معاني القرآن وإعرابه للزجاج 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: معاني القرآن وإعرابه
المؤلف: إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج (المتوفى: 311هـ)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
جعلهُ الله يَبَساً حتى جَاوَزُوه.
* * *
 
وقوله: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
(نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) نلقيك عُرياناً وقيل ننجيك ببدنك نلقيك على نَجْوةٍ
من الأرض، وإنما كان ذلك آيةً لأنه كان يَدَّعِي أنَّه إلهٌ وكان يعبُده قومُه، فبيَّنَ اللَّه أمْرَه وأنه عَبْدٌ.
وفيه من الآية أنه غرِق القومُ وأُخْرِجَ هو مِنْ بيْنهم فكان في ذلك آية.
* * *
 
وقوله: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
هذه آية قد كثر سُؤَالُ الناسِ عنها وخوضُهم فيها جِدَّا، وفي السورة ما
يدل على بيانها وكشف حقيقتها:
والمعنى أن اللَّه - جلَّ وعزَّ - خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك الخطاب شامل للخلق فالمعنى: إن كنتم في شك فاسألوا.
والدليل على ذلك قوله في آخر السورة:
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ).
فأعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أن نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليس في شَكٍّ، وأمرُه أن يتْلُو عليهم ذَلِكَ.
ويروى عن الحسن أنه قال: لم يَسألْ ولم يَشُد، فهذا بَيِّن جداً.
والدليل على أن المخاطبة للنبي مخاطبةٌ للناس قوله:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ).
فقال (طَلَّقْتُمُ) ولفظ أول الخَطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -
(3/32)
 
 
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
وحده فهذا أحسن الأقوال وفيها قولان آخران.
(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ)، كما تقول للرجل: إن
كنت أبي فتعطف عليَّ، أي إن كنت أبي فواجِبٌ أن تتعطف على، ليس أنه
شك في أنه أبوه.
وفيها وجْهٌ ثَالِثٌ: أن تكون " أنْ " في معنى " مَا " فَيكون المعنى ما كنت
في شك مِما أنْزَلنا إليْكَ، فاسأل الذين يقرأون، أي لسنا نأمرك لأنك شاك.
ولكن لتزداد، كما قال إبراهيم: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)
فالزيادة في التثبيت ليست مما يبطل صحة القَصد (1).
* * *
 
(فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
فهلَّا كانت قرية.
قال الشاعر.
تَعُّدُونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُم. . . بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلا الكَمِيَّ المُقَنَّعَا
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرَّازي ما نصُّه:
اختلف المفسرون: في أن المخاطب بهذا الخطاب من هو؟ فقيل النبي عليه الصلاة والسلام.
وقيل غيره، أما من قال بالأول: فاختلفوا على وجوه.
الوجه الأول: أن الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام في الظاهر، والمراد غيره كقوله تعالى: {يا أيها النبى اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] وكقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وكقوله: {ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] ومن الأمثلة المشهورة: إياك أعني واسمعي يا جاره.
والذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه: الأول: قوله تعالى في آخر السورة {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى} [يونس: 104] فبين أن المذكور في أول الآية على سبيل الرمز، هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح.
الثاني: أن الرسول لو كان شاكاً في نبوة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية.
والثالث: أن بتقدير أن يكون شاكاً في نبوة نفسه، فكيف يزول ذلك الشك بأخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم في الأكثر كفار، وإن حصل فيهم من كان مؤمناً إلا أن قوله ليس بحجة لا سيما وقد تقرر أن ما في أيديهم من التوراة والإنجيل، فالكل مصحف محرف، فثبت أن الحق هو أن الخطاب، وإن كان في الظاهر مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن المراد هو الأمة، ومثل هذا معتاد، فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير، وكان تحت راية ذلك الأمير جمع، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص، فإنه لا يوجه خطابه عليهم، بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم، ليكون ذلك أقوى تأثيراً في قلوبهم.
الوجه الثاني: أنه تعالى علم أن الرسول لم يشك في ذلك، إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام، فإنه يصرح ويقول: «يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل يكفيني ما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة» ونظيره قوله تعالى للملائكة: {أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] والمقصود أن يصرحوا بالجواب الحق ويقولوا: {سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} [سبأ: 41] وكما قال لعيسى عليه السلام: {أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] والمقصود منه أن يصرح عيسى عليه السلام بالبراءة عن ذلك فكذا ههنا.
الوجه الثالث: هو أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان من البشر، وكان حصول الخواطر المشوشة والأفكار المضطربة في قلبه من الجائزات، وتلك الخواطر لا تندفع إلا بإيراد الدلائل وتقرير البينات، فهو تعالى أنزل هذا النوع من التقريرات حتى أن بسببها تزول عن خاطره تلك الوساوس، ونظيره قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود: 12] وأقول تمام التقرير في هذا الباب إن قوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} فافعل كذا وكذا قضية شرطية والقضية الشرطية لا إشعار فيها ألبتة بأن الشرط وقع أو لم يقع.
ولا بأن الجزاء وقع أو لم يقع، بل ليس فيها إلا بيان أن ماهية ذلك الشرط مستلزمة لماهية ذلك الجزاء فقط، والدليل عليه أنك إذا قلت إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين، فهو كلام حق، لأن معناه أن كون الخمسة زوجاً يستلزم كونها منقسمة بمتساويين، ثم لا يدل هذا الكلام على أن الخمسة زوج ولا على أنها منقسمة بمتساويين فكذا ههنا هذه الآية، تدل على أنه لو حصل هذا الشك لكان الواجب فيه هو فعل كذا وكذا، فأما إن هذا الشك وقع أو لم يقع، فليس في الآية دلالة عليه، والفائدة في إنزال هذه الآية على الرسول أن تكثير الدلائل وتقويتها مما يزيد في قوة اليقين وطمأنينة النفس وسكون الصدر، ولهذا السبب أكثر الله في كتابه من تقرير دلائل التوحيد والنبوة.
والوجه الرابع: في تقرير هذا المعنى أن تقول: المقصود من ذكر هذا الكلام استمالة قلوب الكفار وتقريبهم من قبول الإيمان، وذلك لأنهم طالبوه مرة بعد أخرى، بما يدل على صحة نبوته وكأنهم استحيوا من تلك المعاودات والمطالبات، وذلك الاستحياء صار مانعاً لهم عن قبول الإيمان فقال تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} من نبوتك فتمسك بالدلائل القلائل، يعني أولى الناس بأن لا يشك في نبوته هو نفسه، ثم مع هذا إن طلب هو من نفسه دليلاً على نبوة نفسه بعد ما سبق من الدلائل الباهرة والبينات القاهرة فإنه ليس فيه عيب ولا يحصل بسببه نقصان، فإذا لم يستقبح منه ذلك في حق نفسه فلأن لا يستقبح من غيره طلب الدلائل كان أولى، فثبت أن المقصود بهذا الكلام استمالة القوم وإزالة الحياء عنهم في تكثير المناظرات.
الوجه الخامس: أن يكون التقدير أنك لست شاكاً ألبتة ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة ذلك الشك كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] والمعنى أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً، لزم منه المحال الفلاني فكذا ههنا.
ولو فرضنا وقوع هذا الشك فارجع إلى التوراة والإنجيل لتعرف بهما أن هذا الشك زائل وهذه الشبهة باطلة.
الوجه السادس: قال الزَّجَّاج: إن الله خاطب الرسول في قوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} وهو شامل للخلق وهو كقوله: {يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [الطلاق: 1] قال: وهذا أحسن الأقاويل، قال القاضي: هذا بعيد لأنه متى كان الرسول داخلاً تحت هذا الخطاب فقد عاد السؤال، سواء أريد معه غيره أو لم يرد وإن جاز أن يراد هو مع غيره، فما الذي يمنع أن يراد بانفراده كما يقتضيه الظاهر، ثم قال: ومثل هذا التأويل يدل على قلة التحصيل.
الوجه السابع: هو أن لفظ {إن} في قوله: {إِن كُنتَ فِى شَكّ} للنفي أي ما كنت في شك قبل يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك لكن لتزداد يقيناً كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى يقيناً.
وأما الوجه الثاني: وهو أن يقال هذا الخطاب ليس مع الرسول فتقريره أن الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة، المصدقون به والمكذبون له والمتوقفون في أمره الشاكون فيه، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال: إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته، وإنما وحد الله تعالى ذلك وهو يريد الجمع، كما في قوله: {يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم * الذى خَلَقَكَ} [الانفطار: 6، 7] و {يا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ} [الانشقاق: 6] وقوله: {فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ} [الزمر: 49] ولم يرد في جميع هذه الآيات إنساناً بعينه، بل المراد هو الجماعة فكذا ههنا ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني وهم المكذبون فقال: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات الله فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين}. اهـ {مفاتيح الغيب حـ 17 صـ 128 - 130}
(3/33)
 
 
أي فهلَّا تَعُدُّون الكميَّ، والكمي الداخل في السلاح.
والمعنى: فهلَّا كان أهل قرية آمنوا.
وقوله (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ).
استثناء ليس من الأول، كأنه قال لكن قوم يونس لما آمنوا.
وقوله: (فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا).
معناه هلَّا كانت قرية آمنت في وقت ينفعهم الِإيمان، وجرى هذا بعقب
قول فرعون لما أدركه الغرق: (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ).
فأعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أن الِإيمان لا ينفع عند وقوع العذاب ولا عند حُضُورِ الموت الذي لَا يُشَك فيه.
قال اللَّه - جلَّ وعزَّ -: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ).
وقوم يونس - واللَّه أعلم - لم يقع بهم العذاب، إنما رأوا الآية التي تدل
على العذاب، فلما آمنوا كُشِفَتْ عنهم.
ومثل ذلك العليل الذي يتوب في مَرَضِه وهو يرجو في مرضه العافيةَ ولا
يخافُ الموتَ فتوْبتُه صحيحة
أما الذي يعاين فلا توبة له، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ في قِصتِه: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ).
فأمَا النصب في قوله (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) فمثله من الشعر قول النابغة:
(3/34)
 
 
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
وَقَفْتُ فيها أُصَيْلالاً أسائلُها. . . عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أحدِ
إلاَّ الأَوارِيَّ لأْياً ما أُبَيِّنُها. . . والنُّؤْيُ كالحَوضِ بالمَظلُومة الجَلَدِ
ويجوز الرفع على أن يكون على معنى فَهَلَّا كانت قرية آمنت غير قومِ
يونس، فيكون. . (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) صفة.
ويجوز أن يكون بدلاً من الأول، لأن معنى قوم يونس محمول على
معنى هَلَّا كان قوْمُ قريةٍ، أو قوم نبي آمنوا إلا قوم يونس.
ولا أعلم أحداً قرأ بالرفع.
وفي الرفع وجه آخر وهو البدل، وإن لم يكن الثاني من جنس
الأول، كما قال الشاعر.
وبلدة ليس بها أنيس. . . إلا اليعافير وإلا العيس
* * *
 
وقوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
(3/35)
 
 
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
معناها وما كان لنفس الوصلة إلى الِإيمان إلا بمَا أعْلَمها اللَّهُ منه.
ويكون أيضاً إلا بتوفيق اللَّه، وهو إذنه.
(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ).
والرجس العذاب، ويقال هو الرجزُ.
* * *
 
وقوله: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
ونُنْجِى، أي إذا أهلكت قرية أنجى الله الأنبياء، والمؤمنين مما يَنْزِل
بأهْلها.
فإن قال قائل: فهلَّا كانت قرية آمَنَت، ألم يؤمن أحَدٌ من أهل القرى؟
فالمعنى أن أهل القرى ذكر الله في جمهورهم الكفر، فقال:
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96).
فأما من قرأ. . " نجِّي المومِنِينَ " فلا وجه له.
وقد نجِّي النجاء المؤمنين. .
وهذا روي في القراءة عن عاصم في سورة الأنبياء ولا وجْهَ له. .
(3/36)
 
 
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
سورة هود
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
قوله: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
كتاب مرفوع بإضمارِ هذا كتابٌ.
وقال بعضهم: (كتابٌ) خبرُ " الر "
وهَذَا غلض، لأن قوله: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) ليس هو (الر) وحدها.
وفي التفسير (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) بالأمر والنهي والحلال والحرام ثم فصلت بالوعد
والوعيد.
والمعنى - واللَّه أعلم - أنَّ آيَاتِه أحْكِمتْ وَفُصِّلَت بجميع ما يحتاج إليه
من الدلالة على التوحيد، وإثبات نبوة الأنبياء - عليهم السلام - وإقَامَةِ
الشرائع.
والدليل على ذلك قوله: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)
وقوله: (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ).
ويدل على هذا قوله: (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ).
المعنى (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ).
(3/37)
 
 
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
أي من عند حكيم خبير، لِـ أنْ لا تعبدوا إلا اللَّه.
وموضع أن نصب على كل حال.
(وقوله: (إنني) مقول قول مقَدرٍ، أي قل يا محمد لهم إنَّنِي لكم منه.
أي من جهة اللَّه " نَذِيرٌ " أي مُخَوِّفٌ من عَذَابِه لمنْ كفرَ.
و" بَشِير " بالجنة لمن آمَنَ.
 
وقوله: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
أي وأمركم بالاستغفار.
(ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا).
أي يُبْقِيكمْ ولا يَسْتَأصِلُكمْ بالعذاب كما استأصلَ أهل القرى الذين
كفروا.
(وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ).
أي من كان ذا فَضْلٍ في دينه فَضَله اللَّه بالثواب، وفَضله بالمنزلة (في
الدنيا) بالدين كما فَضلَ أصْحَاب نبيه (عليه السلام).
* * *
 
وقوله: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
(أَلَا) معناها التنبيه ولا حَظَّ لها في الإعراب، وما بَعْدَها مبتدأ.
ومعنى (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا)، أي يُسِرون عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل إن طائفة من المشركين قالت: إذَا أغْلَقْنَا أبوَابَنَا وأرْخَيْنَا سُتُورَنا.
واسْتَغْشَيْنَا ثِيَابَنَا، وثَنَيْنَا صُدُورَنَا على عداوةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - كيف يعلم بِنَا، فأعْلَمَ - عز وجل -
(3/38)
 
 
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
بما كتموه فقال جلّ ثناؤه: (أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ).
وقرِئَتْ " أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنَوْني صدورُهم ".
قرأها الأعمش ورُوِيتْ عن ابن عباس " تَثْنَوْني " صدورُهم.
عَلَى مِثال تَفْعَوْعِلُ ومعناها المبالغة في الشيء، ومثل
ذلك قد احْلَوْلَى الشيء إذَا بلغ الغايةَ في الحلاوة.
* * *
 
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
(وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا).
قِيلَ (مُسْتَقَرَّهَا) مَأواها على ظهر الأرض، (وَمُسْتَوْدَعَهَا) ما تصير
إليه، وقيل أيضاً: (مُسْتَقَرَّهَا) في الأصْلاب (وَمُسْتَوْدَعَهَا) من الأرحام.
وقوله: (كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).
أى ذلك ثابت من علم اللَّه. فجائزٌ أن يكون في كتاب، وكذلك قوله
- جلَّ وعز -: (إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا).
* * *
 
وقوله: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
الله قادر على أن يخلقَها في لحظة، لأنه على كل شيء قدير، وإذا خَلَقَهمَا وقَدَّرَهمَا هذا القدْر العَظِيم - والسَّمَاء ليسَ بينها وبَيْنَ الأرْضِ عَمَدٌ يُرَى - في سِتَة أَيَّامٍ علم أنَّ مَنْ كانَتْ قدرَته هذه القدرة لم يُعْجزْه شَيءٌ.
قال اللَّه - جلَّ وعزَّ -: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى).
وكان المشركون يُكذِّبُونَ بأنَّه يَبعَث الموتَى، ويُقِرُونَ أنه خَالِق السماوات
والأرض.
(3/39)
 
 
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
وقوله: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماءِ).
هذا يدل على أن العرشَ والماءَ كانا قبلَ السَّمَاوَاتِ والأرضِ.
وقوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا).
معناه ليختبركم الاختبار الذي يجازيكم عليه، وهو قد علم قبل ذلك
أيُّهم أحْسنُ عملاً، إلا أنَّه يجازيهم على أعمالهم لَا عَلى عِلْمِه فيهم.
* * *
(وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).
ويقرأ إلا ساحِر مبين، والسحر باطل عندهم، فكأنَّهم قالوا: إنْ هَذَا إلا
بَاطِل بَيِّنٌ.
وأعلمهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ القدرةَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاواتِ والأرْضِ تدل
على بَعْث الموْتى. وأهلُ الكفر مختلفون في البعث فالمشركون يقولون أنهم
لا يُبْعَثُونَ ألبتَّةَ ولا يرْجعُونَ بعد موتهم، واليهود والنصارى يَزْعُمُ أن لا أكْلَ
ولا شُربَ ولَا غَشْياً للنساءِ في الجنة وكل كافر بالبعث على جهته.
* * *
 
(وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (8)
معناه إلى أجل وحين معلوم، كما قال الله تعالى. .
(وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ). أي بعد حين.
وقوله: (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا).
(يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) منصوبٌ بمصروف، المعنى ليس العذاب مصروفاً عَنْهُمْ
يَوْمَ يأتيهمْ.
(3/40)
 
 
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
(وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئونَ).
كما تقول أحاط بفلان عَمَلُه، وأهلَكَة كَسْبُه، أي أهلكه جزاءُ كسبِه
وعاقبتُه.
* * *
 
وقوله - جلَّ وعزَّ -: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)
يعني الكافر، والرحْمَة الرزق، ههنا، والإِنسان اسم للجنس في معنى
الناس.
* * *
 
وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
استثناء ليس من الأول، المعنى لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).
* * *
 
وقوله: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
يُرْوَى أن المشركين قالوا للنبِى - صلى الله عليه وسلم - لَوْ تَرَكْتَ عيْبَنَا وسَبَّ آلِهتِنَا لجالسناك، ومعنى (أن يقولوا لَوْلَا أنْزِلَ عليه كنْزٌ)
معناه كراهةَ أن يَقولُوا.
(إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ).
أي إنما عليك أن تنْذِرَهُم وتَأتِيهُمُ من الآيات بما يُوحَى إليك وليس
عليك أن تأتيهم بشهواتهم واقتراحهم الآيات.
ثم أعلمهم وجه الاحتجاج عليهم فقال جلَّ وعزَّ.
 
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
أي، أيقولون افتراه.
(3/41)
 
 
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
(قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ).
أي مثل سورة منه، أيّ سورة منها.
(وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
أي اطلبوا أن يعاونكم على ذلك كل من قدرْتم عَليه، ورجَوْتمْ مُظَاهَرَتَه
ومعاوَنَتَه.
* * *
 
(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
ومعنى (أنْزِلَ بِعلْمِ اللَّهِ)، أي أنْزِلَ واللَّه عَالِم بإنْزَاله، وعالم أنه حق من
عنده.
ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - (بِعِلْمِ اللَّهِ) أي بما أنبأَ الله فِيهِ من غَيْب
وَدَلَّ على ما سَيكون وما سلف مما لم يَقْرأ بِه النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاباً وهذا دليل على أنه من عند اللَّه.
* * *
 
وقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
أي نجازيهم على أعمالهم في الدُّنْيَا.
فأمَّا كان في باب حروفِ الجزاء ففيها قولان:
قال أبو العباس محمد بنُ يزيد: جائزٌ أن تكون لِقُوَّتهَا عَلى معنى
المضِيِّ عبارةً عن كل فعل مَاضٍ، فهذا هو قوتها، وكذلك تتأوَلُ قوله (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ).
(3/42)
 
 
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
وحقيقها - واللَّه أعلم - من تعلم منه هذا، فهذا على باب سائر الأفعال.
إلا أنَّ معنى (كان) إخبار عن الحالِ فيما مضى من الدهر، فإذا قلت سيكون
عالماً فقد أنْبأتَ أن حاله سَتَقع فيما يستقبل، فإنما معنى كان ويكون العبارة
عن الأفعال والأحوال.
* * *
 
وقوله - جلَّ وعزَّ: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
قيل في التفسير إنه يعنيْ محمداَ - صلى الله عليه وسلم - ويتلوه شاهد منه، أي شاهد مِنْ رَبِّه، والشاهِد جبْريل، وقيل يَتْلوه البرهان، والذي جرى ذكر البَيِّنَة، لأن البينة والبرهان بمعنىً واحدٍ.
وقيل (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) يعني لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -
أي أفمن كان على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّه، وكان معه من الفضل ما يبين تلك البينة كان هو وغيره سواء، وترك ذكر المضادِّ لَه لأن فيما بعده دليلاً - عليه.
* * *
وقوله: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ).
ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - أفمن كان على بينة من ربه يعني به
النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر المؤمنين.
ويكون معنى. . (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) يتلوه ويتبعه.
أي يتبع البيانَ شاهدٌ من ذَلِكَ البيانِ، ويكون الدليل على هذا القول: (أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) ويكون دليله أيضاً: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ)، فاتباع الشاهد بعد البيان كاتباع التفصيل بعد الأحْكَامِ.
* * *
وقوله: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً).
(3/43)
 
 
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
أي وكان من قبل هذا كتابُ موسى دَليلاً على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكون كتاب موسى على العطف على: قوله (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى)
أي وكان يتلوه كتاب موسى، لأن النبي بَشَر به موسى وعيسى في التورَاةِ
والإِنجيلِ، قال اللَّه - جلَّ وعزَّْ -: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ).
ونصب (إمَاماً) على الحال، لأن كِتَابَ موسى معرفة.
(فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ).
يجوز كسر الميم في مِرْيةٍ وضمها، وقد قُرئ بهما جَميعاً في مِرْيَةَ
وفرْية.
ويجوز نصب (كتاب موسى)، ويكون المعنى: ويتلوه شاهدٌ منه وهو
الذي كان يتْلِو كتابَ موسى. والأجْودُ الرفعُ، والقِراءةُ بالرْفع لا غير.
* * *
 
وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
الأشهاد هم الأنبياء والمؤمنون، وقال أولئك يعْرضون على رَبِّهم.
والخلقُ كلهم يُعْرضون على ربهم، كما قال جلَّ ثناؤه
(إليْنَا مَرْجِعُهُمْ) (إلَيْنَا يُرْجَعُونَ) فذكر عرضهم على ربهم توكيداً لحالهم في الانتقام منهم.
* * *
وقوله: (أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).
لعنة الله إبعاده من يلعنه من عفوه ورحمته.
* * *
 
(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
(3/44)
 
 
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
أي: يَصُدُّونَعن طريق الِإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يريدون رَدَّ السبيل التي هي الِإيمان والاستواء إلى الكُفْرِ والاعوجاجِ عن القصد.
(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ).
ذكرت هم ثانية على جهة التوكيد لثشأنِهِمْ في الكًفْر.
* * *
 
وقوله: (أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
أي اللَّه لا يعجزه انتقامٌ من دَارِ الدنيا، ولا وَليٌّ يمنع من انتقام الله لمن
أراد به النقمة، ثم استأنف فقال: (يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ).
فوصف مضاعفة العذاب على قَدْر ما وَصَفَ من عِظَم كًفْرهم بنبيه - صلى الله عليه وسلم - وبالبعث والنشور.
* * *
(مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ).
أي مِنْ شدةِ كًفْرِهم وعَداوَتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيعون أن يسمعوا ما يقول.
ثم بيّنَ - جلَّ وعزَّ - ضَرَرَ ذلك عليهم فقال:
(أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21).
* * *
 
وقوله: (لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
قال المفسرون: المعنى جزاء حقاً، أنهم في الآخرة هم الأخسرون
وزعم سيبويه أن جرم بمعنى حَق.
قال الشاعر.
(3/45)
 
 
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
ولقد طَعَنْت أبا عيينة طعنة. . . جَرمَت فزَارَة بعدها أن يَغضبُوا
معناه أحقَّت فزَارةَ الطعنةُ بالغضب.
ومعنى " لا " نفي لما ظنُّوا أنَّه ينفعُهم، كأن المعنى لا ينفعهم ذلك جرَمَ
أَنَّهم في الآخِرةِ هُمُ الَأخْسرون، أي كَسَبَ ذلكَ الفعلُ لهم الخسرانَ ثم
ضرب اللَّهُ مثلاً للمؤمنين والكافرين فقال:
 
(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم لأنهم في عداوتهم وتركهم التفهم
كمن لا يسمع ولا يبصر.
* * *
 
وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)
كسر إنَّ في القراءة على معنى قال لهم إنِّي لكم نذير مُبين، ويجوز
أَنِّي لكم نذير مبينٌ على معنى: لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه بالِإنذار أنْ لاَ تَعْبُدوا إِلَّا اللَّه إِنِّي أنذركم لتُوَحدوا اللَّهَ، وأن تَتْركوا عبادَة غيره.
 
(أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
يجوز في غير القراءة: إني أخاف عليكم عذاب يومٍ ألِيماً، لأن الأليم
صفة للعذاب، وإنما وصف اليوم بالألم، لأن الألمَ فيه يقع، والمعنى عذاب
يومٍ مُؤلمٍ، أي مُوجِعٍ.
 
(فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
(3/46)
 
 
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
(الملأ) رُوسَاء القَوْمِ وكبراؤهم الَّذِينَ هم مُلاءٌ بالرأي وبما يحتاج إليه
منهم.
أي فأجابوه بهذا الجوابِ وَالْقوْلِ.
(مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا).
أي ما نراك إلا إنساناً مثلنا، (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا).
أي لم يتَبِعْكَ الملأُ مِنا، وإنما اتبعك أخِسَّاؤُنا.
وقوله: (بَادِيَ الرَّأْيِ).
بغبر همزٍ في بادي، وأبو عَمْروٍ يهْمِزُ بَادِئَ الرأي، أي اتبعوا اتباعاً في
ظاهر ما يرى، هذا فيمن لم يهْمزْ، ويكون التفسير على نوعين في هذا
أحَدهمَا أن يكون اتبعُوكَ في الظاهر، وبَاطِنُهم عَلَى خلاف ذلِك.
ويجوز أن يكونَ اتبعوك في ظاهر الرأي ولم يتَدَبًرُوا مَا قُلتَ ولم يفكًرُوا فيه وقراءة أبي عمرو على هذا التفسير الثاني.
أي: اتبعوكَ ابتداء الرأي، أي حين ابتدأوا ينظرون وإذا فكروا لم يتبعوك.
فأما نصب بَاديَ الرأيِ فعلى: اتبعوك في ظاهر الرأي، وعلى ظاهر
الرأي، كأنَّه قال: الاتباع الذي لم يفكروا فيه.
ومن قال باديَ الرأي فعلى ذلك نَصَبَه.
* * *
 
(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
(فَعَمِيَتْ)
كذا أكثر القراءة - بفتح العين والتخفيف - وقد قرِئَتْ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ -
بضم العَيْن وتَشْدِيد الميم -
هذا ما أجابهم به في أن قالوا: إن الذين اتبعُوكَ إنما اتبعوك غير
(3/47)
 
 
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
محقِّقِين. فأعلمهم أنهم مُحَققونَ بهذا القول لأنه إذا كان على بَينةٍ، ممن آمن
به فعالِمٌ بَصِير مَفْضُول له، وأن من لم يفهم البينَةَ فقد عَمِيَ عليه الصواب.
وقوله: (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ).
أي فعَمِيتِ البينَةُ عليكم
(أَنُلْزِمُكُمُوهَا).
القراءة بضم الميم، ويجوز إسْكانُها عَلَى بُعْدٍ لِكثْرةِ الحركات وثقَل
الضَمَّةِ بعدَ الكسرة.
وسيبَوَيه والخليل لا يُجيزَانِ إسكانَ حرف الإعراب إلا في اضطرارٍ.
فأما ما رُوِيَ عن أبي عَمْرو مِن الِإسْكانِ فلم يُضبْط ذلك عنه، ورواه
عنه سيبويه أنه كان يخفف الحركات ويختلسها، وهذا هو الوجه.
* * *
 
وقوله: (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
(وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ).
وَإذَا لَاقُوا ربًهُمْ جَازَى مَنْ ظَلَمهُمْ وطردَهُم، بجزائِه من العَذَاب.
* * *
 
وقوله: (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
(وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا).
(تَزْدَرِي) تستسفِل وتستخس.
يقال: ززيْت على الرجُل إذَا عِبْتُ عَلَيْه وخسَّسْتَ فِعْلَه.
وأزْريْتُ إذَا قَصَّرتُ به وتَزْدَرِي أصله تزتَرِي بالتاء، إلا أن هذه
التاءَ تبدل بعد الزَّاي دَالًا، لأن التاء من حروف الهمس، وحروف الهمس
خفيَّة فالتاء بعد الزاي تخفى، فأُبدِلَتْ منها الدال لِجَهْرِهَا، وكذلك يفتعل من الزينة يَزْدَان، تقول: أنت تزدان يا هذا.
وقوله: (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا).
(3/48)
 
 
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
لأنهم قالوا: (اتَبَعَكَ أرَاذِلُنَا).
وقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ).
أي إن كنتم تزعمون أنهم إنما اتبعُوني في ظَاهِر الرَّأْي والذي أدعو إليه
توحيد اللَّه، فإذا رأيت من يُوَحد الله جل ثناؤه عملتُ على ظاهره، واللَّه أعلم بما في نفْسِه، لا يعلم الغيب إلَّا اللَّه.
* * *
 
وقوله: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
(فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) ويقرأ فأكْثرتَ جَدَلنا، والجَدَل والجِدال المبالَغة في الخصُومةِ
والمنافَرة، وهو مأخوذٌ مِنَ الجَدْل وهو لتعدة الفتْل، والصَّقْر يقال له أَجْدَل لأنَّه من أشَدِّ الطير.
* * *
 
وقوله: (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
(يُغْوِيَكُمْ) يُضِلكم ويهلككم.
* * *
 
وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
معناه بل أيقولون افتراه.
(قل إن افتَريتُهُ فَعَلَى إِجْرَامِي).
من قولك أجرم الرجل إجرَاماً، ويقال جَرمَ في معنى أجْرَمَ، وأكثر ما
تستعمل أجرم فِي كَسْبِ الِإثم خاصَّةً يقال رجل مجْرِم وجَارم.
ويجوز فَعَليَّ أَجْرامي على جمع جُرْم وهو على نحو قوله:
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) وأَسْرَارَهُمْ إلا أن القراءة بكسر الألف.
وإجرامي على المصدَرِ.
* * *
 
(وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
فلذلك - واللَّه أعلم - استجارَ نوح بقوله: (لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27).
(3/49)
 
 
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
أعْلِمَ أنَّهم لَا يَلدُون إلاً الكَفَرةَ.
بقوله تعالى: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
مَعْناهُ لا تحزن ولا تَسْتَكِنْ.
* * *
 
وقوله: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
الفلْك السفينة، والفَلَك يكون واحداً ويكونُ جمعاً كما أنهم قالوا أَسَدٌ
وأُسْد، قالوا في الواحد فَلَك وفي الجمع فلْك، لأن فَعْلا وفَعَلا جمعها واحدٍ
ويأتيان بمعنى كثيراً، يقال العُجْم والعَجَم، والعُرْب والعَرَبِ والفُلكْ والفَلَكَ.
والفَلْكة يُقَال لكلّ شيءٍ مسْتَديرٍ أو في استدارة.
ومعنى: (بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا).
أي بإبْصَارنا إليْكَ وحفظنا لك، وبما أوحيْنا إليْك
(وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ).
المعنى: لا تخاطبني في إمهال الذين كفروا إنهم مغرقون.
ثم أخبر اللَّه - جَلً ثناؤه - بعَمله الفلك فقال:
 
(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
يقال في التفسير إنهم كانوا يَقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي مُرْسَل صار
نجَّاراً، فقال: (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ).
أي نحن نستجهِلكُمْ كما تستجهلوننا، ثم أعْلَمَهمْ بِمَا يَكون عاقبة
أمْرِهم فقال:
(3/50)
 
 
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
أي فسوف تعْلَمون من هو أحق بالخْري، ومن هو أحْمدُ عاقِبةً.
* * *
 
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
أعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - نوحاً أنْ وَقْتَ إهلاكهم فَوْرُ التَّنُور.
وقيل في التَّنُور أقْوالٌ. قيل إن التَّنُورَ وجه الأرْض.
ويقال إن الماء فارَ من ناحيةِ مَسْجد الكُوفَةِ
ويقال إن الماء فار من تَنُورِ الخابزَةِ، وقيل التَنُور تنوير الصبْح.
والجملة أن الماء فار من الأرض وجاءَ من السَّماء قال اللَّه - جلَّ وعزّ -
(فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12).
فالماء فَوْرُه من تَنُّورٍ أو من ناحية المسجد أو من وجه الأرض، أو في
وقت الصبح لا يمنع أن يكون ذلك العلامةَ لِإهلاكِ القوم.
(قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ).
أي: من كل شيء، والزوج في كلام العرب واحدٌ ويجوز أن يكون معه
واحد، والاثنان يقال لهما زَوْجَانِ يقول الرجل: على زوجان من الخفاف.
وتقول: عِنْدي زوجان من الطير، وإنما تريد ذكر أو أنثى فقط.
وتقرأ من كلِّ زوجين - على الِإضافة - والمعنى واحد في الزَوْجين أضَفْتَ أم لم تضِفْ.
(وَأهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ).
(3/51)
 
 
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
أي واحملْ مَنْ آمَن، ويقال إن الذين آمنوا معه كانوا ثمانين نفساً.
فقال تعالى: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ).
لأن ثمانمين قليل في جُمْلَةِ أُمَّةِ قَوْمِ نوحِ.
* * *
 
(وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
أي باللَّهِ تجري، وبه تستقرُّ.
ومعنى قًلْنَا بِاسْمِ اللَّه أي باللَّه.
وقد قرئت على وجوه، قرئت مَجْرَاها بفتح الميم، ومُرسَاهَا بضم
الميم. وقرئت مُجْراها ومُرْسَاها بضم الميمين جميعاً. ويجوز مَجْرَاها
ومَرْسَاها، وكل صواب حسن.
فأما من قرأ مجراها بفتح الميم، فالمعنى جَرْيُها ومُرْسَاها المعنى وباللَّه
يقع إرساؤها، أي إِقْرارها.
ومن قرأ مُجْراها ومُرْسَاهَا. فمعنى ذلك باللَّه إجرأؤها وباللَّه إِرْسَاؤها يقال: أجريته مُجْرى وإجْراءً في معنى واحد.
ومن قال مَجرَاها ومَرسَاهَا، فهو على جَرَتْ جَرْياً ومَجرى، وَرَسَتْ رسُوَّا ومَرْسىً.
والْمُرسَى مستقرها.
والمعنى أن الله جلَّ وعزَّ أمَرَهُمْ أن يُسَمُّوا في وقت جريها ووقت
استقرارها.
ومُرْساها في موضع جر على الصفة للَّهِ - جلَّ وعزَّ -.
ويجوز فيه شيء لم يقرأ به ولا ينبغي أن يقرأ به لأن القراءة سنة متبعة:
(3/52)
 
 
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
باسم اللَّه مُجْرِيَها علي وَجْهيْنِ:
أحدهما الحال، المعنى مُجْرِياً لَهَا ومُرْسِياً لها.
كما تقول مررت بزيدٍ ضَارِبَها على الحال.
ويجوز أن يكون منصوباً على
المدح، أعني مُجرِيَها ومُرْسِيَهَا.
ويجوز أن يكون مُجْرِيها ومُرْسِيها في موضع
رفع على إضمار هو مجريها ومرسيها.
* * *
 
وقوله: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
قيل إن السَّمَاءَ والأرضَ التقى ماؤهما فطبق بينَهُمَا وجرت السفينة في
ذلك الماء.
وقوله: (وَهِيَ تَجْرِيِ بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجِبَالِ).
إن الموج لا يكون إلا فوقِ الماء، وجاء في التفسير أن الماء جَاوَزَ كل
شيء خَمَسَةَ عَشَر ذِرَاعاً، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ: (فالْتَفَى الماءُعلى أمْرٍ قَدْ
قُدِرَ).
فجائز أن يكون يلتقي ماء السماء وماء الأرض وما يطبق ما بينهما.
وجائز أن يطبق ما بينهما.
والموج تَمَوُّجُ المَاءِ، وأكثر ما يُعْرَفُ تكونُه في عُلُوِّ الماء، وجائز أن
يتموج داخل الماء. .
والرواية في السفينة أكثر ما قيل في طولها أنه كان ألفاً ومائتي ذراع.
وقيل ستمائة ذراع. وقيل إن نوحاً بعث وله أربعون سنةً ولبث في قومه كما قال الله - جل ثناؤه - ألْفَ سَنَةٍ إلا خَمْسين عَاماً. .
وعمل السفينة في خمسين سنة ولبث بعد الطوفان ستين سنة.
(3/53)
 
 
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
(وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ).
يجوز أن يكون كان في معزل من دينه، أي دين أبيه ويجوز أنْ يكونَ
- وهو أشبه - أن يكون في معزل من السفينة -
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا).
الكسر أجود القراءة أعني كسر الياء، ويجوز كسرها وفتحها من
جهتين، إحداهما أن الأصل با بُنَيي، والياء تحذف في النداء، أعني ياء
الِإضافة، وتبقى الكسرة تدل عليها، ويجوز أن تحذَفَ الياء لسكون الراء منَ
ارْكبْ، وتقَرُّ في الكتاب على ما هي في اللفظ.
والفتح من جهتين، الأصل يا بُنيَّا فتبدل الألف من ياء الِإضافة.
العرب تقول: يا غلاما أقبل، ثم تحذف الألف لسكونها وسكون الراء.
ويقَرُّ في الكتاب على حذفها في اللفظ ويجوز أن تحذف ألف النداء كما تحذف ياء الإضافة، وإنما حذفت ياء الإضافة وألف الِإضافة في النداء كما يحْذَفُ
التنوين، لأن ياء الِإضافة زيادة في الاسم كما أن التنوين زيادة فيه، ويجوز
وجه آخر لم يقرأ به وهو إثبات الياء، يا بُنَيِّي، وهذه تَثْقُل لاجتماع الياءات.
* * *
 
(قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
أي يمنعني من الماء، والمعنى من تَغْرِيقِ الماء
(قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ).
هذا استثناء ليس من الأول، وموضع " مَنْ " نَصْبٌ المعنى لكن مَنْ رَحم
اللَّهُ، فإنه مَعْصُوم، ويكون (لاَ عَاصِمَ) معناه لا ذَا عِصْمَةٍ، كما قالوا: (عِيشَة رَاضِيَةٌ)، مَعناه مُرْضية وجاز راضية على جهة النسب أي في عيشةٍ ذات رضا.
(3/54)
 
 
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
وتكون " من " " على هذا التفسير في موضع رفع، ويكون المعنى لا مَعْصُومَْ
إلا المرحوم.
 
وقوله: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
(وَغِيضَ الْمَاءُ).
يقال غاض الماء يغيض إذا غاب في الأرض، ويجوز إشْمامُ الضَم في
الغين.
(وَقُضِيَ الأمْرُ) أي هلاك قوم نوح.
(وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ).
والْجُودِيّ جبل بناحية آمِدَ.
* * *
 
وقوله: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
قرأ الحسنُ وابنُ سيرين " عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ " وكان مذهبُهمَا أنه ليس
بابنه، لم يولد من صلبه، قال الحسن: واللَّه ما هو بابنه.
وقال ابن عباس وابن مسعود إنه ابنه، ولم يبتل اللَّه نبِيا في أهْلِه بمثلِ هَذِه البَلْوَى.
فأمَّا من قرأ: (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ).
فيجوز أن يكون يعني به أنه ذو عمل غير صالح، كما قالت الخنساء.
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت. . . فإنما هي إقبال وإدبار
(3/55)
 
 
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)
أي ذات إقبالٍ، وقد قال الله - عزَّ وجلَّ - (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) فنسبه إليه.
وللقائلِ أن يقول نسبه إليه على الاستعمال، كما قال اللَّه - جلَّ وعزَّ -
(أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ)، فنسبهم إليه على قولهم، واللَّهُ لا
شريك له، ولكن الأجودَ في التفسير أن يكون: إنه ليس من أهلك الذين
وَعَدْتكَ أن أنَجِّيَهُمْ، ويجوز أن يكون (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)
إنَّه لَيْسَ من أهلِ دينِك.
* * *
(فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).
ويقرأ " فلاتسألَنَّ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ".
* * *
 
وقوله: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)
المعنى وأرْسلنا إلى عادٍ أخاهُم هُودًا.
وقيل أخاهم من جهتين:
إحْدَاهُما أنه منهم وبيِّن بلسانهم، والأخرى أنه أخوهم من ولد آدم، بشر
مثلهم.
(3/56)
 
 
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
(قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).
وإن شئت غَيرِه، غيرِه من نعت الِإله، و " غَيْرُه " على معنى ما لكم إلهٌ
عيرُه.
* * *
 
(وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
كان أصابهم جَدْبٌ فاعْلَمَهُم أنَّهم إن اسْتَغْفَرُوا ربَّهُمْ وتابوا أرسل السماء
عليهم مدراراً.
والتوبة الندم على ما سلف، والعزمُ على ترك العَوْدِ في الذنوب.
والإقامةِ على أداء الفرائض.
وَنصب (مِدْرَاراً) على الحال، كأنَّه قال يرسل السماء عليكم دارَّة، ومعنى
مدرار المبالغة، وكان قومٌ هودِ - أعني عاداً - أهلُ بساتين وزُرُوع وعَمَارَةٍ.
وكانت مساكنهم الرمالَ التي هي بين الشام واليَمَن، فدعاهم هودٌ إلى
توحيد اللَّه واستغفاره وترك عبادة الأوثان، فلم يطيعوه وتوعدهم بالعذاب
فأقاموا على كفرهم، فبعث الله عليهم الريح، فكانت تدخل في أنوفهم
وتخرج من أدْبَارِهم وتُقَطعُهمْ عُضْواً عُضْواً
(وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا).
أيْ يزِدْكم قوةَ في النعمة التي لكم
ويجوز أن يكون: ويزدكم قوةً في أبْدَانِكُمْ.
* * *
 
(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
أي ما نقول إلا مسَّك بعض أصنامنا بجنونٍ، بِسَبِّكَ إيَّاهَا فقال لهم
(3/57)
 
 
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
(إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
وهذه من أعظم آيات الرسُل أن يكون الرسول وَحْدَه، وأمتُه متعاونة
عليه، فيقول لها: كِيدُونِي ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ، فلا يستطيِع وَاحدٌ مِنهم ضَرَّه.
وكذلك قال نوحٌ لِقَوْمِه: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71).
وقال محمد - صلى الله عليه وسلم - (فَإنْ كَانَ لَكمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ).
فهذه هن أعظم آيات الرسل وأدَلَّها على رِسَالَاتِهِمْ.
* * *
 
(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
(مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا)
أي هي في قبضتِه، وَتَنَالُهَا بِمَا تَشاء قُدرَتُه، ثم قال:
(إن رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
أي هو سبحانه وإن كانت قَدْرَته تنالها بما شاء، فهو لا يشاء إلاَّ
العَدْل.
* * *
 
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
المعنى فإن تَتَولًوْا.
(فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ).
فجعل (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) في موضع قَدْ ثَبتَتِ الحجة عليكم
(وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ).
* * *
 
وقوله: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
(نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا)
يحتمل أن يكون بما أرَيْنَاهم من الهدى والبيان الذي هو رحمة،
(3/58)
 
 
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
ويحتمل أن يكون (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي لا ينجو أحد وإن اجتهد إلا برحمة من
اللَّه - جلَّ وعزَّ -
(وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ).
أي مما عُذب بِهِ قوم عاد الكفار في الدنيا ومما يُعذبُونَ به في الآخرة.
* * *
 
(وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
" أَلَا " ابتداء وتنبيه. وَ (بُعْدًا) منصوب على أبْعَدَهُمُ اللَّه بُعْدًا، ومعنى
بُعْدًا أي بُعْدًا من رحمة اللَّه.
* * *
 
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
المعنى: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً. وثمود لم ينصرف لأنه اسمِ
قبيلة، ومن جعله اسماً للحيِّ صرفه وقد جاء في القرآن مصروفاً:
(الا إنَّ ثَمُودًا كَفَروا رَبَّهُمْ).
* * *
(قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).
ثم بين ما هي فقال:
(هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً).
يقال: إنها خرجت من حَجَرٍ، وفي هذا أعظم الآيات، ويقال إنها
كانت تَرِدُ المَاء لا تَرِدَ الماء معها دَابةٌ، فإذا كان يوم لا تَرِد، وردَتْ الوَارِدَةُ
كلها.
وفي هذا أعظَمُ آية.
(3/59)
 
 
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
ونَصْبٌ آية على الحَال.
المعنى إن قال هذه نَاقَةُ اللَّهِ آيةً أو آية لكُمْ.
فكأنه قال: انتبهوا لها في هذه الحالة.
والآية العلامة.
 
(فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)
وتأكل من أرض اللَّهِ، فمن قرأ تَأكلْ بالجزم فَهوَ جَوَابُ الأمر.
وقد بيَّنَّا مثله في سورة البقرة، ومن قرأ تأكلُ فمعناهُ فذروها في حال أكلها. ويجوز في الرفع وجه آخر، على الاستئناف.
المعنى فإنها تأكل في أرض اللَّه.
(وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ).
(فَيَأْخُذَكُمْ) جواب النَهْيِ، والمعنى عذاب يَقْرُبُ مِمن مَسَّها بالسُّوءِ.
أي فإن عقرتموها لم تُمْهَلُوا.
* * *
 
(فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
فأهلكوا بَعْدَ الثلاثِ، وَقَدْ بيَّنا في الأعراف كيف أهلكوا.
* * *
 
وقوله: (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
معناه كان لم ينزلوا فيها.
قال الأصْمعي: المَغَانِي المَنازِل التي نزلوا بها.
يقال غَنِينَا بمكان كذَا وكَذا إذَا نَزَلوا به.
* * *
 
وقوله - جلَّ وعزَّ -: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
بالبشر ى، بالولد.
(قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ).
وقَالوا سَلاَمٌ، يُقْرأ أن جميعاً، فأما قوله (سَلاماً) فمنصوبٌ على سَلَمْنا
سَلاَماً، وأما سَلاَمٌ فمرفوع على معنى أمري سَلاَمٌ
(وَمَنْ قَرَا سَلامٌ) فمرْفُوعٌ عَلَى أمري سلام.
(3/60)
 
 
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
أي لَسْتُ مُرِيداً غير السلامة والصفح
(فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ).
أي ما أقام حتى جاء بعجل حنيذٍ.
والحنيذ المشويُّ بالحِجَارَة
وقيل: الحنيذ المشوي حَتَّى يَقْطُرَ.
والعربُ تقولً: احْنِذِ الفرس أي اجعل عليه الجُلَّ حَتَّى يقطرَ عَرقاً.
وقيل الحنيذ المشوي فقط.
وقيل: الحنيذ السَّمِيطُ.
ويقال حَنَذَته الشمس والنار إذَا شوته.
* * *
 
(فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
لم يأكلوا لأنهم ملائكة، ويقال إنهم كانت العلامةُ لديْهم في
الضيفان إذا قصدوا لِخيْرٍ الأكلَ.
يقال: نكِرْت الشيءَ وأنكرت، ويقل في اللغة أنكر ويَقِل منكور.
والكلام أنكر ومنكور.
و (أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً).
معناه أضمر منهم خوفاً
(قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ).
ألا تراه قال في موضع آخر: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33).
* * *
 
(وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
يروى أنها ضحِكتْ لأنها كانت قالت لإبراهيم: اضْمُمْ لوطاً ابنَ أخيك
(3/61)
 
 
إليْك، فإني أعلمُ أنه سينزل بهؤلاء القومِ عذابٌ، فضحكت سروراً لمَّا أتى
الأمر على ما تَوَهَّمَتْ.
فأما مَن قال: ضحكت: حَاضَتْ فليس بشيء
(فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ).
يقرأ يعقوبُ ويعقوبَ - بالرفع والنصب
وفي هذه البشارة بشارة بالوَلَدِ وَوَلَد الوَلَدِ، يقالُ هذا ابني من الوراء.
أي هذا ابن ابني.
فبشرناها بأنها تلد إسحاق وأنها تعيش حَتَى ترى وَلَدَه.
وروينا في التفسير أن عُمْرَهَا كان تسعاً وثمانين، وأن عمر إبراهيم كان
تسعاً وتسعين في وقت البشارة.
فأما من قرأ: (وَمِن وراءِ إسحاقَ يعقوبَ)، فيعقوب في موضع نصب
محمول على موضع فبشرناها بإسحاق، محمول على المعنى، المعنى: وهبنا
لها إسحاق ووهبنا لها يعقوب.
ومن قرأ يَعْقُوبُ فرفْعُه على ضربين، أحدهما الابتداء مَؤخَّراً، معناه
التَّقديم، والمعنى ويعقوب مُحْدَثٌ لها من وراء إسحاق.
ويجوز أن يكون مرفوعاً بالفعل الذي يعمل في " مِنْ وَرَاء "
كأنَّه قال وثبت لها من وراء إسحاق يعقوب.
ومن زعم أن يعقوب في موضع جر فخطأ زعمُه، ذلك لأن الجارَّ
لا يفصلُ بينه وبين المجرور، ولا بينه وبين الواو العاطفة، لا يجوز مررت بزيد
(3/62)
 
 
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
في الدارِ، والبيْتِ عَمْروٍ ولا في البيتِ عَمْرو، حتى تقولَ وَعَمروٍ في
البيت.
* * *
 
(قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
المصحف فيه يا ويلتي بالياء، والْقِراءَة بالألف، إن شِئت على
التضخيم، وَإِنْ شِئْتَ عَلَى الِإمَالة.
والأصل يَا ويلَتِي فَأبْدِلَ من الياء والكسرةِ الألف، لأن الفتح والألف
أخف من الياء والكسرة.
ويجوز الوقف عليه بغير الهاء.
والاختيار أنْ يوقف عليه بأنهاء، يا ويلَتَاهُ.
فأمَّا المصحف فلا يخالف، ولا يوقف عليه بغير الهاء، فإن اضطر
واقف وقف بغير الهاء.
فأمَّا الهمزتان بعد " يَا وَيلَتَى " ففيهما ثلاثة أوجه، إن شئت حَقَّقْتَ الأولى
وخَفَّفْتَ الثانيةَ، فقلتَ يا وَيلَتَى أألِدُ، وإن شئتَ - وهو الاختيار خفَّفْت الأولى وخفَّفْتَ الثانية فقلت يا وْيلَتَى آلِدُ، وإن شئت حَقَّقْتَهُما جميعاً فقلت أَألدُ
وتحقيق الهمزتين مذهب ابن أبي إسحاق.
(وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً).
القراءة النصب وكذلك هي في المصحف المجمع عليه، وهو منصوب
على الحال، والحال ههنا نصبها من لطيف النحو وغامضه.
ذلك أنك إذَا قلت هذا زيد قائما، فإن كنت تقصد أن تخبر من
يعرف زيداً أنه زيدٌ لم يجز أن تقول: هذا زيد قائماً، لأنه يكون زيداً ما دَام
(3/63)
 
 
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
قائماً، فإذا زال عن القيام فليس بزيدٍ، وإنما تقول ذاك لِلذي يعرف زيداً: هذا زيدٌ قَائِماً فيعمَلُ في الحال التنبيه، والمعنى انتبه لزيد في حال قيامه.
وَأشِيرُ لك إلى زيد حال قيامه، لأن " هذا " إشارة إلى ما حضر، فالنصب الوجْهُ كما ذكرنا ويجوز الرفع.
وزعم سيبويه والخليلُ أن النصبَ من أربعةِ أوْجهٍ:
فوجه منها أن تقول: هذا زيد قائم فترفع زيداً بهذا وترفع قائماً خبر
ثانياً، كأنك قلت: هو قائم أو هذا قائم.
ويجوز أن تجعل زَيْداً وقَائِماً جميعاً خبرين عن هذا فترفعهما جميعاً
خبراً بهذا، كما تقول: هذا حُلْوٌ حَامِضٌ تريد أنه جمعَ الطعمين.
ويجوز أن تجعلَ زيداً بدلاً من هذَا، كأنك قلت زيد قائم.
ويجوز أن تجعل زيداً مبَيِّناً عن هذا، كأنك أردت: هذا قائم، ثم بينت
من هو بقولك زيد.
فهذه أربعة أوجه.
* * *
 
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
الرَّوْعُ: الفزغ. يعني ارتياعُه لمّا نكرهم حين لم يأكلوا من العِجل.
والرُّوع - بضم الراء - النفس.
يقال وقر ذلك في رُوعِي، أي في نَفْسي ومن خَلَدِي.
(وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ).
يجادلنا حكاية حال قد مضت لأن " لَمَّا " جعلت في الكلام، لِمَا قد وقعَ
(3/64)
 
 
لوقوعِ غَيرِه. تقول: لما جَاءَ زيد جاء عمرو.
وَيجوز لمَّا جاء زيد يتكلم وعمرو، على ضربين:
أحدُهُمَا أن إنْ لما كانت شرطاً للمستقبل وقع الماضي فيها في مَعنى
المستقبل، نحو إن جاء زيد جِئتُ. والوجه الثاني - وهو الذي أختارُه - أن
يكون حالًا لحكاية قد مضت.
المعنى فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءَتْه البُشْرى أخَذَ
يُجَادِلُنا في قوم لوط، وأقبل يجادِلنَا. ولم يذكر في الكلام أخذ
وأقبل، لأن في كل كلام يخاطب به المخاطب معنى أخَذَ وأقْبَلَ إذَا أرَدْتَ
حكايةَ الحَالِ، لأنك إذَا قلتَ: قام زيد، دللت على فعل ماضٍ.
وإذا قلت أخَذ زيْدْ يَقُولُ دللت على حال ممتدة من أجلها ذكرتَ أخَذَ وأقْبَلَ. وكذلك جعل زيد يقول كذا وكذا، وكَرَبَ يَقول كذا وكذا
وقد ذكرنا (الأوَّاه) في غير هذا الموضع، وهو المبتهل إلى اللَّه
المتخشع في ابتهاله، الرحيم الذي يكثر من التأوه خوفاً وإشفاقاً من الذنوب.
ويروى أن مجادلته في قوم لوط أنه قال للملائكة وقد أعلَمُوه أنهم
مُهلِكُوهم، فقال أرأيتم إنْ كانَ فِيها خمسُونَ من المؤمنين أتهلكونَهُمْ
مَعَهمْ إلى أن بلغ خمسةً، فقالوا لا، فقال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36).
(3/65)
 
 
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
ويروى أنهم كانوا جَمْعاً كثيراً، أكثرُ ما رُوِي فيهم أنهم كانوا أربعة
آلاف.
 
(يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
المعنى جَادَلَنا فقلنا يا إبراهيم أعْرض عن هذا.
ويروى أن إبراهيم لَمَّا جَاءته الملائكةُ كان يعمَلُ في أرض له وكلما
عمل دَبْرَةً من الدِّبَارِ وهي التي تسمى المشارات غَرَّز بَالَتَهُ وصَلَّى، فقالت
الملائكة حقيق على اللَّه أن يتَّخِذَ إبراهيم خليلاً.
* * *
 
وقوله: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
معناه ساءَه مَجيئُهم، لأنهم استضافوه فخاف عليهِمْ قومَه، فلما مَشَى
معهُمْ قليلاً قال لهنَّ: إن أهل هذه القرية شَرُّ خلقِ الله وكان قَدْ عُهِدَ إلى
الرسُل ألَّا يهلكوهم حتى يَشْهَد عليهم لوط ثلاث مرات، ثم جَازَ عليهم بعد
ذلك قليلاً، وردَّ عليهم القول ثم فَعلَ ذلكَ ثالثةً ومَضَوا معه.
(سِيءَ بِهِمْ) أصله سُوِئ بهم، من السّوءِ إلا أن الواو أُسكِنتْ وثُقِلت
كسرتها إلى السِّين، ومن خفَّفَ الهمزة قال: سِي بِهِمْ (وضاق بهم ذَرْعاً). يقال ضاق زيد بأمْرِهِ ذَرْعاً إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مَخْلَصاً.
(وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ).
(3/66)
 
 
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
أي شديد، فلما أضافهم مضت امرأته - عجوز السوء - فقالت لقومه إنه
استضاف لوطاً قومٌ، لمْ أر أحْسنَ وجوهاً مِنْهُمْ وَلَا أطْيَبَ رَائِحةً، ولا أنظف
ثياباً.
* * *
 
(وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
أي يسرعون في المجيء، فراوَدوه عن ضيفه، وحاولوا فتح بابه.
فأعلمته الملائكة أنهم رسل اللَّهِ وأن قومَه الفسقَةَ لن يصلوا إليهم.
فقال لهم لوط حين رَاوَدوه: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي).
فقيل إنهم عُرِضَ عليهم التزويج، وكأنه عرضه عليهم إنْ أسْلَمُوا
وقيل: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي): نساء أُمَّتِي، فكأنَّه قال لهم التزويج أطهر لكم.
فلما حاولوا فتح البابِ طمس اللَّه أعْينَهمْ.
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ).
ولما استعجلوه بالعذاب، قالت لهم الرسل: (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ).
(هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)
القراءة بالرفع في أطْهر، وقد رُوِيتْ عن الحسن هن أطهرَ لكم، وعن
عيسى بن عمر.
وذكر سيبويه إنْ ابنَ مَروانَ لَحَن في هَذِه في نَصْبَهَا.
ْوليس يُجيز أحدٌ من البصريين وأصحَابِهِمْ نصبَ أطْهر، ويجيزها
(3/67)
 
 
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
غيرهم. والذين يجيزونها يجعلون " هُنَّ " في هذا بمنزلتها في " كان " فإذا
قالوا: هؤلاء بَنَاتِي أطْهَر لَكم، أجازوا هُنُّ أطهَر لَكمْ، كما يجيزون كان زيد
هو أطهر مِنْ عَمْروٍ.
وهذا ليس بمنزلة كان. إنما يجوز أن يقع " هو " وتثنيتها وجمعها
" عماداً " فيما لا يتم الكلام إلا به، نحو كان زيد أخاكَ.
لأنهم إنما أدخلوا " هُمْ " ليُعْلِمُوا أن الخَبَرَ لا بد منه، وأنه ليس بصفة للأول. وباب " هذا " يتم الكلام بخبره، إذا قلت: هذا زيد فهو كلام تام.
ولو جاز هذا لجاز جاء زيد هو أنْبَلُ من عمرو.
وإجماع النحويين الكوفيين والبصريين أنه لا يجوز قدمَ
زيد هو أنْبلَ مِنك حتى يرْفَعوا فيقولوا هو أنبل منك.
وبعد فالذين قرأوا بالرفع هم قُراءُ الأمْصارِ، وهم الأكثر.
والحسن قد قرأ " الشياطون " والشياطون ممتنع في العربيةِ.
وقد قال بعضهم: إن المشركين في ذلك الدهر قد كان لهم أن يتزوجوا
من المسلمين.
* * *
 
وقوله: (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ).
أي بظلمةٍ من الليل. يقال: معنى قِطْع من الليل أي قطعةٍ صالحةٍ،
(3/68)
 
 
وكذلك مَضى عِنْك من الليل، وسعْوٌ مِنَ الليْلِ.
ويقرأ: (فَأسْرِ) بإثباتِ الهمزَةِ في " اللفظ، ويقرأ: فَاسْرِ يقال أسْرَيْت
وسَرَيْت إذَا سِرْت ليلاً.
قال الشاعر:
سرَيْت بهم حتى تكلَّ مَطيُّهم. . . وحتى الجِيادُ ما يُقَدْن بأَرْسانِ
وقال النابغَة
أسرَتْ عَلَيْهِمْ من الجوزاء سارِية. . . تزْجِي الشمَال عليها جامدُ البَردِ
وقد روَوْا في هذا البيت سَرَتْ.
وقال اللَّه - جَل وعز -.: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ).
وقوله: (إِلَّا امْرَأَتَكَ).
يجوز فيه النصب والرفعُ فمن قرأ: (إِلَّا امْرَأَتَكَ). بالنصْبِ فَعَلَى معنى
(3/69)
 
 
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
فأسر بأهلك (إِلَّا امْرَأَتَكَ)، ومن قرأ بالرفع، حَمَلَهُ عَلَى مَعْنَى: (ولا يلتفِتْ منكم أحدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ).
* * *
 
وقوله: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
(جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا).
يقال إن جبريل جعل جناحه في أسْفَلِهَا ثم رَفَعها إلى السماء حتَى سمع
أهلُ السماءِ نُباحَ الكِلابِ وصِيَاح الدجَاجِ، ثم قَلَبَها عَلَيْهِمْ.
 
(وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
وقد قال الناس في سِجيل أقْوالًا، ففي التفسير أنها مِنْ جِلٍّ
وحِجَارَة. وقال أهل اللغة: هو فارِسِي مُعرَّبٌ، والعرب لا تعرف هذا. والذي عندي أنه إذَا كان هذا التفسيرُ صَحيحاً فهو فارِسي أعْرِبَ لأن اللَّه
- جلَّ وَعَزَّ - قد ذكر هذه الحجارة في قصة قوم لوط، فقال:
(لِنُرْسِلَ عَليْهِمْ حِجَارةً مِنْ طِينٍ) فقد تبين للعرب ما عُنِيَ بـ سجيل.
وَمِنْ كلام الفرسِ ما لا يحْصَى مما قد أعْرَبتْهُ العَرَبُ.
نحو جاموس وديباج. فلا أنْكِرَ أن هذا مِما أعْرِبَ.
وقال أبو عبيدة معمرُ بنُ المثَنَّى: تأويله كسَيْرَة شديدة، وقالَ إن مثل
ذلك قول الشاعر:
(3/70)
 
 
ورَجْلةٍ يَضْرِبون البَيْضَ عن عُرُضٍ. . . ضَرْباً تَوَاصَتْ به الأَبْطالُ سِجِّينا
والبيت لابن مُقْبِل، وسِجين وسِجيل بمعنى وَاحدٍ.
وقال بعضهم:
سِجيل من أسْجَلتهُ أي أرْسَلْتَهُ فكأنَّها مُرْسَلَة عَلَيهْم.
وقال بعضهم من سِجيلٍ، من أسْجَلْتُ إذا أعْطيتُ، فجعله من السَّجْل
وهو الدلْو.
قال الفَضلُ بنُ عباس:
من يُساجِلْنِي يساجِل ماجداً. . . يَملأ الدلو إلَى عَقْد الكَربُ
وقيل من سِجيل كقولك مما سُجِّلَ أي مما كتب لهم، وهذا القول إذا
فُسِّرَ فهُوَ أثبتها. لأن في كتاب اللَّه تعالى دَلِيلاً عليه.
قال - جلَّ وعزَّ -: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9).
(3/71)
 
 
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
سِجيل في معنى سِجين.
فالمعنى إنها حجَارَة مما كتب اللَّه - جل ثناؤه - أنه يُعَذَبُهُمْ بها.
وهذا أحْسنُ ما مَرَّ فيها عِنْدِي.
فامّا قوله: (مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ).
فمعناه أن بعضها يأتي مَعَ بَعْض كالمطرِ.
وأما (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) فروي عن الحسن أنها مُعْلَّمَة ببياض وحُمْرةٍ.
وقال غيرُه: مُسَوَّمَةً بعَلامَةٍ يعلم بها أنها ليست مِنْ حِجَارةِ أهْلِ الدنيا، وتُعْلَم
بسيماها أنها مما عذب اللَّهُ بها.
(وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).
قِيلَ إنها ما هي من ظالمي هذه الأمة بِبَعِيدٍ.
* * *
 
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
المعنى أرسلْنا إلى أهل مَدين أخَاهُمْ شعَيْباً، فحذف أهل وأقام مَدْين
مقامَه.
ومَدْين اسمُ المَدينة أو القبيلة فلذلك لم ينصرف.
* * *
 
وقوله: (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
ومعناه طاعة اللَّه (خيرٌ لكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
ويجوز أنْ يكون مَعْنَاهُ الحال التي تَبْقَى لكم من الخير خير لكم.
* * *
 
(قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
ويقرأ: أصَلَواتك.
(تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا).
هذا دليل أنهم كانوا يعبدون غير اللَّه - جلَّ وعزَّ -
(أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ).
(3/72)
 
 
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
المعنى إنا قَدْ تَرَاضَيْنَا بالبخس فيما بَيْنَنَا.
وفي التفسير أنَّه نهاهم أن يَحْذِفُوا الدرَاهِمَ. أي (أن) يكسروها.
(إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ).
قيل كنى بذَا عن أنهُمْ قالوا له: إنك السَّفِيهُ الجاهِل.
وقيل إنهُمْ قالوا له هذا على وجه السِّخرِيّ.
* * *
 
وقوله: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
وجواب الشرط ههنا متروك.
المعنى: إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي اتَّبعُ الضلاَلُز
فترك الجواب لعلم المخَاطَبينَ بالمعنى، وقد مر ما تُرِكَ جَوَابُه لأنه
مَعْلُوم وشرحُه في أمكنتِه.
وقوله: (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا).
أي: حَلالاً، وقيل:. رزقاً حَسَناً ما وُفقَ لَه مِنَ الطاعَةِ.
(وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ).
أي لست أنهاكم عن شيء وأدْخُلُ فيه، وإنما أختار لكم ما أختار
لنفسي، ومعنى " مَا أخَالِفُكَ إليه "، أي ما أقصد بخلافك القَصْدَ إلى أن
أرْتكِبَهُ.
(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ).
أي بقدر طاقَتِي، وَقَدْرُ طَاقَتِي إبْلَاغُكم وإنذَارُكم، ولست قادراً على
إجبَاركم على الطاعةِ.
ثم قال:
(3/73)
 
 
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
(وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ).
فأعْلَمَ أنه لا يقدر هو ولا غيرُه على الطاعة إلاَ بتوفيق اللَّه.
ومعنى (إِلَيْهِ أُنِيبُ) إليه أرجع.
* * *
 
(وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
مَوضع أنْ نَصْبٌ، المعنى لا تكْسِبَنَّكُمْ عداوتُكم إيَّايَ أنْ يُصيبَكم عذابُ
العاجلة (مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِي).
وكان إهلاك قوم لوط أقربَ الإهْلَاكات التي عرفوها، فكأنَّه قال لهم:
العظةُ في قوم لوط قريبة مِنكم.
* * *
 
(قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
وكان ضرِيراً.
وحِمْيرُ تُسمَي المكفوف ضعيفاً، وهذا كما قيل ضَرِير أي قد ضُر
بذهاب بَصَرِهِ، وكذلك قد كُفَّ عن التصَرفِ بذهاب بصره.
(وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ).
أي لولا عشيرتك لرجمناك أي لَقَتلناك بالرجْم، والرجم من سَيئ
القتلات، وكان رهطه من أهل مِلَّتِهِمْ فلذلك أظهروا الميل إلَيْهِمْ والإكرام
لهم.
* * *
 
(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
أي أنتم تزعمون أنكم تتركون قَتْلِي إكراماً لِرهْطِي - واللَّه - جلَّ وعزَّ -
أولى بأن يتبعَ أمْرُه.
(وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا).
(3/74)
 
 
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
أىْ نَبَذْتُموه رَرَاءَ ظهوركم، والعرب تقول لكل من لا يعبأ بأمْرٍ قد جعل
فلانٌ الأمر بظهره.
قال الشاعر:
تَمِيمُ بنَ قَيْسٍ لا تَكونَنَّ حاجَتِي. . . بظَهْرٍ فلا يَعْيا عَليَّ جَوابُها
* * *
 
وقوله - جلَّ وعزَّ -: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)
يروى أن جبريلَ صَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً فماتوا في أمْكِنَتِهمْ، فأصبحوا جاثمين
لا يقدرون على حركة قَدْ مَاتوا.
* * *
 
(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
كان لم ينزلوا فيها، يقال: غَنِينَا بِانمَكانِ اذَا أنزَلْنَا بِهِ).
(أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ).
(3/75)
 
 
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
(ألَا) حرف يُبتدأ الكلام به، وهو تنبيه للمخاطب
ومعنى (بُعْدًا لِمدْيَنَ) أنهم قد بُعُدوا مِنْ رَحْمةِ اللَّهِ، وهو منصوب على
المصدر، المعنى أبْعَدَهُم الله فبعُدوا بعدًا.
ودليل ذلك: (كما بَعِدتْ ثَمُودُ).
ويجوز بعَدَت وَبَعُدَتْ.
* * *
 
وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96)
أي بعلاماتنا التي تدل على صِحة نبوته.
(وَسُلْطَانٍ مُبينٍ).
أي وحجة بَينةٍ. والسُّلْطانُ إنَّما سُمِّيَ سُلْطَاناً لأنه حُجةٌ اللَّه في أرْضِه.
واشتقاق السلطان مِنَ السليط، والسليط ما يُضَاءُ بِهِ، ومن هذا قيلَ للزيْت
سَليط.
* * *
 
(إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
مَلؤهُ أشرافُ قوْمِهِ، الَّذِينَ هم مِلَاءٌ بالرأيِ والمَقْدِرَة
(فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ).
أي استحبُّوا العَمَى علىَ الهُدَى.
* * *
 
(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
يقال قَدَمْتُ القَوْم أقدُمُهُمْ قَدْماً وقُدُوماً إذَا تَقدْمتُهُمْ.
أي يقدُمُهم إلى النَّارِ، ويدُل على ذلك قوله: (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ).
(3/76)