فتح القدير للشوكاني 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: فتح القدير
المؤلف: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ)
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
فقال له النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «أَيْنَ ذَهَبْتُمْ؟ إِنَّمَا هِيَ لَا يَضُرُّكُمْ من ضلّ من الكفار إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ بِزَمَانِهَا إِنَّهَا الْيَوْمَ مَقْبُولَةٌ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَوْشَكَ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ فَيُصْنَعُ بِكُمْ كَذَا وَكَذَا، أَوْ قَالَ: فَلَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ، فَحِينَئِذٍ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ:
«مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ دُونِ ذَلِكَ السَّوْطِ وَالسَّيْفِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّهَا لِأَقْوَامٍ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِنَا إِنْ قَالُوا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: كُنْتُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِالْمَدِينَةِ فِي حَلْقَةٍ فِيهِمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِمْ شَيْخٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَرَأَ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فَقَالَ: إِنَّمَا تَأْوِيلُهَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشيخ عن أَبِي مَازِنٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَإِذَا قَوْمٌ جُلُوسٌ فَقَرَأَ أَحَدُهُمْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فقال أكثرهم: لم يجيء تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ الْيَوْمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَأَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَتَذَاكَرُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ:
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ؟ فَأَقْبَلُوا عَلَيَّ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ فَقَالُوا: تنزع آية من القرآن لا تعرفها ولا تدري مَا تَأْوِيلُهَا؟ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ تَكَلَّمْتُ، ثُمَّ أَقْبَلُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَلَمَّا حَضَرَ قِيَامُهُمْ قَالُوا: إِنَّكَ غُلَامٌ حَدَثُ السِّنِّ، وَإِنَّكَ نَزَعْتَ آية لا تدري مَا هِيَ؟ وَعَسَى أَنْ تُدْرِكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ «إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ لَا يَضُرُّكَ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ الْمُتَقَدِّمِ، وَفِي آخِرِهِ «كَأَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْكُمْ» وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: ذَكَرْتُ هَذِهِ الْآيَةَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لم يجيء تَأْوِيلُهَا، لَا يَجِيءُ تَأْوِيلُهَا حَتَّى يَهْبِطَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ» وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ، فَفِيهِ مَا يُرْشِدُ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
 
[سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)
(2/97)
 
 
قَالَ مَكِّيٌّ: هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعَانِي مِنْ أَشْكَلِ مَا فِي الْقُرْآنِ إِعْرَابًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا كَلَامُ من لم يقع له الثلج فِي تَفْسِيرِهَا، وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ كِتَابِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَعْنِي مِنْ كِتَابِ مَكِّيٍّ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَا ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ قَبْلَهُ أَيْضًا. قَالَ السَّعْدُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْكَشَّافِ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا أَصْعَبُ مَا فِي الْقُرْآنِ إِعْرَابًا وَنَظْمًا وَحُكْمًا. قَوْلُهُ: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ أَضَافَ الشَّهَادَةَ إِلَى الْبَيْنِ تَوَسُّعًا لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ بَيْنَهُمْ وَقِيلَ: أَصْلُهُ شَهَادَةُ مَا بَيْنَكُمْ فَحُذِفَتْ مَا وَأُضِيفَتْ إِلَى الظَّرْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «1» وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تُصَافِحُ مَنْ لَاقَيْتَ لِي ذَا عَدَاوَةٍ ... صِفَاحًا وَعَنِّي بَيْنَ عَيْنَيْكَ مُنْزَوِي
أَرَادَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْكَ، وَمِثْلَهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
وَيَوْمًا شَهِدْنَاهُ سُلَيْمًا وَعَامِرًا «2»
.....
أَيْ شَهْدِنَا فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ «3» قِيلَ: وَالشَّهَادَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْوَصِيَّةِ وَقِيلَ:
بِمَعْنَى الْحُضُورِ لِلْوَصِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: هِيَ هُنَا بِمَعْنَى الْيَمِينِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: يَمِينُ مَا بَيْنَكُمْ أَنْ يَحْلِفَ اثْنَانِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى مَا قَالَهُ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ لِلَّهِ حُكْمًا يَجِبُ فِيهِ عَلَى الشَّاهِدِ يَمِينٌ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الْقَفَّالُ، وَضَعَّفَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَاخْتَارَ أَنَّ الشَّهَادَةَ هُنَا هِيَ الشَّهَادَةُ الَّتِي تُؤَدَّى مِنَ الشُّهُودِ. قَوْلُهُ: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ظَرْفٌ لِلشَّهَادَةِ، وَالْمُرَادُ إِذَا حَضَرَتْ عَلَامَاتُهُ، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ لَا يُمْكِنُهُ الْإِشْهَادُ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ لِلِاهْتِمَامِ وَلِكَمَالِ تَمَكُّنِ الْفَاعِلِ عِنْدَ النَّفْسِ. وَقَوْلُهُ: حِينَ الْوَصِيَّةِ ظَرْفٌ لِحَضَرَ أَوْ لِلْمَوْتِ، أَوْ بَدَلٌ مِنَ الظَّرْفِ الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ: اثْنانِ خَبَرُ شَهَادَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ: أَيْ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ أَوْ فَاعِلٌ لِلشَّهَادَةِ عَلَى أَنَّ خَبَرَهَا مَحْذُوفٌ: أَيْ فِيمَا فُرِضَ عَلَيْكُمْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمُ اثْنَانِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ، ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. قَوْلُهُ: ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ صِفَةٌ لِلِاثْنَانِ وَكَذَا مِنْكُمْ: أَيْ كَائِنَانِ مِنْكُمْ: أَيْ مِنْ أَقَارِبِكُمْ أَوْ آخَرانِ مَعْطُوفٌ عَلَى اثْنانِ، ومِنْ غَيْرِكُمْ صِفَةٌ لَهُ: أَيْ كَائِنَانِ مِنَ الْأَجَانِبِ وَقِيلَ:
إِنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْكُمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَفِي غَيْرِكُمْ لِلْكُفَّارِ وَهُوَ الْأَنْسَبُ لِسِيَاقِ الْآيَةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا، فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ فِي خُصُوصِ الْوَصَايَا كَمَا يُفِيدُهُ النَّظْمُ الْقُرْآنِيُّ، وَيَشْهَدُ لَهُ السَّبَبُ لِلنُّزُولِ وَسَيَأْتِي فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُوصِي مَنْ يَشْهَدُ عَلَى وَصِيَّتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَشْهَدْ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، فَإِذَا قَدِمَا وَأَدَّيَا الشَّهَادَةَ عَلَى وَصِيَّتِهِ حَلَفَا بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنَّهُمَا مَا كَذِبَا وَلَا بَدَّلَا، وَأَنَّ مَا شَهِدَا بِهِ حَقٌّ، فَيُحْكَمُ حينئذ بشهادتهما فَإِنْ عُثِرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلى أَنَّهُمَا كَذِبَا أَوْ خَانَا حَلَفَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمُوصِي، وَغَرَمَ الشَّاهِدَانِ الْكَافِرَانِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمَا مِنْ خِيَانَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد
__________
(1) . سبأ: 33.
(2) . وعجزه: قليل سوى الطعن النهال نوافله. والبيت لرجل من بني عامر. وسلّم وعامر: قبيلتان من قيس عيلان.
(3) . الكهف: 78. [.....]
(2/98)
 
 
ابن جُبَيْرٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَالنَّخَعِيُّ وَشُرَيْحٌ وَعُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ: أَعْنِي تَفْسِيرَ ضَمِيرِ مِنْكُمْ بِالْقَرَابَةِ أَوِ الْعَشِيرَةِ، وَتَفْسِيرَ مِنْ غَيْرِكُمْ بِالْأَجَانِبِ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ «1» . وقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ والكفار ليسوا بمرضيين ولا عدول، وخالفهم الجمهور فقالوا: الآية محكمة، وهو الحق لعدم وجود دليل صحيح يدل على النّسخ. وأما قوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ وقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «2» فَهُمَا عَامَّانِ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ بِحَالَةِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَبِالْوَصِيَّةِ وَبِحَالَةِ عَدَمِ الشُّهُودِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ عَامٍّ وَخَاصٍّ. قَوْلُهُ: إِنْ أَنْتُمْ هُوَ فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ ضَرَبْتُمْ، أَوْ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ النُّحَاةِ، وَالثَّانِي مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ. وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ هُوَ السَّفَرُ. وَقَوْلُهُ: فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ إِنْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَنَزَلَ بِكُمُ الْمَوْتُ وَأَرَدْتُمُ الْوَصِيَّةَ وَلَمْ تَجِدُوا شُهُودًا عَلَيْهَا مُسْلِمِينَ، ثُمَّ ذَهَبَا إِلَى وَرَثَتِكُمْ بِوَصِيَّتِكُمْ وَبِمَا تَرَكْتُمْ فَارْتَابُوا فِي أَمْرِهِمَا وَادَّعَوْا عَلَيْهِمَا خِيَانَةً، فَالْحُكْمُ أَنْ تَحْبِسُوهُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا لِجَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: فَكَيْفَ نَصْنَعُ إِنِ ارْتَبْنَا فِي الشَّهَادَةِ؟ فَقَالَ: تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي شَهَادَتِهِمَا. وَخَصَّ بَعْدَ الصَّلَاةِ: أَيْ صَلَاةِ الْعَصْرِ، قَالَهُ الْأَكْثَرُ لِكَوْنِهِ الْوَقْتُ الَّذِي يَغْضَبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ حَلَفَ فِيهِ فَاجِرًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَقِيلَ: لِكَوْنِهِ وَقْتَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ وَقُعُودِ الْحُكَّامِ لِلْحُكُومَةِ وَقِيلَ: صَلَاةُ الظُّهْرِ وَقِيلَ: أَيُّ صَلَاةٍ كَانَتْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: تَحْبِسُونَهُما صِفَةٌ لَآخَرَانِ، وَاعْتَرَضَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِقَوْلِهِ: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَبْسِ:
تَوْقِيفُ الشَّاهِدَيْنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِتَحْلِيفِهِمَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْحَبْسِ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ، وَعَلَى جَوَازِ التَّغْلِيظِ عَلَى الْحَالِفِ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَنَحْوِهِمَا. قَوْلُهُ: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ
مَعْطُوفٌ عَلَى تَحْبِسُونَهُما أَيْ يُقْسِمُ بِاللَّهِ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْوَصِيَّةِ أَوِ الْوَصِيَّانِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَلَى تَحْلِيفِ الشَّاهِدَيْنِ مُطْلَقًا إِذَا حَصَلَتِ الرِّيبَةُ فِي شَهَادَتِهِمَا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ تَحْلِيفَ الشَّاهِدَيْنِ هُنَا إِنَّمَا هُوَ لِوُقُوعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِمَا بِالْخِيَانَةِ أَوْ نَحْوِهَا. قَوْلُهُ: إِنِ ارْتَبْتُمْ جَوَابُ هَذَا الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ كَمَا سَبَقَ. قَوْلُهُ: لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً جَوَابُ الْقَسَمِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَعْنَى: لَا نَبِيعُ حَظَّنَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْعَرَضِ النَّزْرِ، فَنَحْلِفُ بِهِ كَاذِبِينَ لِأَجْلِ الْمَالِ الَّذِي ادَّعَيْتُمُوهُ عَلَيْنَا وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى الْقَسَمِ: أَيْ لَا نَسْتَبْدِلُ بِصِحَّةِ الْقَسَمِ بِاللَّهِ عَرَضًا مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْقَوْلِ: أَيْ لَا نَسْتَبْدِلُ بِشَهَادَتِنَا ثَمَنًا. قَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْمَعْنَى ذَا ثَمَنٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعُرُوضَ لَا تُسَمَّى ثَمَنًا، وَعِنْدَ الْأَكْثَرِ أَنَّهَا تُسَمَّى ثَمَنًا كَمَا تُسَمَّى مَبِيعًا. قَوْلُهُ: وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى أَيْ وَلَوْ كَانَ الْمُقْسَمُ لَهُ أَوِ الْمَشْهُودُ لَهُ قَرِيبًا فَإِنَّا نُؤْثِرُ الْحَقَّ وَالصِّدْقَ، وَلَا نُؤْثِرُ الْعَرَضَ الدُّنْيَوِيَّ وَلَا الْقَرَابَةَ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لدلالة
__________
(1) . البقرة: 282.
(2) . الطلاق: 2.
(2/99)
 
 
مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ: أَيْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا. قَوْلُهُ: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ مَعْطُوفٌ عَلَى لَا نَشْتَرِي دَاخِلٌ مَعَهُ فِي حُكْمِ الْقَسَمِ، وَأَضَافَ الشَّهَادَةَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِكَوْنِهِ الْآمِرَ بِإِقَامَتِهَا وَالنَّاهِيَ عَنْ كَتْمِهَا. قَوْلُهُ: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً عَثَرَ عَلَى كَذَا: اطَّلَعَ عَلَيْهِ، يُقَالُ: عَثَرْتُ مِنْهُ عَلَى خِيَانَةٍ:
أَيِ اطَّلَعْتُ وَأَعْثَرْتُ غَيْرِي عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ «1» وَأَصْلُ الْعُثُورِ الْوُقُوعُ وَالسُّقُوطُ عَلَى الشَّيْءِ، وَمِنْهُ قول الأعشى:
بذات لوث «2» عفرناة إذا عثرت ... فالتّعس أدنى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا اطَّلَعَ بَعْدَ التَّحْلِيفِ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ أَوِ الْوَصِيَّيْنِ اسْتَحَقَّا إِثْمًا: أَيِ اسْتَوْجَبَا إِثْمًا إما بكذب الشَّهَادَةِ أَوِ الْيَمِينِ أَوْ بِظُهُورِ خِيَانَةٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْإِثْمُ هُنَا اسْمُ الشَّيْءِ المأخوذ، لأن آخذه يأثم خذه، فَسُمِّيَ إِثْمًا كَمَا سُمِّيَ مَا يُؤْخَذُ بِغَيْرِ حَقٍّ مَظْلَمَةً. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْمَظْلَمَةُ اسْمُ مَا أُخِذَ مِنْكَ فَكَذَلِكَ سُمِّيَ هَذَا الْمَأْخُوذُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ. قَوْلُهُ: فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما أَيْ فَشَاهِدَانِ آخَرَانِ أَوْ فَحَالِفَانِ آخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَ اللَّذَيْنِ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَيَشْهَدَانِ أَوْ يَحْلِفَانِ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ الَّتِي شَهِدَهَا الْمُسْتَحِقَّانِ لِلْإِثْمِ. قَوْلُهُ: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ اسْتَحَقَّ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَأُبَيٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحَفْصٌ على البناء للفاعل، والْأَوْلَيانِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى مُرْتَفِعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ هُمَا الْأَوْلَيَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ هُمَا؟ فَقِيلَ: هُمَا الْأَوْلَيَانِ وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَقُومَانِ أَوْ مِنْ آخَرَانِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ الْأَوَّلِينَ:
جَمْعُ أَوَّلٍ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ، أَوْ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْأَوَّلَانِ. وَالْمَعْنَى عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ: مَنِ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْإِثْمُ: أَيْ جَنَى عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ الْمَيِّتِ وَعَشِيرَتُهُ فَإِنَّهُمْ أَحَقُّ بِالشَّهَادَةِ أَوِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَالْأَوْلَيَانِ تَثْنِيَةُ أَوْلَى. وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ مِنْ بَيْنِهِمْ بِالشَّهَادَةِ أَنْ يُجَرِّدُوهُمَا لِلْقِيَامِ بِالشَّهَادَةِ وَيُظْهِرُوا بِهِمَا كَذِبَ الْكَاذِبِينَ لِكَوْنِهِمَا الْأَقْرَبِينَ إِلَى الْمَيِّتِ، فَالْأَوْلَيَانِ فَاعِلُ اسْتَحَقَّ وَمَفْعُولُهُ أَنْ يُجَرِّدُوهُمَا لِلْقِيَامِ بِالشَّهَادَةِ وَقِيلَ: الْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَنِ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ بِالْمَيِّتِ وَصِيَّتُهُ الَّتِي أَوْصَى بِهَا. قَوْلُهُ: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ عَطْفٌ عَلَى يَقُومانِ:
أَيْ فَيَحْلِفَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا: أَيْ يَمِينُنَا، فَالْمُرَادُ بِالشَّهَادَةِ هُنَا الْيَمِينُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ «3» أَيْ يَحْلِفَانِ لَشَهَادَتُنَا عَلَى أَنَّهُمَا كَاذِبَانِ خَائِنَانِ أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا: أَيْ مِنْ يَمِينِهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا صَادِقَانِ أَمِينَانِ وَمَا اعْتَدَيْنا أَيْ تَجَاوَزْنَا الحق في أيمننا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ إِنْ كُنَّا حَلَفْنَا عَلَى بَاطِلٍ.
قَوْلُهُ: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَيْ ذَلِكَ الْبَيَانُ الَّذِي قَدَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَعَرَفْنَا كَيْفَ يَصْنَعُ مَنْ أَرَادَ الْوَصِيَّةَ فِي السَّفَرِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ وَعِنْدَهُ كُفَّارٌ أَدْنى:
أَيْ أَقْرَبَ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الشُّهُودُ الْمُتَحَمِّلُونَ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا فَلَا يُحَرِّفُوا وَلَا يُبَدِّلُوا وَلَا
__________
(1) . الكهف: 21.
(2) . ذات لوث: أي قوة.
(3) . النور: 6.
(2/100)
 
 
يَخُونُوا وَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ الْمَنْفَعَةِ وَالْفَائِدَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتَابِهِ فَالضَّمِيرُ فِي يَأْتُوا عَائِدٌ إِلَى شُهُودِ الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكُفَّارِ وَقِيلَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْحُكْمِ.
وَالْمُرَادُ تَحْذِيرُهُمْ مِنَ الْخِيَانَةِ، وَأَمْرُهُمْ بِأَنْ يَشْهَدُوا بِالْحَقِّ. قَوْلُهُ: أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أَيْ تُرَدَّ عَلَى الْوَرَثَةِ فَيَحْلِفُونَ عَلَى خِلَافِ مَا شَهِدَ بِهِ شُهُودُ الْوَصِيَّةِ فَيُفْتَضَحُ حِينَئِذٍ شُهُودُ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْ يَأْتُوا فَتَكُونُ الْفَائِدَةُ فِي شَرْعِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِهَذَا الْحُكْمِ هِيَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا احْتِرَازُ شُهُودِ الْوَصِيَّةِ عَنِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ فَيَأْتُونَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا. أَوْ يَخَافُوا الِافْتِضَاحَ إِذَا رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى قَرَابَةِ الْمَيِّتِ فَحَلَفُوا بِمَا يَتَضَمَّنُ كَذِبَهُمْ أَوْ خِيَانَتَهُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَأْدِيَةِ شَهَادَةِ شُهُودِ الْوَصِيَّةِ عَلَى وَجْهِهَا مِنْ غَيْرِ كَذِبٍ وَلَا خِيَانَةٍ وَقِيلَ: إِنَّ يَخافُوا مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ بَعْدَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَالتَّقْدِيرُ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا وَيَخَافُوا عَذَابَ الْآخِرَةِ بِسَبَبِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ أَوْ يَخَافُوا الِافْتِضَاحَ بِرَدِّ الْيَمِينِ، فَأَيُّ الْخَوْفَيْنِ وَقَعَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي مُخَالَفَةِ أَحْكَامِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ بِأَيِّ ذَنْبٍ، وَمِنْهُ الْكَذِبُ فِي الْيَمِينِ أَوِ الشَّهَادَةِ.
وَحَاصِلُ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْمَقَامُ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَنَّ مَنْ حَضَرَتْهُ عَلَامَاتُ الْمَوْتِ أَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ عَدْلَيْنِ مِنْ عُدُولِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شُهُودًا مُسْلِمِينَ، وَكَانَ فِي سَفَرٍ، وَوَجَدَ كُفَّارًا جَازَ لَهُ أَنْ يُشْهِدَ رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى وَصِيَّتِهِ، فَإِنِ ارْتَابَ بِهِمَا وَرَثَةُ الْمُوصِي حَلَفَا بِاللَّهِ عَلَى أَنَّهُمَا شَهِدَا بِالْحَقِّ وَمَا كَتَمَا مِنَ الشَّهَادَةِ شَيْئًا وَلَا خَانَا مِمَّا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ شَيْئًا، فَإِنْ تَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ خِلَافُ مَا أَقْسَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَلَلٍ فِي الشَّهَادَةِ أَوْ ظُهُورِ شَيْءٍ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ زَعَمَا أَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي مُلْكِهِمَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ حَلَفَ رَجُلَانِ مِنَ الْوَرَثَةِ وَعُمِلَ بِذَلِكَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالنَّحَّاسُ فِي تَارِيخِهِ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي النَّضْرِ وَهُوَ الْكَلْبِيُّ، عَنْ بَاذَانَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ تَمِيمٍ الداري في هذه الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ قال: برىء النَّاسُ مِنْهَا غَيْرِي وَغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ يَخْتَلِفَانِ إِلَى الشَّامِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَأَتَيَا الشَّامَ لِتِجَارَتِهِمَا، وَقَدِمَ عَلَيْهِمَا مَوْلًى لِبَنِي هاشم يُقَالُ لَهُ بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ بِتِجَارَةٍ، وَمَعَهُ جَامٌ مِنْ فِضَّةٍ يُرِيدُ بِهِ الْمَلِكَ وَهُوَ عُظْمُ تِجَارَتِهِ، فَمَرِضَ فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا وَأَمَرَهُمَا أَنْ يُبَلِّغَا مَا تَرَكَ أَهْلَهُ قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا مَاتَ أَخَذْنَا ذَلِكَ الْجَامَ فَبِعْنَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اقْتَسَمْنَاهُ أَنَا وَعَدِيُّ بْنُ بَدَّاءٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا إِلَى أَهْلِهِ دَفَعْنَا إِلَيْهِمْ مَا كَانَ مَعَنَا، وَفَقَدُوا الْجَامَ فَسَأَلُونَا عَنْهُ: فَقُلْنَا: مَا تَرَكَ غَيْرَ هَذَا، أَوْ مَا دَفَعَ إِلَيْنَا غَيْرَهُ قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا أَسْلَمْتُ بَعْدَ قدوم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ تَأَثَّمْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ فَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ، وَأَدَّيْتُ إِلَيْهِمْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِي مِثْلَهَا، فَأَتَوْا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُمُ الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يَجِدُوا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ بِمَا يُعَظَّمُ بِهِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ، فحلف فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَرَجُلٌ آخَرُ فَحَلَفَا، فَنُزِعَتِ الْخَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ. وَفِي إِسْنَادِهِ أَبُو النَّضْرِ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: تَرَكَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ. وأخرج
(2/101)
 
 
الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّحَّاسُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ، فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوّصا بِالذَّهَبِ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّهِ مَا كَتَمْتُمَاهَا وَلَا اطَّلَعْتُمَا، ثُمَّ وَجَدُوا الْجَامَ بِمَكَّةَ فَقِيلَ: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ فَحَلَفَا بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَإِنَّ الْجَامَ لصاحبهم، وأخذوا الجام، قال: وفيهم نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الْآيَةَ، وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الْكُوفِيُّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: قِيلَ: إِنَّهُ صَالِحُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِهِ. وَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ هِيَ السَّبَبُ فِي نُزُولِ الْآيَةِ، وَذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفَاسِيرِهِمْ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ أَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ هِيَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الْآيَةَ قَالَ: هَذَا لِمَنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ الْمُسْلِمُونَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَهَذَا لِمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَمْرَ اللَّهُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنِ ارْتِيبَ بِشَهَادَتِهِمَا اسْتَحْلَفَا بِاللَّهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ مَا اشْتَرَيَا بِشَهَادَتِهِمَا ثَمَنًا قَلِيلًا، فَإِنِ اطَّلَعَ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَيْنِ كَذَبَا فِي شَهَادَتِهِمَا، وَثَمَّ رَجُلَانِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فَحَلَفَا بِاللَّهِ أَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرَيْنِ بَاطِلَةٌ، فَذَلِكَ قوله: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً يَقُولُ: إِنِ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَيْنِ كَذَبَا ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتِيَ الْكَافِرَانِ بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ فَتُتْرَكُ شَهَادَةُ الْكَافِرَيْنِ وَيُحْكَمُ بِشَهَادَةِ الْأَوْلِيَاءِ، فَلَيْسَ عَلَى شُهُودِ الْمُسْلِمِينَ أَقْسَامٌ: إِنَّمَا الْأَقْسَامُ إِذَا كَانَا كَافِرَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ خَرَجَ مُسَافِرًا وَمَعَهُ مَالٌ فَأَدْرَكَهُ قَدَرُهُ، فَإِنْ وَجَدَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دَفَعَ إِلَيْهِمَا تَرِكَتْهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمَا عَدْلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ عَدْلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَرَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنْ أَدَّى فَسَبِيلُ مَا أَدَّى «1» ، وَإِنْ جَحَدَ اسْتُحْلِفَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ دُبُرَ صَلَاةٍ إِنَّ هَذَا الَّذِي دُفِعَ إِلَيَّ وما غيبت منه شيئا، فإذا حلف برىء، فَإِذَا أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ صَاحِبَا الْكِتَابِ فَشَهِدَا عَلَيْهِ، ثُمَّ ادَّعَى الْقَوْمُ عَلَيْهِ مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ مَا لَهُمْ جُعِلَتْ أَيْمَانُ الْوَرَثَةِ مَعَ شَهَادَتِهِمْ ثُمَّ اقْتَطَعُوا حَقَّهُ، فَذَلِكَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ: اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ قَالَ: مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زيد ابن أَسْلَمَ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ فِي رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَالْأَرْضُ حَرْبٌ وَالنَّاسُ كُفَّارٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ النَّاسُ يَتَوَارَثُونَ بِالْوَصِيَّةِ، ثم
__________
(1) . كذا في المطبوع، ولعل الصواب: فإن أدّيا ... جحدا ... استحلفا.. حلفا ... برئا ... عليهما.
(2/102)
 
 
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
نُسِخَتِ الْوَصِيَّةُ وَفُرِضَتِ الْفَرَائِضُ وَعَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَةُ كَافِرٍ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ، إِنَّمَا هِيَ فِي الْمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ قَالَ: صَلَاةُ الْعَصْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً قَالَ: لَا نَأْخُذُ بِهِ رَشْوَةً وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا بَعِيدًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أَيِ اطُّلِعَ مِنْهُمَا عَلَى خِيَانَةٍ عَلَى أَنَّهُمَا كَذَبَا أَوْ كَتَمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: الْأَوْلَيانِ قَالَ: بِالْمَيِّتِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها يَقُولُ: ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ يَصْدُقُوا فِي شَهَادَتِهِمْ أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ يَقُولُ: وَأَنْ يَخَافُوا الْعَتَبَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ قَالَ: فَتَبْطُلُ أَيْمَانُهُمْ وَتُؤْخَذُ أَيْمَانُ هؤلاء.
 
[سورة المائدة (5) : الآيات 109 الى 111]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قالُوا لَا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111)
قَوْلُهُ: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ: أَيِ اسْمَعُوا، أَوِ اذْكُرُوا، أَوِ احْذَرُوا.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ مَفْعُولِ اتَّقُوا بَدَلُ اشْتِمَالٍ وقيل: ظرف لقوله: لا يَهْدِي الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ مُتَأَخِّرٍ تَقْدِيرُهُ: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ يَكُونُ مِنَ الأحوال كذا وكذا. قَوْلُهُ: مَاذَا أُجِبْتُمْ أَيْ أَيُّ إِجَابَةٍ أَجَابَتْكُمْ بِهِ أُمَمُكُمُ الَّذِينَ بَعَثَكُمُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ؟ أَوْ أَيُّ جَوَابٍ أَجَابُوكُمْ بِهِ؟ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ تَكُونُ مَا مَنْصُوبَةً بِالْفِعْلِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهَا، وَتَوْجِيهُ السُّؤَالِ إِلَى الرُّسُلِ لِقَصْدِ تَوْبِيخِ قَوْمِهِمْ، وَجَوَابِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: لَا عِلْمَ لَنا مَعَ أَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِمَا أَجَابُوا بِهِ عَلَيْهِمْ، تَفْوِيضٌ مِنْهُمْ، وَإِظْهَارٌ لِلْعَجْزِ، وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ السُّؤَالَ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ فَإِنَّ تَفْوِيضَ الْجَوَابِ إِلَى اللَّهِ أَبْلَغُ فِي حُصُولِ ذَلِكَ وَقِيلَ الْمَعْنَى: لا علم لنا لما أَحْدَثُوا بَعْدَنَا وَقِيلَ: لَا عِلْمَ لَنَا بِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ بَوَاطِنُهُمْ وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا عِلْمُ مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا وَقِيلَ: إِنَّهُمْ ذُهِلُوا عَمَّا أَجَابَ بِهِ قَوْمُهُمْ لِهَوْلِ الْمَحْشَرِ. قَوْلُهُ: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِذْ: بَدَلٌ مِنْ: يَوْمَ يَجْمَعُ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ التَّعْمِيمِ وَتَخْصِيصُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَيْنِ الرُّسُلِ لِاخْتِلَافِ طَائِفَتَيِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِيهِ إِفْرَاطًا وَتَفْرِيطًا، هَذِهِ تَجْعَلُهُ إِلَهًا، وَهَذِهِ تَجْعَلُهُ كَاذِبًا، وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ اذكر.
(2/103)
 
 
قَوْلُهُ: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ ذَكَّرَهُ سُبْحَانَهُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ- مَعَ كَوْنِهِ ذَاكِرًا لَهَا عَالِمًا بِتَفَضُّلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِهَا- لِقَصْدِ تَعْرِيفِ الْأُمَمِ بِمَا خَصَّهُمَا اللَّهُ بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَمَيَّزَهُمَا بِهِ مِنْ عُلُوِّ الْمَقَامِ، أَوْ لِتَأْكِيدِ الْحُجَّةِ وَتَبْكِيتِ الْجَاحِدِ بِأَنَّ مَنْزِلَتَهُمَا عِنْدَ اللَّهِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ وَتَوْبِيخُ مَنِ اتَّخَذَهُمَا إِلَهَيْنِ بِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمَا كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُمَا عَبْدَانِ مِنْ جُمْلَةِ عِبَادِهِ مُنْعَمٌ عَلَيْهِمَا بِنِعَمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَيْسَ لَهُمَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. قَوْلُهُ: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ إِذْ ظَرْفٌ لِلنِّعْمَةِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ: أَيِ اذْكُرْ إِنْعَامِي عَلَيْكَ وَقْتَ تَأْيِيدِي لَكَ، أَوْ حَالٌ مِنَ النِّعْمَةِ: أَيْ كَائِنَةً ذَلِكَ الْوَقْتِ أَيَّدْتُكَ قَوَّيْتُكَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَيْدِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ. وَفِي رُوحِ الْقُدُسِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا الرُّوحُ الطَّاهِرَةُ الَّتِي خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْكَلَامُ الَّذِي يُحْيِي بِهِ الْأَرْوَاحَ. وَالْقُدُسُ: الطُّهْرُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ سَبَبَهُ، وَجُمْلَةُ تُكَلِّمُ النَّاسَ مبينة لمعنى التأييد، وفِي الْمَهْدِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ: أَيْ تُكَلِّمُ النَّاسَ حَالَ كَوْنِكَ صَبِيًّا وَكَهْلًا لَا يَتَفَاوَتُ كَلَامُكَ فِي الْحَالَتَيْنِ مَعَ أَنَّ غَيْرَكَ يَتَفَاوَتُ كَلَامُهُ فِيهِمَا تَفَاوُتًا بَيِّنًا. وَقَوْلُهُ: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ مَعْطُوفٌ عَلَى إِذْ أَيَّدْتُكَ أَيْ وَاذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَقْتَ تَعْلِيمِي لَكَ الْكِتَابَ: أَيْ جِنْسَ الْكِتَابِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْخَطُّ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ ذِكْرُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَتَخْصِيصُهُمَا بِالذِّكْرِ لِمَزِيدِ اخْتِصَاصِهِ بِهِمَا: أَمَّا التَّوْرَاةُ فَقَدْ كَانَ يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى الْيَهُودِ فِي غَالِبِ مَا يَدُورُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْجِدَالِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِذَلِكَ فِي الْإِنْجِيلِ، وَأَمَّا الْإِنْجِيلُ فَلِكَوْنِهِ نَازِلًا عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ جِنْسُ الْحِكْمَةِ وَقِيلَ: هِيَ الْكَلَامُ الْمُحْكَمُ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أَيْ: تُصَوِّرُ تَصْوِيرًا مِثْلَ صُورَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي لَكَ بِذَلِكَ وَتَيْسِيرِي لَهُ فَتَنْفُخُ فِي الْهَيْئَةِ الْمُصَوَّرَةِ فَتَكُونُ هذه الهيئة طَيْراً مُتَحَرِّكًا حَيًّا كَسَائِرِ الطُّيُورِ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي لَكَ وَتَسْهِيلِهِ عَلَيْكَ وَتَيْسِيرِهِ لَكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا مُطَوَّلًا فِي الْبَقَرَةِ فَلَا نُعِيدُهُ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى مِنْ قُبُورِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ آيَةً لَكَ عَظِيمَةً بِإِذْنِي، وَتَكْرِيرُ بِإِذْنِي فِي الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ لِلِاعْتِنَاءِ بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ لَيْسَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ فِعْلٌ إِلَّا مُجَرَّدَ امْتِثَالِهِ لِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَوْلُهُ: وَإِذْ كَفَفْتُ مَعْطُوفٌ عَلَى إِذْ تُخْرِجُ كَفَفْتُ مَعْنَاهُ: دَفَعْتُ وَصَرَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ حِينَ هَمُّوا بِقَتْلِكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ بِالْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَاتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَيْ مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ إِلَّا سِحْرٌ بَيِّنٌ، لَمَّا عَظُمَ ذَلِكَ فِي صَدْرِهِمْ وَانْبَهَرُوا مِنْهُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى جَحْدِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ نَسَبُوهُ إِلَى السِّحْرِ. قَوْلُهُ: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ. وَالْوَحْيُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْنَاهُ الْإِلْهَامُ: أَيْ أَلْهَمْتُ الْحَوَارِيِّينَ وَقَذَفْتُ فِي قُلُوبِهِمْ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَمَرْتُهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِي بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَيُؤْمِنُوا بِرِسَالَةِ رَسُولِي. قَوْلُهُ: قالُوا آمَنَّا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ:
مَاذَا قَالُوا؟ فَقَالَ: قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ أَيْ مُخْلِصُونَ لِلْإِيمَانِ: أَيْ وَاشْهَدْ يَا رَبِّ، أَوْ وَاشْهَدْ يَا عِيسَى.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:
(2/104)
 
 
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ فَيَفْزَعُونَ فَيَقُولُونَ: لَا عِلْمَ لَنا فَتَرُدُّ إِلَيْهِمْ أَفْئِدَتُهُمْ فَيَعْلَمُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: ذَلِكَ أَنَّهُمْ نَزَلُوا مَنْزِلًا ذُهِلَتْ فِيهِ الْعُقُولُ، فَلَمَّا سُئِلُوا قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا، ثُمَّ نَزَلُوا مَنْزِلًا آخَرَ فَشَهِدُوا عَلَى قَوْمِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا فَرَقًا يُذْهِلُ عُقُولَهُمْ، ثُمَّ يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيْهِمْ عُقُولَهُمْ فَيَكُونُونَ هُمُ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ بِقَوْلِ اللَّهِ: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُدْعَى بِالْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهَا، ثُمَّ يُدْعَى بِعِيسَى فَيُذَكِّرُهُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ فَيُقِرُّ بِهَا، فَيَقُولُ: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ الْآيَةَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَيُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ، فَيُؤْتَى بِالنَّصَارَى فَيُسْأَلُونَ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هُوَ أَمَرَنَا بِذَلِكَ، فَيَطُولُ شَعْرُ عِيسَى حَتَّى يَأْخُذَ كُلُّ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِشَعْرَةٍ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ، فَيُجَاثِيهِمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ مِقْدَارَ أَلْفِ عَامٍ حَتَّى يُوقِعَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ، وَيُرْفَعَ لَهُمُ الصَّلِيبُ، وَيُنْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ أَيْ بِالْآيَاتِ الَّتِي وَضَعَ عَلَى يَدَيْهِ: مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَخَلْقِهِ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ وَالْخَبَرِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْغُيُوبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ يَقُولُ: قَذَفْتُ فِي قُلُوبِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ.
 
[سورة المائدة (5) : الآيات 112 الى 115]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)
قَوْلُهُ: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ: أَيِ اذْكُرْ أَوْ نَحْوَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، قِيلَ: والخطاب لمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. قَرَأَ الْكِسَائِيُّ «هَلْ تَسْتَطِيعُ» بِالْفَوْقِيَّةِ، وَنَصْبُ رَبَّكَ، وَبِهِ قَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ وَرَفْعِ رَبُّكَ. وَاسْتَشْكَلَتِ الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ بِأَنَّهُ قَدْ وَصَفَ سبحانه الحواريين بِأَنَّهُمْ قَالُوا: آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ وَالسُّؤَالُ عَنِ اسْتِطَاعَتِهِ لِذَلِكَ يُنَافِي مَا حَكَوْهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ مَعْرِفَتِهِمْ قَبْلَ أَنْ تَسْتَحْكِمَ مَعْرِفَتُهُمْ بِاللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ عِيسَى فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الصَّادِرِ مِنْهُمْ: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ لَا تَشُكُّوا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَقِيلَ: إِنَّهُمُ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ دَعْوَى بَاطِلَةً، وَيَرُدُّهُ أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ هُمْ خُلَصَاءُ عِيسَى وَأَنْصَارُهُ كَمَا قال: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ
__________
(1) . الأعراف: 60.
(2/105)
 
 
الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ «1» وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا فِي اسْتِطَاعَةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ عَارِفِينَ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ: هَلْ يَسْتَطِيعُ فُلَانٌ أَنْ يأتي؟ مع علمه بأنه يَسْتَطِيعَ ذَلِكَ وَيَقْدِرَ عَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: هَلْ يَفْعَلُ ذلك وهل يجيب إِلَيْهِ؟ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ طَلَبُوا الطُّمَأْنِينَةَ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى «2» الْآيَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُمْ مِنْ بَعْدُ وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، فَالْمَعْنَى: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَ رَبَّكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى هَلْ تَسْتَدْعِي طَاعَةَ رَبِّكَ فِيمَا تَسْأَلُهُ فهو من باب وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ»
، ومائِدَةً: الْخُوَانُ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ، مِنْ مَادَّهُ: إِذَا أَعْطَاهُ وَرَفَدَهُ كَأَنَّهَا تُمِيدُ مَنْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ قَالَهُ قُطْرُبٌ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ: هِيَ فَاعِلَةٌ بمعنى مفعولة ك عِيشَةٍ راضِيَةٍ «4» قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. فَأَجَابَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيِ اتَّقُوهُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ وَأَمْثَالِهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي إِيمَانِكُمْ، فَإِنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِ تَرْكُ الِاقْتِرَاحَ عَلَى رَبِّهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَقِيلَ:
إِنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى لِيَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى حُصُولِ مَا طَلَبُوهُ. قَوْلُهُ: قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها بَيَّنُوا بِهِ الْغَرَضَ مِنْ سُؤَالِهِمْ نُزُولَ الْمَائِدَةِ، وَكَذَا مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ وَالْمَعْنَى: تَطْمَئِنُّ قُلُوبُنَا بِكَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ، أَوْ بِأَنَّكَ مُرْسَلٌ إِلَيْنَا مِنْ عِنْدِهِ، أَوْ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَجَابَنَا إِلَى مَا سَأَلْنَاهُ، وَنَعْلَمُ عِلْمًا يَقِينًا بِأَنَّكَ قد صادقتنا فِي نُبُوَّتِكَ، وَنَكُونُ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ:
عِنْدَ مَنْ لَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ أَوْ مِنَ الشَّاهِدِينَ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، أَوْ مِنَ الشَّاهِدِينَ:
أَيِ الْحَاضِرِينَ دُونَ السَّامِعِينَ. وَلَمَّا رَأَى عِيسَى مَا حَكَوْهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْغَرَضِ بِنُزُولِ الْمَائِدَةِ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ أَيْ كَائِنَةً أَوْ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ، وَأَصْلُ اللَّهُمَّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَأَتْبَاعِهِ: يَا اللَّهُ، فَجُعِلَتِ الْمِيمُ بَدَلًا مِنْ حَرْفِ النِّدَاءِ، وَرَبُّنَا نِدَاءٌ ثَانٍ، وليس بوصف، وتَكُونُ لَنا عِيداً وَصْفٌ لِمَائِدَةٍ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ يَكُونُ لنا عيدا أي يكون نُزُولِهَا لَنَا عِيدًا. وَقَدْ كَانَ نُزُولُهَا يَوْمَ الْأَحَدِ، وَهُوَ يَوْمُ عِيدٍ لَهُمْ وَالْعِيدُ وَاحِدُ الأعياد، وإنما جمع بِالْيَاءِ وَأَصْلُهُ الْوَاوُ لِلُزُومِهَا فِي الْوَاحِدِ وَقِيلَ: لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْوَادٍ جَمْعُ عُودٍ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنْ عَادَ يَعُودُ: أَيْ رَجَعَ فَهُوَ عَوْدٌ بِالْوَاوِ، وَتُقْلَبُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا مِثْلَ الْمِيزَانِ وَالْمِيقَاتِ وَالْمِيعَادِ، فَقِيلَ: لِيَوْمِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى عِيدَانِ، لِأَنَّهُمَا يَعُودَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْعِيدُ كُلُّ يوم جمع كأنهم عادوا إليه. قوله: لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَنَا بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ: أَيْ لِمَنْ فِي عَصْرِنَا وَلِمَنْ يَأْتِي بَعْدَنَا مِنْ ذَرَارِينَا وَغَيْرِهِمْ. قَوْلُهُ: وَآيَةً مِنْكَ عَطْفٌ عَلَى عِيدًا، أَيْ دَلَالَةٌ وَحُجَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِكَ وَصِحَّةِ إِرْسَالِكَ مَنْ أَرْسَلْتَهُ وَارْزُقْنا أَيْ: أَعْطِنَا هَذِهِ الْمَائِدَةَ الْمَطْلُوبَةَ، أَوِ ارْزُقْنَا رِزْقًا نَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى عِبَادَتِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ بَلْ لَا رَازِقَ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُكَ وَلَا مُعْطِيَ سِوَاكَ، فَأَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ سُؤَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنِّي مُنَزِّلُها أَيِ الْمَائِدَةُ عَلَيْكُمْ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الْمَائِدَةُ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الْحَقُّ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ وَوَعْدُهُ الْحَقُّ وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا نَزَلَتْ وإنما هو ضرب
__________
(1) . آل عمران: 52.
(2) . البقرة: 260.
(3) . يوسف: 82.
(4) . الحاقة: 21.
(2/106)
 
 
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
مَثَلٍ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِخَلْقِهِ نَهْيًا لَهُمْ عَنْ مَسْأَلَةِ الْآيَاتِ لِأَنْبِيَائِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: وَعَدَهُمْ بِالْإِجَابَةِ، فَلَمَّا قَالَ: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَقَالُوا: لَا نُرِيدُهَا. قَوْلُهُ: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ أَيْ بَعْدَ تَنْزِيلِهَا فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً أَيْ تَعْذِيبًا لَا أُعَذِّبُهُ صِفَةٌ لَعَذَابًا، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْعَذَابِ بِمَعْنَى التَّعْذِيبِ: أَيْ لَا أُعَذِّبُ مِثْلَ ذَلِكَ التَّعْذِيبِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قيل: المراد عالمي زمانهم، وقيل: جميع الْعَالَمِينَ، وَفِي هَذَا مِنَ التَّهْدِيدِ وَالتَّرْهِيبِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
كَانَ الْحَوَارِيُّونَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنْ أَنْ يَقُولُوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ إِنَّمَا قَالُوا: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْتَ رَبَّكَ أَنْ تَدْعُوَهُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ بِالتَّاءِ يَعْنِي الْفَوْقِيَّةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَهَا كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الْمَائِدَةُ: الْخُوَانُ، وَتَطَمْئِنَّ: تُوقِنَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: تَكُونُ لَنا عِيداً يَقُولُ: نَتَّخِذُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عِيدًا نُعَظِّمُهُ نَحْنُ وَمَنْ بَعْدَنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ تَصُومُوا لِلَّهِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ تَسْأَلُوهُ فَيُعْطِيكُمْ مَا سَأَلْتُمْ؟ فَإِنَّ أَجْرَ الْعَامِلِ عَلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ، فَفَعَلُوا ثُمَّ قَالُوا: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ، قُلْتَ: لَنَا إِنَّ أَجْرَ الْعَامِلِ عَلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ، وَأَمَرْتَنَا أَنْ نَصُومَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَفَعَلْنَا، وَلَمْ نَكُنْ نَعْمَلُ لِأَحَدٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا إِلَّا أَطْعَمَنَا هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً إِلَى قَوْلِهِ: أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ فَأَقْبَلَتِ الْمَلَائِكَةُ تَطِيرُ بِمَائِدَةٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهَا سَبْعَةُ أَحْوَاتٍ وَسَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ حَتَّى وَضَعَتْهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَأَكَلَ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كَمَا أَكَلَ أَوَّلُهُمْ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُزِّلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَأُمِرُوا أَنْ لَا يَخُونُوا وَلَا يَدَّخِرُوا لِغَدٍ، فَخَافُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا لِغَدٍ فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى عَمَّارٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْوَقْفُ أَصَحُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: المائدة سمكة وأريغفة. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَالْحَوَارِيِّينَ خُوانٌ عَلَيْهِ سَمَكٌ وَخُبْزٌ يَأْكُلُونَ مِنْهُ أَيْنَمَا تولوا إذا شاؤوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ كَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ وَالْمُنَافِقُونَ وَآلُ فرعون.
 
[سورة المائدة (5) : الآيات 116 الى 120]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
(2/107)
 
 
قَوْلُهُ: وَإِذْ قالَ اللَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِعَامِلِهِ أَوْ بِعَامِلٍ مُقَدَّرٍ هُنَا: أَيِ اذْكُرْ.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَالنُّكْتَةُ تَوْبِيخُ عُبَّادِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ مِنَ النَّصَارَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَقُطْرُبٌ: إِنَّهُ قَالَ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ لَمَّا قَالَتِ النَّصَارَى فِيهِ مَا قَالَتْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى: قِيلَ: وَإِذْ هُنَا بِمَعْنَى إِذَا، كقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا «1» أَيْ إِذَا فَزِعُوا، وَقَوْلِ أَبِي النَّجْمِ:
ثُمَّ جزاه اللَّهُ عَنِّي إِذْ جَزَى ... جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي السّموات الْعُلَى
أَيْ إِذَا جَزَى، وَقَوْلِ الْأَسْوَدِ بْنِ جعفر الأزدي:
فالآن إِذْ هَازَلْتُهُنَّ فَإِنَّمَا ... يَقُلْنَ أَلَا لَمْ يَذْهَبِ الشَّيْخُ مَذْهَبًا
أَيْ إِذَا هَازَلْتُهُنَّ تَعْبِيرًا عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيهِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ مِنْهُ تَعَالَى إِنَّهُ لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ كَمَا سَبَقَ وَقِيلَ: لِقَصْدِ تَعْرِيفِ الْمَسِيحِ بِأَنَّ قَوْمَهُ غَيَّرُوا بَعْدَهُ وَادَّعَوْا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ. وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: اتَّخِذُونِي عَلَى أَنَّهُ حَالٌ: أَيْ مُتَجَاوِزِينَ الْحَدَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِإِلَهَيْنِ: أَيْ كَائِنِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: سُبْحانَكَ تَنْزِيهٌ لَهُ سُبْحَانَهُ: أَيْ أُنَزِّهُكَ تَنْزِيهًا مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أَيْ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَدَّعِيَ لِنَفْسِي مَا لَيْسَ مِنْ حَقِّهَا إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ رَدَّ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ عَدَمُ الْقَوْلِ مِنْهُ. قَوْلُهُ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حُكْمِ التَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهَا: أَيْ تَعْلَمُ مَعْلُومِي وَلَا أَعْلَمُ مَعْلُومَكَ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَقِيلَ الْمَعْنَى: تَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِكَ وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا أُخْفِيهِ وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِيهِ وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا أُرِيدُ وَلَا أَعْلَمُ مَا تُرِيدُ. قَوْلُهُ: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا تَقَدَّمَ: أَيْ مَا أَمَرْتُهُمْ إِلَّا بِمَا أَمَرْتَنِي أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ هَذَا تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى مَا قُلْتُ لَهُمْ أَيْ مَا أَمَرْتُهُمْ، وَقِيلَ: عَطْفُ بَيَانٍ لِلْمُضْمَرِ فِي بِهِ وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْهُ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً أَيْ: حَفِيظًا وَرَقِيبًا أَرْعَى أَحْوَالَهُمْ وَأَمْنَعُهُمْ عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِكَ مَا دُمْتُ فِيهِمْ أَيْ: مُدَّةَ دَوَّامِي فِيهِمْ. فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَوَفَّاهُ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَهُ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لأن الأخبار قد تضافرت بِأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَأَنَّهُ بَاقٍ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْحَيَاةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْزِلَ إِلَى الْأَرْضِ آخِرَ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: فَلَمَّا رَفَعْتَنِي إِلَى السَّمَاءِ. قِيلَ: الْوَفَاةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ جَاءَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: بِمَعْنَى الْمَوْتِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «2» وَبِمَعْنَى النَّوْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «3» أي ينيمكم،
__________
(1) . سبأ: 51.
(2) . الزمر: 42.
(3) . الأنعام: 60. [.....]
(2/108)
 
 
وبمعنى الرفع، ومنه فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي وإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ «1» . كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ أَصْلُ الْمُرَاقَبَةِ: الْمُرَاعَاةُ، أَيْ كُنْتَ الْحَافِظَ لَهُمْ. وَالْعَالِمَ بِهِمْ وَالشَّاهِدَ عَلَيْهِمْ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ تَصْنَعُ بِهِمْ مَا شِئْتَ وَتَحْكُمُ فِيهِمْ بِمَا تُرِيدُ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيِ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ الْحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ، قِيلَ: قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْطَافِ كَمَا يَسْتَعْطِفُ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ. وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عَصَوْكَ وَقِيلَ: قَالَهُ عَلَى وَجْهِ التَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، وَلِهَذَا عَدَلَ عَنِ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ إِلَى الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. قَوْلُهُ: قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ أَيْ صِدْقُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ فِي الْآخِرَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ يَوْمَ بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ، فَوَجْهُ النَّصْبِ أَنَّهُ ظَرْفٌ لِلْقَوْلِ:
أَيْ قَالَ اللَّهُ هَذَا الْقَوْلَ يَوْمَ يَنْفَعُ الصادقين، ووجه الرفع أنه خبر للمبتدأ هذا وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ «2» . وَقَالَ الْكِسَائِيُّ نُصِبَ يَوْمَ هَاهُنَا لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَأَنْشَدَ:
عَلَى حِينِ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا ... وَقُلْتُ أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ
وَبِهِ قَالَ الزَّجَّاجُ، وَلَا يُجِيزُ الْبَصْرِيُّونَ مَا قَالَاهُ إِلَّا إِذَا أُضِيفَ الظَّرْفُ إِلَى فِعْلٍ مَاضٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ بِتَنْوِينِ يَوْمٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً «3» فَكِلَاهُمَا مَقْطُوعٌ عَنِ الْإِضَافَةِ بِالتَّنْوِينِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً. قَوْلُهُ:
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أَيْ رَضِيَ عَنْهُمْ بِمَا عَمِلُوهُ مِنَ الطَّاعَاتِ الْخَالِصَةِ لَهُ، وَرَضُوا عَنْهُ بِمَا جَازَاهُمْ بِهِ مِمَّا لَا يَخْطُرُ لَهُمْ عَلَى بَالٍ وَلَا تَتَصَوَّرُهُ عُقُولُهُمْ، وَالرِّضَا مِنْهُ سُبْحَانَهُ هُوَ أَرْفَعُ دَرَجَاتِ النَّعِيمِ وَأَعْلَى مَنَازِلَ الْكَرَامَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى نَيْلِ مَا نَالُوهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالْخُلُودِ فِيهَا أَبَدًا، وَرِضْوَانِ اللَّهِ عَنْهُمْ. وَالْفَوْزُ:
الظَّفَرُ بِالْمَطْلُوبِ عَلَى أَتَمِّ الْأَحْوَالِ. قَوْلُهُ: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ جَاءَ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الْخَاتِمَةِ دَفْعًا لِمَا سَبَقَ مِنْ إِثْبَاتِ مَنْ أَثْبَتَ إِلَهِيَّةِ عِيسَى وَأُمِّهِ، وأخبر بأن ملك السموات وَالْأَرْضِ لَهُ دُونَ عِيسَى وَأُمِّهِ وَدُونَ سَائِرِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ دُونَ غيره، وقيل المعنى: أن له ملك السموات وَالْأَرْضِ يُعْطِي الْجَنَّاتِ لِلْمُطِيعِينَ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: تَلَقَّى عِيسَى حُجَّتَهُ وَاللَّهُ لَقَّاهُ في قوله: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: قَالَ اللَّهُ ذَلِكَ لَمَّا رَفَعَ عِيسَى إِلَيْهِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى مَا قَالَتْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
__________
(1) . آل عمران: 55.
(2) . الضمير في إليه: يعود على يوم.
(3) . البقرة: 48.
(2/109)
 
 
قَوْلِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ قَالَ: سَيِّدِي وَسَيِّدَكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ قَالَ: الْحَفِيظَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ قَالَ: مَا كُنْتُ فِيهِمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ يَقُولُ: عَبِيدُكَ قَدِ اسْتَوْجَبُوا الْعَذَابَ بِمَقَالَتِهِمْ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ أَيْ مَنْ تَرَكْتَ مِنْهُمْ وَمُدَّ فِي عُمْرِهِ حَتَّى أَهْبِطَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ لِقَتْلِ الدَّجَّالِ، فَزَالُوا عَنْ مَقَالَتِهِمْ وَوَحَّدُوكَ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ يَقُولُ:
هَذَا يَوْمٌ ينفع الموحّدين توحيدهم.
(2/110)
 
 
سورة الأنعام
قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: سُورَةُ الْأَنْعَامِ مَكِّيَّةٌ إِلَّا سِتَّ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِلَى آخَرِ ثلاث آيات، وقُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إِلَى آخر ثلاث آيات. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهِيَ الْآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ، يَعْنِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيَتَيْنِ هُمَا وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ نَزَلَتْ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيَّيْنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ بِمَكَّةَ لَيْلًا جُمْلَةً وَحَوْلَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجْأَرُونَ حَوْلَهَا بِالتَّسْبِيحِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ يُشَيِّعُهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مردويه عن أسماء قالت: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَسِيرٍ فِي زَجَلٍ «1» مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ نُظِّمُوا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً يُشَيِّعُهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ» وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَائِلَةَ شَيْخِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ يوسف ابن عَطِيَّةَ بْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ. وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ رَوَاهُ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورِ بِهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ وَمَعَهَا مَوْكِبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَسُدُّ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ، لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، وَالْأَرْضُ تَرْتَجُّ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ شَيَّعَ هَذِهِ السُّورَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا سَدَّ الْأُفُقَ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ خَمْسًا خَمْسًا، وَمَنْ حَفِظَهُ خَمْسًا خَمْسًا لَمْ يَنْسَهُ، إِلَّا سُورَةُ الْأَنْعَامِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ جُمْلَةً يُشِيِّعُهَا مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ سَبْعُونَ مَلَكًا حَتَّى أَدَّوْهَا إِلَى النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، مَا قُرِئَتْ عَلَى عَلِيلٍ إِلَّا شَفَاهُ اللَّهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُورَةُ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَهِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ إِلَى تَمَامِ الآيات الثلاث. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «يُنَادِي مُنَادٍ: يَا قَارِئَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ هَلُمَّ إِلَى الْجَنَّةِ بِحُبِّكَ إِيَّاهَا وَتِلَاوَتِهَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ جَمِيعًا مَعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ، وَالدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي كتاب
__________
(1) . زجل: صوت رفيع عال.
(2/111)
 
 
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
الصَّلَاةِ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: الْأَنْعَامُ مِنْ نَوَاجِبِ الْقُرْآنِ. وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ السَّلَفِيُّ بِسَنَدٍ وَاهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ قَرَأَ إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ إِلَى وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ نَزَلَ إِلَيْهِ أَرْبَعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ أَعْمَالِهِمْ، وَنَزَلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَمَعَهُ مِرْزَبَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَإِنْ أَوْحَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِهِ شَيْئًا مِنَ الشَّرِّ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ سَبْعُونَ حِجَابًا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا رَبُّكَ وَأَنْتَ عَبْدِي، امْشِ فِي ظِلِّي، وَاشْرَبْ مِنَ الْكَوْثَرِ، وَاغْتَسِلْ مِنَ السَّلْسَبِيلِ، وَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ» .
وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ، وَقَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ، وَقَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ مَلَكًا يُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَفِي فَضَائِلَ هَذِهِ السُّورَةِ رِوَايَاتٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مَرْفُوعَةٌ وَغَيْرُ مَرْفُوعَةٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ:
قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذِهِ السُّورَةُ أَصْلٌ فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُبْتَدِعِينَ وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَهَذَا يَقْتَضِي إِنْزَالَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ مِنَ الْحُجَّةِ وَإِنْ تَصَرَّفَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَعَلَيْهَا بَنَى الْمُتَكَلِّمُونَ أُصُولَ الدين.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
 
[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
بَدَأَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لَهُ، وَلِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ مَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ لَهُ هُنَا، ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إِخْبَارًا عَنْ قُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ الْمُوجِبَةِ لِاسْتِحْقَاقِهِ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ، فَإِنَّ مَنِ اخْتَرَعَ ذَلِكَ وَأَوْجَدَهُ هُوَ الْحَقِيقُ بِإِفْرَادِهِ بِالثَّنَاءِ وَتَخْصِيصِهِ بِالْحَمْدِ، وَالْخَلْقُ يَكُونُ بِمَعْنَى الِاخْتِرَاعِ، وَبِمَعْنَى التَّقْدِيرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ، وَجَمَعَ السَّمَاوَاتِ لِتَعَدُّدِ طِبَاقِهَا، وَقَدَّمَهَا عَلَى الْأَرْضِ لِتَقَدُّمِهَا فِي الْوُجُودِ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «1» . قَوْلُهُ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ مَعْطُوفٌ عَلَى خَلَقَ، ذَكَرَ سُبْحَانَهُ خَلْقَ الْجَوَاهِرِ بِقَوْلِهِ:
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْأَعْرَاضِ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ لِأَنَّ الْجَوَاهِرَ لَا تَسْتَغْنِي عَنِ الْأَعْرَاضِ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ فَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالظُّلُمَاتِ سَوَادُ اللَّيْلِ، وَبِالنُّورِ ضِيَاءُ النَّهَارِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ، انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الظُّلُمَاتِ تَشْمَلُ كُلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الظُّلْمَةِ، وَالنُّورَ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسم النور،
__________
(1) . النازعات: 30.
(2/112)
 
 
فَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ ظُلْمَةُ الْكُفْرِ وَنُورُ الْإِيمَانِ أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ «1» وَأَفْرَدَ النُّورَ لِأَنَّهُ جِنْسٌ يَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ، وَجَمَعَ الظُّلُمَاتِ لِكَثْرَةِ أَسْبَابِهَا وَتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: جَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ: وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى خَلَقَ لَمْ تَتَعَدَّ إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: جَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَيْهِ يَتَّفِقُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي النَّسَقِ، فَيَكُونُ الْجَمْعُ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَمْعِ، وَالْمُفْرَدُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُفْرَدِ، وَتَقْدِيمُ الظُّلُمَاتِ عَلَى النُّورِ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ، وَلِهَذَا كَانَ النَّهَارُ مَسْلُوخًا مِنَ اللَّيْلِ. قَوْلُهُ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ عَلَى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَثُمَّ: لِاسْتِبْعَادِ مَا صَنَعَهُ الْكُفَّارُ مِنْ كَوْنِهِمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ مَعَ مَا تَبَيَّنَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَقِيقٌ بِالْحَمْدِ عَلَى خَلْقِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِهِ وَصَرْفَ الثَّنَاءِ الْحَسَنِ إِلَيْهِ، لَا الْكُفْرَ بِهِ وَاتِّخَاذَ شَرِيكٍ لَهُ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ لِلِاهْتِمَامِ، وَرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ، وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ لِظُهُورِهِ أَيْ يَعْدِلُونَ بِهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَهَذَا نِهَايَةُ الْحُمْقِ وَغَايَةُ الرَّقَاعَةِ حَيْثُ يَكُونُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ تِلْكَ النِّعَمُ، وَيَكُونُ مِنَ الْكَفَرَةِ الْكُفْرُ. قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ فِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ: أَنَّ الْمُرَادَ آدَمُ عَلَ