فتح القدير للشوكاني 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: فتح القدير
المؤلف: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ)
 
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 10 الى 13]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)
الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا: جِنْسُ الْكَفَرَةِ، وَقِيلَ: وَفْدُ نَجْرَانَ، وَقِيلَ: قُرَيْظَةُ وَقِيلَ: النَّضِيرُ وَقِيلَ:
مُشْرِكُو الْعَرَبِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: لَنْ يُغْنِيَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِسُكُونِ الْيَاءِ الْآخِرَةِ تَخْفِيفًا. قَوْلُهُ:
مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَيْ: مِنْ عَذَابِهِ شَيْئًا مِنَ الْإِغْنَاءِ وَقِيلَ: إِنَّ كَلِمَةَ: مِنْ، بِمَعْنَى عِنْدَ، أَيْ: لَا تُغْنِي عِنْدَ اللَّهِ شَيْئًا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى بَدَلٍ. وَالْمَعْنَى: بَدَلُ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. قَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ الْوَقُودُ: اسْمٌ لِلْحَطَبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. أَيْ: هُمْ حَطَبُ جَهَنَّمَ الَّذِي تُسَعَّرُ بِهِ، وَهُمْ: مُبْتَدَأٌ، وَوَقُودُ: خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ: خَبَرُ أُولَئِكَ، أَوْ هُمْ: ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ:
فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، مُقَرِّرَةٌ لِقَوْلِهِ: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ الْآيَةَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَطِلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وُقُودُ بِضَمِّ الْوَاوِ وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَكَذَلِكَ الْوَقُودُ بِفَتْحِ الْوَاوِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْحَطَبِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، لِأَنَّهُ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي تَأْتِي عَلَى وَزْنِ الْفَعُولِ فَتَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ: أَيْ هُمْ أَهْلُ وَقُودِ النَّارِ. قَوْلُهُ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ الدَّأْبُ: الِاجْتِهَادُ، يُقَالُ: دَأَبَ الرَّجُلُ في عمله، يدأب، دأبا، ودؤوبا: إِذَا جَدَّ وَاجْتَهَدَ، وَالدَّائِبَانِ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَالدَّأْبُ:
الْعَادَةُ وَالشَّأْنُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا ... وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بمأسل
والمراد هنا: كعادة آل فرعون وشأنهم وَحَالِهِمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَافِ، فَقِيلَ: هِيَ فِي موضع رفع، تقديره: دأبهم كدأب آلُ فِرْعَوْنَ مَعَ مُوسَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّ الْمَعْنَى: كَفَرَتِ الْعَرَبُ كَكُفْرِ آلِ فِرْعَوْنَ.
قَالَ النَّحَّاسُ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ مُتَعَلِّقَةً بِكَفَرُوا، لِأَنَّ كَفَرُوا دَاخِلَةٌ فِي الصِّلَةِ وَقِيلَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَخَذَهَمُ اللَّهُ، أَيْ: أَخَذَهُمْ أَخْذَةً كَمَا أَخَذَ آلَ فِرْعَوْنَ وَقِيلَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِلَنْ تُغْنِيَ، أَيْ: لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ غِنَاءً، كَمَا لَمْ تُغْنِ عَنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَامِلَ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ مِنْ لَفْظِ الْوَقُودِ، وَيَكُونُ التَّشْبِيهُ فِي نَفْسِ الْإِحْرَاقِ.
قَالُوا: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا «1» . أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: هُوَ الَّذِي قَالَهُ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ، وَمِنْهُمُ الْأَزْهَرِيُّ. قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ: مِنْ قَبْلِ آلِ فِرْعَوْنَ مِنَ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ، أَيْ: وَكَدَأْبِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. قَوْلُهُ: كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ يَحْتَمِلُ: أَنْ يُرِيدَ الْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ، وَيَحْتَمِلُ: أَنْ يُرِيدَ الْآيَاتِ الْمَنْصُوبَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، وَيَصِحُّ إِرَادَةُ الْجَمِيعِ. وَالْجُمْلَةُ: بَيَانٌ تفسير لِدَأْبِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، عَلَى إِضْمَارِ قَدْ، أَيْ: دَأْبُ هَؤُلَاءِ كَدَأْبِ أُولَئِكَ قَدْ كَذَّبُوا إِلَخْ. وَقَوْلُهُ: بِذُنُوبِهِمْ أَيْ: بِسَائِرِ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا تَكْذِيبُهُمْ. قَوْلُهُ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ وقيل: هم مشركو مكة،
__________
(1) . غافر: 46، وتمامها النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ.
(1/368)
 
 
وَسَيَأْتِي بَيَانُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: سَتُغْلَبُونَ قُرِئَ: بِالْفَوْقِيَّةِ، وَالتَّحْتِيَّةِ، وَكَذَلِكَ:
تُحْشَرُونَ. وَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ بِقَتْلِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَإِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ، وَفَتْحِ خَيْبَرَ، وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى سَائِرِ الْيَهُودِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. قَوْلُهُ: وَبِئْسَ الْمِهادُ يَحْتَمِلُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقوله لَهُمْ، وَيَحْتَمِلُ: أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً تَهْوِيلًا وَتَفْظِيعًا. قَوْلُهُ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ أَيْ: عَلَامَةٌ عَظِيمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ مَا أَقُولُ لَكُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ: جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَهِيَ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِتَقْرِيرِ مَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ، وَلَمْ يَقُلْ: كَانَتْ، لِأَنَّ التَّأْنِيثَ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ ذَكَرَ الْفِعْلَ لِأَجْلِ الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْمِ بِقَوْلِهِ: لَكُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْفِئَتَيْنِ: الْمُسْلِمُونَ، وَالْمُشْرِكُونَ لَمَّا الْتَقَوْا يَوْمَ بَدْرٍ. قَوْلُهُ: فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: بِرَفْعِ فِئَةٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ: «فئة» و «كافرة» بِالْخَفْضِ، فَالرَّفْعُ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِحْدَاهُمَا فِئَةٌ. وَقَوْلُهُ: تُقاتِلُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الصِّفَةِ، وَالْجَرُّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: فِئَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَأُخْرى أَيْ: وَفِئَةٌ أُخْرَى كَافِرَةٌ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا. قَالَ ثَعْلَبٌ: هُوَ عَلَى الْحَالِ، أَيِ: الْتَقَتَا مُخْتَلِفَتَيْنِ، مُؤْمِنَةً وَكَافِرَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النَّصْبُ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي وَسُمِّيَتِ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ: فِئَةٌ، لِأَنَّهُ يُفَاءُ إِلَيْهَا أَيْ: يُرْجَعُ فِي وَقْتِ الشِّدَّةِ.
وَقَالَ الزجاج: الفئة: الفرقة، مأخوذة مِنْ فَأَوْتُ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ، إِذَا قَطَعْتَهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِئَتَيْنِ هُمَا الْمُقْتَتِلَتَانِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْمُخَاطَبِ بِهَذَا الْخِطَابِ فَقِيلَ: الْمُخَاطَبُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ وَقِيلَ:
الْيَهُودُ. وَفَائِدَةُ الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ تَثْبِيتُ نُفُوسِهِمْ وَتَشْجِيعُهَا، وَفَائِدَتُهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْيَهُودِ عَكْسُ الْفَائِدَةِ الْمَقْصُودَةِ بِخِطَابِ الْمُسْلِمِينَ. قَوْلُهُ: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الرُّؤْيَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رُؤْيَةُ الْعَيْنِ، وَلِذَلِكَ تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: رَأْيَ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يَرَى الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ: بِالْفَوْقِيَّةِ. وَقَوْلُهُ:
مِثْلَيْهِمْ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أن فاعل ترون هم: المؤمنون، والمفعول هم:
الكفار. والضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمشركين، أي: تَرَوْنَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ، وَفِيهِ بُعْدٌ أَنْ يُكْثِرَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا: أَنَّهُ قَلَّلَهُمْ فِي أَعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: تَرَوْنَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْكُمْ فِي الْعَدَدِ وَقَدْ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِمْ، فَقَلَّلَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُسْلِمِينَ فَأَرَاهُمْ إِيَّاهُمْ مِثْلَيْ عُدَّتِهِمْ لِتَقْوَى أَنْفُسُهُمْ. وَقَدْ كَانُوا أُعْلِمُوا أَنَّ الْمِائَةَ مِنْهُمْ تَغْلِبُ الْمِائَتَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي مِثْلَيْهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، أَيْ: تَرَوْنَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسَكُمْ مِثْلَيْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ لِتَقْوَى بِذَلِكَ أَنْفُسُكُمْ، وَقَدْ قَالَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ: أَعْنِي: أَنَّ فَاعِلَ الرُّؤْيَةِ الْمُشْرِكُونَ، وَأَنَّهُمْ رَأَوُا الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ أَنَّهُ لَا يُنَاقِضُ هَذَا مَا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ «1» بَلْ قُلِّلُوا أَوَّلًا فِي أَعْيُنِهِمْ لِيُلَاقُوهُمْ وَيَجْتَرِئُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا لَاقَوْهُمْ كَثُرُوا فِي أَعْيُنِهِمْ حَتَّى غَلَبُوا. قَوْلُهُ: رَأْيَ الْعَيْنِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: تَرَوْنَهُمْ أَيْ: رُؤْيَةً ظَاهِرَةً مَكْشُوفَةً، لَا لَبْسَ فِيهَا وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ: يُقَوِّي مَنْ يَشَاءُ أَنْ يُقَوِّيَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ تَأْيِيدُ أَهْلِ بَدْرٍ بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ، إِنَّ فِي ذلِكَ أي: في
__________
(1) . الأنفال: 4.
(1/369)
 
 
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
رُؤْيَةِ الْقَلِيلِ كَثِيرًا لَعِبْرَةً فِعْلَةً مِنَ الْعُبُورِ، كَالْجِلْسَةِ مِنَ الْجُلُوسِ. وَالْمُرَادُ الِاتِّعَاظُ، وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: عِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَوْعِظَةٌ جَسِيمَةٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ قَالَ: كَصَنِيعِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ: كَفِعْلِ. وَأَخْرَجَ مِثْلَهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: كَسُنَّتِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَصَابَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ مَا أَصَابَ وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَمَعَ الْيَهُودَ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ قَالَ:
يَا مَعْشَرَ يَهُودَ! أَسْلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِمَا أَصَابَ قُرَيْشًا، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! لَا يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنْ قَتَلْتَ نَفَرًا كَانُوا غِمَارًا لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ، إِنَّكَ وَاللَّهِ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ إِلَى قَوْلِهِ: لِأُولِي الْأَبْصارِ «1» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ أبي حاتم، عن عاصم بن عمر عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ فِنْحَاصُّ الْيَهُودِيُّ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ: عِبْرَةٌ وَتَفَكُّرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ وَأُخْرى كافِرَةٌ فِئَةُ قُرَيْشٍ الْكُفَّارُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ يَقُولُ: قَدْ كَانَ لَكُمْ في هؤلاء عبرة وتفكر، أَيَّدَهُمُ اللَّهُ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، وَكَانَ أَصْحَابُ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرْنَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَرَأَيْنَاهُمْ يَضْعُفُونَ عَلَيْنَا، ثُمَّ نَظَرْنَا إِلَيْهِمْ فَمَا رَأَيْنَاهُمْ يَزِيدُونَ عَلَيْنَا رَجُلًا وَاحِدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ: قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي التَّخْفِيفِ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ مِثْلَيْهِمْ سِتَّمِائَةٍ وَسِتَّةً وَعِشْرِينَ فأيّد الله المؤمنين.
 
[سورة آل عمران (3) : الآيات 14 الى 17]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)
قَوْلُهُ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ إِلَخْ: كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ حَقَارَةِ مَا تَسْتَلِذُّهُ الأنفس في هَذِهِ الدَّارِ، وَالْمُزَيِّنُ:
قِيلَ: هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وغيره، ويؤيده قوله تعالى:
__________
(1) . آل عمران: 12- 13.
(1/370)
 
 
إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ «1» . وَقِيلَ: الْمُزَيِّنُ: هُوَ الشَّيْطَانُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، حَكَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ زُيِّنَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: الْجِنْسُ. وَالشَّهَوَاتُ: جَمْعُ شَهْوَةٍ وَهِيَ: نُزُوعُ النَّفْسِ إِلَى مَا تُرِيدُهُ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْمُشْتَهَيَاتُ، عَبَّرَ عَنْهَا بِالشَّهَوَاتِ مُبَالَغَةً فِي كَوْنِهَا مَرْغُوبًا فِيهَا، أَوْ تَحْقِيرًا لَهَا لِكَوْنِهَا مُسْتَرْذَلَةً عِنْدَ الْعُقَلَاءِ مِنْ صِفَاتِ الطَّبَائِعِ الْبَهِيمِيَّةِ، وَوَجْهُ تَزْيِينِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهَا ابْتِلَاءُ عِبَادِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى. وَقَوْلُهُ:
مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ فِي مَحَلِّ الْحَالِ، أَيْ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ حَالَ كَوْنِهَا مِنَ النِّسَاءِ والبنين إلخ.
وبدأ بالنساء لكثرة تشوق النُّفُوسِ إِلَيْهِنَّ لِأَنَّهُنَّ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ، وَخَصَّ الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ لِعَدَمِ الِاطِّرَادِ فِي مَحَبَّتِهِنَّ. وَالْقَنَاطِيرُ: جَمْعُ قِنْطَارٍ، وَهُوَ: اسْمٌ لِلْكَثِيرِ مِنَ الْمَالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْقِنْطَارُ مَأْخُوذٌ مِنْ عَقْدِ الشَّيْءِ وَإِحْكَامِهِ: تَقُولُ الْعَرَبُ: قَنْطَرْتُ الشَّيْءَ: إِذَا أَحْكَمْتَهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ: الْقَنْطَرَةُ، لِإِحْكَامِهَا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِهِ عَلَى أَقْوَالٍ لِلسَّلَفِ، سَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى: الْمُقَنْطَرَةِ، فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ:
مَعْنَاهَا الْمُضَعَّفَةُ، وَقَالَ الْقَنَاطِيرُ: ثَلَاثَةٌ، والمقنطرة تسعة. وقال الفراء: القناطير: جمع القنطار، وَالْمُقَنْطَرَةُ:
جَمْعُ الْجَمْعِ، فَتَكُونُ تِسْعَ قَنَاطِيرَ وَقِيلَ: الْمُقَنْطَرَةُ: الْمَضْرُوبَةُ وَقِيلَ: الْمُكَمَّلَةُ، كَمَا يُقَالُ: بَدْرَةٌ مُبَدَّرَةٌ، وَأُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ، وَبِهِ قَالَ مَكِّيٌّ وَحَكَاهُ الْهَرَوِيُّ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: لَا تَكُونُ الْمُقَنْطَرَةُ أَقَلَّ مِنْ سَبْعِ قَنَاطِيرَ.
وَقَوْلُهُ: مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بَيَانٌ لِلْقَنَاطِيرِ، أَوْ حَالٌ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ قِيلَ هِيَ الْمَرْعِيَّةُ فِي الْمُرُوجِ وَالْمَسَارِحِ، يُقَالُ سَامَتِ الدَّابَّةُ وَالشَّاةُ: إِذَا سَرَحَتْ وَقِيلَ هِيَ الْمُعَدَّةُ لِلْجِهَادِ وَقِيلَ: هِيَ الْحِسَانُ وَقِيلَ:
الْمُعَلَّمَةُ، مِنَ السُّومَةِ، وَهِيَ: الْعَلَامَةُ، أَيِ: الَّتِي يُجْعَلُ عَلَيْهَا عَلَامَةٌ لِتَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ: الْمُسَوَّمَةُ: الْمُرْسَلَةُ وَعَلَيْهَا رُكْبَانُهَا. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْبُلْقُ. وَالْأَنْعَامُ: هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، فَإِذَا قُلْتَ نَعَمٌ فَهِيَ الْإِبِلُ خَاصَّةً قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَابْنُ كَيْسَانَ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ:
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسُ ... خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
وَالْحَرْثُ: اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُحْرَثُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الْمَحْرُوثُ، يَقُولُ: حَرَثَ الرَّجُلُ حَرْثًا: إِذَا أَثَارَ الْأَرْضَ، فَيَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ الْحَرْثُ: التَّفْتِيشُ. قَوْلُهُ: ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ: ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ ثُمَّ يَذْهَبُ وَلَا يَبْقَى، وَفِيهِ تَزْهِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَتَرْغِيبٌ في الآخرة. والمآب: المرجع آب يؤوب إِيَابًا: إِذَا رَجَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ
قوله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ أَيْ: هَلْ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ تِلْكَ الْمُسْتَلَذَّاتِ، وَإِبْهَامُ الْخَيْرِ لِلتَّفْخِيمِ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ وَعِنْدَ: فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ جَنَّاتٍ، وَهِيَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهَا: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ اللَّامُ بِخَيْرٍ. وَجَنَّاتٌ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: هُوَ جَنَّاتٌ، وَخَصَّ الْمُتَّقِينَ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَا بعده. قوله:
__________
(1) . الكهف: 7.
(1/371)
 
 
الَّذِينَ يَقُولُونَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَالصَّابِرِينَ وَمَا بَعْدَهُ: نَعْتٌ لِلْمَوْصُولِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ بَدَلًا، أَوْ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ خَبَرًا يَكُونُ الصَّابِرِينَ وَمَا بَعْدَهُ: مَنْصُوبَةً عَلَى الْمَدْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الصَّبْرِ وَالصِّدْقِ وَالْقُنُوتِ. قَوْلُهُ: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ هُمُ السَّائِلُونَ لِلْمَغْفِرَةِ بِالْأَسْحَارِ، وَقِيلَ: الْمُصَلُّونَ. وَالْأَسْحَارُ: جَمْعُ سَحَرٍ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنْ حِينِ يُدْبِرُ اللَّيْلُ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَخَصَّ الْأَسْحَارَ لِأَنَّهَا مِنْ أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، لَمَّا نَزَلَتْ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ قَالَ: الْآنَ يَا رَبِّ حِينَ زَيَّنْتَهَا لَنَا، فَنَزَلَتْ: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ بِلَفْظِ خَيْرٍ. انْتَهَى إلى قوله: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ فَبَكَى وَقَالَ: بَعْدَ مَاذَا، بَعْدَ مَاذَا، بَعْدَ مَا زَيَّنْتَهَا؟. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «الْقِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ أُوقِيَّةٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الوراث عَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي بكر ابن أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا أَصَحُّ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ فَقَالَ: «الْقِنْطَارُ أَلْفُ أُوقِيَّةٍ» . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «الْقِنْطَارُ أَلْفُ أُوقِيَّةٍ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ» . وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ قَوْلِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وأخرجه ابن جرير مِنْ قَوْلِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: الْقِنْطَارُ مِلْءُ مَسْكِ (جِلْدِ) الثَّوْرِ ذَهَبًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: الْقِنْطَارُ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْقِنْطَارُ ثَمَانُونَ أَلْفًا. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: الْقِنْطَارُ مِائَةُ رَطْلٍ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: الْقِنْطَارُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ مثقال، والمثال أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: هُوَ الْمَالُ الْكَثِيرُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنِ الرَّبِيعِ. وَأَخْرَجَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْمُقَنْطَرَةَ: الْمَضْرُوبَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ قَالَ: الرَّاعِيَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: هِيَ الرَّاعِيَةُ وَالْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هِيَ الْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ. وَأَخْرَجَا عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: تَسْوِيمُهَا: حُسْنُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ الْغِرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: الصَّابِرِينَ قَالَ: قَوْمٌ صَبَرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَصَبَرُوا عَنْ محارمه، وَالصَّادِقِينَ: قَوْمٌ صَدَقَتْ نِيَّاتُهُمْ، وَاسْتَقَامَتْ قُلُوبُهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ، وَصَدَقُوا في السرّ والعلانية، وَالْقانِتِينَ هم المطيعون وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ أَهْلُ الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ
(1/372)
 
 
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ صَلَاةَ الصُّبْحِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَغْفِرَ بِالْأَسْحَارِ سَبْعِينَ مَرَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ سَعِيدٍ الْجَرِيرِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ جِبْرِيلَ فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ! أَيُّ اللَّيْلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: يَا دَاوُدُ! مَا أَدْرِي إِلَّا أَنَّ الْعَرْشَ يَهْتَزُّ فِي السَّحَرِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حَتَّى يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخَرِ، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مستغفر فأغفر له؟» .
 
[سورة آل عمران (3) : الآيات 18 الى 20]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)
قَوْلُهُ: شَهِدَ اللَّهُ أَيْ: بَيَّنَ وَأَعْلَمَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الشَّاهِدُ: هو الذين يعلم الشيء ويبينه، فقد دلنا الله عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بِمَا خَلَقَ وَبَيَّنَ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: شَهِدَ اللَّهُ بِمَعْنَى: قَضَى، أَيْ: أَعْلَمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا مَرْدُودٌ مِنْ جِهَاتٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا شَبَّهَتْ دَلَالَتَهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بِأَفْعَالِهِ، ووحيه بشهادة الشاهد في كونها مبينة. وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيْ: بِأَنَّهُ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْبَاءُ، كَمَا فِي: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ، أَيْ:
بِالْخَيْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِنَّهُ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، بِتَضْمِينِ شَهِدَ مَعْنَى قَالَ. وَقَرَأَ أَبُو الْمُهَلَّبِ: شُهَداءَ لِلَّهِ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الصَّابِرِينَ وَمَا بَعْدَهُ، أَوْ عَلَى الْمَدْحِ وَالْمَلائِكَةُ عَطْفٌ عَلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ، وَشَهَادَتُهُمْ: إِقْرَارُهُمْ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: وَأُولُوا الْعِلْمِ مَعْطُوفٌ أَيْضًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَشَهَادَتُهُمْ:
بِمَعْنَى الْإِيمَانِ مِنْهُمْ، وَمَا يَقَعُ مِنَ الْبَيَانِ لِلنَّاسِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَعْنًى يَشْمَلُ شَهَادَةَ اللَّهِ، وَشَهَادَةَ الْمَلَائِكَةِ، وَأُولِي الْعِلْمِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي: أُولِي الْعِلْمِ هَؤُلَاءِ، مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَقِيلَ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ وَقِيلَ: مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَقِيلَ:
الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ، وَهُوَ الْحَقُّ، إِذْ لَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ. وَفِي ذَلِكَ فضيلة لأهل العلم جليلة، ومنقبة نبيلة لقرنهم بِاسْمِهِ وَاسْمِ مَلَائِكَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْعِلْمِ هُنَا: عُلَمَاءُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَعْرِفَتِهِمَا، إِذْ لَا اعْتِدَادَ بِعِلْمٍ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَالسُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ.
وَقَوْلُهُ: قائِماً بِالْقِسْطِ: أَيِ الْعَدْلِ، أَيْ: قَائِمًا بِالْعَدْلِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ أَوْ مُقِيمًا لَهُ، وَانْتِصَابُ قَائِمًا:
عَلَى الْحَالِ مِنَ الِاسْمِ الشَّرِيفِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّهَا حال مؤكدة كقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً «1» وَجَازَ إِفْرَادُهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ دُونَ مَا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ لِعَدَمِ اللبس وقيل: إنه منصوب على
__________
(1) . البقرة: 91. [.....]
(1/373)
 
 
الْمَدْحِ وَقِيلَ: إِنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: إِلهَ أَيْ: لَا إِلَهَ قَائِمًا بِالْقِسْطِ إِلَّا هُوَ، أَوْ هُوَ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا هُوَ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى الْجُمْلَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْقَطْعِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، فَلَمَّا قطعت نصب كقوله: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً «1» وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ. وَقَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ تَكْرِيرٌ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ كَالدَّعْوَى، وَالْأَخِيرَةُ كَالْحُكْمِ.
وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: الْأُولَى: وَصْفٌ وَتَوْحِيدٌ، وَالثَّانِيَةُ: رَسْمٌ وَتَعْلِيمٌ. وَقَوْلُهُ: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مُرْتَفِعَانِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الضَّمِيرِ، أَوِ الْوَصْفِيَّةِ لِفَاعِلِ شَهِدَ، لِتَقْرِيرِ مَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ. قَوْلُهُ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِكَسْرِ إِنَّ، عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَقُرِئَ: بِفَتْحِ أَنَّ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَنْصِبُهُمَا جَمِيعًا يَعْنِي قَوْلَهُ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ وَقَوْلَهُ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ بِمَعْنَى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ كَذَا وَأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّ الثَّانِيَةَ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ هُنَا بِمَعْنَى الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَا فِي الْأَصْلِ مُتَغَايِرَيْنِ، كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَعْنَى الْإِسْلَامِ، وَمَعْنَى الْإِيمَانِ، وَصَدَّقَهُ جِبْرِيلُ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاسْمِ الْآخَرِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَوْلُهُ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فِيهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَانَ لِمُجَرَّدِ الْبَغْيِ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الدُّخُولُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُهُمُ الْمُنَزَّلَةُ إِلَيْهِمْ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْخِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمْ: هُوَ خِلَافُهُمْ فِي كون نبينا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ نَبِيًّا أَمْ لَا؟ وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ فِي نُبُوَّةِ عِيسَى وَقِيلَ:
اخْتِلَافُهُمْ فِي ذَاتِ بَيْنِهِمْ، حتى قالت اليهود: ليس النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليس الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ أَيْ: بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فَيُجَازِيهِ، وَيُعَاقِبُهُ عَلَى كُفْرِهِ بِآيَاتِهِ، وَالْإِظْهَارُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ، مَعَ كَوْنِهِ مَقَامَ الْإِضْمَارِ:
لِلتَّهْوِيلِ عَلَيْهِمْ وَالتَّهْدِيدِ لَهُمْ. قَوْلُهُ: فَإِنْ حَاجُّوكَ أَيْ: جَادَلُوكَ بِالشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَقْوَالِ الْمُحَرَّفَةِ، فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أَيْ: أَخْلَصْتُ ذَاتِي لِلَّهِ، وَعَبَّرَ بِالْوَجْهِ عَنْ سَائِرِ الذَّاتِ لِكَوْنِهِ أَشْرَفَ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ، وَأَجْمَعَهَا لِلْحَوَاسِّ، وَقِيلَ: الْوَجْهُ هُنَا: بِمَعْنَى الْقَصْدِ. وَقَوْلُهُ: وَمَنِ اتَّبَعَنِ عَطْفٌ عَلَى فَاعِلِ أَسْلَمْتُ، وَجَازَ لِلْفَصْلِ، وَأَثْبَتَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ الْيَاءَ فِي: اتَّبَعَنِ، عَلَى الْأَصْلِ وَحَذَفَهَا الْآخَرُونَ اتِّبَاعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى: مَعَ، وَالْمُرَادُ بِالْأُمِّيِّينَ هُنَا: مشركو العرب. وقوله:
أَأَسْلَمْتُمْ استفهام تقرير يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ، أَيْ: أَسْلِمُوا، كَذَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
أَأَسْلَمْتُمْ تَهْدِيدٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ قَدْ أَتَاكُمْ مِنَ الْبَرَاهِينِ مَا يُوجِبُ الإسلام، فهل عملتم بِمُوجِبِ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ تَبْكِيتًا لَهُمْ وَتَصْغِيرًا لِشَأْنِهِمْ فِي الْإِنْصَافِ وَقَبُولِ الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: فَقَدِ اهْتَدَوْا أَيْ: ظَفِرُوا بِالْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ الْحَظُّ الْأَكْبَرُ، وَفَازُوا بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ تَوَلَّوْا أَيْ: أَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ الْحُجَّةِ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِمُوجِبِهَا: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أَيْ: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تُبْلِغَهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَلَسْتَ عَلَيْهِمْ بمسيطر، فلا
__________
(1) . النحل: 52.
(1/374)
 
 
تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، وَالْبَلَاغُ: مَصْدَرٌ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فِيهِ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ، لِتَضَمُّنِهِ أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: قائِماً بِالْقِسْطِ قَالَ: بِالْعَدْلِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قَالَ:
الْإِسْلَامُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَ لِنَفْسِهِ، وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ أَوْلِيَاءَهُ، لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ رَسُولًا إِلَّا بِالْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ حَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ صَنَمٍ، لِكُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ صَنَمٌ أَوْ صَنَمَانِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْآيَةَ، فَأَصْبَحَتِ الْأَصْنَامُ كُلُّهَا قَدْ خَرَّتْ سُجَّدًا لِلْكَعْبَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَأَبُو مَنْصُورٍ الشَّحَامِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ، وَالْآيَتَيْنِ مِنْ آلِ عِمْرَانَ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ- إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وقُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ «1» إِلَى قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسابٍ «2» هُنَّ مُعَلَّقَاتٌ بِالْعَرْشِ مَا بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ، يَقُلْنَ يَا رَبِّ تَهَبَّطْنَا إِلَى أَرْضِكَ وَإِلَى مَنْ يَعْصِيكَ؟ قَالَ اللَّهُ: إِنِّي حَلَفْتُ لَا يَقْرَؤُكُنَّ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِي دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا جَعَلْتُ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَإِلَّا أَسْكَنْتُهُ حَظِيرَةَ الْقُدُسِ، وَإِلَّا نَظَرْتُ إِلَيْهِ بِعَيْنِي الْمَكْنُونَةِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ نَظْرَةً، وَإِلَّا قَضَيْتُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ حَاجَةً أَدْنَاهَا الْمَغْفِرَةُ، وَإِلَّا أَعَذْتُهُ مِنْ كُلِّ عَدُّوٍ وَنَصَرْتُهُ مِنْهُ» . وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وفيه: «لا يتلو كنّ عَبْدٌ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ إِلَّا غَفَرْتُ لَهُ مَا كَانَ مِنْهُ، وَأَسْكَنْتُهُ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً، وَقَضَيْتُ لَهُ سَبْعِينَ حَاجَةً أَدْنَاهَا الْمَغْفِرَةُ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ السُّنِّيِّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِعَرَفَةَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَقَالَ:
وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ» وَلَفْظُ الطَّبَرَانِيِّ: «وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَضَعَّفَهُ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ غَالِبٍ الْقَطَّانِ قَالَ: أَتَيْتُ الْكُوفَةَ فِي تجارة فنزلت قريبا من الأعمش، فلما كان ليلة أردت أن أنحدر قام فتهجد من الليل فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ «3» شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فَقَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ بِهِ اللَّهُ، وَأَسْتَوْدِعُ اللَّهَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَهِيَ لِي وَدِيعَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، قَالَهَا مِرَارًا، فَقُلْتُ: لَقَدْ سَمِعَ فِيهَا شَيْئًا فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
__________
(1) . آل عمران: 26.
(2) . آل عمران: 27.
(3) . الصواب: الآيتين.
(1/375)
 
 
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
«يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ: عَبْدِي عَهِدَ إِلَيَّ وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِالْعَهْدِ أَدْخِلُوا عَبْدِيَ الْجَنَّةَ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قَالَ: بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: بَغْياً بَيْنَهُمْ يَقُولُ: بَغْيًا عَلَى الدُّنْيَا وَطَلَبِ مُلْكِهَا وَسُلْطَانِهَا، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى الدُّنْيَا مِنْ بَعْدِ مَا كَانُوا عُلَمَاءَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ حَاجُّوكَ قَالَ: إِنْ حَاجَّكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْأُمِّيِّينَ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لَا يكتبون.
 
[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 25]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
قَوْلُهُ: بِآياتِ اللَّهِ ظَاهِرُهُ: عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ آيَةٍ وَآيَةٍ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ يَعْنِي: الْيَهُودَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ أَيْ: بِالْعَدْلِ. وَهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: كَانَ نَاسٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُمُ النَّبِيُّونَ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَتَلُوهُمْ، فَقَامَ أُنَاسٌ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَرُوهُمْ بِالْإِسْلَامِ، فَقَتَلُوهُمْ. فَفِيهِمْ نَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَوْلُهُ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ خبر إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ إِلَخْ، وَدَخَلَتْهُ الْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ النَّحْوِ: إِلَى أَنَّ الْخَبَرَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَقَالُوا إِنَّ الْفَاءَ لَا تَدْخُلُ فِي خَبَرِ إِنَّ وَإِنْ تَضَمَّنَ اسْمُهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ قَدْ نُسِخَ بِدُخُولِ إِنَّ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ سِيبَوَيْهِ، وَالْأَخْفَشُ وَذَهَبَ غَيْرُهُمَا: إِلَى أَنَّ مَا يَتَضَمَّنُهُ الْمُبْتَدَأُ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لَا يُنْسَخُ بِدُخُولِ إِنَّ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ الْمَكْسُورَةِ الْمَفْتُوحَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ «1» . وَقَوْلُهُ: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْإِحْبَاطِ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا حَبِطَتْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِحَسَنَاتِهِمْ أَثَرٌ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُعَامَلُوا فِيهَا مُعَامَلَةُ أَهْلِ الْحَسَنَاتِ، بَلْ عُومِلُوا مُعَامَلَةَ أَهْلِ السَّيِّئَاتِ، فَلُعِنُوا، وَحَلَّ بِهِمُ الْخِزْيُ وَالصَّغَارُ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ.
قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ فِيهِ تَعْجِيبٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِكُلِّ مَنْ تَصِحُّ مِنْهُ الرُّؤْيَةُ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ، وَهُمْ: أَحْبَارُ الْيَهُودِ. وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ، وَتَنْكِيرُ النَّصِيبِ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ: نَصِيبًا عَظِيمًا، كَمَا يُفِيدُهُ مَقَامَ الْمُبَالَغَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّحْقِيرِ فَلَمْ يُصِبْ. فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ، وَذَلِكَ بأنهم
__________
(1) . الأنفال: 41.
(1/376)
 
 
يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ الذي أُوتُوا نَصِيبًا مِنْهُ وَهُوَ التَّوْرَاةُ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ والحال مُعْرِضُونَ عَنِ الْإِجَابَةِ إِلَى مَا دُعُوا إِلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ وَاعْتِرَافِهِمْ بِوُجُوبِ الْإِجَابَةِ إِلَيْهِ، وذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا مَرَّ مِنَ التَّوَلِّي والإعراض بسبب بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَهِيَ مِقْدَارُ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ مِنَ الْأَكَاذِيبِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا هَذَا الْقَوْلُ.
قَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ هُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَإِبْطَالٌ لِمَا غَرَّهُمْ مِنَ الْأَكَاذِيبِ، أَيْ: فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَهُوَ يَوْمُ الْجَزَاءِ الَّذِي لَا يَرْتَابُ مُرْتَابٌ فِي وُقُوعِهِ؟، فَإِنَّهُمْ يَقَعُونَ لَا مَحَالَةَ، وَيَعْجِزُونَ عَنْ دَفْعِهِ بِالْحِيَلِ وَالْأَكَاذِيبِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ أَيْ: جَزَاءَ مَا كَسَبَتْ، عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بِزِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ. وَالْمُرَادُ: كُلُّ النَّاسِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ نَفْسٍ قَالَ الْكِسَائِيُّ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَوْمٍ بِمَعْنَى: فِي، وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الْمَعْنَى: لِحِسَابِ يَوْمٍ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى: لِمَا يَحْدُثُ فِي يَوْمٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا، أَوْ رَجُلًا أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ! قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا أَوَّلَ النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَسَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقُتِلُوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: بَعَثَ عِيسَى يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْحَوَارِيِّينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ، فَكَانَ يَنْهَى عَنْ نِكَاحِ بِنْتِ الْأَخِ، وَكَانَ مَلِكٌ لَهُ بِنْتُ أَخٍ تُعْجِبُهُ فَأَرَادَهَا وَجَعَلَ يَقْضِي لَهَا كُلَّ يَوْمٍ حَاجَةً، فَقَالَتْ لَهَا أُمُّهَا: إِذَا سَأَلَكِ عَنْ حَاجَةٍ فَقُولِي حَاجَتِي أَنْ تَقْتُلَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، فَقَالَ: سَلِي غَيْرَ هَذَا، فَقَالَتْ:
لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَ هَذَا، فَلَمَّا أَبَتْ أَمَرَ بِهِ فَذُبِحَ فِي طَسْتٍ، فَبَدَرَتْ قَطْرَةٌ مِنْ دَمِهِ فَلَمْ تَزَلْ تَغْلِي حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ بُخَتُنَصَّرَ، فَدَلَّتْ عَجُوزٌ عَلَيْهِ، فَأَلْقَى فِي نَفْسِهِ أَنْ لَا يَزَالَ يَقْتُلُ حَتَّى يَسْكُنَ هَذَا الدَّمُ، فَقَتَلَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ وَسِنٍّ وَاحِدٍ سَبْعِينَ أَلْفًا فَسَكَنَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عن معقل ابن أَبِي مِسْكِينٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ الْوَحْيُ يَأْتِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيُذَكِّرُونَ قَوْمَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يَأْتِيهِمْ كِتَابٌ، فَيَقُومُ رِجَالٌ مِمَّنِ اتَّبَعَهُمْ وَصَدَّقَهُمْ فَيُذَكِّرُونَ قَوْمَهُمْ، فَيُقْتَلُونَ، فَهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ: وُلَاةُ الْعَدْلِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ الْمِدْرَاسِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ يَهُودَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ عَمْرٍو وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَتَيْتَ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: «عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ» قَالَ: فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا. قَالَ لهما النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «فَهَلُمَّا إِلَى التَّوْرَاةِ فَهِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ» فَأَبَيَا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً
(1/377)
 
 
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ
الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: نَصِيباً قَالَ:
حَظًّا مِنَ الْكِتابِ قَالَ: التَّوْرَاةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قَالَ: يَعْنُونَ الْأَيَّامَ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا آدَمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ حِينَ قَالُوا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ يَعْنِي تُوَفَّى كُلُّ نَفْسِ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ مَا كَسَبَتْ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ يعني: من أعمالهم.
 
[سورة آل عمران (3) : الآيات 26 الى 27]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)
قَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُمَّ. قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَجَمِيعُ الْبَصْرِيِّينَ: إِنْ أَصْلَ اللَّهُمَّ يَا اللَّهُ، فَلَمَّا اسْتُعْمِلَتِ الْكَلِمَةُ دُونَ حرف النداء الَّذِي هُوَ «يَا» جَعَلُوا بَدَلَهُ هَذِهِ الْمِيمَ المشددة، فجاؤوا بِحَرْفَيْنِ وَهُمَا الْمِيمَانِ عِوَضًا مِنْ حَرْفَيْنِ وَهُمَا الْيَاءُ وَالْأَلِفُ وَالضَّمَّةُ فِي الْهَاءِ: هِيَ ضَمَّةُ الِاسْمِ الْمُنَادَى الْمُفْرَدِ. وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ وَالْكُوفِيُّونَ:
إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّهُمَّ يَا اللَّهُ أُمَّنَا بخير، فحذف وخلط الكلمتين وَالضَّمَّةُ الَّتِي فِي الْهَاءِ: هِيَ الضَّمَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِي أُمَّنَا، لَمَّا حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ انْتَقَلَتِ الحركة. قال النحاس: هذا عند الكوفيين مِنَ الْخَطَأِ الْعَظِيمِ، وَالْقَوْلُ فِي هَذَا: مَا قاله الخليل وسيبويه. وقال الْكُوفِيُّونَ: وَقَدْ يُدْخَلُ حَرْفُ النِّدَاءِ عَلَى اللَّهُمَّ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ الرَّاجِزِ:
غَفَرْتَ أَوْ عَذَّبْتَ يَا اللَّهُمَّا وَقَوْلَ الْآخَرِ:
وَمَا عَلَيْكَ أن تقولي كلّما ... سبّحت أو هلّلت يا اللهمّ ما
وَقَوْلَ الْآخَرِ:
إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا ... أقول يا اللهمّ يا اللهمّا
قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْمِيمُ عِوَضًا مِنْ حَرْفِ النداء لما اجتمعا. قال الزجاج: هذا شَاذٌّ لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ. قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: مَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ، فَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ. قَوْلُهُ: مالِكَ الْمُلْكِ أَيْ: مَالِكَ جِنْسِ الْمُلْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَالِكَ: مَنْصُوبٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ نِدَاءٌ ثَانٍ، أَيْ: يَا مَالِكَ الْمُلْكِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ لِأَنَّ الْمِيمَ عِنْدَهُ تَمْنَعُ الْوَصْفِيَّةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ صِفَةٌ لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1» .
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ، وَمَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ أَصْوَبُ وَأَبْيَنُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسم مفرد ضم إليه
__________
(1) . الزمر: 46.
(1/378)
 
 
صَوْتٌ، وَالْأَصْوَاتُ لَا تُوصَفُ، نَحْوَ: غَاقْ وَمَا أَشْبَهَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمَعْنَى مَالِكُ الْعِبَادِ وَمَا مَلَكُوا وَقِيلَ:
الْمَعْنَى مَالِكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَقِيلَ: الْمُلْكُ هُنَا: النُّبُوَّةُ وَقِيلَ: الْغَلَبَةُ وَقِيلَ: الْمَالُ وَالْعَبِيدُ. وَالظَّاهِرُ شُمُولُهُ لِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُلْكِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ أَيْ: مَنْ تَشَاءُ إِيتَاءَهُ إِيَّاهُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ نَزْعَهُ مِنْهُ. وَالْمُرَادُ بِمَا يُؤْتِيهِ مِنَ الْمُلْكِ وَيَنْزِعُهُ: هُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْمُلْكِ الْعَامِّ. قَوْلُهُ:
وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِيهِمَا، يُقَالُ: عَزَّ، إِذَا غَلَبَ، وَمِنْهُ: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «1» وَقَوْلُهُ: وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ فِيهِمَا، يُقَالُ: ذَلَّ ذُلًّا، إِذَا غَلَبَ وَقَهَرَ. قَوْلُهُ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِلتَّخْصِيصِ، أَيْ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ لَا بِيَدِ غَيْرِكَ، وَذَكَرَ الْخَيْرَ دُونَ الشَّرِّ: لِأَنَّ الْخَيْرَ بِفَضْلٍ مَحْضٍ، بِخِلَافِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ يَكُونُ جَزَاءً لِعَمَلٍ وُصِلَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ كُلَّ شَرٍّ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مِنْ قَضَائِهِ سُبْحَانَهُ هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلْخَيْرِ، فَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا خَيْرٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ حُذِفَ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «2» وَأَصْلُهُ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَقِيلَ: خَصَّ الْخَيْرَ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ دُعَاءٍ.
قَوْلُهُ: إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: تَعْلِيلٌ لِمَا سَبَقَ وَتَحْقِيقٌ لَهُ. قَوْلُهُ: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أَيْ: تُدْخِلُ مَا نَقَصَ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى: تُعَاقِبُ بَيْنَهُمَا، وَيَكُونُ زَوَالُ أَحَدِهِمَا وُلُوجًا فِي الْآخَرِ. قَوْلُهُ: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قِيلَ: الْمُرَادُ إِخْرَاجُ الْحَيَوَانِ وَهُوَ حَيٌّ مِنَ النُّطْفَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ، وَإِخْرَاجُ النُّطْفَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ مِنَ الْحَيَوَانِ وَهُوَ حَيٌّ وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِخْرَاجُ الطَّائِرِ وَهُوَ حَيٌّ مِنَ الْبَيْضَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ، وَإِخْرَاجُ الْبَيْضَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ مِنَ الدَّجَاجَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِخْرَاجُ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ وَالْكَافِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِ. قَوْلُهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ أَيْ: بِغَيْرِ تَضْيِيقٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، كَمَا تَقُولُ:
فُلَانٌ يُعْطِي بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَالْبَاءُ: مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ حَالًا.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ فِي أُمَّتِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إِلَى قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسابٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذٍ: «أَنَّهُ شَكَا إِلَى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ دَيْنًا عَلَيْهِ، فَعَلَّمَهُ أَنْ يَتْلُوَ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ يَقُولَ: رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمُهُمَا، تُعْطِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُمَا وَتَمْنَعُ مَنْ تَشَاءُ، ارْحَمْنِي رَحْمَةً تُغْنِينِي بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاكَ، اللَّهُمَّ أَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ وَاقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ» . وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ: «أَلَا أُعَلِّمَكَ دُعَاءً تَدْعُو بِهِ لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ دَيْنًا لَأَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ» فَذَكَرَهُ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ «3» بَعْضُ فَضَائِلِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ قَالَ: النُّبُوَّةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ الْآيَةَ، قَالَ:
تَأْخُذُ الصَّيْفَ مِنَ الشِّتَاءِ، وَتَأْخُذُ الشِّتَاءَ مِنَ الصَّيْفِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ تُخْرِجُ الرَّجُلَ الْحَيَّ مِنَ النُّطْفَةِ الْمَيِّتَةِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ تُخْرِجُ النُّطْفَةَ الْمَيِّتَةَ مِنَ الرَّجُلِ الحيّ. وأخرج عبد بن حميد، وابن
__________
(1) . ص: 23.
(2) . النحل: 81.
(3) . آل عمران: 18.
(1/379)
 
 
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ قَالَ: مَا نَقَصَ مِنَ النَّهَارِ تَجْعَلُهُ فِي اللَّيْلِ، وَمَا نَقَصَ مِنَ اللَّيْلِ تَجْعَلُهُ فِي النَّهَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ قَالَ: تُخْرِجُ النُّطْفَةَ الْمَيِّتَةَ مِنَ الْحَيِّ، ثُمَّ تُخْرِجُ مِنَ النُّطْفَةِ بَشَرًا حَيًّا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ: تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ قَالَ: هِيَ الْبَيْضَةُ تَخْرُجُ مِنَ الْحَيِّ وَهِيَ مَيْتَةٌ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا الْحَيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قَالَ: النَّخْلَةُ مِنَ النَّوَاةِ، وَالنَّوَاةُ مِنَ النَّخْلَةِ، وَالْحَبَّةُ مِنَ السُّنْبُلَةِ، وَالسُّنْبُلَةُ مِنَ الْحَبَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ. وَالْمُؤْمِنُ عَبْدٌ حَيُّ الْفُؤَادِ، وَالْكَافِرُ عَبْدٌ مَيِّتُ الْفُؤَادِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْهُ، أَوْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ خَالِدَةَ بِنْتَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قِيلَ: خَالِدَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ، قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً، وَكَانَ أَبُوهَا كَافِرًا. وأخرج ابن سعد عن عائشة مثله.
 
[سورة آل عمران (3) : الآيات 28 الى 30]
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)
قَوْلُهُ: لَا يَتَّخِذِ فِيهِ النَّهْيُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ «1» الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ «2» وقوله: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «3» الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ «4» ، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ «5» . وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَحَلِّ الْحَالِ، أَيْ: مُتَجَاوِزِينَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْكَافِرِينَ اسْتِقْلَالًا أَوِ اشْتِرَاكًا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ إِلَى الاتخاذ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَا يَتَّخِذِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أَيْ: مِنْ وِلَايَتِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، بَلْ هُوَ مُنْسَلِخٌ عَنْهُ بِكُلِّ حَالٍ. قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً عَلَى صِيغَةِ الْخِطَابِ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، أَيْ:
إِلَّا أَنْ تَخَافُوا مِنْهُمْ أَمْرًا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ. وَتُقَاةٌ: مَصْدَرٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ، وَأَصْلُهَا: وِقْيَةٌ، عَلَى وَزْنِ فِعْلَةٍ، قُلِبَتِ الْوَاوُ تَاءً وَالْيَاءُ أَلِفًا، وَقَرَأَ رَجَاءٌ، وَقَتَادَةُ تَقِيَّةً. وَفِي ذلك دليل على
__________
(1) . آل عمران: 118.
(2) . المائدة: 51.
(3) . المجادلة: 22.
(4) . المائدة: 51.
(5) . الممتحنة: 1. [.....]
(1/380)
 
 
جَوَازِ الْمُوَالَاةِ لَهُمْ مَعَ الْخَوْفِ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهَا تَكُونُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ، فَقَالُوا:
لَا تَقِيَّةَ بَعْدَ أَنْ أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ. قَوْلُهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أَيْ: ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ، وَإِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ جَائِزٌ فِي الْمُشَاكَلَةِ كَقَوْلِهِ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ «1» وَفِي غَيْرِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. إِلَى مَنْعِ ذَلِكَ إِلَّا مُشَاكَلَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ اسْتَغْنَوْا عَنْ ذَلِكَ بِهَذَا وَصَارَ الْمُسْتَعْمَلَ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ فَمَعْنَاهُ: تَعْلَمُ مَا عِنْدِي وَمَا فِي حَقِيقَتِي وَلَا أَعْلَمُ مَا عِنْدَكَ وَلَا مَا فِي حَقِيقَتِكَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَاهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ الله عقابه مثل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ
«2» فَجُعِلَتِ النَّفْسُ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَتَخْوِيفٌ عَظِيمٌ لِعِبَادِهِ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِعِقَابِهِ بِمُوَالَاةِ أَعْدَائِهِ. قَوْلُهُ: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ الْآيَةَ، فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا يُضْمِرُهُ الْعَبْدُ وَيُخْفِيهِ، أَوْ يُظْهِرُهُ وَيُبْدِيهِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِمَّا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُخْفُونَهَا أَوْ يُبْدُونَهَا، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: يَوْمَ تَجِدُ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَقِيلَ:
بِمَحْذُوفٍ، أي: اذكر، ومُحْضَراً حَالٌ، وَقَوْلُهُ: وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا الْأُولَى، أَيْ: وَتَجِدُ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ مُحْضَرًا تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا. فَحَذَفَ مُحْضَرًا لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ تَجِدُ مِنْ وِجْدَانِ الضَّالَّةِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ: وَجَدَ، بِمَعْنَى: عَلِمَ، كَانَ مُحْضَرًا هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً، وَيَكُونُ مَا فِي: مَا عَمِلَتْ، مُبْتَدَأٌ، وَيَوَدُّ خَبَرُهُ. وَالْأَمَدُ: الْغَايَةُ، وَجَمْعُهُ آمَادٌ، أَيْ: تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عَمِلَتْ مِنَ السُّوءِ أَمَدًا بَعِيدًا وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَ تَجِدُ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: تَوَدُّ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَبَيْنَهُ لِلْيَوْمِ، وَفِيهِ بُعْدٌ، وَكَرَّرَ قَوْلَهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ لِلتَّأْكِيدِ وَلِلِاسْتِحْضَارِ لِيَكُونَ هَذَا التَّهْدِيدُ الْعَظِيمُ عَلَى ذِكْرٍ مِنْهُمْ، وَفِي قوله: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْذِيرَ الشَّدِيدَ مُقْتَرِنٌ بِالرَّأْفَةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِعِبَادِهِ لُطْفًا بِهِمْ. وَمَا أَحْسَنَ مَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تَمُوتُ وَتُبْعَثُ وَتَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ: أَتُهَدِّدُونَنِي بِمَنْ لَمْ أَرَ الْخَيْرَ قَطُّ إِلَّا مِنْهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ عَمْرٍو حَلِيفَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، وَقَيْسِ بْنِ زَيْدٍ قَدْ بَطَّنُوا بِنَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ، وَسَعْدُ بْنُ خثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود، واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النَّفَرِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ قَالَ:
نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُلَاطِفُوا الْكُفَّارَ وَيَتَّخِذُوهُمْ وَلِيجَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ ظَاهِرِينَ فَيُظْهِرُونَ لَهُمُ اللُّطْفَ وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ فقد برىء الله منه. وأخرج
__________
(1) . المائدة: 116.
(2) . يوسف: 82.
(1/381)
 
 
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً قَالَ: التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ: مَنْ حُمِلَ عَلَى أَمْرٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَهُوَ معصية لله فَيَتَكَلَّمُ بِهِ مَخَافَةَ النَّاسِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ، إِنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: التُّقَاةُ: التَّكَلُّمُ بِاللِّسَانِ، وَالْقَلْبُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَلَا يَبْسُطُ يَدَهُ فَيَقْتُلُ وَلَا إِلَى إِثْمٍ فَإِنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أبي الْعَالِيَةِ فِي الْآيَةِ قَالَ: التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ، وَلَيْسَ بِالْعَمَلِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً قَالَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ فَتَصِلُهُ لِذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا نَبَشُّ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَقُلُوبُنَا تَلْعَنُهُمْ.
وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّقِيَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «1» وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ التَّقِيَّةِ بِاللِّسَانِ: أَبُو الشَّعْثَاءِ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ تُخْفُوا الْآيَةَ قَالَ:
أَخْبَرَهُمْ: أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا أَسَرُّوا وَمَا أَعْلَنُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: مُحْضَرًا:
يَقُولُ: مُوَفَّرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَسُرُّ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَلْقَى عَمَلَهُ ذَلِكَ أَبَدًا، يَكُونُ ذَلِكَ مُنَاهُ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ كَانَتْ خَطِيئَتُهُ يَسْتَلِذِّهَا. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَداً بَعِيداً قَالَ: مَكَانًا بَعِيدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَمَدًا قَالَ: أَجَلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ قَالَ: مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ حَذَّرَهُمْ نَفْسَهُ.
 
[سورة آل عمران (3) : الآيات 31 الى 34]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
الْحُبُّ وَالْمَحَبَّةُ: مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: أَحَبَّهُ فَهُوَ مُحِبٌّ، وَحَبَّهُ يَحِبُّهُ بِالْكَسْرِ، فَهُوَ مَحْبُوبٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهَذَا شَاذٌّ، لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي فِي الْمُضَاعَفِ يَفْعِلُ بِالْكَسْرِ. قَالَ ابْنُ الدِّهَانِ: فِي حَبَّ لُغَتَانِ: حَبَّ، وَأَحَبَّ، وأصل حبّ في هذه الْبَابِ: حَبَبَ، كَطَرَقَ، وَقَدْ فُسِّرَتِ الْمَحَبَّةُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِإِرَادَةِ طَاعَتِهِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ: طَاعَتُهُ لَهُمَا وَاتِّبَاعُهُ أَمْرَهُمَا، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لِلْعِبَادِ: إِنْعَامُهُ عَلَيْهِمْ بِالْغُفْرَانِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: فَاتَّبِعُونِي بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَرُوِيَ عَنْ أبي عمرة بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّهُ أَدْغَمَ الرَّاءَ مِنْ يَغْفِرْ فِي اللَّامِ. قَالَ النّ