ هَرَماً (2).
* * *
 
(وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
أي ما علمنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - قولَ الشِعْرِ.
(وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) أي ما يتسهل له ذلك.
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ).
أي الذي أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -
وزعم الكفار أنه شعر ما هو بشعر.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {جِبِلاًّ}: قرأ نافعٌ وعاصمٌ بكسر الجيم والباء وتشديد اللام. وأبو عمروٍ وابن عامرٍ بضمةٍ وسكونٍ. والباقون بضمتين، واللامُ مخففةٌ في كلتيهما. وابنُ أبي إسحاق والزهري وابن هرمز بضمتين وتشديد اللام. والأعمش/ بكسرتين وتخفيفِ اللام. والأشهب العقيلي واليماني وحمادُ بن سلمة بكسرةٍ وسكون. وهذه لغاتٌ في هذه اللفظةِ. وقد تقدَّم معناها آخرَ الشعراء. وقُرِئ «جِبَلاً» بكسر الجيم وفتح الباء، جمع جِبْلَة كفِطَر جمع فِطْرَة. وقرأ أمير المؤمنين عليٌّ «جِيْلاً» بالياء، مِنْ أسفلَ ثنتان، وهي واضحةٌ.
وقرأ العامة: «أفلَمْ تكونوا» خطاباً لبني آدم. وطلحة وعيسى بياءِ الغَيْبة. والضمير للجِبِلِّ. ومِنْ حَقِّهما أن يَقْرآ {التي كانوا يُوعَدُونَ} لولا أَنْ يَعْتَذِرا بالالتفاتِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين:
قوله: {نُنَكِّسْهُ}: قرأ عاصمٌ وحمزةٌ بضم النون الأولى وفتحِ الثانيةِ وكسرِ الكافِ مشددةً مِنْ نَكَّسَه مبالغةً. والباقون بفتح الأولى وتسكين الثانيةِ وضمِّ الكافِ خفيفةً، مِنْ نَكَسَه، وهي محتملةٌ للمبالغة وعَدَمِها.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/293)
 
 
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)
وَلَيسَ يوجب هذا أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتمثل ببيت شعر قط.
إنما يوجب هذا أن يكون النبي عليه السلام ليس بشاعر، وأن يكون القرآن الذي أتى به من عند اللَّه، لإنه مُبَاين لكلام المخلوقين وأوزان أشعار
العرب، والقرآن آية مُعجزة تدل على أن نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وآياته ثابتة أبداً.
* * *
 
وقوله: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
يجوز - أن يكون المضمر في قوله (لِيُنْذِرَ) النبي عليه السلام.
وجائز أن يكون القرآن
ومعنى: (مَنْ كَانَ حَيًّا).
أي من كان يعقل ما يخاطب به، فإن الكافِرَ كالميِّت في أنه لم
يتدبَّرْ فَيَعْلَمَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به حق.
(وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ).
ويجوزُ (وَيَحُقَّ القَوْلَ)، أي يوجب الحجة عليهم.
ويجوز ُ لِتُنْذِر من كان حيًّا - بالتاء - خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم.
ويجوز لِينْذَرَ أَيْ لِيَعْلَمَ، يقال نَذِرْتُ بكذا وكذا، أَنْذَرُ مثل عَلِمْتُ أَعْلَمُ.
* * *
 
وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)
معنى (مَالِكُونَ)، ضابطون، لأن القَصْدَ ههنا إلى أنها ذليلة لَهُمْ
ألا ترى إلى قوله (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ)
ومثله مِنَ الشعر:
(4/294)
 
 
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
أصبحت لا أحمل السلاح ولا. . . أملِكُ رأسَ البعير إن نفرا
أي لا أضبط رأس البعير.
* * *
 
وقوله: (فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)
معناه مَا يَرْكبُون، والدليل قراءة من قرأ (فَمِنْهَا رَكُوبَتُهُمْ)
ويجوز رُكُوبُهم - بضم الراء ولا أعلم أحداً قرأ بها، على معنى فمنها رُكُوبُهم وأكلُهُم وَشُرْبُهُمْ (1).
* * *
 
(لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)
أي هم للأصنام ينتصرون، والأصنام لا تستطيع نصرهم.
* * *
 
وقوله (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
جاء في التفسير أن أُبَيَّ بن خَلَفٍ جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعظم بَالٍ " ففركه ثم ذَرَّاهُ، وقال مَنْ يحيي هذا؟
فكان جوابه: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ).
فابتداء القُدْرَةِ فيه أَبَينُ منها في الإعادة.
ويقال إن عبد اللَّه بن أْبي كان صاحب القصةِ؛ ويقال العاص بن وائل. وأعْلَمهم أن خلق السَّمَاوَات والأرض أبلغ في القدرة، وعلى إحياء الموتى فقال:
(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)
وقال في موضع آخر: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ).
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {رَكُوبُهُمْ}: أي: مَرْكوبهم كالحَلُوب والحَصُور بمعنى المَفْعول وهو لا ينقاسُ. وقرأ أُبيٌّ وعائشة «رَكوبَتُهم» بالتاء. وقد عَدَّ بعضُهم دخولَ التاءِ على هذه الزِّنَةِ شاذًّا، وجعلهما الزمخشري: في قولِ بعضِهم جمعاً يعني اسمَ جمع، وإلاَّ فلم يَرِدْ في أبنيةِ التكسير هذه الزِّنَة. وقد عَدَّ ابنُ مالك أيضاً أبنيةَ أسماءِ الجموع، فلم يذكُرْ فيها فَعُولة. والحسن وأبو البرهسم والأعمش «رُكوبُهم» بضم الراء، ولا بدَّ من حذف مضاف: إمَّا من الأولِ، أي: فمِنْ منافعها رُكوبُهم، وإمَّا من الثاني، أي: ذو ركوبِهم. قال ابن خالويه: «العربُ تقول: ناقَةٌ رَكُوْبٌ ورَكُوْبَةٌ، وحَلُوب وحَلُوْبَة، ورَكْباةٌ حَلْباةٌ، ورَكَبُوْتٌ حَلَبُوْت، ورَكَبى حَلَبى، ورَكَبُوْتا حَلَبُوْتا [ورَكْبانَةٌ حَلْبانَة]» وأنشد:
3788 رَكْبانَةٍ حَلْبَانَةٍ زَفُوْفِ. . . تَخْلِطُ بينَ وَبَرٍ موصُوْفِ
والمَشارِبُ: جمع مَشْرَب بالفتح مصدراً أو مكاناً. والضمير في «لا يَسْتَطيعون» إمَّا للآلهةِ، وإمَّا لعابديها. وكذلك الضمائرُ بعده.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/295)
 
 
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
وقال: (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
معناه تنزيه اللَّه من السوء ومن أن يوصف بغير القدرة، الذي
بيده ملكوت كل شىء أى القدرة على كل شيء.
(وإليه تُرْجَعُونَ).
وَتَرْجِعُونَ أي هوْ يبعثكم بعد موتكم.
(4/296)
 
 
إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)
سُورَةُ وَالصَّافَّاتِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
قوله عزَّ وجلَّ: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)
أكثر القراءة تبيين التاء، وقد قرئت على إدغام التاء في الصادِ.
وكذلك (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)
فإن شئت أدْغمت التاء في الزاي، وإن شئت بَيَّنْتَ، وكذلك
(فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)
 
(إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)
أقسم بهذه الأشياء - عزَّ وجلَّ - أنَّه وَاحِدْ.
وقيل معناه ورَبِّ هذه الأشياء إنه وَاحد.
وتفسير الصافات أنها الملائكة، أي هم مطيعون في السماء
يسبحون اللَّه - عزَّ وجلَّ - فَالزاجِراتُ، رُوِيَ أن الملائكةَ تزجر
السحاب، وقيل: (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) كل مَا زَجَرَ عَنْ مَعْصِية اللَّه.
(فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً).
قيل الملائكةُ، وجائز أن يكون الملائكة وغيرهم أيضاً مِمنْ يَتْلُونَ
ذِكْرَ اللَّه (1).
__________
(1) قال السَّمين:
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: {والصافات صَفَّا}: قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغامِ التاء من الصافَّاتِ، والزَّاجراتِ والتاليات، في صاد «صَفَّاً» وزاي «زَجْراً» وذال «ذِكْراً»، وكذلك فَعَلا في {والذاريات ذَرْواً} [الذاريات: 1] وفي {فالملقيات ذِكْراً} [المرسلات: 5] وفي {العاديات ضَبْحاً} [العاديات: 1] بخلافٍ عن خلاَّد في الأخيرين. وأبو عمروٍ جارٍ على أصلِه في إدغام المتقاربَيْن كما هو المعروفُ مِنْ أصلِه. وحمزةُ خارجٌ عن أصلِه، والفرقُ بين مَذْهَبَيْهما أنَّ أبا عمرٍو يُجيز الرَّوْمَ، وحمزةَ لا يُجيزه. وهذا كما اتفقا في إدغام {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ} في سورة النساء [الآية: 81]، وإن كان ليس من أصلِ حمزةَ إدغامُ مثلِه. وقرأ الباقون بإظهار جميعِ ذلك.
ومفعولُ «الصَّافَّات» و «الزَّاجراتِ» غيرُ مرادٍ؛ إذ المعنى: الفاعلات لذلك. وأعرب أبو البقاء «صَفَّاً» مَفْعولاً به على أنه قد يَقَعُ على المصفوفِ. قلت: وهذا ضعيفٌ. وقيل: هو مرادٌ. والمعنى: والصافاتِ أنفسَها وهم الملائكةُ أو المجاهدون أو المُصَلُّون، أو الصافَّاتِ أجنحتَها وهي الطيرُ، كقوله: {والطير صَآفَّاتٍ} [النور: 41]، والزاجراتِ السحابَ أو العُصاةَ إنْ أُريد بهم العلماءُ. والزَّجْرُ: الدَّفْعُ بقوةٍ وهو قوةُ التصويتِ. وأنشد:
3789 زَجْرَ أَبي عُرْوَةَ السِّباعَ إذا. . . أشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بالغَنَم
وزَجَرْتُ الإِبِلَ والغنمَ: إذا فَزِعَتْ مِنْ صوتِك. وأمَّا «والتاليات» فَيجوز أَنْ يكونَ «ذِكْراً» مفعولَه. والمرادُ بالذِّكْر: القرآنُ وغيرُه مِنْ تسبيحٍ وتحميدٍ. ويجوز أَنْ يكونَ «ذِكْراً» مصدراً أيضاً مِنْ معنى التاليات. وهذا أوفقُ لِما قبلَه. قال الزمخشري: «الفاءُ في» فالزَّاجراتِ «» فالتالياتِ «: إمَّا أَنْ تدلَّ على ترتُّبِ معانيها في الوجودِ كقولِه:
3790أيا لَهْفَ زَيَّابةَ للحارثِ الصَّا. . . بحِ فالغانِمِ فالآيِبِ
كأنه قال: الذي صَبَحَ فغَنِمَ فآبَ، وإمَّا على ترتُّبهما في التفاوتِ من بعضِ الوجوه، كقوله: خُذِ الأفضلَ فالأكملَ، واعمل الأحسنَ فالأجملَ، وإمَّا على ترتُّبِ موصوفاتِها في ذلك كقولك:» رَحِمَ اللَّهُ المَحَلِّقين فالمقصِّرين «فأمَّا هنا فإنْ وحَّدْتَ الموصوفَ كانت للدلالةِ على ترتُّبِ الصفات في التفاضُلِ. فإذا كان الموحَّدُ الملائكةَ فيكون الفضلُ للصفِّ ثم للزَّجْرِ ثم للتلاوةِ، وإمَّا على العكس. وإنْ ثَلَّثْتَ الموصوفَ فترتَّبَ في الفضل، فتكون الصافَّاتُ ذواتَ فضلٍ، والزاجراتُ أفضلَ، والتالياتُ أَبْهَرَ فضلاً، أو على العكس» يعني بالعكس في الموضعين أنك ترتقي من أفضلَ إلى فاضلٍ إلى مَفْضولٍ، أو يُبْدَأُ بالأدنى ثم بالفاضل ثم بالأفضل.
والواوُ في هذه للقسمِ، والجوابُ/ قولُه: {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ}. وقد عَرَفْتَ الكلامَ في الواوِ الثانيةِ والثالثةِ: هل هي للقسمِ أو للعطف؟. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/297)
 
 
دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)
(رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
قيل المشارق ثلاثمائة وستون مشرقاً، ومثلها مِنَ المَغَاربِ.
* * *
 
(إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)
(بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ)
على إضافة الزينة إلى الكواكب، وعلى هذا أكثرُ القِراءَةِ، وقد
قرئت بالتنوين وَخَفْضِ الْكَوَاكِبِ، والمعنى أن الكَواكِبَ بدل من
الزينة.
المعنى إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب، ويجوز بِزِينةٍ الكَواكِبَ.
وهي أقل ما في القراءة على معنى بأن زينا الكَواكِبَ.
ويجوز أن يكون الكواكب في النصْبِ بَدَلاً من قوله بزينةٍ، لأن " بِزينةٍ "
في موضع نصب، ويجوز بزينةٍ الكواكبُ.
ولا أَعْلَمُ أَحَداً قرأ بها، فلا تقرأن بها.
إلا أن ثبتت بها رواية، لأن القراءة سنة.
ورفع الكواكب على معنى أنا زينا السماء الدنيا بأن زَينتها الكواكبُ.
وبأن زُيِّنَتِ الكَوَاكِبُ (1).
* * *
 
وقوله: (وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
على معنى وحفظناها من كل شيطانٍ مَارِدٍ، على معنى وَحَفِظْناها
حِفظاً من كل شيطان مارد.
يُقْذَفونَ بها إذا استرقوا السَّمعَ.
* * *
 
(لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)
(لَا يَسْمَعُونَ)
ويقرأ بالتشديد (يَسَّمَّعُونَ) على معنى يتسمَّعُونَ (2).
* * *
(وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا)
أي يُدْحَرُونَ أي يُبَاعَدُونَ.
 
(وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {بِزِينَةٍ الكواكب}: قرأ أبو بكر بتنوين «زينة» ونصب «الكواكب» وفيه وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ الزينةُ مصدراً، وفاعلُه محذوفٌ، تقديره: بأنْ زَيَّنَ اللَّهُ الكواكبَ، في كونِها مضيئةً حَسَنةً في أنفسها. والثاني: أنَّ الزينةَ اسمٌ لِما يُزان به كاللِّيْقَةِ: اسمٌ لِما تُلاقُ به الدَّواةُ، فتكون «الكواكبُ» على هذا منصوبةً بإضمارِ «أَعْني»، أو تكون بدلاً مِنْ سماء الدنيا بدلَ اشتمالٍ أي: كواكبها، أو من محل «بزينة».
وحمزةُ وحفصٌ كذلك، إلاَّ أنهما خَفَضا الكواكب على أنْ يُرادَ بزينة: ما يُزان به، والكواكب بدلٌ أو بيانٌ للزينة.
والباقون بإضافةِ «زينة» إلى «الكواكب». وهي تحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدها: أَنْ تكونَ إضافةَ أعمَّ إلى أخصَّ فتكونَ للبيان نحو: ثوبُ خَزّ. الثاني: أنها مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه أي: بأن زَيَّنَتِ الكواكبُ السماءَ بضوئِها. والثالث: أنه مضافٌ لمفعولِه أي: بأَنْ زَيَّنها اللَّهُ بأَنْ جَعَلها مشرِقةً مضيئةً في نفسِها.
وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوينها، ورفعِ الكواكب. فإنْ جَعَلْتَها مصدراً ارتفع «الكواكب» به، وإنْ جَعَلْتَها اسماً لِما يُزان به فعلى هذا ترتفع «الكواكبُ» بإضمار مبتدأ أي: هي الكواكبُ، وهي في قوة البدلِ. ومنع الفراءُ إعمالَ المصدرِ المنوَّن. وزعمَ أنه لم يُسْمَعْ. وهو غلَطٌ لقولِه تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ} [البلد: 14] كما سيأتي إن شاء الله. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
 
(2) قال السَّمين:
قوله: {لاَّ يَسَّمَّعُونَ}: قرأ الأخَوان وحفصٌ بتشديد السين والميم. والأصل: يَتَسَمَّعون فأدغم. والباقون بالتخفيف فيهما. واختار أبو عبيد الأُوْلى وقال: «لو كان مخففاً لم يتعَدَّ ب» إلى «. وأُجيب عنه: بأنَّ معنى الكلامِ: لا يُصْغُون إلى الملأ. وقال مكي:» لأنه جرى مَجْرى مُطاوِعِه وهو يتَسَمَّعُون، فكما كان تَسَمَّع يتعدَّى ب «إلى» تَعَدَّى سَمِع ب «إلى» وفَعِلْتُ وافتعلْتُ في التعدِّي سواءٌ، فَتَسَمَّع مطاوع سمعَ، واستمع أيضاً مطاوع سَمِع فتعدَّى سَمِعَ تعدِّيَ مطاوعِه «.
وهذه الجملةُ منقطعةٌ عَمَّا قبلها، ولا يجوزُ فيها أَنْ تكونَ صفةً لشيطان على المعنى؛ إذ يصير التقدير: مِنْ كلِّ شيطانٍ ماردٍ غيرِ سامعٍ أو مستمعٍ. وهو فاسدٌ. ولا يجوزُ أيضاً أَنْ تكونَ جواباً لسؤال سائلِ: لِمَ تُحْفَظُ من الشياطين؟ إذ يَفْسُد معنى ذلك. وقال بعضهم: أصلُ الكلامِ: لئلا يَسْمَعوا، فَحُذِفت اللامُ، وأَنْ، فارتفع الفعلُ. وفيه تَعَسُّفٌ. وقد وَهِم أبو البقاء فجوَّزَ أَنْ تكون صفةً، وأنْ تكونَ حالاً، وأنْ تكونَ مستأنفةً، فالأولان ظاهرا الفسادِ، والثالثُ إن عنى به الاستئنافَ البيانيَّ فهو فاسدٌ أيضاً، وإنْ أرادَ الانقطاعَ على ما قَدَّمْتُه فهو صحيحٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/298)
 
 
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
قيل دائم وقيل موجع.
* * *
 
(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
(إِلَّا مَنْ خَطِفَ) - بفتحِ الطاء وكسرها، يقال خَطِفْتُ أَخْطَفُ.
وخطَفْتُ أَخْطِفُ، إذا أخذت الشيء بسرعة، ويجوز إلا من خَطَّفَ
بتشديد الطاء وفتح الخاء. ويجوز خِطَفَ. بكسر الخاء وفتح الطاء.
والمعنى اختطف، فأدغمت التاء في الطاء وسقطت الألف لحركة
الخاء، فمن فتح الخاء ألقى عليها فتحة التاء التي كانت في اختطف.
ومن كسر فلسكونها وسكون الطاء.
فأما مَنْ روى خِطِفَ الخطفة - بكسرالخاء والطاء - فلا وجه له إلا وجهاً ضعيفاً جداً يكون على اتباع الطاء كسر الخاء (1).
* * *
(فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ).
يقال تَبِعْتهُ وَأَتْبَعْتهُ، واتَّبَعْتُه، إذا مَضَيْتُ في أثره.
و (شِهَابٌ ثَاقِبٌ) كوكب مُضَيءٌ.
* * *
 
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
أي سَلْهم سؤال تَقْرِيرٍ.
(أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا) من الأمم السالفة قبلهم وغيرهم من
السماوات والأ رضين.
(مِنْ طِينٍ لَازِبٍ).
ولازم ومعناهما واحد، أي لازق (2).
* * *
 
(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
وتقرأ (عَجِبْتُ) - بضم التاء - ومعناه في الفتح بل عجبتَ يَا مُحمد
مِن نُزُول الوحي عليك وَيَسْخَرون، ويجوز أن يكون معناه بل عجبتُ (3)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه مرفوعُ/ المحلِّ بدلاً مِنْ ضميرِ «لا يَسَّمَّعون» وهو أحسنُ؛ لأنه غيرُ موجَب. والثاني: أنه منصوبٌ على أصلِ الاستثناء. والمعنى: أنَّ الشياطينَ لا يَسمعون الملائكةَ إلاَّ مَنْ خَطِف. قلت: ويجوز أَنْ تكون «مَنْ» شرطيةً، وجوابُها «فَأَتْبَعَه»، أو موصولةً وخبرُها «فَأَتْبَعَه» وهو استثناءٌ منقطعٌ. وقد نَصُّوا على أنَّ مثلَ هذه الجملةِ تكونُ استثناءً منقطعاً كقوله: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ} [الغاشية: 22 - 23]. والخَطْفَةُ مصدرٌ معرفٌ بأل الجنسية أو العهدية.
وقرأ العامَّةُ «خَطِفَ» بفتح الخاء وكسرِ الطاءِ مخففةً. وقتادة والحسن بكسرهما وتشديد الطاء، وهي لغةُ تميمِ بنِ مُرّ وبكرِ بن وائل. وعنهما أيضاً وعن عيسى بفتح الخاء وكسر الطاء مشددةً. وعن الحسن أيضاً خَطِفَ كالعامَّة. وأصل القراءَتَيْن: اخْتَطَفَ، فلمَّا أُريد الإِدغامُ سَكَنت التاءُ وقبلها الخاءُ ساكنةً، فكُسِرت الخاءُ لالتقاءِ الساكنين، ثم كُسِرت الطاءُ إتْباعاً لحركةِ الخاء. وهذه واضحةٌ. وأمَّا الثانية فمُشْكِلَةٌ جداً؛ لأنَّ كَسْرَ الطاء إنما كان لكسرِ الخاء وهو مفقودٌ. وقد وُجِّه على التوهُّم. وذلك أنهم لَمَّا أرادوا الإِدغام نقلوا حركة التاء إلى الخاء ففُتِحَتْ وهم يتوهَّمون أنها مكسورةٌ لالتقاءِ الساكنين كما تقدَّم تقريرُه، فأتبعوا الطاءَ لحركةِ الخاءِ المتوهَّمة. وإذا كانوا قد فَعَلوا ذلك في مقتضياتِ الإِعرابِ فَلأَنْ يَفْعلوه في غيرِه أَوْلَى. وبالجملة فهو تعليلُ شذوذٍ.
وقرأ ابن عباس «خَطِفَ» بكسر الخاء والطاء خفيفةً، وهو إتْباعٌ كقولِهم: نِعِمَ بكسر النون والعين. وقُرئ «فاتَّبَعَه» بالتشديد. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين:
قوله: {أَم مَّنْ خَلَقْنَآ}: العامَّةُ على تشديدِ الميم، الأصلُ: أم مَنْ وهي أم المتصلةُ، عُطِفَتُ «مَنْ» على «هم». وقرأ الأعمش بتخفيفها، وهو استفهامٌ ثانٍ. فالهمزةُ للاستفهام أيضاً و «مَنْ» مبتدأ، وخبره محذوفٌ أي: ألذين خَلَقْناهم أشدُّ؟ فهما جملتان مستقلتان وغَلَّبَ مَنْ يَعْقل على غيره فلذلك أتى ب «مَنْ». ولازِبٌ ولازِمٌ بمعنىً. وقد قُرئ «لازم». اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3) قال السَّمين:
قوله: {بَلْ عَجِبْتَ}: قرأ الأخَوان بضمِّ التاء، والباقون بفتحها. فالفتحُ ظاهرٌ. وهو ضميرُ الرسولِ أو كلِّ مَنْ يَصِحُّ منه ذلك. وأمَّا الضمُّ فعلى صَرْفِه للمخاطب أي: قُلْ يا محمدُ بل عَجِبْتُ أنا، أو على إسنادِه للباري تعالى على ما يَليقُ به، وقد تقدَّم تحريرُ هذا في البقرة، وما وَرَدَ منه في الكتاب والسنَّة. وعن شُرَيْحٍ أنه أنكرها، وقال: «إنَّ الله لا يَعْجَبُ» فبلغَتْ إبراهيمَ النخعي فقال: «إن شريحاً كان مُعْجَباً برأيه، قرأها مَنْ هو أعلمُ منه» يعني عبد الله بن مسعود.
قوله: «ويَسْخَرون» يجوزُ أَنْ يكونَ استئنافاً وهو الأظهرُ، وأن يكونَ حالاً. وقرأ جناح بن حبيش «ذُكِروا» مخففاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/299)
 
 
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
من إنكارِهم البعث.
ومن قرأ (عَجِبتُ) فهو إخبار عن اللَّه. وقد أنكر قومٌ هَذهِ القراءةَ.
وقالوا: اللَّه - عزَّ وجلَّ - لا يعجب، وإنكارهم هذا غلط.
لأن القراءة والرواية كثيرة والعجب من اللَّه - عزَّ وجلَّ - خلافُهُ من
الآدميين كما قال: (وَيَمْكُرُ اللَّهُ)، و (سَخِرَ اللَّهُ منهم)، (وَهُوَ خَادِعُهُمْ). والمكر من اللَّه والخداع خلافه من الآدميين.
وأصل العجب في اللغة أن الإنسان إذا رأى ما ينكره ويقل مثله قال:
عجبت من كذا وكذا، وكذا إذا فعل الآدميون ما ينكره اللَّه جاز أن يقولَ فيه عجبتُ واللَّه قد علم الشيء قبل كونه، ولكن الإنكار إنما يقع والعجب
الذي يلزم به الحجة عند وقوع الشيء.
* * *
 
(وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
أي إذا رأوا آية معجزة استسخروا واستهزأوا.
* * *
 
(وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
فجعلوا ما يدل على التوحيد مِما يَعجِزون عنه سحراً.
نحو انشقاق القَمَر وما أشبهه.
* * *
 
وقوله: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16)
ويجوز (إِنَّا)، فمن قرأ (إِنَّا) اجتزأ - بألف الاستفهام.
والمعنى في الوجهين أَنُبْعَثُ إذا كنا تراباً وعظاماً، وتفسيره لمبعوثون.
* * *
 
(قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
(4/300)
 
 
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)
المعنى قل نعم تُبْعَثُونَ وَأَنْتُم صَاغرُونَ، ثم فسر أن بعثهم يقع
بزجرة واحدة بقوله:
 
(فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
أي يحيون ويبعثون بُصَرَاءَ ينظرون.
* * *
 
(وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)
والويل: كلمة يقولها القائل وقت الهلكة.
ومعنى (هَذَا يَوْمُ الدِّينِ).
يوم الجزاء، أي يَومٌ نُجازى فيه بأعمالنا، فلما قالوا هذا يوم
الدين قيل لهم نعم:
 
(هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
أي هذا يوم يفصل فيه بين المحسن والمسيء، ويجازى كل
بعَمَلِه، وبما يتفضل اللَّه به على المسلم.
* * *
 
(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)
معناه ونظراءهم وضرباءهم، تقول عندي من هذا أزواج، أي
أمثال، وكذلك زوجان من الخفاف، أي كل واحد نظير صاحبه.
وكذلك الزوج المرأة والزوج الرجل، وقد تناسبا بعقد النكاح.
وكذلك قوله: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58).
* * *
 
(فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)
يقال: هديت الرجل إذا دللته، وهديت العروس إلى زوجها.
وأهديت الهديَّة، وكذلك تقول في العروس: أهديتها إذا جعلتها
كالهديَّة.
(4/301)
 
 
فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)
وقوله: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
أي احبسوهم.
* * *
 
(مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)
قوله: (لَا تَنَاصَرُونَ) في موضع نصب على الحال، المعنى ما لكم
غير مَتَنَاصِرين.
* * *
 
(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)
أي يُسَائِلُ بعضُهم بعضاً.
* * *
 
(قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)
هذا قول الكفار للذين أضلوهم. كنتم تخدعوننا بأقوى
الأسباب، أي كنتم تأتوننا من قبل الدِّين فَتُرُوننا أن الدِّينَ والحقَّ ما
تضلوننا به [وتُزَيِّنُون لنا ضلالتنا] (1).
* * *
 
(قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)
أي إنما الكفْرُ مِنْ قِبَلِكُمْ.
* * *
 
(فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)
حِقت علينا كلمة العذاب.
(إِنَّا لَذَائِقُونَ).
أي إن الجماعة، المضِل والضال في النارِ.
* * *
 
(فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)
__________
(1) زيادة حكاها صاحب اللسان عن الزجاج. اهـ (لسان العرب. 13/ 458).
(4/302)
 
 
لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)
أي أضْلَلْنَاكُمْ إنا كنا غَاوينَ ضَالين.
* * *
 
(إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)
المجرمون المشركون خاصة.
* * *
 
(إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)
يعني عن توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ، وألَّا يَجْعَلُوا الأصْنَامَ آلِهة.
* * *
 
(يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)
الكأس الإناء إذا كانت فيه خمر فهو كأس، ويقَعُ الكأسُ لكلِ إناء مع
شَرَابِهِ [فإن كان فارغاً فليس بكأس] (1).
(مِنْ مَعِينٍ).
أي من خمر تجري كما يجري الماء عَلَى وجه الأرض مِنَ العُيُونِ.
* * *
 
(بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)
أي ذَاتَ لَذةٍ.
* * *
 
(لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)
لا تغْتَالُه عُقُولَهُم، لا تذْهبُ بِها، ولا يُصِيبهُم منها وجع.
(وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ).
(يُنْزِفُونَ) - بفتح الزاي وكسرها.
فمن قرأ " يُنْزَفُونَ " فالمعنى لَا تَذْهَبُ عقولهم بشربها، يقال للسكران نزيف ومنزوف.
ومن قرأ يُنْزِفونَ، فمعناه لا يُنْفِدُونَ شَرابَهم، أي هو دائم أبداً لهم.
ويجوز أن يكون يُنْزِفُونَ يَسْكَرُونَ.
قال الشاعر:
__________
(1) زيادة حكاها ابن الجوزي عن الزَّجَّاج. اهـ (زاد المسير. 7/ 56).
(4/303)
 
 
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)
لَعَمْرِي لئنْ أَنْزَفْتُمُ أَو صَحَوتُمُ. . . لبئسَ النَّدامَى كنتمُ آلَ أَبْجَرا
* * *
 
(وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)
أي عندهم حُورٌ قد قصرن طرفَهن أي عُيونَهُن عَلَى أَزْوَاجِهِن.
(عِينٌ) كِبَارُ الأعَيْنِ حِسَانُها. الواحدة عيناء.
* * *
 
(كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
أي كأنَّ ألوانهن ألوانُ بيض النعَامِ.
(مَكْنون)، الذي يكِنه رَأْسُ النعَامِ.
ويجوز أن يكون مكنون مَصُون، يقال كننت الشيء إذا سترته، وصُنْتَهُ، فهو
مَكْنونٌ، وأكْنَنْتَهُ إذَا أَضْمَرْتَه في نفسك.
* * *
 
(يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)
(الْمُصَدِّقِينَ)
مخففة من صَدَّقَ فهو مُصَدِّق، ولا يجوز ههنا تشديد الصاد، لأن
المصَّدِّقين الذين يعطون الصدقة.
و (الْمُصَدِّقِينَ) الذين لا يُكذِبون، فالمعنى كان لي قرين يقول أئنك مِمن يُصَدِّق بالبعْث بَعدَ أن تَصِيرَ تُراباً وعظاماً، فأحبَّ
قرينُه المسلم أن يراه بعد أن قيل له: (هَلْ أنتُم مُطَّلِعُونَ).
أي هل تحبون أن تطلِعُوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار.
* * *
 
(فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)
فاطلع المسلم فرأى قرينه الذي كان يكذب بالبعث في سَواء الجحيم.
أي في وسط الجحيم، وسواءكل شيء وسَطُه.
ويقرأ: هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعُونَ - بفتح النون وكسرها وتخفيف الطاء -
فمن فتح النُونَ مع التخفيف فقال " مُطْلِعُونَ " فهو بمعنَى طَالِعُون ومُطلِعُونَ، يقال طلعت عليهم وأطْلَعْتُ واطَّلَعْتُ بمعنًى
ومن قرأ مُطْلِعُون - بكسر النون قرأ " فَأُطْلِعَ " ومن قرأ بفَتْح النونِ
" مُطْلِعُونَ " وجب أن يقرأ فأُطْلَعَ.
ويجوز ُ " فَأُطْلِعَ " على معنى هل أنتم مُطْلِعُونَ
(4/304)
 
 
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)
أَحَداً، فأمَّا الكسر للنون فهو شاذ عند البصريين والكوفيين جميعاً وله عند
الجماعة وجه ضعيف وقد جاء مثله في الشعر:
هم القائلون الخير والأمرونه. . . إذا ما خَشَوْا مِن مُحَدث الأمرْ معظما
وأنشدوا:
وما أدري وظني كل ظَني. . . أَمُسْلِمُني إلى قومي شَرَاحِ
والذي أَنْشَدَنَيه محمد بن يزيد: أَيُسْلَمِنُي إلى قومي، وإنما الكلام
أمُسْلِمِي وَأَيُسْلِمُنِي، وكذلك هم القائلون الخير والأمروه، وكل أسماء الفاعلين إذا ذكرت بعدها المضمر لم تذكر النون ولا التنوين.
تقول: زَيْد ضَارِبي وهما ضارباك ولا يجوز وهو ضاربُني، ولا هم ضاربونك. ولا يجوز هم ضاربونك عندهم إلا في الشعر إلا أنه قد قُرِئ بالكسر:
(هلْ أَنْتُم مُطلِعُون) على معنى مطلعوني، فحذفت الياء كما تحذف في رؤوس الآي، وبقيت الكسرة دليلاً عليها.
وهو في النحو - أعني كسر النون - على مَا أَخْبَرْتُكَ، والقراءة قليلة
بها، وأجودُ القراة وأكثرها مُطَّلِعُونَ - بتشديد الطاء وفتح النون - ثم الذي يليه مُطْلِعُونِ بتخفيف الطاء وفتح النون (1).
* * *
 
(قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)
__________
(1) قال السَّمين:
وقرأ العامَّةُ «مُطَّلِعُوْنَ» بتشديد الطاءِ مفتوحةً وبفتح النونِ. «فاطَّلَع» ماضياً مبنياً للفاعل، افْتَعَلَ من الطُّلوع.
وقرأ ابنُ عباس في آخرين - ويُرْوَى عن أبي عمروٍ - بسكونِ الطاءِ وفتح النون «فأُطْلِعَ» بقطعِ همزةٍ مضمومةٍ وكسرِ اللامِ ماضياً مبنياً للمفعول. و «مُطْلِعُوْنَ» على هذه القراءةِ يحتمل أَنْ يكونَ قاصراً أي: مُقْبِلون مِنْ قولِك: أَطْلَعَ علينا فلانٌ أي: أَقْبَلَ، وأَنْ يكونَ متعدياً، ومفعولُه محذوفٌ أي: أصحابَكم.
وقرأ أبو البرهسم وعَمَّار بن أبي عمار «مُطْلِعُوْنِ» خفيفةَ الطاء مكسورةَ النونِ، «فَأُطْلِعَ» مبنياً للمفعول. وقد رَدَّ الناسُ - أبو حاتم وغيرُه - هذه القراءةَ من حيث الجمعُ بين النونِ وضميرِ المتكلم؛ إذ كان قياسُها مُطْلِعيَّ، والأصل: مُطْلِعُوْي، فأُبْدِل وأُدْغِمَ نحو: جاء مُسْلِميَّ العاقلون، وقوله عليه السلام «أوَ مُخْرِجِيَّ هم» وقد وَجَّهها ابنُ جني على أنَّه أُجْرِيَ فيها اسمُ الفاعل مُجْرى المضارع، يعني في إثباتِ النونِ فيه مع الضميرِ. وأَنْشَدَ الطبريُّ على ذلك:
3806 وما أَدْري وظَنِّي كلَّ ظنِّ. . . أمُسْلِمُنِي إلى قومي شُراح
/وإليه نحا الزمخشريُّ قال: «أو شَبَّه اسمَ الفاعلِ في ذلك بالمضارعِ لتآخي بينِهما كأنَّه قال:» يُطْلِعُونِ «. وهو ضعيفٌ لا يقع إلا في شِعْرٍ. وذكر فيه توجيهاً آخر فقال:» أراد مُطْلِعونَ إياي فوضع المتصلَ موضعَ المنفصلِ، كقوله:
3807 هم الفاعلونَ الخيرَ والآمِرُوْنَه. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورَدَّه الشيخ: بأنَّ هذا ليس مِنْ مواضِع المنفصلِ حتى يَدَّعِيَ أن المتصلَ وَقَعَ موقِعَه. لا يجوز: «هندُ زيدٌ ضاربٌ إياها، ولا زيدٌ ضارِبٌ إياي» قلت: إنما لم يَجُزْ ما ذَكَرَ؛ لأنه إذا قُدِرَ على المتصلِ لم يُعْدَلْ إلى المنفصلِ. ولقائلٍ أَنْ يقولَ: لا نُسَلِّمُ أنه يُقْدَرُ على المتصلِ حالةَ ثبوتِ النونِ والتنوينِ قبل الضميرِ، بل يصيرُ الموضعُ موضعَ الضميرِ المنفصلِ؛ فيَصِحُّ ما قاله الزمخشريُّ. وللنحاةِ في اسمِ الفاعلِ المنونِ قبل ياءِ المتكلمِ نحوَ البيتِ المتقدمِ، وقولِ الآخر:
3808 فهَلْ فتىً مِنْ سَراةِ القَوْمِ يَحْمِلُني. . . وليس حامِلَني إلاَّ ابنُ حَمَّالِ
وقول الآخر:
3809 وليس بمُعْيِيْنِيْ وفي الناسِ مُمْتِعٌ. . . صَديقٌ إذا أعْيا عليَّ صديقُ
قولان، أحدُهما: أنَّه تنوينٌ، وأنه شَذَّ تنوينُه مع الضميرِ، وإنْ قلنا: إن الضمير بعده في محلِّ نصبٍ. والثاني: أنه ليس تنويناً، وإنما هو نونُ وقايةٍ. واستدلَّ ابنُ مالكٍ على هذا بقولِه:
وليس بمُعْيِيْني. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وبقوله أيضاً:
3810 وليس المُوافِيني لِيُرْفَدَ خائباً. . . فإنَّ له أَضْعافَ ما كان أمَّلا
ووَجْهُ الدلالةِ من الأول: أنَّه لو كان تنويناً لكان ينبغي أن يحذفَ الياءَ قبلَه؛ لأنه منقوصٌ منونٌ، والمنقوص المنونُ تُحذف ياؤه رفعاً وجَرَّاً لالتقاء الساكِنَيْن.
ووجهُها من الثاني: أنَّ الألفَ واللامَ لا تُجامِعُ النونَ والذي يُرَجِّح القولَ الأولَ ثبوتُ النونِ في قوله: «والآمِرُوْنَه» وفي قولِه:
3811 ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مَحْتَضِرُونَه. . . جميعاً وأَيْدي المُعْتَفِيْنَ رواهِقُهْ
فإنَّ النونَ قائمةٌ مقامَ التنوينِ تثنيةً وجمعاً على حَدِّها. وقال أبو البقاء: «ويُقْرأ بكسرِ النونِ، وهو بعيدٌ جداً؛ لأنَّ النونَ إنْ كانت للوقايةِ فلا تَلْحَقُ الأسماءَ، وإنْ كانَتْ نونَ الجمعِ فلا تَثْبُتُ في الإِضافةِ». قلت: وهذا الترديدُ صحيحٌ لولا ما تقدَّم من الجوابِ عنه مع تَكَلُّفٍ فيه، وخروجٍ عن القواعد، ولولا خَوْفُ السَّآمةِ لاسْتَقْصَيْتُ مذاهبَ النحاةِ في هذه المسألة.
وقُرِئ «مُطَّلِعُوْن» بالتشديد كالعامَّة، «فأَطَّلِعَ» مضارعاً منصوباً بإضمار «أَنْ» على جوابِ الاستفهامِ. وقُرِئ «مُطْلِعون» بالتخفيف «فَأَطْلَعَ» مخففاً ماضياً ومخففاً مضارعاً منصوباً على ما تقدَّم. يُقال: طَلَع علينا فلانٌ وأَطْلع، كأكْرم، واطَّلَعَ بالتشديد بمعنًى واحد.
وأمَّا قراءةُ مَنْ بنى الفعلَ للمفعولِ في القائمِ مقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مصدرُ الفعلِ أي: أُطْلِعَ الإِطلاعُ. الثاني: الجارُّ المقدرُ. الثالث - وهو الصحيح - أنه ضميرُ القائلِ لأصحابِه ما قاله؛ لأنه يُقال: طَلَعَ زيدٌ وأَطْلعه غيرُه، فالهمزَةُ فيه للتعدية. وأمَّا الوجهان الأوَّلان فذهب إليهما أبو الفضل الرازيُّ في «لوامحه» فقال: «طَلَعَ واطَّلع إذا بدا وظَهَر، وأَطْلَع إطلاعاً إذا جاء وأَقْبَلَ. ومعنى ذلك: هل أنتم مُقْبلون فأُقْبل. وإنما أُقيم المصدرُ فيه مُقام الفاعلِ بتقدير: فأُطْلِعَ الإِطلاعُ، أو بتقدير حرفِ الجر المحذوف أي: أُطْلِعَ به؛ لأن أَطْلَعَ لازم كما أنَّ أَقْبَلَ كذلك».
وقد رَدَّ الشيخُ عليه هذين الوجهين فقال: «قد ذَكرْنا أنَّ أَطْلَعَ بالهمزةِ مُعَدَّى مِنْ طَلَعَ اللازمِ. وأمَّا قولُه:» أو حرف الجرِّ المحذوف أي: أُطْلِع به «فهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ مفعولَ ما لم يُسَمّ فاعلُه لا يجوزُ حَذْفُه لأنه نائبٌ عنه، فكما أنَّ الفاعلَ لا يجوزُ حَذْفُه دونَ عامِله فكذلك هذا. لو قلت:» زيدٌ ممرورٌ أو مغضوبٌ «تريد: به أو عليه لم يَجُزْ». قلت: أبو الفضل لا يَدَّعِي أنَّ النائبَ عن الفاعل محذوفٌ، وإنما قال: بتقدير حرفِ الجرِّ المحذوفِ. ومعنى ذلك: أنه لَمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ اتِّساعاً انقلبَ الضميرُ مرفوعاً فاستتر في الفعلِ، كما يُدَّعى ذلك في حَذْفِ عائد الموصولِ المجرورِ عند عَدَمِ شروطِ الحذفِ/ ويُسَمَّى الحذفَ على التدريج. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/305)
 
 
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)
(تَاللَّهِ) معناه واللَّه، والتاء بدل من الواو، لترْدِينِ أي لتهلكني، يقال رَدِيَ
الرجُلُ يَرْدَى رَدًى إذَا هَلَكَ، وَأَرْدَيْتُه أَهْلَكتُه.
* * *
 
(وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
أي أُحْضَرَ العذاب كما أُحُضِرتَ.
* * *
 
(أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
المعنى أنعيم الجنة وطعامها خير نزلاً أم شجرة الزقوم خَيْرٌ نُزُلًا.
والنزُلُ: ههنا الرَّيْعُ والفضْلُ، @تقول: هذا طعام له نُزُل ونُزْل بتسكين الزَّاي وَضمها وَنَزَل، ويكون ذلك خير نُزُلاً؛ أي أذلك خير في باب الإنْزَال التي تُتَقوَّتُ ويمكن معها الإقامةُ - أَمْ نُزُلُ أهل النارِ.
وإنما قيلَ لَهمْ فيما يقام للناس من الأنزال أقمت لهم نُزُلَهُمْ أي غذاءهم، وما يصلح معه أن ينزلوا عليه.
* * *
 
ومعنى: (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63)
عبرةً للظالمين، أي خبرةً افتتنوا بها، وكذبوا بها فصارت فتنة لهم.
وذلك أنهم لما سمعوا أنها شجرة تخرج في أصل الجحيم قالُوا: الشجر
يحترق بالنارِ، فكيف ينبت الشجر في النار فافتتنوا وكذبوا بذلك.
* * *
 
(طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)
فيه ثلاثة أقوال: قيل الشياطين حيات لها رءوس فشُبِّه طَلْعُهَا برءوس
تلك الحيات، وقيل رءوس الشياطين نبت معروف.
وقيل وهو القَوْل المعروفُ أن الشيء إذا استقبح شُبِّهَ بالشيطان، فقيل: كأنَّه وجه شيطانٍ، وكأنه رأسُ شيطان، والشيطان لا يُرى، ولكنه يستشعر أنه أقبح ما يكون من الأشياء، لو رُئِيَ لرئي في أقبح صورة.
قال امرؤ القيس:
(4/306)
 
 
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)
أَيَقْتُلُني والمَشْرَفِيُّ مُضاجِعي ومَسْنونةٌ زُرْقٌ كأَنيابِ أَغوالِ؟
ولم يُرَ الغولُ قط ولا أنيابُها ولكن التمثيل بما يستقبح أبلغ في باب
المذكر، يمثل بالشيطان وفي باب ما يستقبح في المؤنث يشبه بالغول (1).
* * *
 
(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)
أي لخلطاً ومِزَاجاً، ويُقْرأ (لَشُوباً مِنْ حَمِيم)، الشوْبُ المصدر، والشوبُ
الاسمُ، والخَلْطُ: المخلوط (2).
* * *
 
(فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
أي هم يَتْبعُونَ آثارَهم اتباعاً في سُرْعةٍ، ويقال (يُهْرَعُون) كأنهم يزعجونَ
من الإسراع إلى اتباع آبائهم، يقال هُرِعَ وأهرع في معنًى واحدٍ إذا اسْتُحِثَّ
وَأَسْرَعَ.
* * *
 
وَقَولَه: (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
المخلصين الذين أخلَصَهُم اللَّه واصطفاهم لعبادَتِه. .
ويقرأ المُخْلِصِين أي الموَحِّدِينَ.
* * *
 
(وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)
أي دعانا بأن ننقذه من الغرق، والمعنى فلنعم المجِيبون نَحْنُ.
* * *
 
(وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
يعني كرب الغَرَقِ الذي هو عذاب.
* * *
 
(وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {رُءُوسُ الشياطين}: فيه وجهان، أحدهما: أنه حقيقةٌ، وأنَّ رؤوسَ الشياطينِ شجرٌ بعينِه بناحيةِ اليمن يُسَمَّى «الأسْتَن» وقد ذكره النابغةُ:
3812 تَحِيْدُ عن أَسْتَنٍ سُوْدٍ أسافِلُها. . . مثلَ الإِماءِ الغوادي تَحْمِل الحُزَمَا
وهو شجرُ مُرٌّ منكَرُ الصورةِ، سَمَّتْه العربُ بذلك تشبيهاً برؤوس الشياطين في القُبْح ثم صار أصلاً يُشَبَّه به. وقيل: الشياطين صِنْفٌ من الحَيَّاتِ، ولهنَّ أعْراف. قال:
3813 عُجَيِّزٌ تَحْلِفُ حينَ أَحْلِفُ. . . كمثلِ شيطان الحَماطِ أَعْرَفُ
وقيل: وهو شجرٌ يقال له الصَّوْمُ، ومنه قولُ ساعدةَ بن جُؤَيَّة:
3814 مُوَكَّلٌ بشُدُوْفِ الصَّوْم يَرْقُبها. . . من المَغَارِبِ مَخْطوفُ الحَشَا زَرِمُ
فعلى هذا قد خُوْطِبَ العربُ بما تَعْرِفُه، وهذه الشجرةُ موجودةٌ فالكلامُ حقيقةٌ.
والثاني: أنَّه من بابِ التَّخْييل والتمثيل. وذلك أنَّ كلَّ ما يُسْتَنْكَرُ ويُسْتَقْبَحُ في الطِّباعِ والصورةِ يُشَبَّه بما يتخيَّله الوهمُ، وإن لم يَرَه. والشياطين وإن كانوا موجودين غيرَ مَرْئِيَّين للعرب، إلاَّ أنه خاطبهم بما أَلِفوه من الاستعارات التخييلية، كقوله:
3815. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومَسْنُوْنَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيابِ أَغْوالِ
ولم يَرَ أنيابَها، بل ليسَتْ موجودة ألبتَّةََ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين:
قوله: {لَشَوْباً}: العامَّةُ على فتح الشين، وهو مصدرٌ على أصلِه. وقيل: يُرادُ به اسمُ المفعولِ، ويَدُلُّ له قراءةُ شيبانَ النحويِّ «لَشُوباً» بالضمِّ. قال الزجاج: «المفتوحُ مصدرٌ والمضومُ اسمٌ بمعنى المَشُوْب» كالنَّقض بمعنى المنقوض. وعَطَفَ ب «ثمَّ» لأحدِ معنيين: إمَّا لأنه يُؤَخِّر ما يظنُّونه يَرْوِيْهم مِنْ عَطَشهم زيادةً في عذابهم، فلذلك أتى ب «ثم» المقتضيةِ للتراخي، وإمَّا لأنَّ العادة تقضي بتراخي الشُّرْبِ عن الأكلِ، فعَمِل على ذلك المِنْوالِ. وأمَّا مَلْءُ البطنِ فيَعْقُبُ الأكلَ، فلذلك عَطَفَ على ما قبلَه بالفاءِ و «مِنْ حميمٍ» صفةٌ ل «شَوْباً». والشَّوْبُ: الخَلْطُ والمَزْجُ ومنه: شابَ اللبنَ يَشُوبُه أي: خَلَطه ومَزَجَه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/307)
 
 
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
لما جاء الطوفان لم يبق ألا نُوحَ وذُرئتُهُ، والخلق الباقون من ذُرئةِ نوح.
* * *
 
(وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)
أي تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة، وذلك الذكر قوله:
 
(سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)
المعنى تَرَكنَا عليه في الآخرين أن يصلى عليه إلى يوم القيامة.
* * *
 
(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)
أي من شيعة نوح، من أهلِ مِلَّتِه يعني نوحاً.
* * *
 
(إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)
جاء في التفسير سليم من الشرك، وهو سليم من الشرك ومن كل
دَنسٍ.
* * *
 
(فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
قال إبراهيم لقومه - وهم يعْبُدُون الأصْنَامَ: أي شيءٍ ظنكم بِرَبِّ
العالمين وأنتم تعبدون: غيره.
وموضع (ما) رفع بالابتداء، والخبرُ (ظَنُّكُمْ).
* * *
 
(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)
قال لقومه وقد رأى نجماً إني سَقِيمٌ، فأوهمهم أن الطاعُونَ بِهِ.
 
(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
فِراراً من أن يُعْدَىْ إليهم الطاعونُ، وإنما " قال إني سَقِيمٌ، لأن كل
واحد وأن كانَ مُعَافىً فلا بد مِن أَنْ يَسْقَم ويموت، قال اللَّه تعالى:
(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30).
أي إنك ستموت فيما يستقبل، وكذلك قوله:
(4/308)
 
 
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
(إِنِّي سَقِيمٌ) أي سأسْقَم لا محالة.
وقد روي في الحديث: لم يكذب إبراهيم إلا في ثَلَاثةٍ، وَقَدْ فَسَّرنَا ذَلِك، وأن هذه الثلاث وقعت فيها معارضة في قوله:
(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا).
على معنى: إنْ كَانُوأ يَنْطِقون فَقَدْ فَعَله كَبِيرُهُمْ
وقوله: " سَارَّةُ أخْتِي "، أي أختي في الإسلام.
وقوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) على ما فسَّرنا.
* * *
 
(فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)
معنى راغ عليهم مال عليهم، وضرباً مصدر، المعنى فمال عَلَى الأصنام
يضربُهُمْ ضرباً بِالْيَمِينِ، يحتمل وجهين (1):
بيمينه، وبالقوة والمكانة.
وقال: (عَلَيْهم) وهي الأصنام لأنهم جعلوها معبودةً بمنزلة ما يميز كما قال: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
* * *
 
(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)
يعني قوم إبْرَاهِيم.
(يَزِفُّونَ) يُسْرِعُونَ إلَيْهِ. ويقرأ على ثَلاثةِ أوْجُهٍ (2).
(يَزِفُّونَ) - بفتح الياء وُيزِفُّونَ - بِضَفمهَا، وَيزِفُونَ - بتخفيف الفاء.
وأَعْرَبُها كُلُّها (يَزِفُّونَ) بفتح الياء وتشديد الفاء، وأصله من زفيف النعام، وهو ابتداء عَدْوِهَا، يقال زَفَّ النعام يَزِفُّ.
ويُقْرَأ يُزِفُّون أي يصيرون إلى الزفِيفِ.
ومثله قول الشاعر:
تَمَنَّى حُصَيْنٌ أَن يَسُودَ جِذاعَه. . . فأَمْسَى حُصَيْنٌ قد أُذلَّ وأُقْهِرا
معنى أَقْهَرَ صار إلى القَهْرِ.
وكذلك يُزِفونَ.
فأما يَزِفُونَ - بالتخفيف فهو من وَزَفَ يَزِفُ، بمعنى أَسْرَع، ولم يَعْرِفُهُ الفَرَّاء، ولا الكِسَائِى، وعَرفَه غيرُهمَا.
* * *
 
وقوله: (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
__________
(1) قال السَّمين:
و «ضَرْباً» مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أي: فراغ عليهم ضارِباً أو مصدرٌ لفعلٍ، ذلك الفعلُ/ حالٌ تقديرُه: فراغَ يَضْرِب ضَرْباً، أو ضَمَّن «راغَ» معنى يَضْرِبُ، وهو بعيدٌ. و «باليمينِ» متعلِّقٌ ب «ضَرْباً» إن لم نجعَلْه مؤكِّداً وإلاَّ فبعامِلِه. واليمينُ: يجوزُ أن يُرادَ بها إحدى اليدين وهو الظاهرُ، وأنُ يُرادَ بها القوةُ، فالباءُ على هذا للحالِ أي: مُلْتبساً بالقوةِ، وأَنْ يُراد بها الحَلْفُ وفاءً بقولِه: {وتالله لأَكِيدَنَّ} [الأنبياء: 57]. والباءُ على هذا للسببِ. وعَدَّى «راغ» الثاني ب «على» لَمَّا كان مع الضَرْبِ المُسْتَوْلي عليهم مِنْ فَوقِهم إلى أسفلِهم بخلافِ الأولِ فإنه مع توبيخٍ لهم، وأتى بضميرِ العقلاء في قولِه «عليهم» جَرْياً على ظنِّ عَبَدَتها أنها كالعقلاءِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين:
قوله: {يَزِفُّونَ}: حالٌ مِنْ فاعلِ «أَقْبَلوا»، و «إليه» يجوزُ تَعَلُّقُه بما قبلَه أو بما بعده. وقرأ حمزةُ «يُزِفُّون» بضم الياء مِنْ أَزَفَّ وله معنيان، أحدهما: أنَّه مِنْ أَزَفَّ يُزِفُّ أي: دخل في الزَّفيفِ وهو الإِسراعُ، أو زِفافِ العَروسِ وهو المَشْيُ على هيئتِه؛ لأنَّ القومَ كانوا في طمأنينةٍ مِنْ أَمْرِهم، كذا قيل هذا الثاني وليس بشيءٍ؛ إذ المعنى: أنهم لَمَّا سمعوا بذلك بادروا مُسْرِعين، فالهمزة على هذا ليسَتْ للتعديةِ. والثاني: أنه مِنْ أَزَفَّ بعيرَه أي: حَمَله على الزَّفِيْفِ وهو الإِسراعُ أو على الزِّفافِ، وقد تقدَّم ما فيه. وباقي السبعةِ بفتحِ الياءِ مِنْ زَفَّ الظليمُ يَزِفُّ أي: عَدا بسُرْعة. وأصلُ الزَّفيفِ للنَّعام.
وقرأ مجاهد وعبد الله بن يزيد والضحاك وابن أبي عبلة «يَزِفُون» مِنْ وَزَفَ يَزِفُ أي: أَسْرَعَ. إلاَّ أنَّ الكسائيَّ والفراء قالا: لا نعرفُها بمعنى زَفَّ، وقد عَرَفَها غيرُهما. قال مجاهد - وهو بعضُ مَنْ قرأ بها -: «الوزيف: النَّسَلان».
وقُرِئ «يُزَفُّون» مبنيَّاً للمفعول و «يَزْفُوْن» ك يَرْمُون مِنْ زَفاه بمعنى حَداه، كأنَّ بعضَهم يَزْفو بعضاً لتسارُعِهم إليه. وبين قولِه: «فأَقْبَلُوا» وقولِه: «فراغ عليهم» جُمَلٌ محذوفةٌ يَدُلُّ عليها الفَحْوَى أي: فبلغَهم الخبرُ فرَجَعوا مِنْ عيدِهم، ونحو هذا. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/309)
 
 
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
كل نار بعضُها فوق بَعض، وهي جَحْمٌ.
* * *
 
(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)
يقول: هب لي ولداً صَالِحاً من الصالِحِينَ.
* * *
 
(فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
وهذه البِشَارَة تدل على أنه غلام وأنه يبقى حتى يُوصفَ بالحلم.
* * *
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ
 
(102)
أي أدرك معه العَمَل، يقال إنَّه قد بلغ في ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة.
(قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى).
تقرأ غَيْرَ مماله، وَ (تَرَى) - مُمَالَة، - و (تُرِي) - بلا إمالة، - وتُرِي - بالإمالة -
و (ماذا تُرَى) ففيها خمسة أوجه (1):
ترى - بالفتح وبالكسر.
وكذلك في تُرِي وتُرَى،. وفيها خمسة أوجه أخر لم يقرأ بشيء منها، فَلَا تقرأنَّ بها، وهو أن تأتي الخمسة التي ذكرناها ممالة وغير ممالة بغير همز فتهمزها كلها، فما كان مُمَالاً هَمِزَ وأمال، وما لم يكن مُمَالاً أمال ولم يهمز.
ويجوز ماذا تَرْأَى ممال.
وماذا تُرْئِي، وماذا تُرْأَى، وماذا تَرَى وَمَاذا تُرَى.
فمعنى ماذا تَرأَى وتُرْئي من الرأي، ومعنى ماذا تُرَى مَاذَا تُشِيرُ.
وَزَعَم الفراء أن معناه مَاذَا تُرِيني من صَبْرِكَ، ولا أعلم أحَداً قَالَ هَذَا.
وفي كل التفسير ما تُرِي ما تشير.
* * *
قال: (يَا أبَتِ افْعَلْ مَا تُومَرُ).
ورؤية الأنبياء في المنام وحيٌ بمنزلة الوحي إليهم في اليقظة.
وقد فَسَّرْنَا يا أَبَهْ، وإعرابَهُ فيما سَلَفَ من الكتاب.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: «ماذا ترى» يجوزُ أَنْ تكونَ «ماذا» مركبةً مغلَّباً فيها الاستفهامُ فتكونَ منصوبةً ب «تَرَى»، وهي وما بعدها في محلِّ نصب ب «انْظُر» لأنها مُعَلِّقةٌ له، وأنْ تكونَ «ما» استفهاميةً، و «ذا» موصولةً، فتكون مبتدأً وخبراً، والجملةُ معلِّقَةٌ أيضاً، وأَنْ تكونَ «ماذا» بمعنى الذي فتكونَ معمولاً ل «انْظُرْ». وقرأ الأخَوان «تُري» بالضم والكسر. والمفعولان محذوفان، أي: تُريني إياه مِنْ صبرك واحتمالك.
وباقي السبعة/ «تَرَى» بفتحتين مِن الرأي. وقرأ الأعمش والضحَّاك «تُرَى» بالضمِّ والفتح بمعنى: ما يُخَيَّلُ إليك ويَسْنَحُ بخاطرك.
وقوله: «ما تُؤْمَرُ» يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» بمعنى الذي، والعائدُ مقدرٌ أي: تُؤْمَرُه، والأصلُ: تُؤْمَرُ به، ولكنَّ حَذْفَ الجارِّ مُطَّرِدٌ، فلم يُحْذَفْ العائدُ إلاَّ وهو منصوبُ المحلِّ، فليس حَذْفُه هنا كحذفِه في قولك: «جاء الذي مَرَرْتُ». وأَنْ تكونَ مصدريةً. قال الزمخشري: «أو أَمْرَك، على إضافةِ المصدرِ للمفعول وتسميةِ المأمورِ به أمراً» يعني بقولِه المفعول أي: الذي لم يُسَمَّ فاعلُه، إلاَّ أنَّ في تقدير المصدرِ بفعل مبنيّ للمفعولِ خلافاً مَشْهوراً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/310)
 
 
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
(سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).
يَقول على أمر اللَّه.
* * *
 
(فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
أسْلَما اسْتَسْلَمَا لأمر اللَّه.
رضي إبراهيم بأن يذبح ابنه، ورضي ابنه بأن يُذبَح تصديقاً للرؤيا وطاعة للَّهِ.
واختلف الناس في الذي أمر بذبحه مَنْ كانَ، فقال قوم إسحاق.
وقال قوم إسماعيل.
فأمَّا من قال إنه إسحاق، فعليٌّ رحمة اللَّه عليه وابنُ مَسْعُودٍ وكعب
الأحبار، وجماعة من التابعين.
وأما من قال إنه إسماعيل فابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وسعيد بن المسيب وجماعة من التابعين.
وحجة من قال إنه إسماعيل قوله: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112).
وَحُجة من قال إنَّه اسحاق، قال: كانت في إسحاق بشارتان الأولى فبشرناه
بغُلام حَلِيم.
فلما استسلم للذبح واستسلم إبراهيم لذبحه بُشِرَ به نبيًّا من
الصالحين.
والقول فيهما كثير واللَّه أعلم أيهما كان الذبيح.
فأمَّا جواب (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي صَرَعَهُ.
فقد اختلف الناس فيه
فقال قوم جوابه وناديناه، والواو زائدة، وقال قوم إن الجواب محذوف بأن في الكلام دليلاً عليه.
المعنى فلما فعل ذلك سعِدَ وأتاه اللَّه نبوة وَلَدِه وأجزلَ لَهُ
الثواب في الآخرة.
* * *
 
(وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
الذِّبح: بكسر الذال الشيءُ الذي يُذْبَح، والذَّبْح المصدر، تقول: ذبحته
أذْبَحُه ذَبْحاً.
وقيل إنه الكَبْشُ الذي تُقُبِّلَ من ابن آدم حين قرَّبَه، وقيل إنَّه رَعَا
(4/311)
 
 
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)
في الجنة أربعين سنة، وقيل إنَه كان وَعِلًا من الأوْعَالِ.
والأوعال التيوس الجبليَّةُ.
* * *
 
(وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)
قيل من الغرَقِ كما فُعِلَ بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِه.
* * *
 
(وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
جاء في التفسير أنه إدريس، ورويت عنِ ابن مَسْعُودٍ أنه قرأ: وإن
إدريس، ورويت سلام على إدْرَاسِين (1).
* * *
 
(أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)
قيل إن بعلًا كانوا يعبدونه، صنماً من ذهب، وقيل إن بعلاً تعني، رَبًّا (2).
* * *
 
(اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)
وقرئت (اللَّهَ رَبَّكُمْ) على صِفَةِ أحْسَنِ الخَالِقِينَ اللَّهَ.
وقرئت: (اللَّهُ رَبَّكُمْ) عَلَى الابثداء والخبر.
* * *
 
(سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)
(سَلامٌ عَلَى آلِ يَاسِينَ).
وقُرئت إلْيَاس. فمن قرأ بالوصل فموضع إلياسين جمعٌ، هو وأمته
المؤمنون، وكذلك يجمع مَا يُنْسَب إلى الشيء بلفظ الشيء، تقول: رأيت
المَسامِعَة والمَهَالِبةَ، تريد بني المهَلَّب وبنيْ مِسْمَع، وكذلك: رأيت المهلبين
والمِسْمَعِين.
وفيها وجه آخر تكون فيه لغتان إلياس وإلياسين كما قال ميكال
وميكائيل (3).
* * *
 
وقوله: (إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)
يعني في البَاقِينَ.
* * *
 
وقوله: (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)
(أَبَق) هَرَبَ إلى الفلك المشحون، والمشحون المملوء.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ}: العامَّةُ على همزةٍ مكسورةٍ، همزةِ قطع. وابنُ ذكوان بوَصْلِها، ولم يَنْقُلْها عنه الشيخُ بل نقلها عن جماعةٍ غيرِه. ووجهُ القراءتَيْن أنه اسمٌ أعجميٌّ تلاعَبَتْ به العربُ فقطعَتْ همزتَه تارةً، ووَصَلَتْها أخرى وقالوا فيه: إلْياسين كجِبْرائين. وقيل: تحتمل قراءةُ الوصلِ أَنْ يكون اسمُه ياسين ثم دَخَلَتْ عليه أل المعرِّفةُ، كما دَخَلَتْ على ليَسَع وقد تقدَّم. وإلياس هذا قيل: هو ابنُ إلْياسين المذكورِ بعدُ، مِنْ وَلَدِ هارونَ أخي موسى. وقيل: بل إلياس إدريسُ. ويَدُلُّ له قراءةُ عبد الله والأعمش وابن وثاب «وإنَّ إدْريس». وقُرِئ «إدْراس» كإبْرَاهيمَ. وإبراهام. وفي مصحف أُبَيّ وقراءتِه: قوله: «وإن إيْليسَ» بهمزة مكسورة ثم ياءٍ ساكنةٍ بنقطتين مِنْ تحتُ ثم لامٍ مكسورةٍ، ثم ياءٍ بنقطتين مِنْ تحتُ ساكنةً، ثم سينٍ مفتوحةٍ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين:
قوله: {بَعْلاً}: القرَّاءُ على تنوينِه منصوباً، وهو الرَّبُّ بلغة اليمن. سمع ابنُ عباس رجلاً منهم يَنْشُدُ ضالةً فقال آخر: أنا بَعْلُها فقال: اللَّهُ أكبرُ، وتلا الآيةَ. وقيل: هو عَلَمٌ لصنم بعينه، وله قصةٌ في التفسير. وقيل: هو عَلَمٌ لامرأةٍ بعينها أَتَتْهم بضلال فاتَّبعوها، كذا جاء في التفسير. وتأيَّد صاحبُ هذه المقالة بقراءةِ مَنْ قرأ «بَعْلاءَ» بزنة حَمْراء.
قوله: «وتَذَرُوْنَ» يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً على إضمار مبتدأ، وأَنْ يكونَ عطفاً على «تَدْعُون» فيكونَ داخلاً في حَيِّز الإِنكار. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(3) قال السَّمين:
قوله: {على إِلْ يَاسِينَ}: قرأ نافعٌ وابن عامر {على آلِ يَاسِينَ} بإضافةِ «آل» بمعنى أهل إلى «ياسينَ». والباقون بكسرِ الهمزةِ وسكونِ اللامِ موصولةً ب «ياسين» كأنه جَمَعَ «إلياس» جَمْعَ سلامةٍ. فأمَّا الأُوْلى: فإنَّه أراد بالآل إلياسَ وَلَدَ ياسين كما تقدَّم وأصحابَه. وقيل: المرادُ بياسين هذا إلياسُ المتقدمُ، فيكونُ له اسمان. وآلُه: رَهْطُه وقومُه المؤمنون. وقيل: المرادُ بياسينَ محمدُ بن عبد الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فقيل: هي جمعُ إلياس المتقدمِ. وجُمِعَ باعتبارِ أصحابِه كالمَهالبةِ والأَشاعثةِ في المُهَلَّبِ وبنيه، والأَشعثِ وقومِه، وهو في الأصلِ جمعُ المنسوبين إلى إلياس، والأصلُ إلياسيّ كأشعَريّ. ثم اسْتُثْقِل تضعيفُهما فحُذِفَتْ إحدى ياءَي النسَب/ فلمَّا جُمِعَ سَلامةٍ التقى ساكنان: إحدى الياءَيْن وياءُ الجمعِ، فحُذِفَتْ أولاهما لالتقاءِ السَّاكنين، فصار إلياسين كما ترى. ومثلُه: الأَشْعَرُون والخُبَيْبُون. قال:
3820 قَدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِيْ. . . وقد تقدَّم طَرَفٌ من هذا آخر الشعراء عند «الأَعْجَمِيْن». إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قد رَدَّ هذا: بأنَّه لو كان على ما ذُكِر لَوَجَب تعريفُه بأل فكان يُقال: على الإِلياسين. قلت: لأنه متى جُمِعَ العَلَمُ جَمْعَ سَلامةٍ أو ثُنِّي لَزِمَتْه الألفُ واللامُ؛ لأنه تَزُوْلُ عَلَميَّتُه فيقال: الزيدان، الزيدون، الزينبات ولا يُلْتَفَتُ إلى قولهم: جُمادَيان وعَمايتان عَلَمَيْ شهرَيْن وجبلَيْن لندورِهما.
وقرأ الحسن وأبو رجاء «على إلياسينَ» بوصلِ الهمزةِ على أنه جَمْعُ إلياس وقومِه المنسوبين إليه بالطريق المذكورة. وهذه واضحةٌ لوجودِ أل المعرفةِ فيه كالزيدِيْن. وقرأ عبد الله «على إدْراسين» لأنَّه قرأ في الأول «وإنَّ إدْريَس». وقرأ أُبَيٌّ «على إيليسِيْنَ» لأنه قرأ في الأول «وإنَّ إيليسَ» كما حَرَّرْتُه عنه. وهاتان تَدُلاَّن على أن إلياسينَ جَمْعُ إلياس. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/312)
 
 
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)
(فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)
(فَسَاهَمَ) قارع، و (الْمُدْحَضِينَ) المَغْلوِبينَ.
لما صَارَ يونس في السفينة فلم تَسِرْ فقارَعَهُ أهل السفينة، ووقعت عليه
القرعة فخرج منها وألقى نَفْسَهُ فى البحر.
* * *
 
(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
وهو السمكة، ولما خرج من السفينة سَارَتْ.
(وَهُوَ مُلِيمٌ).
قد أتى بما يلام عليه، يقال: قد أَلَامَ الرجلُ فهو مُليم، إذا أتى ما يجب
أن يلام عليه.
* * *
 
(فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
منَ المُصَلِّين.
* * *
 
(لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
جاء في التفسير أنه لبث أربعين يوماً، وقال الحسن لم يَلْبَثْ إلا قَليلاً
وأخرج من بطنه بُعَيْدَ الوقت الذي التقِمَ فيه.
* * *
 
(فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)
يعني بالمكَان الخالي، والعراء عَلَى وجْهَيْن، مَقْصُورٌ وَمَمْدُودٌ.
فالمقصور الناحِيَة، والعزاء ممدود المكان الخالي.
قال أَبُو عُبَيدَةَ وغَيْرُهُ: إنما قيل له العراء لأنه لا شجر فيه، ولا شيءَ يُغَطيه، وقيل إن العراء وجه الأرْض.
ومعناه وجه الأرض الخالي، وأنشدوا:
وَرَفَعْتُ رِجلاً لا أَخافُ عِثارَها. . . ونَبَذْتُ بالبَلَدِ العَراء ِثيابي
(4/313)
 
 
أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
(وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)
كل شجرة لا تنبت على ساقٍ، وإنَّمَا تمتد على وجه الأرض - نحو
القَرْعِ والبطيخ والحنظل - فهو يقطين.
وأحسب اشتقاقها من قَطَنَ بالمكان إذا أقام به، فهذا الشجر كله على وجه الأرض، فلذلك قيل يقطين.
* * *
 
(وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)
قال غير واحد معناه بل يزيدون.
قال ذلك الفراء وَأَبُو عبيدة وقال غيرهما معناهُ أَو يزَيدونَ فِي تَقْدِيركم أنتم إذا رآهم الرائي قال هؤلاء مائة ألف أو يزيدون على المائة
وهذا على أصل (أو).
وقال قوم: معناها معنى الواو. و (أو) لا تكون بمعنى الواو، لأن الواو
معناها الاجتماع، وليس فيها دليل أن أحد الشيئين قبل الآخر.
و (أَوْ) مَعناها إفراد أحد شيئين أو أشياء.
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)
أي سلهم مسألة توبيخ وتقرير، لأنهم زعموا أن الملائكة بنات اللْه
تعالى اللَّه عَنْ ذَلِكَ.
* * *
 
(أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)
معناه بل أَخَلَقْنَا الملائكة إِنَاثًا -. . (وَهُمْ شَاهِدُونَ).
* * *
 
(أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
هذه الألف مفتوحة، هذا الاختيار، لأن المعنى سَلْهُمْ هل أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ، فالألف ألف استفهام. ويجوز اصطفى على أن يكون
(4/314)
 
 
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)
حكاية عن قولهم ليَقُولًونَ اصطفى.
وفتح الألف وقطعها أجود على أأصطفى.
ثم تحذف ألف الوصل (1).
* * *
 
(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
الْجِنَّة هَهُنَا المَلَائِكَةُ.
* * *
(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ).
أي: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ وهم الملائكة أن الذين قالوا: ولد اللَّه. . .
لمُحْضَرونَ العَذَابَ.
* * *
 
(سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)
تنزيه اللَّه من السوء عن وَصْفِهِم.
* * *
 
(فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)
أي ما أنتم بمضلين عليه ألا مَنْ أَضَل اللَّهُ.
* * *
 
(إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)
أي لستم تضلون إلا أَهلَ النَّارِ، وقرأ الحَسَنُ " إِلَّا مَنْ هُوَ صَالُ الْجَحِيمِ "
بضم اللام، والقراءة بكسر اللام، على معنى صالي.
والوقف عليها ينبغي أن يكون بالياء، ولكنها محذوفة في المصحف.
ولقراءة الحَسنِ وجْهَان:
أحدهما أن يكون أراد صالونَ الجحيم فحذفت النونُ للإضافة وحذفت الواو لسكونها وسكون اللام من الجحيم، ويَذْهَبُ بِـ (مَنْ) مَذْهَبَ الجِنْسِ، أي بالجنس الذين هم صالوا الجحيم، ويجوز أن يكون صَالُ في معنى صائل، مفعول من صَالَى، مثل جرف هارٍ أي هائرٍ، والقراءة التي هي الإجماع كسر اللام (2).
* * *
 
(وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {أَصْطَفَى}: العامَّةُ على فتحِ الهمزة على أنها همزةُ استفهامٍ بمعنى الإِنكارِ والتقريعِ، وقد حُذِفَ معها همزةُ الوَصْلِ استغناءً عنها.
وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشيبةُ والأعمش بهمزةِ وَصْلٍ تَثْبُتُ ابتداءً وتَسْقُطُ دَرْجاً. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه على نيةِ الاستفهامِ، وإنما حُذِفَ للعِلْمِ به. ومنه قولُ عُمَرَ بن أبي ربيعة:
3824 ثم قالُوا: تُحِبُّها قلتُ بَهْراً. . . عددَ الرَّمْلِ والحَصَى والترابِ
أي: أتُحبها. والثاني: أن هذه الجملةَ بَدَلٌ من الجملة المحكيَّةِ بالقول، وهي «وَلَدَ اللَّهُ» أي: يقولون كذا، ويقولون: اصطفى هذا الجنسَ على هذا الجنس. قال الزمخشري: «وقد قرأ بها حمزةُ والأعمشُ. وهذه القراءة وإنْ كان هذا مَحْمَلَها فهي ضعيفةٌ. والذي أَضْعَفَها أنَّ الإِنكارَ قد اكتنف هذه الجملةَ مِنْ جانَبيْها، وذلك قولُه:» وإنهم لَكاذبون «، {مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فمَنْ جَعَلَها للإَثباتِ فقد أَوْقَعها دخِيلةً بين نَسِيبَيْنِ». قال الشيخ: «وليسَتْ دخيلةً بين نَسِيْبَيْن؛ لأنَّ لها مناسَبةً ظاهرةً مع قولِهم:» وَلَدَ اللَّهُ «. وأمَّا قولُه:» وإنهم لَكاذبون «فهي جملةُ اعتراضٍ بين مقالتَيْ الكفرة جاءَتْ للتنديدِ والتأكيدِ في كَوْنِ مقالتِهم تلك هي مِنْ إفْكِهم».
ونَقَلَ أبو البقاء أنه قُرِئ «آصْطفى» بالمدِّ. قال: «وهو بعيدٌ جداً». اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين:
وقرأ العامَّةُ «صالِ الجحيم» بكسرِ اللامِ؛ لأنه منقوصٌ مضافٌ حُذِفَتْ لامُه لالتقاءِ الساكنين، وحُمِلَ على لفظ «مَنْ» فأَفْرَدَ كما أَفْرد هو. وقرأ الحسنُ وابن أبي عبلة بضمِّ اللامِ مع واوٍ بعدَها، فيما نقله الهذلي عنهما، وابن عطية عن الحسن. وقرآ بضمِّها مع عَدَمِ واوٍ فيما نقل ابنُ خالويه عنهما وعن الحسن فقط، فيما نقله الزمخشريُّ وأبو الفضل. فأمَّا مع الواو فإنَّه جَمْعُ سَلامةٍ بالواو والنون، ويكون قد حُمِلَ على لفظ «مَنْ» أولاً فأفردَ في قوله «هو»، وعلى معناها ثانياً فجُمِعَ في قوله: «صالُو» وحُذِفَتْ النونُ للإِضافة. وممَّا حُمِل فيه على اللفظ والمعنى في جملةٍ واحدةٍ وهي صلةٌ للموصولِ قولُه تعالى: {إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] فأفرد في «كان» وجُمِعَ في هوداً. ومثله قولُه:
3825. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأَيْقَظَ مَنْ كان مِنْكُمْ نِياما
وأمَّا مع عَدَمِ الواو فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ جمعاً أيضاً، وإنما حُذِفَتْ الواوُ خطاً كما حُذِفَتْ لفظاً. وكثيراً ما يَفْعلون هذا: يُسْقِطون في الخطِّ ما يَسْقط في اللفظِ. ومنه «يَقُضُّ الحق» في قراءةِ مَنْ قرأ بالضاد المعجمة، ورُسِمَ بغير ياءٍ، وكذلك {واخشون، اليوم} [المائدة: 3]. ويُحْتمل أَنْ يكونَ مفرداً، وحقُّه على هذا كسرُ اللامِ فقط لأنه عينُ منقوصٍ، وعينُ المنقوصِ مكسورةٌ أبداً وحُذِفَتِ اللامُ وهي الياءُ لالتقاءِ الساكنين نحو: هذا قاضِ البلد.
وقد ذكروا فيه توجيهَيْن، أحدهما: أنه مقلوبٌ؛ إذا الأصلُ: صالي ثم صايل: قَدَّموا اللامَ إلى موضع العينِ، فوقعَ الإِعرابُ على العين، ثم حُذِفَتْ لامُ الكلمة بعد/ القلب فصار اللفظ كما ترى، ووزنُه على هذا فاعُ فيُقال على هذا: جاء صالٌ، ورأيتُ صالاً، ومررت بصالٍ، فيصيرُ في اللفظِ كقولك: هذا بابٌ ورأيتُ باباً، ومررتُ ببابٍ. ونظيرُه في مجردِ القلبِ: شاكٍ ولاثٍ في شائك ولائث، ولكنْ شائِك ولائِث قبل القلب صحيحان، فصارا به معتلَّيْن منقوصَيْنِ بخلافِ «صال» فإنَّه قبلَ القلبِ معتلٌّ منقوصٌ فصار به صحيحاً. والثاني: أنَّ اللامَ حُذِفَتْ استثقالاً مِنْ غيرِ قَلْبٍ. وهذا عندي أسهلُ ممَّا قبلَه وقد رَأَيْناهم يتناسَوْن اللامَ المحذوفةَ، ويجعلون الإِعرابَ على العين. وقد قُرِئَ «وله الجوارُ» برفع ا