فتح القدير للشوكاني 004

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: فتح القدير
المؤلف: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ)
 
الِاشْتِرَاءُ الْمَذْكُورُ، كَأَنَّهُ قِيلَ كَيْفَ يَبِيعُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِالْجَنَّةِ؟ فَقِيلَ: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذِهِ الْمُقَاتَلَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى قَتْلِ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ، وَيَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلُوا فَقَدِ اسْتَحَقُّوا الْجَنَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْقَتْلُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْإِبْلَاءِ فِي الْجِهَادِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْمَوْتِ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْكُفَّارِ. قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ: بِتَقْدِيمِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ عَلَى الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَقْدِيمِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ عَلَى الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ. وَقَوْلُهُ: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ إِخْبَارٌ من الله سبحانه: أن فريضة الجهاد استحقاق الْجَنَّةِ بِهَا قَدْ ثَبَتَ الْوَعْدُ بِهَا مِنَ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، كَمَا وَقَعَ فِي القرآن، وانتصاب وعدا وحقا: على المصدرية، أو الثاني نعت للأوّل، وفي التَّوْرَاةِ:
مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: وَعْدًا ثَابِتًا فِيهَا. قَوْلُهُ: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فِي هَذَا مِنْ تَأْكِيدِ التَّرْغِيبِ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي الْجِهَادِ، وَالتَّنْشِيطِ لَهُمْ عَلَى بَذْلِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ مَا لَا يَخْفَى، فَإِنَّهُ أَوَّلًا أَخْبَرَ بِأَنَّهُ قَدِ اشْتَرَى مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، وَجَاءَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ الْفَخِيمَةِ، وَهِيَ كَوْنُ الْجَنَّةِ قَدْ صَارَتْ مِلْكًا لَهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ ثَانِيًا بِأَنَّهُ قَدْ وَعَدَ بِذَلِكَ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ بَعْدَ هَذَا الْوَعْدِ الصَّادِقِ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْمَوْعُودِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا أَحَدَ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ صَادِقُ الْوَعْدِ، لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، ثُمَّ زَادَهُمْ سُرُورًا وَحُبُورًا، فَقَالَ: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ أَيْ: أَظْهِرُوا السُّرُورَ بِذَلِكَ، وَالْبِشَارَةُ: هِيَ إِظْهَارُ السُّرُورِ، وَظُهُورُهُ يَكُونُ فِي بَشَرَةِ الْوَجْهِ، وَلِذَا يُقَالُ: أَسَارِيرُ الْوَجْهِ، أَيِ: الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا السُّرُورُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ هَذَا، وَالْفَاءُ لِتَرْتِيبِ الِاسْتِبْشَارِ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَالْمَعْنَى: أَظْهِرُوا السُّرُورَ بِهَذَا الْبَيْعِ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ الله عزّ وجلّ فقد ربحتم فيها رِبْحًا لَمْ يَرْبَحْهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، إِلَّا مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِكُمْ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْجَنَّةِ، أَوْ إِلَى نَفْسِ الْبَيْعِ الَّذِي رَبِحُوا فِيهِ الْجَنَّةَ، وَوَصْفُ الْفَوْزِ وَهُوَ: الظَّفَرُ بِالْمَطْلُوبِ، بِالْعِظَمِ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَوْزٌ لَا فَوْزَ مِثْلَهُ. قَوْلُهُ: التَّائِبُونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ التَّائِبُونَ، يَعْنِي: الْمُؤْمِنُونَ، وَالتَّائِبُ:
الرَّاجِعُ، أَيْ: هُمُ الرَّاجِعُونَ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَنِ الْحَالَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلطَّاعَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِي عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ:
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ مُضْمَرٌ، أَيِ: التَّائِبُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ لَهُمُ الْجَنَّةُ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُجَاهِدُوا. قَالَ: وَهَذَا أَحْسَنُ، إِذْ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ أَوْصَافًا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَانَ الْوَعْدُ خَاصًّا بِمُجَاهِدِينَ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ: مِنْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُنْفَصِلٌ عَمَّا قَبْلَهُ، طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى.
وَأَنَّهَا عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِ، أَيْ: لَا يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ بِتِلْكَ الْمُبَايَعَةِ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «التَّائِبِينَ الْعَابِدِينَ إِلَى آخِرِهَا» وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَوْصَافٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. الثَّانِي: أَنَّ النَّصْبَ عَلَى الْمَدْحِ. وَقِيلَ: إِنَّ ارْتِفَاعَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ضَمِيرِ يُقَاتِلُونَ، وَجَوَّزَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: أَنْ يَكُونَ التَّائِبُونَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ الْعَابِدُونَ، وَمَا بَعْدَهُ أَخْبَارٌ كَذَلِكَ، أَيِ: التَّائِبُونَ مِنَ الْكُفْرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، الْجَامِعُونَ لِهَذِهِ الْخِصَالِ. وَفِيهِ مِنَ الْبُعْدِ مَا لَا يَخْفَى، وَالْعَابِدُونَ: الْقَائِمُونَ بِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ مع الإخلاص، والْحامِدُونَ: الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ،
(2/464)
 
 
والسَّائِحُونَ: قِيلَ: هُمُ الصَّائِمُونَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، ومنه قوله تعالى: عابِداتٍ سائِحاتٍ وَإِنَّمَا قِيلَ لِلصَّائِمِ: سَائِحٌ، لِأَنَّهُ يَتْرُكُ اللَّذَّاتِ كَمَا يَتْرُكُهَا السَّائِحُ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أبي طالب ابن عبد المطلب:
وبالسّائحين لا يذوقون قطرة ... لربّهم والذاكرات العوامل
وقال آخر:
برّا يُصَلِّي لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ ... يَظَلُّ كَثِيرَ الذِّكْرِ لِلَّهِ سَائِحَا
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَذْهَبُ الْحَسَنِ: أَنَّ السَّائِحِينَ هَاهُنَا هُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ الْفَرْضَ وَقِيلَ: إِنَّهُمُ الَّذِينَ يُدِيمُونَ الصِّيَامَ، وَقَالَ عَطَاءٌ: السَّائِحُونَ: الْمُجَاهِدُونَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: السَّائِحُونَ الْمُهَاجِرُونَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمُ الَّذِينَ يُسَافِرُونَ لِطَلَبِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ. وَقِيلَ: هُمُ الْجَائِلُونَ بِأَفْكَارِهِمْ فِي تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ، وَمَلَكُوتِهِ، وَمَا خَلَقَ مِنَ الْعِبَرِ، وَالسِّيَاحَةُ فِي اللُّغَةِ أَصْلُهَا: الذَّهَابُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا يَسِيحُ الْمَاءُ، وَهِيَ مِمَّا يُعِينُ الْعَبْدَ عَلَى الطَّاعَةِ لِانْقِطَاعِهِ عَنِ الْخَلْقِ، وَلِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِالتَّفَكُّرِ فِي مخلوقات الله سبحانه، والرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ معناه: المصلون، والْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ: الْقَائِمُونَ بِأَمْرِ النَّاسِ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ: الْقَائِمُونَ بِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ فَعَلَ مُنْكَرًا، أَيْ:
شَيْئًا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ: الْقَائِمُونَ بِحِفْظِ شَرَائِعِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي كُتُبِهِ وَعَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَ الْوَاوَ فِي الْوَصْفَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَهُمَا: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ إِلَخْ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِمَنْزِلَةِ خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْحَافِظُونَ بِالْوَاوِ لِقُرْبِهِ وَقِيلَ: إِنَّ الْعَطْفَ فِي الصِّفَاتِ يَجِيءُ بِالْوَاوِ وَبِغَيْرِهَا كَقَوْلِهِ: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ «1» وَقِيلَ: إِنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ وَقِيلَ: هِيَ وَاوُ الثَّمَانِيَةِ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النُّحَاةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً «2» ، وقوله:
وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «3» ، وقوله: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «4» ، وقد أنكر: والثمانية، أَبُو عَلِيِّ الْفَارِسِيُّ، وَنَاظَرَهُ فِي ذَلِكَ ابْنُ خَالَوَيْهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِالصِّفَاتِ السَّابِقَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَغَيْرِهِ قَالُوا: «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رواحة لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ، قَالَ: أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ. قَالُوا: فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فما لنا؟ قال: الجنة، قال:
رَبِحَ الْبَيْعُ لَا نَقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ، فَنَزَلَتْ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ فَكَبَّرَ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ثَانِيًا طَرَفَيْ رِدَائِهِ عَلَى عَاتِقِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: بَيْعٌ رَبِيحٌ لَا نَقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ» . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ اشْتَرَطَ فِي بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ عَلَى مَنْ بايعه
__________
(1) . غافر: 3.
(2) . التحريم: 5. [.....]
(3) . الزمر: 73.
(4) . الكهف: 22.
(2/465)
 
 
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
مِنَ الْأَنْصَارِ: «أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَالسَّمْعَ وَالطَّاعَةَ، وَلَا يُنَازِعُوا فِي الْأَمْرِ أَهْلَهُ، وَيَمْنَعُوهُ مِمَّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ، قَالُوا: نَعَمْ قَالَ قَائِلُ الْأَنْصَارِ: نَعَمْ، هَذَا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَمَا لَنَا؟ قال: الجنة» . وأخرج ابن سعد أيضا من وجه آخر ليس فِي قِصَّةِ الْعَقَبَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
مَنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ التِّسْعِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الشَّهِيدُ مَنْ كَانَ فِيهِ التِّسْعُ الْخِصَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: الْعَابِدُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ الْحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّائِحِينَ فَقَالَ: «هُمُ الصَّائِمُونَ» . وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ النَّجَّارِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَصَحُّ مِنَ الْمَرْفُوعِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَحَدِيثُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ مُرْسَلٌ، وَقَدْ أَسْنَدَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِثْلُ هَذَا: مِنْهُمْ عَائِشَةُ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيِّ وَأَبِي الشَّيْخِ، وَمِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ قَبْلَهُ.
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي السِّيَاحَةِ فَقَالَ «إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتَيِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَصَحَّحَهُ عَبْدُ الْحَقِّ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الرَّبِيعِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هَذِهِ أَعْمَالٌ قَالَ فِيهَا أَصْحَابُ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَضَى عَلَى نَفْسِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَنَّ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ شَهِيدًا، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَيْهَا فَقَدْ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الشَّهِيدُ مَنْ لَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ مَاتَ وَفِيهِ تِسْعٌ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ يَعْنِي بِالْجَنَّةِ، ثُمَّ قَالَ: التَّائِبُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ يعني: القائمين عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَهُوَ شَرْطٌ اشْتَرَطَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْجِهَادِ، وَإِذَا وَفَّوْا لِلَّهِ بِشَرْطِهِ وفى لهم بشرطهم.
 
[سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 114]
مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
(2/466)
 
 
لما بيّن سُبْحَانَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَمَا بَعْدَهُ: أَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاجِبَةٌ، بَيَّنَ سُبْحَانَهُ هُنَا مَا يَزِيدُ ذَلِكَ تَأْكِيدًا، وَصَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ مُتَحَتِّمٌ، وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى، وَأَنَّ الْقَرَابَةَ فِي مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَنَّ مَا كانَ فِي الْقُرْآنِ، يَأْتِي عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: عَلَى النَّفْيِ نَحْوِ: مَا كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «1» . وَالْآخَرُ: عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ، نَحْوِ: مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ «2» وما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِقَطْعِ الْمُوَالَاةِ لِلْكَفَّارِ، وَتَحْرِيمِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَالدُّعَاءِ بِمَا لَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ كَافِرًا، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ كَسَرَ الْمُشْرِكُونَ رَبَاعِيَتَهُ وَشَجُّوا وَجْهَهُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ تَحْرِيمُ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَعَلَى فَرْضِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَلَغَهُ كَمَا يُفِيدُهُ سَبَبُ النُّزُولِ، فَإِنَّهُ قَبْلَ يَوْمِ أُحُدٍ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَسَيَأْتِي. فَصُدُورُ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ لِقَوْمِهِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: «رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ ذَكَرَ نَبِيًّا قَبْلَهُ شَجَّهُ قَوْمُهُ، فَجَعَلَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يُخْبِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» . قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَضَمَّنُ التَّعْلِيلَ لِلنَّهْيِ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا التَّبَيُّنَ مُوجِبٌ لِقَطْعِ الْمُوَالَاةِ لِمَنْ كَانَ هَكَذَا، وَعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْقَرَابَةِ لِأَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «3» فَطَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ فِي حُكْمِ الْمُخَالَفَةِ لِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ. قَوْلُهُ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ الْآيَةَ: ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ السَّبَبَ فِي اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ لِأَجْلِ وَعْدٍ تَقَدَّمَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُ، وَلَكِنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ وَتَبَرَّأَ مِنْهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أنه عدوّ لله، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلِاسْتِغْفَارِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا وَعَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَمِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى السُّؤَالِ الَّذِي يُورِدُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ كَيْفَ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ وَمَاتَ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ إِلَّا بِإِخْبَارِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ بِأَنَّهُ عَدُوُّ اللَّهِ، فَإِنَّ ثُبُوتَ هَذِهِ الْعَدَاوَةِ تَدُلُّ عَلَى الْكُفْرِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَعْلَمْ نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا حُكْمٌ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِالسَّمْعِ لَا بِالْعَقْلِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنِ اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ: دُعَاؤُهُ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِغْفَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى جَنَائِزِ الْكُفَّارِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً «4» وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَفْسِيرِ الِاسْتِغْفَارِ بِالصَّلَاةِ وَلَا مُلْجِئَ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ خَتَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ بِالثَّنَاءِ الْعَظِيمِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ وَهُوَ كَثِيرُ التَّأَوُّهِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى الْأَوَّاهِ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: إِنَّهُ الَّذِي يُكْثِرُ الدُّعَاءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِنَّهُ الرَّحِيمُ بِعِبَادِ اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ الْمُؤْمِنُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُ الَّذِي يَذْكُرُ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ الْقَفْرِ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقِيلَ: الَّذِي يُكْثِرُ الذِّكْرَ لِلَّهِ من غير تقييد، روي
__________
(1) . آل عمران: 145.
(2) . الأحزاب: 53.
(3) . النساء: 48.
(4) . التوبة: 84.
(2/467)
 
 
ذَلِكَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُكْثِرُ التِّلَاوَةَ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْفَقِيهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ، وَقِيلَ: الْمُتَضَرِّعُ الْخَاضِعُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي إِذَا ذَكَرَ خَطَايَاهُ اسْتَغْفَرَ لَهَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ. وَقِيلَ: هُوَ الشَّفِيقُ، قاله عبد العزيز بن يحيى.
وقيل: إِنَّهُ الْمُعَلِّمُ لِلْخَيْرِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الرَّاجِعُ عَنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ، قَالَهُ عَطَاءٌ. وَالْمُطَابِقُ لِمَعْنَى الْأَوَّاهِ لُغَةً، أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ الَّذِي يُكْثِرُ التَّأَوُّهَ مِنْ ذُنُوبِهِ، فَيَقُولُ مَثَلًا: آهٍ مِنْ ذُنُوبِي، آهٍ مِمَّا أُعَاقَبُ بِهِ بِسَبَبِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَمَعْنَى التَّأَوُّهِ: هُوَ أَنْ يُسْمَعَ لِلصَّدْرِ صَوْتٌ مِنْ تَنَفُّسِ الصُّعَدَاءِ.
قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَقَدْ أَوَّهَ الرَّجُلُ تَأْوِيهًا، وَتَأَوَّهَ تَأَوُّهًا إِذَا قَالَ أَوْهِ، وَالِاسْمُ مِنْهُ: آهَةٌ بِالْمَدِّ، قَالَ:
إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ ... تأوّه آهة الرّجل الحزين
والحليم الْكَثِيرُ الْحِلْمِ كَمَا تُفِيدُهُ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ: الَّذِي يَصْفَحُ عَنِ الذُّنُوبِ، وَيَصْبِرُ عَلَى الْأَذَى وَقِيلَ: الَّذِي لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا لله.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتِ الْوَفَاةُ أَبَا طَالِبٍ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم وعنده أبو جهل وعبد بْنُ أُمَيَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْ عَمِّ! قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله أحاج بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ يُعَانِدَانِهِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لأستغفر لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» ، فَنَزَلَتْ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ الْآيَةَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي طَالِبٍ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «1» . وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:
سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فَقُلْتُ: تَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْكَ وَهُمَا مشركان؟ فقال: أو لم يَسْتَغْفِرْ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ؟ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أخبرت النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِمَوْتِ أَبِي طَالِبٍ، فَبَكَى، فَقَالَ: اذْهَبْ فَغَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَرَحِمَهُ، فَفَعَلْتُ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ أَيَّامًا، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَ كَوْنُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ استغفار النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي الشَّيْخِ وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَمِنْهَا: عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ مُرْسَلٌ أَيْضًا. وَمِنْهَا: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَهُوَ مُرْسَلٌ أَيْضًا. وَمِنْهَا: عن عمر ابن الْخَطَّابِ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ وَأَبِي الشَّيْخِ وَابْنِ عَسَاكِرَ. وَمِنْهَا: عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عِنْدَ ابْنِ عَسَاكِرَ وَهُوَ مُرْسَلٌ.
وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ زيارة النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَقَبْرِ أُمِّهِ، وَاسْتِغْفَارِهِ لَهَا، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمِ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ، وَعَنْ بريدة عند
__________
(1) . القصص: 56.
(2/468)
 
 
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
ابْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ صَحِيحٌ. فَكَيْفَ وَهُوَ ضَعِيفٌ غَالِبُهُ؟
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ إِلَى قَوْلِهِ: كَما رَبَّيانِي صَغِيراً «1» قَالَ: ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ قَالَ: تَبَيَّنَ لَهُ حِينَ مَاتَ وَعَلِمَ أَنَّ التَّوْبَةَ قَدِ انْقَطَعَتْ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ فِي فَوَائِدِهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِيهِ حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوُّ لله فَتَبَرَّأَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَوْ أَنَّ هَذَا خَفَضَ صَوْتَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُ فَإِنَّهُ أَوَّاهٌ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ ذُو النِّجَادَيْنِ: «إِنَّهُ أَوَّاهٌ» ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ وَالدُّعَاءِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ لَهِيعَةَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا الْأَوَّاهُ؟ قال: «الخاشع المتضرّع بالدّعاء» . وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى الْأَوَّاهِ، وَإِسْنَادُهُ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ هَكَذَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَهْرَامَ، حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ قَالَ: كَانَ مِنْ حِلْمِهِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَذَاهُ الرَّجُلُ من قومه قال له: هداك الله.
 
[سورة التوبة (9) : الآيات 115 الى 119]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ، خَافَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ كَانَ يَسْتَغْفِرُ لهم الْعُقُوبَةِ مِنَ اللَّهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً
إِلَخْ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُوقِعُ الضَّلَالَ عَلَى قَوْمٍ، وَلَا يُسَمِّيهِمْ ضُلَّالًا بَعْدَ أَنْ هَدَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالْقِيَامِ بِشَرَائِعِهِ مَا لَمْ يُقْدِمُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بَعْدَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَأَمَّا قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ وَلَا يُؤَاخَذُونَ بِهِ، وَمَعْنَى حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ اتِّقَاؤُهُ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الشَّرْعِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ مِمَّا يَحِلُّ لِعِبَادِهِ وَيَحْرُمُ عليهم، ومن سائر الأشياء التي خلقها، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ مُلْكَ السّموات
__________
(1) . الإسراء: 24.
(2/469)
 
 
وَالْأَرْضِ لَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ مُشَارِكٌ، وَلَا يُنَازِعُهُ مُنَازِعٌ، يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ بِمَا شَاءَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ يُحْيِي مَنْ قَضَتْ مَشِيئَتُهُ بِإِحْيَائِهِ، وَيُمِيتُ مَنْ قَضَتْ مَشِيئَتُهُ بِإِمَاتَتِهِ، وَمَا لِعِبَادِهِ مَنْ دُونِهِ مَنْ وليّ يواليهم ونصير يَنْصُرُهُمْ، فَلَا يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى، فَإِنَّ الْقَرَابَةَ لَا تَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا تُؤَثِّرُ أَثَرًا، بَلِ التَّصَرُّفُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لِلَّهِ وَحْدَهُ. قَوْلُهُ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْإِذْنِ فِي التَّخَلُّفِ، أَوْ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ. وَلَيْسَ مِنْ لَازِمِ التَّوْبَةِ أَنْ يَسْبِقَ الذَّنْبُ مِمَّنْ وَقَعَتْ منه أوله لِأَنَّ كُلَّ الْعِبَادِ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ. وَقَدْ تَكُونُ التَّوْبَةُ مِنْهُ تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ مِنْ بَابِ أَنَّهُ تَرَكَ مَا هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَلْيَقُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «1» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ النبي صلّى الله عليه وسلّم لأجل التّعريض لِلْمُذْنِبِينَ، بِأَنْ يَتَجَنَّبُوا الذُّنُوبَ وَيَتُوبُوا عَمَّا قَدْ لَابَسُوهُ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ تَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِيمَا قَدِ اقْتَرَفُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا صَحَّ عَنْهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» . ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَتَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَسَاعَةُ الْعُسْرَةِ هِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي عُسْرَةٍ شَدِيدَةٍ، فَالْمُرَادُ بِالسَّاعَةِ جَمِيعُ أَوْقَاتِ تِلْكَ الْغَزَاةِ، وَلَمْ يُرِدْ سَاعَةً بِعَيْنِهَا، وَالْعَسِرَةُ صُعُوبَةُ الْأَمْرِ. قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ في كاد ضمير الشأن، وقلوب مرفوع بتزيغ عند سيبويه وقيل: هي مرفوعة بكاد، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ تَزِيغُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ: يَزِيغُ بِالتَّحْتِيَّةِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الْقُلُوبَ بِكَادَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالَّذِي لَمْ يُجِزْهُ جَائِزٌ عِنْدَ غَيْرِهِ عَلَى تَذْكِيرِ الْجَمْعِ، وَمَعْنَى: تَزِيغُ تَتْلَفُ بِالْجَهْدِ وَالْمَشَقَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ:
تَمِيلُ عَنِ الْحَقِّ وَتَتْرُكُ الْمُنَاصَرَةَ وَالْمُمَانَعَةَ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: تَهُمُّ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ الْعَظِيمَةِ.
وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مِنْ بَعْدِ مَا زَاغَتْ وَهُمُ الْمُتَخَلِّفُونَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَفِي تَكْرِيرِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا تَأْكِيدٌ ظَاهِرٌ، وَاعْتِنَاءٌ بِشَأْنِهَا، هَذَا إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّوْبَةِ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ إِلَى الْفَرِيقِ فَلَا تَكْرَارَ. قَوْلُهُ: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا أَيْ:
وَتَابَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، أَيْ: أُخِّرُوا، وَلَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ فِي الْحَالِ كَمَا قُبِلَتْ تَوْبَةُ أُولَئِكَ الْمُتَخَلِّفِينَ الْمُتَقَدِّمِ ذَكْرُهُمْ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَى: خُلِّفُوا تُرِكُوا، يُقَالُ خَلَّفْتُ فُلَانًا فَارَقْتُهُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ:
خُلِفُوا بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ: أَقَامُوا بَعْدَ نُهُوضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْغَزْوِ. وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ:
خَالَفُوا وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ: هُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَمَرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ أَوِ ابْنُ رَبِيعَةَ الْعَامِرِيُّ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ، وَكُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، لَمْ يَقْبَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْبَتَهُمْ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ تَابَ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ:
مَعْنَى خُلِّفُوا: فَسَدُوا، مَأْخُوذٌ مِنْ خُلُوفِ الْفَمِ. قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ أُخِّرُوا عَنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ وَهِيَ وَقْتُ أَنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَمَا:
مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: بِرَحْبِهَا، لِإِعْرَاضِ النَّاسِ عَنْهُمْ، وَعَدَمِ مُكَالَمَتِهِمْ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، لِأَنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى الناس أن يكلموهم، وَالرَّحْبُ: الْوَاسِعُ، يُقَالُ: مَنْزِلٌ رَحْبٌ وَرَحِيبٌ وَرِحَابٌ. وفي هذه الآية دليل على جواز
__________
(1) . التوبة: 43.
(2/470)
 
 
هِجْرَانِ أَهْلِ الْمَعَاصِي تَأْدِيبًا لَهُمْ لِيَنْزَجِرُوا عَنِ الْمَعَاصِي. وَمَعْنَى ضِيقِ أَنْفُسِهِمْ عَلَيْهِمْ: أَنَّهَا ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ بِمَا نَالَهُمْ مِنَ الْوَحْشَةِ، وَبِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْجَفْوَةِ، وَعَبَّرَ بِالظَّنِّ فِي قَوْلِهِ: وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ عَنِ الْعِلْمِ، أَيْ: عَلِمُوا أَنْ لَا مَلْجَأَ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ قَطُّ إِلَّا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ. قَوْلُهُ:
ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا أَيْ: رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِالْقَبُولِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَنْزَلَ فِي الْقُرْآنِ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ لِيَسْتَقِيمُوا أَوْ وَفَّقَهُمْ لِلتَّوْبَةِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ إِنْ فَرَطَتْ مِنْهُمْ خَطِيئَةٌ لِيَتُوبُوا عَنْهَا وَيَرْجِعُوا إِلَى اللَّهِ فِيهَا، وَيَنْدَمُوا عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ أَيِ: الْكَثِيرُ الْقَبُولِ لِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ، الرَّحِيمُ أَيِ: الْكَثِيرُ الرَّحْمَةِ لِمَنْ طَلَبَهَا مِنْ عِبَادِهِ. قَوْلُهُ: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ هَذَا الْأَمْرُ بِالْكَوْنِ مَعَ الصَّادِقِينَ بَعْدَ قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ حَصَلَ لَهُمْ بِالصِّدْقِ مَا حَصَلَ مِنْ تَوْبَةِ اللَّهِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرُ لِلْعِبَادِ عَلَى الْعُمُومِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ قَالَ:
نَزَلَتْ حِينَ أَخَذُوا الْفِدَاءَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْأُسَارَى. قَالَ: لَمْ يَكُنْ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوهُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ، وَلَكِنْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ قَوْمًا بِذَنْبٍ أَذْنَبُوهُ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ قَالَ: حَتَّى يَنْهَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: بَيَانُ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، وَفِي بَيَانِهِ طَاعَتَهُ وَمَعْصِيَتَهُ عَامَّةً مَا فَعَلُوا أَوْ تَرَكُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: حَدِّثْنَا مِنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى قالت السماء فأهطلت ثم سكبت، فملؤوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ. وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الرُّوَاةِ أَنَّ سَاعَةَ الْعُسْرَةِ هِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرِ ابن عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا قَالَ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَكُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَافَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ مِنْهَا فِي النَّاسِ وَأَشْهَرَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْقِصَّةَ الطَّوِيلَةَ الْمَشْهُورَةَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا قَالَ: يَعْنِي خُلِّفُوا عَنِ التَّوْبَةِ لَمْ يُتَبْ عَلَيْهِمْ حِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ
(2/471)
 
 
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن نَافِعٍ فِي قَوْلِهِ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، قِيلَ لَهُمْ: كُونُوا مَعَ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قَالَ: مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَصْحَابِهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: مَعَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خلّفوا.
 
[سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 121]
مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121)
في قول: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَخْ، زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ لِوُجُوبِ الْغَزْوِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْرِيمِ التَّخَلُّفِ عَنْهُ، أَيْ: مَا صَحَّ وَمَا اسْتَقَامَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ كَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَشْجَعَ وَأَسْلَمَ وَغِفَارٍ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتُنْفِرُوا فَلَمْ يَنْفِرُوا، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُسْتَنْفَرُوا مَعَ كَوْنِ هَؤُلَاءِ لِقُرْبِهِمْ، وَجِوَارِهِمْ أَحَقُّ بِالنُّصْرَةِ وَالْمُتَابَعَةِ لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ أَيْ: وَمَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ فَيَشِحُّونَ بِهَا وَيَصُونُونَهَا، وَلَا يَشِحُّونَ بِنَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ وَيَصُونُونَهَا كَمَا شَحُّوا بِأَنْفُسِهِمْ وَصَانُوهَا، يُقَالُ:
رَغِبْتُ عَنْ كَذَا أَيْ: تَرَفَّعْتُ عَنْهُ، بَلْ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يُكَابِدُوا مَعَهُ الْمَشَاقَّ، وَيُجَاهِدُوا بَيْنَ يَدَيْهِ أَهْلَ الشِّقَاقِ، وَيَبْذُلُوا أَنْفُسَهُمْ دُونَ نَفْسِهِ وَفِي هَذَا الْإِخْبَارِ مَعْنَى الْأَمْرِ لَهُمْ مَعَ مَا يُفِيدُهُ إِيرَادُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ مِنَ التَّوْبِيخِ لَهُمْ، وَالتَّقْرِيعِ الشَّدِيدِ، وَالتَّهْيِيجِ لَهُمْ، وَالْإِزْرَاءِ عَلَيْهِمْ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا يُفِيدُهُ السِّيَاقُ مِنْ وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: ذَلِكَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ مُثَابُونَ عَلَى أَنْوَاعِ الْمَتَاعِبِ، وَأَصْنَافِ الشَّدَائِدِ. وَالظَّمَأُ: الْعَطَشُ، وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ، وَالْمَخْمَصَةُ: الْمَجَاعَةُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي يَظْهَرُ عِنْدَهَا ضُمُورُ الْبَطْنِ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عمير ظَمَأٌ بِالْمَدِّ. وَقَرَأَ غَيْرُهُ بِالْقَصْرِ، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ خطأ وخطاء، ولا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَمَعْنَى: فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ أَيْ: لَا يَدُوسُونَ مَكَانًا مِنْ أَمْكِنَةِ الْكُفَّارِ بِأَقْدَامِهِمْ، أَوْ بِحَوَافِرِ خُيُولِهِمْ، أَوْ بِأَخْفَافِ رَوَاحِلِهِمْ، فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْغَيْظُ لِلْكُفَّارِ. وَالْمَوْطِئُ: اسْمُ مَكَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا أَيْ: يُصِيبُونَ مَنْ عَدُوِّهِمْ قَتْلًا، أَوْ أَسْرًا، أَوْ هَزِيمَةً، أَوْ غَنِيمَةً، وَأَصْلُهُ مِنْ نِلْتُ الشَّيْءَ أَنَالُ: أَيْ أُصِيبُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمْرٌ مَنِيلٌ مِنْهُ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ التَّنَاوُلِ، إِنَّمَا التَّنَاوُلُ
(2/472)
 
 
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
مِنْ نُلْتُهُ بِالْعَطِيَّةِ. قَالَ غَيْرُهُ: نُلْتُ أَنُولُ مِنَ الْعَطِيَّةِ، وَنِلْتُهُ أَنَالُهُ: أَدْرَكْتُهُ، وَالضَّمِيرُ فِي (بِهِ) يَعُودُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ: الْحَسَنَةُ الْمَقْبُولَةُ، أَيْ: إِلَّا كَتَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ حَسَنَةً مَقْبُولَةً يُجَازِيهِمْ بِهَا، وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فِي حُكْمِ التَّعْلِيلِ لِمَا سَبَقَ مَعَ كَوْنِهِ يَشْمَلُ كُلَّ مُحْسِنٍ، وَيَصْدُقُ عَلَى الْمَذْكُورِينَ هُنَا صِدْقًا أَوَّلِيًّا. قَوْلُهُ: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: وَلَا يَقَعُ مِنْهُمُ الْإِنْفَاقُ فِي الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا صَغِيرًا يَسِيرًا وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً وَهُوَ فِي الْأَصْلِ كُلُّ مُنْفَرَجٍ بَيْنَ جِبَالٍ، وَآكَامٍ يَكُونُ مَنْفَذًا لِلسَّيْلِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: وَادٍ وَأَوْدِيَةٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا يُعْرَفُ فِيمَا عَلِمْتُ فَاعِلٌ وَأَفْعِلَةٌ إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ أَيْ: كُتِبَ لَهُمْ ذَلِكَ الَّذِي عَمِلُوهُ مِنَ النَّفَقَةِ وَالسَّفَرِ فِي الْجِهَادِ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ بِهِ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ: أَحْسَنَ جَزَاءِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى عَمَلٌ صَالِحٌ. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهَا، وَهِيَ قوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّخَلُّفِ مِنَ الْبَعْضِ مَعَ الْقِيَامِ بِالْجِهَادِ مِنَ الْبَعْضِ، وَسَيَأْتِي.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ مَالِكٍ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الْآيَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَوْلَا ضُعَفَاءُ النَّاسِ مَا كَانَتْ سَرِيَّةٌ إِلَّا كُنْتُ فِيهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ هَذَا حِينَ كَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَثُرَ الْإِسْلَامُ، وَفَشَا قَالَ اللَّهُ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيِّ وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ السَّبِيعِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا قَالُوا: هَذِهِ الآية للمسلمين إلى أن تقوم الساعة.
 
[سورة التوبة (9) : الآيات 122 الى 123]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ أَحْكَامِ الْجِهَادِ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَالَغَ فِي الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ، وَالِانْتِدَابِ إِلَى الْغَزْوِ كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً مِنَ الْكُفَّارِ يَنْفِرُونَ جَمِيعًا، وَيَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ خَالِيَةً، فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ مَا كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ أَيْ:
مَا صَحَّ لَهُمْ، وَلَا اسْتَقَامَ أَنْ يَنْفِرُوا جَمِيعًا، بَلْ يَنْفِرُ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ تِلْكَ الْفِرْقَةِ، وَيَبْقَى مَنْ عَدَا هَذِهِ الطَّائِفَةِ النَّافِرَةِ. قَالُوا: وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لِيَتَفَقَّهُوا عَائِدًا إِلَى الْفِرْقَةِ الْبَاقِيَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الطَّائِفَةَ مِنْ هَذِهِ الْفِرْقَةِ تَخْرُجُ إِلَى الْغَزْوِ، وَمَنْ بَقِيَ مِنَ الْفِرْقَةِ يَقِفُونَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَيُعَلِّمُونَ الْغُزَاةَ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ مِنَ الْغَزْوِ، أَوْ يَذْهَبُونَ فِي طَلَبِهِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَجِدُونَ فِيهِ مَنْ يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ الْفِقْهَ فِي الدين،
(2/473)
 
 
وَيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ وَقْتَ رُجُوعِهِمْ إِلَيْهِمْ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ مِنْ بَقِيَّةِ أَحْكَامِ الْجِهَادِ، وَهِيَ:
حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْخُرُوجِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، جَعَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَّصِلًا بِمَا دَلَّ عَلَى إِيجَابِ الْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ، فَيَكُونُ السَّفَرُ نَوْعَيْنِ: الْأَوَّلُ: سَفَرُ الْجِهَادِ، وَالثَّانِي: السَّفَرُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ وُجُوبَ الْخُرُوجِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الطَّالِبُ مَنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ فِي الْحَضَرِ مِنْ غَيْرِ سَفَرٍ.
وَالْفِقْهُ: هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبِمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْعِلْمِ بِهَا مِنْ لُغَةٍ، وَنَحْوٍ، وَصَرْفٍ، وَبَيَانٍ، وَأُصُولٍ. وَمَعْنَى: فَلَوْلا نَفَرَ فَهَلَّا نَفَرَ، وَالطَّائِفَةُ فِي اللُّغَةِ: الْجَمَاعَةُ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا: هُوَ التَّفَقُّهَ فِي الدِّينِ، وَإِنْذَارَ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَقْصِدَيْنِ الصَّالِحَيْنِ، وَالْمَطْلَبَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ، وَهُمَا تَعَلُّمُ الْعِلْمِ، وَتَعْلِيمُهُ، فَمَنْ كَانَ غَرَضُهُ بِطَلَبِ الْعِلْمِ غَيْرَ هَذَيْنِ، فَهُوَ طَالِبٌ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، لَا لِغَرَضٍ دِينِيٍّ، فَهُوَ كَمَا قُلْتُ:
وَطَالِبُ الدُّنْيَا بِعِلْمِ الدِّينِ أَيُّ بَائِسٍ ... كَمَنْ غَدَا لِنَعْلِهِ يَمْسَحُ بِالْقَلَانِسِ
وَمَعْنَى: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ التَّرَجِّي لِوُقُوعِ الْحَذَرِ مِنْهُمْ عَنِ التَّفْرِيطِ فِيمَا يَجِبُ فِعْلُهُ: فَيُتْرَكُ، أَوْ فِيمَا يَجِبُ تَرْكُهُ: فَيُفْعَلُ، ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَجْتَهِدُوا فِي مُقَاتَلَةِ مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَنْ يَأْخُذُوا فِي حَرْبِهِمْ بِالْغِلْظَةِ. وَالشِّدَّةِ وَالْجِهَادُ وَاجِبٌ لِكُلِّ الْكُفَّارِ، وَإِنْ كَانَ الِابْتِدَاءُ بِمَنْ يَلِي الْمُجَاهِدِينَ مِنْهُمْ أَهَمَّ وَأَقْدَمَ، ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ بِمَا يُقَوِّي عَزَائِمَهُمْ، وَيُثَبِّتُ أَقْدَامَهُمْ، فَقَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أَيْ:
بِالنُّصْرَةِ له وَتَأْيِيدِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ لَمْ يَقُمْ لَهُ شَيْءٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَسَخَ هَؤُلَاءِ الآيات انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا «1» وإِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ «2» قَوْلُهُ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً يَقُولُ: لِتَنْفِرْ طَائِفَةٌ وَتَمْكُثْ طَائِفَةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْمَاكِثُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمُ الَّذِينَ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ، وَيُنْذِرُونَ إِخْوَانَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ مِنَ الْغَزْوِ، وَلَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ مَا نَزَلْ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ وَحُدُودِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِسِيَاقٍ أَتَمَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: لَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْجِهَادِ، وَلَكِنْ لَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُضَرَ بِالسِّنِينَ أَجْدَبَتْ بِلَادُهُمْ، فَكَانَتِ الْقَبِيلَةُ مِنْهُمْ تقبل بأسرها حتى يحلوا بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْجَهْدِ وَيَقْبَلُوا بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ كَاذِبُونَ، فَضَيَّقُوا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْهَدُوهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ يُخْبِرُ رَسُولَهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ، فَرَدَّهُمْ إِلَى عَشَائِرِهِمْ، وَحَذَّرَ قَوْمَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا فِعْلَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ قَالَ:
الْأَدْنَى، فَالْأَدْنَى. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ غَزْوِ الدَّيْلَمِ فَقَالَ: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ قَالَ: «الرُّومُ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً قال: شدّة.
__________
(1) . التوبة: 41.
(2) . التوبة: 39.
(2/474)
 
 
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
[سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 129]
وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
قَوْلُهُ: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ حِكَايَةٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِبَقِيَّةِ فَضَائِحِ الْمُنَافِقِينَ، أَيْ: إِذَا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ سُورَةً مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَقُولُ لِإِخْوَانِهِ مِنْهُمْ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السُّورَةُ النَّازِلَةُ إِيماناً يَقُولُونَ هَذَا اسْتِهْزَاءً بِالْمُؤْمِنِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولُوهُ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَاصِدِينَ بذلك صرفهم عن الإسلام وتزهيدهم فيه، وأيكم: مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ: زَادَتْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى السُّورَةِ. ثُمَّ حَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا إِلَى إِيمَانِهِمْ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ مَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ بِنُزُولِ الْوَحْيِ وَمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ فَزادَتْهُمْ السُّورَةُ الْمُنَزَّلَةُ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ أَيْ: خُبْثًا إِلَى خُبْثِهِمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَفَسَادِ الِاعْتِقَادِ، وَإِظْهَارِ غَيْرِ مَا يُضْمِرُونَهُ وَثَبَتُوا عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ إِلَى أَنْ مَاتُوا كُفَّارًا مُنَافِقِينَ، وَالْمُرَادُ بِالْمَرَضِ هُنَا: الشَّكُّ وَالنِّفَاقُ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: زَادَتْهُمْ إِثْمًا إِلَى إِثْمِهِمْ. قَوْلُهُ: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ يَرَوْنَ بِالتَّحْتِيَّةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ بِالْفَوْقِيَّةِ، خطابا للمؤمنين. وقرأ الأعمش «أو لم يَرَوْا» وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ/ أَوَلَا تَرَى خطابا لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَمَعْنَى: يُفْتَنُونَ: يُخْتَبَرُونَ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ أَوْ يَبْتَلِيهِمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْقَحْطِ وَالشِّدَّةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ ابن عطية: بالأمراض والأوجاع. قال قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: بِالْغَزْوِ وَالْجِهَادِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَيَرَوْنَ مَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ النَّصْرِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ وثم لِعَطْفِ مَا بَعْدَهَا عَلَى يَرَوْنَ، وَالْهَمْزَةُ فِي: أو لا يَرَوْنَ، لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: لَا يَنْظُرُونَ وَلَا يَرَوْنَ، وَهَذَا تَعْجِيبٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَصَلُّبِهِمْ فِي النِّفَاقِ، وَإِهْمَالِهِمْ لِلنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ، فَقَالَ وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أَيْ: نَظَرَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ إِلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ قَائِلِينَ: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِنَنْصَرِفَ عَنِ الْمَقَامِ الَّذِي يَنْزِلُ فِيهِ الْوَحْيُ، فَإِنَّهُ لَا صَبْرَ لَنَا عَلَى اسْتِمَاعِهِ، وَلِنَتَكَلَّمَ بِمَا نُرِيدُ مِنَ الطَّعْنِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالضَّحِكِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَإِذَا أَنْزَلَتْ سُورَةٌ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا فَضَائِحَ الْمُنَافِقِينَ وَمُخَازَيَهُمْ قَالَ بَعْضُ من يحضر مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لِلْبَعْضِ الْآخَرِ مِنْهُمْ: هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ. وَحَكَى
(2/475)
 
 
ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ قَالَ: نَظَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ قَالَ، أَيْ: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ. قَوْلُهُ: ثُمَّ انْصَرَفُوا أَيْ: عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، أَوْ عَنْ مَا يَقْتَضِي الْهِدَايَةَ وَالْإِيمَانَ إِلَى مَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ وَالنِّفَاقَ، ثُمَّ دَعَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أَيْ: صَرَفَهَا عَنِ الْخَيْرِ وَمَا فِيهِ الرُّشْدُ لَهُمْ وَالْهِدَايَةُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُصَرِّفُ الْقُلُوبِ وَمُقَلِّبُهَا وَقِيلَ: الْمَعْنَى:
أَنَّهُ خَذَلَهُمْ عَنْ قَبُولِ الْهِدَايَةِ وَقِيلَ: هُوَ دُعَاءٌ لَا يُرَادُ بِهِ وُقُوعُ مَضْمُونِهِ كَقَوْلِهِمْ: قَاتَلَهُ اللَّهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ انْصَرَفُوا عن مواطن الْهِدَايَةِ، أَوِ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ اسْتَحَقُّوا الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ فَقَالَ: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ مَا يَسْمَعُونَهُ لِعَدَمِ تَدَبُّرِهِمْ وَإِنْصَافِهِمْ، ثُمَّ خَتَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِمَا يُهَوِّنُ عِنْدَهُ بَعْضَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، فَقَالَ: لَقَدْ جاءَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ رَسُولٌ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْكُمْ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ: مِنْ جِنْسِكُمْ، فِي كَوْنِهِ عَرَبِيًّا، وَإِلَى كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ خِطَابًا لِلْعَرَبِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ.
وَالْمَعْنَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ جِنْسِكُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ مَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى:
شَاقٌّ عَلَيْهِ عَنَتُكُمْ، لِكَوْنِهِ مِنْ جِنْسِكُمْ وَمَبْعُوثًا لِهِدَايَتِكُمْ، وَالْعَنَتُ: التَّعَبُ لَهُمْ وَالْمَشَقَّةُ عَلَيْهِمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا بِالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ، أَوْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ بِالنَّارِ، أَوْ بِمَجْمُوعِهِمَا حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أَيْ: شَحِيحٌ عَلَيْكُمْ بِأَنْ تَدْخُلُوا النَّارَ، أَوْ حَرِيصٌ عَلَى إِيمَانِكُمْ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَبِهِ قال الفرّاء. والرؤوف والرحيم، قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَاهُمَا أَيْ: هَذَا الرَّسُولُ بِالْمُؤْمِنِينَ منكم أيها العرب أو الناس رَؤُفٌ رَحِيمٌ ثُمَّ قَالَ مُخَاطِبًا لِرَسُولِهِ، وَمُسَلِّيًا لَهُ، وَمُرْشِدًا لَهُ إِلَى مَا يَقُولُهُ عِنْدَ أَنْ يُعْصَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ: أَعْرَضُوا عَنْكَ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَلَا قَبِلُوهُ فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ: حَسْبِيَ اللَّهُ أَيْ: كَافِيَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْأُلُوهِيَّةِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أَيْ: فَوَّضْتُ جَمِيعَ أُمُورِي وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وَصَفَهُ بِالْعِظَمِ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِعَرْشٍ. وَقَرَأَ ابْنُ محيصن بالرفع صفة لرب. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ.
وقد أخرج ابن جرير وابن حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً قَالَ: كَانَ إِذَا نَزَلَتْ سُورَةٌ آمَنُوا بِهَا فَزَادَهُمُ اللَّهُ إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا وَكَانُوا بِهَا يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ قَالَ: شَكًّا إِلَى شَكِّهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ
قَالَ: يُقْتَلُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ وَقَالَ: بِالسَّنَةِ وَالْجُوعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بِالْعَدُوِّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: بِالْغَزْوِ فِي سَبِيلِ الله. وأخرج أبو الشيخ عن بكار ابن مَالِكٍ قَالَ: يَمْرَضُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كَانَتْ لَهُمْ فِي كُلِّ عَامٍ كِذْبَةٌ أَوْ كِذْبَتَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كُنَّا نَسْمَعُ فِي كُلِّ عَامٍ كِذْبَةً أَوْ كِذْبَتَيْنِ، فَيَضِلُّ بِهَا فئة مِنَ النَّاسِ كَثِيرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي
(2/476)
 
 
حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا تَقُولُوا: انْصَرَفْنَا مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ قَوْمًا انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وَلَكِنْ قُولُوا: قَضَيْنَا الصَّلَاةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ. وَأَقُولُ: الِانْصِرَافُ يَكُونُ عَنِ الْخَيْرِ كَمَا يَكُونُ عَنِ الشَّرِّ، وَلَيْسَ فِي إِطْلَاقِهِ هُنَا عَلَى رُجُوعِ الْمُنَافِقِينَ عَنْ مَجْلِسِ الْخَيْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ وَإِلَّا لَزِمَ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ يُسْتَعْمَلُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ فِي الْأُمُورِ الْمُتَعَدِّدَةِ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ فِي حِكَايَةِ مَا وَقَعَ مِنَ الْكُفَّارِ، لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حِكَايَةِ مَا وَقَعَ عَنْ أَهْلِ الْخَيْرِ، كَالرُّجُوعِ وَالذَّهَابِ، وَالدُّخُولِ، وَالْخُرُوجِ، وَالْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ. وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ، وَوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ قَالَ:
لَيْسَ مِنَ الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ إِلَّا وَقَدْ وَلَدَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مُضَرِيُّهَا وَرَبِيعُهَا وَيَمَانِيُّهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ قَالَ: قَدْ وَلَدْتُمُوهُ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ قَالَ: لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ مِنْ وِلَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ، وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ» . وَهَذَا فِيهِ انْقِطَاعٌ، وَلَكِنَّهُ قَدْ وَصَلَهُ الْحَافِظُ الرَّامَهُرْمُزِيُّ فِي كِتَابِهِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الرَّاوِي وَالْوَاعِي، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ يُوسُفُ بْنُ هَارُونَ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ:
أَشْهَدُ عَلَى أَبِي يُحَدِّثُنِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى أَنْ وَلَدَنِي أَبِي وَأُمِّي» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مَعْنَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ؟ قَالَ: «نَسَبًا وَصِهْرًا وَحَسَبًا، لَيْسَ فِيَّ وَلَا فِي آبَائِي مِنْ لَدُنْ آدَمَ سِفَاحٌ، كُلُّنَا نِكَاحٌ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يَعْنِي مِنْ أَعْظَمِكُمْ قَدْرًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْهُ نَحْوَ حَدِيثِ عَلِيٍّ الْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ أَيْضًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ بمعناه، ويؤيد مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ واثلة ابن الْأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هشام» .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ حِينَ خَلَقَ الْخَلْقَ جَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ خَلْقِهِ، ثُمَّ حِينَ فَرَّقَهُمْ جَعَلَنِي فِي خَيْرِ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ حِينَ خَلَقَ الْقَبَائِلَ جعلني من خيرهم قَبِيلَةٍ، وَحِينَ خَلَقَ الْأَنْفُسَ جَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ حِينَ خَلَقَ الْبُيُوتَ جَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ بُيُوتِهِمْ، فَأَنَا خَيْرُهُمْ بَيْتًا وَخَيْرُهُمْ نَفْسًا» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وإسحاق ابن رَاهَوَيْهِ وَابْنُ مَنِيعٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، من طريق يوسف
(2/477)
 
 
ابن مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَفِي لَفْظٍ: آخِرُ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ نَحْوُهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَخْرَجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ، وَابْنُ الضَّرِيسِ فِي فَضَائِلِهِ، وَابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَصَاحِفِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَالْخَطِيبُ فِي تَلْخِيصِ الْمُتَشَابِهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ جَاءَتْهُ جُهَيْنَةُ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّكَ قَدْ نَزَلْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَأَوْثِقْ لَنَا نَأْمَنْكَ وَتَأْمَنَّا قَالَ: وَلِمَ سَأَلْتُمْ هَذَا؟ قَالُوا: نَطْلُبُ الْأَمْنَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ يَعْنِي: الْكُفَّارَ تَوَلَّوْا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ:
إِنَّمَا سُمِّيَ الْعَرْشُ عَرْشًا لِارْتِفَاعِهِ، وَقَدْ رُوِيَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي صِفَةِ الْعَرْشِ وَمَاهِيَّتِهِ وَقَدْرِهِ.
وَإِلَى هُنَا انْتَهَى الثُّلُثُ الْأَوَّلُ مِنَ التَّفْسِيرِ الْمُسَمَّى «فَتْحُ الْقَدِيرِ» الْجَامِعُ بَيْنَ فَنَّيِ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ بِقَلَمِ مُؤَلِّفِهِ: مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الشَّوْكَانِيِّ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا. وَكَانَ تَمَامُ هَذَا الثُّلُثِ فِي نَهَارِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ لَعَلَّهُ يَوْمُ عِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ مُحَرَّمٍ سَنَةَ 1227 هـ.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
الْحَمْدُ لَهُ: انْتَهَى سَمَاعًا عَلَى مُؤَلِّفِهِ. أَطَالَ اللَّهُ مدّته في جمادى الأولى من عام سنة 1235 هـ.
يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الشَّوْكَانِيُّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا آمين
(2/478)
 
 
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
سورة يونس
هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ إلى آخرهنّ، وهكذا رَوَى الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَحُكِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيَتَيْنِ، وهي قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ. وَحُكِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ.
وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنَ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَجَابِرٍ: أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ يُونُسَ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَتْ سُورَةُ يُونُسَ بَعْدَ السَّابِعَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي الرَّائِيَّاتِ إِلَى الطَّوَاسِينِ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ» «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ الْأَحْنَفِ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ عُمَرَ غَدَاةً فَقَرَأَ يُونُسَ وَهُودَ وَغَيْرَهُمَا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
 
[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)
قَوْلُهُ: الر قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مُسْتَوْفًى عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَلَا نُعِيدُهُ، فَفِيهِ مَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ. وَقَدْ قَرَأَ بِالْإِمَالَةِ أَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَخَلَفٌ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنْ غَيْرِ إِمَالَةٍ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى: الر أَنَا اللَّهُ أَرَى. قَالَ النَّحَّاسُ: وَرَأَيْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَمِيلُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ سِيبَ