فتح القدير للشوكاني 006

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: فتح القدير
المؤلف: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ)
 
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ: لَقَدْ طَلَبْتُ عُمْرِي كُلَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُهَا، أَنْ أَسْتَأْذِنَ عَلَى بَعْضِ إِخْوَانِي، فَيَقُولُ لِي ارْجِعْ، فَأَرْجِعُ وَأَنَا مُغْتَبِطٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَابْنُ جَرِيرٍ عن ابن عباس قال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها فنسخ، واستثنى مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ.
 
[سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ الِاسْتِئْذَانِ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ حُكْمِ النَّظَرِ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ غَضُّ الْبَصَرِ مِنَ الْمُسْتَأْذِنِ، كَمَا قَالَ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِذْنُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ تَحْرِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ، لِكَوْنِ قِطْعِ ذَرَائِعِ الزِّنَا الَّتِي مِنْهَا النَّظَرُ، هُمْ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ بِهَا، وَأَوْلَى بِذَلِكَ مِمَّنْ سِوَاهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ فِي الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالشَّرْعِيَّاتِ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ غُضُّوا يَغُضُّوا وَمَعْنَى غَضِّ الْبَصَرِ: إِطْبَاقُ الْجَفْنِ عَلَى الْعَيْنِ بِحَيْثُ تَمْتَنِعُ الرُّؤْيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابًا
وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ:
وَأَغُضُّ طَرَفِي مَا بَدَتْ لِي جَارَتِي ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا
و «من» فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَبْصارِهِمْ هِيَ: التَّبْعِيضِيَّةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ، وَبَيَّنُوهُ بِأَنَّ الْمَعْنَى غَضُّ الْبَصَرِ عَمَّا يَحْرُمُ وَالِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى مَا يَحِلُّ. وَقِيلَ: وَجْهُ التَّبْعِيضِ أَنَّهُ يُعْفَى لِلنَّاظِرِ أَوَّلَ نَظْرَةٍ تَقَعُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهَا زَائِدَةٌ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مُبْهَمٌ يَكُونُ مُفَسَّرًا بِمَنْ، وقيل: إنها لابتداء الغاية. قال ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ: الْغَضُّ النُّقْصَانُ، يُقَالُ:
غَضَّ فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ: أَيْ: وَضَعَ مِنْهُ، فَالْبَصَرُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ مِنْ عَمَلِهِ فَهُوَ مَغْضُوضٌ مِنْهُ وَمَنْقُوصٌ فَتَكُونُ «مِنْ» صِلَةً لِلْغَضِّ، وَلَيْسَتْ لِمَعْنًى مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي الْأَرْبَعَةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِ مَنْ يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَمَعْنَى وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ حِفْظُهَا عَمَّا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ سَتْرُ
(4/26)
 
 
فُرُوجِهِمْ عَنْ أَنْ يَرَاهَا مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ رُؤْيَتُهَا، وَلَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ، فَالْكُلُّ يَدْخُلُ تَحْتَ حِفْظِ الْفَرْجِ.
قِيلَ: وَوَجْهُ الْمَجِيءِ بِمِنْ فِي الْأَبْصَارِ دُونَ الْفُرُوجِ أَنَّهُ مُوَسَّعٌ فِي النَّظَرِ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِنْهُ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ، بِخِلَافِ حِفْظِ الْفَرْجِ فَإِنَّهُ مُضَيَّقٌ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْهُ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ. وَقِيلَ: الْوَجْهُ أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ كُلِّهِ كَالْمُتَعَذِّرِ، بِخِلَافٍ حِفْظِ الْفَرْجِ فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْغَضِّ وَالْحِفْظِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ أَزْكى لَهُمْ أي: أظهر لَهُمْ مِنْ دَنَسِ الرِّيبَةِ وَأَطْيَبُ مِنَ التَّلَبُّسِ بِهَذِهِ الدَّنِيئَةِ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ صُنْعِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِمَنْ لَمْ يَغُضَّ بَصَرَهُ وَيَحْفَظْ فَرْجَهُ وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ خَصَّ سُبْحَانَهُ الْإِنَاثَ بِهَذَا الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقِ التَّأْكِيدِ لِدُخُولِهِنَّ تَحْتَ خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ تَغْلِيبًا كَمَا فِي سائر الخطابات القرآنية، وظهر التضعيف في يغضضن وَلَمْ يَظْهَرْ فِي يَغُضُّوا، لِأَنَّ لَامَ الْفِعْلِ مِنَ الْأَوَّلِ مُتَحَرِّكَةٌ وَمِنَ الثَّانِي سَاكِنَةٌ وَهُمَا فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ جَوَابًا لِلْأَمْرِ، وَبَدَأَ سُبْحَانَهُ بِالْغَضِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَبْلَ حِفْظِ الْفَرْجِ، لِأَنَّ النَّظَرَ وَسِيلَةٌ إِلَى عَدَمِ حِفْظِ الْفَرْجِ، وَالْوَسِيلَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمُتَوَسَّلِ إِلَيْهِ، وَمَعْنَى: يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ كَمَعْنَى يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ، فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ نَظَرِ النِّسَاءِ إِلَى مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِنَّ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِنَّ حِفْظُ فُرُوجِهِنَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي حِفْظِ الرِّجَالِ لِفُرُوجِهِمْ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أَيْ: مَا يَتَزَيَّنَّ بِهِ مِنَ الْحِلْيَةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي النَّهْيِ عَنْ إِبْدَاءِ الزينة، نهى عَنْ إِبْدَاءِ مَوَاضِعِهَا مِنْ أَبْدَانِهِنَّ بِالْأَوْلَى. ثُمَّ اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ مِنْ هَذَا النَّهْيِ، فَقَالَ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ظَاهِرِ الزينة ما هُوَ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ظَاهِرُ الزِّينَةِ هُوَ الثِّيَابُ وَزَادَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْوَجْهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ:
ظَاهِرُ الزِّينَةِ هُوَ الْكُحْلُ وَالسِّوَاكُ وَالْخِضَابُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُبْدِيَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُبْدِي شَيْئًا مِنَ الزِّينَةِ وَتُخْفِي كُلَّ شَيْءٍ مِنْ زِينَتِهَا، وَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْهَا بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ. وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ ظَاهَرَ النَّظْمِ الْقُرْآنِيَّ النَّهْيُ عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا كَالْجِلْبَابِ وَالْخِمَارِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا عَلَى الْكَفِّ وَالْقَدَمَيْنِ مِنَ الْحِلْيَةِ وَنَحْوِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالزِّينَةِ مَوَاضِعَهَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَى مَا يَشُقُّ عَلَى الْمَرْأَةِ سَتْرُهُ كَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَكَذَا إِذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْ إِظْهَارِ الزِّينَةِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ إِظْهَارِ مَوَاضِعِهَا بِفَحْوَى الْخِطَابِ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الزِّينَةُ تَشْمَلُ مَوَاضِعَ الزِّينَةِ وَمَا تَتَزَيَّنُ بِهِ النِّسَاءُ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ مِنَ الْجَمِيعِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ:
الزِّينَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: خِلْقِيَّةٌ، وَمُكْتَسَبَةٌ فَالْخِلْقِيَّةُ وَجْهُهَا فَإِنَّهُ أَصْلُ الزِّينَةِ، وَالزِّينَةُ الْمُكْتَسَبَةُ مَا تُحَاوِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي تَحْسِينِ خَلْقِهَا كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ «1» وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَأْخُذْنَ زِينَتَهُنَّ أَحْسَنَ مَا تَرَى ... وَإِذَا عُطِلْنَ فَهُنَّ خَيْرُ عَوَاطِلِ
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِسْكَانِ اللَّامِ الَّتِي للأمر. وقرأ أبو عمرو بكسرها
__________
(1) . الأعراف: 31.
(4/27)
 
 
عَلَى الْأَصْلِ لِأَنَّ أَصْلَ لَامِ الْأَمْرِ الْكَسْرُ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالْخُمُرُ جمع خمار، وَمِنْهُ:
اخْتَمَرَتِ الْمَرْأَةُ وَتَخَمَّرَتْ. وَالْجُيُوبُ: جَمْعُ جَيْبٍ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْقَطْعِ مِنَ الدِّرْعِ وَالْقَمِيصِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَوْبِ وَهُوَ الْقَطْعُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ نِسَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ كُنَّ يُسْدِلْنَ خُمُرَهُنَّ مِنْ خَلْفِهِنَّ، وكانت جيوبهنّ من الأمام واسعة، فكان تَنْكَشِفُ نُحُورُهُنَّ وَقَلَائِدُهُنَّ، فَأُمِرْنَ أَنْ يَضْرِبْنَ مَقَانِعَهُنَّ عَلَى الْجُيُوبِ لِتَسْتُرَ بِذَلِكَ مَا كَانَ يَبْدُو، وَفِي لَفْظِ الضَّرْبِ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِلْقَاءِ الَّذِي هُوَ الْإِلْصَاقُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «بِخُمُرِهِنَّ» بِتَحْرِيكِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِسُكُونِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «جُيُوبِهِنَّ» بِضَمِّ الْجِيمِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ بِكَسْرِهَا، وَكَثِيرٌ مِنْ مُتَقَدِّمِي النَّحْوِيِّينَ لَا يُجَوِّزُونَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُبَدِّلَ مِنَ الضَّمَّةِ كَسْرَةً، فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الضَّمِّ وَالْكَسْرِ، فَمُحَالٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ إِلَّا عَلَى الْإِيمَاءِ، وَقَدْ فَسَّرَ الْجُمْهُورُ الْجُيُوبَ بِمَا قَدَّمْنَا، وَهُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ مَعْنَى عَلَى جُيُوبِهِنَّ: عَلَى صُدُورِهِنَّ، فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: عَلَى مَوَاضِعِ جُيُوبِهِنَّ. ثُمَّ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ النَّهْيَ عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ لِأَجْلِ مَا سَيَذْكُرُهُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فَقَالَ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ الْبَعْلُ: هُوَ الزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدَّمَ الْبُعُولَةَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِالزِّينَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ بَدَنِ الزَّوْجَةِ والسرية حلال لهم، ومثله قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ «1» ثُمَّ لَمَّا اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ الزَّوْجَ أَتْبَعَهُ بِاسْتِثْنَاءِ ذَوِي الْمَحَارِمِ فَقَالَ: أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ فَجَوَّزَ لِلنِّسَاءِ أَنْ يُبْدِينَ الزِّينَةَ لِهَؤُلَاءِ لِكَثْرَةِ الْمُخَالَطَةِ وَعَدَمِ خَشْيَةِ الْفِتْنَةِ لِمَا فِي الطِّبَاعِ مِنَ النُّفْرَةِ عَنِ الْقَرَائِبِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَنْظُرَانِ إِلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، ذَهَابًا مِنْهُمَا إِلَى أَنَّ أَبْنَاءَ الْبُعُولَةِ لَمْ يُذْكَرُوا فِي الْآيَةِ الَّتِي فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ قَوْلُهُ: لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَالْمُرَادُ بِأَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ: ذُكُورُ أَوْلَادِ الْأَزْوَاجِ، وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَأَوْلَادُ بَنَاتِهِنَّ وَإِنْ سَفَلُوا، وَكَذَا آبَاءُ الْبُعُولَةِ، وَآبَاءُ الْآبَاءِ، وَآبَاءُ الْأُمَّهَاتِ وَإِنْ عَلَوْا، وَكَذَلِكَ أَبْنَاءُ الْبُعُولَةِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَكَذَلِكَ أَبْنَاءُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْعَمَّ وَالْخَالَ كَسَائِرِ الْمَحَارِمِ فِي جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى مَا يَجُوزُ لَهُمْ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الرَّضَاعِ، وَهُوَ كَالنَّسَبِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ: لَيْسَ الْعَمُّ وَالْخَالُ مِنَ الْمَحَارِمِ، وَمَعْنَى أَوْ نِسائِهِنَّ هُنَّ الْمُخْتَصَّاتُ بِهِنَّ الْمُلَابِسَاتِ لَهُنَّ بِالْخِدْمَةِ أَوِ الصُّحْبَةِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْإِمَاءُ، وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ نِسَاءُ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ لَهُنَّ لِأَنَّهُنَّ لَا يَتَحَرَّجْنَ عَنْ وَصْفِهِنَّ لِلرِّجَالِ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِضَافَةُ النِّسَاءِ إِلَيْهِنَّ تَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنَاتِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَشْمَلُ الْعَبِيدَ وَالْإِمَاءَ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ أَوْ كَافِرِينَ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سلمة وابن عباس ومالك. وقال سعيد ابن الْمُسَيِّبِ: لَا تَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ إِنَّمَا عَنَى بِهَا الْإِمَاءَ وَلَمْ يَعْنِ بِهَا الْعَبِيدَ. وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَكْرَهُ أَنْ يَنْظُرَ الْمَمْلُوكُ إِلَى شَعْرِ مَوْلَاتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَرُوِيَ عَنِ
__________
(1) . المؤمنون: 5 و 6 والمعارج: 29 و 30.
(4/28)
 
 
ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ جريج أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ غَيْرِ:
بِالْجَرِّ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنِ عَامِرٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَقِيلَ: عَلَى الْقَطْعِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّابِعِينَ: هُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ الْقَوْمَ فَيُصِيبُونَ مِنْ طَعَامِهِمْ لَا هِمَّةَ لَهُمْ إِلَّا ذلك، ولا حاجة لهم في النساء قال مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ، وَمِنَ الرِّجَالِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَأَصْلُ الْإِرْبَةِ وَالْأَرَبِ وَالْمَأْرَبَةِ الْحَاجَةُ وَالْجَمْعُ مَآرِبُ، أَيْ: حَوَائِجُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سبحانه: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى «1» ومه قَوْلُ طَرَفَةَ:
إِذَا الْمَرْءُ قَالَ الْجَهْلَ وَالْحَوْبَ «2» وَالْخَنَا ... تَقَدَّمَ يَوْمًا ثُمَّ ضَاعَتْ مَآرِبُهُ
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِغَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ الْحَمْقَى الَّذِينَ لَا حَاجَةَ لَهُمْ فِي النِّسَاءِ، وَقِيلَ: الْبَلِهُ، وَقِيلَ:
الْعِنِّينُ، وَقِيلَ: الْخَصِيُّ، وَقِيلَ: الْمُخَنَّثُ، وَقِيلَ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ، بَلِ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ ظَاهِرُهَا وَهُمْ مِنْ يَتْبَعُ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَلَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ ذَلِكَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَيَدْخُلُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَيَخْرُجُ مَنْ عَدَاهُ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ الطِّفْلُ: يُطْلَقُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ، أَوِ الْمُرَادِ بِهِ هُنَا الْجِنْسُ الْمَوْضُوعُ مَوْضِعَ الْجَمْعِ بِدَلَالَةِ وَصْفِهِ بِوَصْفِ الْجَمْعِ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ «أَوِ الْأَطْفَالِ» عَلَى الْجَمْعِ، يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ طِفْلٌ: مَا لَمْ يُرَاهِقِ الْحُلُمَ، وَمَعْنَى لَمْ يَظْهَرُوا: لَمْ يَطَّلِعُوا، من الظهور بمعنى الاطلاع، قال ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشهوة، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، يُقَالُ ظَهَرْتُ عَلَى كَذَا: إِذَا غَلَبَتُهُ وَقَهَرَتُهُ. وَالْمَعْنَى: لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَيَكْشِفُوا عَنْهَا لِلْجِمَاعِ، أَوْ لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشَّهْوَةِ لِلْجِمَاعِ. قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ «عَوْرَاتِ» بِسُكُونِ الْوَاوِ تَخْفِيفًا، وَهِيَ لُغَةُ جُمْهُورِ الْعَرَبِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْمَشُ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ الَّذِي أَنْشَدَهُ الفراء:
أخو بيضات رائح متأوب ... رفيق بمسح الْمَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ سَتْرِ مَا عَدَا الْوَجْهِ، وَالْكَفَّيْنِ مِنَ الْأَطْفَالِ، فَقِيلَ: لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ وَهُوَ الصحيح وقيل: يلزم لأنه قد يشتهي الْمَرْأَةُ. وَهَكَذَا اخْتُلِفَ فِي عَوْرَةِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي قَدْ سَقَطَتْ شَهْوَتُهُ، وَالْأَوْلَى: بَقَاءُ الْحُرْمَةِ كما كانت، فلا يحلّ النظر إلى عورته وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْشِفَهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ العلماء في حدّ العورة. قال القرطبي: أجمع المسلمون على أن السوأتين عَوْرَةٌ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إِلَّا وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ: إِنَّ عَوْرَةَ الرَّجُلِ مِنْ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ أَيْ: لَا تَضْرِبُ الْمَرْأَةُ بِرِجْلِهَا إِذَا مَشَتْ لِيُسْمَعَ صَوْتُ خَلْخَالِهَا مَنْ يَسْمَعُهُ مِنَ الرِّجَالِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا ذَاتُ خَلْخَالٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَسَمَاعُ هَذِهِ الزِّينَةِ أَشَدُّ تَحْرِيكًا لِلشَّهْوَةِ مِنْ إِبْدَائِهَا. ثُمَّ أَرْشَدَ عِبَادَهُ إلى التوبة عن المعاصي فقال سبحانه:
__________
(1) . طه: 18.
(2) . الحوب: بضم الحاء وفتحها الإثم. والخنا: الفحش.
(4/29)
 
 
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِيهِ الْأَمْرُ بِالتَّوْبَةِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي وُجُوبِهَا وَأَنَّهَا فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الدِّينِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّوْبَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُرَغِّبُهُمْ فِي التَّوْبَةِ، فَقَالَ: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيْ:
تَفُوزُونَ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّوْبَةِ هُنَا هِيَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا تَقَرَّرَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقَاتِ الْمَدِينَةِ، فَنَظَرَ إلى امرأة وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ أَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ إِلَّا إِعْجَابًا بِهِ، فَبَيْنَمَا الرَّجُلُ يَمْشِي إِلَى جَنْبِ حَائِطٍ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، إِذِ اسْتَقْبَلَهُ الْحَائِطُ فَشَقَّ أَنْفَهُ، فَقَالَ:
وَاللَّهِ لَا أَغْسِلُ الدَّمَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُعْلِمُهُ أَمْرِي، فَأَتَاهُ فَقَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ:
هَذَا عُقُوبَةُ ذَنْبِكَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابْنِ عَبَّاسٍ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ قَالَ: يَعْنِي مِنْ شَهَوَاتِهِمْ مِمَّا يَكْرَهُ اللَّهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ الْأُولَى لَكَ وَلَيْسَتْ لَكَ الْأُخْرَى» وَفِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إيّاكم والجلوس على الطرقات، قالوا: يا رسول الله ما لنا بدّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: إِنْ أَبَيْتُمْ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا، قُلْتُ: إِذَا كَانَ أحدنا خاليا، قال: فالله أحقّ أن يستحيى مِنْهُ مِنَ النَّاسِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَتَبَ اللَّهُ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَزِنَا الْأُذُنَيْنِ السَّمَاعُ، وَزِنَا الْيَدَيْنِ الْبَطْشُ، وَزِنَا الرِّجْلَيْنِ الْخَطْوُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّظْرَةُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومَةٌ، فَمَنْ تَرَكَهَا مِنْ خَوْفِ اللَّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ قَالَ: بَلَغَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ حَدَّثَ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ كَانَتْ فِي نَخْلٍ لَهَا لَبَنِي حَارِثَةَ، فَجَعَلَ النِّسَاءُ يَدْخُلْنَ عَلَيْهَا غَيْرَ مُتَّزِرَاتٍ فَيَبْدُو مَا فِي أَرْجُلِهِنَّ، يَعْنِي الْخَلَاخِلَ، وَتَبْدُو صُدُورُهُنَّ وَذَوَائِبُهُنَّ، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: مَا أَقْبَحَ هَذَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ الْآيَةَ وَفِيهِ مَعَ كَوْنِهِ مُرْسَلًا مُقَاتِلٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ
(4/30)
 
 
مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ قَالَ: الزِّينَةُ السِّوَارُ وَالدُّمْلُجُ «1» وَالْخَلْخَالُ وَالْقُرْطُ وَالْقِلَادَةُ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها قَالَ: الثِّيَابُ وَالْجِلْبَابُ. وَأَخْرَجَ ابن شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: الزِّينَةُ زِينَتَانِ:
زِينَةٌ ظَاهِرَةٌ وَزِينَةٌ بَاطِنَةٌ لَا يَرَاهَا إِلَّا الزَّوْجُ، فَأَمَّا الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ فَالثِّيَابُ، وَأَمَّا الزِّينَةُ الْبَاطِنَةُ فَالْكُحْلُ وَالسِّوَارُ وَالْخَاتَمُ. وَلَفْظُ ابْنُ جَرِيرٍ: فَالظَّاهِرَةُ مِنْهَا: الثِّيَابُ، وَمَا خَفِيَ: الْخَلْخَالَانِ، وَالْقُرْطَانِ، وَالسِّوَارَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها قَالَ: الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها قَالَ:
الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَالْقُرْطُ وَالْقِلَادَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: هُوَ خِضَابُ الْكَفِّ وَالْخَاتَمِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ. وَأَخْرَجَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَجْهُهَا وَكَفَّاهَا وَالْخَاتَمُ، وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْهُ قَالَ: رُقْعَةُ الْوَجْهِ، وَبَاطِنُ الْكَفِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ قَالَ:
الْقَلْبُ «2» وَالْفَتْخُ «3» ، وَضَمَّتْ طَرَفَ كُمِّهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَقَالَ: يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفِّهِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: هَذَا مُرْسَلٌ لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ عَنْ عَائِشَةَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ: قَالَتْ: «رَحِمَ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُولَاتِ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ شَقَقْنَ أَكْثَفَ مُرُوطِهِنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهَا بِلَفْظِ: أَخَذَ النِّسَاءُ أُزْرَهُنَّ فَشَقَقْنَهَا مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي فَاخْتَمَرْنَ بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها وَالزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ الْوَجْهُ وَكُحْلُ الْعَيْنَيْنِ وَخِضَابُ الْكَفِّ وَالْخَاتَمُ، فَهَذَا تُظْهِرُهُ فِي بَيْتِهَا لِمَنْ دَخَلَ عَلَيْهَا.
ثُمَّ قَالَ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ الْآيَةَ، وَالزِّينَةُ الَّتِي تُبْدِيهَا لِهَؤُلَاءِ قُرْطُهَا وَقِلَادَتُهَا وَسِوَارُهَا، فَأَمَّا خَلْخَالُهَا وَمِعْضَدُهَا وَنَحْرُهَا وَشَعْرُهَا فَإِنَّهَا لَا تُبْدِيهِ إِلَّا لِزَوْجِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ نِسائِهِنَّ قَالَ: هُنَّ الْمُسْلِمَاتُ، لَا تبديه ليهودية، ولا لنصرانية، وَهُوَ النَّحْرُ وَالْقُرْطُ وَالْوِشَاحُ، وَمَا يَحْرُمُ أَنْ يَرَاهُ إِلَّا مَحْرَمٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَ نِسَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَانْهَ مَنْ قِبَلَكَ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أن ينظر إلى عورتها إلى أَهْلُ مِلَّتِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا بَأْسَ أن يرى العبد
__________
(1) . الدّملج: الحلّي يوضع في العضد.
(2) . القلب: الأساور.
(3) . قال في النهاية: الفتخ: خواتيم كبار توضع في الأيدي وربما في الأرجل.
(4/31)
 
 
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
شَعْرَ سَيِّدَتِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فَاطِمَةَ بِعَبْدٍ قَدْ وُهِبَ لَهَا وعلى فاطمة ثوب إذا قنّعت بِهِ رَأْسُهَا لَمْ يَبْلُغْ رِجْلَيْهَا، وَإِذَا غَطَّتْ به رِجْلَيْهَا لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَلْقَى قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلَامُكِ» وَإِسْنَادُهُ فِي سنن أبي داود هكذا: حدّثنا محمد ابن عِيسَى حَدَّثَنَا أَبُو جُمَيْعٍ سَالِمُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، وَكَانَ لَهُ مَا يُؤَدِّي فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» ، وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ هَكَذَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ نبهان عن أُمَّ سَلَمَةَ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ قَالَ: هَذَا الَّذِي لا تستحي مِنْهُ النِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ يَتْبَعُ الْقَوْمَ وَهُوَ مُغَفَّلٌ فِي عَقْلِهِ، لَا يَكْتَرِثُ لِلنِّسَاءِ وَلَا يَشْتَهِي النِّسَاءَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَتْبَعُ الرَّجُلَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ لَا يَغَارُ عَلَيْهِ وَلَا تَرْهُبُ الْمَرْأَةُ أَنْ تَضَعَ خِمَارَهَا عِنْدَهُ، وَهُوَ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: هو المخنّث الذي لا يقوم قضيبه. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَجُلٌ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مُخَنَّثٌ، فَكَانُوا يَدْعُونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الإربة، فدخل النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَوْمًا وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأَةً قَالَ: إِذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَعٍ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: أَلَا أَرَى هَذَا يَعْرِفُ مَا هَاهُنَا لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ» فَحَجَبُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ وَهُوَ أَنْ تَقْرَعَ الْخَلْخَالَ بِالْآخَرِ عِنْدَ الرِّجَالِ، أَوْ يَكُونُ فِي رِجْلِهَا خَلَاخِلُ فَتُحَرِّكُهُنَّ عِنْدَ الرِّجَالِ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الشيطان.
 
[سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
لَمَّا أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِغَضِّ الْأَبْصَارِ، وَحِفْظِ الْفُرُوجِ، أَرْشَدَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَا يَحِلُّ لِلْعِبَادِ مِنَ النِّكَاحِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ، وَسُكُونُ دَوَاعِي الزِّنَا، وَيَسْهُلُ بَعْدَهُ غَضُّ الْبَصَرِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَحِفْظِ الْفَرْجِ عَمَّا لَا يَحِلُّ، فَقَالَ: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ الْأَيِّمُ: الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَالْجَمْعُ أَيَامَى، والأصل أيايم، والأيم بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَيَشْمَلُ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ: اتَّفَقَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الأيم
(4/32)
 
 
فِي الْأَصْلِ هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يُقَالُ رَجُلٌ أَيِّمٌ وَامْرَأَةٌ أَيِّمٌ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي النِّسَاءِ، وَهُوَ كَالْمُسْتَعَارِ فِي الرجال، ومه قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
لِلَّهِ دَرُّ بَنِي عَلِيٍّ ... أَيِّمٍ مِنْهُمْ وَنَاكِحِ
وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ الْآخَرِ:
لَقَدْ إِمْتُ حَتَّى لَامَنِي كُلُّ صاحب ... رجاء بسلمى أن تئيم كَمَا إِمْتُ
وَالْخِطَابُ فِي الْآيَةِ: لِلْأَوْلِيَاءِ، وَقِيلَ: لِلْأَزْوَاجِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُنْكِحُ نَفْسَهَا، وَقَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي النكاح هل هو مُبَاحٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ، أَوْ وَاجِبٌ؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ: الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِلَى الثَّانِي: مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِلَى الثَّالِثِ: بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا:
إِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي الْمَعْصِيَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْإِبَاحَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ لَا يُخَالِفُونَ فِي الْوُجُوبِ مَعَ تِلْكَ الْخَشْيَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مَعَ عَدَمِهَا سُنَّةٌ مِنَ السُّنَنِ المؤكدة لقوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بَعْدَ تَرْغِيبِهِ فِي النِّكَاحِ: «وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَلَكِنْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى مُؤَنِهِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَالْمُرَادُ بِالْأَيَامَى هُنَا: الْأَحْرَارُ وَالْحَرَائِرُ، وَأَمَّا الْمَمَالِيكُ فَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «عِبَادِكُمْ» وَقَرَأَ الْحَسَنُ «عَبِيدِكُمْ» قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ وَإِمَاءَكُمْ بِالنَّصْبِ بِرَدِّهِ عَلَى الصَّالِحِينَ، وَالصَّلَاحُ: هُوَ الْإِيمَانُ. وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ الصَّلَاحَ فِي الْمَمَالِيكِ دُونَ الْأَحْرَارِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْأَحْرَارِ الصَّلَاحُ بِخِلَافِ الْمَمَالِيكِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يُزَوِّجُ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا يُزَوِّجُهُ مَالِكُهُ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُكْرِهَ عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ عَلَى النِّكَاحِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ. ثُمَّ رَجَعَ سُبْحَانَهُ إِلَى الْكَلَامِ فِي الْأَحْرَارِ فَقَالَ: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ لَا تَمْتَنِعُوا مِنْ تَزْوِيجِ الْأَحْرَارِ بِسَبَبِ فَقْرِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّهُمْ إِنْ يَكُونُوا فَقُرَّاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَيَتَفَضَّلْ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: حَثَّ اللَّهُ عَلَى النِّكَاحِ وَأَعْلَمَ أَنَّهُ سَبَبٌ لِنَفْيِ الْفَقْرِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حَاصِلًا لِكُلِّ فَقِيرٍ إِذَا تَزَوَّجَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِالْمَشِيئَةِ. وَقَدْ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ لَا يَحْصُلُ لَهُمُ الْغِنَى إِذَا تَزَوَّجُوا. وَقِيلَ الْمَعْنَى:
إِنَّهُ يُغْنِيهِ بِغِنَى النَّفْسِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنْ يَكُونُوا فَقُرَاءَ إِلَى النِّكَاحِ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مَنْ فَضْلِهِ بِالْحَلَالِ لِيَتَعَفَّفُوا عَنِ الزِّنَا.
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ «1» فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ هُنَا عَلَى الْمُقَيَّدِ هُنَاكَ، وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَمُقَرِّرَةٌ لها، والمراد أن سُبْحَانَهُ ذُو سَعَةٍ لَا يَنْقُصُ مِنْ سَعَةِ مُلْكِهِ غِنَى مَنْ يُغْنِيهِ مِنْ عِبَادِهِ عَلِيمٌ بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ، يُغْنِي مَنْ يَشَاءُ وَيُفْقِرُ مَنْ يَشَاءُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْعَاجِزِينَ عَنِ النِّكَاحِ، بَعْدَ بَيَانِ جَوَازِ مُنَاكَحَتِهِمْ، إِرْشَادًا لَهُمْ إِلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى فَقَالَ: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً اسْتَعَفَّ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ عفيفا، أي: ليطلب العفة عن الزنا
__________
(1) . التوبة: 28.
(4/33)
 
 
وَالْحَرَامِ مَنْ لَا يَجِدُ نِكَاحًا، أَيْ: سَبَبَ نِكَاحٍ، وَهُوَ الْمَالُ. وَقِيلَ: النِّكَاحُ هُنَا مَا تُنْكَحُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، كَاللِّحَافِ: اسْمٌ لِمَا يُلْتَحَفُ بِهِ، وَاللِّبَاسِ: اسْمٌ لِمَا يُلْبَسُ، وَقَيَّدَ سُبْحَانَهُ هَذَا النَّهْيَ بِتِلْكَ الْغَايَةِ، وَهِيَ حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ: يَرْزُقَهُمْ رِزْقًا يَسْتَغْنُونَ بِهِ وَيَتَمَكَّنُونَ بِسَبَبِهِ مِنَ النِّكَاحِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْيِيدِ، الْجُمْلَةِ الْأُولَى: وَهِيَ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ بِالْمَشِيئَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ وَعْدًا حَتْمًا، لَا مَحَالَةَ فِي حُصُولِهِ، لَكَانَ الْغِنَى وَالزَّوَاجُ مُتَلَازِمَيْنِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِعْفَافِ مَعَ الْفَقْرِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ، فَإِنَّهُ سَيُغْنَى عِنْدَ تَزَوُّجِهِ لَا مَحَالَةَ، فَيَكُونُ فِي تَزَوُّجِهِ مَعَ فَقْرِهِ تَحْصِيلٌ لِلْغِنَى، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ بِالِاسْتِعْفَافِ لِلْعَاجِزِ عَنْ تَحْصِيلِ مَبَادِئِ النِّكَاحِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ وُقُوعُ الْغِنَى لَهُ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَنْكِحَ، فَإِنَّهُ قَدْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ نِكَاحًا إِذَا كَانَ غَيْرَ وَاجِدٍ لِأَسْبَابِهِ الَّتِي يَتَحَصَّلُ بِهَا، وَأَعْظَمُهَا: الْمَالُ. ثُمَّ لَمَّا رَغَّبَ سُبْحَانَهُ فِي تَزْوِيجِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، أَرْشَدَ الْمَالِكِينَ إِلَى طَرِيقَةٍ يَصِيرُ بِهَا الْمَمْلُوكُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْرَارِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الموصول في محل رفع، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، أَيْ: وَكَاتِبُوا الذين يبتغون الكتاب: كَالْمُكَاتَبَةِ، يُقَالُ: كَاتَبَ يُكَاتِبُ كِتَابًا وَمُكَاتَبَةً، كَمَا يُقَالُ قَاتَلَ يُقَاتِلُ قِتَالًا وَمُقَاتَلَةً. وَقِيلَ: الْكِتَابُ هَاهُنَا اسْمُ عَيْنٍ لِلْكِتَابِ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ الشَّيْءُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا كَاتَبُوا الْعَبْدَ كَتَبُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ كِتَابًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِينَ يَطْلُبُونَ كِتَابَ الْمُكَاتَبَةِ. وَمَعْنَى الْمُكَاتَبَةِ فِي الشَّرْعِ: أَنْ يُكَاتِبَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ مُنَجَّمًا، فَإِذَا أَدَّاهُ فَهُوَ حُرٌّ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَكاتِبُوهُمْ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا طَلَبَ الْكِتَابَةَ مِنْ سَيِّدِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُكَاتِبَهُ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ، وَهُوَ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَالْخَيْرُ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَاءِ مَا كُوتِبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَالُ فَقَطْ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ وَطَاوُسٌ وَمُقَاتِلٌ. وَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ زَيْدٍ، وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُ إِنْ رَجَوْتُمْ عِنْدَهُمْ وَفَاءً، وَتَأْدِيَةً لِلْمَالِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَمَّا قَالَ: «فِيهِمْ» كَانَ الْأَظْهَرُ الِاكْتِسَابَ، وَالْوَفَاءَ وَأَدَاءَ الْأَمَانَةِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: إِنَّ الْخَيْرَ: الدِّينُ وَالْأَمَانَةُ. وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ الْمَالُ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا، لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ لِمَوْلَاهُ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ مَالٌ؟ قَالَ:
وَالْمَعْنَى عِنْدَنَا إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمُ الدِّينَ وَالصِّدْقَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَنْ لَمْ يَقُلْ إِنَّ الْخَيْرَ هُنَا الْمَالُ أَنْكَرَ أَنْ يُقَالَ: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ مَالًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ عَلِمْتُ فِيهِ الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ وَالْأَمَانَةَ، وَلَا يُقَالُ عَلِمْتُ فِيهِ الْمَالَ.
هَذَا حَاصِلُ مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أهل العلم في الخبر الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ ظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مِنَ الْوُجُوبِ، أما عكرمة وعطاء ومسروق وعمرو بْنُ دِينَارٍ وَالضَّحَّاكُ: وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُكَاتِبَ مَمْلُوكَهُ، إِذَا طَلَبَ مِنْهُ ذَلِكَ وَعَلِمَ فِيهِ خَيْرًا.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ، وَتَمَسَّكُوا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَأَلَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، فَكَذَا الْكِتَابَةُ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذِهِ حُجَّةٌ وَاهِيَةٌ وَشُبْهَةٌ دَاحِضَةٌ، وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ
(4/34)
 
 
عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ الْمَوَالِيَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُكَاتَبِينَ، فَقَالَ: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرُ لِلْمَالِكِينَ بِإِعَانَةِ الْمُكَاتَبِينَ عَلَى مَالِ الْكِتَابَةِ، إما بأن يعطوهم شيئا من المال، أو بأن يَحُطُّوا عَنْهُمْ مِمَّا كُوتِبُوا عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ عَدَمُ تَقْدِيرِ ذَلِكَ بِمِقْدَارٍ، وَقِيلَ: الثُّلُثُ، وَقِيلَ: الرُّبُعُ، وَقِيلَ:
الْعُشْرُ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِ الْمَوَالِي بِهَذَا الْأَمْرِ هُوَ كَوْنُ الْكَلَامِ فِيهِمْ، وَسِيَاقُ الْكَلَامِ مَعَهُمْ فَإِنَّهُمُ الْمَأْمُورُونَ بِالْكِتَابَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ والنخعي وبريدة: إن الخطاب بقول: وَآتُوهُمْ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ:
إِنَّ الْخِطَابَ لِلْوُلَاةِ بِأَنْ يُعْطُوا الْمُكَاتَبِينَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ حَظَّهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَفِي الرِّقابِ «1» ، وَلِلْمُكَاتَبِ أَحْكَامٌ مَعْرُوفَةٌ إِذَا وَفَّى بِبَعْضِ مَالِ الْكِتَابَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَرْشَدَ الْمَوَالِيَ إِلَى نِكَاحِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْمَمَالِيكِ، نَهَى الْمُسْلِمِينَ عَمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إِكْرَاهِ إِمَائِهِمْ عَلَى الزِّنَا فَقَالَ: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ وَالْمُرَادُ بِالْفَتَيَاتِ هُنَا: الْإِمَاءُ، وَإِنْ كَانَ الْفَتَى وَالْفَتَاةُ قَدْ يُطْلَقَانِ عَلَى الْأَحْرَارِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.
وَالْبِغَاءُ: الزِّنَا، مَصْدَرُ بَغَتِ الْمَرْأَةُ تَبْغِي بِغَاءً إِذَا زَنَتْ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِزِنَا النِّسَاءِ، فَلَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا زَنَا إِنَّهُ بَغِيٌّ، وَشَرَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَتِهِمْ لِلتَّحَصُّنِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ تُرِدِ التَّحَصُّنَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَهَا مُكْرَهَةٌ عَلَى الزِّنَا، وَالْمُرَادُ بِالتَّحَصُّنِ هُنَا: التَّعَفُّفُ وَالتَّزَوُّجُ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقَيْدَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَيَامَى. قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ، وَإِمَائِكُمْ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا. وَقِيلَ: هَذَا الشَّرْطُ مُلْغًى. وَقِيلَ:
إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُكْرِهُونَهُنَّ وَهُنَّ يُرِدْنَ التَّعَفُّفَ، وَلَيْسَ لِتَخَصُّصِ النَّهْيِ بِصُورَةِ إِرَادَتِهِنَّ التَّعَفُّفَ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ عَدَمِ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْوَى هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَإِنَّ الْأَمَةَ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ مُرِيدَةٍ لِلْحَلَالِ وَلَا لِلْحَرَامِ، كَمَا فِيمَنْ لَا رَغْبَةَ لها في النكاح كالصغيرة، فَتُوصَفُ بِأَنَّهَا مُكْرَهَةٌ عَلَى الزِّنَا، مَعَ عَدَمِ إِرَادَتِهَا لِلتَّحَصُّنِ، فَلَا يَتِمُّ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِكْرَاهُ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحَصُّنِ هُنَا مُجَرَّدُ التَّعَفُّفِ، وَأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَى مَنْ كَانَتْ تُرِيدُ الزَّوَاجَ أَنَّهَا مُرِيدَةٌ لِلتَّحَصُّنِ وهو بعيد، فقد قال الحبر ابن عباس: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحَصُّنِ: التَّعَفُّفُ وَالتَّزَوُّجُ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُ، ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُوَ مَا تَكْسِبُهُ الْأَمَةُ بِفَرْجِهَا، وَهَذَا التَّعْلِيلُ أَيْضًا خَارِجٌ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْعَرَضَ هُوَ الَّذِي كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى إِكْرَاهِ الْإِمَاءِ عَلَى الْبِغَاءِ فِي الْغَالِبِ، لِأَنَّ إِكْرَاهَ الرَّجُلِ لِأَمَتِهِ عَلَى الْبِغَاءِ لَا لِفَائِدَةٍ لَهُ أَصْلًا، لَا يَصْدُرُ مِثْلُهُ عَنِ الْعُقَلَاءِ، فَلَا يَدُلُّ هَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكْرِهَهَا، إِذَا لَمْ يَكُنْ مُبْتَغِيًا بِإِكْرَاهِهَا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ لِلْإِكْرَاهِ هُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَادَتَهُمْ كَانَتْ كَذَلِكَ، لَا أَنَّهُ مَدَارٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِكْرَاهِ لَهُنَّ، وَهَذَا يُلَاقِي المعنى الأوّل ولا يخالفه وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ هَذَا مُقَرِّرٌ لِمَا قَبْلَهُ وَمُؤَكِّدٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ عُقُوبَةَ الْإِكْرَاهِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُكْرِهِينَ لَا إِلَى الْمُكْرَهَاتِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسَعِيدُ بْنُ جبير:
__________
(1) . البقرة: 177.
(4/35)
 
 
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُنَّ. قِيلَ: وَفِي هَذَا التَّفْسِيرِ بُعْدٌ، لِأَنَّ الْمُكْرَهَةَ عَلَى الزِّنَا غَيْرُ آثِمَةٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً، فَرُبَّمَا لَا تَخْلُو فِي تَضَاعِيفِ الزِّنَا عَنْ شَائِبَةٍ مُطَاوَعَةٍ إِمَّا بِحُكْمِ الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ، أَوْ يَكُونُ الْإِكْرَاهُ قَاصِرًا عَنْ حَدِّ الْإِلْجَاءِ الْمُزِيلِ لِلِاخْتِيَارِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُمْ: إِمَّا مُطْلَقًا، أَوْ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ. وَلَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ بَيَانِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، شَرَعَ فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ بِصِفَاتٍ ثَلَاثٍ:
الْأُولَى: أَنَّهُ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ، أَيْ: وَاضِحَاتٍ فِي أَنْفُسِهِنَّ أَوْ مُوَضَّحَاتٍ، فَتَدْخُلُ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ، أَيْ: مَثَلًا كَائِنًا مِنْ جِهَةِ أَمْثَالِ الَّذِينَ مَضَوْا مِنَ الْقَصَصِ الْعَجِيبَةِ، وَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لَهُمْ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّ الْعَجَبَ مِنْ قِصَّةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، هُوَ كَالْعَجَبِ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَمَرْيَمَ وَمَا اتُّهِمَا بِهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ بُطْلَانُهُ وَبَرَاءَتُهُمَا سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: كَوْنُهُ مَوْعِظَةً يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُتَّقُونَ خَاصَّةً، فَيَقْتَدُونَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَوَامِرِ، وَيَنْزَجِرُونَ عَمَّا فِيهِ مِنَ النَّوَاهِي. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَّقِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً عَنْ سَمَاعِ الْمَوَاعِظِ، والاعتبار بقصص الذين خلوا، وفهم ما تشمل عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى الْآيَةَ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالنِّكَاحِ وَرَغَّبَهُمْ فِيهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُزَوِّجُوا أَحْرَارَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْغِنَى فَقَالَ: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: أَطِيعُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ مِنَ النِّكَاحِ يُنْجِزُ لَكُمْ مَا وَعَدَكُمْ مِنَ الْغِنَى، قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ:
مَا رَأَيْتُ كَرَجُلٍ لَمْ يَلْتَمِسِ الْغِنَى فِي الْبَاءَةِ، وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ فِيهَا مَا وَعَدَ، فَقَالَ: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْكِحُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّهُنَّ يَأْتِينَكُمْ بِالْمَالِ» . وَأَخْرَجَهُ ابن أبي شيبة وأبو داود في مراسيله عن عروة مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يذكر عائشة وهو مرسل. وأخرج عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: النَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ، وَالْمُكَاتَبُ يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّرْغِيبِ فِي مُطْلَقِ النِّكَاحِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً قَالَ: لِيَتَزَوَّجْ مَنْ لَا يَجِدُ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُغْنِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ السَّكَنِ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صُبَيْحٍ عَنْ أبيه قال: كنت مملوكا لحويطب ابن عَبْدِ الْعُزَّى، فَسَأَلْتُهُ الْكِتَابَةَ فَأَبَى، فَنَزَلَتْ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَأَلَنِي سِيرِينُ الْمُكَاتَبَةَ فَأَبَيْتُ عَلَيْهِ، فَأَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: كَاتِبْهُ وَتَلَا فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فَكَاتَبْتُهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ إِسْنَادَهُ
(4/36)
 
 
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قَالَ: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ حِرْفَةً، وَلَا تُرْسِلُوهُمْ كَلًّا عَلَى النَّاسِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ المنذر وابن وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قَالَ: الْمَالُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَمَانَةٌ وَوَفَاءٌ.
وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: إِنْ عَلِمْتَ مُكَاتَبَكَ يَقْضِيكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ حِيلَةً، وَلَا تُلْقُوا مُؤْنَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ يعني: ضعوا عنهم من مُكَاتَبَتِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حِرْفَةٌ وَيَقُولُ: يُطْعِمُنِي مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الْآيَةَ: أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُعَيِّنُوا فِي الرِّقَابِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَمَرَ اللَّهُ السَّيِّدَ أَنْ يَدَعَ لِلْمُكَاتَبِ الرُّبُعَ مِنْ ثَمَنِهِ. وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ لَيْسَ بِفَرِيضَةٍ، وَلَكِنْ فِيهِ أَجْرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالرُّويَانِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ بُرَيْدَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: حَثَّ النَّاسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطُوهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُسْلِمٌ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يقول الجارية لَهُ: اذْهَبِي فَابْغِينَا شَيْئًا، وَكَانَتْ كَارِهَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ لهنّ غَفُورٌ رَحِيمٌ هكذا كان يقرؤها، وَذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ جَارِيَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ: يُقَالُ لَهَا مُسَيْكَةُ، وَأُخْرَى يُقَالُ لَهَا أُمَيْمَةُ، فَكَانَ يُرِيدُهُمَا عَلَى الزِّنَا، فَشَكَتَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَ حَدِيثِ جَابِرٍ الْأَوَّلِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغِينَ إِمَاءَهُمْ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُكْرِهُونَ إِمَاءَهُمْ عَلَى الزِّنَا، يَأْخُذُونَ أُجُورَهُنَّ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ مِنْهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَكَسْبِ الْحَجَّامِ وَحُلْوَانِ الكاهن.
 
[سورة النور (24) : الآيات 35 الى 38]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)
(4/37)
 
 
لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا بَيَّنَ، أَرْدَفَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ سُبْحَانَهُ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ فَقَالَ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا، وَالِاسْمُ الشَّرِيفُ: مُبْتَدَأٌ، ونور السموات وَالْأَرْضِ:
خَبَرُهُ، إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ذو نور السموات وَالْأَرْضِ، أَوْ لِكَوْنِ الْمُرَادِ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ نُورٌ لِكَمَالِ جَلَالِهِ وَظُهُورِ عَدْلِهِ وبسط أَحْكَامَهُ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ نُورُ الْبَلَدِ وَقَمَرُ الزَّمَنِ وَشَمْسُ الْعَصْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
فَإِنَّكَ شَمْسٌ وَالْمُلُوكُ كَوَاكِبُ ... إِذَا ظَهَرَتْ لَمْ يَبْقَ فيهنّ كوكب «1»
وقول الآخر:
هلّا خصصت من البلاد بمقصد ... قَمَرُ الْقَبَائِلِ خَالِدُ بْنُ يَزِيدِ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ مَرْوِ لَيْلَةً ... فَقَدْ سَارَ مِنْهَا نُورُهَا وَجِمَالُهَا
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
نَسَبٌ كَأَنَّ عَلَيْهِ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى ... نُورًا وَمِنْ فَلَقَ الصَّبَاحِ عَمُودَا
وَمَعْنَى النُّورِ فِي اللُّغَةِ: الضِّيَاءُ، وَهُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ الْأَشْيَاءَ وَيُرِيَ الْأَبْصَارَ حَقِيقَةَ مَا تَرَاهُ، فَيَجُوزُ إِطْلَاقُ النُّورِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَدْحِ، وَلِكَوْنِهِ أَوْجَدَ الْأَشْيَاءِ الْمُنَوَّرَةِ وَأَوْجَدَ أَنْوَارَهَا وَنُورَهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قِرَاءَةُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَكِّيِّ «الله نور السموات وَالْأَرْضَ» عَلَى صِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَفَاعِلِهِ ضَمِيرٌ يرجع إلى الله، والسموات مَفْعُولُهُ فَمَعْنَى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ صَيَّرَهُمَا مُنِيرَتَيْنِ بِاسْتِقَامَةِ أَحْوَالِ أَهْلِهِمَا وَكَمَالِ تَدْبِيرِهِ عَزَّ وَجَلَّ لِمَنْ فِيهِمَا، كَمَا يُقَالُ: الْمَلِكُ نُورُ الْبَلَدِ، هَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَزْهَرِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالْقُرَظِيُّ وَابْنُ عَرَفَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِمْ، وَمَثَلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَأَنْتَ لَنَا نُورٌ وغيث وعصمة ... ونبت لمن يرجو نداك وريق
وَقَالَ هِشَامٌ الْجَوَالِيقِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُجَسِّمَةِ: إِنَّهُ سُبْحَانَهُ نُورٌ لَا كَالْأَنْوَارِ، وَجِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ، وَقَوْلُهُ:
مَثَلُ نُورِهِ مُبْتَدَأٌ. وَخَبَرُهُ كَمِشْكاةٍ أَيْ: صِفَةُ نُورِهِ الْفَائِضِ عَنْهُ، الظَّاهِرُ عَلَى الْأَشْيَاءِ كَمِشْكَاةِ، وَالْمِشْكَاةُ: الْكُوَّةُ فِي الْحَائِطِ غَيْرُ النَّافِذَةِ، كَذَا حَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ عَنْ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ جُمْهُورِهِمْ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الْمِشْكَاةِ أَنَّهَا أَجْمَعُ لِلضَّوْءِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ، مِنْ مِصْبَاحٍ أو غيره، وأصل المشكاة الوعاء يُجْعَلُ فِيهِ الشَّيْءُ. وَقِيلَ: الْمِشْكَاةُ عَمُودُ الْقِنْدِيلِ الَّذِي فِيهِ الْفَتِيلَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْقِنْدِيلُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
كَأَنَّ عَيْنَيْهِ مشكاتان في حجر
__________
(1) . وفي رواية: إذا طلعت لم يبد منهن كوكب.
(4/38)
 
 
ثُمَّ قَالَ: فِيها مِصْباحٌ وَهُوَ السِّرَاجُ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ قَالَ الزَّجَّاجُ: النُّورُ فِي الزُّجَاجِ، وَضَوْءُ النَّارِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وضوؤه يَزِيدُ فِي الزُّجَاجِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الزُّجَاجَ جِسْمٌ شَفَّافٌ يَظْهَرُ فِيهِ النُّورُ أَكْمَلَ ظُهُورٍ. ثُمَّ وَصَفَ الزُّجَاجَةَ فَقَالَ: الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أَيْ: مَنْسُوبٌ إِلَى الدُّرِّ لِكَوْنِ فِيهِ مِنَ الصَّفَاءِ وَالْحُسْنِ مَا يُشَابِهُ الدُّرَّ. وَقَالَ الضحاك: الكوكب الدّري: الزهرة. قرأ أبو عمرو «دِرِّيٌّ» بِكَسْرِ الدَّالِّ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: لَمْ أَسْمَعْ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: إِلَّا كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دِرِّيٌّ بِكَسْرِ الدَّالِّ، أَخَذُوهُ مَنْ دَرَأَتِ النُّجُومُ تَدْرَأُ إِذَا انْدَفَعَتْ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِضَمِّ الدَّالِّ مَهْمُوزًا، وأنكره الفراء والزجاج والمبرد.
وقال أَبُو عُبَيْدٍ: إِنْ ضَمَمْتَ الدَّالَّ وَجَبَ أَنْ لَا تَهْمِزَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالدَّرَارِيُّ: هِيَ الْمَشْهُورَةُ مِنَ الْكَوَاكِبِ كَالْمُشْتَرِي وَالزُّهْرَةِ وَالْمِرِّيخِ وَمَا يُضَاهِيهَا مِنَ الثَّوَابِتِ. ثُمَّ وَصَفَ الْمِصْبَاحَ بِقَوْلِهِ: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ وَمِنْ هَذِهِ: هِيَ الِابْتِدَائِيَّةُ، أَيْ: ابْتِدَاءُ إِيقَادِ الْمِصْبَاحِ مِنْهَا، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: يُوقَدُ مِنْ زَيْتِ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ، وَالْمُبَارَكَةُ: الْكَثِيرَةُ الْمَنَافِعِ. وَقِيلَ: الْمُنَمَّاةُ، وَالزَّيْتُونُ مِنْ أَعْظَمِ الثِّمَارِ نَمَاءً، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ يَرْثِي مُسَافِرَ بْنَ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ:
لَيْتَ شِعْرِي مُسَافِرَ بْنَ أَبِي عَمْرٍو ... وَلَيْتَ يَقُولُهَا الْمَحْزُونُ
بُورِكَ الْمَيِّتُ الْغَرِيبُ كَمَا بو ... رك نَبْعُ الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُونِ
قِيلَ: وَمِنْ بَرَكَتِهَا أَنَّ أَغْصَانَهَا تُورِقُ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى أَعْلَاهَا، وَهِيَ إِدَامٌ وَدِهَانٌ وَدِبَاغٌ وَوَقُودٌ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ، ثُمَّ وَصَفَهَا بِأَنَّهَا لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى هَذَا الْوَصْفِ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ: إِنَّ الشَّرْقِيَّةَ هِيَ الَّتِي تُصِيبُهَا الشَّمْسُ إِذَا شَرَقَتْ، وَلَا تُصِيبُهَا إِذَا غَرَبَتْ. وَالْغَرْبِيَّةُ هِيَ الَّتِي تُصِيبُهَا إِذَا غَرَبَتْ، وَلَا تُصِيبُهَا إِذَا شَرَقَتْ.
وَهَذِهِ الزَّيْتُونَةُ هِيَ فِي صَحْرَاءَ بِحَيْثُ لَا يَسْتُرُهَا عَنِ الشَّمْسِ شَيْءٌ لَا فِي حَالِ شُرُوقِهَا وَلَا فِي حَالِ غُرُوبِهَا، وَمَا كَانَتْ مِنَ الزَّيْتُونِ هَكَذَا فَثَمَرُهَا أَجْوَدُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: إِنَّهَا شَجَرَةٌ فِي دَوْحَةٍ قَدْ أَحَاطَتْ بِهَا، فَهِيَ غَيْرُ مُنْكَشِفَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ، حَكَى هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ الَّتِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَفْسُدُ جَنَاهَا، وَذَلِكَ مُشَاهَدٌ فِي الْوُجُودِ. وَرَجَّحَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ: الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الشَّجَرَةُ مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِنُورِهِ وَلَوْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا لَكَانَتْ إِمَّا شَرْقِيَّةً وَإِمَّا غَرْبِيَّةً. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: قَدْ أَفْصَحَ الْقُرْآنُ بِأَنَّهَا مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: زَيْتُونَةٌ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ شَجَرَةٌ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهَا مِنْ شَجَرِ الشَّامِ، فَإِنَّ الشَّامَ لَا شَرْقِيٌّ وَلَا غَرْبِيٌّ، وَالشَّامُ: هِيَ الْأَرْضُ الْمُبَارَكَةُ. وَقَدْ قُرِئَ «تُوقَدُ» بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الزُّجَاجَةِ دُونَ الْمِصْبَاحِ، وَبِهَا قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَنَافِعٌ وَأَيُّوبٌ وَسَلَامٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الشَّامِ وَحَفْصٌ يُوقَدُ بِالتَّحْتِيَّةِ مَضْمُومَةً وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَضَمِّ الدَّالِّ، وقرأ الحسن والسلمي وأبو عمرو بْنُ الْعَلَاءِ وَأَبُو جَعْفَرٍ «تَوَقَّدَ» بِالْفَوْقِيَّةِ مَفْتُوحَةً، وَفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ وَفَتْحِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ مِنْ تَوَقَّدَ يَتَوَقَّدُ، وَالضَّمِيرُ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى الْمِصْبَاحِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ مُتَقَارِبَتَانِ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا لِلْمِصْبَاحِ، وهو
(4/39)
 
 
أَشْبَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّهُ الَّذِي يُنِيرُ وَيُضِيءُ، وَإِنَّمَا الزُّجَاجَةُ وِعَاءٌ لَهُ. وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ كَقِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو وَمَنْ مَعَهُ إِلَّا أَنَّهُ ضَمَّ الدَّالَّ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مُضَارِعٌ، وَأَصْلُهُ تَتَوَقَّدُ. ثُمَّ وَصَفَ الزَّيْتُونَةَ بِوَصْفٍ آخَرَ فَقَالَ: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تَمْسَسْهُ» بِالْفَوْقِيَّةِ، لِأَنَّ النَّارَ مُؤَنَّثَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّهُ لَا يَعْرِفُ إِلَّا هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ السُّدِّيَّ رَوَى عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عباس أنه قرأ «يمسسه» بالتحتية لكونه تَأْنِيثِ النَّارِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الزَّيْتَ فِي صَفَائِهِ وَإِنَارَتِهِ يَكَادُ يُضِيءُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ أَصْلًا، وَارْتِفَاعُ نُورُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ نور، وعَلى نُورٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِنُورٍ مُؤَكِّدَةٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى: هُوَ نُورٌ كَائِنٌ عَلَى نُورٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَالْمُرَادُ النَّارُ عَلَى الزَّيْتِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمِصْبَاحُ: نُورٌ، وَالزُّجَاجَةُ: نُورٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نُورُ الْإِيمَانِ وَنُورُ الْقُرْآنِ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ: أَيْ هِدَايَةً خَاصَّةً مُوَصِّلَةً إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ هُنَا مُجَرَّدُ الدَّلَالَةِ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ أَيْ يُبَيِّنُ الْأَشْيَاءَ بِأَشْبَاهِهَا وَنَظَائِرِهَا تَقْرِيبًا لَهَا إِلَى الْأَفْهَامِ وَتَسْهِيلًا لِإِدْرَاكِهَا، لِأَنَّ إِبْرَازَ الْمَعْقُولِ فِي هَيْئَةِ الْمَحْسُوسِ وَتَصْوِيرَهُ بِصُورَتِهِ يَزِيدُهُ وُضُوحًا وَبَيَانًا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَعْقُولًا كَانَ أَوْ مَحْسُوسًا، ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا. وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ بم هُوَ مُتَعَلِّقٌ؟ فَقِيلَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، أَيْ: كَمِشْكَاةٍ فِي بَعْضِ بُيُوتِ اللَّهِ وَهِيَ الْمَسَاجِدُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَثَلُ نُورِهِ كَمَا تَرَى فِي الْمَسْجِدِ نُورُ الْمِشْكَاةِ الَّتِي مِنْ صِفَتِهَا كَيْتَ وَكَيْتَ، وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِمِصْبَاحٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ يَقُولُ: هُوَ حَالٌ لِلْمِصْبَاحِ وَالزُّجَاجَةِ وَالْكَوْكَبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهِيَ فِي بُيُوتٍ، وقيل: متعلق بتوقد، أَيْ: تُوقَدُ فِي بُيُوتٍ، وَقَدْ قِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ يُسَبِّحُ، أَيْ: يُسَبِّحُ لَهُ رِجَالٌ فِي بُيُوتٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: «فِيهَا» تَكْرِيرًا كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ جَالِسٌ فِيهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَمَّا قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ اللَّهُ: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ. قَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ أنه من جلس في المسجد فَإِنَّمَا يُجَالِسُ رَبَّهُ. وَقَدْ قِيلَ: عَلَى تَقْدِيرِ تعلقه بمشكاة أو بمصباح أو بتوقد مَا الْوَجْهُ فِي تَوْحِيدِ الْمِصْبَاحِ وَالْمِشْكَاةِ وَجَمْعِ البيوت؟ وَلَا تَكُونُ الْمِشْكَاةُ الْوَاحِدَةُ وَلَا الْمِصْبَاحُ الْوَاحِدُ إِلَّا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ هَذَا مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي يُفْتَحُ أَوَّلُهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَيُخْتَمُ بالجمع كقوله سبحانه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ «1» وَنَحْوِهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَى فِي بُيُوتٍ: فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبُيُوتِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فِي كُلِّ بَيْتٍ، أَوْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبُيُوتِ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْبُيُوتِ، عَلَى أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمَا. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا بُيُوتُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ. الثَّالِثُ أَنَّهَا بُيُوتُ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: الرَّابِعُ:
هِيَ الْبُيُوتُ كلها، قال عِكْرِمَةُ. الْخَامِسُ: أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ الْأَرْبَعَةُ الْكَعْبَةُ، وَمَسْجِدُ قباء، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، قال ابْنُ زَيْدٍ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ والباء من بيوت تُضَمُّ وَتُكْسَرُ كُلُّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي اللُّغَةِ، وَمَعْنَى أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ: أَمَرَ وَقَضَى، وَمَعْنَى تُرْفَعُ تُبْنَى، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ «2» وقال الحسن
__________
(1) . الطلاق: 1. [.....]
(2) . البقرة: 127.
(4/40)
 
 
الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ: مَعْنَى تُرْفَعُ تُعَظَّمُ، وَيُرْفَعُ شَأْنُهَا وَتُطَهَّرُ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْأَقْذَارِ، وَرَجَّحَهُ الزَّجَّاجُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالرَّفْعِ هُنَا مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ، وَمَعْنَى يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ كُلُّ ذِكْرٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقِيلَ: هُوَ التَّوْحِيدُ، وَقِيلَ:
الْمُرَادُ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ «يُسَبَّحُ» بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحِّدَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ إِلَّا ابْنَ وَثَّابٍ وَأَبَا حيوة فإنهما قرءا بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ أَحَدَ الْمَجْرُورَاتِ الثَّلَاثَةِ، ويكون رجال مرفوع عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وَكَأَنَّهُ جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: مَنْ يُسَبِّحُهُ؟ فَقِيلَ:
يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ. الثَّانِي: أَنَّ رِجَالٌ مُرْتَفَعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ رِجَالٌ فَاعِلُ يُسَبِّحُ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّالِثَةِ يَكُونُ الْفَاعِلُ أَيْضًا رِجَالٌ، وَإِنَّمَا أُنِّثَ الْفِعْلُ لِكَوْنِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُؤَنَّثِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.
وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا التَّسْبِيحِ مَا هُوَ؟ فَالْأَكْثَرُونَ حَمَلُوهُ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، قَالُوا: الْغُدُوُّ: صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَالْآصَالُ: صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءَيْنِ، لِأَنَّ اسْمَ الْآصَالِ يَشْمَلُهَا، وَمَعْنَى بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ: بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، وَقِيلَ: صَلَاةُ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ صَلَاةُ الضُّحَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ هُنَا: مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا ذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بَعْدَهُ، وَهَذَا أَرْجَحُ مِمَّا قَبْلَهُ، لكونه المعنى الحقيقي، مع وجود دليل يدل عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُونَ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِرِجَالٍ، أَيْ: لَا تَشْغَلُهُمُ التِّجَارَةُ وَالْبَيْعُ عَنِ الذِّكْرِ وَخَصَّ التِّجَارَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَعْظَمَ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنِ الذِّكْرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: التِّجَارَةُ لِأَهْلِ الْجَلَبِ، وَالْبَيْعُ مَا بَاعَهُ الرَّجُلُ عَلَى بَدَنِهِ، وَخَصَّ قَوْمٌ التِّجَارَةَ هَاهُنَا بِالشِّرَاءِ لِذِكْرِ الْبَيْعِ بَعْدَهَا. وَبِمِثْلِ قَوْلِ الْفَرَّاءِ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فقال التجار: هم الجلاب المسافرون والباعة الْمُقِيمُونَ، وَمَعْنَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ:
هُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْأَذَانُ، وَقِيلَ: عَنْ ذِكْرِهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى. أَيْ:
يُوَحِّدُونَهُ وَيُمَجِّدُونَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ: عَنِ الصَّلَاةِ، وَيَرُدُّهُ ذِكْرُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الذِّكْرِ هُنَا. وَالْمُرَادُ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ إِقَامَتُهَا لِمَوَاقِيتِهَا مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ وَحُذِفَتِ التَّاءُ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَقُومُ مَقَامَهَا فِي ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ جَمَعَهَا الشَّاعِرُ فِي قَوْلِهِ:
ثَلَاثَةٌ تحذف تاءاتها ... مضافة عند جمع النُّحَاةِ
وَهْيَ إِذَا شِئْتَ أَبُو عُذْرِهَا ... وَلَيْتَ شِعْرِي وَإِقَامُ الصَّلَاةِ
وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ فِي الِاسْتِشْهَادِ لِلْحَذْفِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
إنّ الخليط أجدّوا البين فانجردوا ... وَأَخْلَفُوكَ عِدَ الْأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا
أَيْ: عِدَةَ الْأَمْرِ، وَفِي هَذَا الْبَيْتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَذْفَ مَعَ الْإِضَافَةِ لَا يَخْتَصُّ بِتِلْكَ الثَّلَاثَةِ