مختصر تفسير البغوي المسمى بمعالم التنزيل 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: مختصر تفسير البغوي
المؤلف: عبد الله بن أحمد بن علي الزيد
 
الْمَعَانِي: هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غِلٌّ، أَرَادَ: مَنَعْنَاهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِمَوَانِعَ، فَجَعَلَ الْأَغْلَالَ مَثَلًا لِذَلِكَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ إِنَّا حَبَسْنَاهُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الْإِسْرَاءِ: 29] مَعْنَاهُ لَا تُمْسِكْهَا عَنِ النَّفَقَةِ. {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} [يس: 8] وهي كِنَايَةٌ عَنِ الْأَيْدِي وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ لِأَنَّ الْغِلَّ يَجْمَعُ الْيَدَ إِلَى الْعُنُقِ، مَعْنَاهُ: إِنَّا جَعَلَنَا فِي أَيْدِيهِمْ وَأَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ، {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس: 8] المقمح الَّذِي رُفِعَ رَأْسُهُ وَغُضَّ بَصَرُهُ، يُقَالُ: بَعِيرٌ قَامِحٌ إِذَا رَوَى مِنَ الْمَاءِ فَأَقْمَحَ إِذَا رَفَعَ رأسه وغض بصره. قال الْأَزْهَرِيُّ: أَرَادَ أَنَّ أَيْدِيَهُمْ لَمَّا غُلَّتْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ رَفَعَتِ الْأَغْلَالُ أذقانهم ورءوسهم، فهم مرفوعوا الرءوس بِرَفْعِ الْأَغْلَالِ إِيَّاهَا.
[9] {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس: 9] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ (سَدًّا) بِفَتْحِ السِّينِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّهَا، {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} [يس: 9] فَأَعْمَيْنَاهُمْ مِنَ التَّغْشِيَةِ وَهِيَ التَّغْطِيَةُ، {فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] سَبِيلَ الْهُدَى.
[10] {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس: 10]
[11] {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس: 11] يَعْنِي إِنَّمَا يَنْفَعُ إِنْذَارُكُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ يَعْنِي الْقُرْآنَ فَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 11] حَسَنٍ وَهُوَ الْجَنَّةُ.
[12] {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} [يس: 12] عِنْدَ الْبَعْثِ، {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} [يس: 12] مِنَ الْأَعْمَالِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، {وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] أَيْ مَا سَنُّوا مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فله أجرها وأجر مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا» (1) .
وَقَالَ قَوْمٌ: قَوْلُهُ: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهَمْ) أَيْ: خُطَاهُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ. رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: شَكَتْ بَنُو سَلَمَةَ بُعْدَ مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهَمْ) (2) . قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ} [يس: 12] حَفِظْنَاهُ وَعَدَدْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ، {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ.
 
[قَوْلُهُ تَعَالَى وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا] الْمُرْسَلُونَ. . .
[13] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس: 13] يَعْنِي اذْكُرْ لَهُمْ شَبَهًا مِثْلَ حَالِهِمْ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ وَهِيَ أَنْطَاكِيَةُ، {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس: 13] يَعْنِي رُسُلُ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام.
_________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة رقم (1017) 2 / 704 والمصنف في شرح السنة 6 / 159.
(2) أخرجه الترمذي في التفسير 9 / 94 وقال (حديث حسن غريب) وصححه الحاكم 2 / 428.
(5/782)
 
 
[14] فذلك قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} [يس: 14] قَالَ وَهْبٌ: اسْمُهُمَا يُوحَنَّا وَبُولِسُ، {فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا} [يس: 14] يعني فقوينا {بِثَالِثٍ} [يس: 14] بِرَسُولٍ ثَالِثٍ وَهُوَ شَمْعُونُ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ (فَعَزَزْنَا) بِالتَّخْفِيفِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ كَقَوْلِكَ: شددنا وشددنا، بالتخفيف بالتثقيل، وَقِيلَ: أَيْ فَغَلَبْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ: مَنْ عَزَّ بَزَّ. وَقَالَ كَعْبٌ: الرَّسُولَانِ صَادِقٌ وَصَدُوقٌ، وَالثَّالِثُ شَلُومُ، وَإِنَّمَا أَضَافَ اللَّهُ الْإِرْسَالَ إِلَيْهِ لأن عيسى إِنَّمَا بَعَثَهُمْ بِأَمْرِهِ تَعَالَى، {فَقَالُوا} [يس: 14] جَمِيعًا لِأَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ، {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس: 14]
[15] {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس: 15] مَا أَنْتُمْ إِلَّا كَاذِبُونَ فِيمَا تَزْعُمُونَ.
[16] {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 16]
[17] {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [يس: 17]
[18] {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18] تَشَاءَمْنَا بِكُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَطَرَ حبس عنهم حين قدم الرسل عليهم، فَقَالُوا: أَصَابَنَا هَذَا بِشُؤْمِكُمْ، {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} [يس: 18] لَنَقْتُلَنَّكُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بِالْحِجَارَةِ {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس: 18]
[19] {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس: 19] يَعْنِي شُؤْمُكُمْ مَعَكُمْ بِكُفْرِكُمْ وَتَكْذِيبِكُمْ يَعْنِي أَصَابَكُمِ الشُّؤْمُ مِنْ قِبَلِكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: حَظُّكُمْ من الخير والشر، {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} [يس: 19] يَعْنِي وُعِظْتُمْ بِاللَّهِ، وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ محذوف، الجواب: إِنْ ذُكِّرْتُمْ وَوُعِظْتُمْ بِاللَّهِ تَطَيَّرْتُمْ بِنَا، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ (أَنْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ الْمَلِينَةِ ذُكِرْتُمْ بِالتَّخْفِيفِ، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس: 19] مُشْرِكُونَ مُجَاوِزُونَ الْحَدَّ.
[20] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20] وَهُوَ حَبِيبٌ النَّجَّارُ، وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: كَانَ قَصَّارًا. وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَ رَجُلًا يَعْمَلُ الْحَرِيرَ وَكَانَ سَقِيمًا فد أَسْرَعَ فِيهِ الْجُذَامُ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ عِنْدَ أَقْصَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مُؤْمِنًا ذَا صَدَقَةٍ يَجْمَعُ كَسْبَهُ إِذَا أَمْسَى فَيَقْسِمُهُ نِصْفَيْنِ، فَيُطْعِمُ نِصْفًا لِعِيَالِهِ وَيَتَصَدَّقُ بنصفه، فلما بلغه أن قومه قد قَصَدُوا قَتْلَ الرُّسُلِ جَاءَهُمْ، {قَالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20]
[21] {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21] قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ حَبِيبٌ فِي غار يعبد الله، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ الرُّسُلِ أَتَاهُمْ فَأَظْهَرَ دِينَهُ، فَلَمَّا انْتَهَى حَبِيبٌ إِلَى الرُّسُلِ قَالَ لَهُمْ: تَسْأَلُونَ عن هَذَا أَجْرًا؟ قَالُوا: لَا، فَأَقْبَلَ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ قَالُوا لَهُ: وَأَنْتَ مُخَالِفٌ لِدِينِنَا وَمُتَابِعٌ دِينَ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ وَمُؤْمِنٌ بِإِلَهِهِمْ؟
[22] فَقَالَ: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22] قَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ (مَا لِي) بِإِسْكَانِ الْيَاءِ،
(5/783)
 
 
وَالْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا. قِيلَ. أَضَافَ الْفِطْرَةَ إِلَى نَفْسِهِ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْفِطْرَةَ أَثَرُ النِّعْمَةِ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ أَظْهَرَ، وَفِي الرُّجُوعِ مَعْنَى الزَّجْرِ وكان بهم أليق وقيل: إنهم - لَمَّا قَالَ: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ- أَخَذُوهُ فَرَفَعُوهُ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَفَأَنْتَ تَتْبَعُهُمْ؟ فَقَالَ: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) ، يعني وأي شيء في إِذَا لَمْ أَعْبُدِ الْخَالِقَ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تُرَدُّونَ عِنْدَ الْبَعْثِ فَيَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ.
[23] {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [يس: 23] اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ لَا أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} [يس: 23] بِسُوءٍ وَمَكْرُوهٍ، {لَا تُغْنِ عَنِّي} [يس: 23] لَا تَدْفَعُ عَنِّي، {شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} [يس: 23] أَيْ لَا شَفَاعَةَ لَهَا أَصْلًا فتغني {وَلَا يُنْقِذُونِ} [يس: 23] مِنْ ذَلِكَ الْمَكْرُوهِ، وَقِيلَ: لَا يُنْقِذُونِ مِنَ الْعَذَابِ لَوْ عَذَّبَنِي اللَّهُ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ.
[24] {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 24] خَطَأٍ ظَاهِرٍ.
[25] {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 25] يَعْنِي فَاسْمَعُوا مِنِّي، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ وَثَبَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ وَثْبَةَ رجل واحد فقتلوه.
[26] فذلك قوله: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس: 26] فَلَمَّا أَفْضَى إِلَى الْجَنَّةِ، {قَالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس: 26]
[27] {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} [يَسٍ: 27] يَعْنِي بِغُفْرَانِ رَبِّي لِي، {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 27] تَمَنَّى أَنْ يَعْلَمَ قَوْمُهُ أَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ وَأَكْرَمَهُ، لِيَرْغَبُوا فِي دِينِ الرُّسُلِ، فَلَمَّا قُتِلَ حَبِيبٌ غَضِبَ اللَّهُ لَهُ وَعَجَّلَ لهم النقمة، فأمر جبريل فَصَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَمَاتُوا عن آخرهم.
 
[قوله تعالى وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ] مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ. . .
[28] فذلك قوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} [يس: 28] يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} [يس: 28] وَمَا كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا بَلِ الْأَمْرُ فِي إِهْلَاكِهِمْ كَانَ أَيْسَرَ مِمَّا يَظُنُّونَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ) أي على قوم حبيب مِنْ بَعْدِ قَتْلِهِ مِنْ جُنْدٍ وما كما منزلين، نُنْزِلُهُمْ عَلَى الْأُمَمِ إِذَا أَهْلَكْنَاهُمْ، كَالطُّوفَانِ وَالصَّاعِقَةِ وَالرِّيحِ، ثُمَّ بَيَّنَ عُقُوبَتَهُمْ.
[29] فَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 29] وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ، بِالرَّفْعِ جَعَلَ الْكَوْنَ بِمَعْنَى الْوُقُوعِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَخَذَ جِبْرِيلُ بِعِضَادَتَيْ بَابِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ صَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً، {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29] ميتون.
[30] {يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30] قَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنِي يَا حَسْرَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَالْحَسْرَةُ شِدَّةُ النَّدَامَةِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا حَسْرَةً) وَنَدَامَةً وَكَآبَةً عَلَى الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالرُّسُلِ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْهَالِكِينَ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَمَّا عَايَنُوا الْعَذَابَ قَالُوا: يَا حَسْرَةً أَيْ نَدَامَةً عَلَى العباد يعني على العباد يعني الرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ حَيْثُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِمْ، فَتَمَنَّوُا الْإِيمَانَ حِينَ لَمْ يَنْفَعْهُمْ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْحَسْرَةُ لَا تُدْعَى وَدُعَاؤُهَا تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِينَ. وَقِيلَ العرب تقول. يا حسرتي وَيَا عَجَبًا عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ وَالنِّدَاءُ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى التَّنْبِيهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَيُّهَا الْعَجَبُ هَذَا وَقْتُكَ؟ وَأَيَّتُهَا الْحَسْرَةُ هَذَا أَوَانُكِ؟ حَقِيقَةُ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا زَمَانُ الْحَسْرَةِ وَالتَّعَجُّبِ، ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ، فَقَالَ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس: 30]
[31] {أَلَمْ يَرَوْا} [يس: 31] أَلَمْ يُخْبَرُوا يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ، {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} [يس: 31] وَالْقَرْنُ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِاقْتِرَانِهِمْ فِي الْوُجُودِ، {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} [يس: 31] أَيْ لَا يَعُودُونَ إِلَى الدُّنْيَا فَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهِمْ.
[32] {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ} [يس: 32] قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ (لَمَّا) بِالتَّشْدِيدِ هاهنا وفي الزخرف والطارق، وافق ابْنُ عَامِرٍ إِلَّا فِي الزُّخْرُفِ، وَوَافَقَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي الطَّارِقِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ، فَمَنْ شَدَّدَ جعل (إن) بمعنى الجحد، و (لما) بِمَعْنَى إِلَّا، تَقْدِيرُهُ: وَمَا كَلٌّ إِلَّا جَمِيعٌ، وَمَنْ خَفَّفَ جَعَلَ (إن) للتحقيق
(5/784)
 
 
و (ما) صلة، مجازه: كل جميع، {لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32]
[33] {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} [يس: 33] بالمطر، {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا} [يس: 33] يَعْنِي الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ وَمَا أَشْبَهَهُمَا، {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33] أَيْ مِنَ الْحَبِّ.
[34] {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ} [يس: 34] بَسَاتِينَ، {مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا} [يس: 34] في الأرض، {مِنَ الْعُيُونِ} [يس: 34]
[35] {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} [يس: 35] أَيْ مِنَ الثَّمَرِ الْحَاصِلِ بِالْمَاءِ، {وَمَا عَمِلَتْهُ} [يس: 35] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ (عَمِلَتْ) بِغَيْرِ هَاءٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (عَمِلَتْهُ) بِالْهَاءِ أَيْ يَأْكُلُونَ مِنَ الذي عملته، {أَيْدِيهِمْ} [يس: 35] من الزرع والغرس، والهاء عائدة إلى (ما) التي هي بِمَعْنَى الَّذِي. وَقِيلَ: مَا لِلنَّفْيِ في قوله ما عملته أيديهم أي وجدوها معمولة ولم تعمله أَيْدِيهِمْ، وَلَا صُنْعَ لَهُمْ فِيهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ، وَقِيلَ: أَرَادَ الْعُيُونَ وَالْأَنْهَارَ الَّتِي لَمْ تَعْمَلْهَا يَدُ خَلْقٍ مِثْلَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَالنِّيلِ وَنَحْوِهَا، {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 35] نِعْمَةَ اللَّهِ.
[36] {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [يس: 36] أي الأصناف كلها، {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} [يس: 36] من الثمار والحبوب، {وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} [يس: 36] يَعْنِي الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، {وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس: 36] مما خلق من الأشياء مع دَوَابِّ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
[37] {وَآيَةٌ لَهُمُ} [يس: 37] تَدَلُّ عَلَى قُدْرَتِنَا، {اللَّيْلُ نَسْلَخُ} [يس: 37] نَنْزِعُ وَنَكْشِطُ، {مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37] دَاخِلُونَ فِي الظُّلْمَةِ، وَمَعْنَاهُ نُذْهِبُ النَّهَارَ وَنَجِيءُ بِاللَّيْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ هِيَ الظُّلْمَةُ وَالنَّهَارُ دَاخِلٌ عَلَيْهَا، فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ سُلِخَ النَّهَارُ مِنَ اللَّيْلِ، فَتَظْهَرُ الظُّلْمَةُ.
[38] {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] أي إلى مستقر لها. قيل: إِلَى انْتِهَاءِ سَيْرِهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّنْيَا وَقِيَامِ السَّاعَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا تَسِيرُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى أَبْعَدِ مَغَارِبِهَا، ثُمَّ تَرْجِعُ فَذَلِكَ مُسْتَقَرُّهَا لِأَنَّهَا لَا تُجَاوِزُهُ. وَقِيلَ: مُسْتَقَرُّهَا نِهَايَةُ ارْتِفَاعِهَا فِي السَّمَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَنِهَايَةُ هُبُوطِهَا فِي الشِّتَاءِ، {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38] وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لَا مُسْتَقَرَّ لَهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْ لَا قَرَارَ لَهَا وَلَا وُقُوفَ فَهِيَ جَارِيَةٌ أَبَدًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
[39] {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ} [يس: 39] أي قدرنا له، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ (الْقَمَرُ) بِرَفْعِ الرَّاءِ لِقَوْلِهِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: 37] وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ لِقَوْلِهِ: (قَدَّرْنَاهُ) أي قدرنا القمر، {مَنَازِلَ} [يس: 39] وقد ذكرنا عددها فِي سُورَةِ يُونُسَ (1) فَإِذَا صَارَ الْقَمَرُ إِلَى آخَرِ الْمَنَازِلِ دَقَّ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] والعرجون عود العذق
_________
(1) انظر هنا (ص 390) من هذا المختصر.
(5/785)
 
 
الَّذِي عَلَيْهِ الشَّمَارِيخُ فَإِذَا قَدُمَ عتق ويبس وَتَقَوَّسَ وَاصْفَرَّ، فَشُبِّهَ الْقَمَرُ فِي دِقَّتِهِ وَصُفْرَتِهِ فِي آخِرِ الْمَنَازِلِ بِهِ.
[40] {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40] أَيْ لَا يَدْخُلُ النَّهَارُ عَلَى اللَّيْلِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ، وَلَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ عَلَى النَّهَارِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] أَيْ هُمَا يَتَعَاقَبَانِ بِحِسَابٍ مَعْلُومٍ لَا يَجِيءُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ وَقْتِهِ. وَقِيلَ: لَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي سلطان الآخر، لا يطلع الشَّمْسُ بِاللَّيْلِ وَلَا يَطْلُعُ الْقَمَرُ بالنهار وله ضوء، وإذا اجْتَمَعَا وَأَدْرَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ قَامَتِ الْقِيَامَةُ. وَقِيلَ: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ القمر) أي تَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي فَلَكٍ وَاحِدٍ (وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) أَيْ لَا يَتَّصِلُ لَيْلٌ بِلَيْلٍ لَا يكون بينهما فَاصِلٌ، {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] يجرون.
 
[قوله تَعَالَى وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ] الْمَشْحُونِ. . .
[41] {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس: 41] وَالْمُرَادُ بِالذُّرِّيَّةِ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ، وَاسْمُ الذُّرِّيَّةِ يَقَعُ عَلَى الْآبَاءِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْأَوْلَادِ، {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41] أَيْ الْمَمْلُوءِ، وَأَرَادَ سَفِينَةَ نُوحٍ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ نَسْلِ مَنْ حُمِلَ مَعَ نُوحٍ، وَكَانُوا فِي أَصْلَابِهِمْ.
[42] {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس: 42] قيل: أراد به السفن الَّتِي عُمِلَتْ بَعْدَ سَفِينَةِ نُوحٍ على هيئتها. وقيل: أراد بالسفن الَّتِي تَجْرِي فِي الْأَنْهَارِ فَهِيَ فِي الْأَنْهَارِ كَالْفُلْكِ الْكِبَارِ فِي البحار، هذا قَوْلُ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَالَ: وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ، يَعْنِي الْإِبِلَ؛ فَالْإِبِلُ فِي الْبَرِّ كَالسُّفُنِ فِي الْبَحْرِ.
[43] {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ} [يس: 43] أَيْ لَا مُغِيثَ، {لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} [يس: 43] ينجون من الغرق. قال ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا أَحَدَ يُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِي.
[44] {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس: 44] إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ، يَعْنِي إِلَّا أن يرحمهم ويمتعهم إلى حين آجَالِهِمْ.
[45] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} [يس: 45] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ يَعْنِي الْآخِرَةَ، فَاعْمَلُوا لَهَا وما خلفكم يعني من الدُّنْيَا فَاحْذَرُوهَا، وَلَا تَغْتَرُّوا بِهَا. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَقَائِعُ اللَّهِ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَمَا خَلْفَكُمْ عَذَابُ الْآخِرَةِ، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس: 45] وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِذَا قِيلَ لَهُمْ هَذَا أَعْرَضُوا عَنْهُ، دَلِيلُهُ مَا بَعْدَهُ.
[46] {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} [يس: 46] أَيْ دَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [يس: 46]
[47] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [يس: 47] أَعْطَاكُمُ اللَّهُ، {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ} [يس: 47] أَنَرْزُقُ، {مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47] وَذَلِكَ
(5/786)
 
 
أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا لِكُفَّارِ مَكَّةَ: أَنْفِقُوا عَلَى الْمَسَاكِينِ مِمَّا زَعَمْتُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ أَنَّهُ لِلَّهِ، وَهُوَ ما جعلوه لِلَّهِ مِنْ حُرُوثِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ، قَالُوا: أَنُطْعِمُ أَنَرْزُقُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ الله أطعمه رَزَقَهُ، ثُمَّ لَمْ يَرْزُقْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، فَنَحْنُ نُوَافِقُ مَشِيئَةَ اللَّهِ فَلَا نُطْعِمُ مَنْ لَمْ يُطْعِمْهُ اللَّهُ، وَهَذَا مِمَّا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْبُخَلَاءُ، يَقُولُونَ: لَا نُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ اللَّهُ، وَهَذَا الَّذِي يَزْعُمُونَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ اللَّهَ أَغْنَى بَعْضَ الْخَلْقِ وَأَفْقَرَ بَعْضَهُمُ ابْتِلَاءً، فَمَنَعَ الدُّنْيَا مِنَ الْفَقِيرِ لَا بُخْلًا وَأَمَرَ الْغَنِيَّ بِالْإِنْفَاقِ لَا حَاجَةً إِلَى مَالِهِ، وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ الغني بالفقير فيما أمر وفرض لَهُ فِي مَالِ الْغَنِيِّ، وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ فِي خَلْقِهِ، {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 47] يَقُولُ الْكُفَّارُ لِلْمُؤْمِنِينَ: مَا أَنْتُمْ إِلَّا فِي خَطَأٍ بَيِّنٍ فِي اتباعكم محمدا وَتَرْكِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ.
[48] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يس: 48] أَيِ الْقِيَامَةُ وَالْبَعْثُ، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يس: 48]
[49] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا يَنْظُرُونَ} [يس: 49] أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ، {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 49] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ النَّفْخَةَ الأولى، {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس: 49] يَعْنِي يَخْتَصِمُونَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَيَتَكَلَّمُونَ فِي الْمَجَالِسِ وَالْأَسْوَاقِ، قَرَأَ حَمْزَةُ (يَخْصِمُونَ) بِسُكُونِ الْخَاءِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ، أَيْ يَغْلِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْخِصَامِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ، أَيْ يَخْتَصِمُونَ، أدغمت التاء في الصاد.
[50] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} [يس: 50] أي لا يقدرون الْإِيصَاءِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: عَجِلُوا عَنِ الْوَصِيَّةِ فَمَاتُوا، {وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50] يَنْقَلِبُونَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ السَّاعَةَ لَا تُمْهِلُهُمْ لِشَيْءٍ.
[51] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [يس: 51] وهي الْأَخِيرَةُ نَفْخَةُ الْبَعْثِ، وَبَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ} [يس: 51] يَعْنِي الْقُبُورُ، وَاحِدُهَا: جَدَثٌ، {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51] يَخْرُجُونَ مِنَ الْقُبُورِ أَحْيَاءً، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْوَلَدِ: نَسْلٌ لِخُرُوجِهِ مِنْ بطن أمه.
[52] {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52] قَالَ أَبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِنَّمَا يَقُولُونَ هَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، فَيَرْقُدُونَ فَإِذَا بُعِثُوا بَعْدَ النَّفْخَةِ الْأَخِيرَةِ وَعَايَنُوا الْقِيَامَةَ دَعَوْا بِالْوَيْلِ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: إِنَّ الْكُفَّارَ إِذَا عَايَنُوا جَهَنَّمَ وَأَنْوَاعَ عَذَابِهَا صَارَ عَذَابُ الْقَبْرِ فِي جَنْبِهَا كَالنَّوْمِ، فَقَالُوا: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا؟ ثُمَّ قَالُوا: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52] أَقَرُّوا حِينَ لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْإِقْرَارُ. وَقِيلَ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) . قَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُ الْكُفَّارُ: (مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52]
[53] {إِنْ كَانَتْ} [يس: 53] مَا كَانَتْ، {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 53] يعني النفخة الأخيرة، {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53]
[54] {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54]
 
[قوله تعالى إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ] . . .
[55] {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ} [يس: 55] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عمرو (في شغل) اختلفوا فِي مَعْنَى الشُّغُلِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي افْتِضَاضِ الْأَبْكَارِ. وَقَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجِرَاحِ: فِي السَّمَاعِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فِي شُغُلٍ عَنْ أَهْلِ النَّارِ وَعَمَّا هُمْ فِيهِ لَا يُهِمُّهُمْ أَمْرُهُمْ وَلَا يَذْكُرُونَهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: شُغِلُوا بِمَا فِي الْجَنَّةِ مِنَ النَّعِيمِ عَمَّا فِيهِ أَهْلُ النَّارِ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: فِي زِيَارَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَقِيلَ: فِي ضِيَافَةِ اللَّهِ تعالى. {فَاكِهُونَ} [يس: 55] قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ (فَكِهُونَ) حَيْثُ كَانَ، وَافَقَهُ حَفْصٌ فِي الْمُطَفِّفِينَ وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ الْحَاذِرُ وَالْحَذِرُ، أَيْ نَاعِمُونَ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: مُعْجَبُونَ بِمَا هُمْ فِيهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرِحُونَ.
(5/787)
 
 
[56] {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} [يس: 56] أي حلائلهم، {فِي ظِلَالٍ} [يس: 56] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ ظُلَلٍ بِضَمِّ الظَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، جَمْعُ ظُلَّةٍ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ (فِي ظِلَالٍ) بِالْأَلِفِ وَكَسْرِ الظَّاءِ عَلَى جَمْعِ ظل، {عَلَى الْأَرَائِكِ} [يس: 56] يَعْنِي السُّرَرَ فِي الْحِجَالِ وَاحِدَتُهَا أَرِيكَةٌ. قَالَ ثَعْلَبٌ: لَا تَكُونُ أَرِيكَةً حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهَا حَجْلَةٌ. {مُتَّكِئُونَ} [يس: 56] ذَوُو اتِّكَاءٍ.
[57] {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57] يَتَمَنَّوْنَ وَيَشْتَهُونَ.
[58] {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] أَيْ يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ قَوْلًا، وقيل: يسلم عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ. وَقِيلَ: تُسَلِّمُ عليهم الملائكة من ربهم. وقال مُقَاتِلٌ: تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ كُلِّ بَابٍ يَقُولُونَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ رَبِّكُمُ الرَّحِيمِ. وَقِيلَ: يُعْطِيهُمُ السَّلَامَةَ يَقُولُ: اسْلَمُوا السَّلَامَةَ الْأَبَدِيَّةَ.
[59] {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59] قال مقاتل: اعتزلوا اليوم الصَّالِحِينَ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: تَمَيَّزُوا. وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: كُونُوا عَلَى حِدَةٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: انْفَرَدُوا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ لِكُلِّ كَافِرٍ فِي النَّارِ بَيْتًا يُدْخَلُ ذَلِكَ الْبَيْتَ وَيُرْدَمُ بَابُهُ بِالنَّارِ فَيَكُونُ فِيهِ أَبَدَ الْآبِدِينَ، لَا يَرَى وَلَا يُرَى.
[60] {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ} [يس: 60] أَلَمْ آمُرْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ، {أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60] أَيْ لَا تُطِيعُوا الشَّيْطَانَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس: 60] ظاهر العداوة.
[61] {وَأَنِ اعْبُدُونِي} [يس: 61] أَطِيعُونِي وَوَحِّدُونِي، {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 61]
[62] {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس: 62] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَعَاصِمٌ (جِبِلًّا) معناها: الْخَلْقُ وَالْجَمَاعَةُ أَيْ خَلْقًا كَثِيرًا {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 62] مَا أَتَاكُمْ مِنْ هَلَاكِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ بِطَاعَةِ إِبْلِيسَ، وَيُقَالُ لَهُمْ لَمَّا دَنَوْا مِنَ النَّارِ.
[63] {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [يس: 63] بها في الدنيا.
[64] {اصْلَوْهَا} [يس: 64] ادْخُلُوهَا {الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس: 64]
[65] {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65] هَذَا حِينَ يُنْكِرُ الْكُفَّارُ كُفْرَهُمْ وتكذيبهم الرسل بقولهم {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فَيَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ جوارحهم.
[66] {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66] أَيْ أَذْهَبْنَا أَعْيُنَهُمُ الظَّاهِرَةَ بِحَيْثُ لَا يَبْدُو لَهَا جَفْنٌ وَلَا شِقٌّ، وَهُوَ مَعْنَى الطَّمْسِ كَمَا قال الله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [الْبَقَرَةِ: 20] يَقُولُ: كَمَا أَعْمَيْنَا قُلُوبَهُمْ لَوْ شِئْنَا أَعْمَيْنَا أَبْصَارَهُمُ الظاهرة، {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} [يس: 66] فَتَبَادَرُوا إِلَى الطَّرِيقِ، {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} [يس: 66]
(5/788)
 
 
فَكَيْفَ يُبْصِرُونَ وَقَدْ أَعْمَيْنَا أَعْيُنَهُمْ؟ يعني: لو تشاء لَأَضْلَلْنَاهُمْ عَنِ الْهُدَى، وَتَرَكْنَاهُمْ عُمْيًا يَتَرَدَّدُونَ، فَكَيْفَ يُبْصِرُونَ الطَّرِيقَ حِينَئِذٍ؟ هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَعَطَاءٌ: مَعْنَاهُ لَوْ نَشَاءُ لَفَقَأْنَا أَعْيُنَ ضَلَالَتِهِمْ، فَأَعْمَيْنَاهُمْ عَنْ غَيِّهِمْ، وَحَوَّلْنَا أَبْصَارَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، فَأَبْصَرُوا رُشْدَهُمْ، (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) وَلَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ بِهِمْ؟
[67] {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} [يس: 67] يعني مكانتهم، يُرِيدُ: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَقِيلَ: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُمْ حِجَارَةً، وَهُمْ قُعُودٌ فِي مَنَازِلِهِمْ لَا أَرْوَاحَ لَهُمْ. {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} [يس: 67] يعني إلى ما كانوا عليه على وَقِيلَ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَهَابٍ وَلَا رُجُوعٍ.
[68] {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس: 68] أَيْ نَرُدُّهُ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ شِبْهَ الصَّبِيِّ فِي أَوَّلِ الْخَلْقِ. وَقِيلَ: نُنَكِّسُهُ فِي الْخَلْقِ أَيْ نُضْعِفُ جَوَارِحَهُ بَعْدَ قُوَّتِهَا وَنَرُدُّهَا إِلَى نُقْصَانِهَا بَعْدَ زِيَادَتِهَا. {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [يس: 68] فَيَعْتَبِرُوا وَيَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى تَصْرِيفِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ يَقْدِرُ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
[69] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا شَاعِرٌ، وَمَا يَقُولُهُ شِعْرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَكْذِيبًا لَهُمْ: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) أَيْ مَا يَتَسَهَّلُ لَهُ ذَلِكَ وَمَا كَانَ يَتَّزِنُ له بيت من الشعر، حَتَّى إِذَا تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ جرى على لسانه منكسرا، {إِنْ هُوَ} [يس: 69] يعني ما القرآن، {إِلَّا ذِكْرٌ} [يس: 69] موعظة، {وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس: 69] فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ وَالْأَحْكَامُ.
[70] {لِيُنْذِرَ} [يس: 70] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَيَعْقُوبُ (لِتُنْذِرَ) بِالتَّاءِ وَكَذَلِكَ فِي الْأَحْقَافِ، وَافَقَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْأَحْقَافِ، أَيْ لِتُنْذِرَ يَا مُحَمَّدُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ أَيْ لِيُنْذِرَ الْقُرْآنُ، {مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 70] يَعْنِي مُؤْمِنًا حَيَّ الْقَلْبِ لِأَنَّ الْكَافِرَ كَالْمَيِّتِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَدَبَّرُ وَلَا يَتَفَكَّرُ، {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ} [يس: 70] وَيَجِبُ حُجَّةُ الْعَذَابِ {عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 70]
 
[قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ] أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ. . .
[71] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] تَوَلَّيْنَا خَلْقَهُ بِإِبْدَاعِنَا مِنْ غَيْرِ إِعَانَةِ أَحَدٍ، {أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: 71] ضَابِطُونَ قَاهِرُونَ، أَيْ لَمْ يَخْلُقِ الْأَنْعَامَ وَحْشِيَّةً نَافِرَةً مَنْ بَنِي آدَمَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ضَبْطِهَا بَلْ هِيَ مُسَخَّرَةٌ لَهُمْ.
[72] وَهِيَ قوله: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} [يس: 72] سخرناها لهم، {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} [يس: 72] أَيْ مَا يَرْكَبُونَ وَهِيَ الْإِبِلُ، {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 72] مِنْ لُحْمَانِهَا.
[73] {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [يس: 73] أي مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَنَسْلِهَا، {وَمَشَارِبُ} [يس: 73] من ألبانها، {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 73] رَبَّ هَذِهِ النِّعَمِ.
[74] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [يس: 74] يَعْنِي: لِتَمْنَعَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَطُّ.
[75] {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} [يس: 75] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَقْدِرُ الْأَصْنَامُ عَلَى نَصْرِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ. {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 75] أَيْ الْكُفَّارُ جُنْدٌ لِلْأَصْنَامِ يَغْضَبُونَ لَهَا وَيُحْضِرُونَهَا فِي الدُّنْيَا وَهِيَ لَا تَسُوقُ إِلَيْهِمْ خَيْرًا وَلَا تَسْتَطِيعُ لَهُمْ نَصْرًا. وَقِيلَ: هَذَا فِي الْآخِرَةِ يُؤْتَى بِكُلِّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَهُ أَتْبَاعُهُ الَّذِينَ عَبَدُوهُ كَأَنَّهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ فِي النَّارِ.
[76] {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يس: 76] يَعْنِي قَوْلَ كُفَّارِ مَكَّةَ فِي تَكْذِيبِكَ، {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} [يس: 76] فِي ضَمَائِرِهِمْ مِنَ التَّكْذِيبِ، {وَمَا يُعْلِنُونَ} [يس: 76] مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ أَوْ مَا يُعْلِنُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْأَذَى.
[77] قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} [يس: 77] جدل بالباطل، {مُبِينٌ} [يس: 77] بَيِّنُ الْخُصُومَةِ، يَعْنِي أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ يُخَاصِمُ، فَكَيْفَ لَا يَتَفَكَّرُ فِي بَدْءِ خَلْقِهِ حَتَّى يَدَعَ
(5/789)
 
 
الْخُصُومَةَ، «نَزَلَتْ فِي أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ خَاصَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَأَتَاهُ بِعَظْمٍ قَدْ بَلِيَ ففتته بيده، فقال: أَتُرَى يُحْيِي اللَّهُ هَذَا بَعْدَمَا رَمَّ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ وَيَبْعَثُكَ وَيُدْخِلُكَ النَّارَ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ (1) .
[78] {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: 78] بَدْءَ أَمْرِهِ ثُمَّ، {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] بَالِيَةٌ، وَلَمْ يَقِلْ رَمِيمَةً لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنْ فَاعِلَةٍ وَكُلُّ مَا كَانَ مَعْدُولًا عَنْ وَجْهِهِ وَوَزْنِهِ كَانَ مَصْرُوفًا عَنْ أَخَوَاتِهِ، كَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مَرْيَمَ: 28] أَسْقَطَ الْهَاءَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَصْرُوفَةً عَنْ بَاغِيَةٍ.
[79] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} [يس: 79] خَلَقَهَا، {أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79]
[80] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} [يس: 80] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا شَجَرَتَانِ يقال لأحدهما: المرخ والأخرى: الْعَفَارُ، فَمَنْ أَرَادَ مِنْهُمُ النَّارَ قَطَعَ مِنْهُمَا غُصْنَيْنِ مِثْلَ السِّوَاكَيْنِ وَهُمَا خَضْرَاوَانِ يَقْطُرُ مِنْهُمَا الْمَاءُ، فَيُسْحَقُ الْمَرْخُ عَلَى الْعِفَارِ فَيَخْرُجُ مِنْهُمَا النَّارُ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، تَقُولُ الْعَرَبُ فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعَفَارُ، وَقَالَ الْحُكَمَاءُ: فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ إِلَّا الْعُنَّابَ. {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 80] تَقْدَحُونَ وَتُوقِدُونَ النَّارَ مِنْ ذَلِكَ الشَّجَرِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ.
[81] فَقَالَ: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ} [يس: 81] قَرَأَ يَعْقُوبُ يَقْدِرُ بِالْيَاءِ عَلَى الْفِعْلِ، {عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى} [يس: 81] أَيْ قُلْ بَلَى هُوَ قَادِرٌ على ذلك، {وَهُوَ الْخَلَّاقُ} [يس: 81] يَخْلُقُ خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ، {الْعَلِيمُ} [يس: 81] بجميع ما خلق.
[82] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]
[83] {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ} [يس: 83] أي ملك، {كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 83]
 
[سورة الصافات]
[قوله تعالى وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ] ذِكْرًا. . .
(37) سورة الصافات [1] {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات: 1] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عنهما وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ يَصُفُّونَ كَصُفُوفِ الْخَلْقِ فِي الدنيا للصلاة، وَقِيلَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ تَصُفُّ أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ وَاقِفَةً حَتَّى يَأْمُرَهَا الله تعالى بما يريده. وَقِيلَ: هِيَ الطُّيُورُ دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النُّورِ: 41]
[2] قَوْلُهُ تعالى: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} [الصافات: 2] يعني تَزْجُرُ السَّحَابَ وَتَسُوقُهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ زَوَاجِرُ الْقُرْآنِ تَنْهَى وَتَزْجُرُ عن القبائح.
[3] {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات: 3] هم الملائكة يتلون ذكر
_________
(1) أخرجه الطبري 23 / 30 والواحدي في أسباب النزول.
(5/790)
 
 
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: هُمْ جَمَاعَةُ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَهَذَا كُلُّهُ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وجواب الْقِسْمِ:
[4] قَوْلُهُ: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات: 4] وَقِيلَ: فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ وَرَبِّ الصَّافَّاتِ وَالزَّاجِرَاتِ وَالتَّالِيَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ قَالُوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] ؟ فأقسم الله بهؤلاء.
[5] {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات: 5] أي مطالع الشمس، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ فِي موضع: (رب الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرَّحْمَنِ: 17] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الشعراء: 28] فَكَيْفَ وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ؟ قِيلَ: أَمَّا قَوْلُهُ: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الشعراء: 28] أراد به جهة المشرق وجهة المغرب. وَقَوْلُهُ: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17] أَرَادَ مَشْرِقَ الشِّتَاءِ وَمَشْرِقَ الصَّيْفِ، وَأَرَادَ بِالْمَغْرِبَيْنِ: مَغْرِبَ الشِّتَاءِ وَمَغْرِبَ الصَّيْفِ. وَقَوْلُهُ: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40] أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ للشمس ثلثمائة وستين كوة في المشرق وثلثمائة وَسِتِّينَ كُوَّةً فِي الْمَغْرِبِ عَلَى عَدَدِ أَيَّامِ السَّنَةِ، تَطْلُعُ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ كُوَّةٍ مِنْهَا، وَتَغْرُبُ فِي كُوَّةٍ مِنْهَا لَا تَرْجِعُ إِلَى الْكُوَّةِ الَّتِي تَطْلُعُ الشمس منها من ذلك اليوم إلى الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَهِيَ الْمَشَارِقُ وَالْمَغَارِبُ، وَقِيلَ: كُلُّ مَوْضِعٍ شَرَقَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَهُوَ مَشْرِقٌ وَكُلُّ مَوْضِعٍ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَهُوَ مَغْرِبٌ، كَأَنَّهُ أَرَادَ رَبَّ جَمِيعِ مَا شرقت عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ.
[6] {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات: 6] قَرَأَ عَاصِمٌ، بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ (بِزِينَةٍ) مُنَوَّنَةً، (الْكَوَاكِبَ) نُصِبَ أَيْ بِتَزْيِينِنَا الْكَوَاكِبَ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ (بِزِينَةٍ) مُنَوَّنَةً (الْكَوَاكِبِ) خَفْضًا عَلَى الْبَدَلِ، أَيْ بِزِينَةٍ بِالْكَوَاكِبِ، أَيْ زَيَّنَّاهَا بِالْكَوَاكِبِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ) ، بِلَا تَنْوِينٍ عَلَى الْإِضَافَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِضَوْءِ الْكَوَاكِبِ.
[7] {وَحِفْظًا} [الصافات: 7] أَيْ وَحَفِظْنَاهَا حِفْظًا. {مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات: 7] مُتَمَرِّدٍ يُرْمَوْنَ بِهَا.
[8] {لَا يَسَّمَّعُونَ} [الصافات: 8] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ (يَسَّمَّعُونَ) بِتَشْدِيدِ السِّينِ وَالْمِيمِ، أَيْ لَا يَتَسَمَّعُونَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي السِّينِ، وقرأ الآخرون بسكون السين خفيف الميم، {إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} [الصافات: 8] أي إلى الكتيبة مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمَلَأُ الْأَعْلَى هُمُ الْمَلَائِكَةُ لِأَنَّهُمْ فِي السَّمَاءِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الِاسْتِمَاعَ إِلَى الملأ الأعلى، {وَيُقْذَفُونَ} [الصافات: 8] يرمون، {مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات: 8] من كل آفاق السماء بالشهب.
[9] {دُحُورًا} [الصافات: 9] يُبْعِدُونَهُمْ عَنْ مَجَالِسِ الْمَلَائِكَةِ، يُقَالُ: دحره دحرا ودحورا إذ طَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9] دَائِمٌ، قَالَ مُقَاتِلٌ: دَائِمٌ إِلَى النَّفْخَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُمْ يُحْرَقُونَ وَيَتَخَبَّلُونَ.
[10] {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} [الصافات: 10] اخْتَلَسَ الْكَلِمَةَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ مسارقة، {فَأَتْبَعَهُ} [الصافات: 10] لحقه، {شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] كَوْكَبٌ مُضِيءٌ قَوِيٌّ لَا يُخْطِئُهُ يَقْتُلُهُ، أَوْ يَحْرِقُهُ أَوْ يُخْبِلُهُ، وَإِنَّمَا يَعُودُونَ إِلَى اسْتِرَاقِ السَّمْعِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ طَمَعًا فِي السَّلَامَةِ وَنَيْلِ المراد، كراكب السفينة، قَالَ عَطَاءٌ: سُمِّيَ النَّجْمُ الَّذِي يُرْمَى بِهِ الشَّيَاطِينُ ثَاقِبًا لِأَنَّهُ يثقبهم.
[11] {فَاسْتَفْتِهِمْ} [الصافات: 11] يعني سَلْهُمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ، {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} [الصافات: 11] يَعْنِي مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ أَيْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَشَدُّ خَلْقًا كَمَا قَالَ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غَافِرٍ: 57] وَقَالَ: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} [النَّازِعَاتِ: 27] وَقِيلَ: (أَمْ مَنْ خَلَقْنَا) يَعْنِي مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، لِأَنَّ (مَنْ) يُذْكَرُ فِيمَنْ يَعْقِلُ، يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِأَحْكَمَ خَلْقًا مَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَقَدْ أَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فَمَا الَّذِي يُؤَمِّنُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْعَذَابِ؟! ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ، فَقَالَ:
(5/891)
 
 
{إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} [الصافات: 11] يَعْنِي جِيدٌ حُرٌّ لَاصِقٌ يَعْلَقُ باليد، ومعناه اللازم إبدال الْمِيمُ بَاءً كَأَنَّهُ يَلْزَمُ الْيَدَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: مُنْتِنٌ.
[12] {بَلْ عَجِبْتَ} [الصافات: 12] قرأ حمزة والكسائي بضم الباء، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْعَجَبُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ كَالتَّعَجُّبِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ كَمَا قَالَ: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79] أن قال عَزَّ وَجَلَّ: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] والعجب مِنَ الْآدَمِيِّينَ إِنْكَارُهُ وَتَعْظِيمُهُ، وَالْعَجَبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالذَّمِّ، وَقَدْ يَكُونُ بمعنى الاستحسان والرضا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى خِطَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَيْ عَجِبْتَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ إياك، {وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12] يعني وهم يسخرون مِنْ تَعَجُّبِكَ. قَالَ قَتَادَةُ: عَجِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ حِينَ أُنْزِلَ وَضَلَالِ بَنِي آدَمَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ يُؤْمِنُ بِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ الْقُرْآنَ سَخِرُوا مِنْهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، فَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) .
[13] {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ} [الصافات: 13] يعني إِذَا وُعِظُوا بِالْقُرْآنِ لَا يَتَّعِظُونَ.
[14] {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً} [الصافات: 14] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ يَعْنِي انشقاق القمر، {يَسْتَسْخِرُونَ} [الصافات: 14] يسخرون ويستهزئون، وَقِيلَ: يَسْتَدْعِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ السُّخْرِيَةَ.
[15] {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصافات: 15] يَعْنِي سِحْرٌ بَيِّنٌ.
[16] {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات: 16]
[17] {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} [الصافات: 17] أَيْ وَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ.
[18] {قُلْ نَعَمْ} [الصافات: 18] تبعثون، {وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات: 18] صَاغِرُونَ، وَالدُّخُورُ أَشَدُّ الصَّغَارِ.
[19] {فَإِنَّمَا هِيَ} [الصافات: 19] أَيْ قِصَّةُ الْبَعْثِ أَوِ الْقِيَامَةِ، {زَجْرَةٌ} [الصافات: 19] أي صيحة، {وَاحِدَةٌ} [الصافات: 19] يَعْنِي نَفْخَةُ الْبَعْثِ، {فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} [الصافات: 19] أحياء.
[20] {وَقَالُوا يا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات: 20] أَيْ يَوْمُ الْحِسَابِ وَيَوْمُ الْجَزَاءِ.
[21] {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [الصافات: 21] يَوْمُ الْقَضَاءِ، وَقِيلَ: يَوْمُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ، {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الصافات: 21] 22،
[23] {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الصافات: 22] أَيْ أَشْرَكُوا، اجْمَعُوهُمْ إِلَى الْمَوْقِفِ للحساب والجزاء، {وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22] أشياعهم وَأَتْبَاعَهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ، قَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: كل من عَمَلٍ مِثْلِ عَمَلِهِمْ فَأَهْلُ الْخَمْرِ مَعَ أَهْلِ الْخَمْرِ وَأَهْلُ الزِّنَا مَعَ أَهْلِ الزِّنَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ ومقاتل: وقرناءهم مِنَ الشَّيَاطِينِ كُلُّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانِهِ فِي سِلْسِلَةٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَأَزْوَاجُهُمُ الْمُشْرِكَاتُ. {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات: 22]
(6/792)
 
 
{مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الصافات: 23] فِي الدُّنْيَا، يَعْنِي الْأَوْثَانَ وَالطَّوَاغِيتَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60] {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: دُلُّوهُمْ إِلَى طَرِيقِ النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: قَدِّمُوهُمْ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي السَّابِقَ هَادِيًا.
[24] {وَقِفُوهُمْ} [الصافات: 24] واحبسوهم، يُقَالُ: وَقَفْتُهُ وَقْفًا فَوَقَفَ وُقُوفًا. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا سِيقُوا إِلَى النَّارِ حُبِسُوا عِنْدَ الصِّرَاطِ لِأَنَّ السُّؤَالَ عِنْدَ الصِّرَاطِ، فَقِيلَ: وَقِفُوهُمْ {إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ جَمِيعِ أقوالهم وأفعالهم.
 
[قَوْلُهُ تَعَالَى مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ] . . .
[25] {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 25] أَيْ لَا تَتَنَاصَرُونَ، يُقَالُ لَهُمْ تَوْبِيخًا: مَا لَكَمَ لَا يَنْصُرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، يَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ النَّارِ هَذَا جَوَابٌ لِأَبِي جَهْلٍ حيث قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [الْقَمَرِ: 44]
[26] فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 26] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَاضِعُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مُنْقَادُونَ؟ يُقَالُ اسْتَسْلَمَ لِلشَّيْءِ إِذَا انْقَادَ لَهُ وَخَضَعَ لَهُ، وَالْمَعْنَى: هُمُ الْيَوْمَ أَذِلَّاءُ مُنْقَادُونَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ.
[27] {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الصافات: 27] أي الرؤساء والأتباع {يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27] يتخاصمون.
[28] {قَالُوا} [الصافات: 28] أَيِ الْأَتْبَاعُ لِلرُّؤَسَاءِ، {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصَّافَّاتِ: 28] أَيْ مِنْ قِبَلِ الدِّينِ فَتُضِلُّونَنَا عَنْهُ وَتُرُونَنَا أَنَّ الدِّينَ مَا تُضِلُّونَنَا بِهِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَنِ الصِّرَاطِ الْحَقِّ، وَالْيَمِينُ عِبَارَةٌ عن الدين والحق، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ الرُّؤَسَاءُ يَحْلِفُونَ لَهُمْ أَنَّ مَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ. (تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ) أَيْ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَيْمَانِ الَّتِي كُنْتُمْ تَحْلِفُونَهَا فَوَثِقْنَا بِهَا. وَقِيلَ: عَنِ الْيَمِينِ أَيْ عَنِ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، كَقَوْلِهِ: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الْحَاقَّةِ: 45] وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى القول الأول.
[29] {قَالُوا} [الصافات: 29] يَعْنِي الرُّؤَسَاءَ لِلْأَتْبَاعِ، {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الصافات: 29] لَمْ تَكُونُوا عَلَى الْحَقِّ فَنُضِلَّكُمْ عَنْهُ، أَيْ إِنَّمَا الْكُفْرُ مِنْ قِبَلِكُمْ.
[30] {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [الصافات: 30] مِنْ قُوَّةٍ وَقُدْرَةٍ فَنَقْهَرَكُمْ عَلَى مُتَابَعَتِنَا، {بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} [الصافات: 30] ضالين.
[31] {فَحَقَّ} [الصافات: 31] وجب، {عَلَيْنَا} [الصافات: 31] جميعا، {قَوْلُ رَبِّنَا} [الصافات: 31] يَعْنِي كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] {إِنَّا لَذَائِقُونَ} [الصافات: 31] الْعَذَابَ، أَيْ أَنَّ الضَّالَّ وَالْمُضِلَّ جميعا في النار.
[32] {فَأَغْوَيْنَاكُمْ} [الصافات: 32] فَأَضْلَلْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى وَدَعَوْنَاكُمْ إِلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ، {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} [الصافات: 32] ضالين.
[33] قال الله: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات: 33] الرُّؤَسَاءُ وَالْأَتْبَاعُ.
[34] {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات: 34] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ.
[35] {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35] يَتَكَبَّرُونَ عَنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَيَمْتَنِعُونَ مِنْهَا.
[36] {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 36] يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[37] قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ردا عليهم: {بَلْ جَاءَ} [الصافات: 37] محمد {بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 37] أَيْ أَنَّهُ أَتَى بِمَا أَتَى به الرسل قَبْلَهُ.
[38، 39] {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ - وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الصافات: 38 - 39] فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّرْكِ.
[40] {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 40] الموحدين.
[41] {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 41] يَعْنِي بُكْرَةً وَعَشِيًّا كَمَا قَالَ: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62]
[42] {فَوَاكِهُ} [الصافات: 42] جَمْعُ الْفَاكِهَةِ وَهِيَ الثِّمَارُ كُلُّهَا رَطْبُهَا وَيَابِسُهَا، وَهِيَ كُلُّ طَعَامٍ يُؤْكَلُ لِلتَّلَذُّذِ لَا لِلْقُوتِ، {وَهُمْ مُكْرَمُونَ} [الصافات: 42] بِثَوَابِ اللَّهِ. 43،
[44] {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ - عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الصافات: 43 - 44]
(6/793)
 
 
لَا يَرَى بَعْضُهُمْ قَفَا بَعْضٍ.
[45] {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ} [الصافات: 45] إِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ وَلَا يَكُونُ كَأْسًا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ شَرَابٌ، وَإِلَّا فَهُوَ إِنَاءٌ، {مِنْ مَعِينٍ} [الصافات: 45] خَمْرٍ جَارِيَةٍ فِي الْأَنْهَارِ ظَاهِرَةٍ تراها العيون.
[46] {بَيْضَاءَ} [الصافات: 46] قَالَ الْحَسَنُ: خَمْرُ الْجَنَّةِ أَشَدُّ بياضا من اللبن، {لَذَّةٍ} [الصافات: 46] أي لذيذة، {لِلشَّارِبِينَ} [الصافات: 46]
[47] {لَا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا تَغْتَالُ عُقُولَهُمْ فَتَذْهَبَ بِهَا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِثْمٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَجِعُ الْبَطْنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: صُدَاعٌ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الْغَوْلُ فَسَادٌ يَلْحَقُ فِي خَفَاءٍ، يُقَالُ: اغْتَالَهُ اغْتِيَالًا إِذَا أَفْسَدَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ فِي خُفْيَةٍ، وَخَمْرَةُ الدُّنْيَا يَحْصُلُ مِنْهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْفَسَادِ، مِنْهَا السُّكْرُ وَذَهَابُ الْعَقْلِ وَوَجَعُ الْبَطْنِ وَالصُّدَاعُ وَالْقَيْءُ وَالْبَوْلُ، وَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي خَمْرِ الْجَنَّةِ. {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 47] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يُنْزِفُونَ) بِكَسْرِ الزَّايِ وَافَقَهُمَا عَاصِمٌ فِي الْوَاقِعَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الزَّايِ فِيهِمَا فَمَنْ فَتَحَ الزَّايَ فَمَعْنَاهُ: لَا يَغْلِبُهُمْ عَلَى عُقُولِهِمْ وَلَا يَسْكَرُونَ، يُقَالُ: نَزَفَ الرَّجُلُ فَهُوَ مَنْزُوفٌ وَنَزِيفٌ إِذَا سَكِرَ، وَمَنْ كَسَرَ الزاي فمعناه: لا ينزف شَرَابُهُمْ، يُقَالُ أَنْزَفَ الرَّجُلُ فَهُوَ مَنْزُوفٌ إِذَا فَنِيَتْ خَمْرُهُ.
[48] {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الصافات: 48] حَابِسَاتُ الْأَعْيُنِ غَاضَّاتُ الْجُفُونِ، قَصَرْنَ أَعْيُنَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَنْظُرْنَ إلى غيرهم، {عِينٌ} [الصافات: 48] أَيْ حَسَّانُ الْأَعْيُنِ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَعْيَنُ وَامْرَأَةٌ عَيْنَاءُ وَنِسَاءٌ عِينٌ.
[49] {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ} [الصافات: 49] جمع البيضة، {مَكْنُونٌ} [الصافات: 49] مضمون مَسْتُورٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَكْنُونَ وَالْبَيْضَ جمع لِأَنَّهُ رَدَّهُ إِلَى اللَّفْظِ. قَالَ الْحَسَنُ: شَبَّهَهُنَّ بِبَيْضِ النَّعَامَةِ تُكِنُّهَا بالريش من الريح والغبار حين خروجها، فَلَوْنُهَا أَبْيَضُ فِي صُفْرَةٍ. وَيُقَالُ: هَذَا أَحْسَنُ أَلْوَانِ النِّسَاءِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ (بَيْضَاءَ) مُشْرَبَةً صُفْرَةً، وَالْعَرَبُ تُشَبِّهُهَا بِبَيْضَةِ النَّعَامَةِ.
[50] {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصَّافَّاتِ: 50] يَعْنِي أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا.
[51] {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} [الصافات: 51] يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات: 51] فِي الدُّنْيَا يُنْكِرُ الْبَعْثَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ شَيْطَانًا. وَقَالَ الْآخَرُونَ: كَانَ مِنَ الْإِنْسِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَا أَخَوَيْنِ. وَقَالَ الْبَاقُونَ: كَانَا شَرِيكَيْنِ أَحَدُهُمَا كَافِرٌ اسْمُهُ قَطْرُوسُ وَالْآخَرُ مُؤْمِنٌ اسْمُهُ يَهُوذَا، وَهُمَا اللَّذَانِ قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرَهُمَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} [الكهف: 32]
 
[قوله تعالى يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذَا مِتْنَا] وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ. . .
[52] {يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات: 52] بِالْبَعْثِ.
[53] {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات: 53] مَجْزِيُّونَ وَمُحَاسَبُونَ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ.
(6/794)
 
 
[54] {قَالَ} [الصافات: 54] اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات: 54] إِلَى النَّارِ. وَقِيلَ: يَقُولُ الْمُؤْمِنُ لإخوانه أَهْلِ الْجَنَّةِ: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إِلَى النَّارِ لِنَنْظُرَ كَيْفَ مَنْزِلَةُ أَخِي فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: أَنْتَ أعرف به منا.
[55] {فَاطَّلَعَ} [الصافات: 55] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ كُوًى يَنْظُرُ أَهْلُهَا مِنْهَا إِلَى النَّارِ، فَاطَّلَعَ هَذَا الْمُؤْمِنُ، {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصَّافَّاتِ: 55] فَرَأَى قَرِينَهُ فِي وَسَطِ النَّارِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ وَسَطُ الشَّيْءِ سَوَاءً لاستواء الجوانب منه.
[56] {قَالَ} [الصافات: 56] لَهُ، {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات: 56] وَاللَّهِ لَقَدْ كِدْتَ أَنْ تُهْلِكَنِي، قَالَ مُقَاتِلٌ: وَاللَّهِ لَقَدْ كِدْتَ أَنْ تُغْوِيَنِي، وَمَنْ أَغْوَى إِنْسَانًا فَقَدْ أَهْلَكَهُ.
[57] {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي} [الصافات: 57] رَحْمَتُهُ وَإِنْعَامُهُ عَلَيَّ بِالْإِسْلَامِ، {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات: 57] مَعَكَ فِي النَّارِ. 58،
[59] {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ - إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} [الصافات: 58 - 59] فِي الدُّنْيَا، {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات: 59] قَالَ بَعْضُهُمْ: يَقُولُ هَذَا أَهْلُ الْجَنَّةِ لِلْمَلَائِكَةِ حِينَ يُذْبَحُ الْمَوْتُ: أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ؟ فَتَقُولُ لَهُمُ الملائكة: لا.
[60] فَيَقُولُونَ: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات: 60] وَقِيلَ: إِنَّمَا يَقُولُونَهُ عَلَى جِهَةِ الْحَدِيثِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ وَلَا يُعَذَّبُونَ. وَقِيلَ: يَقُولُهُ الْمُؤْمِنُ لِقَرِينِهِ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ بِمَا كَانَ يُنْكِرُهُ.
[61] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] أَيْ لِمِثْلِ هَذَا الْمَنْزِلِ وَلِمِثْلِ هَذَا النَّعِيمِ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ: (أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) ، إلى (فليعمل العاملون) .
[62] {أَذَلِكَ} [الصافات: 62] أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، {خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات: 62] الَّتِي هِيَ نُزُلُ أَهْلِ النَّارِ. والزقوم: شَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ مُرَّةٍ كَرِيهَةِ الطَّعْمِ، يُكْرَهُ أَهْلُ النَّارِ عَلَى تَنَاوُلِهَا، فَهُمْ يَتَزَقَّمُونَهُ عَلَى أَشَدِّ كَرَاهِيَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَزَقَّمَ الطَّعَامَ إِذَا تَنَاوَلَهُ عَلَى كُرْهٍ وَمَشَقَّةٍ.
[63] {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات: 63] للكافرين، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ فِي النَّارِ شَجَرَةٌ وَالنَّارُ تَحْرِقُ الشجر؟ .
[64] فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 64] قعر النار، وقال الْحَسَنُ: أَصْلُهَا فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ وَأَغْصَانُهَا تَرْتَفِعُ إِلَى دَرَكَاتِهَا.
[65] {طَلْعُهَا} [الصافات: 65] ثَمَرُهَا سُمِّيَ طَلْعًا لِطُلُوعِهِ، {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُمُ الشَّيَاطِينُ بِأَعْيَانِهِمْ شُبِّهَ بِهَا لِقُبْحِهَا، لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا وَصَفُوا شَيْئًا بِغَايَةِ الْقُبْحِ قَالُوا: كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ- وَإِنْ كَانَتِ الشَّيَاطِينُ لَا تُرَى- لِأَنَّ قُبْحَ صُورَتِهَا مُتَصَوَّرٌ فِي النَّفْسِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْقُرَظِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ. أَرَادَ بِالشَّيَاطِينِ الْحَيَّاتِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْحَيَّةَ الْقَبِيحَةَ الْمَنْظَرِ
(6/795)
 
 
شَيْطَانًا. وَقِيلَ. هِيَ شَجَرَةٌ قَبِيحَةٌ مُرَّةٌ مُنْتِنَةٌ تَكُونُ فِي الْبَادِيَةِ تُسَمِّيهَا الْعَرَبُ رُءُوسَ الشَّيَاطِينِ.
[66] {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الصافات: 66] والملء حشو الوعاء بما لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ.
[67] {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا} [الصافات: 67] خلطا ومزاجا، {مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات: 67] مِنْ مَاءٍ حَارٍّ شَدِيدِ الْحَرَارَةِ، يقال: إنهم إذا أكلوا الزقوم شربوا عَلَيْهِ الْحَمِيمَ فَيَشُوبُ الْحَمِيمُ فِي بطونهم الزقوم فيصير شوبا له.
[68] {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ} [الصافات: 68] بَعْدَ شُرْبِ الْحَمِيمِ، {لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات: 68] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُورَدُونَ الْحَمِيمَ لِشُرْبِهِ وهو خارج من الجحيم كما يورد الْإِبِلُ الْمَاءَ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى الْجَحِيمِ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرَّحْمَنِ: 44] وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (ثُمَّ إن منقلبهم لإلى الجحيم) . 69،
[70] {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا} [الصافات: 69] وَجَدُوا، {آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ - فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات: 69 - 70] يُسْرِعُونَ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْمَلُونَ مِثْلَ أَعْمَالِهِمْ.
[71] {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات: 71] مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ. 72،
[73] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ - فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} [الصافات: 72 - 73] الْكَافِرِينَ أَيْ كَانَ عَاقِبَتُهُمُ الْعَذَابَ.
[74] {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 74] الموحدين نجوا من العذاب.
[75] {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} [الصافات: 75] دَعَا رَبَّهُ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [الْقَمَرِ: 10] {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات: 75] نَحْنُ يَعْنِي أَجَبْنَا دُعَاءَهُ وَأَهْلَكْنَا قَوْمَهُ.
[76] {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات: 76] الْغَمِّ الْعَظِيمِ الَّذِي لَحِقَ قَوْمَهُ وهو الغرق.
 
[قوله تَعَالَى وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا] عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. . .
[77] {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصَّافَّاتِ: 77] وَأَرَادَ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مِنْ نَسْلِ نُوحٍ، رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ نُوحٌ مِنَ السَّفِينَةِ مَاتَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَلَدَهُ وَنِسَاءَهُمْ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ وَلَدُ نُوحٍ ثلاث: سَامٌ وَحَامٌ ويَافِثُ، فَسَامٌ أَبُو الْعَرَبِ وَفَارِسَ وَالرُّومِ، وَحَامٌ أَبُو السُّودَانِ، وَيَافِثُ أَبُو التَّرْكِ وَالْخَزَرِ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمَا هُنَالِكَ.
[78] {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} [الصافات: 78] أَيْ أَبْقَيْنَا لَهُ ثَنَاءً حَسَنًا وَذِكْرًا جَمِيلًا فِيمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
[79] {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79] أَيْ سَلَامٌ عَلَيْهِ مِنَّا فِي الْعَالَمِينَ. وَقِيلَ: أَيُّ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخَرِينَ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
[80] {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 80] قَالَ مُقَاتِلٌ: جَزَاهُ اللَّهُ بِإِحْسَانِهِ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ فِي الْعَالَمِينَ. 81،
[82] {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ - ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [الصافات: 81 - 82] يَعْنِي الْكُفَّارَ. 83،
[84] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ} [الصافات: 83] أي من أهل دينه وملته وَسُنَّتِهِ، {لَإِبْرَاهِيمَ - إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 83 - 84] مُخْلَصٍ مِنَ الشِّرْكِ وَالشَّكِّ.
[85] {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} [الصافات: 85] اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ.
[86] {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات: 86] يَعْنِي أَتَأْفِكُونَ إِفْكًا وَهُوَ أَسْوَأُ الْكَذِبِ، وَتَعْبُدُونَ آلِهَةً سِوَى اللَّهِ.
[87] {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 87] إذا لَقَيْتُمُوهُ وَقَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ أَنَّهُ يَصْنَعُ بِكُمْ. 88،
[89] {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ - فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88 - 89] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ قَوْمُهُ يَتَعَاطَوْنَ عِلْمَ النُّجُومِ فَعَامَلَهُمْ مِنْ حَيْثُ كَانُوا لِئَلَّا يُنْكِرُوا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُكَايِدَهُمْ فِي أَصْنَامِهِمْ لِيُلْزِمَهُمُ الْحُجَّةَ فِي أَنَّهَا غَيْرُ مَعْبُودَةٍ، وَكَانَ لَهُمْ مِنَ الْغَدِ عِيدٌ وَمَجْمَعٌ وَكَانُوا يدخلون على أصنامهم ويفرشون لهم الفراش، وَيَصْنَعُونَ بَيْنَ أَيْدِيهِمُ الطَّعَامَ قَبْلَ خروجهم إلى عيدهم، زعموا التبرك عَلَيْهِ فَإِذَا انْصَرَفُوا مِنْ عِيدِهِمْ أَكَلُوهُ، فَقَالُوا لِإِبْرَاهِيمَ: أَلَا
(6/796)
 
 
تَخْرُجُ غَدًا مَعَنَا إِلَى عِيدِنَا، فَنَظَرَ إِلَى النُّجُومِ فَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَطْعُونٌ، وَكَانُوا يَفِرُّونَ مِنَ الطَّاعُونِ فِرَارًا عَظِيمًا. قَالَ الْحَسَنُ: مَرِيضٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَجِعٌ. وَقَالَ الضَّحَاكُ: سَأَسْقَمُ.
[90] {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات: 90] إِلَى عِيدِهِمْ فَدَخَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْأَصْنَامِ فَكَسَرَهَا.
[91] كَمَا قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} [الصافات: 91] وَلَا يُقَالُ رَاغَ حَتَّى يَكُونَ صَاحِبُهُ مُخْفِيًا لِذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ، {فَقَالَ} [الصافات: 91] استهزاء بها. {أَلَا تَأْكُلُونَ} [الصافات: 91] يَعْنِي الطَّعَامَ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ. 92،
[93] {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ - فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 92 - 93] أَيْ كَانَ يَضْرِبُهُمْ بِيَدِهِ الْيُمْنَى لأنها أقوى الْعَمَلِ مِنَ الشِّمَالِ. وَقِيلَ: بِالْيَمِينِ أَيْ بِالْقُوَّةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ القسم أي بالقسم الَّذِي سَبَقَ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الْأَنْبِيَاءِ: 57]
[94] {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ} [الصافات: 94] يعني إلى إبراهيم، {يَزِفُّونَ} [الصافات: 94] يُسْرِعُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أُخْبِرُوا بِصَنِيعِ إِبْرَاهِيمَ بِآلِهَتِهِمْ فَأَسْرَعُوا إِلَيْهِ لِيَأْخُذُوهُ، وقرأ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ (يُزِفُّونَ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقِيلَ بِضَمِّ الْيَاءِ: أَيْ يَحْمِلُونَ دَوَابَّهُمْ عَلَى الْجِدِّ وَالْإِسْرَاعِ.
[95] {قَالَ} [الصافات: 95] لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَى وَجْهِ الْحِجَاجِ، {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] يَعْنِي مَا تَنْحِتُونَ بِأَيْدِيكُمْ.
[96] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] بأيديكم من الأصنام.
[97] {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97] مُعْظَمِ النَّارِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: بَنَوْا لَهُ حَائِطًا مِنَ الْحَجَرِ طُولُهُ فِي السَّمَاءِ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ عِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَمَلَئُوهُ مِنَ الْحَطَبِ وأوقدوا فيه النار فطرحوه فيها.
[98] {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} [الصافات: 98] شَرًّا وَهُوَ أَنْ يَحْرُقُوهُ، {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} [الصافات: 98] أَيْ الْمَقْهُورِينَ حَيْثُ سَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ وَرَدَّ كَيْدَهُمْ.
[99] {وَقَالَ} [الصافات: 99] يَعْنِي إِبْرَاهِيمُ، {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99] أَيْ مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي، وَالْمَعْنَى: أَهْجُرُ دَارَ الْكُفْرِ وَأَذْهَبُ إِلَى مَرْضَاةِ رَبِّي، قَالَهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ، كَمَا قَالَ: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [الْعَنْكَبُوتِ: 26] {سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] إِلَى حَيْثُ أَمَرَنِي بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ وَهُوَ الشَّامُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: فَلَمَّا قَدِمَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ سَأَلَ رَبَّهُ الْوَلَدَ.
[100] فَقَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100] يَعْنِي هَبْ لِي وَلَدًا صَالِحًا مِنَ الصَّالِحِينَ.
[101] {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] قيل بغلام فِي صِغَرِهِ حَلِيمٌ فِي كِبَرِهِ، ففيه بشارة أنه نبي وَأَنَّهُ يَعِيشُ فَيَنْتَهِي فِي السِّنِّ حَتَّى يُوصَفَ بِالْحِلْمِ.
[102] {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي الْمَشْيَ مَعَهُ إِلَى الْجَبَلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا شَبَّ حَتَّى بَلَغَ سَعْيُهُ سَعْيَ إِبْرَاهِيمَ، وَالْمَعْنَى: بَلَغَ أَنْ يَتَصَرَّفَ مَعَهُ وَيُعِينَهُ فِي عَمَلِهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْعَمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ
(6/797)
 
 
قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَابْنِ زَيْدٍ، قَالُوا: هُوَ الْعِبَادَةُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَاخْتَلَفُوا فِي سِنِّهِ، قِيلَ: كَانَ ابْنَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: كَانَ ابْنَ سَبْعِ سنين. قوله تعالى: {قَالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] اختلف الْعُلَمَاءُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِهِ بَعْدَ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ عَلَى أَنَّهُ إِسْحَاقُ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ إِسْحَاقُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمْرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عباس. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ احْتَجَّ مِنَ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ - فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 101 - 102] أمر بذبح من بشر بِهِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ بُشِّرَ بِوَلَدٍ سِوَى إِسْحَاقَ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هُودِ: 71] وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ احْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْبِشَارَةَ بِإِسْحَاقَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ قِصَّةِ الْمَذْبُوحِ فَقَالَ: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصَّافَّاتِ: 112] دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَذْبُوحَ غيره، {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (تُرَى) بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مَاذَا تُشِيرُ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ لِيَعْلَمَ صَبْرَهُ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَزِيمَتَهُ عَلَى طَاعَتِهِ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالرَّاءِ إِلَّا أَبَا عَمْرٍو فَإِنَّهُ يُمِيلُ الرَّاءَ، قَالَ لَهُ ابْنُهُ: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: فَلَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِذَلِكَ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ خُذِ الْحَبْلَ وَالْمُدْيَةَ نَنْطَلِقْ إِلَى هَذَا الشَّعْبِ نَحْتَطِبُ، فَلَمَّا خَلَا إِبْرَاهِيمُ بِابْنِهِ فِي شِعْبِ ثَبِيرٍ أَخْبَرَهُ بِمَا أُمِرَ، {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]
 
[قوله تَعَالَى فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ] أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا. . .
[103] {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات: 103] انْقَادَا وَخَضَعَا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ قَتَادَةُ: أَسْلَمَ إِبْرَاهِيمُ ابْنَهُ وَأَسْلَمَ الِابْنُ نَفْسَهُ، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] أَيْ صَرَعَهُ عَلَى الْأَرْضِ. قَالَ ابن عباس: أضجعه عَلَى الْأَرْضِ وَالْجَبْهَةُ بَيْنَ الْجَبِينَيْنِ.
[104، 105] {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ - قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104 - 105] تَمَّ الْكَلَامُ هَاهُنَا ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 105] والمعنى: إنا كما عفونا عن إبراهيم عند ذَبْحِ وَلَدِهِ نَجْزِي مَنْ أَحْسَنَ فِي طَاعَتِنَا، قَالَ مُقَاتِلٌ: جَزَاهُ اللَّهُ بِإِحْسَانِهِ فِي طَاعَتِهِ الْعَفْوَ عَنْ ذَبْحِ ابْنِهِ.
[106] {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106] الاختبار الظَّاهِرُ حَيْثُ اخْتَبَرَهُ بِذَبْحِ ابْنِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْبَلَاءُ هَاهُنَا النِّعْمَةُ، وَهِيَ أَنْ فُدِيَ ابْنُهُ بِالْكَبْشِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا وَكَانَ قَدْ رَأَى الذَّبْحَ وَلَمْ يَذْبَحْ؟ قِيلَ: جَعَلَهُ مُصَدِّقًا لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا أَمْكَنَهُ، وَالْمَطْلُوبُ إِسْلَامُهُمَا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وقد فعلا.
[107] قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] فَنَظَرَ إِبْرَاهِيمُ فَإِذَا هُوَ بِجِبْرِيلَ وَمَعَهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ أَقْرَنُ، فَقَالَ: هَذَا فِدَاءٌ لِابْنِكَ فَاذْبَحْهُ دُونَهُ، فَكَبَّرَ جِبْرِيلُ
(6/798)
 
 
وكبر الكبش وكبر إبراهيم وَكَبَّرَ ابْنُهُ، فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ الْكَبْشَ فَأَتَى بِهِ الْمَنْحَرَ مِنْ مِنًى فذبحه، قَالَ مُجَاهِدٌ: سَمَّاهُ عَظِيمًا لِأَنَّهُ مُتَقَبَّلٌ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: عَظِيمٌ فِي الشَّخْصِ. وَقِيلَ: في الثواب.
[108] {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} [الصافات: 108] أَيْ تَرَكَنَا لَهُ فِي الْآخَرِينَ ثَنَاءً حَسَنًا.
[109- 112] {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ - كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ - وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 109 - 112] فَمَنْ جَعَلَ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: بَشَّرَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا جَزَاءً لِطَاعَتِهِ، وَمَنْ جَعَلَ الذَّبِيحَ إِسْحَاقَ قَالَ: بُشِّرَ إِبْرَاهِيمُ بِنُبُوَّةِ إِسْحَاقَ. رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: بُشِّرَ بِهِ مَرَّتَيْنِ حِينَ وُلِدَ وَحِينَ نُبِّئَ.
[113] {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ} [الصافات: 113] يَعْنِي عَلَى إِبْرَاهِيمَ فِي أَوْلَادِهِ، {وَعَلَى إِسْحَاقَ} [الصافات: 113] يكون أَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَسْلِهِ، {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} [الصافات: 113] أي مؤمن، {وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [الصافات: 113] أي كافر، {مُبِينٌ} [الصافات: 113] أي ظاهر الكفر.
[114] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات: 114] أنعمنا عليهم بالنبوة.
[115] {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا} [الصافات: 115] بَنِي إِسْرَائِيلَ، {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات: 115] أَيِ الْغَمِّ الْعَظِيمِ وَهُوَ الَّذِي كَانُوا فِيهِ مِنِ اسْتِعْبَادِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُمْ. وَقِيلَ: مِنَ الْغَرَقِ.
[116] {وَنَصَرْنَاهُمْ} [الصافات: 116] يَعْنِي مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمَهُمَا، {فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الصافات: 116] عَلَى الْقِبْطِ.
[117] {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} [الصافات: 117] أَيْ الْمُسْتَنِيرَ وَهُوَ التَّوْرَاةُ.
[118- 122] {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ - سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ - إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 118 - 122]
[123] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 123] رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِلْيَاسُ هُوَ إِدْرِيسُ. وَفِي مُصْحَفِهِ: وَإِنَّ إِدْرِيسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: هُوَ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ ابْنُ عَمِّ الْيَسَعَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ إِلْيَاسُ بْنُ بِشْرِ بْنِ فِنْحَاصَ بْنِ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ.
[124 , 125] {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ - أَتَدْعُونَ} [الصافات: 124 - 125] أتعبدون، {بَعْلًا} [الصافات: 125] وَهُوَ اسْمُ صَنَمٍ لَهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ مَدِينَتُهُمْ بَعْلَبَكَّ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: الْبَعْلُ الرَّبُّ بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ. {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات: 125] فلا تعبدونه.
[126] {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات: 126] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ (اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ) بِنَصْبِ الْهَاءِ وَالْبَاءَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ برفعهن على الاستئناف.
 
[قوله تعالى فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبَادَ] اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. . .
[127] {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 127] فِي النَّارِ.
[128] {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 128] مِنْ قَوْمِهِ فَإِنَّهُمْ نَجَوْا مِنَ الْعَذَابِ.
[129، 130] {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ - سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 129 - 130] قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ (آلِ يا سين) بِفَ