مباحث التفسير لابن المظفر الرازي

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
 
الكتاب: مباحث التفسير لابن المظفَّر (وهو استدركات وتعليقات على تفسير الكشف والبيان للثعلبي)
المؤلف: أحمد بن محمد بن أحمد المظفر ابن المختار، أبو العباس بدر الدين الرازيّ الحنفي (المتوفى: بعد 630هـ)
 
 
القسم المحقق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة الفاتحة
1 - قال أبو إسحاق الثعلبي -رحمه الله-: " العلة في كسرة {باسم الله} أن الباء حرفٌ ناقص ممال، والإمالة من دلائل الكسرة ".
قلت: هذا باطل بالتاء فإنه حرف ناقص ممال ومع هذا لا يُكسر إذا أُلصقَ بالاسم بل يفتح فيقال تَالله.
2 - قال: " الدليل على أن الاسم هو المسمى قوله تعالى: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} ثم قال: " يا يحيى نادى الاسم ".
(1/67)
 
 
قلت: ما نادى الاسم وإنما نادى المسمَّى بالاسم تعريفاً.
3 - قال: " أصل الاسم سِمْو واشتقاقه من سما يَسمو وكأن المُخْبَرَ عنه معدوم وما دام معدوماً فهو في درجة يَرتفِع بها إذا وُجد ويَعلو بدرجةِ وجوده على درجة عدمه ".
قلت: هذا باطل بأسماء الله فإنه لا يتصور أنْ يُقال كانَّ المخبَر عنه معدوم ويعلو بدرجة وجوده على درجة عدمه وهذا محال بل كفر، ثم هذا الذي ذكره
(1/68)
 
 
من اشتقاق الاسم مِنْ سما يَسمو وأن أصله سموٌ قول البصريين، فأمَّا قول الكوفيين فأصل الاسم من الوسْم وهو العلامة قُلِبت الواو ألفاً.
وقول البصريين أقوى بدليل التصريف.
(1/69)
 
 
4 - قال: " في الحديث أن عيسى ابن مريم أرسلَتْهُ أمُّه إلى الكُتَّاب ليتعلم فقال له المعلم قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قال له عيسى: الباء بهاء الله ".
قلت: إن صح الحديث فلا يُعتَرَض عليه، ولكن دليل أنه غير ثابت وجوه:
الأول: أنه صح أن عيسى كان في بطن أمه يحفظ التوراة والإنجيل وكان يقرؤها وهو في بطنها بحيث يُسمع أمه فكيف أرسلتْه إلى الكُتَّاب ليتعلم
(1/70)
 
 
وهي تعلم من حاله ذلك، والدليل على ذلك أنه حين تكلم وهو طفل رضيع قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ}.
والثاني: أن (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) إنما قُرِئت وكتِبت بعد نزولها على نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وقبل ذلك كانوا يكتبون باسمك اللهم.
والثالث: أن معلم عيسى، وعيسى كانوا يقرؤون بالسّريانية لا بالعربية وهذا عربي.
والرابع: كيف قال عيسى: الباء بهاء الله والسين سناء الله، والباء حرف زائد والسين حرف أصلي، وعلى تقدير أن تكون التسمية في الإنجيل تكون بالسريانية لا بالعربية. فلا تكون بهذه الصيغة وهذه الحروف فلا يتصور أن يقال ذلك في تفسيره.
(1/71)
 
 
5 - ثم فسر {بسم الله} بالملك والمجيد وهذا بعيد جداً؛ لأن الباء حرف زائد والسين والميم أصليان فكيف يسوي بين الكل؟ ثم إنا نعلم يقيناً أن الباء ههنا للإلصاق والابتداء ألحقوها بالاسم، وهما حرف واسم مركبان لمعنى معلوم مشهور لا يُفهم غير ذلك المعنى، وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير الألفاظ عن معانيها الموضوعة لها لغة، وتحريف الكَلِم عن مواضعها وذلك غير جائز.
6 - قال: " أُدخِلَت الألف واللام بدلاً من الهمزة المحذوفة في (إله) فلزمتا الكلمة لزوم تلك الهمزة، وأجريتْ على الأصل، ولهذا لم يَدخُلْ عليه في النداء ما يَدْخُل على الأسماء المعرّفة من حروف التنبيه، فلم يقولوا: يا أيها الله ".
(1/72)
 
 
قلت: هذا لم يختص بالله فإن حروف التنبيه كما لم تدخل على الله كذلك لا تدخل على الرحمن، فلا يقال: يا أيها الرحمن. وإن لم يكن الألف واللام في الرحمن لازمتين؛ بل إنما لم يدخل التنبيه على أسماء الله سواء كان بالألف واللام، أو لم يكن؛ لأن التنبيه إنما يكون للغافل أو النائم، وتعالى الله عن ذلك. فعُلم أن ذلك ليس دليلاً، للزوم الألف واللام؛ بل دليل اللزوم أن في النداء يقال: يا الله، ولا يقال: يا الرحمن؛ بل يقال يا رحمن.
فلما صار ألف الله في النداء باقياً، وغير باقٍ في الرحمن عند النداء دلّ ذلك على لزوم الألف واللام في الله.
7 - قال: " قال الخليل بن أحمد وجماعة: الله اسم موضوع لله - عز وجل -
(1/73)
 
 
لا يَشْرَكهُ فيه أحد ".
قلت: كما قلت في أوّل الكتاب إنّ الاسم هو المسمى يَستحيل إذاً أن يكون الله اسماً موضوعاً؛ لأنه يلزم من كون الاسم موضوعاً كون المسمى موضوعاً مخلوقاً وهو كفر صُراح تعالى الله عن ذلك. فأنت بين أمرين: إما أن تُقرَ ببطلان هذا القول، أو ببطلان كون الاسم والمسمى واحداً.
8 - قال: " إذا أُطلق هذا الاسمُ على غير الله فإنما يقال بالإضافة كما يقال: إله كذا، أو يُنكرُ فيقال: إله كقوله: {اَجْعَل لنَاَ إِلهًا}.
قلت: لا يطلق قط هذا الاسم على غير الله لا مضافاً ولا منكراً، فإنا ما سمعنا قط يقال: إله بغداد أو إله الغلام، أو إله الدار، ولا أن يقال: فلان إله.
(1/74)
 
 
وإنما الله تعالى أخبر عن جماعة جُهّال أنهم اجترؤوا بهذا اللفظ وتجاسروا إساءة الأدب فقالوا: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ظناً منهم أن العِجْل هو الله المعبود جهلاً وكفراً تعالى الله عما يشركون.
9 - قال: " غلَّظ بعض القراء اللام في قوله: (الله) حتى طَبَّقوا اللسان به والحنك لفخامة ذكره، وللفرق بينه وبين اللات ".
(1/75)
 
 
قلت: إنما يغلظون إذا ذهبوا إليه من النصب أو الضم، أما إذا ذهبوا من الخفض فلا. بخلاف اللات فإنه لا يُغلظ في الأحوال كلها.
10 - قال: " جاء في الدعاء (يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة) ".
قلت: المروي: (يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما).
(1/76)
 
 
مطلب في البسملة
11 - قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكتبُ باسمك اللهم حتى نزل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فكتب مثلها ".
قلت: إنه مناقض لما رَوى في أول الكتاب أن أول ما نزل من القرآن: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وحجة هو أيضاً على من
(1/77)
 
 
يقول بأن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية من أول كل سورة؛ لأن قبل سورة النمل قد نزلت سُوَرٌ كثيرةٌ فلو كانت التسمية معها منزلة لم يتَوقفْ كتابتها على نزولها في سورة النمل.
12 - قال: " في حديث أبي هربرة يقول الله: (قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله: مَجدني عبدي، وإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فال الله: حمدني عبدي ... ) الحديث ".
قلت: حديث أبي هريرة حديث صحيح رواه مسلم عن قتيبة عن
(1/78)
 
 
مالك: (من صلى صلاة لم يقرأ بها بأم القرآن فهي خداج). إلى قوله: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين اقرأوا يقول العبدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يقول الله: حمدني عبدي ... ) الحديث. ولم يذكروا قوله: (إذا قال العبد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). وذكر الخطابي
(1/79)
 
 
والبغوي في كُتِبهِما أن بهذا الحديث يستدل من لا يرى التسمية آيةً من الفاتحة؛ لأنه لم يبدأ بها إنما بدأ بالحمد لله.
13 - قال في حديث أنس: " (صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}).
عُلِم بهذا أنه لم يَنفِ كون هذه الآية من جملة السورة ".
(1/80)
 
 
قلت: بل نَفَى؛ لأنه لو كان من جملة السورة لجهر بها كما جهر بالسورة؛ ولأنه تم استدلالهم به في ترك الجهر الذي هو عين الخلاف.
14 - قال: " قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اقرأ ما تيسر معك من القرآن) يحتمل أنه أراد كل ما وقع عليه اسم القرآن، ويحتمل أنه أراد سورة بعينها ".
قلت: لا يحتمل ذلك لأنه مطلق، والمطلق لا يحتمل التعيين.
15 - وقال: " بالعلة التي أوجبوا قراءة آية تامة مع قوله: (ما تيسر) أوْجَبْنا قراءة الفاتحة ".
(1/81)
 
 
قلت: في رواية عن أبي حنيفة يجوز دون آية بأن يقرأ أدنى ما ينطلق عليه اسم القرآن.
* * *
سورة البقرة
16 - قال في سورة البقرة: " لم تكن العرب تعرف الإيمان غير التصديق، والنقل عن اللغة لم يثبت فيه؛ إذ لو صح النقل عن اللغة لرُوي ذلك كما
(1/82)
 
 
رُوي في الصلاة التي أصلها الدعاء ".
قلت: بل النقل عن اللغة ثبت فيه وهو قوله تعالى: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}، وقول النابغة:
والمُؤمِنِ العَائذاتِ الطيرَ تَمْسَحُها ... رُكبَانُ مَكةَ بَين الغِيل والسِّنَدِ
17 - قال في قوله: {أتجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا}: " معناه: أتجعل فيها من يفسد فيها أم تجعل فيها من لا يفسد فيها ".
قلت: لو قدرنا هكذا لم ينتظم مع قوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} ومع
(1/83)
 
 
قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
18 - قال في قوله تعالى للملائكة: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ}: " دليل على جواز تكليف ما لا يطاق "
قلت: هذا أمر تعجيز لا أمر تكليف، والخلاف في أمر التكليف.
19 - قال: " الاسم كل لفظة دلت على معنى ما، وشيء ما، وهو مشتق من السمة وهي العلامة التي يُعرف بها الشيء ".
(1/84)
 
 
قلت: لو كان حد الاسم هذا؛ لكان الاسم غير المسمى؛ لأن الدليلَ غيرُ المدلول. ولو كان مشتقاً من السمة لكان أصله وَسْم، لا سِمو، وحينئذ يكون في التصغير وُسَيم لا سُميٌ وفي الجمع أوسام لا أسماءٌ.
20 - قال: " كان سجود الملائكة للَّهِ وآدم قبلة، وقيل سجد الملائكة وآدم للَّهِ، وقيل أقرَّوا له أنه خيرهم ".
قلت: هذا كله خلاف مدلول قوله: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} وخلاف النقل الصحيح، والأولى أن يقول: كان سجود التعظيم لا العبادة، ثم نسخ
(1/85)
 
 
في شرعنا. والله أعلم.
21 - قال: " سمي إبليس لأنه أبلس من رحمة الله كما يقال: يا خبيث ويا فاسق ولا ينصرف لاجتماع العجمة والمعرفة ".
(1/86)
 
 
قلت: قوله: " سمي إبليس لأنه أبلس " مناقض لقوله " اجتمع العجمة والمعرفة "؛ بل الصحيح أنه اسم عجمي فلذا لا ينصرف.
22 - قال: " أهل الجنة مأمورون فيها بالمعرفة ومكلفون بذلك ". قلت: المكلف يكون من الكُلفة وهي المشقة، ولا مشقة في الجنة، وحد ْالتكليف أنه لو أتى به يثاب، ولو أبى يعاقب، وليس ذلك في الجنة بل هم ملهمون للمعرفة والذكر كالتنفس.
(1/87)
 
 
مطلب في آدم عليه السلام:
23 - قال: " عن سعيد: ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حواء سقته الخمر حتى سكر فأكل ".
قلت: خمر الجنة لا يُسكر، ولو كان كذلك لما كان معاتباً ملوماً على أكل الشجرة.
(1/88)
 
 
24 - قال: " لا رخصة لأحد من المؤمنين البالغين في إفطار شهر رمضان إلا لأربعة وعد منهم المفرِّط في قضاء رمضان ".
قلت: المفرط لا رخصة له، ثم قال: " عليه القضاء والكفارة ".
25 - وكذا " على الشيخ الهرم، ومن به مرض لا يُرجى زواله قال: عليهم الكفارة ".
(1/89)
 
 
قلت: عليهم الفدية لا الكفارة.
26 - قال في قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}: " أمرهم بالتقوى، وكفِّ الظلم، وذكرهم سفر الآخرة، وحثهم على التزود للدارين فإن التقوى زاد الآخرة ".
(1/90)
 
 
قلت: لو كان المعنى ما ذهب إليه لكان: (وتزودوا وإن خير الزاد التقوى) بالواو لا بالفاء لاختلاف الكلامين، ولكن يشبه أن يكون المعنى في قوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} احملوا الزاد في طريق الحج فإن الخير الحاصل من زاد الطريق أن يتقو به مالَ الناس وأزوادَهم ولا يكونوا كلاً عليهم محتاجين إليهم.
27 - قال: " عند أبي حنيفة وصاحبيه إذا طهرت المرأة لعشرة أيام حلَّ
(1/91)
 
 
وطؤها دون أن تغتسل، وإن طهرت لما دون العشر لم يحل وطؤها إلا بإحدى ثلاث: أن تغتسل، أو يمضي بها أقرب وقت الصلاة، أو تتيمم ".
قلت: بل عند أبي حنيفة وأصحابه: إذا طهرت لما دون العشر لا يحل وطؤها إلا أن تغتسل، هكذا ذكر القدوري وفي رواية أو يمضي عليها وقت صلاة كامل ولم يذكر التيمم.
قلت: والذي ذكر من إحدى الثلاث ليس في هذه المسألة وإنما هي في المطلقة
(1/92)
 
 
الرجعية وهي أنه " إذا انقطع الدم من الحيضة الثالثة لعشرة أيام انقطعت الرجعة وإن لم تغتسل، كان انقطع لأقل من عشرة أيام لم تنقطع الرجعة حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة أو تتيمم وتصلي عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: إذا تيممت انقطعت الرجعة ".
28 - قال: " تقول العرب: أكفرتُه وأفسقتُه إذا نسَبْتُه إليها ".
(1/93)
 
 
قلت: أنكر القُتَبيُ هذا واستشهد ببيت لبيد:
مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيرِ اهْتَدَى ... نَاعِمَ البَالِ وَمَنْ شَاءَ أَضَلَ
(1/94)
 
 
29 - وقال: " أَفَتُرى لبيداً، أراد بقوله: من شاء أضل، أي سُمي ضالاً؟ لعمر الله ما عرف هذا لبيد ولا وجده في شيء من اللغات ". هذا
(1/95)
 
 
لفظ القتبي.
(1/96)
 
 
قلت: لعل كلام القتبي يشير إلى أن نسبة الرجل إلى الشيء يكون من التفعيل لا من الإفعال وفيه تقوية لحجة أهل السنة على القدرية في قوله: {يُضِل مَن يَشَآءُ}.
35 - قال: " إن نمروذ قال لإبراهيم: أنت تزعم أن ربك يحيي الموتى وتدعوني إلى عبادته، فقل لربك: يحيي الموتى إن كان قادرا، أو لأقتلنك.
فقال إبراهيم: رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن بأني أحي الموتى
(1/97)
 
 
قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي بقوة حجتي، ونجاتي من القتل فإن عدو الله تَوَعدني بالقتل إن لم تحي لي ميتاً ".
قلت: عدو الله ما كان يوعده بالقتل إن لم يحي الله لإبراهيم ميتاً، ولكن أوعده بالقتل إن لم يحي الله لنمروذ ميتاً بحيث يعاينه، وهذا سؤال إبراهيم إحياء الموتى كان في غيبة نمرود فلم تنقطع حجة نمروذ بالإحياء في غيبته؛ بل كان حجته قائمة من وجوه:
الأول: أن يقول كيف تدعي أن ربي الذي يحيي ويميت وما عاينتَه أنت ولا أنا، وإن ادعيت أنك عاينته فلا أصدقك إذ لم أعاين.
الثاني: أنك انتقلت من دليل إلى دليل آخر قبل تمام الأول وذلك انقطاع.
الثالث: أنك قصرت في الاحتجاج؛ لأنه كان لك أن تقول: فاحي هذا المقتول الذي قتلته الساعة.
الرابع: أنك ادعيت أن الله يأتي بالشمس من المشرق وهذا أيضاً دعوى من غير دليل ولا معاينة ومن يقول بأن الذي يأتي بالشمس من المشرق هو ربك يا إبراهيم؛ بل أنا الذي آتى بالشمس من المشرق كل يوم.
الخامس: أن قولك فأت بها من المغرب معارَض بمثله فليأت بها ربك من المغرب فهل تقدر أن تسأل ربك أن يأتي بها من المغرب؟ وإن سألته فهل هو فاعل ذلك وإن ادعيت أن ربي سيأتي بها من المغرب عند قرب الساعة فلا
(1/98)
 
 
يكون ذلك حجة علي في غيبتي.
وفي الجملة فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين.
31 - قال: " معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نحن أحق بالشك من ابراهيم) إنما شك إبراهيم أيجيبه الله إلى ما سأل أم لا؟ وهل يستجيب دعاه؟ وهل اتخذه خليلاً؟ ".
(1/99)
 
 
قلت: إبراهيم - عليه السلام - لم يَدْع الله بإحياء الموتى؛ لأنه لو كان داعياً لذلك لقال: اللهم أحي الموتى أو أحيي فلاناً؛ ولكنه سأل أن يرَيه كيفية الإحياء.
ولهذا قال الله تعالى: {قَالَ أولَم تُؤمِن} ولو كان سؤاله ليعلم أنه هل مجيبه أم لا؟ لما قال له: {أوَلَم تُؤمِن} كما لم يقل لعيسى: (بل يحي) بسؤاله؛ لأن قوله: {أولَم تُؤمِن} سؤال عن مطلق الإيمان فيكون ضده مطلق الشك لا الشك في الخلة والإيمان بالخلة.
(1/100)
 
 
32 - قال: " لا يقال للطائر إذا طار سعى، فقوله: {يَأتِينَكَ سَعْيًا} أي يأتينك وأنت تسعى سعياً ".
قلت: لا معنى لسعي إبراهيم في حال إتيان الطير إليه: لأنه محال انتظار إتيان الطير إليه، وفي تلك الحالة لا فائدة لسعيه، ونسبة ذلك إليه غير معقول.
33 - قال في قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} إلى قوله: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} قال: ". إنما رد الماضي على المستقبل لأن العرب تلفظ بوددتُ مرة مع (لو) وهي للماضي فتقول: وددتُ لو ذهبتَ عنا. ومرة مع (أن) وهي للمستقبل فتقول: وددت أن تذهب عنا. و (لو) و (أن) مضارعان في معنى الجزاء، ألا ترى أن العرب إنما جمعت بين (لو) و (أن) قال الله تعالى: {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا} كما يجمع بين (ما) و (أن) فلما جاز ذلك
(1/101)
 
 
صلح أن يقال: فعل بتأويل يفعل، ويفعل بتأويل فعل. وأن ينطق بـ (لو) مكان (أن)، وبـ (أن) مكان (لو) ".
قلت: هذا غلط ظاهر ولكل جواد هفوة؛ لأن ما ذكر من الجمع بين (لو) و (أن) واحتج بقوله تعالى: {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ} غير صحيح؛ لأنه ليس بجمع بين (لو) و (أَنْ)؛ وإنما هو جمع بين (لو) و (أنّ) المشددة، وما قرأ بالتخفيف أحد قط ".
وقوله: " (لو) و (أن) مضارعان في معنى الجزاء " ليس كذلك؛ لأن (أن) ليس من الجزاء في شيء؛ ولكن وجه الآية أنه تعالى إنما عطف بالماضي على المستقبل في قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} إلى قوله: {وَأصَابَهُ اَلْكبرُ} لأن إصابة الكبر ليس بمودود، والجنة من النخيل والأعناب مودود، فلما خالفا في المعنى خالفا في الصيغة، والواو في قوله: {وَأصَابَهُ} للحال وتقديره: أيود أن تكون له كذا وقد أصابه الكبر.
(1/102)
 
 
34 - قال في قوله تعالى: {فَنِعِمَّا هِيَ}: " (ما) في محل الرفع و (هي) في محل النصب كما تقول: نعم الرجل رجلاً ".
قلت: بل (هي) في محل الرفع لا في محل النصب؛ لأن (هي) معرفة وخبر نعم إذا كان معرفة يكون مرفوعاً كقولك: نعم الرجل زيد.
* * *
سورة آل عمران
35 - قال في قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ}: " إن الواو واو العطف يعني يعلمه الراسخون، وحينئذ يكون قوله: {يَقُولُون} حالاً والمعنى: والراسخون في العلم قائلين، كقول الشاعر:
فالرِيحُ تَبْكِي شَجْوَهَا ... وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي غَمَامَه
(1/103)
 
 
أراد والبرق لامعاً في غمامه يُبكى شجْوَه أيضاً، ولو لم يكن البرق يشرك الريح في البكاء لم يكن لذكر البرق ولمعانه معنى ".
قلت: لا يمكن أن يكون {يَقُولُونَ} حالاً؛ لأنه لو كان حالاً لكان حالاً للمذكورين قبل، والمذكورون الله والراسخون؛ لأن من قال: جاءني زيد وعمرو وبكر راكبين. يلزم أن يكون الركوب حال الثلاثة لا الأخير وحده، فعلى هذا يلزم أن يكون القول حالاً للَّهِ والراسخين فيكون تقديره: (يقول الله والراسخون آمنا به كل من عند ربنا) وذلك محال؛ لأن الله تعالى لا يوصف بالإيمان بمعنى التصديق.
وأما قوله:
36 - " الرِيحُ تَبْكِي شَجْوَهَا ... وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي غَمَامَه
(1/104)
 
 
أراد والبرق لامعاً ولو لم يكن البرق يشرك الريح في البكاء لم يكن لذكر البرق ولمعانه معنى ".
قلت: هذا لا يستقيم من وجهين:
أحدهما: أن قوله: (الريح تبكي شجوها) كلام تام مستقل، وكذا (البرق يلمع في غمامه) كلام تام مستقل مفيد لا يحتاج أحدهما إلى الآخر، ولا ضرورة في عطف البرق على الريح وجعل اللمعان حالاً.
والثاني: وهو أن البرق لا يجوز أن يشرك الريح في البكاء؛ لأن البرق لا يوصف بالبكاء، ولا مشابهة بينه وبين الباكي أصلاً ورأساً، وإنما يوصف البرق بالضحِك، والضياء، حتى أنّ من وصف البرق بالبكاء يُسَفهُ في رأيه، بل الريح أو الغيم يوصف بالبكاء، فيكون قوله (والبرق يلمع في غمامه) كلاماً مفيداً مستقلاً.
37 - قال: " لَدُن يُخفض بها على الإضافة وُيرفع على مذهب مذ، وأنشد قول أبي سفيان بن حرب على الوجهين:
(1/105)
 
 
وَمَا زَالَ مُهْري مَزْجَرَ الْكَلْب مَنْهِم ... لَدُنْ غُدْوَةٍ حتى دَنَتْ لِغُرُوبِ
قلت: لا يرفع بعدها على مذهب مذ، كما تقول: ما رأيته مذ يومان؛ بل ليس في لدن إلا الخفض بالإضافة. وينصب غدوةً بعدها والشعر مروي (لدن غدوةً) بالنصب لا غير.
38 - قال في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ}: " هذه اللام منقولة من أن بمعنى اللام ".
(1/106)
 
 
قلت: لا يمكن حمله على هذا؛ لأنه يصير تقديره: (ما كان أن بشر ليؤتيه الله كذا ثم يقول) وهذا خطأ ظاهر لا يفيد المعنى، بل الوجه والله أعلم أن يجعل اللام صلة، وكذلك أن تُجعَل صلة وتكون (ثم) بمعنى اللام فيكون تقديره: (ما كان لبشر يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ليقول للناس) حتى يستقيم استشهاده بقوله: " {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} أي: ما كان الله ليتخذ ولداً، وقوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أي: ما كان النبي ليغل. أو نقول: لا حاجة إلى هذا التكلف بل معناه: ما كان لبشر أن يؤتيه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه، كما تقول: ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني.
(1/107)
 
 
39 - قال: " البشر جمع بني آدم لا واحد له من لفظه، كالقوم، والجيش، ويوضع موضع الواحد في الجمع ".
قلت: أما القوم فيوضع موضع الواحد في الجمع؛ لأن جمعه أقوام، وكذلك الجيش لأن جمعه جيوش، وأما البشر فليس له جمع كالقوم والجيش، فإنه ما سُمع الأبشار ولا البُشور؛ ولكنه يوضع الواحد في اللفظ كما وضع ههنا في موضع الواحد، وهو قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أن يُؤْتِيَهُ} فهو واحد من حيث اللفظ، جمع من حيث المعنى والله أعلم.
45 - قال: " عند أبي حنيفة وأصحابه يجوز للمريض أن يُحِجَّ عن نفسه ولو حُجَّ عنه وبَرَأَ سَقَطَ عنه فرضُ الحج ".
قلت: إن برأ لا يسقط عنه فرض الحج، وإن دام المرض إلى الموت يجزيه كذا ذكر في التجريد والله أعلم.
(1/108)
 
 
سورة النساء
41 - قال في قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال: " تمام الكلام عند قوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ثم افتتح قصة صلاة الخوف بغير واو العطف، بفال إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا، يريد وإن خفتم كقوله: {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ} وقوله: {مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}.
(1/109)
 
 
قلت: لا يستقيم هذا النظم؛ لأنه لو كان تمام الكلام عند قوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} لكان قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ} شرطاً بغير جزاء، وكلاماً غير تمام ولا متناسب مع نفي الحرج سواء أضمرت فيه الواو، أو لم تضمر بخلاف قوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} لأنه كلام تام، والدليل على أن قوله:
(1/110)
 
 
{إِنْ خِفْتُمْ} متصل بالكلام الأول حديث يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: فِيمَ قَصَر الناسُ الصلاةَ اليوم وإنما قال الله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقد ذهبَ ذلك الخوفُ اليوم. فقال عمر: عجبتُ لما عجبتَ منه فذكرتُ ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (صدقة تَصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته). فثبت القصر بالسنة لا بالكتاب إلا أن الآية نزلت على غالب أسفار النبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثرها لم يَخْلُ عن خوف العدو، والحكم إذا ثبت لسبب ثم زال ذلك السبب يثبت الحكم، كما قلنا في الرمل في الطواف فإنه كان في الأول إظهاراً للتجلد على المشركين فزال السبب وبقي الحكم كذلك ههنا، وإنما عرفنا بقاء الحكم بالحديث عن ابن عباس قال: " سافر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(1/111)
 
 
بين مكة والمدينة لا يخاف إلا الله يصلي ركعتين ". وليس هذا من باب نسخ الكتاب بالسنة؛ بل هو من باب البيان والتفصيل والله أعلم.
(1/112)
 
 
سورة المائدة
42 - قال في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} قال: " عند محمد بن الحسن لا يجب غسل المرفقين في الوضوء ".
قلت: بل يجب عنده.
43 - وقال: " عند أبي يوسف فرض المسح نصف الرأس ".
(1/113)
 
 
قلت: بل عنده قدر ربع الرأس.
44 - وقال: " عند الشافعي يجوز إذا مسح مقدار ما يُسمَّى مسحاً لقوله: {وَامسَحُوا} فقد حصل من طريق اللسان ".
قلت: الواجب عليه المسح الشرعي وهو المقدر بالربع والناصية بالحديث. لا المسح اللغوي.
45 - قال: " {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} الباء تدل على التبعيض ".
قلت: نعم تدل على التبعيض، وذلك البعض مقدر بالناصية
(1/114)
 
 
بالحديث، لا بشعرة واحدة. و" احتج بحديث المغيرة توضأ فمسح بناصيته ".
قلت: لا يصلح هذا حجة لمن يقول بأن الفرض مقدار شعرة واحدة، لكثرة شعرات الناصية كما هو حجة لأبي حنيفة وأصحابه.
(1/115)
 
 
46 - وقال: " الكعبان هما الناتئان من جانبي الرجل وعليهما الغسل وخالف محمد بن الحسن فقال: فهو الناتئ من ظهر القدم ".
قلت: لم يخالف محمد بن الحسن في ذلك.
47 - قال: " في كفارة اليمين جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أوجبت، فقال: (أعتق رقبة) فجاء برقبة أعجمية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من ربك؟) ففهّمها الله فأشارت أنه واحد، فقال لها: (من أنا؟) فأشارت إلى السماء أي إنك رسول الله ".
قلت: هذا تغيير وتحريف لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظاً ومعنى، فإن هذا الحديث خرجه مسلم في الصحيح بطُرُق: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: (أين الله؟) فقالت في السماء، فقال: (من أنا؟) فقالت: أنت رسول الله. فقال - صلى الله عليه وسلم -: (أعتقها
(1/116)
 
 
فإنها مؤمنة).
(1/117)
 
 
48 - قال في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا}: " أنه نزل حين سألوه - صلى الله عليه وسلم - عن الذين ماتوا وهم يشربون الخمر فيما طعموا، أي شربوا من الخمر {إِذَا مَا اتَّقَوْا} الشرك {وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا} الخمر والميسر بعد تحريمهما {ثُمَّ اتَّقَوْا} ما حرم الله عليهم كله، {وَأَحْسَنُوا} ".
(1/118)
 
 
قلت: لا يصح هذا التفسير؛ لأنه كما ذكر نزل في الذين ماتوا شاربين قبل التحريم فكيف اتقوا الخمر بعد التحريم؟ والاتقاء من الميت محال. وإنما الصحيح أن يقال: ليس عليهم جناح فيما طعموا أي شربوا من الخمر قبل التحريم إذا ما اتقوا الشرك، وآمنوا، وعملوا الصالحات، ثم اتقوا ما حرم الله عليهم كله، وآمنوا، وثبتوا على الإيمان، ثم اتقوا أي ثبتوا على التقوى وأحسنوا، والدليل على أن هذه الآية نزلت في الذين ماتوا شاريين قبل التحريم ما رُوي أن جماعة في إمارة عمر بن الخطاب شربوا الخمر فقيل لهم هذا (شربتم الخمر؟ قالوا: هي حلال) علينا لأن الله تعالى يقول: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا) ونحن اتقينا وآمنا
(1/119)
 
 
فذكر ذلك إلى عمر فشاور في ذلك جماعة من الصحابة فبعضهم أفتى بقتلهم، وبعضهم بتركهم، وبعضهم سكتوا، فسأل علي بن أبي طالب فقال: " يُستحضرون ويسألون هل بلغكم التحريم؟ فإن قالوا: لا، يُبَلغون ويعلمون أن الآية نزلت في الذين ماتوا شاربين قبل التحريم ويستتابون فإن تابوا تركوا، وإن قالوا: بلغنا التحريم ونُأوِلُ هذه الآية يعلمون تأويلها فإن قبلوا وتابوا وإلا ضربت أعناقهم، ففعلوا فقبلوا وتابوا.
* * *
سورة الأنعام
49 - قال في قوله تعالى: " {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} أي هل رأيتم ".
قلت: لعله ذهب بهذا التفسير إلى أنه من الرؤية وليس كذلك؛ لأنه حينئذ
(1/120)
 
 
لا ينتظم مع قوله: {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} لأن قوله: {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} مستقبل، فيستحيل أن تتعلق به الرؤية الماضية. وإنما معنى قوله: {أَرَأَيْتَكُمْ} وأرأيت وأرأيتم أي ما تقولون معناه الاستخبار يقول أخبروني والله أعلم.
50 - قال في قوله {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي}: " فيه أربعة أوجه من التأويل:
الأول: أن إبراهيم - عليه السلام - أراد أن يستدرجهم بهذا القول وُيعَرِّفَهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عَظمُوه، وُيقيم عليهم الحجة فلما أَفَل (أراهم النقص) الداخل عليهم وكانوا يعظمون النجوم، قال: وهذا مثل
(1/121)
 
 
الحواري الذي ورد على قوم يعبدون صنماً فأظهر تعظيمه وعبده فأكرموه، إلى أن دهمهم عدو فدعوا الصنم فلم يكفهم، فقال لهم: ندعوا إله السماء، فدعوه فرفع عنهم فأسلموا.
الثاني: إن إبراهيم رآهم يعبدون النجوم فقال لهم على جهة الاستفهام {هَذَا ربِي} يعني أهذا ربي؟.
الثالث: أنه قاله على وجه الاحتجاج على قومه لا على معنى الشك، كأنه قال: هذا ربي عندكم فيما تظنون، فلما أفل قال: لو كان إلهاً لما غاب، كقوله: وانظروا إلى إلهكم بزعمك.
الرابع: أن في الآية إضماراً أي قال: يقولون هذا ربي ".
قلت: كل هذه الوجوه للضعف من عِلَلِ النحويين: أما الأول قال: " إن إبراهيم أراد أن يستدرجهم ويعرفهم خطأهم " قلت: هذا لا يشبه الاستدراج؛ لأن هذا كله كان في ليلة واحدة، أو في ساعة من الليل في زمان غفلة الناس ونومهم وزمان الخلوة، وبحيث لا يسمعه إلا قليل منهم، والاستدراج إنما يكون إذا دام على ذلك مدةً واشتهر منه ذلك، وكثر سماعهم منه، كما حُكي عن الحواري، وأين هذا من حكاية الحواري؟ فإن الحواري عبد الصنم مدة حتى وثقوا به ثم أراهم عجزه عن الإجابة وعدم الكفاية، وذلك نقصان
(1/122)
 
 
ظاهر، أما ههنا لم يرهِم إبراهيم نقصاً؛ لأنه قال: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} والأفول الغيبة، ولا نقص في الغيبة فإن إله السماء والأرض أيضاً غائب عن الأبصار، وهو معنى قوله: {يُؤمِنُونَ بِالغَيْبِ}. ثم قال: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} ولم يقل لا أحب المسخرين، أو لا أحب المحدودين المتحيزين.
وأما الوجه الثاني: قال: " إن إبراهيم رآهم يعبدون النجوم فقال على جهة الاستفهام (أهذا ربي) قلت: هذا أيضاً بعيد من وجوه:
الأول: إن قوم نمروذ ما كانوا يعبدون النجوم وإنما كانوا يعبدون نمروذ والأصنام، بدليل سياق القصة فإن إبراهيم قال لأبيه: من ربك؟ قال: نمروذ ولم يقل النجوم، وبدليل كسر الأصنام، وبدليل قوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}؛ ولأنه ما سُمع أن أحداً من الأمم الضالة جمع بين عبادة الكوكب، والقمر، والشمس، وإنما كان بعضهم يعبدون نجماً، وبعضهم يعبدون الشمس.
(1/123)
 
 
الثاني: أن إدراج ألف الاستفهام فيه خلاف الأصل.
الثالث: أن هذا لو كان استفهاماً منه لما كان تبرِّيه موقوفاً على الأفول بل تبرأ في الحال، وإنه ما تبرأ إلا بعد الأفول، والأفول الغيبة، ولا نقص في الغيبة فلا حجة فيها لأن استفهام الإنكار يكون نفياً، فيكون نافياً في الحال، والله أخبر أنه إنما نفي بعد الأفول.
وأما الوجه الثالث: قال: " إنما قاله على وجه الاحتجاج لا على وجه الشك كقوله: {وَانظُر إِلى إِلهِكَ} ".
قلت: هذا أيضاً بعيد؛ لأنه لا احتجاج في ذلك لما ذكرنا أن الأفول هو الغيبة، ولا نقص في الغيبة فلا حجة فيها، ولو قاله بطريق الاحتجاج على زعمهم لقال: (هذا ربكم) وما قال (ربي)، ولأنه لو قاله على زعمهم لكان هذا الكلام متصلاً بكلام آخر، كما حكي عن موسى حيث قال للسامري: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} الآية، وإنه قال هذا ربي ابتداءً مفرداً فلا زعم ولا احتجاج.
(1/124)
 
 
وأما الوجه الرابع: قال: " فيه إضمار معنى يقولون هذا ربي ".
قلت: هذا أيضاً بعيد؛ لأن الإضمار في المواضع الثلاثة خلاف الأصل؛ ولأنه لو كان كذا لقال: (يقولون هذا ربنا) ولتبدأ في الحال، وما انتظر الأفول بل ألزمهم لعيب آخر فيه أشد من الأفول كما ذكرنا.
فإن قيل فما الوجه؟ قلت: إنما قال هذا كله في صغره قبل البلوغ، وقوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} لام العاقبة، وقد صار من الموقنين بعد ذلك.
(1/125)
 
 
51 - قال في قوله تعالى: " {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} لا تحيط به الأبصار بل تراه ولا تحيط به كما نَعْرِفُه "
قلت: هو تناقض لأن العرب تقول أدركه البصير إذا رآه. فلا معنى لقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} أي ما تراه، واستشهد بقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}.
قلت: معناه لا يعلمون ذاته.
(1/126)
 
 
52 - قال: " كما أخبر عن قوم موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} وكان قوم فرعون قد رأوا موسى ولم يدركوه "
قلت: ليس هذا نظيره؛ لأن قوله: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} غير مقرون بالبصر، فلا يكون بمعنى الرؤية، وههنا مقرون بالبصر فيكون بمعنى الرؤية.
53 - قال: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} في الدنيا ".
قلت: يلزم من ذلك زوال التمدح لأنه خرج مخرج المدح.
(1/127)
 
 
54 - قال في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا}: " إن شئت نصبته أي (جعلنا مجرميها أكابر) وإن شئت خفضته على الإضافة ".
قلت: خفضه بالإضافة لا وجه له؛ لأن الجَعْل ههنا لو لم يكن له مفعولان لم يتم الكلام؛ لأنك إذا قلت: جعلتُ غلامَ زيد لا يتم الكلام حتى تقول: رئيسها. فلو قدَّرت مجرميها خفضاً بالإضافة كان كقولك: جعلت غلام زيد، وقوله: {فِى كُل قَرْيَةٍ} لا يصلح مفعوله الثاني؛ لأن الكلام لا يتم به؛ لأنه لا يصلح عَرَضاً.
55 - قال في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ}:
(1/128)
 
 
" يعني قدر مدة ما بين بعثهم إلى دخولهم النار ".
قلت: لا يصح على هذا الوجه، لأن الاستثناء إخراج الشيء مما دخل فيه غيرُه. وهذا الخطاب إنما يكون لهم في القيامة، وفي القيامة قَدْر مُدَة ما بين بعثهم إلى دخول النار مضى وانعدم؛ لأنه استثناء من الخلود، والخلود يكون بعد الدخول؛ لأنه يستحيل الخلود في النار قبل الدخول فيها، ولا يصح الاستثناء المعدوم من الموجود.
56 - قال: " عن بعضهم هذا الاستثناء هو أن لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه بالجنة أو النار ".
قلت: ذلك في الأشخاص المعينين، أَمَا يجوز أن يُحكم للكفار مطلقاً بالنار، وللمؤمنين مطلقاً على العموم بالجنة لورود العمومات؟.
57 - قال: " إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ فكان ما شاء الله الأبد ".
قلت: هذا أيضاً لا يصح؛ لأن الأبد والخلود واحد، ولا يجوز استثناء
(1/129)
 
 
الشيء من نفسه، كما لا يجوز أن يقال جاءني العشرة إلا العشرة، ولو قال: أنت طالق (ثلاثاً) إلا ثلاثاً يبطل الاستثناء، لأن ذلك استثناء الكل من الكل (فكذلك) ههنا.
58 - قال {خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ}: " يعني سوى ما شاء الله من أنواع العذاب ".
قلت: هذا أيضاً لا يصح؛ لأن أنواع العذاب زائد على نفس الخلود، ولا يجوز استثناء الأكثر من الأقل، كما لا يجوز جاءني عشرة إلا عشرون.
59 - وقال: " إلا ما شاء الله من إخراج أهل التوحيد من النار ".
قلت: هذا أيضاً لا يصح؛ لأن هذا الخطاب مع الكفار لأن أول الآية: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ} وأولياؤهم كفار؛ ولأن عموم هذا الخطاب وهو قوله: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} لا يجوز أن يكون لجماعة فيها المؤمنون الموحدون.
60 - قال: " إِلا مَا شَاءَ اللهُ أن يزيدهم من العذاب فيها ".
قلت: قد ذكرنا أنه لا يجوز استثناء الأكثر من الأقل، حتى أن من قال لفلان علي درهمان إلا أربعة دراهم يبطل الاستثناء.
(1/130)
 
 
61 - قال: " إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ من كونهم في الدنيا بغير عذاب ".
قلت: قد ذكرنا أن هذا الخطاب إنما يكون لهم يوم القيامة، ويوم القيامة يكون كونُهم في الدنيا بلا عذاب ماضياً منعدماً، ولا يصح استثناء المعدوم من الموجود؛ لأن الاستثناء إخراجٌ، والمعدوم خارج، وإخراج الخارج محال.
62 - قال: " إِلا مَا شَاءَ اللهُ يعني من سبق في علمه أنه يؤمن ".
قلت: هذا الخطاب إنما يكون لهم يوم القيامة؛ لأنه قال: {وَيَومَ يحشُرُهُم} ويوم القيامة لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل.
فإن قيل فما وجه الآية؟.
قلت: وجهها أنه استثنى الذين آمنوا وإن ارتكبوا الكبائر، ويجوز أن يسمى مرتكب الكبائر ولي الجن أو مطيع الشيطان، فيكون التقدير: النار مثواكم خالدين فيها إلا من آمن منكم في الدنيا فيكون (ما) بمعنى (مَنْ) ويجوز أن يكون هذا استثناء غير واقع وذلك كثير في كلامهم.
(1/131)
 
 
63 - قال في قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قال: " كذبهم الله في قولهم: (إن الله رضي ما نحن عليه) قال: والدليل على أن التكذيب ورد في هذا، لا في قولهم (لو شاء الله ما أشركنا) قوله: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من التكذيب، ولو كان ذلك خبراً من الله عن تكذيبهم في قولهم: (لو شاء الله ما أشركنا) لقال: (كذَب الذين من قبلهم) بتخفيف الذال، وكان نسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب ".
قلت: ليس كذلك من وجهين:
أحدهما: أن قولهم: (إن الله رضي منا ما نحن عليه) غير مذكور في الآية، ولا يجوز أن يُتقول عليهم ما لم يقولوا.
(1/132)
 
 
الثاني: أنه تعالى قد نسبهم إلى الكذب أيضاً كما نسبهم إلى التكذيب بقوله في آخر الآية: {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} أي تكذبون. ولكن الجواب: أن الله تعالى كذبهم في قولهم: (لو شاء الله ما أشركنا) كما كَذَّب المنافقين في قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} ولو كان عين هذا الكلام منها وهو قوله: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} لكان صدقاً، وهو من المنافقين كذب، كذلك قولهم: (لو شاء الله ما أشركنا) كذب منهم، صدق منا، والأعمال بالنيات، وتختلف الأقوال باختلاف العقائد فبطلت حجة القدرية والله أعلم.
(1/133)
 
 
سورة الأعراف
64 - قال في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}: " قالت عائشة: مكارم الأخلاق عشر صدق الحديث "
قلت: هو من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من كلام عائشة رواه الأوزاعي عن الزهري عن عروة قال: سمعت عائشة تقول: كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (مكارم الأخلاق عشر) وذكر الحديث.
(1/134)
 
 
سورة الأنفال
65 - قال في قوله تعالى: {وَمَا رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ}: " قال حكيم بن حزام: لما كان يوم بدر سمعنا صوتاً وقع من السماء كأنه صوت حَصَاة على طَسْت، ورَمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الرمية فهزمناهم ".
(1/135)
 
 
وقال في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: " إنها نزلت في المطعمين يوم بدر وهم أبو جهل وعتبة وشيبة والنضر وأمية وحكيم بن حزام ".
(1/136)
 
 
قلت: وهذا تناقض، لأن القول الأول يدل على أن حكيم بن حزام يوم بدر كان مسلماً والثاني يدل على أنه كان كافراً يوم بدر. والصحيح أن حكيم بن حزام يوم بدر كان مع المشركين وإنما أسلم يوم فتح مكة.
* * *
سورة التوبة
66 - قال في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} قال: " أُتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسير يقال له: أبو ثمامة وهو سيد اليمامة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أبا ثمامة أيما
(1/137)
 
 
أحب إليك أعتقك أم أفاديك أم أقتلك أم تسلم؟) فقال: إن تعتق تعتق عظيماً، وإن تفاد تفاد عظيماً، وأَمَّا أَنْ أُسْلم فوالله لا أسلم أبداً. قال: (فإني أعتقك). قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ".
قلت: على غير هذا الوجه مَرْوي وهو حديث صحيح رواه البخاري عن عبدالله، ومسلم عن قتيبة كلاهما عن ليث عن سعيد عن أبي هريرة قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خيلاً قِبَل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة
(1/138)
 
 
ابن أثال فربطوه في سارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ما عندك يا ثمامة) فقال: " عندي خير يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تُنْعِم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسأل منه ما شئت ". حتى كان الغد ثم قال له: (ما عندك يا ثمامة) فقال: إن تنعم تنعم على شاكر، فأطلقه حتى كان بعد الغد، فقال: (ما عندك يا ثمامة) قال: عندي ما قلت لك، قال: (أطلقوا ثمامة) فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد: فقال: " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله " الحديث.
67 - قال في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}: " لا يتوارث مسلم ومشرك إلا صاحب جزية مقر بالخراج.
(1/139)
 
 
قلت: صاحب الجزية المقر بالخراج لا يَرِث المسلم، ولا يرثه المسلم بالاتفاق.
68 - قال في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ}: " ابن السبيل هو الحاج المنقطع عند فقهاء العراق ".
قلت: بل عند فقهاء العراق " ابن السبيل من كان له مال في وطنه وهو في مكان لا شيء له فيه " سواء كان من الحاج أو غيرهم، فأمَّا قوله تعالى: {وَفي سَبِيلِ اللَّهِ} فهو عند محمد بن الحسن المنقطع الحاج، وعند أبي حنيفة
(1/140)
 
 
وأبي يوسف منقطع الغزاة.
69 - قال: " أخذ بظاهر قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}.
قلت: لو أخذنا بظاهره لكان معناه أباني هذا المسجد خير أما باني ذاك المسجد؛ لأنه ذكره بلفظ (مَنْ)، و (مَنْ) للعقلاء، ونعلم أن تفضيل الباني على الباني ليس بمراد، بل تفضيل المسجد على المسجد هو المراد.
فيكون (من) ههنا بمعنى (ما) وقد يقام إحداهما مقام الأخرى قال الله تعالى: {وَالسماءِ وَمَا بَنَاهَا} أي ومن بناها، وقال: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} أي ما يمشي، والدليل على أنه بمعنى (ما) قراءة نافع،
(1/141)
 
 
وأهل الشام {أَفَمَنْ أُسِّسَ بُنْيَانُهُ} بضم الهمزة والنون، فيكون تقديره (فما أُسس بنيانه على التقوى خير أم ما أُسس بناينه على شفير جهنم) ومن قرأ (أَسس) يكون معناه والله أعلم (أفما أَسس بنيانه المؤسَس على التقوى خير أم ما أَسس على الشفا)، أو نقول معناه (فمن أَسس بنيان دينه على التقوى خير أم من أَسسه على قاعدة ضعيفة وحالِ الباطل).
70 - قال في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى}: " أنها نزلت في أبي طالب، وأنه لما حضرته الوفاة دخل عليه
(1/142)
 
 
النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (أي عم إنك أعظم الناس عليَّ حقاً، وأحسنهم عندي يداً، فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي لا إله إلا الله). فقال أبو جهل: أترغب عن ملة عبد المطلب، ففال: أنا على ملة عبد المطلب، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (لأستغفرن لك ما لم أُنه). فنزل قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية ".
قلت: هذا بعيد لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن، ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام بمكة، فكيف يكون سبب نزول هذه الآية استغفاره له؟
(1/143)
 
 
والذي نُقل عنه أنه قال بل على ملة عبد المطلب ليس فيه ما يَدُلُ على كفره؛ لأن عبد المطلب مات في الفترة، ولم تبلغه الدعوة، ولم يَكفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل نُقل عنه ما يدل على إيمانه وهو حبه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتربيته له، وقوله: إن لهذا البيت رباً ينصره لأبرهة، ودعاؤه وإجابة الله دعاءه في وجدان النبي - صلى الله عليه وسلم - حين فقده، وفي الاستسقاء وغيرها، فما نقل منه شيء يدل على الكفر بالله
(1/144)
 
 
ولا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يكون عبد المطلب من أهل النار بالكتاب والسنة، أما الكتاب قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} أما السنة فقد جاء في الحديث: (ثلاثة يأتون يوم القيامة بحجة وعذرٍ منهم رجل مات في الفترة).
أما ما ذكر من حديث عليٍّ أنه قال: (إن عمَّك الضال قد مات)
(1/145)
 
 
فقال: (اذهب فواره فواراه، فدعا لعلي). ليس فيه أيضاً ما يدل على كفره، لأن الضال قد يطلق على غير الكافر قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}، ولا يجوز الكفر على الأنبياء في حال من الأحوال، وقول إخوة
(1/146)
 
 
يوسف: {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ}، وقوله لحاطب بن أبي بلتعة: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} بل دُعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي عقيب دفنه أبا طالب يدل على إسلامه؛ لأن بدفن المسلم يستوجب الدعاء لا بدفن الكافر، وعدم شهود النبي - صلى الله عليه وسلم - دفنه لا يدل على كفره؛ لأن حينئذ لم يكن صلاة الجنازة مشروعة بعد، وأما ما رُوي من شِعْره فذاك أيضاً لا يدل على كفره وهو قوله:
والله لَنْ يَصلُوا إلَيكَ بجَمْعِهمْ ... حَتَى أُوَسَّدَ فِي التُرَابِ دَفِيْناً
فاصْدَعْ بأمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ... وَابْشِرْ وَقَرّ بذَلِكَ مِنْكَ عُيُوناً
وَلَقدْ دَعَوْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنكَ نَاصحِي ... وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أَمِيْناً
وَعَرَضْتَ دِيناً لا مَحالَةَ أَنه ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ البَرَّيةِ دِيْناً
لولا الملاَمَةِ أَو حِذاري سَبَّة ... لَوَجَدتَنِي سَمْحاً بذَلِكَ مُبيْناً
أما الأبيات الأربعة فكلها تدل على إسلامه حيث صرّح فيها بتصديقه، ومدحه، ونصرته، وأما البيت الأخير فلا يدل على كفره؛ لأنه قال:
(1/147)
 
 
(لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً) والمبين المظهر، ويجوز أن يكون قد تكلم بكلمة الإسلام سراً ولم يظهرها بدليل ما نُقل عن ابن عباس أنه قال: " أسرَّ أبو طالب بكلمة الشهادة "، وكذلك قوله: (إن أبا طالب لفي ضحضاح من النار) لا يدل على كفره؛ لأن المؤمن قد يكون في أكثر من الضحضاح لتقصير صدر منه، ثم يخرج من النار ويدخل الجنة لإيمانه، على أن هذا الحديث
__________
* لا يخفي ما في هذه التأويلات من تكلف، والراجح عند المحققين أن أبا طالب مات على الكفر. والله أعلم.
(1/148)
 
 
وأمثاله من أخبار الآحاد وأخبار الآحاد لا توجب العلم، وإنما توجب العمل، والذي نحن فيه من باب العلم، فلا تكون هذه الأخبار فيه حجة. على أنها معارَضَةُ بحديث جبربل لمحمد: (أن الله حرم على النار حِجْراً أكفلك وبطناً حملك وثدياً أرضعك) (1) (2).
والدليل على إسلام أبي طالب أنه ثبت بطريق التواتر أنه كان يحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وينصره ويوقره، ويكفُّ عنه أذى المشركين وهذا كله دلائل الإسلام، لأن الكافر لا يحب النبي ولا ينصره، بل يبغضه ويخذله، ولا يُحْمَلُ ذلك على القرابة، فإن أبا لهب كان عمه وكان مُظهراً للبغض والعداوة، فإن من كان
__________
(1) حديث موضوع، أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات (2/ 10) برقم (545) في كتاب الفضائل.
(2) من عجيب صنيع الرازي أنه يرد الأحاديث الثابتة الصحيحة بحجة أنها أخبار آحاد ثم يعارضها بالأحاديث الموضوعة!!.
(1/149)
 
 
كافراً فدينه وطبعه يحملانه على عداوة المسلمين فعلاً وقولاً.
والثاني: أنه ثبت أيضاً بالنقل المتواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحبه ويصاحبه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحب الكافر شرعاً وطبعاً، مع أنه مأمور بمجانبة الكافر، ومعاداة المشركين الفجار قال الله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} وقال: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} ولا يُحمل ذلك على القرابة فإن أبا لهب كان أيضاً عمه وما كان يحبه. كيف وقد نفى الله تعالى المحبة من المسلم للكافر مع وجود القرابة القريبة بقوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية.
(1/150)
 
 
الثالث: أنه ثبت بالنقل عن الرواة والثقات: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعوا له، ويشكره ولا يليق بحال النبوة الثناء على المشركين، والدعاء لهم بما يُدْعى به للمسلمين المؤمنين، من ذلك ما رُوي في حديث الاستسقاء أنه قال: (لله در أبي طالب لو كان حياً لقرت عيناه) ثم قال: (أيكم ينشدنا شعره) فأنشده عليُ ابن أبي طالب:
وأبيَض يُسْتَسْقى الغَمام بوَجْهِهِ ... ثِمَال اليَتَامَى عِصْمَة لِلأَرَامِلِ
يَلوذ بِهِ الهَلاكُ مِنْ آل هَاشِم ... فَهمْ عِنْدَهُ فِي نِعْمَةٍ وَفَوَاضلِ
كذبْتُمْ وَبَيْتُ الله نُبَزى مُحَمَّداً ... وَلَمَّا نُقاتِل دُوْنَهُ وَنَنَاضلِ
ومن ذلك ما روى محمد بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على أبي طالب في
(1/151)
 
 
مرضه فجلس إليه فقال: (يا عم جُزيت عني خيراً كفلتني صغيراً وحضنتني كبيراً فجزيت عني خيراً) وفي حديث سعيد بن المسيب قال له: (يا عم إنك أعظم الناس عليَّ حقًّا وأحسنهم عندي يداً، ولأنت أعظم عليَّ حقاً من والدي) ولو لم يكن أبو طالب أهلاً للإسلام لما وفقه الله تعالى لمثل تلك الصنائع المعروفة إذ لا يليق بحكمة الحكيم أن يُجري تلك الأمور على يد المشرك، أو لا يرزق الإسلام من كان على مثل تلك الأفعال والأقوال، قال الله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} والله لا يخلف الميعاد. وأما ما نقلوه في التفاسير أنه نزلت فيه آيات مثل قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} وقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وقوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} فكل ذلك ورد بطريق
(1/152)
 
 
الآحاد عن بعض المفسرين وقد ذكرنا أن أخبار الآحاد لا توجب العلم ولا تعارِض ما ذكرنا من الأخبار المتواترة (1)، والدلائل القطعية من النقلية والعقلية. كيف وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعوا للأجانب بالهداية والتوفيق؟ فلا يُظن به وهو أوصل الناس للأرحام، وأحرصهم على الإسلام أنه لم يكن يدعوا لأبي طالب مع ما له من الأيادي، ودفع العوادي من الأعادي، ولا يستجيب الله تعالى دعاءه فيه ولا يحقق ما يأمله ويرتجيه والله واسع حكيم.
__________
(1) لم أجد فيما ذكر من دليل أنه متواتر! بل هي للضعف والوضع أقرب.
(1/153)
 
 
71 - قال في قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}: " (ما) صلة أي عنتم، وهو دخول المشقة عليكم ".
قلت: ليس (ما) صلة؛ لأنه لا يستقيم النظم وشديد عليه دخلتم في المشقة، ولكن (ما) مصدرية يعني: شديد عليه عنتكم، أي دخولكم في الحرج والمضرة. والله أعلم.
(1/154)
 
 
سورة يونس
72 - قال في قوله: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}: " هنالك آمنتم ".
قلت: (ثُمَّ) للتعقيب والتأخير وهي من حروف العطف. وهنالك معنى (ثَمَّ) لا معنى (ثُمَّ)، والأشبه أن يكون معناه: أبعد وقوع العذاب آمنتم به. والله أعلم.
73 - قال في قوله: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ}: " أخفوا {النَّدَامَةَ} على كفرهم {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ}.
قلت: هو مثل قوله في سورة سبأ {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} وذكر ثم: " أظهروا
(1/155)
 
 
{النَّدَامَةَ} والإسرار من الأضداد يكون بمعنى الإخفاء والإظهار والله أعلم.
74 - قال في قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} الآية: " قال كفار مكة: إنما يلقي هذا الوحي على لسان محمد شيطان فأنزل الله الآية ".
قلت: هذا التأول لا وجه له؛ لأن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلو كان سبب النزول قول الكفار لقال: (وإن كنتم في شك) لأن حينئذ كان الشك منهم ولا يجوز أن
(1/156)
 
 
يكون قول الكفار سبب الشك للنبي؛ لأن الشك يكون في القلب والله تعالى عَلِم من قلبه أنه لم يكن فيه شك؛ ولأنه رُوي أنه لما نزلت هذه الآية قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (ولا أشك ولا أسألهم).
75 - قال: " فيها وجه آخر قال: الخطاب للرسول، والمراد به غيره من الشاكين ".
قلت: هذا خلاف الأصل إذ لو جاز ذلك لجاز أن ينهاه عن عبادة الأصنام ويلومه على ذلك (لم تعبد الأصنام يا محمد) وذلك خلاف المعقول والمنصوص.
76 - قال: " كان الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصناف: مكذب ومصدق وشاك فخاطب الشاك {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} الشاك ".
قلت: الجواب ما ذكرنا أنه خلاف الأصل والدليل على أن الخطاب ليس لغيره من الشاكين أنه قال: {مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} والإنزال لم يكن إِلا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(1/157)
 
 
77 - قال: " إن بمعنى الجحد وتقديره فما كنت في شك، كما قال: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} ".
قلت: هذا أضعف من الكل؛ لأن قوله: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ} جاء بعده (لا) تأكيد النفي فتعين للنفي كقوله: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} ولا كذلك
(1/158)
 
 
ههنا، لأن ههنا ذكر بعد إن (فسئل) وذكرم آخر الآية {فَلَا تَكونَنَّ مِنَ الْمُمتَرينَ} أي الشاكين. وحرف (إن) إذا جاء بعده الأمر بالفاء لا يُفهم منه إلا الشرط والجزاء كقوله: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ} خصوصاً إذا كان الأمر أمراً بالسؤال، وحرف الشرط دخل في قوله: {فَإِن كُنتَ فِى شَكٍّ} والسؤال يناسب الشك وكلاهما خطاب الواحد، فجَعْلُ أحدهما وحداناً والآخر جمعاً بعيد جداً.
78 - قال: " علم الله أنه لم يشك ولكن أراد أن يأخذ بقوله لا أشك كقصة عيسى ".
(1/159)
 
 
قلت: إنما يصح هذا أن لو سأله عن الشك، وهذا ليس بسؤال عن الشك، بل هو شرط وجزاء، والدليل على أنه لم يكن ليأخذه بقوله: (لا نشك) لأنه لم يذكر ذلك في القرآن كما ذكر عن قول عيسى: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ}.
79 - قال: " علم الله تعالى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير شاك فقال له: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ} وهذا كما تقول لغلامك الذي لا تشك أنه غلامك: إن كنت عبدي فأطعني ".
قلت: هذا أيضاً لا وجه له؛ لأن قول القائل لعبده: إن كنت عبدي فأطعني.
يقوله وهو متيقن أنه عبده فيلزم أن الله تعالى يعلم أن نبيه - صلى الله عليه وسلم - شاك؛ لأنه قال: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ} كقولنا: إن كنت غلامي. وهذا القائل لهذا الوجه غلط من حيث أنه تُوهم أن الكلام إنما وقع في شك الله لشك النبي، فقال: إن الله لم يشك في أن النبي لم يشك، وليس الكلام في شك الله. وإنما الكلام في شك النبي - صلى الله عليه وسلم -. فما استشهد به من النظير يحقق شك النبي لا أنه ينفيه؛ لأنه يلزم من ذلك علم الله بأنه شاك كصورة النظير حَذْو القُذة بالقُذة، والذي يعلمه الله تعالى يستحيل خلافه، فإذا علم الشيء موجوداً يستحيل أن يكون معدوماً، وإذا علمه معدوماً يستحيل أن يكون موجوداً، فيلزم أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - شاكاً.
80 - قال فيه وجهاً آخر: " الشاك في الشيء يضيق به صَدْره فيُقال للضيق الصدر شاك يقول: إنْ ضِقْتَ ذرْعاً بما تُعاين مِنْ بَغْيهم وأذاهم فاصبر واسأل
(1/160)
 
 
الذين يقرؤون الكتاب يخبروك بصبر الأنبياء على الأذى ".
قلت: هذا أيضاً لا وجه له لوجهين:
أحدهما: أن الشاك بمعنى الضيق الصَدْر غير مسموع، ولا مذكور في الكتب.
والثاني: وهو أنه يلزم من ذلك نسبة المحال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: {فَإِن كُنتَ} نسبة للمحال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه قال: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} فيكون معناه فإن كنت ضيق الصدر من القرآن -وحاشاه من ذلك-؛ ولأنه قال في آخرها {فَلَا تَكُونَن مِنَ المُمتَرينَ} وهو مُفتَعِلُ من المرية وهي الشك.
81 - قال فيها وجهاً آخر قال: " كان جائزاً على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسوسة الشيطان؛ لأن المجاهدة في ردها مما يُستَحقُ عليها الثواب ".
قلت: هذا أيضاً لا وجه له، لأن الله تعالى أمره بالسؤال عن أهل الكتاب، وبالسؤال عن أهل الكتاب لا تزول الوسوسة ولا الشك؛ لأن أهل الكتاب إن كانوا مؤمنين به لم يكن لهم شك مما أنزل الله، فلا يجوز أن يكون النبي في شك، ومؤمنو أهل الكتاب في غير شك، فيكون غير النبي أعلى شأناً من النبي، ولو كان أهل الكتاب المسؤلون غير مؤمنين به لكانوا أكثر شكاً منه فكيف يزول الشك
(1/161)
 
 
بالسؤال عن الشاك الذي هو أكثر شكاً من السائل {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}.
82 - قال: " مع حرف الشرط لا يثبت الفعل ".
قلت: إذا كان الكلام من الله يَثبُتُ الفعلُ على حرف الشرط لأن حرف (إن) للشك، ولا يجوز الشك على الله تعالى بدليل قوله: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقد ثبت إيمانهم. وكيف يجوز الشك على الله تعالى أو على النبي - صلى الله عليه وسلم - والشك في حق واحد من المسلمين كفر؟ حتى أن من شك في وحدانية الله تعالى أو في حَقِّيَّة القرآن من أهل الإيمان يكون كمن أنكر الصلاة. والله الموفق والمستعان.
فإن قيل: فما وجه الآية؟.
قلت وجهها: أن الله تعالى خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به غيره كما ذكروا، هذا وإن كان خلاف الأصل، ولكنه سائغ في عرف العرب وغيره ولا يلزم أن يكون بطريق الاستفهام، فإن من أراد أن يوبخ شخصاً على سوء فعله يخاطب غيره بحضوره، فيكون زجراً له بطريق التعريض، وذلك إما أن يكون لحقارة
(1/162)
 
 
المُعرَّض به، أو لعظم شأنه، والشاهد لذلك قصة عيسى وغيرها والله أعلم.
* * *
سورة هود
83 - قال في قوله تعالى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}: " قرأ أهل الكوفة {عَمِلَ غيرَ صَالِحٍ} بكسر الميم وفتح اللام، (غيرَ) بنصب الراء على الفعل، وقرأ الباقون بفتح الميم وضم اللام وتنوينه. (غيرُ) بالرفع على سؤالك عمل غير صالح. {فلا تسألن} قرأ ابن كثير بتشديد النون، وقرأ أهل المدينة والشام بتشديد النون وكسرها ".
قلت: {عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ} قراءة الكسائي ويعقوب، وقرأ ابن كثير {فلا تسألنَّ} بتشديد النون وفتحه وفتح اللام، وقرأ الباقون بسكون اللام وتخفيف النون وكسرها، وأثبت الياء أبو عمرو وورش عن نافع، والباقون بالحذف.
(1/163)
 
 
84 - قال في قوله: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}: " محل (أن) نصب بإسقاط الخافض أي بأن {جَاءَ بِعِجْلٍ}.
قلت: نصب بإسقاط الخافض أي (فما لبث في أن جاء بعجل)؛ لأنه يقال: لبث بمكان كذا، وهم يريدون أنه أقام به ولا يصح ههنا أن يكون ما أقام في الإتيان بالعجل، بل المراد أنه ما أقام في ترك الإتيان به، بل أتى به بالعجلة
(1/164)
 
 
والسرعة، يعني ما توقف في الإتيان به، فيكون (في) أصلح من (الباء) على أن اللبث لا يستعمل إلا مع (في)، قال الله: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ} وقال: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} وقال: {وَلَبِثُوا فِى كَهْفِهِم} {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ}.
85 - قال في قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ}: " من قولهم: ْسَجَلْتُ له سَجْلاً " إذا أعطيته، كأنهم أعطوا ذلك البلاء، واستشهد بقول
(1/165)
 
 
الفضل:
مَنْ يُسَاجلْنِي يُسَاجلْ مَاجداً ... يَمْلأُ الدَّلْوَ إلى عَقْدِ الكُرَبِ
قلت: ليس معنى المساجلة في البيت الإعطاء، أو التعاطي؛ بل معناه المفاخرة، وأصله المفاعلة من السَّجْل وهو الدلو المملوء ثم استعمل في المفاخرة بنزع الدلو ثم في المفاخرة مطلقاً، وقوله: " سَجَلْتُ له إذا أعطيته " لا يُستعمل في الشر وإنما يستعمل في الخير إن ثبت والله أعلم.
86 - قال في قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}: " أي
(1/166)
 
 
ما أريد أن أنهاكم عن أمر ثم أركبه ".
قلت: إذا ركبه لا يكون مخالفاً لهم، وإنما يكون مخالفاً لأمر الله، وموافقاً لهم، والمخالفة لا تعدي بـ (إلى) إلا على الحذف والإضمار، فالأشبه أن يكون معناه: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه يعني ما أريد أن أنهاكم عن معصية الله فتنتهوا عنها، ثم أرتكبها فأكون مخالفاً لكم وما أريد أن أميل إلى النهي عنه والله أعلم.
87 - قال في قوله تعالى: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}: أي العون المعان، وذلك أنهم ترادفت عليه اللعنتان لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة ".
(1/167)
 
 
قلت: يشبه أن يكون هذا سهواً؛ لأن هذا الكلام كلام من يظن أن الرفد من الترادف، وليس كذلك؛ لأن الترادف تفاعل من الردف، لا من الرفد، وإنما الرفد العون والعطاء، فقوله: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} أي بئس العطاء المعطى، أو العون المعان اللعنة من سب رجلاً ثم قال: بئس المدح.
88 - قال في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}: " قال ابن عباس: {مَا دَامَتِ
(1/168)
 
 
السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} من ابتداء كونهما إلى وقت فنائهما ".
قلت: هذا يشعر بفناء أهل النار وبفناء عذابهم.
89 - قال فيه وجهاً آخر {إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} وهو أن يأمر النار أن تأكلهم وتفنيهم ".
قلت: هذا أيضاً يشعر بفناء أهل النار، وفناء عذابهم.
90 - قال: " ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعد أن يلبثوا فيها أحقاباً ".
قلت: هذا أيضاً يشعر بفناء أهل النار، وفناء عذابهم.
91 - قال: " عن الشعبي: " جهنم أسرع الدارين عمراناً وأسرعهما خراباً ".
(1/169)
 
 
قلت: هذا أيضاً يشعر بفناء أهل النار، ففناء عذابهم.
92 - قال: " أخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة فقال: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي غيرمقطوع، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار فلم يقل عقيب الاستثناء (عذاب غير مقطوع) بل اقتصر على الاستثناء ".
قلت: هذا أيضاً يشعر بفناء أهل النار، وفناء عذابهم.
قال: " هو جزاؤه إلا أن يشاء ربُّك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار، وفي وصف نار جنهم إلا ما شاء ربك فلا يُخلدهم الجنة ".
قلت: كل ذلك محال، أما الأشقياء فمحال أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار؛ لأن الله لا يغفر أن يشرك به، وأما السعداء فمحال أن لا يُخلدهم في الجنة بعد الدخول، وقد قال: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} والاستثناء إخراج الشيء مما دخل فيه غيره،
(1/170)
 
 
ويستحيل أن نخرج المحال، لأن المحال خارج بإحالة، وإخراج الخارج محال.
94 - قال: " {إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} من الفريقين من تعميرهم في الدنيا قبل مصيرهم إلى الجنة والنار ".
قلت: هذا أيضاً لا وجه له " لأن الاستثناء إخراج الشيء مما دخل فيه غيره، وتعميرهم في الدنيا بعد مصيرهم إلى الجنة والنار قد مضى وانعدم، والمعدوم خارج، وإخراج الخارج محال؛ لأن الاستثناء إنما وقع بعد الخلود، والخلود إنما يكون بعد الدخول وحينئذ يستحيل استثناء كونهم في الدنيا.
95 - قال: " {إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} من احتباس الفريقين في البرزخ ما بين الموت والبعث ".
قلت: جوابه ما ذكرنا أن ذلك يكون معدوماً بعد الدخول واستثناء المعدوم محال والله أعلم.
96 - قال: " (إلا) هنا بمعنى (سِوَى) كما يقال: ما معنا رجل إلا زيد والمعنى: سوى ما شاء ربك من الخلود ".
قلت: لا يصح هذا النظير؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات (ومن الإثبات
(1/171)
 
 
نفي، فقوله: ما معنا رجل إلا زيد استثناء) من النفي فيكون إثباتاً لزيد، فيكون صحيحاً أما ما ربنا استثناء من الإثبات، فيكون منفياً، فيكون نظيره: معنا القوم إلا زيداً، فيكون نفياً لزيد كذلك. ههنا ينبغي أن يكون نفياً للخلود، ولأنه لو كان بمعنى (سوى) يصير تقديره لهم فيها الخلود سوى الخلود، ولا يقال: لزيد هذا الغلام سوى هذا الغلام.
97 - قال: " استثنى الإخراج وهو لا يريد أن يخرجهم منها، كما تقول في الكلام: (أردت أن أفعل كذا إلا أن أشاء غيره)، وأنت مقيم على ذلك الفعل، فالمعنى: أنه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم، ولكن لا يشاء ".
قلت: هذا أيضاً لا وجه له؛ لأنه استثنى من الخلود ما شاء من نفي الخلود، وأثبت مشيئته بلفظ الماضي، ولا كذلك في صور النظير؛ لأن مشيئة العباد يجوز أن توجد ويجوز أن لا توجد، خصوصاً إذا ذكرت بلفظ المستقبل، وعلى تقدير الوجود يكون مجازاً من حيث أنه غير مستقل بنفسه، قال الله تعالى: (وَمَا تَشَاَءُونَ إِلا أن يَشَاءَ اللهُ)؛ ولأن الخُلفَ في كلام العباد جائز، ولا كذلك في كلام الله إذ لا يجوز الخلف فيه، وإنه تعالى أثبت المشيئة مشيئة الإخراج
(1/172)
 
 
بلفظ الاستثناء من الخلود فيكون الإخراج مراد، ومشيئته أزلية قديمة، فيكون الإخراج ثابتاً لا محالة فينتفي الخلود لا محالة.
98 - قال: " {إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} من مقدار موقفهم على رؤوس قبورهم وللمحاسبة ".
قلت: قد ذكرنا أن الاستثناء إخراج الشيء مما دخل فيه غيره، وإنه استثناء من الخلود والخلود يكون بعد الدخول، وموقفهم على رؤوس قبورهم بعد الدخول مضى وانعدم، ولا يصح استثناء المعدوم؛ لأن المعدوم خارج من الوجود، وإخراج الخارج محال والله أعلم.
99 - قال: " وقع الاستثناء على الزيادة، في النعيم والعذاب، أي: إلا ما شاء ربك من زيادة النعيم أو العذاب ".
قلت: هذا أيضاً لا وجه له؛ لأنه يكون استثناء الأكثر من الأقل، واستثناء الأكثر من الأقل والكل من الكل باطل.
100 - قال: " معناه: وقد شاء ربك خلود هؤلاء وهؤلاء، و (إلا) بمعنى
الواو سائغ في اللغة قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا}
(1/173)
 
 
أي ولا الذين ظلموا.
قلت: (إلا) بمعنى الواو غير مسموع ولا مذكور في قواعد اللغة، وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} بمعنى: ولا الذين ظلموا قول واحد من المفسرين وعلى تقدير الصحة، لا يصلح نظيراً؛ لأنه لو جُعل إلا لمعنى: ولا ههنا لكان تقديره: (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ولا ما شاء ربك) وهو محال، قوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} بمعنى: ولا الذين ظلموا. هو رواية عن أبي عبيدة وحده.
101 - قال: " معناه كما شاء ربك، كقوله: {إِلا مَا قَد سَلَف}، أي: كما قد سلف ".
(1/174)
 
 
قلت: ذاك قول أبي زكريا العنبري وحده، أن: {إِلا مَا قَد سَلَف}، بمعنى: كما قد سلف لا قول الكل، والحاصل أن القول بزوال النعيم والعذاب قول، الجهمية، والقول بزوال العذاب قول الجاحظ والجهمية وجماعة من المتكلمين، واحتجوا بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} وبقوله: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ}؛ ولأن
(1/175)
 
 
الخُلْف في الوعيد جائز؛ بل هو لازم؛ ولأن العذاب المؤبد المخلد لكفر أيام معدودات لا يليق بالحكيم الكريم الرحيم، والعقوبة على ذنب لم يوجد غير جائز؛ بل العدل يقتضي أن يكون العذاب المؤبد في مقابلة وجود الكفر المؤبد حقيقة قال الله تعالى: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وقال: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} والمماثلة منتفية، والله أعلم بالصواب.
والمفسرون لم يزيدوا على هذه الأقوال، وهي كلها ضعيفة، والأشبه أن يكون هذا استثناء غير واقع؛ بل عادة العرب أن يستثنوا في الكلام تأدباً ولم
(1/176)
 
 
يقصدوا به حقيقة الإخراج. والله أعلم.
* * *
سورة يوسف
102 - قال في قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ}: " هذه اللام في اليمين، وفي كل ما يُضارع القول كقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} وقوله: {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} دخلت (اللام) و (ما) لأنهما في
(1/177)
 
 
معنى القول واليمين ".
قلت: أما قوله: {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} معناه: أيقنوا أنه ليس لهم مفر وملجأ، هو ما النفي لا تَعَلُقَ له بقوله: {لَيَسْجُنُنَّهُ} وقوله: " دخلت (اللام) و (ما) لأنهما في معنى القول واليمين ". قلت: دخول (ما) في قوله: {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ} ليس لمعنى القول، ولا لمعنى اليمين؛ لأن الظن ليس بمعنى القول ولا اليمين، و (ما) لا تختص بالقول؛ بل تدخل (ما) في غير موضع القول واليمين، ولا يشبه النظيرُ النظيرَ.
103 - قال في قوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}: " هذا خبر من يوسف عما لم يكن في رؤيا الملك ولكنه من علم الغيب ".
(1/178)
 
 
قلت: بل كان في رؤيا الملك؛ لأن رؤيا الملك: {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} وهي السنون المُخْصبة التي تكون أولاً، {يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} وهي السنون الُمجْدِبة التي تأتي بعدها. فقوله: {سَبْعٌ عِجَافٌ} يدل على أن السنين المجدبة لا تزيد على السبع؛ إذ لو زادت وما كان يعرف مدتها لقال: (يأكلهن بقر عجاف) ولم يذكر العدد، فلما ذكر العدد عُلِمَ أن السنين المجدبة لا تزيد عن السبع، وتنتهي بانتهاء سبع سنين، وإذا انتهى القَحْط لا بد أن يكون بعده الخَصْب ضرورة وهو العام الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون، وليس المراد من قوله: {عَام فِيهِ يُغَاثُ الناسُ} عاماً واحداً لا غيره لأنه نكرة موصوفة بل المراد زمان الخصب.
104 - قال في قوله: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ}: " لو خَرَجَ يوسف من قبل أن يعلم الملك شأنه ما زالت في نفس العزيز منه حاجة يقول هو الذي راود امرأتي ".
(1/179)
 
 
قلت: لم يكن في نفسه شيء لو خرج لوجهين:
أحدهما: أنه تيقن براءته بشهادة شاهد من أهلها.
الثاني: أن الرائي الداعي ليوسف هو الملك كما ذكر في أول القصة، وزوج المرأة هو قطفير خازنه والله أعلم.
105 - قال في قوله: {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ}: " سُئل فلان: كيف أخفاه حين أخذ الصواع وقد كان أخبره أنه أخوه؟ فقال: إنه لم يعترف له بالنسبة، ولكنه قال له إني أنا أخوك مكان أخيك وبدله، ولم يقل: أنا يوسف ".
(1/180)
 
 
قلت: لا حاجة إلى هذا التكلف، بل يجوز أن يكون أظهر له الأمر دون سائر الإخوة فيكون أخوه عارفاً دونهم، بدليل قوله في أول القصة: " فبكى يوسف وقام إليه وعانقه، و {قَال} له: {إِنَي أنَا أخُوكَ}، ومثل هذا لا يجري بين الأجنبيين، فحينئذ يكون وقت إخفاء الصواع هما عالمين بالحال دون باقي الإخوة ولا تناقض.
106 - قال في قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا}: " لم يُرِدْ بالسجود وضع الجباه على الأرض؛ لأن ذلك لا يجوز إلا لله، وإنما هو الانحناء ".
قلت: السجود في اللغة إنما هو وضع الجبهة على الأرض، والانحناء لا
(1/181)
 
 
يكون سجوداً أو لعله كان ذلك جائز في الشريعة الأولى بطريق التحية لا بطريق العبادة كما ورد في قصة آدم ثم نسخ.
107 - قال فيها {وَخَرُّوا}: " أي مَرُّوا ولم يرد به السقوط على الأرض نظيره قوله: {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا} أي لم يمروا ".
(1/182)
 
 
قلت: الخرور إذا كان مقروناً بذكر السجود لا يكون إلا وضع الجبهة على الأرض بخلاف قوله: {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا} لأنه غير مقرون بذكر السجود.
108 - قال فيها: " خروا لله سجداً " والهاء في (له) كناية عن الله ".
قلت: هذا لا وجه له لوجوه:
أحدها: أنه يكون كناية عن غير مذكور وهو خلاف الأصل.
الثاني: أن يوسف قال في الأول: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ولم يقل: (رأيتهم لله ساجدين).
الثالث: أنه قال في الآخر: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} وإنما يكون تأويله أن لو كان السجود له لا لغيره.
(1/183)
 
 
109 - قال في قوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا}: " أن يوسف تمنى الموت ".
قلت: لا يلزم أن يكون هذا بطريق التمني للموت، بل يجوز أن يكون معناه: إذا توفيتني توفني مسلماً، سأل الله أن يكون موته على الإسلام يوم يتوفاه، كما قال: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} والدليل على أنه لم يكن متمنياً للموت أن هذا الكلام متصل بقوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} وكان ذلك عند اجتماعه بيعقوب وعاش بعد قوله: {تَوَفَّنِي} نيفاً وثلاثين سنة؛ لأنه مات بعد أبيه يعقوب بخمسين سنة، ويعقوب عاش بمصر نيفاً وعشرين سنة فلا يجوز أن يتمنى الموت في ذلك الوقت لوجهين:
أحدهما: أن دعاءه يكون حينئذ غير مستجاب إلى ثلاثين سنة وذلك لا يلائم أدعية الأنبياء.
(1/184)
 
 
الثاني: أن يوسف ويعقوب كان كل واحد منهما يَحِنُّ إلى صاحبه أربعين سنة في أشد حزن وأصعبه، فلما اجتمعا يتمنى الموت، ويتمنى أن يعود حزن يعقوب أشد مما كان! هذا بعيد. مع أن الأنبياء كان بقاؤهم خيراً لهم خاصة، وللناس عامة، ولهذا لم يتمنّ نبي الموت؛ بل كانوا يحبون الحياة لازدياد الخيرات، والإكثار من الطاعات، كما نقل في قصة موسى وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام.
وقوله: {تَوَفَّنِي مُسلَمًا} كما جاء في الدعاء المأثور: (توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين). ولا يجوز أن يكون ذلك تمنياً للموت؛ لأنه منهي عنه لقوله:
(1/185)
 
 
(لا يتمنين أحدكم الموت) كذا ههنا.
110 - قال في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا}:
" أَخبر بأَمْرَ الأُمم المكذبة (1) من قبلهم فيعتبروا، {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} يقول: هذا فعلنا في الدنيا بأهل ولايتنا، وطاعتنا أن ننجيهم من العذاب إذا نزل، وما في الدار الآخرة لهم خير، فترك ما ذكرنا اكتفاء لدلالة الكلام عليه، وأضيفت الدار إلى الآخرة لاختلاف لفظيهما ".
__________
(1) في الأصل " أَخَّر أَمْرَ الأُمم المكذوبة " والتصويب من الكشف والبيان.
(1/186)
 
 
قلت: قوله: " هذا فعلنا في الدنيا بأهل ولايتنا ". لا وجه له، لأنه لم يَجْرِ ذكرُ شيء يكون هذا إشارة إليه من الإنجاء، وإنما المذكور عاقبة أمر المكذبين وهو الإهلاك لا الإنجاء، ثم قال: " ما في الدار الآخرة لهم خير " كنى بقوله (لهم) عن أهل ولايتنا وطاعتنا وهم غير مذكورين في القرآن، وترك ذكر المذكورين في القرآن وهو قوله: {للذِين اتقَوا} وأضمر (ما) ولا حاجة إليه، لأنه لو قيل: (الآخرة خير للمتقين) كان كلاماً تاماً من غير إضمار نحو قوله: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} وقوله: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، وقوله: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} ونحوه كثير. فنظم التفسير أن يقال: تم الكلام عند قوله: {مِن قَبلِهِم}. ثم ابتدأ فقال: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
* * *
سورة الرعد
111 - قال في قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ}: " عاقبة الدار الآخرة ".
(1/187)
 
 
قلت: العقبى قد تكون بمعنى العاقبة، وقد تكون بمعنى الظفر، والغنيمة، بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} يعني فكان الظفر والغنيمة لكم من العقبى، وهي الظفر والغنيمة: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ}، يعني من الغنيمة. والأشبه أن العقبى في قوله: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} بمعنى الظفر والغنيمة؛ لأنه لو كان بمعنى العاقبة، فالعاقبة تنطلق على الجنة والنار، ولكل واحد من الكافر والمؤمن عاقبة لا شك وهو معلوم في الدنيا لهم، ويحتمل أن يكون الكل مراد؛ لأن الله تعالى صرّح في آية أخرى بلفظ (العاقبة) بقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}، وقال: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
(1/188)
 
 
{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، وإنْ كان حقيقة العاقبة والآخرة تطلق على الجنة والنار جميعاً من حيث اللغة، ولكنه إذا أُطلق صار المراد الجنة بقرائن إطلاقات القرآن، ويحتمل أن يكون المراد العاقبة المحمودة للمتقين. ويحتمل أنه إنما عُرف ذلك واستُفيد من حرف اللام في قوله: {لِمَن عُقبَى اَلدارِ} وقوله: {مَن تكُونُ لَهُ عاقبَةُ اَلدَّارِ} وغيرها من الآيات؛ لأن اللام لعود المنفعة وعلى المضرة، كما يقال: له وعليّ، قال - صلى الله عليه وسلم: (كلام ابن آدم كله عليه لا له) أي
(1/189)
 
 
يضره ولا ينفعه. فتكون العاقبة النافعة هي الجنة، والضارة هي النار.
112 - قال: " عن عكرمة أرسل إليّ عمر بن عبد العزيز أني نذرت أن أقطع يد غلام أو أحبسه حيناً فما عندك فيه؟ فقلت له: لا تقطع يده، واحبسه سَنَةً ".
قلت: بل لا يجوز القطع ولا الحبس سَنَةً بالنذر.
(1/190)
 
 
سورة إبراهيم
113 - قال في قوله تعالى: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ}: " أي من زوال عن الدنيا أي لا تبعثون ".
قلت: الزوال بمعنى البعث ما جاء في اللغة، وأيضاً فإنهم ما كانوا يزعمون أنهم لا يزولون عن الدنيا؛ لأن الزوال عن الدنيا إنما يكون بالموت، وهم كانوا يُقرون بالموت متفقين عليه، متيقنين منه من غير شك فيه، فلا يكن تفسيره على هذا الوجه، لأنه يكون معناه: ألم تحلفوا في الدنيا أنكم لا تموتون؟ وما كانوا يحلفون هكذا، وما كانوا ينكرون الموت، وإنما كانوا ينكرون البعث والنشور.
فتحقيقه أن يقال: أو لم تكونوا أقسمتم منِ قبل أنكم لا تزولون عن قبوركم إلى المحشر بالبعث. ويحتمل أن يتم الكلام عند قوله: {مِنْ قَبْلُ} ثم ابتدأ وقال: {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} أي لا تزولون عن الآخرة إلى الدنيا كما تسألون، ويكون المحلوف عليه مضمر، أو يكون إشارة إلى قوله: {وَأقْسَمُوا
(1/191)
 
 
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ}.
114 - قال في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}: " عن الحسن: " في القرآن خمسٌ (إن) بمعنى (ما) قوله: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ}، وقوله: {لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ}، وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ}، وقوله: {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ}، وقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ}.
(1/192)
 
 
قلت: (إن) بمعنى (ما) في القرآن أكثر من هذا بدليل قوله تعالى: {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا} وقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}، وقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}، وقوله: {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} وغيرها.
وأما قوله: {لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} وقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} ليس شيء من ذلك بمعنى (ما) وإن كان ورد فيه قول ضعيف بعيد.
* * *
سورة الحجر
115 - قال في قوله تعالى في الحجر: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ}: " يعني: وفرغنا إلى لوط من ذلك الأمر ".
(1/193)
 
 
قلت: بل معناه ههنا: أخبرناه بذلك مثل قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أخبرناهم [ ....... ] (1) بمعنى: الفراغ، وقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}، {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ}، {فَلَما قَضَى} والقضاء في القرآن على عشرة أوجه بمعنى: الإيصاء، والإخبار، والفراغ، والفعل، والنزول، والوجوب، والكتابة، والإتمام، والفصل، والخلق.
وكيف يكون ههنا بمعنى فرغنا وهو كان قبل الفراغ من هلاكهم؟ لأنه
قال: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} بمعنى أخبرناه بذلك.
__________
(1) كلمة غير واضحة بالمخطوط.
(1/194)
 
 
116 - قال في قوله تعالى: {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ}: " أي: أو لم ننهك أن تُضيف أحداً من العالمين ".
قلت: لو فسرناه على هذا الوجه يلزم منه التناقض؛ لأنه قال أولاً: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ} فكيف ينهونه عن شيء يستبشرون به، والأشبه أن يكون المراد من {الْعَالَمِينَ} أنفسهم، يعني: أو لم ننهك عنا وأن تحكم علينا وتمنعناه.