معاني القرآن وإعرابه للزجاج 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: معاني القرآن وإعرابه
المؤلف: إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج (المتوفى: 311هـ)
 
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَال أبو إسحاق إِبراهيمُ بنُ السَّري الزجَّاج:
هذا كتاب مختصر في إِعرَاب القُرآنِ ومَعَانِيه، وَنَسْألُ اللَّه التَّوْفِيق فِي
كُل الأمُورِ.
قوله عزَّ وجلَّ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ):
الجالب للباءِ معنى الابتِدَاء، كَأنَّك قُلْتَ: بَدَأتُ بِاسْم اللَّه الرحمن
الرحيم، إِلا أنَّهُ لم يُحْتَج لذكر " بَدأت " لأن الحال تنبئ أنك مبتدئ.
وسقَطت الألف من باسم اللَّه في اللفظ وكان الأصلُ: " باسم اللَّه " لأنها
ألف وصل دخَلتْ ليتَوَصلَ بِهَا إِلى النُطْقِ بالسَّاكِن. والدَّلِيل على ذلِكَ أنَّك إذَا صغرت الاسم قلت سُمَيٌّ والعرب تقول: هَذا اسم، وهذا اسم، وهذا سِمٌ.
قال الرَّاجزُ:
بِاسمِ الذي في كل سُورَةٍ سِمُهُ.
(1/39)
 
 
وسُمه أيضاً روى ذلِك أبُو زَيد الأنصَارِيّ وَغَيْرُه من النَّحويينَ، فَسَقَطَت
الألف لمَا ذكَرْنَا.
وكذلك قولك: " ابن " الألف فيه ألف وصل، تقول في تصغيره " بُنَى).
ومعنى قولنا اسم: إنَّه مشتق من السمو، والسمو الرفعة، والأصل فيهِ سَمَو
- بالواو - على وزن جَمَل، وجمعه أسْمَاء، مثل قِنْو وأقناءٍ، وحَنْو وأحْنَاء.
وَإنَّما جُعِلَ الاسْم تنويهاً باسم اللَّه على المعنى؛ لأنَّ الْمَعْنَى تحتَ
الِإسْمَ.
ومنْ قال: إِنَّ اسْما مأخوذ من " وَسَمْتُ " فهو غلط، لأنَّا لا نعرف شيئاً
دخلته ألف الوصل وحُذفت فاؤُه، أعني فاءَ الفعل، نحو قولك " عِدَة "
و" زِنَة ".
وأصْله " وعْدة " و " وَزْنة).
فلو كان " اسم " وسمة لكان تصغيره إذا حذفت منه
(1/40)
 
 
ألف الوصل " وُسَيْم "، كما أن تصغيرَ عِدة وَصِلة: وُعَيْدة، ووُصَيْلة،! ولا يقْدِر أحَد أنْ يَرى ألِف الوَصْلَ فيما حذفَتْ فاؤه من الأسماء.
وسقطت الألف في الكتاب من " بِسْم اللَّه الرحمن الرحيم "
ولم تسقط في (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) لأنه اجتمع فيها مع أنها تسقط في
اللفظ كثرةُ الاسْتعمَال.
وزعم سيبويه أن معنى الباء الإلصاق، تقول كتبتُ بالقلم والمعنى أن
الكتابة ملصقة بالقلم، وهي مكسورة أبداً لأنه - لا معنى لها إِلا الخفض
فوجب أن يكون لفظها مكسوراً ليفصل بين ما يجُر وهو اسم نحو كاف قولك
كزيد، وما يجر وهو حرف نحو بزيد، لأن أصل الحروف التي يُتَكلم بها
وهي على حرف واحد الفتحُ أبداً إلا أن تجِيءَ علة تزيلُه لأن الحرف الواحد لا حظ له في الإِعراب، ولكن يقع مبتدأ في الكلام ولا يبتدأ بساكن فاختير الفتح لأنه أخف الحركات، تقول رأيت زيداً وعمراً، فالواو مفتوحة، وكذلك فعمراً الفاءُ مفتوحة، وإِنما كسرت اللام في قولك: " لِزَيد " ليفصل بين لام القسم ولام الِإضافة.
ألاترى أنك لوقلت: إِنَّ هذا لِزيدٍ علم أنه ملكه.
ولو قلت: " إِن هذا لَزَيدٌ " علم أنَّ المشار إِليه هو زَيد فلذَلكَ كُسِرَت اللام في قولك لِزَيْدٍ
ولو قلت: إِنَّ هذا المال لَكَ، وإِنَ هذا لأنْت فتحت اللام لأنَّ اللبس قد
زال.
(1/41)
 
 
والذي قلناه في اللام هو مذهب سيبويه ويونس والخليل، وأبي
عمرو بن العلاء وجميع النحويين الموثُوقِ بِعلْمِهِمْ.
وكذلك تقول: أزَيْد في الدار؛ فالألف مفتوحة وليْس في الحُروف
المبتدأة مما هو على حرفٍ (حرفٌ) مكسور إِلا الباءُ ولام الأمر وحْدهما
وإنما كسرتا للعلة التي ذكرنا، وكذلك لام الِإضافة، والفتح أصلها.
وأما لام كي في قولك: جئتُ لِتَقُومَ يا هذا، فهي لام الإضافة التي في
قولك " المالُ لِزَيدٍ "، وإنما نُصبت تقوم بإضمار " أنْ " أو " كَيْ " الًتي في معنى " أنْ "، فالمعنى: جئتُ لِقيَامِك.
وما قلناه في اشتقاق " اسم " قول لا نعلم أحَداً فسره قَبْلنا.
(1/42)
 
 
وأمَّا قولك: ليضْربْ زيد عمراً، فإنما كسرت اللام ليُفْرقَ بينها وبين لام
التوكيد، ولا يبالى بشبهها بلام الجر لأنَّ لام الجر لا تقع في الأفعال، وتقع
لام التوكيد في الأفعال، ألا ترى أنك لو قلت: لَتَضْرِبْ وأنت تأمر لأشبه لام التوكيد إذا قلت: إنك لتَضْرِبُ.
فهذا جملة ما في الحروف التي على حرف واحد.
فأما اسم اللَّه عزَّ وجلَّ فالألف فيه ألفُ وصل، وأكْرهُ أنْ أذكر جميع ما
قال النحويون في اسم اللَّه أعني قولنا (اللَّه) تنزيهاً للَّهِ عزَّ وجلَّ.
**
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
هذه الصفات للَّهِ عزَّ وجلَّ، معناه فيما ذكر أبو عبيدة: ذو الرحمة.
ولا يجوز أنْ يُقَال " الرحْمَنُ " إلَّا للَّهِ، وإنما كان ذَلك لأن بناءَ فَعْلان من أبنية
ما يُبالغُ في وَصْفِهِ، ألا ترى أنك إذَا قُلْت غضْبانَ فمعناه الْمُمْتلئ غَضَباً.
فَرحْمنُ الَّذي وَسِعَتْ رحْمَتُهُ كل شي فلاَ يَجوزُ أنْ يُقَال لغير الله رحمن.
وخُفِضَتْ هذه الصفَاتُ لأنها ثَناء على اللَّه - عزَّ وجلَّ - فكان إعرابُها إعراب اسْمه، ولو قلت فِي غَيْرِ القُرآنِ: بسم اللَّه الكريمَ والكريمُ، والحمد لله رب العالمين، ورب العالَمينَ: جاز ذلك، فمن نصب ربَّ العالمين فإنما ينْصبُ
(1/43)
 
 
لأنَّهُ ثَنَاء على اللَّه، كأنه لَمَّا قَال: الحمدُ للَّهِ اسْتدل بهذَا إللفْظِ أنه ذاكر اللَّه، فقوله: رَبِّ الْعَالَمِينَ - كأنه قال أذْكُرُ ربَّ العالمين، وإِذا قال ربُّ العالمين فهو على قولك: هو ربُّ العالمين: قال الشاعر:
وكل قوم أطاعوا أمْرَ مُرْشِدهم. . . إِلا نُمَيرا أطاعتْ أمر غَاوِيهَا
الطاعِنِينَ ولما يُظْعِنُوا أحَداً. . . والقائِلِينَ لِمنْ دارٌ نخَلِّيهَا
فيجِوز أن يُنْصب " الظأعنين " على ضربين: على إنَّه تابع نُميْرا، وعلى
الذمِ، كأنَّه قال: أذْكُر الظاعِنِينَ، ولك أَن تَرْفَعَ تريدُ هم الظاعنون، وكذلك لك في " الْقَائِلينَ " النصبُ والرفعُ، ولك أنْ ترفَعهُما جميعاً، ولك أنْ تنْصِبهما جمِيعاً، ولك أن ترفَع الأول وتنصب الثانِي، ولك أن تنْصِبَ الأولَ وترفَعَ الثاني. لا خلاف بين النحويين فيما وَصَفْنا.
(1/44)
 
 
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
سورة الفاتحة
ومن سورة الحمد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
قوله عزَّ وجلَّ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
(معنى الْحمْد الشُّكْرُ والثناءُ على الله تعالى. .
الحمدُ رفع بالابتداءِ، وقوله: (لِلَّهِ) إِخباز عَنِ الْحمْدِ والاختيارُ في
الكلَامِ الرفْعُ، فَأمَّا القُرآنُ فلا يُقْرأ فِيه (الحمدُ) إِلا بالرفع، لأن السُّنة تتبع فِي القرآن، ولَا يُلْتَفَتُ فِيَه إِلى غَير الرِّوايةِ الصحِيحَةِ التي قدْ قرأ بها القُراءُ
المشْهُورُونَْ بالضَبطِ والثِّقةِ، والرفعُ القَرَاءَةُ، ويجوز ُ في الكلام أن تقول
" الحَمْدَ " تريد أحْمَد الله الْحَمْدَ فاستغنيْت عن ذِكْرِ " أحْمَد " لأن حَالَ
الحَمدُ يجب أن يكونَ عليها الْخَلْقُ، إلا أنَّ الرفْعَ أحْسَنُ وأبلغ في الثناءِ على
الله عزَّ وجلَّ.
وقد رُوي عن قوم من العرب: " الحمدَ لله " و " الحمدِ للَّهِ "، وهذه لغة
من لا يُلْتَفَتُ إِليه ولا يتشاغل بالرواية عنه.
وإِنَما تشاغلْنَا نحنُ بِرِواية هذا الحرف لِنُحَذِّرَ الناس من أنْ يَسْتعْمِلُوه،
(1/45)
 
 
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
أوْ يَظن - جاهل أنه يجوز ُ في كِتاب الله عزَّ وجلَّ، أو فِي كَلَامٍ، وَلَمْ يأتِ لهذَا نظير في كَلام العَرب. ولا وَجْه لَه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (رَبِّ الْعَالَمِينَ)
قد فسرنا أنه لا يجوز ُ في القرآن إِلا (رَبِّ الْعَالَمِينَ الرحمَنِ الرحيمِ)
وَإِنْ كان المرفع والنصب جائزين " في الكلام، ولا يتخَير لكتاب
الله عزَّ وجلَّ إلا اللفظ الأفْضل الأجْزَل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (العالمين) معناه كلُ مَا خلق اللَّه، كَمَا قَال؛
(وَهوَ ربُّ كل شيءٍ) وَهُوَ جَمْع عَالَم، تَقول: هُؤلاءِ عَالَمونَ، ورأيتُ عالَمِين، ولا واحدَ لعَالَمٍ منْ لَفْظه لأن عالَماً جمع لأشياء مختلفة، وأنْ جُعل
" عَالَم " لواحد منها صار جمعاً لأشْياء مُتَفِقَة.
والنُونُ فُتِحَت في العَالمين لأنَّها نُونُ الْجَمَاعَة وزعم سيبويه أنَّها
فتحت ليفرق بينَها وبينَ نون الِإثْنين، تقول: هذان عالمانِ، يا هذا، فتكسر
نونَ الِإثنين لالتقاء السَّاكنين، وهذا يُشْرح في موضِعه إِنْ شاءَ اللَّه، وكذلك
نون الجماعة فتحت لالتقاء السَّاكنين، ولم تكسر لثقل الكسرة بعد الواو والياء ألا ترى أنك تقول " سَوْفَ " أفعل فتفتح الفَاءَ من " سوْف " لالتقاء السَّاكنين، ولم تَكْسِر لثقل الكسرة بعد الواو وكذلك تقول: أيْنَ زيد فتفتح النون لالتقاء السَّاكنين بعد الياءِ.
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
القراءَة الخفض على مجرِى الحمدُ للَّهِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.
وإِنْ نصب - في
(1/46)
 
 
الكلام - على ما نُصِب عليه (رب العالمين والرحْمنِ الرحِيم)
جازَ في الكلام.
فأما في الْقراءَةِ فلا أسْتحْسِنه فيها، وقَدْ يجوز أنْ تنْصِب رب العالمين ومالك يومِ الدِّين على النداءِ في الكَلام كما تقول: الحمدُ للَّهِ يا ربَّ العَالمين، " ويا
مَالكَ يَوْمِ الدِّين "
كأنك. بعد أن قُلْت.: " الحمدُ للهِ " قلت لك الْحْمدُ يا ربَّ
العالمين ويا مالك يوم الدين.
وقُرِئ (مَلِكِ يَوْمَ الدِّين، ومَالِكِ يَوْمَ الدِّين).
وإنما خُصَّ يومُ الدِّين واللَّه عزَّ وجلَّ يَملك كل شَيءٍ لأنه اليومُ الذي
يضْطَر فيه الْمخلوقونَ إلى أنْ يعْرِفُوا أن الأمْر كلَّه للَّهِ، ألا تراه يقولُ:
(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) وقوله: (يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً)
فهو اليوم الذي لا يملك فيه أحد لنفسه ولا لغيره نَفْعاً ولا ضَرَاً.
ومن قرأ (مَالِك يَوْم الدِّين) فعلى قوله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ).
وهو بمنزلة مَنِ الْمَالكُ الْيوْم.
ومن قرأ (مَلِكِ يَوْم الدِّين)
فعلى معنى " ذُو الْمَمْلَكَةِ " في يوم الدين، وقيل إنها قراءَة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَوْم الدِّين).
الدين في اللغة الجزاءُ، يقال: كما تَدِين تُدَان، المعنى كما تعمل تُعْطى.
وتُجَازىَ، قال الشاعر:
(1/47)
 
 
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
واعلم وأيْقن أن مُلككَ زائل. . . واعلم بأن كما تدِينُ تُدَانُ
أي تجازى بما تعمل، والدِّينُ أيضاً في اللغة العَادَة، تقولُ العربُ ما
زَال ذلك دِيني، أي عَادَتي.
قال الشاعر:
تقول إذا دَرَاتُ لها وضيني. . . أهذا دِينه أبداً ودِينِي
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
معنى العبادة في اللغة الطاعةُ مع الخُضُوع، يقال هذا طَرِيق مُعّبد إذا
كان مُذللاً بكثْرةِ الوَطءِ، وبعير معبَّدُ، إِذا كانَ مَطْلِيًّا بِالْقَطْرَانِ.
فمعنى (إِياك نًعْبُدُ): إِياك نطيع الطاعة التي - نَخضَع مَعها، وموْضِع
(إِيَّاكَ) نصبُ بوقوع الفعل عليه وموْضع الكاف في (إِيَّاكَ) خفض بإضافة
" إِيَّا " إليها، و " إِيَّا " اسم للمُضْمَر المنصوب إِلا أنهُ يُضاف إلى - سَائِر المضَمَراتِ، نحو: إيَّاكَ ضَربْت وإياه ضربت، وإياي حدَّثْت، ولو قُلتَ: " إيا زَيدٍ " كان قبيحاً لأْنه خُص به الْمُضْمَر.
وقد رُوِي عن بعضِ العَرَب، رواه الخليل: (إِذا بَلَغَ الرجُل الستين
فإياه وإيَّا الشوابَّ ".
(1/48)
 
 
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
ومن قال إن إياك بكماله الاسمُ، قيل له: لم نر اسما للمضمر ولا
للمظهر يُضَاف وإنَّما يتغيرُ آخرُهُ ويبْقى ما قَبْل آخرِهِ على لفظٍ واحد.
والدَّلِيل على إضافته قولُ العرب: " إِذَا بَلغَ الرجُلُ الستِينَ فإياه وإيا الشَواب " يا هَذَا. وإِجراؤُهم الهاءَ في إيَاهُ مَجْرَاها في عصاه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
الأصل في نستعين: نَسْتَعْوِن لأنهُ إنما معناه من الْمَعُونَةِ والعَوْن.
ولكن الواو قُلِبَتْ ياءً لِثِقَل الكَسْرةِ فيها، ونُقِلَتْ كَسْرَتُهَا إلى العين، وبقيَتْ الياءٌ سَاكِنَة، لأنَّ هذا مِنَ الإعْلالِ الذي يَتْبَع بعضُه بعْضاً نَحو أعان يُعِينَ وَأقَامَ يُقِيمُ، وهذا يُشْرَحُ في مَكانِه شَرْحاً مُسْتَقْصًى إنْ شَاءَ اللَّه.
**
 
قوله عزَّ وجلَّ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
معناه المنهاج الواضح قال الشاعر:
أميرُ المؤْمنين على صراط. . . إذا اعوج المناهج مستقيم
أي على طريق واضح.
ومعنى (اهْدِنَا وهم مهتدون: ثَبِّتْنا على الْهُدَى.
كما تقول للرجل القائم: قم لي حتى أعود إليك.
تعني: أثبت لي على ما أنت عليه.
(1/49)
 
 
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
وقوله عزَّ وجلَّ: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
صفة لقوله عزَّ وجلَّ: (الصراط المستقيم)، ولك في عليهم ضَم الهاءِ
وكسرُها (تقول: الذين أنعمت عليهِمْ وعليهُمْ) وعلي هاتين اللغتين معظم
القُراءِ، ويجوز عليهمو (بالواو) والأصل في هذه - الهَاءُ في قولك: ضربتهو
يا فَتى - ومررت بِهُو يا فتى - أنْ يتَكَلم بهَا في الوَصْل بواو، فإذا وَقَفْتَ
لخط: ضَربْتُه ومررتُ به.
وزعم سيبويه أن الواو زِيدَتْ على الهاءِ في الْمُذَكَرِ كما زيدت الألِف
في المَؤنث في قولك: ضَرَبْتُهَا ومررتُ بِهَا، ليَسْتَوي المذكرُ والمؤَنَثُ في باب
الزَيَادَةِ.
والقولُ في هذه الواو عند أصحاب سيبويه والخليل أنها إِنما زيدتْ
لخفاءِ الهاءِ وذلك أنَّ الهاءَ تَخْرجُ منْ أقْصَى الحَلْقِ، والوَاوُ بعدَ الهاءِ أخْرَجَتْها
منَ الْخَفَاءِ إلى الإبَانة، فلهذا زِيدَتْ، وتسقط في الوَقْف، كما تَسْقُط الصفةُ
والكسرةُ في قولك: أتَانِي زَيْد، ومرَرْتُ بزيد، إفي أنَّها وأو وَصْل فلَا تَثْبتُ
لئلا يلتبس الوصل - بالأصل.
فإذا قلت: مررت -، بهُو - يا فتى - فَإنْ شِثْتَ قُلْت:
مرَرْتُ بِهي فقلَبْتُ الواو ياءً لأن ْكِسار ما قَبْلَهَا، أعني اليَاءَ المنكَسرَةَ فإن قال
قائل: بين الكسرة والواو الهاكل، قيل الهاءُ ليست بحاجز حصين، فكأن الكسرةَ تَلِي - الوَاوَ، ولوْ كانَتْ الهاءُ حاجزاً حَصِينا ما زيدتْ الواوُ عليها. وقد قُرِئ فَخَسَفْنَا بهي وبِدَارِهِي الأرْضَ، وبهوُ وبدارِهو الأرضَ، من قراءَة أهلِ الحجاز.
فَإِنْ قُلْت: فلانٌ عليه مال، فَلك فيه أرْبَعَةُ أوجُه: إن شِثْتَ كَسَرْتَ
(1/50)
 
 
الهاءَ وإنْ شِئْتَ أثْبَت اليَاءَ، وكذلك. في الضم إنْ شِئت ضمَمْتَ الهاء وإنْ
شِئْتَ أثْبَتُّ الوَاو، فقلت عَلَيْهِ وعليهي، وعليْهُ وعَلَيْهُو (مَال).
وأما قوله عزَّ وجلَّ: (إن تحمل عليه يلهث).
وقوله: (إلا ما دمت عليه قائماً) فالقراءَة بالكسر بغير ياءٍ في " عليه" وهي
أجود هذه الأربعة ولا ينبغي أن يقرأ بما يجوز إلا أن تثبت به رواية صحيحة أو
يقرأ به كثير من القراءِ، فمن قال عليهُ مال (بالضم) فالأصل فيه عليهو مال، ولكن حَذَفَ الواوَ لسكونها وسكون الياءِ واجتماعِ ثَلَاثَةِ أحْرفٍ مُتَجَانسَة، وترك الضمة لتدل على الواو، ومن قال عليهُو فإنما أثبت الواو على الأصل، ويجعل الهاءَ حاجزاً، وهذا أضعف الوجوه لأن الهاءَ ليست بحاجز حصين، ومن قال: عَلَيْهِ مالا فإنما قدر عليهي مال فقلب الواو ياءً للياءِ التي قبلها، ثم حذف الياء لسكونها وسكون الياءِ التي قبلها، " كما قلبت الواو في قوله: مررت به يا فتى.
ومن قال: عليهي مال فالحُجةُ في إثْبات الياءِ كالحجة في إثبات الواو ألا
ترى أن عليهي مال أجودُ من عليهو مال.
وأجود اللغات ما في القرآن وهو قوله عَلَيْهِ (قَائماً) والذي يليه في الجودة
عليهُ مال بالضمِ، ثم يلي (هذا) عليهي مال ثم عليهو مال بإثبات الواو، -
وهي أردأُ الأرْبَعَة.
فَأما قولهم (عَلَيْهُمْ) فأصل الهاءِ فيما وصفنا أنْ تكونَ معها ضمة، إلا أن
الوَاوَ قد سَقطت، وإنما تُكْسر الهاءُ للياءِ التِي قَبْلَهَا، وإنَّمَا يكُونُ ما قَبْلَ مِيم
(1/51)
 
 
الإضْمَارِ مضْمُوماً، فَإِنمَا أتَتْ هذه الضمةُ لميم الإضْمَار، وقُلِبَت كسرةً
للياءِ.
وإنَّما كثر " عَلَيْهِمْ " في القرآن (وعليهُم) ولم يكثر (عليهِمي)
و (عليهُمُو) لأنَّ الضمة التي على الهاءِ من " عليهم " للميم، فهي أقوى
في الثبوت، إلا تَرى أن هذه الضمة تأتي على الْميم في كل ما - لحقته الميم.
نحو عليكمْ، وبكُمْ، ومنكُمْ، ولا يجوز في علِيكُمْ: " عَليكِم " (بكسر
الكاف) لأن الكافَ حاجز حصينٌ بين الياءِ والميم، فلا تُقْلَبْ كَسْرةً، وقد
روي عن بَعْضِ العرب: (عَليكِمْ) و " بِكمْ " (بكسر الكاف).
ولا يلتفت إلى هذه الرواية، وأنشدوا.
وإنْ قال مولاهم على جُل حادثٍ. . . من الدهر ردوا بَعْضَ أحلَامِكُمْ ردوا
(بكسر الكاف) وهذه لغة شاذة، والرواية الصحيحة: فضل
أحلامكُم، وعلى الشذوذ أنشد ذلك سيبويه.
فَامَّا " عليهمو " فاصل الجمع أن يكون بواو، ولكن الميم استغنى بها عن
الواو، والواوُ تثقل على ألسِنَتَهم، حتى إنه ليس في أسمائهم اسم آخره واو
(1/52)
 
 
قبلها حركة، فَلِذلك حُذِفَتِ الواو، فأمَّا مَن قرأ " عَلَيْهُمُوا ولا الضالين " فقليل.
ولا ينبغي أن يقرأ إلا بالكثير وإِن كان قد قرأ به قوم فإنه أقل من الحذف
بكثير في لُغَة العرب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ).
فيخفض (غَيْر) على وجهين، على البَدلِ منَ الذين كأنَّهُ قال: صراط
غَيْرِ المغضُوبِ عليهم، ويستقيم أن يكون (غَيْرِ المغْضُوبِ عليهم) من صفة
الذين، وإن كان (غير) أصله أن يكونَ في الكلام صفة للنكرة، تقول:
مررت برجل غيرِك، فغيرك صفة لرَجل، كأنك قلت: مررتُ برجل آخر.
ويصلح أن يكون معناه: مررت برجُل ليس بك وإنما وقع ههنا صفةً للذين.
لأن " الذين " ههنا ليس بمقصود قصدُهم فهو بمنزلة قولك: " إني لأمُرُّ
بالرجُلَ مِثْلك فأكرمه).
ويجوز نصب (غير) على ضربين: على الحال وعلى الاستثناءِ فكأنك
قلت: إِلا المغْضُوبَ عليهم، وحق غير من الإعراب في الاستثناءِ النصب
إِذا كان ما بعد إِلا مَنْصوباً، فأما الحال فكأنك قُلْتَ فيها: صراط الذين
أنعمْت عليهم لا مغْضوباً عليهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ولَا الضالِّينَ).
(1/53)
 
 
فإنما عَطفَ بالضالين على المغْضوب عليهم، وِإنما جاز أنْ يقع (لا)
في قوله تعالى: (ولا الضالين) لأن معنى (غَيْر) متضَمن معنى النفي، يجيز
النحويون: أنت زيداً غير ضَارب، لأنه بمنزلة قولك أنت زيداً لاَ تضْرِبُ، ولا يجيزون أنتَ زيداً مثل ضارب، لأن زيداً من صلة ضارب فلا يَتقَدم عليه.
وقول القائلين بعد الفَراغ من الحَمْد، ومن الدعاءِ " آمِين " فيه لغتان.
تقول العرب: أمين، وآمين، قال الشاعر:
تباعد عني فطْحُل إِذْ دَعوته. . . أمينَ فزاد اللَّه ما بيننا بعدا
وقال الشاعر أيضاً:
يا رَبِّ لا تسلبنَي حبّها أبداً. . . ويرحم اللَّهُ عبداً قال آمينا
ومعناه: اللهم استجب، وهما موضوعان في موضع اسم الاستجابة كما
أن " قولنا: (صه) موضوع موضع سكوتاً.
وحقهما من الإعراب الوقف لأنهما بمنزلة الأصوات إذْ كانا غير
مشْتقين منْ فعل إِلا أن النون فتحت فيهما لالتقاءِ السَّاكنين، فإِن قَال قائل: إلا كسِرت النُون لالتقاءِ السَّاكنين، قيل: الكسرة تَثْقُل بعدَ الياءِ، ألا تَرى أن أيْن، وكيف فتحتا لالتقاءِ السَّاكنين ولم تُكْسَرا لِثِقَلِ الكسرةِ بعدَ الياءِ.
(1/54)
 
 
الم (1)
سورة البقرة
ومن سورة البقرة
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
 
قوله تبارك وتعالى: (الم (1)
زعم أبو عبيدة معمرُ بنُ المثنى أنَّها حُروفُ الهجاءِ افْتتاح كلام.
وكذلك؛ (المر)، و (المص)، وزعم أبو الحسن الأخْفش أنَّها افتتاح كلام
ودليل ذلك أن الكلام الذي ذُكِرَ قَبلَ السورَةِ قَد تَم.
وزعم قطرب أن: (الم) و (المص) و (المر) و (كهيعص) و (ق)،
(1/55)
 
 
و (يس) و (نون)، حروف المعجم ذكرت لتدل على أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف المقطعة التي هي حروف أ. ب. ت. ث.
فجاءَ بعضها مقطًعاً وجاءَ تمامها مُؤَلفاً ليدل القوم الذين نزل عليهم القرآن أنه بحروفهم التي يعقلونها لا ريب فيه.
ويروى عن الشعبي أنه قال: لِلَّهِ في كُل كتابٍ سِر وسره في القرآن
حروف الهجاءِ المذكورة في أوائل السورِ.
ويروى عن ابن عباس ثلاثةُ أوجه في (الم) وما أشبهها، فوجه منها أنه
قال: أقسم اللَّهُ بهذه الحروف أن هذا الكتاب الَّذِي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الكتاب الذي عنده، عزَّ وجلَّ لا شك فيه، والقول الثاني عنه أن: (الر)، (وحم)، و (نون)، اسم للرحمن عزَّ وجلَّ - مقطًع في اللفظ موصُول في المعنى.
والثالث عنه أنَّه قال: (الم) معناه أنا اللَّه أعلم، و (الر) معناه أنا الله أرى،
(1/56)
 
 
و (المص) معناه أنا الله أعلم وأفصل و (المر) معناه أنا الله أعلم وأرى.
فهذا جميع ما انتهى إِلينا من قول أهل اللغة والنحويين في معنى
(الم) وجميع ما انتهى إلينا من أهل العلم بالتفسير.
ونقول في إعراب (الم) و (الر) و (كهيعص) وما أشبه هذه
الحروف.
هذا باب التهجي.
(1/57)
 
 
(هذا باب حروف التهجي)
وهي: الألف والباءُ والتاءُ والثاءُ وسائر ما في القرآن منها.
فإجْماع النحويين أن هذه الحُروف مَبْنِية على الوقف لا تعرب ومعنى
قولنا " مبنية على الوقف " أنك تُقَدرُ أنْ تسكت على كل حرف منها، فالنطق: ألف، لام، ميم، ذلك.
والدليل على أنك تقدر السكت عليها جمعك بين
ساكنين في قولك (لام) وفي قولك (ميم).
والدَّليل على أن حروف الهجاءَ مَبْنيَّة على السكت كما بني العدَدُ على السكْت: أنَك تقول فيها بالوقف مع
الجمع بين ساكنين، كما تقول إذا عددت واحدْ. اثنانْ. ثَلاثَهْ. أربعهْ. . .
ولولا أنك تقدر السكت لقلت: ثلاثةً، بالتاءِ كما تقول: ثلاثاً يا هذَا. فتصير الهاءَ تاءً مع التنوين واتصال الكلام.
وحقها من الإعراب أن تكون سواكن الأواخر، زَعم سيبويه أنك أردْتَ أنَ
المعجمَ حروف يُحْكى بها ما فِي الأسْماءِ المَؤلفَةِ من الحروف فجرى
(1/59)
 
 
مجرى ما يحكى به نحو (غاق)، وغاق يا فتى، إنما حكى صوت الغُراب.
والدليل أيْضاً على أنها مَوْقُوفَة قولُ الشاعر:
أقْبَلْتُ من عند زيادكالخَرِف. . . تخطُّ رجْلاي بخَط مخْتَلف
تَكَتبَانِ في الطريق لَامَ ألِفْ
كأنه قال: لامْ ألِفْ، بسكون " لام " ولكنه ألقى حركة همزة " ألف "
على الميم ففتحها.
قال أبو إسحاق: وشرح هذه الحروف وتفسيرها أنها ليست تجري مجرى
الأسماءِ الْمُتمكنَة، والأفعال المضَارِعة التي يجب لها الإعرابُ وإنما هي
تقطيِع الاسم المَؤلف الذي لا يجب الإعراب فيه ألا مع كماله، فقولك
" جَعْفر " لا يجب أن تُعْرَبَ منه الجيمَ ولا الْعَيْنَ ولا الفَاءَ ولا الراءَ، دون
تكميل الاسم، فإنما هي حكايات وُضِعَتْ على هذه الحروف، فإن أجريتها
مَجْرى الأسماءِ وحدثت عنها قلت: هذه كاف حسنة، وهذا كاف حسنٌ.
وكذلك سائر حُرُوف الْمُعجَم، فمنْ قال هذه كاف أنثَ لمعْنى الْكَلِمَةِ، ومن
ذكر فلمعنى الحرف، والإعرابُ وقع فيها لأنك تخرجها من باب الحكاية.
قال الشاعر:
كافاً ومِيمين وسيناً طَاسِماً
(1/60)
 
 
وقال أيضاً:
كما بينت كاف تَلُوح ومِيمُها
ذكرَ طَاسِماً لأنه جَعله صفةً للسين، وجعل السين في معنى الحرف وقال
تلوح، فأنث الكاف، ذهبَ بها مذهب الكلمة، قال الشاعر يهجو النحويين، وهو يَزيدُ بن الحكم.
إذا اجتمعوا على ألف وواو. . . وياءٍ لاح بينهمو جدال
فأما إعرابُ (أبِي جَادٍ) و (هَوَزٍ) و (حُطي)، فزعم سيبويه أن هذه
مَعْروفاتُ الاشتقاق في كلام العرب، وهي مَصْروفة، تقول: علمْتُ أبَا جادٍ
وانتفعتُ بأبي جاد، وكذلك (هوز) تقول: نفعني (هوز)، وانْتَفَعْتُ بهوَزٍ.
(وكذلك حُطي)، (وَهُن) مصْروفات منوَّنَات.
فأما (كلمون) و (سَعْفَص) و (قُرَيْشِيَات)، فأعْجَمِيات تقول: هذه كَلَمْونَ - يا هذا - وتعلمت كَلَمُونَ وانتفَعْتُ بكلمون، وكذلك (سعفص).
فَأما قُرَيْشِيَات فاسْم للجَمْع مصروفة بسبب الألف والتاء تقول: هَذه
(1/61)
 
 
قرَيْشِيَات - يا هذا وَعَجبْتُ مِنْ قُريْشِيات (يا هذا).
ولقطرب قول آخر في (الم): زعم أنه يجوز: لما لغا القومُ في القرآن
فلم يتفهموه حين قالوا (لاَ تَسْمَعُوا لهذا القرآن والغَوْا فِيه) أنْزِلَ ذكرُ هذه
الحروف، فسكتوا لمَّا سمعوا الحروف - طمعاً في الظفر بمَا يحبون ليفهموا
- بعد الحروف - القرآن وما فيه، فتكون الحجة عليهم أثبت إذا جحدوا بعد تفهم وتعلم.
قال أبو إسحاق: والذي اختاره من هذه الأقوال التي قيلت في قوله
عزَّ وجلَّ: (الم) بعض ما يروى عن ابن عباسٍ رحمة اللَّه عليه.
وهو أن المعنى: (الم) أنا اللَّه أعلم، وأن كل حرف منها له تفسيره.
والدليل على ذلك أن العرب تنطق بالحرف الواحد تدل به على الكلمة التي هو منها.
قال الشاعر:
قلنا لها قفي قَالَتْ قافْ. . . لا تَحْسَبي أنَّا نَسِينَا الإيجَاف
فنطق بقاف فقط، يريد قالت أقف.
وقال الشاعر أيضاً:
نَادَوْهمو أنِ الْجِمُوا ألَاتا. . . قالوا جميعاً كلهم ألَا فَا
(1/62)
 
 
تفسيره: نادوهموا أن الجمُوا، ألا تركبون، قالوا جميعاً: ألا فارْكبوا.
فإنما نطق بتاءٍ وفاءٍ كما نطق الأول بقَافِ.
وأنشد بعض أهل اللغَةِ للقيم بن سَعْد بن مالك:
إنْ شئْتَ أشْرَفْناكلانا فدعا. . . اللَّهَ ربا جُهْدَه فاسْمَعَا
بالخير خيرات وإنْ شَرا فآى. . . ولا أريد الشر إلا أن تآءَ
وأنشد النحويون:
بالخير خيرات وإن شرا فا. . . ولا أريد الشر إلا إن تَا
يريدون: إن شَرا فَشَر، ولا أريد الشر إلا أن تَشَاء.
أنشد جميع البصريين ذلك
فهذا الذي أختاره في هذه الحروف واللَّه أعلم بحقيقتها.
فأما (ص) فقرأ الحسن: صادِ والقرآن، فكسر الدال، فقال أهل
(1/63)
 
 
اللغة: معناه صاد القرآن بعملك، أي تَعَمَّدْهُ، وسقطت الياءُ للأمر ويجوز أن
تكون كسرت الدال لالتقاءِ السَّاكنين إذَا نَويتَ الوصلَ.
وكذلك قرأ عبد الله بن أبي إِسحاق: " صادِ والقرآن "، وقرأ أيضاً " قافِ والقرآن المجيد).
فالكسرُ فى مذهب بن أبي إسحاق لالتقاءِ السَّاكنين.
وقَرأ عيسى بن عمر: " صادَ والقرآنِ " - بفتح الدّال - وكذلك قرأ
"نونَ والقلم " و " قافَ والقرآنِ " - بالفَتح أيضاً - لالتقاءِ السَّاكنين.
قال سيبويه: إذَا نَاديتَ أسْحار والأسْحَارُّ اسمُ نَبْتٍ - مشدد الراءِ - قلت في ترخيمه: يا أسْحار أقْبل، ففتَحْتَ لالتقاءِ الساكِنين كما اخْتَرتَ الفتحَ في قولك عضَّ يا فتى فاتباع الفتحةِ الفَتْحُةَ كاتباع الألفِ الفَتْحَةَ ويجوز: يا أسحار أقْبِل، فتَكْسِر لالتقاء الساكنَيْن.
وقال أبو الحسن الأخفش: يجوز أن يكون صادَ وقافَ، ونونَ أسماءً
للسور منصوبةً إلا أنها لا تُصْرف كما لا تصرف جملة أسْماءِ المؤَنث.
والقولُ الأول أعني التقاءَ السَّاكنين، والفتحَ والكسر من أجل الْتقائها أقيسُ، لأنه يزعم أنه ينْصب هذه الأشياء كأنه قال: أذكر صادَ).
وكذلك يجيز في (حم)،
(1/64)
 
 
و " طس "، النصبَ و " ياسين " أيضاً على أنها أسماءٌ للسور.
ولوكان قرئ بها لكان وجهُه الفتحَ لالتقاءِ السَّاكنين.
فأما (كهيعص) " فلا تُبينُ فيها، النون مع الصاد في القراءَة
وكذلك (حم عسق) لا تبين فيها، النون مع السين.
قال الأخفش وغيره من النحويين: لم تبَين النون لقرب مخرجها من
السين والضادِ.
فأما " نُونْ والقَلم " فالقراءَة فيها تَبْيين النون مع الواو التي في " والقلم ".
وبترك التبيين.
إِنْ شئتَ بينْتَ وإِن شئْتَ لَمْ تُبيِّنْ، فقلت " نُونْ والقَلم "
لأن النون بعدت قليلاً عن الواو.
وأما قوله عزَّ وجلَّ (المَ) اللَّه ففي فتح الميم قولان أحدهُما لِجماعة من
النحويين وهو أن هذه الحروف مبنية على الوقف فيجب بعدها قطع ألف
الوصل فيكون الأصل: أ. ل. م. اللَّهُ لا إِله إِلا هو.
ثمً طرِحتْ فَتْحةُ الهمزَةِ على الميم، وسقطت الهمزة كما تقول: واحدْ إثْنَان، وإن شئت قلت: واحدِ اثْنَان فألقَيْتَ كسرة اثنين على الدال.
وقال قوم من النحويين لا يسوغ في اللفظ أن ينطق بثلاثة أحرف سواكنَ
فلا بد من فتحة الميم في ألم اللَّه لالتقاءِ السَّاكنين (يعني الميم واللام والتي
بعدها).
وهذا القول صحيح لا يمكن في اللفظ غيره.
(1/65)
 
 
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
فأمَّا من زعم أنه إِنما ألقي حركةَ الهمزة فيجب أن يقرأ (الم اللَّه).
وهذا لا أعلم اجداً قرأ به إلا ما ذُكر عن الرؤَاسي، فائا من رواه عن
عاصم فليس بصحيح الرواية.
وقال بعض النحويين لو كانت محركة للالتقاءِ السَّاكنين لكانث مكسورة.
وهذا غلط لو فعلنا في التقاءِ السَّاكنين إذا كان الأول منهما ياءً لوجب أن
تقول: كيفِ زَيد واين زيد وهذا لا يجوز، وإنما وقع الفتح لثقل الكسرة بعد
الياء). .
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
زعم الأخفش وأبو عبيدة أن معناه هذا الكتاب قال الشاعر.
أقول له والرمح يأطر متنه. . . تامَّلْ خُفَافاً إنني أنا ذَلكا
(1/66)
 
 
قال المعنى إنني أنا هذا.
وقال غيرهما من النحويين: إِن معناه القرآن
ذلك الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى وعيسى - صلى الله عليهما وسلم -
ودليل ذلك قوله تعالى: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)
وكذلك قوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146).
فالمعنى هذا ذلك الكتاب.
ويجوز أن يكون قوله " (الم ذَلَكَ الْكِتَابُ) فيقال " ذلك " للشيءِ الذي
قد جرى ذكره، فإن شئتَ قلت فيه " هذا "
وإنْ شِئتَ قلت فيه " ذلك "، كقولك
انفقت ثلاثة وثلاثة فذلك ستة وإن شئت قلت هذا ستة.
أو كقوله عزَّ وجلَّ في قصة فرعون: (فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25).
ثم قال بعد ذلك: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26).
وقال في موضع آخر: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
ثم قال: (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106).
وقال عزَّ وجلَّ (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) فقال (ذلك) فجائز - أن المعنى: تلك علامات الكتاب، أي القرآن متكلم به بحروف العرب التي نعقلها على ما وصفنا في شرح حروف الهجاءِ.
وموضع (ذلك) رفع لأنه خبر ابتداءٍ على أقول، من قال هذا القرآن ذلك
(1/67)
 
 
الكتاب. والكتاب رفع يسميه النحويون عطف البيان نحو قولك:
هذا الرجل أخوك فالرجل عطف البيان أي يبين من الذي أشرت إليه، والاسم من ذلك " ذا " والكاف زيدت للمخاطبة ولاحظ لها في الإعراب
قال سيبويه: لو كان لها حظ في الإعراب لقلت: " ذاك نفْسِه زيد، وهذا خطأ - لا يجوز إلا (هذاك نَفْسُه زيد).
(ولذلك " ذانك " يشهد أن الكاف لا موضع لها. لو كان لها موضع
لكان جرا بالإِضافة، والنون لا تدخل مع الإضافة).
واللام تزاد مع ذلك للتوكيد، أعني توكيد الاسم لأنها إذا زيدت
أسقطت معها " ها). تقول: ذلك الحق وذاك الحق، وها ذاك الحق.
ويقبح هذلك الحق لأن اللام قد أكدت معنى الإشارة.
وكسرت اللام للالتقاء السَّاكنين، أعني الألف من ذا واللام التي بعدها، وكان ينبغي أن تكون ساكنة ولكنها كسرتَ لما قلناه.
وكذلك يجب أن يكون موضع ذلك رفعاً فيمن جعل ذلك خبراً عن (الم).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا رَيْبَ فِيهِ)
معناه لا شك فيه تقول: رابني فلان إذا علمت الريبَة فيه وأرابني إذا
أوهمني الريبة قال الشاعر.
(1/68)
 
 
أخوك الذي إنْ ربتَه قال إنما. . . أرَبتُ وإنْ عاتبته لأن َ جانبه
وموضع (لا ريب) نصب، قال سيبويه: " لا " تعملُ فيما بعدها فتنصبه
ونصبها لما بعدها كنصب إن لمَا بعدها إلا أنها تنصبه - بغير تنوين وزعم أنها
مع ماب عدها بمنزلة شيءٍ واحد.
كأنها جواب قول القائل: هل من رجل في الدار، فمن غير منفصلة من
رجل، فإنْ قال قائل فما أنكرت أن يكلون جواب هل رجلَ في الدار؟
قيل: معنى " لا رجل في الدار " عموم النفي، لا يجوز أن يكون في الدار رجل ولا أكثر منه من الرجال إذا قلت: " لا رجل في الدار ".
فكذلك " هل مِنْ رجل في الدار " استفهام عنِ الواحد وأكثر منه، فإذا قلت: (هل رجل في الدار) أو (لا رَجُل في الدار)
جاز أن يكون في الدار رجلان لأنك إنما أخبَرْتَ أنه ليس فيها
واحد فيجوز أن يكون فيها أكثر، فإذا قلت: لا رجُلَ في الدار فهو نفي عام
وكذلك (لَا رَيبَ فِيهِ).
وفي قوله (فيه) أربعةُ أوجه: - القراءَةُ منها على وجه واحد ولا ينبغي أنْ
يُتَجاوَزَ إلى غَيْره وهو (فيهِ هُدى) بكسر الهاءِ
(ويجوز في الكلام وفي القراءة لو كان. قرئ به) (فيهي هدى) بإثبات الواو، و " فيهي هدي). بإثبات الياءِ.
وقد شرحنا هذه الأوجه في إعراب الحمد.
(1/69)
 
 
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
فأما قِرَاءَةُ (فيهْ هُدى) بإدغام الهاءَ في الهاء فهو ثقيل في اللفظ، وهو
جائز في القياس لأن الحرفين من جنس واحد إلا أنه يثقل في اللفظ لأن
حروف الحلق ليست بأصل في الإدغام والحرفان من كلمتين، وحكى
الأخفش أنها قِراءَة (1).
وموضع (هدَى) نصب، ومعتاه. بيان ونصبه من وجهين أحدُهُما أنْ
يكون مَنْصُوباً على الحال من قولك: القرآن ذلك الكتاب هدى ويجوز أن
يكون انتصب بقولك: (لا ريْبَ فيه) في حال هدايته فيكون حالاً من قولك
لا شك فيه هادياً، ويجوز أن يكون موضعُه رفعاً من جهات:
إحْدَاهَا أن يكون خبراً بعد خبرٍ كأنه قال: هذا ذلك الكتاب هدى، أي قَد جمع أنه الكتاب الذي وُعدوا به وأنه هدًى كما تقول: هذا حُلو حامض، تُرِيدُ أنه قد جَمع الطعْمَين ويجوز أن يكلون رفعه على إضمار هو.
كأنه لما تمَ الكلام فقيل: (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ)
قيل: هو هدى.
ويجوز أن يكون رفعه على قولك: (ذَلِكَ الْكَتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ)
كأنك قلت ذلك الكتابُ حَقُّا، لأن لا شك فيه بمعنى حق ثم قَال: بعد ذلك: (فِيهِ هُدًى لِلْمُتقِينَ).
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
معناه يصدقون، وكل مْؤمِن بشيءٍ فهو مصدق به فإذا ذكرتَ مؤمناً ولم
تقل هو مؤْمن بكذا وكذا فهو الذي لا يصلح إلا في اللَّه - عزَّ وجلَّ -، وموضع (الذين) جر تبعاً للمتقين ويجوز أن يكون موضعُهُم رفعاً على المدح كأنَّه
__________
(1) هي رواية السوسي عن أبي عمرو البصري، وهي متواترة.
(1/70)
 
 
لما قيل هدى للمتقين قيل مَنْ هُم فقيل: (الَّذِينَ يؤمِنُونَ بالْغَيْبِ).
ويجوز أن يكون موضع الذين نصبا على المدح أيضاً كأنه قيل اذكر الذين.
(والذين) لا يظهر فيهم الإعراب، تقول في النصب والرفع والجر:
أتاني الذين في الدار ورأيت الذين في الدار ومررت بالذين في الدار.
وكذلك الذي في الدار، وإنما منع الإعرابَ لأن الإعراب إنما يكونُ في آخر
الأسماءِ، والذي والذين مبهمان لا تتمان إلا بِصِلاتِهِمَا فلذلك مُنِعَتِ
الإعرابَ.
وأصل - الذي لَذٍ على وزن عَم فاعْلَمْ، كذلك قالَ الخليل وسيبويه
والأخفش وجميع من يوثق بعلمه.
فإن قال قائل: (فما بالك تقول: أتاني اللذان في الدار ورأيت اللذين في
الدار فتعرب كل ما لا يعرب في تثنيته نحو هذان وهذين وأنت لا تعرب هذا
ولا هؤُلاءِ؟
فالجواب في ذلك أن جميع ما لا يعرب في الواحد مشبه بالحرف
الذي جاء لمعنى فإذا ثنيته فقد بطل شبه الحرف الذي جاءَ لمعنى لأن حروف
المعاني لا تثنى.
فإِنْ قَال قائِل فَلَمَ منعته الِإعراب في الجمع؟
قلت لأن الجمع الذي ليس على حد التثنية كالواحد، ألا ترى أنك قلت في جميع هذا هؤُلاء يا فتى فجعلته اسماً واحداً للجمع، وكذلك قولك الذين، إِنما هو اسم للجمع كما أن قولك سنين يا فتى اسم للجمع فبنَيتَه كما بنيْت الواحِد.
ومن جمع الذين على حد التثنية قال: جاءَني الذونَ في الدار، ورأيت الذين
(1/71)
 
 
في الدار.
وهذا لا ينبغي أنْ يقع لأن الجمع مستغنى فيه عن حد التثنية.
والتثنية ليس لها إلا ضرب واحد.
ومعنى قوله: (بالغَيْب): ما غاب عنهم مما أخبرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمر الغيب والنشور والقيامة وكل ما غاب عنهم مما أنبأهم به فهو غيب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ).
معناه يُتمُّونَ الصلاة كما قال: - (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)
وضمت الياءُ من يُؤمنون، ويقيمون، لأن كل ما كان على أربعة أحرف نحو أكْرَمَ وأحسَنَ وأقام وآمن فمُسْتَقبله: يُكرم، وُيحْسِنَ، ويؤمِنُ ويُقيمُ
(وإنما ضمت أوائل المستقبل ليفرق بيبن ذوات الثلاثة نحو ضرب، وبين ذوات الأربعة نحو دحرج).
فما كان على ثلاثة فهو ضرب يَضرب أو تَضرب أو نَضرب.
ففصل بالضمة بينهما فإن قال قائل: فهلا فصل بالكسرة؟
قيل الكسرة قد تدخل في نحو تعْلم وتبيَضُ ولأن الضمة مع الياءِ مستعملة، والكسرة لا تستعمل مع الياءِ.
فمن قال أنت تعْلم لم يقل هو يِعْلم، فوجب أن يكون
الفرق بينهما بالضمة لا غير.
- والأصل في يُقيم " يؤقْيِمُ " والأصل في يُكرمُ يؤَكرم ولكن الهمزة
(1/72)
 
 
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
حذفت لأن الضم دليل على ذوات الأربعة ولو ثبث لوجب أن تقول إذَا أنْبأت عن نَفْسِك: أنا أؤَقْوم وأنا أؤكرْم، فكانت تجتمع همزتانْ فاستثقلتا، فحذفت الهمزة التي هي فاءُ الفعل، وتِبع سائِرُ الفعل بابَ الهمزة فقلت أنت تُكرم ونحن نُكرم وهي تُكرم، كما أنَّ بابَ يَعِدُ حُذفتْ منه الواو لوقوعها بين ياء وكَسْرة. الأصل فيه " يَوْعِد " ثم حذفت في تَعد ونَعد وأعد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
معناه يصدِّقُون - قال عزَّ وجلَّ: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ) - إلى قوله - (قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ).
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ)
إن شئت خففت الهمزة في (أُنْزِلَ) - وكذلك في قوله " أُلئِك " وهذه
لغة غير أهل الحجاز، فأما أهل الحجاز فيخففون الهمزة بين الواو والهمزة.
قال سيبويه: (إنما فعل بالهمزة ذلك دون سائر الحروف لأنها بَعدَ مخرجها
ولأنها نبْرة في الصدر. وهي أبعد الحروف مخرجاً، وأمَّا إِليْك وإليْهم.
وعَليْك وعَليْهِمْ، فالأصل في هذا " إلاك "؛ ْ وعَلَاك، وَإِلَاهُمْ وعَلاهم كما
تقول إلى زيد وعلى إخوتك، إلا أن الألف غيرتْ مع المضْمَر فأبْدِلت ياء
ليفصل بين الألف التي في آخر المتمكنه وبين الألف التي في أواخر غير
المتمكنه التي الإضافة لازمة لها، ألا ترى أن إلى وعَلَى ولدى لا تنْفرِد من
(1/73)
 
 
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
الإضافة، ولذلك قالت العرب في كلا في حال النصب والجر: رأيت كليهما، وكليكما، ومررت بكليهما وكليكما - ففصلت بين الِإضافة إلى المظهر
والمضمر لما كان كلا لا ينفرد ولا يكون كلاماً إِلا بالِإضافة.
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
موضع (أولئك) رفع بالابتداء، والخبر: (عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ).
إلا أن أُولَئِكَ لا يعرب لأنه اسم للِإشارة، وكسرت الهمزة فيه لالتقاءِ السَّاكنين.
وكذلك قوله (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، إلا أنَّ (هُمْ) دخلت فصلاً، وإن
شئت كانت تكريراً للاسم، كما تقول زيد هو العالمُ، فترفع زيداً بالابتداء.
وترفع (هو ابتداءً ثانياً، وترفع العالم خبراً " لهو "، والعالم خبراً لزيد.
فكذلك قوله أُولَئِكَ هم المفلحون) وإن شئت جعلت (هو) فصلاً وترفع
زيداً والعالم على الابتداءِ وخبره، والفصل هو الذي يسميه الكوفيون عماداً.
و" سيبويه " يقول إن الفصل لا يصلح إلا مع الأفعال التي لا تتم
نحو كان زيد هو العالم، وظنتت زيداً هو العالِمَ".
وقال سيبويه دخل الفصل في قوله عزَّ وجلَّ: (. . تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا) وفي قوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ) - وفي قوله: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ). وفي قوله: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ).
(1/74)
 
 
وما أشبه هذا مما ذكر الله عزَّ وجلَّ.
وكذلك (لك) في الكلام في الابتداء والخبر، وفي قولك كان زيد هو
العالم ذكرُ هو، وأنت، وأنا. ونحن، دخلت إعْلاماً بأن الخبر مضمون وأن
الكلام لمْ يتم، وموضع دخولها إذا كان الخبر معرفة أو ما أشبه المعرفة.
وأن " هو " بمنزلة " ما " اللغْوِ في قوله عزَّ وجلَّ:
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) فإنما دخول كا مؤَكدة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (المفْلحون).
يقال لكل من أصاب خيراً مفْلح -
وقال عَزَّ وجَل: (قَدْ أفلح المؤمنون) - وقال،: (قدْ أفْلح مَن زكَاها). والفلاح البقاء
قل لبيد بن ربيعة:
(1/75)
 
 
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
نحُل بلاداً كلها حُل قبْلنا. . . ونرجُو الفلاح بعد عادٍ وتبَّعا
أي نرجو البقاءَ.
وقال عبيد:
أفْلِح بما شئْت فَقَدْ يد. . . ركِ بالضعْف وقد يُخْدع الأريب
أي أصب خيراً بما شئت.
والفَلاح: الأكار، والفِلَاحَة صنَاعَتُه، وإنِما قيل له الفَلاح لأنه يَشُق الأرض ويقالَ فلحت الحديد إذا قطعته.
قال الشاعر:
قد علمت خيلك انِي الصَّحْصَحُ. . . إن الحَدِيد بالحديد يُفْلَح
ويقال للمكاري الفلاح، وإنما قيل له فلاح تشبيهاً بالأكار.
قال الشاعر
لها رطل تكيل الزيت فيه. . . وفَلاح يسُوق لهَا حِمَارا
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
(1/76)
 
 
(إنَّ) تنصب الذين، وهي تنصب الأسماءَ وترفع الأخبار، ومعناها في
الكلام التوكيد، وهي آلة من آلات القسم، وإنَّما نصبت ورفعت لأنها تشبه
بالفعل، وشبهها به أنها لا تَلِي الأفعال ولا تعمَل فيها، وإنما يذكر بعدها
الاسم والخبر كما يذكر بعد الفعل الفاعل والمفعول إِلا أنه قُدم المفَعُولُ به
فيهَا ليفصل بين ما يشبه بالفعل ولفظه لفظُ الفعل وبين ما يُشَبه به وليسَ لفظُه
لفظَ الفعل، وخبرها ههنا جملة الكلام، أعني قوله:
(سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ).
وترفع سواء بالابتداء، وتقوم (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) مَقَامَْ الخبر كأنه
بمنزلة قولك سواء عليهم الإنذارُ وتركُه.
وسواءُ موضُوع موضعَ مُسْتَو، لأنك لا تقيم المصادر مقام أسماءِ الفاعلين إلا وتأويلها تأويل أسمائهم.
فأما دخول ألف الاستفهام ودخول أم التي للاستفهام والكلام خَبرٌ فإنَّمَا
وقع ذلك لمعنى التسوية والتسوية آلتها ألف الاستفهام وأم تقول: أزيد في
الدار أم عمرو، فإِنما دخلت الألف وأم لأن عِلْمَك قد استوى فيَ زَيد وعَمْرو.
وقد علمت أن أحدهما في الدار لا محالة ولكنك أردت أن تبين لك الذي
علمت ويخلص لك علمه مز، غيره، فَلِهذا تقول: قد علمتُ أزيد في الدار أم عمرو، وإنما تريد أن تُسَوّي عند مغ تخبره العلمَ الذي قد خلص عندك.
وكذلك (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم)، دخلت الألف وأم للتسوية.
فأما (أأنْذرْتهُمْ) فزعم سيبويه أن من العرب من يحقق الهمزة، ولا
يجمع بين الهمزتين وإن كانتا من كلمتين، فأما أهل الحجاز فلا يحققون
واحدة منهما، وأما بعض القراء - ابن أبي إِسحاق وغيره - فيجمعون في القراءَة بينهما، فيقرأون (أأنذرتهم)، وكثير من القراء يخفِّف إِحداهما، وزعم سيبويه أن
(1/77)
 
 
الخليل كان يرى تخفيف الثانية فيقول: (أانْذرْتهم) فيجعل الثانية بين
الهمزة والألف، ولا يجعلها ألفاً خالصة، ومن جعلها ألفاً خالصَةً فقد أخْطأ من جهتين: إحداهما أنه جمع بين ساكنين والأخرى إنَّه أبْدَل منْ همزة متحركة
قبْلها حركةُ ألفاً، والحركة الفتح، وإنما حق الهمزة إذا حركت وانفتح ما
قبلها: أن تجْعَل بَيْنَ بَيْنَ، أعني بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها.
فتقول في سأل: سال وفي رؤوف: رووف وفي بئس: بيس (بيْنَ بيْنَ) وهذا
في الحكم واحد وإِنما تُحْكِمُه المشافهة.
وكان غير الخليل يجيز في مثل قوله تعالى: (فقد جاءَ أشراطها) تخفيف الأولى.
وزعم سيبويه أن جماعة من العرب يقرأون: فقد جا أشراطها يحققون
الثانية ويخففون الأولى، - وهذا مذهب أبى عمرو بن العلاء وأما الخليل فيقول بتحقيق الأولى فيقول: (فقد جاءَ اشراطها).
قال الخليل: وإِنَّما اخترت تخفيف الثانية لإجماع الناس على بدل الثانية في قولك آدم، وآخر، لأن الأصل في آدم: أادم، وفي آخر أاخر.
وقول الخليل أقيس، وقول أبى عمرو جيد أيضاً.
قال أبو إِسحاق: الهمزة التي للاستفهام ألف مبتدأة: ولا يمكن تخفيف
الهمزة المبتدأة ولكن إن ألْقِي همزَة ألف الاستفهام على سكون الميم من
عليهم فقلت: " عَلَيْهمَ أنْذَرتهم " جاز.
ولكن لم يقرأ به أحد، والهمزتان في
(1/78)
 
 
قوله: (فقد جاءَ أشراطها). همزتان في وسط الكلمة ويمكن تخفيف
الأولى.
فأما من خفف الهمزة الأولى قوله: (أأنذرتهم) فإنه طرحها ألبتَّةَ
وألْقَى حركتَها على الميم، ولا أعلم أحداً قرأ بها والواجب على لغة أهل
الحجاز أن يكون " عليهم أنْذَرْتهم " فيفتح الميم، ويجعل الهمزة الثانية بين
بين بين.
وعلى هذا مذهب جميع أهل الحجاز.
ويجوز أن يكون (لا يؤْمنون) خبر إِنَّ، كأنه قيل: " إِنَّ الًذينَ كفروا لا يؤمنون، سواء عليهم أأنذرتهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ).
هؤلاءِ قوم أنبأ اللَّهُ " تبارك وتعالى " النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنهمْ لا يؤْمنون كما قال عزَّ وجلَّ: (ولَا أنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتمْ وَلَا أنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أعْبُدُ).
فأما الهَمزتان إذا كانتا مكسورتين نحو قوله عزَّ وجلَّ:
(عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) وإذا كانتا مضمومتين نحو قوله:
(أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ) فإِن أبا عمرو يخفف الهمزة الأولى فيهما فيقول:
"على البغا إِنْ أردْن" "وأوليا أولئك "
فيجعل الهمزة الأولى من البغاء بين الهمزة والياء، ويكسرها " ويجعل الهمزة
في قولك أولياء أولئك (الأولى) بين الواووالهمزة ويضمها.
وحكى أبو عبيدةَ أن أبا عمرو كان يجعل مكان الهمزة الأولى كسرة في
البغاء إنْ)، وضمة في أولياء أولئك.
أبو عبيدة لا يحكي إلا ما سمع لأنه الثقة المأمون عند العلماء، إِلا إنَّه لا يضبط مثل هذا الموضع لأن الذي قاله محال، لأن الهمزة إذا سقطت وأبدلت منها كسرة وضمة - على ما وصف -
(1/79)
 
 
بقيت الحركتان في غير حرف وهذا محال لأن الحركة لا تكون في غير
محرَّك.
قال أبو إسحاق: والذي حكيناه آنفاً رواية سيبويه عن أبي عمرو وهو
اضبط لهذا.
وأما قوله: (السفهاءُ ألا) وقوله: (وإِليه النشُوز أأمنتم من في السماءِ أن) - فإن الهمزتين إذا اختلفتا حكى أبو عبيدة أن أبا عمرو كان يبدل من
الثانية فتحة وهذا خلاف ما حكاه سيبويه. والقول فيه أيضاً محال لأن الفتحة
لا تقوم بذاتها، إِنما تقوم على حرف.
وجملة ما يقول النحويون في المَسْالة الأولى في مثل قوله: (على البغاءِ
إِنْ) أو (أولياءُ أولئك) ثلاثةُ أقوال على لغة غير أهل الحجاز.
فأحد هذه الثلاثة - وهو مذهب سيبويه والخليل - أن يجعل مكان الهمزة الثانية همزة بين بينَ، فإذا كان مضموماً جعل الهمزة بين الواو والهمزة فقال: أولياءُ أولئك) (وإذا كان مكسوراً جعل الهمزة بين الياءِ والهمزة، فقال: على البغاءِين. وأمَّا أبو عَمْرو فَقرأ على ما ذكرناه وأمَّا ابن أبي إسحاق - ومذهَبه مذهب جماعة من القراء - فيجمع بين الهمزتين، فيقرأ أولياءُ أولئِكَ)
و (على البغاءِ إنْ أردن) بتحقيق الهمزتين.
وأمَّا اختلاف الهمزتين نحو السفهاء ألا) فأكثر القراء على مذهب ابن
أبي إسحاق، وأما أبو عمرو فيحقق الهمزة الثانية في رواية سيبويه، ويخفف
(1/80)
 
 
الأولى فيجعلها بين الواو والهمزة، فيقول: (السفهاءُ ألا) (بين بين).
ويقول: (من في السماي أنْ " فيحقق الثانية، وأما سيبويه والخليل فيقولان:
(السفهاءُ ولا). فيجعلان الهمزة الثانية واواً خالصة
وفي قوله: (من السماءيَنْ) ياءخالصة مفتوحة.
فهذا جميع ما في هذا الباب.
وقد ذكر أبو عبيدة أن بعضهم روى عن أبي عمرو أنه كان إذا اجتمعت
همزتان طرحت إحداهما، وهذا ليس بثبتٍ لأن القياس لا يوجبه.
وأبو عبيد لم يحقق في روايته، لأنه قال: رواه بعضهم، وباب رواية القراءة عن المقرئ يجب أن يقل الاختلاف فيه.
فإن كان - هذا صحيحاً عنه فهو يُجَوِّزُهُ في نحو
(سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم)، وفي مثل قوله:
(آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ)
فيطرح همزة الاستفهام لأن أم تدل عليها.
قال الشاعر:
لعمرك ما أدري إن كنت دارياً. . . شُعَيْثُ بن سَهْم أم شُعَيْثُ بنُ مِنْقَر
(1/81)
 
 
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
وقال عُمرُ بنُ أبي رَبِيعَةَ:
لعَمرُك ما أدْري وإنْ كُنْتُ دَارِياً. . . بِسَبْع رَمَيْنَ الجَمْر أم بِثمانٍ
البيت الأول أنشده الخليل وسيبويه، والبيت الثاني صحيح أيضاً.
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
معنى ختم في اللغة وطبع (معنى) واحد. وهو التغطية على الشيء.
والاستيثاق - من ألًا يَدْخُله شَيْءٌ
كما قال عزَّ وجلَّ: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)
وقال جلّ ذكره (كلا بَلْ رَانَ عَلى قُلوبِهِمْ).
معناه غلب على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
وكذلك (طبع عليها بكفرهم)
وهم كانوا يسمعون ويبصرون ويعقلون ولكنهم لم يستعملوا
هذه الحواس استعمالًا يجزي عنهم فصاروا كمن - لا يسمع ولا يبصر.
قال الشاعر:
أصم عما ساءَه سميع
وكذلك قوله جلَّ وعزَّ: وَعَلَى أبْصَارِهِمْ غِشَاوَة).
هي الغطاءُ، فأما قوله: (وعلى سمعهم) وهويريد وعلى أسماعهم ففيه
(1/82)
 
 
ثلاثة أوجه: فوجه منها أن السمع في معنى المصدر فَوُحِّدَ، كما تقول:
يعجبني حديثكم ويعجبني ضربُكُمْ - فوحِّد لأنه مَصْدَر.
ويجوز أن يكون لما أضاف السمع إليهم دل على معنى أسماعهم.
قال الشاعر:
بها جِيَف الحَسْرى فأمَّا عِظامُها. . . فَبيضٌ وأَمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ
ْوقال - الشاعرأيضاً: (لا تُنْكِري الْقَتْلَ وَقَدْ سُبينَا. . . في حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وقد شَجينَا
معناه في حلوقكم، وقال:
كأنهُ وجه تركييْن قد غَضبَا. . . مستهدَفٍ لطعان غيرِ تَذييبِ
أما (غشاوة)، فكل ما كان مشتملاً على الشيء فهو في كلام العرب مبني
على "فِعَالة " نحو الغِشاوة، والعِمَامة، والقِلاَدَة والعصَابة، وكذلك أسْمَاء
الصناعات لأن معنى الصناعة الاشتمال على كل ما فيها نحو الخِيَاطة
(1/83)
 
 
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
والقصَارة، وكذلك على كل من استولى على شيء ما استولى عليه الفِعَالة.
نحو الحِلاَقةِ والإمارَةِ.
والرفع في (غشاوة) هو الباب وعليه مذهب القُرَّاء
والنصب جَائز في النحو على أن المعنى: " وجعل على أبْصَارهم غِشَاوةً ".
كما قال اللَّه عزرجل في موضع آخر: (وختم على سمعه وقلبه وجعل على
بصره غشاوة).
ومثيله من الشعر مما حمل على معناه قوله:
يا ليتَ بعْلَكِ قد غَدا. . . مُتَقَلداً سيفاً ورمحا
معناه متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً.
ويرري غشوة، والوجه ما ذكرناه
وإنما غَشْوة رد إلى الأصل لأن المصادر كلها ترد إلى فَعْلة، والرفع والنصبُ في غَشْوة مثله في غِشَاوة.
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
عنى بذلك المنافقين،. وإِعراب (مِنْ) الوقف إلا أنهَا فُتِحَتْ لالتقاءِ
السَّاكنين سكون النون. من قولك مِنْ وسكون النون الأولى من الناس، وكان الأصل أن يكسر لالتقاءِ السَّاكنين، ولكنها فتحَت لثقل اجتماع كَسْرَتَيْنِ - لو كان (مِنِ النَّاسِ) لثقل ذلك.
فأما عن الناس فلا يجوز فيه إِلا الكسر لأن
أول " عن " مفتوح. و " مِنْ " إِعرابُها الوقف لأنها لا تكون اسماً تاما في
(1/84)
 
 
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
الخبر إلا بصلة، فلا يكون الِإعراب في بعض - الاسم.
فأما الإدغام في الياءِ في (من يقول) فلا يكون غيره، تقول:
" مَنْ يُقوَّم " فتُدْغِم بغُنَةٍ وبغير غنة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا هُمْ بمُؤْمِنينَ).
دخلت الباءُ مؤَكدة لمعنى النفي، لأنك إِذا قلت: " ما زيد أخوك " فلم
يسمع السامع " ما " ظن أنك موجب فإِذا قلت: " ما زيد بأخيك "
و (ماهم بمُؤمنين) علم السامع أنك تنفي
وكذلك جميع ما في كتاب الله عزَّ وجلَّ.
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
يعني به المنافقين أيضاً.
ومعنى (يخادعون): يظهرون غير ما في نفوسهم، والتَقِية تُسَمَّى أيْضاً
خِدَاعاً، فكأنهم لَمَّا أظْهَرُوا الِإسْلامِ وأبْطَنُوا الكُفْر صارت تقيتُهُمْ خِدَاعاً.
وجاءَ بفَاعِلَ لغير اثنين لأن هذا المثال يقع كثيراً في اللغة للواحد نحو عاقبت
اللص، وطارقت النعل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ).
تأويله أن الخداع يرجع عليهم بالعَذاب والعقاب وما يشعرون: أي وما
يعلمون أنه يرجع عليهم بالعذاب يقال ما شعرت به: أي ما علمت به وا لَيْتَ شِعْرِي " ما صَنَعْتَ: معناه ليت علمي.
(1/85)
 
 
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
وقوله عزَّ وجلَّ: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
معناه نفاق، وقد يقال السُّقْمُ والمرض في البَدَنِ وفي الدِّين جَميعاً كما
يقال الصحة في البدن والدِّين جميعاً.
فمعنى قوله: (مرض) قال أبو عيدة: معناه شك ونفاق، والمرض في
القلب يصلح لكل ما خرج به الِإنسان عن الصحة في الدين.
ص وقوله: - (فَؤَادَهُم اللَّهُ مَرضاً).
فيه جوابان، قال بعضهم زادهم الله بكفرهم.
كما قال عزَّ وجلَّ: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ).
وقال بعض أهل اللغة: فزادهم اللَّه بما أنزل
عليهم من القرآن فشكوا فيه كما شكوا في الذي قبله.
قال: والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ).
إِلى قوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ).
وهذا قول بين واضح - واللَّه أعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
مَعْناه مُوجِع يَصلُ وجعَهُ إِلى قُلُوبهمُ.
وتأويل (أَلِيمٌ) في اللغة مُؤْلم.
قال الشاعر: وهو عَمْرُو بنُ معدِ يكرب الزبيدي.
(1/86)
 
 
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
أمِنْ رَيْحَانَة الداعي السميعُ. . . يُؤرقني وأصْحَابي هُجوعُ
معنى السميع المسمع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (بِمَا كَانوا يَكذبُونَ).
ويقرأ (يُكَذِّبونَ). فمن قرأ يَكذبونَ بالتخفيف فَإن، كَذِبَهُم
قولُهم أنهُمْ مُؤْمنون، - قال الله عزَّ وجلَّ: (وَمَا همْ بِمُؤْمِنِينَ)
وأما (يُكَذِّبونَ) بالتثقيل فمعناه بتكذيبهم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
مَعْنَاهُ لَا تَصُدوا عَنْ دين اللَّه، فَيَحْتَمِل (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ضربين
من الجواب: أحدهما أنهم يظنون أنهم مصلحون.
والثاني أن يريدوا أن هذا الذي يسمونه إفساداً هو عنْدَنَا إِصلاح
فأما إعراب قيل فآخره مبني على الفتح، وكذلك كل فعل ماض
مبني على الفتح، والأصل في (قيل) قُوِلَ ولكن الكسرة نقلت إلى القاف
لأن العين من الفعل في قولك قال نقلت من حركة إِلى سكون، فيجب أن
تلزم هذا السكون في سائر تصرف الفعل.
وبَعْضُهُمْ يَرُومُ الضمًةَ في قِيل، وقد يجوز في غير القرآن:
قد قولَ ذاك " وأفصح اللغات قِيلَ وَغِيضَ ".
(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَقَوْا رَبَّهُمْ).
وإن شئت قلت: قِيل، وغيض، وسُيق تروم في سائر أوائل ما لم
يسم فاعلة الضم في هذا الباب.
(1/87)
 
 
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
ْأصل السفَهِ في اللغة خِفَةُ الحلم، وكذلك يقال ثَوْبٌ سَفِيه إِذا كان رقيقاً
بالِياً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ).
معنى (أَلَا) اسْتِفْتَاح وَتَنْبِيهٌ " وقوله: (هُم السفهاءُ) يجوز أن يكون
خبر إنَّ و (هُم) فَصْلٌ، وهو الذي يسميه الكوفيون العماد.
ويجوز أن يكون (هُم) ابتداء، والسفهاءُ خبر الإِبتداء، وهم السفهاءُ خبر إن.
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
أنْبَأ الله الْمؤمِنِينَ بِمَا يُسِره المنافقونَ مِنَ الكُفْرِ ومعنى شَيَاطِييهمْ في
اللغة: مَرَدَتُهُمْ، وعُتَاتُهُمْ في الكفر، ويقال خلوت إِليه ومعه، ويقال خلوت
به، وهو على ضربين: أحدهما جعلت خَلْوتي معه، كما قال: خَلَوْتُ إِليه
(أي جعلت خلوتي معه)، وكذلك يقال خَلَوْتُ إِليهِ، ويصلح أن يكون
خلوت بِهِ سخرت منه.
ونصب (معكم) كنصب الظروف، تقول: إِنا معكم وإِنا
خَلْفَكم معناه إِنا مستقرون معكم ومستقرون خلفكم.
والقراءَة المجمَعُ عليها فتح العَين وقد يجوز في الاضطرار إسكان العين، ولا يجوز أن يقرأ بها.
ويجوز إِنَّا مَعْكُمْ للشاعر إِذا اضطر قال الشاعر:
قَرِيشي منكمو وهواي مَعْكُمْ. . . وَإِن كانت زِيَارَتُكُمْ لِمَاما
(1/88)
 
 
وفي قوله عزَّ وجلَّ: (خَلَوْا إلَى). وجهان إن شئت أسْكَنْتَ الوَاو
وخففت الهمزة وكسرتها فقلت: (خلوْا إلَى) وإن شئت ألقيت الهمزة وكسرت الواو فقلت: " خَلَوِ ليى " وكذلك يقرأ أهل الحجاز وهو جيد بالغ، و (إِنا) الأصل فيه "إننا"، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إنَّنِي معَكُما) ولكن النون حذفت لكثرة النونات، والمحذوف النون الثانية من إِن، لأن في " إن " نونين الأولى ساكنة والثانية متحركة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إنما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ).
نحن مبنية عفى الضم، لأن نحن يدل على الجماعة، وجماعة
المُضْمَرينَ يدل عليهم - إذا ثَنيتَ الواحدَ من لفظه - الميم والواو، نحو
فعلوا، وأنتم، فالواو من جنس الضمة، فلم " يكن بذ من حركة (نَحْنُ)
فحركت بالضم لأن الضم من الواو؛ ألا ترى أن واو - الجماعة إذا حركت
لالتقاء السَّاكنين ضمت، نحو (اشْتَرَوُا الضلاَلَةَ)، وقد حركها بعضهم إلى
الكسر فقال: (اشتروِا الضلالة)، لأن اجتماع السَّاكنين يوجب كسر الأولى إذا كانا من كلمتين، والقراءة المجمع عليها: (اشتروُا الضلالةَ) بالضم، وقد
رُويت: (اشْترَوَا الضلالة)، بالفتح، وهو شاذ جِدًّا.
و (مستهزئون)؛ القراءَة الجَيدَةُ فيه، تحقيق الهمزة فإذا خَففْتَ الهمزةَ
جعلْتَ الهمزةَ بين الواو، والهمزة فقلت "مستهزؤون).
فهذا الاختيار بعد التحقيق.
(1/89)
 
 
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
ويجوز أنْ تُبْدِلَ من الهمزَةِ ياءً فتقول: " مستهزِيُونَ " فأما " مستَهْزون "
فضعيف لا وجه لَه إلا شاذًّا على لغة،. من أبدل الهمزة ياء فقال في
استهزأت: استهزيت. فيجب على لغة، استهزيت أن يقال، مستهزون.
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
فيه أوجه من الجواب: فمعنى استهزاء اللَّه بهم أنْ أظْهرَ لَهُمْ منْ
أحْكامِهِ في الدنْيَا خلافَ مَا لهمْ في الآخرة، كما أظهروا من الِإسلام خلاف ما
أسَرُّوا.
ويجوز أن يكون استهزاؤُه بهم: أخذه إِياهم من حيث لا يعلمون، كما
قال عزَّ وجلَّ: (سَنَسْتَدْرجُهمْ منْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُون).
ويجوز - واللَّه أعلم - وهوَ (الوجه) المختار عند أهل اللغة أن يكون معنى يستهزئُ بهم يُجازيهِمْ على هُزئِهِمْ بالعَذاب، فسمَّى جزاءَ الذَنْب باسْمِه كما قال عزَّ وجلَّ: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) فالثانية ليست سيئة في الحقيقة، ولكنها سميت سيئة لازدواج الكلام.
وكذلك قوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)
فالأول ظلم والثاني ليس بظلم ولكنه جيءَ في اللغة باسم الذنب ليعلم أنَّه عقاب عليه وجزاء به.
فهذه ثلاثة أوجه واللَّه أعلم.
وكذلك يجري هذا المجرى قوله عزَّ وجلَّ: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)
(1/90)
 
 
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
(وَيَمْكرُونَ وَيَمْكرُ اللَّهُ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
معنى (وَيَمُدُّهُمْ) يُمْهِلْهم، وهو يدل على الجواب الأول.
و (في طغيانهم) (معناه) في غُلوِّهِمْ وكفرهم، ومعنى يعمهون في اللغة يتحيرون، يقال رجل عَمِهٌ وعَامِه، أي متحير، قال الراجز:
وَمَهْمَه أطرافه في مَهْمَهِ. . . أعمَى الهُدَى بالجَاهِلِينَ العُمَّهِ
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
أُولَئِكَ موضعُه رفع بالابتداء وخبرُه (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ)
وقد فسَّرنا " واو " اشتروا وكسرتَها فأمَّا من يبدل من الضمة هَمْزَةً فيقول اشترو الضلالة فغالط لأن الواو المضمومة التي تبدل منها همزة إِنَّمَا يُفْعَل بها ذلك إِذا لزمت صفَتُها نحو قوله عزَّ وجلَّ: (وَإذَا الرُّسُلُ أُقَتَتْ)، إنَّمَا الأصلُ وقَتَتْ وكذلك أَدوَّر، إنما أصْلها أدور.
وضمة الواو في قوله: (اشترُوا الضلالة)
(1/91)
 
 
إنما هي لالتقاء السَّاكنين.
ومثله: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)
لا ينبغي أن تهمزَ الواو فيه.
ومعنى الكلام أن كل من ترك شيئاً وتَمسكَ بغَيْره فالعَرَبُ تقول للذِي
تَمَسكَ به قد اشتراه، وليس ثم شراءٌ ولا بيع، ولكن رغبته فيه بتمسكه به
كرغبة المشتري بماله ما يرغب فيه.
قال الشاعر:
اخدْت بالجمَّة رأساً أَزْعَرا. . . وبالثنَايَا الواضِحات الدَّرْدَرَا
وبالطَويل العمر عمْراً أَقصرا. . . كما اشْتَرى الكافِر إذْ تَنَصَّرَا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ).
معناه فما ربحوا في تجارتهم، لأن التجارة لا تربح وإنما يربح فيها
ويوضع فيها والعرب تقول قد خسر بيعك وربحت تجارتك، يريدون بذلك
الاختصار وسعة الكلام قال الشاعر:
(1/92)
 
 
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
وكيف تواصل من أصبحت. . . خلالته كأبي مرحب
يريد كخلالة أبي مرحب، وقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) (والليل والنهار لا يمكران) إنما معناه بل مكرهم في الليل
والنهار.
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
هذا المثل ضربه اللَّه - جلَّ وعزَّ - للمنافقين في تجملهم بظاهر الِإسلام
وحقنهم دماءَهم بما أظهروا فمثل ما تجملوا به من الِإسلام كمثل النار التي
يستضىء بها المستوقد وقوله (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) معناه، واللَّه أعلم إطلاع
اللَّه المؤْمنين على كفرهم، فقد ذهب منهم نور الإِسلام بما أظهر الله عزَّ وجلَّ
من كفرهم، ويجوز أن يكون ذهب الله بنورهم في الأخرة، أي عَذَّبهم فلا
نور لهم لأن اللَّه جلَّ وعزَّ قد جعل للمؤْمنين نوراً في الآخرةِ وسلب
الكافرين ذلك النور، والدليل على ذلك قوله: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا).
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
رفع على خبر الابتداءِ، كأنه قيل: هؤلاءِ الذين قصتهم هذه القصة
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18).
(1/93)
 
 
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
ويجوز في الكلام صماً بكماً عمياً، على: وتركهم صُمًّا بكماً عُمْياً.
ولكن المصحف لا يخالف بقراءة لا تُرْوى، والرفع أيضاً أقوى في المعنى.
وأجزل في اللفظ.
فمعنى (بُكْمٌ) أنه بمنزلة من وُلدَ أخرس ويقال الأبْكم المسلوبُ الفًؤادِ.
وصُم وبُكم واحدهم أصَم وأبْكَمُ، ويجوز أن يَقع جمع أصم صُمَّان، وكذلك أفعَل كله يجوز فيه فُعْلان نحو أسْود، وسُودَان ومعنى سود وسودان واحد، كذلك صُمٌّ وصُمَّان وعُرفي وعُرجان وبكم وبُكْمَان.
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
الصيِّب في اللغة المطر وكل نازل من عُلُو إلى أسفل فقد صاب
يصوب، قال الشاعر:
كأنهم صابت عليهم سحابة. . . صواعقها لطيرهن دبيب
وهذا أيضاً مثل يضربه اللَّه عزَّ وجلَّ للمنافقين؛ كان المعنى:
أو كأصحاب صيب. فجعل دين الِإسلام لهم مثلاً فيما ينالهم من
الشدائد والخوف، وجعل ما يستضيئون به من البرق مثلاً لما يَستضيئون به من الإسلام، وما ينالهم من الخوف في البرق بمنزلة ما يخافونه من القتل.
- الدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (يَحْسَبُونَ كُل صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ).
(1/94)
 
 
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
(يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ)
فيه لغتان: يقال خَطِفَ يخطَفُ، وخطَف يخْطِف، واللغة العالية التي
عليها القراءَة " خَطِفَ يخطَفُ "، وهذا الحرف يروى عن العرب والقراء.
وفيه لغات تروى: عن الحسن " يَخَطِّف أبصارهم " بفتح الياءِ والخاءِ وكسر
الطاءِ، " ويروى أيضاً " يخطِّف بكسر الياءِ والخاءِ، والطاءِ، ويروى أيضاً لغة أخرى ليست تسوغ في اللفظ لصعوبتها، وهي إسكان الخاءِ والطاءِ. وقد روى سيبويه مثل هذا.
رده عليه أصحابه وزعموا أنه غير سائغ في اللفظ وأن الشعرَ
لا يجمع في حشوه بين ساكنين، قال:
وَمَسْحِهِ مَرُّ عُقابٍ كاسِرِ
يبدل من الهاءِ حاءً ويدغم الحاءَ الأولى فى الثانية، والسين ساكنة
فيجمع بين ساكنين، فأما بعد يَخْطَف فالجيِّد يَخَطف ويخطف فمن قال
يَخَطَف فالأصل يخْتَطِف فأدغمت التاء - في الطاءِ وألقيت على الحاءِ فتحة
التاءِ، ومن قال " يخِطَف " كسر الخاءَ لسكونها وسكون الطاءِ، وَزَعَمَ بعض
النَحوِيينَ أنَّ الكسْر لالتِقَاءِ الساكِنين ههنا خطأ وأنه يلزم من قال هذا أن يقول
(1/95)
 
 
في يَعَضُّ يَعِضُّ، وفي يَمُدُّ يَمِدُّ. وهذا خَلْط غيرُ لازم، لأنه لَوكَسَرَهَا هَهُنَا
لالتَبَسَ ما أصله يفعَل ويفعُل بما أصله يَفْعِل، ويخطف ليس أصله غير
هذا. ولا يكون مرة على يفتَعِل ومرة على يفتَعَلُ. فَكسِرَ لالتقاءِ السَّاكنين
في موضع غير ملبس وامتنع في المُلْبِس من الكسر لالتقاءِ السَّاكنين، وألزم
حركة الحرف الذي أدغمه لتدل الحركة عليه.
ومعنى خطفت الشيء في اللغة واختطفته أخذته بسرعة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ).
يقال ضاءَ الشيءُ يَضوء وأضَاءَ يُضِيءُ، وهذه اللغة الثانية هي
المختارة، ويقال أظْلَمَ وظَلَم، وأظْلَمَ المختارُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ)
وقد فسرنا توحيد السمع، ويقال أذهبته وذهبت به.
ويروى أذْهَبْت به وهو لغة قليلة، فأما ذكر (أوْ) في قوله: (مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي). إِلى (أوْ كصيب) فأو دَخلت ههنا لغير شك، وهذه يسميها الحذاق باللغة " وَاوَ اَلِإباحة "
فتقول جالس القراءَ أوِ الفُقَهَاءَ، أوْ أصْحَابَ الحديث أوْ أصْحَابَ
النحو، فالمعنى أن التمثيل مباح لكم في المنافقين إنْ مثلْتُمُوهم بالذي استوقد
ناراَ فذاك مثلهم وإِن مثلتموهم بأصحاب الصيب فهذا مثلهم، أِو مثلتموهم
(1/96)
 
 
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
بهما جميعاً فهما مثلاهم - كما أنك إذا قلت جالس الحسن أو ابن سيرين
فكلاهما أهل أن يجالس - إن جالست الحسن فأنت مطيع وإِن جمعتهما فأنت
مطيع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ).
ويروى " أيضاً " حِذَار الموْتِ، والذي عليه قرَّاؤُنَا (حَذَرَ الموت)، وإنما
نصت (حذرالموت) لأنه مفعول له، والمعنى يفعلون ذلك لحذر الموت.
وليس نصبه لسقوط اللام، وإِنما نصبه أنه في تأويل المصدر كأنه قال يحذرون
حذراً لأن جعلهم أصابعهم في آذانهم - من الصواعق يدل على حذرهم
الموت، وفال الشاعر:
وأغفر عوراءَ الكريم ادِّخَارَهُ. . . وأُعْرِض عن شَتْم اللئِيمِ تَكَرما
والمعنى لادخاره - وقوله: وأغفر عوراء الكريم معناه وأدخر الكريم.
* * *
 
وقوله عزِّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
معناه أن الله احْتَجَّ على العرب بأنه خالقهم وخالق مَنْ قَبْلِهُم لأنَّهُمْ
كانوا مُقِرينَ بذلك، والدليل على ذلك قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)
(1/97)
 
 
قيل لهم إن كنتم مقرين بأنه خالقكم فاعبدوه، ولا تعبدوا الأصنام -
وقوله (لعلكم تَتقُونَ) معناه تتقونَ الحُرُمَاتِ بيْنَكم وتَكُفون عما تأتون مما
حرمَه اللَّه، فأما لعل وففيها قولان ههنا، عن بعض أهل اللغة: أحدهما:
معناها كي تتقوا، والذي يذهب إليه سيبويه في مثل هذا أنه تَرَج لهم كما قال
في قصة فرعون (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).
كأنه قال اذهبا أنتما على رجائكما وطمَعِكُمَا واللَّه عزَّ وجلَّ من وراءِ ذلك وعالم بما يؤُول إِليه أمرُ فِرعون.
وأما إِعراب (يَا أيُّها) فأي اسمٌ مُبْهَم مبني على الضم لأنه منادى مفرد
والناس صفة لأي لازمة، تقول يا أيها الرجل أقبل، ولا يجوز يَا لرجُل لأن
" يا " تَنْبِيهٌ بمنْزِلة التَّعرِيفِ في الرجل فلا يجمع بين " يَا " وبين الألف واللام
فتصل إلى الألف واللام بأي.
وها لازمه لأي، لِلتَّنْبيه، وهي عوض من الِإضافة في أي لأن أصْل أي
أن تكون مضافة في الاستفهام والخبر، وزعم سيبويه عَن الخليل أن المنادى
المفرد مبني وصفته مرفوعةٌ رفعاً صحيحاً لأن النداءَ يطرد في كل اسم مفرد.
فلما كانت البِنْيَةُ مطردة في المفرد خاصة شبه بالمرفوع فرفعت صفته.
والمازني يجيز في يا أيها الرجل النصب في الرجل، ولم يقل بهذا القول أحد
من البصريين غيره، وهو قياس لأن موضع المفرد المنادى نصب فحملت
صفته على موضعه، وهذا في غير يا أيها الرجل جائز عند جميع النحويين نحو
قولك يا زيدُ الظريفُ والظريفَ، والنحويون لا يقولون إِلا يا أيها الرجل، يا أيها
(1/98)
 
 
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
الناسُ، والعرب لغتها في هذا الرفع ولم يرد عنها غيره، وإنما المنادى في
الحقيقة الرجل، ولكن أيُّ صلة إليه وقال أبو الحسن الأخفش إِن الرجل أنْ
يَكون صلة لأي أقيس، وليس أحد من البصريين يتابعه على هذا القول.
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
معناه وِطاءً، لم يجعلها حَزْنةً غليظة لا يمكن الاستقرأر عليها.
وقوله: (والسماءَ بناءً) كل ما علا على الأرض فاسمه بناءٌ،.
ومعناه إنه جعلها سقفاً.
كما قال عزَّ وجلَّ: (وَجَعَلْنا السمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً)، ويجوز في قوله:
(جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ) وجهان: الإدغام والِإظهار، تقول: جعل لكم وجعل
لكم الأرض، فمن أدغم فلاجتماع حرفين من جنس واحد وكثرة الحركات، ومن أظهر - وهو الوجه وعليه أكثر القراءِ - فلأنهما منفصلان من كلمتين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدَاداً وأنْتُم تَعْلمُون).
هذا احتجاج عليهم لِإقرارهم بأنه الله خالقُهم، فقيل لهم لا تجعلوا لله
أمثالاً وأنتم تعلمون أنهم لا يَخْلُقون واللَّه الخالق - وفي اللغة فلان ندُّ فلانٍ:، وندِيدُ فُلَانٍ.
قال جرير:
أتيماً تجعلون إِليَّ نِدًّا. . . وما تيمٌ لِذِي حَسبٍ نَدِيد
(1/99)
 
 
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
فهذه الآية والتي قبلها احتجاج عليهم في تثبيت توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ.
ثم احتج عليهم فيما يلي هذه الآية بتثبيت أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: -
 
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
(فِي رَيْبٍ) معناه في شك.
وقوله (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) للعلماءِ فيه قولان
أحدهما: قال بعضهم: (مِنْ مثلهِ): من مثل القرآن - كما قال عزَّ وجلَّ:
(فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) وقال بَعْضهم (من مثله) مِنْ بَشَر مِثْلِه.
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)).
أيْ ادعَوَا من استدعيتم طاعته ورجوتم معونته في الإتيان بسورة من
مثله.
* * *
 
وقوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
قيل لهم هذا بعد أن ثبت عليهم أمر التوحيد وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فوعدوا بالعذاب إِن لم يؤمنوا بعد ثبوت الحجة عليهم.
وجزم (لَمْ تَفْعَلوا) لأن لمْ أحدثَتْ في الفِعْل المستقبل معنى المضى فجزمتْه، وكل حرف لزم الفعل فأحدث فيه معنى فله فيه من الِإعراب على قسط معناه - فإِن كان ذلك الحرف " أنْ " وأخواتها نحو لَنْ تفعلوا ويريدون " أنْ يطفئوا). فهو نصب لأن أن وما بعده بمنزلة الاسم فقد ضارعت (أنْ الخفيفة) أنَّ المشدَّدة وما بعدها لأنّك إِذا قلت ظننت أنك قائم فمعناه ظننت قيامك، وإِذا قلت أرجو أنْ تَقومَ فمعناه أرجو قيامك، فمعنى " أنْ " وما عملت فيه كمعنى " أنَّ " المشددة وما
(1/100)
 
 
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
عملت فيه، فلذلك نصبت " أنْ " وجزمت " لَمْ " لأن ما بعدها خرج من تأويل الاسم، وكذلك هي وما بعدها يخرجان من تأويل الاسم:
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (التِي وَقودُها النَّاسُ والحِجَارة).
عرفوا عذاب اللَّه عزَّ وجلَّ بأشد الأشياءِ التي يعرفونها لأنه لا شيء في
الدنيا أبلغ فيما يؤلم من النار، فقيل لهم إن عذاب اللَّه من أشد الأجناس التي
يعرفونها، إلا أنه من هذا الشديد الذي يعرفونه، ويقال إن الحجارة هنا
تفسيرها حجارة الكبريت وقوله (وَقودُها) الوقود هو الحطب، وكل ما أوقد
به فهو وقود، ويقال هذا وقودك، ويقال قد وقدت النار وقُوداً فالمصدر
مضمومٌ ويجوز فيه الفتح.
وقد روي وقدت النار وَقوداً وقبلت الشيء قَبُولًا.
فقد جاءَ في المصدر (فَعُول) والباب الضم.
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
ذكر ذلك للمؤمنين، وما أعد لهم جزاءً لتصديقهم، بعد أن ذكر لهم
جزاءَ الكافرين، وموضع (أنَّ) نصب معناه بشرهم بأن لهم جنات).
فلما سقطت الباءُ أفْضَى الفعل إلَى " أن " فَنُصِبَتْ. وقد قال بَعْض
النَحويينَ إنَهُ يَجُوز أنْ يكون موضعُ مثل هذا خفضاً وإن سقطت الباءُ من أن، و (جنات) في موضع نصب بأنَّ، إلا أن التاءَ تاءُ جماعة المؤَنث هي في
الخفض والنصب على صورة واحدة كما أن ياءَ الجَمْع في النصْب والخَفْضِ
(1/101)
 
 
على صورة واحدةٍ، تقول رأيت الزيدين ومررت بالزيدين، ورأيت الهنداتِ، ورغبت في الهنْداتِ.
والجنة في لغة العرب البُسْتان، والجنات البساتين "، وهي التي وعد الله
بها المتقين وفيها ما تَشْتَهي الأنْفس وتَلَذ الأعين.
قوله عزَّ وجلَّ: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا).
قال أهل اللغة: معنى " مُتَشَابِه " يشبه؛ بعضه بعضاً في الجَوْدَةِ.
والحُسْن، وقال أهل التفسير وبعض أهل اللغة " متشابها " يشبه بعضه بعضا
في الصورة ويختلف في الطعْم، ودَليل المُفَسرين قوله: (هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) لأن صورتَهُ الصورة الأولى، ولكن اختلافَ الطعوم على اتفاق الصورَةِ
أبلغُ وأعرف عند الخلق، لو رأيت تفاحاً فيه طعم كل الفاكهة لكان غايةً في
العجب والدلالة على الحكمة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ).
أي أنهن لا يحتجن إلى ما يحتاج إليه نساءُ أهل الدنيا من الأكْل
والشرْب ولا يَحِضْنَ، ولا يحتجن إلى ما يُتَطَهرُ مِنه، وهن على هذا طاهرات
طهَارَةَ الأخلاق والعفةِ، فمُطهرة تَجْمَعُ الطهارةَ كلها لأن مُطهًرة أبْلَغ في الكلام من طاهرة، ولأن مطهرة إنما يكون للكثير.
وإعْرَابُ (أَزْوَاجٌ) الرفع بـ (وَلَهُمْ)
وإنْ شئت بالابتداءِ، ويجوز في (أَزْوَاجٌ) أن يكون واحدتُهن زوجاً وزوجةً قال الله تبارك وتعالى (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)
وقال الشاعر:
(1/102)
 
 
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
فبكى بناتي شَجْوَهُن وزوْجَتِي. . . والطامِعُونَ إليَّ ثم تَصَدَّعُوا
* * *
 
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ