مختصر تفسير البغوي المسمى بمعالم التنزيل 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: مختصر تفسير البغوي
المؤلف: عبد الله بن أحمد بن علي الزيد
 
 [سورة الفاتحة]
[أسماء سورة الفاتحة]
(1) سورة الفاتحة وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ مَعْرُوفَةٌ: فاتحة الكتاب، وَأُمُّ الْقُرْآنِ، وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَدَنِيَّةٌ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً بِمَكَّةَ وَمَرَّةً بِالْمَدِينَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى منَّ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الْحِجْرِ: 87] وَالْمُرَادُ مِنْهَا: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَسُورَةُ الْحِجْرِ مَكِّيَّةٌ، فَلَمْ يَكُنْ يَمُنُّ عَلَيْهِ بِهَا قَبْلَ نُزُولِهَا.
 
[قوله تعالى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]
[1] قوله: {بِسْمِ اللَّهِ} [الفاتحة: 1] الباء زائدة يخفض مَا بَعْدَهَا، مِثْلَ مِنْ وَعَنْ، والمتعلق به مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: أَبْدَأُ بِسْمِ اللَّهِ أَوْ قُلْ بِسْمِ اللَّهِ، وَأُسْقِطَتِ الْأَلِفُ مِنَ الاسم طلبًا للخفة لكثرة استعمالها، فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى التَّسْمِيَةِ مِنَ اللَّهِ لِنَفْسِهِ؟ قِيلَ: هُوَ تعليم للعباد كيف يستفتحون القراءة.
قوله تعالى: {اللَّهِ} [الفاتحة: 1] قَالَ الْخَلِيلُ وَجَمَاعَةٌ: هُوَ اسْمُ علم خاص بالله عَزَّ وَجَلَّ لَا اشْتِقَاقَ لَهُ كَأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ لِلْعِبَادِ، مِثْلَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ مُشْتَقٌّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِهِ فَقِيلَ: مِنْ أَلَهَ إِلَاهَةً أَيْ: عَبَدَ عِبَادَةً، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما " ويذرك وإلاهتك " أي: عبادتك. معناه أنه المستحق لِلْعِبَادَةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ إِلَهٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 91] قَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَلَهْتُ إِلَى فُلَانٍ أَيْ سَكَنْتُ إِلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَهْتُ إِلَيْهَا وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ
فَكَأَنَّ الْخَلْقَ يَسْكُنُونَ إِلَيْهِ وَيَطْمَئِنُّونَ بِذِكْرِهِ، يقال: أَلَهْتُ إِلَيْهِ أَيْ: فَزِعْتُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: أَصْلُ الْإِلَهِ وِلَاهٌ، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ بِالْهَمْزَةِ مِثْلَ وِشَاحٍ وَإِشَاحٍ، اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْوَلَهِ لِأَنَّ الْعِبَادَ يَوْلَهُونَ إِلَيْهِ، أَيْ يَفْزَعُونَ إِلَيْهِ في الشدائد ويلجؤون إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ كَمَا يَوْلَهُ كُلُّ طِفْلٍ إِلَى أُمِّهِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْوَلَهِ وَهُوَ ذَهَابُ الْعَقْلِ لِفَقْدِ مَنْ يَعِزُّ عَلَيْكَ.
قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُمَا اسْمَانِ رَقِيقَانِ أَحَدُهُمَا أرق من الآخر، وَاخْتَلَفُوا فِي آيَةِ التَّسْمِيَةِ فَذَهَبَ قُرَّاءُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَفُقَهَاءُ الْكُوفَةِ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ وَالِافْتِتَاحُ بِهَا لِلتَّيَمُّنِ وَالتَّبَرُّكِ، وَذَهَبَ قُرَّاءُ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ وَأَكْثَرُ فقهاء الحجاز إلى أنها ليست مِنَ الْفَاتِحَةِ وَلَيْسَتْ مِنْ سَائِرِ السور، فإنما كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُلِّ سورة إلا سورة التوبة، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيات والآية الْأُولَى عِنْدَ مَنْ يَعُدُّهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] وَابْتِدَاءُ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ {صِرَاطَ الَّذِينَ} [الفاتحة: 7] ومن لا يَعُدَّهَا مِنَ الْفَاتِحَةِ قَالَ: ابْتِدَاؤُهَا {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] وَابْتِدَاءُ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]
 
[قوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرحيم]
[2، 3] قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] لفظه خبر كأنه يخبر عن الْمُسْتَحِقَّ لِلْحَمْدِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِيهِ تَعْلِيمُ الْخَلْقِ تَقْدِيرَهُ: قُولُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالْحَمْدُ يَكُونُ بِمَعْنَى الشُّكْرِ عَلَى النِّعْمَةِ وَيَكُونُ بِمَعْنَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ، يُقَالُ: حَمِدْتُ فُلَانًا عَلَى مَا أَسْدَى إِلَيَّ من نعمة، وَحَمِدْتُهُ عَلَى عِلْمِهِ وَشَجَاعَتِهِ، وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى النِّعْمَةِ، والحمد أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ إِذْ لَا يُقَالُ: شَكَرْتُ فُلَانًا عَلَى عِلْمِهِ، فَكُلُّ حَامِدٍ شَاكِرٌ وَلَيْسَ كُلُّ شاكر حامدا.
قوله: {لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] اللَّامُ فِيهِ لِلِاسْتِحْقَاقِ كَمَا يُقَالُ: الدَّارُ لِزَيْدٍ. قَوْلُهُ: {رَبِّ الْعَالَمِينَ - الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 2 - 3] فَالرَّبُّ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَالِكِ كَمَا يُقَالُ لِمَالِكِ الدَّارِ: رَبُّ الدَّارِ، وَيُقَالُ: رَبُّ الشَّيْءِ إِذَا مَلَكَهُ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى التَّرْبِيَةِ وَالْإِصْلَاحِ يُقَالُ: رَبَّ
(1/13)
 
 
فُلَانٌ الضَّيْعَةَ يَرُبُّهَا إِذَا أَتَمَّهَا وأصلحها، فَاللَّهُ تَعَالَى مَالِكُ الْعَالَمِينَ وَمُرَبِّيهِمْ، وَلَا يُقَالُ لِلْمَخْلُوقِ: هُوَ الرَّبُّ مُعَرَّفًا، إِنَّمَا يُقَالُ: ربِّ كَذَا مُضَافًا، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلتَّعْمِيمِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْكُلَّ.
وَالْعَالَمِينَ: جمع عالم والعالم جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَالَمِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، لأنهم مكلفون بِالْخِطَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 1] وَقَالَ قَتَادَةُ ومجاهد والحسن: جميع المخلوقين، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ - قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الشعراء: 23 - 24]
 
[قوله تعالى مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]
[4] قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ {مَالِكِ} [الفاتحة: 4] وَقَرَأَ الْآخَرُونَ " مَلِكِ " قَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ مِثْلَ فَرِهِينَ وَفَارِهِينَ وَحَذِرِينَ وَحَاذِرِينَ، وَمَعْنَاهُمَا الرَّبُّ، يُقَالُ: رَبُّ الدَّارِ وَمَالِكُهَا، وَقِيلَ: الْمَالِكُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى اخْتِرَاعِ الْأَعْيَانِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ قَاضِي يَوْمِ الْحِسَابِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الدِّينُ الْجَزَاءُ، وَيَقَعُ عَلَى الْجَزَاءِ فِي الْخَيْرِ والشر جميعًا، كما يُقَالُ: كَمَا تَدِينُ تُدَانُ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: مَلِكُ يَوْمٍ لَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا الدِّينُ، وَقَالَ يَمَانُ بْنُ رَبَابٍ: الدِّينُ الْقَهْرُ، يُقَالُ: دِنْتُهُ فَدَانَ، أَيْ: قَهَرَتْهُ فَذَلَّ، وَقِيلَ: الدِّينُ الطَّاعَةُ، أَيْ: يَوْمَ الطَّاعَةِ، وَإِنَّمَا خَصَّ يَوْمَ الدِّينِ بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهِ مَالِكًا لِلْأَيَّامِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ يَوْمَئِذٍ زَائِلَةٌ فَلَا مُلْكَ وَلَا أَمْرَ إِلَّا لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 26]
 
[قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين]
[5] قوله: {إِيَّاكَ} [الفاتحة: 5] إِيَّا كَلِمَةُ ضَمِيرٍ خُصَّتْ بِالْإِضَافَةِ إلى المضمر.
قوله: {نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] أَيْ: نُوَحِّدُكَ وَنُطِيعُكَ خَاضِعِينَ، وَالْعِبَادَةُ الطَّاعَةُ مَعَ التَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ، وَسُمِّيَ الْعَبْدُ عَبْدًا لِذِلَّتِهِ وَانْقِيَادِهِ يُقَالُ: طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ أَيْ: مُذَلَّلٌ، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] نَطْلُبُ مِنْكَ الْمَعُونَةَ عَلَى عِبَادَتِكَ وعلى جميع أمورنا.
 
[قوله تعالى اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]
[6] قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] اهْدِنَا: أَرْشِدْنَا، وَقَالَ عَلِيٌّ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: ثَبِّتْنَا، كَمَا يُقَالُ لِلْقَائِمِ: قُمْ حَتَّى أَعُودَ إِلَيْكَ، أَيْ: دُمْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَهَذَا الدُّعَاءُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ كَوْنِهِمْ عَلَى الْهِدَايَةِ، بِمَعْنَى التَّثْبِيتِ وَبِمَعْنَى طَلَبِ مَزِيدِ الْهِدَايَةِ، لِأَنَّ الْأَلْطَافَ وَالْهِدَايَاتِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَتَنَاهَى عَلَى مَذْهَبِ أهل السنة.
{الصِّرَاطَ} [الفاتحة: 6] وصراط قرئ بالسين وَهُوَ الْأَصْلُ، سُمِّيَ سِرَاطًا لِأَنَّهُ يَسْرُطُ السَّابِلَةَ، وَيُقْرَأُ بِالزَّايِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِإِشْمَامِ الزَّايِ وَكُلُّهَا لُغَاتٌ صَحِيحَةٌ، وَالِاخْتِيَارُ الصَّادُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْقُرَّاءِ لِمُوَافَقَةِ الْمُصْحَفِ.
وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: قال ابن عباس وجابر: هُوَ
(1/14)
 
 
الْإِسْلَامُ وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ، وَقَالَ ابن مسعود: هُوَ الْقُرْآنُ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: " الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ كِتَابُ اللَّهِ " (1) . وقال سعيد بن جبير: طَرِيقُ الْجَنَّةِ، وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: طَرِيقُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ: طَرِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ: رَسُولِ اللَّهِ وَآلِهِ وَصَاحِبَاهُ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الطَّرِيقُ الواضح.
 
[قوله تعالى صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ] عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
[7] {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] أَيْ: مَنَنْتَ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ، قَالَ عِكْرِمَةُ: مَنَنْتَ عَلَيْهِمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَقِيلَ: هُمْ كُلُّ مَنْ ثَبَّتَهُ اللَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ من النبيين والمؤمنين. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ قَوْمُ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ قَبْلَ أن يغيروا دينهم، وقال عبد الرحمن: هم النبي وَمَنْ مَعَهُ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هم الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، وقال عبد الرحمن بن زيدان: رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ وَأَهْلُ بيته.
قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] يعني: غير صراط الذين غضبت عليهم.
{وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] أَيْ: وَغَيْرِ الضَّالِّينَ عَنِ الْهُدَى، وَأَصْلُ الضَّلَالِ الْهَلَاكُ وَالْغَيْبُوبَةُ، يُقَالُ: ضَلَّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ إِذَا هلك وغاب، و " غير " ههنا بِمَعْنَى لَا، وَلَا بِمَعْنَى غَيْرِ، وقيل: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] هُمُ الْيَهُودُ وَالضَّالُّونَ هُمُ النَّصَارَى، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى الْيَهُودِ بِالْغَضَبِ فَقَالَ: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [الْمَائِدَةِ: 60] وَحَكَمَ عَلَى النَّصَارَى بِالضَّلَالِ فَقَالَ: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} [الْمَائِدَةِ: 77] وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بِالْبِدْعَةِ وَلَا الضَّالِّينَ عَنِ السُّنَّةِ.
وَالسُّنَّةُ لِلْقَارِئِ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ " آمِين "، مفصولاً عن الفاتحة بسكتة، وهو مخفف ويجوز مَمْدُودًا وَمَقْصُورًا، وَمَعْنَاهُ اللَّهُمَّ اسْمَعْ واستجب.
 
[فصل في فضل فاتحة الكتاب]
فصل في فضل فاتحة الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا وَإِنَّهَا لَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي الَّتِي آتَانِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» ، هَذَا حديث حسن صحيح (2) .
وعن ابن عباس قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ وعنده جِبْرِيلُ إِذْ سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فوقه، فرفع جبريل بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ فُتِحَ مِنَ السَّمَاءِ مَا فُتِحَ قَطُّ، قَالَ: فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ، فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لن تَقْرَأَ حَرْفًا مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ» ، صحيح (3) .
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ غير تمام» .
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ يَقُولُ: " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ: " اقرؤوا يَقُولُ الْعَبْدُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] يقول الله: حمدني عبدي، يقول العبد: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] يَقُولُ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، يَقُولُ الْعَبْدُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] يَقُولُ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، يَقُولُ العبد:
_________
(1) أخرجه الطبري في التفسير 1 / 172 وضعفه أحمد شاكر في تعليقه عليه.
(2) رواه الترمذي في فضائل القرآن باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب 8 / 178 - 180، وأحمد في المسند 2 / 412 - 413، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. انظر الترغيب والترهيب للمنذري 2 / 367، وأخرجه المصنف في شرح السنة 4 / 446، 447.
(3) رواه مسلم في صلاة المسافرين برقم (806) 1 / 554، والنسائي في افتتاح الصلاة 2 / 138 والمصنف في شرح السنة 4 / 466.
(1/15)
 
 
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] يقول اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: هَذِهِ الْآيَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، يَقُولُ الْعَبْدُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7] يَقُولُ اللَّهُ: (فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي ما سأل) » ، صحيح (1) .
 
[سورة البقرة]
[قوله تعالى الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ]
(2) سورة البقرة [1] {الم} [البقرة: 1] قَالَ الشَّعْبِيُّ وَجَمَاعَةٌ: الم وَسَائِرُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَهِيَ سِرُّ الْقُرْآنِ، فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِظَاهِرِهَا وَنَكِلُ الْعِلْمَ فِيهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفَائِدَةُ ذِكْرِهَا طَلَبُ الْإِيمَانِ بِهَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: فِي كُلِّ كِتَابٍ سر وسر الله فِي الْقُرْآنِ أَوَائِلُ السُّوَرِ، وَقَالَ علي: إن لِكُلِّ كِتَابٍ صَفْوَةٌ وَصَفْوَةُ هَذَا الكتاب حروف التهجي.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هِيَ مَعْلُومَةُ الْمَعَانِي، فَقِيلَ: كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ كَمَا قَالَ ابن عباس في {كهيعص} [مريم: 1] الْكَافُ مِنْ كَافِي وَالْهَاءُ مِنْ هَادِي وَالْيَاءُ مِنْ حَكِيمٍ وَالْعَيْنُ مِنْ عَلِيمٍ وَالصَّادُ مِنْ صَادِقٍ، وقيل في {المص} [الأعراف: 1] أَنَا اللَّهُ الْمَلِكُ الصَّادِقُ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ فِي الم: الْأَلِفُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ اللَّهِ وَاللَّامُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ اللَّطِيفِ وَالْمِيمُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ الْمَجِيدِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الْأَلِفُ آلَاءُ اللَّهِ وَاللَّامُ لُطْفُهُ وَالْمِيمُ مُلْكُهُ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه قال: معنى {الم} [البقرة: 1] أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ، وَمَعْنَى المص أنا الله أعلم وأفصل، ومعنى {الر} [يونس: 1] أَنَا اللَّهُ أَرَى، وَمَعْنَى {المر} [الرعد: 1] أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَرَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا حَسَنٌ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَذْكُرُ حَرْفًا مِنْ كَلِمَةٍ تُرِيدُهَا كقولهم:
قلت لها قفي فقالت لي قَافْ (2)
أَيْ: وَقَفْتُ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: هِيَ أَسْمَاءُ الله تعالى مقطعة لو أحسن النَّاسُ تَأْلِيفَهَا لَعَلِمُوا اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: {المر} [الرعد: 1] و: {حم} [غافر: 1] و: {ن} [القلم: 1] فيكون الرَّحْمَنَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُهَا إِلَّا أَنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى وَصْلِهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ الْحُرُوفُ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ أَسْمَاءُ السُّوَرِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْقَائِلَ إذا قال قرأت {المص} [الأعراف: 1] عَرَفَ السَّامِعُ أَنَّهُ قَرَأَ السُّورَةَ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِالمص، وَرُوِيَ عَنِ ابن عباس: أَنَّهَا أَقْسَامٌ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ لِشَرَفِهَا وفضلها لأنها مباني كتبه المنزلة ومبادئ أسمائه الحسنى.
[2] قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] أَيْ: هَذَا الْكِتَابُ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وأصل الكتاب الضم والجمع، وَسُمِّيَ الْكِتَابُ كِتَابًا لِأَنَّهُ جَمْعُ حرف إلى أحرف.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] أَيْ: لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ من عند الله وَأَنَّهُ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ، وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ أَيْ: لَا ترتابوا فيه.
قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] أَيْ: هُوَ هُدًى، أَيْ: رُشْدٌ وَبَيَانٌ لِأَهْلِ التَّقْوَى، وَقِيلَ: هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: هَادِيًا، تقديره، لا ريب فيه فِي هِدَايَتِهِ لِلْمُتَّقِينَ، وَالْهُدَى مَا يَهْتَدِي بِهِ الْإِنْسَانُ. لِلْمُتَّقِينَ، أَيْ: للمؤمنين، قال ابن عباس: الْمُتَّقِي مَنْ يَتَّقِي الشِّرْكَ وَالْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الِاتِّقَاءِ، وأصله الحجز بين شيئين، وَمِنْهُ يُقَالُ: اتَّقَى بِتُرْسِهِ أَيْ: جَعَلَهُ حَاجِزًا بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ ما يقصده. فَكَأَنَّ الْمُتَّقِي يَجْعَلُ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ وَالِاجْتِنَابَ عَمَّا نَهَاهُ حَاجِزًا بينه وبين العذاب وَتَخْصِيصُ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفٌ لَهُمْ أو لأنهم هم المنتفعون بِالْهُدَى.
[3] : قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 3] موضع (الذين)
_________
(1) رواه مسلم في الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة رقم (395) 1 / 296، والمصنف في شرح السنة 3 / 47.
(2) هذا الرجز للوليد بن عقبة انظر تفسير الطبري 1 / 212.
(1/16)
 
 
خَفْضٌ؛ نَعْتًا لِلْمُتَّقِينَ، يُؤْمِنُونَ يُصَدِّقُونَ، وَحَقِيقَةُ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يُوسُفَ: 17] أَيْ: بِمُصَدِّقٍ لَنَا، وَهُوَ فِي الشَّرِيعَةِ: الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلُ بِالْأَرْكَانِ، فَسُمِّيَ الْإِقْرَارُ وَالْعَمَلُ إِيمَانًا لِوَجْهٍ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ لِأَنَّهُ مِنْ شَرَائِعِهِ، وَالْإِسْلَامُ هُوَ الْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ فَكُلُّ إِيمَانٍ إِسْلَامٌ وَلَيْسَ كُلُّ إِسْلَامٍ إِيمَانًا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ تَصْدِيقٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ مُسْتَسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ غَيْرَ مُصَدِّقٍ في الباطن ويكون مُصَدِّقًا فِي الْبَاطِنِ غَيْرَ مُنْقَادٍ في الظاهر، والإيمان مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَمَانِ فَسُمِّيَ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا لِأَنَّهُ يُؤَمِّنُ نَفْسَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُؤْمِنٌ لِأَنَّهُ يُؤَمِّنُ الْعِبَادَ مِنْ عَذَابِهِ.
{بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] ما كان مغيبًا من الْعُيُونِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْغَيْبُ ههنا كُلُّ مَا أُمِرْتَ بِالْإِيمَانِ بِهِ فيما غاب عن بصرك من الْمَلَائِكَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالصِّرَاطِ والميزان، وقيل: الغيب ههنا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ وقال الحسن: الآخرة، وقال ابن جريج: الوحي.
قوله: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [البقرة: 3] أَيْ: يُدِيمُونَهَا وَيُحَافِظُونَ عَلَيْهَا فِي مَوَاقِيتِهَا بِحُدُودِهَا وَأَرْكَانِهَا وَهَيْئَاتِهَا، يُقَالُ: قَامَ بِالْأَمْرِ وَأَقَامَ الْأَمْرَ إِذَا أتى به معطيًا حقوقه، أو المراد بِهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، ذُكِرَ بِلَفْظِ الواحد. وَالصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التَّوْبَةِ: 103] أَيِ: ادْعُ لَهُمْ، وَفِي الشَّرِيعَةِ اسْمٌ لِأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَقُعُودٍ وَدُعَاءٍ وَثَنَاءٍ.
قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} [البقرة: 3] أَيْ: أَعْطَيْنَاهُمْ، وَالرِّزْقُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ حَتَّى الْوَلَدِ وَالْعَبْدِ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: الْحَظُّ والنصيب.
{يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] يَتَصَدَّقُونَ، قَالَ قَتَادَةُ: يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَأَصْلُ الْإِنْفَاقِ: الإخراج عن اليد والملك، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مشركي العرب.
[4] قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4] يَعْنِي: الْقُرْآنَ. {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 4] من التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَسَائِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أهل الكتب. قوله: {وَبِالْآخِرَةِ} [البقرة: 4] أي: بالدار الآخرة، سميت الدنيا: دنيا لدنوها من الآخرة، وسميت الآخرة: آخرة لتأخرها وكونها بعد الدنيا {هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] أي: يستيقنون أنها كائنة، مِنَ الْإِيقَانِ وَهُوَ الْعِلْمُ، وَقِيلَ: الْإِيقَانُ وَالْيَقِينُ عِلْمٌ عَنِ اسْتِدْلَالٍ، وَلِذَلِكَ لَا يُسَمَّى اللَّهُ مُوقِنًا وَلَا عِلْمُهُ يَقِينًا إِذْ لَيْسَ عِلْمُهُ عن استدلال.
[5] قوله: {أُولَئِكَ} [البقرة: 5] أي: أهل هذه الصفة {عَلَى هُدًى} [البقرة: 5] أَيْ: رُشْدٍ وَبَيَانٍ وَبَصِيرَةٍ. {مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] النَّاجُونَ وَالْفَائِزُونَ فَازُوا
(1/17)
 
 
بِالْجَنَّةِ وَنَجَوْا مِنَ النَّارِ، وَيَكُونُ الْفَلَاحُ بِمَعْنَى الْبَقَاءِ، أَيْ بَاقُونَ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَأَصْلُ الْفَلَاحِ: القطع والشق، ومنه سمي الزارع: فلاحًا لأنه يشق الأرض، فهم المقطوع لَهُمْ بِالْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
 
[قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ] أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
[6] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 6] يَعْنِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْيَهُودَ، وَالْكُفْرُ هُوَ الْجُحُودُ، وأصله: من السَّتْرُ وَمِنْهُ سُمِّيَ اللَّيْلُ كَافِرًا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْأَشْيَاءَ بِظُلْمَتِهِ، وَسُمِّي الزارع كَافِرًا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْحَبَّ بِالتُّرَابِ، فالكافر يَسْتُرُ الْحَقَّ بِجُحُودِهِ، وَالْكُفْرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ: كُفْرُ إِنْكَارٍ، وَكُفْرُ جَحُودٍ، وَكُفْرُ عِنَادٍ، وَكُفْرُ نِفَاقٍ، فكفر الإنكار هو أَنْ لَا يَعْرِفَ اللَّهَ أَصْلًا ولا يعترف به، وكفر بِهِ، وَكُفْرُ الْجَحُودِ هُوَ أَنْ يعرف الله بقلبه ولا يعترف بِلِسَانِهِ كَكُفْرِ إِبْلِيسَ وَكُفْرِ الْيَهُودِ، وَكُفْرُ الْعِنَادِ هُوَ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ وَيَعْتَرِفَ بِلِسَانِهِ وَلَا يَدِينُ بِهِ كَكُفْرِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا كُفْرُ النِّفَاقِ فَهُوَ أَنَّ يُقِرَّ بِاللِّسَانِ وَلَا يَعْتَقِدَ بِالْقَلْبِ.
وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ سَوَاءٌ فِي أَنَّ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى بِوَاحِدٍ مِنْهَا لَا يُغْفَرُ لَهُ.
قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 6] متساو لديهم {أَأَنْذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] خَوَّفْتَهُمْ وَحَذَّرْتَهُمْ، وَالْإِنْذَارُ: إِعْلَامٌ مَعَ تخويف وتحذير، فكل مُنْذِرٍ مُعَلِّمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُعَلِّمٍ منذرًا. {أَمْ} [البقرة: 6] حَرْفُ عَطْفٍ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، {لَمْ} [البقرة: 6] حرف جزم لا يلي إِلَّا الْفِعْلَ، لِأَنَّ الْجَزْمَ يَخْتَصُّ بالأفعال. {تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي أَقْوَامٍ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الشَّقَاوَةِ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ تَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ فَقَالَ:
[7] {خَتَمَ اللَّهُ} [البقرة: 7] أي: طبع الله {عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] فَلَا تَعِي خَيْرًا وَلَا تَفْهَمُهُ، وَحَقِيقَةُ الْخَتْمِ: الِاسْتِيثَاقُ مِنَ الشَّيْءِ كَيْلَا يَدْخُلَهُ مَا خَرَجَ مِنْهُ وَلَا يَخْرُجَ عَنْهُ مَا فِيهِ، وَمِنْهُ الْخَتْمُ عَلَى الْبَابِ، قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: أَيْ حَكَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالْكُفْرِ لِمَا سَبَقَ مِنْ علمه الأول فِيهِمْ، وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ: جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ عَلَامَةً تَعْرِفُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِهَا، {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] أَيْ: عَلَى مَوْضِعِ سَمْعِهِمْ فَلَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَأَرَادَ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ كَمَا قَالَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَإِنَّمَا وَحَّدَهُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وَالْمَصْدَرُ لَا يُثَنَّى وَلَا يجمع. {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، غِشَاوَةٌ أَيْ: غطاء فلا يرون الحق.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7] أَيْ: فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ الدَّائِمُ فِي الْعُقْبَى، وَالْعَذَابُ: كُلُّ مَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ، قَالَ الْخَلِيلُ: الْعَذَابُ مَا يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ عَنْ مُرَادِهِ، وَمِنْهُ الْمَاءُ الْعَذْبُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَطَشَ.
[8] قَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8] نزلت في المنافقين وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، وَالنَّاسُ:
(1/18)
 
 
جمع إنسان، وسمي بِهِ لِأَنَّهُ عُهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115] وَقِيلَ: لِظُهُورِهِ مِنْ قولهم أَيْ أَبْصَرْتُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُسْتَأْنَسُ به. {وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] أَيْ: بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]
[9] {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة: 9] أي: يخالفون الله، وأصل الخداع فِي اللُّغَةِ الْإِخْفَاءُ، وَمِنْهُ الْمَخْدَعُ لِلْبَيْتِ الَّذِي يُخْفَى فِيهِ الْمَتَاعُ، فَالْمُخَادِعُ يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ. وقيل: أصل الخداع: الْفَسَادُ، مَعْنَاهُ: يُفْسِدُونَ مَا أَظْهَرُوا مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا أَضْمَرُوا مِنَ الكفر {وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9] أَيْ وَيُخَادِعُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ إِذَا رَأَوْهُمْ آمَنَّا وَهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ. {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] لِأَنَّ وَبَالَ خِدَاعِهِمْ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ لأن الله يُطْلِعُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ عَلَى نِفَاقِهِمْ فَيُفْتَضَحُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَسْتَوْجِبُونَ الْعِقَابَ فِي الْعُقْبَى، {وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] أَيْ: لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يَخْدَعُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَنَّ وَبَالَ خِدَاعِهِمْ يَعُودُ عليهم.
[10] {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] شَكٌّ وَنِفَاقٌ، وَأَصْلُ الْمَرَضِ الضَّعْفُ، سمي الشك في الدنيا مَرَضًا لِأَنَّهُ يُضْعِفُ الدِّينَ كَالْمَرَضِ يُضْعِفُ الْبَدَنَ، {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10] لِأَنَّ الْآيَاتِ كَانَتْ تَنْزِلُ تَتْرَى آيَةً بَعْدَ آيَةٍ، كُلَّمَا كَفَرُوا بآية ازدادوا كفرًا ونفاقًا {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 10] مُؤْلِمٌ يَخْلُصُ وَجَعُهُ إِلَى قُلُوبِهِمْ، {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10] مَا لِلْمَصْدَرِ، أَيْ: بِتَكْذِيبِهِمُ اللَّهَ ورسوله في السر.
 
[قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا] إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
[11] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 11] يَعْنِي: لِلْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: لِلْيَهُودِ، أَيْ: قَالَ لَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ: {لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 11] بِالْكُفْرِ وَتَعْوِيقِ النَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَكْفُرُوا، وَالْكُفْرُ أَشَدُّ فَسَادًا فِي الدِّينِ، {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] يقول هَذَا الْقَوْلَ كَذِبًا كَقَوْلِهِمْ آمَنَّا وهم كاذبون.
[12] {أَلَا} [البقرة: 12] كَلِمَةُ تَنْبِيهٍ يُنَبَّهُ بِهَا الْمُخَاطَبُ، {إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12] أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ، وَالنَّاسَ بِالتَّعْوِيقِ عَنِ الإيمان، {وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] أَيْ: لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُفْسِدُونَ، لِأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِبِطَانِ الْكُفْرِ صَلَاحٌ، وَقِيلَ: لَا يَعْلَمُونَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ.
[13] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 13] أَيْ: لِلْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: لِلْيَهُودِ: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة: 13] عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَغَيْرُهُ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: كَمَا آمَنَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] أَيِ: الْجُهَّالُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ النِّفَاقُ مَعَ الْمُجَاهَرَةِ. بِقَوْلِهِمْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ؟ قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ هَذَا الْقَوْلَ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَا عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] أنهم كذلك، والسفيه خَفِيفُ الْعَقْلِ رَقِيقُ الْحِلْمِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَوْبٌ سَفِيهٌ أَيْ: رَقِيقٌ، وَقِيلَ: السَّفِيهُ: الْكَذَّابُ الَّذِي يَتَعَمَّدُ بخلاف ما يعلم.
[14] {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 14] يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ إِذَا لَقُوا المهاجرين والأنصار: {قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14] كإيمانكم {وَإِذَا خَلَوْا} [البقرة: 14] رَجَعُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الخلوة، و {إِلَى} [البقرة: 14] بِمَعْنَى: الْبَاءِ أَيْ: بِشَيَاطِينِهِمْ، وَقِيلَ: إِلَى بِمَعْنَى مَعَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النِّسَاءِ: 2] أَيْ: مَعَ أموالكم {شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] أي: رؤسائهم وكهنتهم، وَلَا يَكُونُ كَاهِنٌ إِلَّا وَمَعَهُ شَيْطَانٌ تَابِعٌ لَهُ، وَالشَّيْطَانُ: الْمُتَمَرِّدُ الْعَاتِي مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَصْلُهُ الْبُعْدُ، يُقَالُ: بِئْرٌ شُطُونٌ، أَيْ: بَعِيدَةُ الْعُمْقِ، سُمِّيَ الشَّيْطَانُ شَيْطَانًا لِامْتِدَادِهِ فِي الشَّرِّ وَبُعْدِهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَى أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ والمشركين، {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] أَيْ: عَلَى دِينِكُمْ {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِمَا نُظهر مِنَ الْإِسْلَامِ.
(1/19)
 
 
[15] {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ} [البقرة: 15] يَتْرُكُهُمْ وَيُمْهِلُهُمْ، وَالْمَدُّ وَالْإِمْدَادُ وَاحِدٌ، وَأَصْلُهُ الزِّيَادَةُ إِلَّا أَنَّ الْمَدَّ كثيرًا مَا يَأْتِي فِي الشَّرِّ، وَالْإِمْدَادُ فِي الْخَيْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَدِّ {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} [مَرْيَمَ: 79] وَقَالَ فِي الْإِمْدَادِ: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [الْإِسْرَاءِ: 6] {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} [الطُّورِ: 22] {فِي طُغْيَانِهِمْ} [البقرة: 15] أي: في ضلالتهم، وأصل الطغيان: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَمِنْهُ: طَغَى الْمَاءُ {يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] أَيْ يَتَرَدَّدُونَ فِي الضَّلَالَةِ مُتَحَيِّرِينَ.
 
[قوله تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى] فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ
[16] {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] بالإيمان {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] أي: استبدلوا الكفر، أَيْ: مَا رَبِحُوا فِي تِجَارَتِهِمْ {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] مِنَ الضَّلَالَةِ، وَقِيلَ: مُصِيبِينَ فِي تجارتهم.
[17] {مَثَلُهُمْ} [البقرة: 17] شَبَهُهُمْ، وَقِيلَ: صِفَتُهُمْ، وَالْمَثَلُ قَوْلٌ سَائِرٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ يُعْرَفُ به منه الشَّيْءِ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْقُرْآنِ السبعة، {كَمَثَلِ الَّذِي} [البقرة: 17] يَعْنِي الَّذِينَ بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْآيَةِ {اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] أوقد نارًا، {فَلَمَّا أَضَاءَتْ} [البقرة: 17] النار {مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17] أي: حول المستوقد {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، يَقُولُ: مَثَلُهُمْ فِي نِفَاقِهِمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فِي مَفَازَةٍ فَاسْتَدْفَأَ وَرَأَى مَا حَوْلَهُ فَاتَّقَى مِمَّا يخاف، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي في ظلمة خائفًا مُتَحَيِّرًا، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ بِإِظْهَارِ كَلِمَةِ الْإِيمَانِ أمِنُوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَنَاكَحُوا الْمُؤْمِنِينَ، وَوَارَثُوهُمْ وَقَاسَمُوهُمُ الْغَنَائِمَ، فَذَلِكَ نُورُهُمْ، فَإِذَا مَاتُوا عَادُوا إِلَى الظُّلْمَةِ وَالْخَوْفِ، وَقِيلَ: ذَهَابُ نُورِهِمْ فِي الْقَبْرِ، وَقِيلَ: فِي الْقِيَامَةِ حَيْثُ يَقُولُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ، وَقِيلَ: ذَهَابُ نُورِهِمْ بِإِظْهَارِ عَقِيدَتِهِمْ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ، فَضَرَبَ النَّارَ مَثَلًا، ثُمَّ لم يقل: أطفأ الله نورهم لَكِنْ عَبَّرَ بِإِذْهَابِ النُّورِ عَنْهُ، لأن النار نُورٌ وَحَرَارَةٌ فَيَذْهَبُ نُورُهُمْ وَتَبْقَى الْحَرَارَةُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِضَاءَةُ النَّارِ إِقْبَالُهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْهُدَى، وَذَهَابُ نُورِهِمْ إِقْبَالُهُمْ إِلَى الْمُشْرِكِينَ والضلالة، وقال عطاء: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَانْتِظَارِهِمْ خُرُوجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ وَاسْتِفْتَاحِهِمْ بِهِ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَلَمَّا خَرَجَ كَفَرُوا بِهِ.
ثُمَّ وصفهم الله فقال:
[18] {صُمٌّ} [البقرة: 18] أَيْ: هُمْ صُمٌّ عَنِ الْحَقِّ لَا يَقْبَلُونَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقْبَلُوا فكأنهم لم يسمعوا، {بُكْمٌ} [البقرة: 18] خُرْسٌ عَنِ الْحَقِّ لَا يَقُولُونَهُ، أَوْ أَنَّهُمْ لَمَّا أَبْطَنُوا خِلَافَ مَا أَظْهَرُوا فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْطِقُوا بالحق، {عُمْيٌ} [البقرة: 18] أَيْ: لَا بَصَائِرَ لَهُمْ، وَمَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ كَمَنْ لَا بَصَرَ لَهُ، {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] عَنِ الضَّلَالَةِ إِلَى الْحَقِّ.
[19] {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19] أَيْ: كَأَصْحَابِ صَيِّبٍ، وَهَذَا مَثَلٌ آخَرُ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُنَافِقِينَ، بمعنى: إِنْ شِئْتَ مَثِّلْهُمْ بِالْمُسْتَوْقَدِ، وَإِنْ شئت بأهل الصيب، وَالصَّيِّبُ: الْمَطَرُ وَكُلُّ مَا نَزَلْ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ فَهُوَ صَيِّبٌ، فَعِيلٌ مِنْ صَابَ يَصُوبُ، أي: نزل {مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19] أي: من السحاب، وقيل: هِيَ السَّمَاءُ بِعَيْنِهَا، وَالسَّمَاءُ كُلُّ مَا عَلَاكَ فَأَظَلَّكَ، وَهِيَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا. {فِيهِ} [البقرة: 19] أَيْ: فِي الصَّيِّبِ، وَقِيلَ: فِي السماء، أي: في السحاب {ظُلُمَاتٌ} [البقرة: 19] جمع ظلمة {وَرَعْدٌ} [البقرة: 19] وهو الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنَ السَّحَابِ، {وَبَرْقٌ} [البقرة: 19] وهو النار التي تخرج منه {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} [البقرة: 19] جَمْعُ صَاعِقَةٍ، وَهِيَ الصَّيْحَةُ الَّتِي يَمُوتُ مَنْ يَسْمَعُهَا أَوْ يُغْشَى عَلَيْهِ، وَيُقَالُ لِكُلِّ عَذَابٍ مُهْلِكٍ: صاعقة.
قوله: {حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 19] أَيْ: مَخَافَةَ الْهَلَاكِ، {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19] أَيْ: عَالِمٌ بِهِمْ، وَقِيلَ: جَامِعُهُمْ، قال مُجَاهِدٌ: يَجْمَعُهُمْ فَيُعَذِّبُهُمْ، وَقَيْلَ: مُهْلِكُهُمْ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى. {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يُوسُفَ: 66] أَيْ تُهْلَكُوا جميعًا.
(1/20)
 
 
[20] {يَكَادُ الْبَرْقُ} [البقرة: 20] أَيْ: يَقْرُبُ، يُقَالُ: كَادَ يَفْعَلُ إِذَا قَرُبَ وَلَمْ يَفْعَلْ، {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] يَخْتَلِسُهَا، وَالْخَطْفُ اسْتِلَابٌ بِسُرْعَةٍ {كُلَّمَا} [البقرة: 20] مَتَى مَا، {أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 20] أَيْ: وَقَفُوا مُتَحَيِّرِينَ، فَاللَّهُ تَعَالَى شَبَّهَهُمْ فِي كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ بِقَوْمٍ كانوا في مفازة وسواد فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فِيهِ ظُلُمَاتٌ، مِنْ صِفَتِهَا أَنَّ السَّارِيَ لَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ فِيهَا، وَرَعْدٌ مِنْ صِفَتِهِ أَنْ يَضُمَّ السَّامِعُونَ أَصَابِعَهُمْ إِلَى آذَانِهِمْ مِنْ هَوْلِهِ، وَبَرْقٌ مِنْ صِفَتِهِ أَنْ يَقْرُبَ مِنْ أَنْ يَخْطِفَ أَبْصَارَهُمْ وَيُعْمِيَهَا مِنْ شِدَّةِ تَوَقُّدِهِ، فَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْقُرْآنِ، وَصَنِيعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مَعَهُ، فَالْمَطَرُ: الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ حَيَاةُ الْجِنَانِ كَمَا أَنَّ الْمَطَرَ حَيَاةُ الْأَبْدَانِ، وَالظُّلُمَاتُ: مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَالرَّعْدُ مَا خُوِّفُوا بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ، وَذِكْرِ النَّارِ، وَالْبَرْقُ مَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيَانِ والوعد، وذكر الجنة، فالكافرون يَسُدُّونَ آذَانَهُمْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَخَافَةَ مَيْلِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَهُمْ كُفْرٌ، وَالْكُفْرُ مَوْتٌ، يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ أَيِ: الْقُرْآنُ يَبْهَرُ قُلُوبَهُمْ. وَقِيلَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ، فَالْمَطَرُ: الْإِسْلَامُ، وَالظُّلُمَاتُ: مَا فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحَنِ، وَالرَّعْدُ: مَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَالْمَخَاوِفِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْبَرْقُ: مَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ، {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19] يَعْنِي: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا رَأَوْا فِي الْإِسْلَامِ بَلَاءً وَشِدَّةً هَرَبُوا حَذَرًا مِنَ الْهَلَاكِ، وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ: جَامِعُهُمْ، يَعْنِي: لَا يَنْفَعُهُمْ هَرَبُهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ وَرَائِهِمْ يَجْمَعُهُمْ فَيُعَذِّبُهُمْ، {يَكَادُ الْبَرْقُ} [البقرة: 20] يَعْنِي: دَلَائِلَ الْإِسْلَامِ تُزْعِجُهُمْ إِلَى النَّظَرِ لَوْلَا مَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الشَّقَاوَةِ {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة: 20] يَعْنِي: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا أَظْهَرُوا كَلِمَةَ الْإِيمَانِ آمَنُوا فَإِذَا مَاتُوا عَادُوا إِلَى الظُّلْمَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كُلَّمَا نَالُوا غَنِيمَةً وَرَاحَةً فِي الْإِسْلَامِ ثَبَتُوا وَقَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ، وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ يَعْنِي: رَأَوْا شِدَّةً وَبَلَاءً تَأَخَّرُوا وَقَامُوا، أَيْ: وقفوا {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20] أي: بأسماعهم {وَأَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 20] الظَّاهِرَةِ، كَمَا ذَهَبَ بِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمُ الْبَاطِنَةِ، وَقِيلَ: لَذَهَبَ بِمَا اسْتَفَادُوا مِنَ الْعِزِّ وَالْأَمَانِ الَّذِي لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] قادر.
 
[قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ] وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
[21] قَوْلُهُ تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] قال ابن عباس: يَا أَيُّهَا النَّاسُ: خِطَابُ أَهَّلِ مَكَّةَ، وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب أهل المدينة، وهو ههنا عَامٌّ إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ الصِّغَارُ وَالْمَجَانِينُ {اعْبُدُوا} [البقرة: 21] وحدوا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْعِبَادَةِ فَمَعْنَاهَا التَّوْحِيدُ، {رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] وَالْخَلْقُ اخْتِرَاعُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] أَيْ وَخَلَقَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] لِكَيْ تَنْجُوا مِنَ الْعَذَابِ،
(1/21)
 
 
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كُونُوا عَلَى رَجَاءِ التَّقْوَى بِأَنْ تَصِيرُوا فِي سَتْرٍ وَوِقَايَةٍ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَحُكْمُ اللَّهِ مِنْ وَرَائِكُمْ يَفْعَلُ مَا يشاء.
[22] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22] أَيْ بِسَاطًا، وَقِيلَ: مَنَامًا، وَقِيلَ: وِطَاءً، أَيْ: ذَلَّلَهَا وَلَمْ يَجْعَلْهَا حَزْنَةً لَا يُمْكِنُ الْقَرَارُ عَلَيْهَا، والجعل ههنا بمعنى: الخلق، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة: 22] سقفًا مرفوعًا، {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 22] أي: من السحاب، {مَاءً} [البقرة: 22] وهو الْمَطَرَ، {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 22] من أَلْوَانَ الثَّمَرَاتِ وَأَنْوَاعَ النَّبَاتِ، {رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22] طَعَامًا لَكُمْ وَعَلَفًا لِدَوَابِّكُمْ، {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] أَيْ: أَمْثَالًا تَعْبُدُونَهُمْ كَعِبَادَةِ اللَّهِ، وقال أَبُو عُبَيْدَةَ: النِّدُّ الضِّدُّ، وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَرِيءٌ مِنَ الْمِثْلِ وَالضِّدِّ، {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] أَنَّهُ وَاحِدٌ خَالِقُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
[23] {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} [البقرة: 23] أَيْ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُمْ شاكون {مِمَّا نَزَّلْنَا} [البقرة: 23] يعني: القرآن، {عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] محمد، {فَأْتُوا} [البقرة: 23] أمر تعجيز، {بِسُورَةٍ} [البقرة: 23] وَالسُّورَةُ قِطْعَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مَعْلُومَةُ الأول والآخر. {مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] أَيْ: مِثْلِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ: صِلَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النُّورِ: 30] وَقِيلَ: الْهَاءُ فِي مَثَلِهِ رَاجِعَةٌ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم، يَعْنِي: مِنْ مِثْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم أُمِّيٌّ لَا يُحْسِنُ الخط والكتابة، {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} [البقرة: 23] أَيْ: وَاسْتَعِينُوا بِآلِهَتِكُمُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا، {مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة: 23] وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَاسًا يَشْهَدُونَ لَكُمْ، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23] أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم تقوَّلَه مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، فَلَمَّا تَحَدَّاهُمْ عَجَزُوا، فَقَالَ:
[24] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] فيما مضى {وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] أَبَدًا فِيمَا بَقِيَ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْإِعْجَازِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كان معجزة النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم حَيْثُ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، قوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ} [البقرة: 24] أَيْ: فَآمِنُوا وَاتَّقُوا بِالْإِيمَانِ النَّارَ، {الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: يَعْنِي حِجَارَةَ الْكِبْرِيتِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ التهابًا، وقيل: جمع الحجارة، وهو دليل على عظم تِلْكَ النَّارِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهَا الْأَصْنَامَ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَصْنَامِهِمْ كَانَتْ مَنْحُوتَةً مِنَ الْحِجَارَةِ، كَمَا قَالَ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] {أُعِدَّتْ} [البقرة: 24] هيئت {لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]
[25] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 25] أَيْ: أَخْبِرْ، وَالْبِشَارَةُ: كُلُّ خَبَرِ صِدْقٍ تَتَغَيَّرُ بِهِ بَشَرَةُ الْوَجْهِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَفِي الخير أغلب، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 25] أَيِ: الْفِعْلَاتِ الصَّالِحَاتِ، يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الطَّاعَاتِ قَالَ مُعَاذٌ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي فِيهِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: الْعِلْمُ وَالنِّيَّةُ وَالصَّبْرُ وَالْإِخْلَاصُ، {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} [البقرة: 25] جَمْعُ الْجَنَّةِ، وَالْجَنَّةُ: الْبُسْتَانُ الَّذِي فِيهِ أَشْجَارٌ مُثْمِرَةٌ، سُمِّيَتْ بِهَا لِاجْتِنَانِهَا وَتَسَتُّرِهَا بِالْأَشْجَارِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْجَنَّةُ مَا فِيهِ النَّخِيلُ، وَالْفِرْدَوْسُ مَا فِيهِ الْكَرْمُ {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} [البقرة: 25] أَيْ: مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا وَمَسَاكِنِهَا {الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25] أَيِ: الْمِيَاهُ فِي الْأَنْهَارِ، لِأَنَّ النَّهْرَ لَا يَجْرِي، وَقِيلَ: مِنْ تحتها أي: بأمرهم، وَالْأَنْهَارُ جَمْعُ نَهْرٍ، سُمِّيَ بِهِ لسعته وضيائه، ومنه النهار {كُلَّمَا} [البقرة: 25] متى ما، {رُزِقُوا} [البقرة: 25] أطعموا {مِنْهَا} [البقرة: 25] أَيْ: مِنَ الْجَنَّةِ، {مِنْ ثَمَرَةٍ} [البقرة: 25] أي: ثمرة، ومن: صلة. {رِزْقًا} [البقرة: 25] طَعَامًا، {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] قِيلَ: مِنْ قَبْلُ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: الثِّمَارُ فِي الْجَنَّةِ مُتَشَابِهَةٌ فِي اللَّوْنِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الطَّعْمِ، فَإِذَا رُزِقُوا ثَمَرَةً بَعْدَ أُخْرَى ظَنُّوا أَنَّهَا الْأُولَى، {وَأُتُوا بِهِ} [البقرة: 25] رزقًا {مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ: مُتَشَابِهًا فِي الْأَلْوَانِ مُخْتَلِفًا فِي الطُّعُومِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: مُتَشَابِهًا أَيْ: يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي الْجَوْدَةِ، أَيْ: كُلُّهَا خِيَارٌ لَا رَذَالَةَ فِيهَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: يُشْبِهُ ثَمَرَ الدُّنْيَا، غَيْرَ أَنَّهَا أَطْيَبُ، وَقِيلَ: مُتَشَابِهًا فِي
(1/22)
 
 
الِاسْمِ مُخْتَلِفًا فِي الطَّعْمِ، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عنه: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الجنة إلا الأسامي.
قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا} [البقرة: 25] في الجنان {أَزْوَاجٌ} [البقرة: 25] نساء وجوار، يَعْنِي: مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، {مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] مِنَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ وَالْمَنِيِّ وَالْوَلَدِ وَكُلُّ قذر، وَقِيلَ: مُطَهَّرَةٌ عَنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25] دَائِمُونَ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يخرجون منها.
 
[قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا] بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا
[26] قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} [البقرة: 26] يذكر شبها، {مَا بَعُوضَةً} [البقرة: 26] مَا: صِلَةٌ، أَيْ: مَثَلًا بِالْبَعُوضَةِ، وبعوضة: نَصْبُ بَدَلٍ عَنِ الْمَثَلِ، وَالْبَعُوضُ صغار البق، سميت بعوضة لأنها كانت بعض البق، {فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] يَعْنِي: الذُّبَابَ وَالْعَنْكَبُوتَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ: فَمَا دُونَهَا، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ جَاهِلٌ، فَيُقَالُ: وَفَوْقَ ذَلِكَ، أَيْ: وَأَجْهَلُ. {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 26] بمحمد والقرآن، {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} [البقرة: 26] يعني: المثل هو {الْحَقُّ} [البقرة: 26] الصِّدْقُ {مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة: 26] أَيْ: بِهَذَا الْمَثَلِ، فَلَمَّا حَذَفَ الألف واللام نصب عَلَى الْحَالِ وَالْقَطْعِ، ثُمَّ أَجَابَهُمْ فقال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] من الكفار، وذلك أنهم يكذبون فيزدادون ضلالاً، {وَيَهْدِي بِهِ} [البقرة: 26] أي بهذا المثل {كَثِيرًا} [البقرة: 26] من الْمُؤْمِنِينَ فَيُصَدِّقُونَهُ، وَالْإِضْلَالُ هُوَ الصَّرْفُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَقِيلَ: هُوَ الْهَلَاكُ، يُقَالُ: ضَلَّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ إِذَا هَلَكَ، {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [الْبَقَرَةِ: 26] الْكَافِرِينَ، وَأَصْلُ الْفِسْقَ: الْخُرُوجُ، يُقَالُ: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ:
[27] {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ} [البقرة: 27] يُخَالِفُونَ وَيَتْرُكُونَ، وَأَصْلُ النَّقْضِ: الْكَسْرُ، {عَهْدَ اللَّهِ} [البقرة: 27] أَمْرُ اللَّهِ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْمِيثَاقِ بِقَوْلِهِ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الْأَعْرَافِ: 172] وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى النَّبِيِّينَ وَسَائِرِ الْأُمَمِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 81] الْآيَةَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْعَهْدَ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم وَيُبَيِّنُوا نَعْتَهُ، {مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة: 27] تَوْكِيدِهِ، وَالْمِيثَاقُ: الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ، {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة: 27] يَعْنِي: الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم وَبِجَمِيعِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السلام وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْأَرْحَامَ، {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 27] بِالْمَعَاصِي وَتَعْوِيقِ النَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم وبالقرآن، {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 27] الْمَغْبُونُونَ.
ثُمَّ قَالَ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ:
[28] {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 28] ؟ بعد نصب الدلائل ووضوح البرهان.
ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلَائِلَ فَقَالَ: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28] نُطَفًا
(1/23)
 
 
في أصلاب آبائكم، {فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] فِي الْأَرْحَامِ وَالدُّنْيَا، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [البقرة: 28] عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِكُمْ، {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] للبعث، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28] أَيْ: تُرَدُّونَ فِي الْآخِرَةِ فَيَجْزِيكُمْ بأعمالكم.
[29] قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] لِكَيْ تَعْتَبِرُوا وَتَسْتَدِلُّوا، وَقِيلَ: لِكَيْ تَنْتَفِعُوا، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ: أَيِ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] خَلَقَهُنَّ مُسْتَوَيَاتٍ لَا فُطُورَ فِيهَا ولا صدوع، {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]
[30] {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} [البقرة: 30] أَيْ: وَقَالَ رَبُّكَ وَإِذْ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ رَبُّكَ، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا النَّحْوِ فهذا سبيله، إذ وَإِذَا: حَرْفَا تَوْقِيتٍ إِلَّا أَنَّ إِذْ لِلْمَاضِي وَإِذَا لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ يوضع أحدهما موضع الآخر. {لِلْمَلَائِكَةِ} [البقرة: 30] جمع ملك، وأراد به الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَرْضِ {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] أي: بدلا منكم، والمراد بالخليفة ههنا آدم {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] بالمعاصي، {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] بغير حق {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30] قَالَ الْحَسَنُ: نَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وبحمده هو صَلَاةُ الْخَلْقِ وَصَلَاةُ الْبَهَائِمِ وَغَيْرِهِمَا سوى الآدميين {وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] أَيْ: نُثْنِي عَلَيْكَ بِالْقُدْسِ وَالطَّهَارَةِ عما لا يليق بعظمتك وجلالك، وَقِيلَ: وَنُطَهِّرُ أَنْفُسَنَا لِطَاعَتِكَ، وَقِيلَ: وَنُنَزِّهُكَ، وَاللَّامُ: صِلَةٌ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِرَاضِ وَالْعُجْبِ بِالْعَمَلِ بَلْ على سبيل التعجب وطلب الْحِكْمَةِ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 30] من الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَقِيلَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يُطِيعُنِي ويعبدني من الأنبياء والأولياء والصلحاء، وَقِيلَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ فِيكُمْ مَنْ يَعْصِينِي وَهُوَ إِبْلِيسُ، وَقِيلَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُذْنِبُونَ وَأَنَا أغفر لهم.
 
[قَوْلُهُ تَعَالَى وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ] عَلَى الْمَلَائِكَةِ
[31] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] سُمِّيَ آدَمَ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ آدم اللون، فلما خلقه الله عز وجل عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] لِيَخْلُقْ رَبُّنَا مَا شَاءَ فَلَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَّا وإن كان غيرنا أكرم عليه فَنَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُ لِأَنَّا خُلِقْنَا قَبْلَهُ وَرَأَيْنَا مَا لَمْ يَرَهُ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ بالعلم، قال ابن عباس: عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْقَصْعَةِ وَالْقُصَيْعَةِ، وَقِيلَ: اسْمَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: أَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ، وقيل: صنعة كل شيء {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} [البقرة: 31] إنما قال: {عَرَضَهُمْ} [البقرة: 31] وَلَمْ يَقُلْ عَرَضَهَا لِأَنَّ الْمُسَمَّيَاتِ إذا جمعت مَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ يُكَنَّى عَنْهَا بِلَفْظِ مَنْ يَعْقِلُ، كَمَا يُكَنَّى عَنِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِلَفْظِ الذُّكُورِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خَلَقَ اللَّهُ كُلَّ شَيْءٍ الْحَيَوَانَ وَالْجَمَادَ ثُمَّ عَرَضَ تِلْكَ الشُّخُوصَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، فَالْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الشُّخُوصِ، فَلِذَلِكَ قَالَ عَرَضَهُمْ {فَقَالَ أَنْبِئُونِي} [البقرة: 31] أَخْبَرُونِي {بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31] أَنِّي لَا أَخْلُقُ خَلْقًا إِلَّا وَكُنْتُمْ أَفْضَلَ وَأَعْلَمَ مِنْهُ.
فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ إِقْرَارًا بِالْعَجْزِ:
[32] {قَالُوا سُبْحَانَكَ} [البقرة: 32] تَنْزِيهًا لَكَ، {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] معناه: إنك أَجَلُّ مِنْ أَنْ نُحِيطَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِكَ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا، {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ} [البقرة: 32] بخلقك {الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] فِي أَمْرِكَ، وَالْحَكِيمُ لَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا الْحَاكِمُ وَهُوَ الْقَاضِي الْعَدْلُ، وَالثَّانِي الْمُحْكِمُ لِلْأَمْرِ كَيْ لَا يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، وَأَصْلُ الْحِكْمَةِ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ فَهِيَ تَمْنَعُ صاحبها من الباطل.
فَلَمَّا ظَهَرَ عَجْزُهُمْ.
[33] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] أَخْبِرْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَسَمَّى آدَمُ كُلَّ شيء وَذَكَرَ الْحِكْمَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا خُلِقَ، {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ} [البقرة: 33]
(1/24)
 
 
اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} [البقرة: 33] يَا مَلَائِكَتِي {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 33] مَا كَانَ مِنْهُمَا وَمَا يَكُونُ {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} [البقرة: 33] قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي قَوْلَهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا، {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33] قَوْلَكُمْ لَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَّا، قَالَ ابْنُ عباس هُوَ: أَنَّ إِبْلِيسَ مَرَّ عَلَى جسد آدم لَا رُوحَ فِيهِ، فَقَالَ: لِأَمْرٍ مَا خُلِقَ هَذَا، ثُمَّ دَخَلَ فِي فِيهِ وَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ خَلْقٌ لَا يَتَمَاسَكُ لِأَنَّهُ أَجْوَفُ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ مَعَهُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ فُضِّلَ هَذَا عَلَيْكُمْ وَأُمِرْتُمْ بِطَاعَتِهِ مَاذَا تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: نُطِيعُ أَمْرَ رَبِّنَا، فَقَالَ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْهِ لَأُهْلِكَنَّهُ وَلَئِنْ سُلِّطَ عَلَيَّ لَأَعْصِيَنَّهُ، فَقَالَ اللَّهُ تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} [البقرة: 33] يَعْنِي مَا تُبْدِيهِ الْمَلَائِكَةُ مِنَ الطاعة، {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33] يعني إبليس من المعصية.
[34] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34] اختلفوا في هذا الخطاب مع الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَ الَّذِينَ كَانُوا سُكَّانَ الْأَرْضِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَعَ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الْحِجْرِ: 30] وقوله: {اسْجُدُوا} [البقرة: 34] فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَصَحُّ أَنَّ السُّجُودَ كَانَ لِآدَمَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَتَضَمَّنَ مَعْنَى الطَّاعَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وامتثال أَمْرِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ سُجُودَ تَعْظِيمٍ وَتَحِيَّةٍ لَا سُجُودَ عِبَادَةٍ، كَسُجُودِ إِخْوَةِ يُوسُفَ لَهُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يُوسُفَ: 100] وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ وَضْعُ الْوَجْهِ عَلَى الْأَرْضِ إِنَّمَا كَانَ انحناء فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَبْطَلَ ذَلِكَ بِالسَّلَامِ، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34] أَيْ: إِلَى آدَمَ فَكَانَ آدَمُ قِبْلَةً وَالسُّجُودُ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا جُعِلَتِ الْكَعْبَةُ قِبْلَةً لِلصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ لله عز وجل، {فَسَجَدُوا} [البقرة: 34] يعني: الملائكة، {إِلَّا إِبْلِيسَ} [البقرة: 34] وَكَانَ اسْمُهُ عَزَازِيلَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ وَبِالْعَرَبِيَّةِ الْحَارِثُ، فَلَمَّا عَصَى غُيِّرَ اسْمُهُ وَصُورَتُهُ، فَقِيلَ: إِبْلِيسُ لِأَنَّهُ أَبْلَسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ: يَئِسَ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ عباس وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ مِنَ الْجِنِّ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الْكَهْفِ: 50] فَهُوَ أَصْلُ الْجِنِّ كَمَا أَنَّ آدَمَ أَصْلُ الْإِنْسِ، وَلِأَنَّهُ خُلِقَ مِنَ النَّارِ وَالْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا مِنَ النُّورِ، وَلِأَنَّ لَهُ ذُرِّيَّةً وَلَا ذُرِّيَّةَ لِلْمَلَائِكَةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ خِطَابَ السُّجُودِ كَانَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَوْلُهُ: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مِنَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْجَنَّةِ وَقِيلَ: إِنَّ فِرْقَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ خُلِقُوا مِنَ النَّارِ سُمُّوا جِنًّا لِاسْتِتَارِهِمْ عَنِ الْأَعْيُنِ، وَإِبْلِيسُ كان منهم.
قوله: {أَبَى} [البقرة: 34] أَيِ: امْتَنَعَ فَلَمْ يَسْجُدْ، {وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34] أَيْ: تَكَبَّرَ عَنِ السُّجُودِ لِآدَمَ، {وَكَانَ} [البقرة: 34] أي: وصار {مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ:
(1/25)
 
 
وَكَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ مِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ وَجَبَتْ لَهُمُ الشقاوة. قَوْلُهُ تَعَالَى:
[35] {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا} [البقرة: 35] واسعًا كثيرًا، {حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35] كَيْفَ شِئْتُمَا وَمَتَى شِئْتُمَا وَأَيْنَ شِئْتُمَا، {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] يعني: بالأكل، قال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَقَعَ النَّهْيُ عَلَى جِنْسٍ مِنَ الشَّجَرِ، وَقَالَ آخَرُونَ: على شجرة مخصوصة {فَتَكُونَا} [البقرة: 35] فتصيرا {مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35] أي: الضارين أنفسكما بِالْمَعْصِيَةِ، وَأَصْلُ الظُّلْمِ: وَضْعُ الشَّيْءِ في غير موضعه.
 
[قوله تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا] كَانَا فِيهِ
[36] {فَأَزَلَّهُمَا} [البقرة: 36] استزل {الشَّيْطَانُ} [البقرة: 36] آدَمَ وَحَوَّاءَ، أَيْ: دَعَاهُمَا إِلَى الزلة {عَنْهَا} [البقرة: 36] عَنِ الْجَنَّةِ {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة: 36] من النعيم {وَقُلْنَا اهْبِطُوا} [البقرة: 36] انْزِلُوا إِلَى الْأَرْضِ، يَعْنِي: آدَمَ وحواء وإبليس والحية {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36] أَرَادَ الْعَدَاوَةَ الَّتِي بَيْنَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَالْحَيَّةِ، وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذرية آدم وبين إبليس، وقوله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} [البقرة: 36] موضع قرار {وَمَتَاعٌ} [البقرة: 36] بلغة ومستمتع {إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36] إلى انقضاء آجالكم.
[37] {فَتَلَقَّى} [البقرة: 37] التلقي: هُوَ قَبُولٌ عَنْ فِطْنَةٍ وَفَهْمٍ، وَقِيلَ: هُوَ التَّعَلُّمُ، {آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] اختلفوا فِي تِلْكَ الْكَلِمَاتِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: هِيَ قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] الْآيَةَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كعب القرظي: هو قَوْلُهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ رَبِّ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ أنت الغفور الرَّحِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ رَبِّ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: هِيَ أَنَّ آدَمَ قَالَ: يَا رَبِّ أَرَأَيْتَ مَا أَتَيْتُ، أَشَيْءٌ ابْتَدَعْتُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي أَمْ شَيْءٌ قدرتَه عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ تَخْلُقَنِي؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لا بل شيء قدرته عليكم قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَكَ، قَالَ: يَا رَبِّ فَكَمَا قَدَّرْتَهُ قَبْلَ أَنْ تَخْلُقَنِي فَاغْفِرْ لِي، وَقِيلَ: هِيَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْحَيَاءُ وَالدُّعَاءُ وَالْبُكَاءُ. قوله: {فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] فَتَجَاوَزَ عَنْهُ {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ} [البقرة: 37] يقبل توبة عباده {الرَّحِيمُ} [البقرة: 37] بخلقه.
[38] قوله تَعَالَى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38] يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ وَقِيلَ الْهُبُوطُ الْأَوَّلُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ الدنيا، والهبوط الثاني مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} [البقرة: 38] أَيْ فَإِنْ يَأْتِكُمْ يَا ذُرِّيَّةَ آدم {مِنِّي هُدًى} [البقرة: 38] أَيْ: رُشْدٌ وَبَيَانُ شَرِيعَةٍ، وَقِيلَ: كِتَابٌ وَرَسُولٌ، {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 38] فيما يستقبلهم {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] عَلَى مَا خَلَّفُوا، وَقِيلَ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فِي الْآخِرَةِ.
[39] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 39] جحدوا {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [البقرة: 39] بالقرآن {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} [البقرة: 39] يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39] لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا.
[40] قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40] يَا أَوْلَادَ يَعْقُوبَ، وَمَعْنَى إِسْرَائِيلَ: عبد الله {اذْكُرُوا} [البقرة: 40] احْفَظُوا، وَالذِّكْرُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَيَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الشُّكْرَ، وَذُكِرَ بِلَفْظِ الذِّكْرِ، لِأَنَّ فِي الشُّكْرِ ذِكْرًا وَفِي الْكُفْرَانِ نِسْيَانًا، قَالَ الْحَسَنُ: ذِكْرُ النِّعْمَةِ شُكْرُهَا، {نِعْمَتِيَ} [البقرة: 40] أَيْ: نِعَمِي، لَفْظُهَا وَاحِدٌ وَمَعْنَاهَا جمع {الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] أَيْ: عَلَى أَجْدَادِكُمْ وَأَسْلَافِكُمْ، قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النِّعَمُ الَّتِي خُصَّتْ بها بنو إسرائيل: فلق البحر، وإنجاؤهم مِنْ فِرْعَوْنَ بِإِغْرَاقِهِ، وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ عَلَيْهِمْ فِي التِّيهِ، وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ، فِي نِعَمٍ كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى، وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ جَمِيعُ النِّعَمِ الَّتِي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عِبَادِهِ، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} [البقرة: 40] بامتثال أمري {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] بالقبول والثواب {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] فخافوني في نقض العهد.
 
[قوله تعالى وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ] وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ
[41] {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ} [البقرة: 41] يَعْنِي الْقُرْآنَ، {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [البقرة: 41] أي: موافقًا لما معكم من التَّوْرَاةَ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْأَخْبَارِ وَنَعْتِ النَّبِيِّ
(1/26)
 
 
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم، {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41] أَيْ: بِالْقُرْآنِ، يُرِيدُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّ قُرَيْشًا كَفَرَتْ قَبْلَ الْيَهُودِ بِمَكَّةَ، مَعْنَاهُ وَلَا تَكُونُوا أول من كفر بالقرآن فتتابعكم الْيَهُودُ عَلَى ذَلِكَ فَتَبُوءُوا بِآثَامِكُمْ وآثامهم، {وَلَا تَشْتَرُوا} [البقرة: 41] أي ولا تستبدلوا {بِآيَاتِي} [البقرة: 41] بِبَيَانِ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم، {ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 41] أي: عوضًا يَسِيرًا مِنَ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْيَهُودِ وَعُلَمَاءَهُمْ كَانَتْ لَهُمْ مأكلة يُصِيبُونَهَا مِنْ سَفَلَتِهِمْ وَجُهَّالِهِمْ يَأْخُذُونَ كل عام منهم شيئًا معروفًا مِنْ زُرُوعِهِمْ وَضُرُوعِهِمْ وَنُقُودِهِمْ، فَخَافُوا أنهم إن بَيَّنُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم وَتَابَعُوهُ أَنْ تَفُوتَهُمْ تلك المأكلة، فَغَيَّرُوا نَعْتَهُ وَكَتَمُوا اسْمَهُ، فَاخْتَارُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41] فَاخْشَوْنِي.
[42] {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42] أي لَا تَخْلِطُوا الْحَقَّ الَّذِي أَنْزَلْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم بِالْبَاطِلِ الَّذِي تَكْتُبُونَهُ بِأَيْدِيكُمْ مِنْ تَغْيِيرِ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ لَا تَلْبِسُوا الْإِسْلَامَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الْيَهُودَ أَقَرُّوا بِبَعْضِ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم وَكَتَمُوا بَعْضًا لِيُصَدَّقُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ الذي تغيرون بِالْبَاطِلِ، يَعْنِي: بِمَا تَكْتُمُونَهُ، فَالْحَقُّ بَيَانُهُمْ وَالْبَاطِلُ كِتْمَانُهُمْ، {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} [البقرة: 42] أَيْ: لَا تَكْتُمُوهُ، يَعْنِي: نَعْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم، {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42] أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ.
[43] {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] يَعْنِي: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِمَوَاقِيتِهَا وَحُدُودِهَا، {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] أدوا زكاة أموالكم المفروضة، فهي مأخوذة من زكاة الزَّرْعُ إِذَا نَمَا وَكَثُرَ، وَقِيلَ: مِنْ تَزَكَّى، أَيْ تَطَهَّرَ، وَكِلَا المعنيين موجودان في الزكاة لأن فيها تطهير أو تنمية للمال، {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] أَيْ صَلُّوا مَعَ الْمُصَلِّينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم وَأَصْحَابِهِ، وذكر بلفظ الركوع لأن الركوع رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْيَهُودِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ركوع، وكأنه قَالَ صَلُّوا صَلَاةً ذَاتَ رُكُوعٍ، قيل: وإعادته بعد قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] لِهَذَا، أَيْ: صَلُّوا مَعَ الَّذِينَ في صلواتهم رُكُوعٌ، فَالْأَوَّلُ مُطْلَقٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَهَذَا فِي حَقِّ أَقْوَامٍ مَخْصُوصِينَ، وَقِيلَ: هَذَا حَثٌّ عَلَى إقام الصَّلَاةِ جَمَاعَةً كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: صلوا مع المصلين الذين سبقوهم بالإيمان.
[44] {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة: 44] أَيْ: بِالطَّاعَةِ، نَزَلَتْ فِي عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَقُولُ لِقَرِيبِهِ وَحَلِيفِهِ مِنَ المؤمنين إِذَا سَأَلَهُ عَنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم: اثْبُتْ عَلَى دِينِهِ فَإِنَّ أَمْرَهُ حَقٌّ، وَقَوْلَهُ صِدْقٌ، وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِأَحْبَارِهِمْ حَيْثُ أَمَرُوا أَتْبَاعَهُمْ بِالتَّمَسُّكِ بِالتَّوْرَاةِ، ثُمَّ خَالَفُوا وَغَيَّرُوا نَعْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم، {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] أَيْ: تَتْرُكُونَ أَنْفُسَكُمْ فَلَا تَتَّبِعُونَهُ، {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 44] تَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ فِيهَا نَعْتُهُ وَصَفْتُهُ، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] أنه
(1/26)
 
 
حَقٌّ فتتبعون، وَالْعَقْلُ مَأْخُوذٌ مِنْ عِقَالِ الدَّابَّةِ، وَهُوَ مَا يُشَدُّ بِهِ رُكْبَةُ البعير فيمنعه عن الشُّرُودِ، فَكَذَلِكَ الْعَقْلُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ من الكفر والجحود.
[45] {وَاسْتَعِينُوا} [البقرة: 45] عَلَى مَا يَسْتَقْبِلُكُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، وَقِيلَ: عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ، {بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] أَرَادَ حَبْسَ النَّفْسِ عَنِ الْمَعَاصِي، وقيل: أراد بالصبر: الصَّبْرَ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّبْرُ: الصَّوْمُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرَ الصَّبْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّوْمَ يُزَهِّدُهُ فِي الدُّنْيَا وَالصَّلَاةَ تُرَغِّبُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الْوَاوُ بِمَعْنَى " عَلَى " أَيْ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ عَلَى الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] {وَإِنَّهَا} [البقرة: 45] ولم يقل وإنهما، رد الكناية إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَيْ وإن كل خصلة مِنْهُمَا وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَإِنَّهُ لِكَبِيرٌ، وَبِالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لِكَبِيرَةٌ، فحذف أحدهما اختصارًا، {لَكَبِيرَةٌ} [البقرة: 45] أَيْ: لِثَقِيلَةٌ {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْخَائِفِينَ، وَقِيلَ: الْمُطِيعِينَ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: الْمُتَوَاضِعِينَ، وَأَصْلُ الْخُشُوعِ: السُّكُونُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} [طه: 108] فَالْخَاشِعُ سَاكِنٌ إِلَى طاعة الله تعالى.
 
[قوله تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ] إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
[46] {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} [البقرة: 46] يستيقنون، فالظن مِنَ الْأَضْدَادِ يَكُونُ شَكًّا وَيَقِينًا، كالرجاء يكون أمنًا وخوفًا. {أَنَّهُمْ مُلَاقُو} [البقرة: 46] معاينوا {رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ اللِّقَاءِ الصَّيْرُورَةُ إِلَيْهِ، {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46] فَيَجْزِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ.
[47] {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47] أَيْ: عَالَمِي زَمَانِكُمْ، وَذَلِكَ التَّفْضِيلُ وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ الْآبَاءِ ولكن يحصل به الشرف في حق الأبناء.
[48] {وَاتَّقُوا يَوْمًا} [البقرة: 48] وَاخْشَوْا عِقَابَ يَوْمٍ، {لَا تَجْزِي نَفْسٌ} [البقرة: 48] لَا تَقْضِي نَفْسٌ {عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] أَيْ: حَقًّا لَزِمَهَا، وَقِيلَ لَا تُغْنِي، وَقِيلَ لَا تَكْفِي شَيْئًا مِنَ الشَّدَائِدِ {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48] إِذَا كَانَتْ كَافِرَةً {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] أي فداء، {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 48] يُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
[49] {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} [البقرة: 49] أي أَسْلَافَكُمْ وَأَجْدَادَكُمْ فَاعْتَدَّهَا مِنَّةً عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ نَجَوْا بِنَجَاتِهِمْ، {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] أَتْبَاعِهِ وَأَهْلِ دِينِهِ، وَفِرْعَوْنُ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ الرَّيَّانِ، وكان من القبط {يَسُومُونَكُمْ} [البقرة: 49] يكلفونكم ويذيقونكم {سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة: 49] أَشَدَّ الْعَذَابِ وَأَسْوَأَهُ، وَقِيلَ: يَصْرِفُونَكُمْ في العذاب مرة هَكَذَا كَالْإِبِلِ السَّائِمَةِ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ جَعْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَدَمًا وَخَوَلًا، وَصَنَّفَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ فَصِنْفٌ يَبْنُونَ، وَصِنْفٌ يَحْرُثُونَ وَيَزْرَعُونَ، وَصِنْفٌ يَخْدِمُونَهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فِي عَمَلٍ وَضَعَ عليه الجزية، وقيل: تفسير قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة: 49] ما بعده وهو قوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [البقرة: 49] فهو مَذْكُورٌ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49] يَتْرُكُونَهُنَّ أَحْيَاءً، وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ نَارًا أَقْبَلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَحَاطَتْ بِمِصْرَ وَأَحْرَقَتْ كُلَّ قِبْطِيٍّ فِيهَا، ولم يتعرض لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَهَالَهُ ذَلِكَ وَسَأَلَ الْكَهَنَةَ عَنْ رُؤْيَاهُ فَقَالُوا: يُولَدُ ولد فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ غُلَامٌ يَكُونُ عَلَى يَدِهِ هَلَاكُكَ وَزَوَالُ مُلْكِكَ، فَأَمَرَ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِ كُلِّ غُلَامٍ يولد في بني إسرائيل {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] قِيلَ: الْبَلَاءُ: الْمِحْنَةُ، أَيْ: فِي سَوْمِهِمْ إِيَّاكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ مِحْنَةٌ عَظِيمَةٌ، وَقِيلَ: الْبَلَاءُ: النِّعْمَةُ، أَيْ فِي إِنْجَائِي إِيَّاكُمْ مِنْهُمْ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، فَالْبَلَاءُ يَكُونُ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ وَبِمَعْنَى الشِّدَّةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ يَخْتَبِرُ عَلَى النِّعْمَةِ بِالشُّكْرِ، وَعَلَى الشدة بالصبر، قال اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الْأَنْبِيَاءِ: 35]
[50] {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} [البقرة: 50] قِيلَ: مَعْنَاهُ فَرَقْنَا
(1/28)
 
 
لَكُمْ، وَقِيلَ: فَرَقْنَا الْبَحْرَ بِدُخُولِكُمْ إِيَّاهُ، وَسُمِّيَ الْبَحْرُ بَحْرًا لِاتِّسَاعِهِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْفَرَسِ: بَحْرٌ إِذَا اتَّسَعَ فِي جَرْيِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا دَنَا هَلَاكُ فِرْعَوْنَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أن يسير بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ لَيْلًا وَخَرَجَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سِتِّمِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ لَا يَعُدُّونَ ابْنَ الْعِشْرِينَ لِصِغَرِهِ وَلَا ابْنَ السِّتِّينَ لِكِبَرِهِ، وَكَانُوا يَوْمَ دَخَلُوا مِصْرَ مَعَ يَعْقُوبَ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ إِنْسَانًا مَا بَيْنَ رجل وامرأة، فَخَرَجَ فِرْعَوْنُ فِي طَلَبِ بَنِي إسرائيل، وعلى مقدمة عسكره هامان في أَلْفِ وَسَبْعِمِائَةِ أَلْفٍ، وَكَانَ فِيهِمْ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ دُهْمِ الْخ