فتح البيان في مقاصد القرآن 007

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: فتحُ البيان في مقاصد القرآن
المؤلف: أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (المتوفى: 1307هـ)
 
(يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) وذلك أنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم، فجعلوا يخربونها من داخل، والمسلمون من خارج، قال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم، قال الزجاج: معنى تخريبها بأيدي المؤمنين أنهم عرضوها لذلك، قرأ الجمهور يخربون بالتخفيف، وقرىء بالتشديد، قال أبو عمرو: وإنما اخترت القراءة بالتشديد لأن الإخراب ترك الشيء خراباً، وإنما خربوها بالهدم، وليس ما قاله بمسلم، فإن التخريب والإخراب عند أهل اللغة بمعنى واحد، قال سيبويه: إن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان نحو أخربته وخربته، وأفرحته وفرحته، واختار الأولى أبو عبيد وأبو حاتم.
قال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلت الإبل، كانوا يستحسنون الخشبة أو العمود، فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم، ويخرب المؤمنون بالمقاتلة، وقال أبو عمرو: بأيديهم في تركهم لها وبأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها، والجملة مستأنفة لبيان ما فعلوه، أو في محل نصب على الحال.
(فاعتبروا يا أولي الأبصار) أي اتعظوا وتدبروا، وانظروا فيما نزل بهم يا أهل العقول والبصائر، قال الواحدي: ومعنى الاعتبار النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها، قال النسفي: وهو دليل على جواز القياس انتهى. والاعتبار مأخوذ من العبور، والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد، وسمي علم التعبير لأن صاحبه ينقل من المتخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع، ويقال: السعيد من اعتبر بغيره، لأنه ينقل بواسطة عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه ومن لم يعتبر بغيره
(14/40)
 
 
اعتبر به غيره، ولهذا قال القشيري: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر.
(14/41)
 
 
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)
(ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء) أي الخروج من أوطانهم على ذلك الوجه مع الأهل والولد، وقضى به عليهم (لعذبهم) بالقتل والسبي (في الدنيا) كما فعل ببني قريظة، والجلاء مفارقة الوطن، يقال: جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاء، والفرق بين الجلاء والإخراج -وإن كان معناهما في الإبعاد واحداً- من جهتين إحداهما أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإِخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد، الثاني أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة والإِخراج يكون لجماعة ولواحد كذا قال الماوردي.
(ولهم في الآخرة عذاب النار) مستأنفة غير متعلقة بجواب لولا، متضمنة لبيان ما يحصل لهم في الآخرة من العذاب، وإن نجوا من عذاب الدنيا.
(14/41)
 
 
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
(ذلك) أي ما تقدم ذكره من الجلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة (بأنهم شاقوا الله ورسوله) أي بسبب المشاقة منهم لله ولرسوله لعدم الطاعة والميل مع الكفار ونقض العهد (ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب) اقتصر ههنا على مشاقة الله لأن مشاقته شاقة لرسوله قرأ الجمهور يشاق بالإدغام وقرىء يشاقق بالفك.
(14/41)
 
 
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
(14/42)
 
 
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
(مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ) قال مجاهد: إن بعض المهاجرين وقعوا في قطع النخل، فنهاهم بعضهم وقالوا إنما هي مغانم المسلمين، وقال الذين قطعوا بل هو غيظ للعدو فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطع النخل وتحليل من قطعه من الإثم فقال (ما قطعتم من لينة) قال قتادة والضحاك: إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات، وقال محمد بن إسحق إنهم أحرقوا نخلة وقطعوا نخلة فقال بنو النضير وهم أهل الكتاب يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح؟ أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر؟ وهل وجدت فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد المسلمون في أنفسهم فنزلت الآية ومعنى الآية أي شيء قطعتم من ذلك أو تركتم فبإذن الله، والضمير في تركتموها عائد إلى (ما) لتفسيرها باللينة وكذا في قوله (قائمة على أصولها) ومعنى على أصولها أنها باقية على ما هي عليه. واختلف المفسرون في تفسير اللينة فقال الزهري ومالك وسعيد بن جبير وعكرمة والخليل: إنها النخل كله، إلا العجوة، وقال مجاهد: إنها النخل كله ولم يستثن عجوة ولا غيرها، وقال الثوري: هي كرام العجل وقال أبو
(14/42)
 
 
عبيدة: إنها جميع ألوان التمر سوى العجوة والبرني وقال جعفر بن محمد: إنها العجوة خاصة، وقيل: هي ضرب من النخل يقال لثمره: اللون، تمره أجود التمر، وقال الأصمعي: هي الدقل وأصل اللينة لونه فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وجمع اللينة لين، وقيل: ليان، وقرأ ابن مسعود: ولا تركتم قوماً على أصولها، أي قائمة على سوقها، وقرىء على أصلها، وقائماً على أصوله، وفي البخاري ومسلم وغيرهما:
" عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حرق نخل بني النضير، وقطع وهي البويرة "، ولها يقول حسان رضي الله تعالى عنه:
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
فأنزل الله ما قطعتم الآية، وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه:
" عن ابن عباس في الآية قال: اللينة النخلة، قال: استنزلوهم من حصونهم، وأمروا بقطع النخل فحك في صدورهم، فقال المسلمون: قد قطعنا بعضاً وتركنا بعضاً، فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله (ما قطعتم من لينة) الآية "، وفي الباب أحاديث، والكلام في صلح بني النضير مبسوط في كتب السير.
(وليخزي الفاسقين) أي ليذل الخارجين عن الطاعة، وهم اليهود، ويغيظهم، في قطعها وتركها لأنهم إذا رأوا المؤمنين يتحكمون في أموالهم كيف شاؤوا، من القطع والترك ازدادوا غيظاً، قال الزجاج: وليخزي الفاسقين بأن يريهم أموالهم يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا من قطع وترك، والتقدير وليخزي الفاسقين، أذن في ذلك، يدل على المحذوف قوله: (فبإذن الله)، وقد استدل بهذه الآية على أن حصون الكفار وديارهم لا بأس أن تهدم وتحرق وترمى بالمجانيق، وكذلك قطع أشجارهم ونحوها، وعلى
(14/43)
 
 
جواز الاجتهاد، وعلى تصويب المجتهدين، والبحث مستوفى في كتب الأصول.
(14/44)
 
 
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
(وما أفاء الله على رسوله منهم) أي ما رده عليه من أموال الكفار، يقال: فاء يفيء إذا رجع، والضمير في منهم راجع إلى بني النضير (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) يقال: وجف الفرس والبعير يجف وجفاً وهو سرعة السير، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير السريع، و (ما) في (ما أوجفتم) نافية، والفاء جواب الشرط إن كانت (ما) في (ما أفاء الله) شرطية، وإن كانت موصولة فالفاء زائدة و (من) في (من خيل) زائدة للتأكيد، والركاب ما يركب من الإبل خاصة، قال الرازي: العرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير، ويسمون راكب الفرس فارساً، والمعنى أن ما رد الله على رسوله من أموال بني النضير لم تركبوا لتحصيله خيلاً ولا إبلاً، ولم تقطعوا إليها مسافة، ولا تجشمتم لها شقة، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإنما كانت من المدينة على ميلين، قاله الفراء، فجعل الله سبحانه أموال بني النضير لرسوله صلى الله عليه وسلم، خاصة لهذا السبب فإنه افتتحها صلحاً، وأخذ أموالها، وقد كان يسأله المسلمون أن يقسم لهم فنزلت الآية.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما:
" عن عمر بن الخطاب قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، ومما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله ".
ْ " وعن ابن عباس قال: جعل ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحكم فيه ما أراد ولم يكن يومئذ خيل ولا ركاب يوجف بها، قال: والإِيجاف أن يوضعوا السير وهي لرسول الله فكان من ذلك خيبر وفدك، وقرى عرينة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعمد لينبع فأتاها
(14/44)
 
 
رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتواها كلها، فقال ناس: هلا قسمها الله؟ فأنزل الله عذره، فقال: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) الآية " وفي الكرخي: وهذا وإن كان كالغنيمة لأنهم خرجوا أياماً وقاتلوا وصالحوا، لكن لقلة تعبهم أجراه الله تعالى مجرى الفىء.
(ولكن الله يسلط رسله على من يشاء) أي سنته تعالى جارية على أن يسلطهم على من يشاء من أعدائه تسلطاً غير معتاد، من غير أن يقتحموا مضايق الخطوب، ويقاسوا شدائد الحروب، وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون أصحابه، لكونهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، بل مشوا إليها مشياً (والله على كل شيء قدير) يسلط من يشاء على من أراد. ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء، (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)، فلا حق لكم فيه ويختص به النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذكر معه في الآية الثانية من الأصناف الأربعة على ما كان يقسمه.
(14/45)
 
 
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
(ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) هذا بيان لمصارف الفيء بعد بيان أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة، والتكرير لقصد التقرير والتأكيد، ووضع أهل القرى موضع منهم أي من بني النضير للإشعار بأن هذا الحكم لا يختص ببني النضير وحدهم بل هو حكم على كل قرية يفتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلحاً ولم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب قيل: والمراد بالقرى بنو النضير وقريظة وهما بالمدينة وفدك وهي على ثلاثة أميال من المدينة وخيبر وقرى عرينة وينبع وقد تكلم أهل العلم في هذه الآية والتي قبلها هل معناهما متفق أو مختلف؟ فقيل: متفق، كما ذكرنا وقيل: مختلف، وفي ذلك كلام طويل لأهل العلم.
قال ابن العربي: لا إشكال أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات، أما الآية الأولى وهي قوله: (وما أفاء الله على رسوله منهم) فهي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، خالصة له وهي أموال بني النضير، وما كان مثلها وأما
(14/45)
 
 
الآية الثانية وهي (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) فهذا كلام مبتدأ غير الأول لمستحق غير الأول وإن اشتركت هي والأولى في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئاًً أفاءه الله على رسوله واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال، واقتضت آية الأنفال وهي الآية الثالثة أنه حاصل بقتال، وعريت الآية الثانية وهي ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى عن ذكر حصوله بقتال أو بغير قتال، فنشأ الخلاف من ههنا، فطائفة قالت: هي ملحقة بالأولى وهي مال الصلح، وطائفة قالت: هي ملحقة بالثالثة وهي آية الأنفال، والذين قالوا إنها ملحقة بآية الأنفال اختلفوا هل هي منسوخة أو محكمة؟ هذا حاصل كلامه.
وقال مالك: إن الآية الأولى من هذه السورة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، والآية الثانية هي في بني قريظة، ويعني أن معناها يعود إلى آية الأنفال، ومذهب الشافعي أن سبيل خمس الفيء سبيل خمس الغنيمة، وأن أربعة أخماسه كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي بعده لمصالح المسلمين.
(فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) المراد بقوله: (لله) أنه يحكم فيه بما يشاء للرسول يكون ملكاً له، (ولذي القربى) وهم بنو هاشم وبنو المطلب، لأنهم قد منعوا من الصدقة، فجعل لهم حقاً في الفيء قيل: تكون القسمة في هذا المال على أن تكون أربعة أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وخمسه يقسم أخماساً للرسول خمس، ولكل صنف من الأصناف الأربعة المذكورة خمس، وقيل: يقسم أسداساً، السادس سهم الله سبحانه، ويصرف إلى وجه القرب، كعمارة المساجد ونحو ذلك.
وعن ابن عباس قال: كان ما أفاء الله على رسوله من خيبر نصف لله ورسوله، والنصف الآخر للمسلمين فكان الذي لله ورسوله من ذلك الكثبة والوطيح والسلالم ووحدوه وكان الذي للمسلمين الشق، والشق ثلاثة عشر سهماً، ونطاة خمسة أسهم، ولم يقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية ولم يأذن رسول الله صلى الله
(14/46)
 
 
عليه وسلم لأحد من المسلمين تخلف عنه عند مخرجه الحديبية أن يشهد معه خيبر إلا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري.
وأخرج أبو داود عن عمر بن الخطاب قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، صفايا في النضير وخيبر وفدك، فأما بنو النضير فكانت حبساً لنوائبه، وأما فدك فكان لابن السبيل. وأما خيبر فجزأها ثلاثة أجزاء، قسم منها جزءين بين المسلمين، وحبس جزءاً لنفسه ولنفقة أهله، فما فضل عن نفقة أهله رده على فقراء المهاجرين "، قال البقاعي: ومن زعم أن شيئاًً مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ، لأن الأنفال نزلت في بدر، وهي قبل هذه بمدة.
(كيلا يكون) الفيء (دولة بين الأغنياء منكم) دون الفقراء، والدولة اسم لشيء يتداوله القوم بينهم، يكون لهذا مرة، ولهذا مرة، قال مقاتل: المعنى أنه يغلب الأغنياء الفقراء فيقسمونه بينهم، قرأ الجمهور يكون بالتحتية، ودولة بالنصب، وقرىء بالفوقية ودولة بالرفع، أي كيلا تقع أو توجد دولة، وكان تامة، وقرأ الجمهور دولة بضم الدال، وقرىء بفتحها، قال عيسى بن عمر، ويونس، والأصمعي: هما لغتان بمعنى واحد، وقال أبو عمرو بن العلاء: الدولة بالفتح الذي يتداول من الأموال، وبالضم الفعل وكذا قال أبو عبيدة وجمع المفتوح دول مثل قطعة وقصع، وجمع المضموم دول مثل غرفة وغرف، وقيل: بالضم في المال، وبالفتح في الحرب، ودالت الأيام تدول مثل دارت الأيام تدور وزناً ومعنى، وقيل: بالفتح من الملك بضم الميم، وبالضم من الملك بكسر الميم، قال عمر بن الخطاب ما على وجه الأرض مسلم إلا وله حق في هذا الفيء، إلا ما ملكت أيمانكم.
ثم لما بين سبحانه مصارف هذا المال أمرهم بالاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم فقال:
(وما آتاكم الرسول) أي ما أعطاكم من مال الغنيمة والفيء (فخذوه وما نهاكم عنه) أي عن أخذه (فانتهوا) عنه ولا تأخذوه، قال الحسن والسدي: ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه، وما منعكم منه فلا تطلبوه، وقال
(14/47)
 
 
ابن جريج: ما أعطاكم من طاعتي فافعلوه، وما نهاكم من معصيتي فاجتنبوه والحق أن هذه الآية عامة في كل شيء يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أمر أو نهي، أو قول أو فعل، وإن كان السبب خاصاً فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكل شيء أتانا به من الشرع فقد أعطانا إياه وأوصله إلينا، وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها، قال الماوردي: إنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه، لا يأمر إلا بإصلاح، ولا ينهي إلا عن فساد قال المهدوي: هذا يوجب أن كل ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر من الله تعالى، وإن كانت الآية خاصة بالغنائم: فجميع أوامره ونواهيه داخلة فيها، ذكره القرطبي.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما.
عن " ابن مسعود قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب فجاءت إليه فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، قال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله قالت: لقد قرأت ما بين الدفتين فما وجدت فيه شيئاًً من هذا، قال: لئن كنت قرأته لقد وجدته، أما قرأت (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)؟ قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه ". ثم لما أمرهم بأخذ ما أمرهم بأخذه الرسول، وترك ما نهاهم عنه، أمرهم بتقواه، وخوفهم شدة عقوبته، فقال:
(واتقوا الله إن الله شديد العقاب) فهو معاقب من لم يأخذ ما أتاه الراسول، ولم يترك ما نهاه عنه.
" عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ألقين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به، أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه "، أخرجه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن، والأريكة كل ما اتكىء عليه من سرير أو فراش أو منصة أو نحو ذلك، وفي الباب أحاديث، ثم بين من له الحق في الفيء فقال:
(14/48)
 
 
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
(14/49)
 
 
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
(لِلْفُقَرَاءِ) قيل: بدل من لذي القربى وما عطف عليه، قاله أبو البقاء، ومقتضاه اشتراط الفقر فيه، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة، ومن ثم جعله الزمخشري كذلك، وأطال الكلام فيه ولا يصح أن يكون بدلاً من الرسول وما بعده، لئلا يستلزم وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالفقر، وقيل: التقدير لكيلا يكون دولة، ولكن يكون للفقراء وقيل: التقدير اعجبوا للفقراء، وبه فسر المحلي، وهو موافق لمذهب إمامه الشافعي وأصحابه من الاستحقاق بالقرابة، ولم يشترط الحاجة، فاشتراطها وعدم اعتبار القرابة يضاده ويخالفه، ولأن الآية نص في ثبوت الاستحقاق تشريفاً لهم، فمن علله بالحاجة فوت هذا المعنى والذي يؤيد تقدير فعل التعجب كما ذكره أبو البقاء وتبعه الكواشي مجيء قوله: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون) الآيات مصدراً بألم تر، وهي كلمة تعجب، لكون ذكرهم جاء مقابلاً لذكر أضدادهم، وقيل: التقدير: والله شديد العقاب للفقراء، أي للكفار بسبب الفقراء، وقيل: هو عطف ما مضى بتقدير الواو كما تقول: المال لزيد لعمرو لبكر.
(14/49)
 
 
(المهاجرين) أي الذين هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة في الدين ونصرة له، قال قتادة: هؤلاء المهاجرون هم الذين تركوا الديار والأموال والأهلين كما قال تعالى: (الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) أي حيث أخرجهم كفار مكة منها، واضطروهم إلى الخروج وكانوا مائة رجل، قال النسفي: وفيه دليل على أن الكفار يملكون بالاستيلاء أموال المسلمين، لأن الله سمى المهاجرين فقراء مع أنه كانت لهم ديار وأموال.
(يبتغون فضلاً من الله ورضواناً) أي حال كونهم يطلبون منه أن يتفضل عليهم بالرزق في الدنيا وبالرضوان في الآخرة (وينصرون الله ورسوله) بالجهاد للكفار بأنفسهم وأموالهم، والمراد نصر دينه وإعلاء كلمته، وهذا حال مقدرة أي ناوين نصرتهما إذ وقت خروجهم لم تكن نصرة بالفعل.
(أولئك) المتصفون بتلك الصفات (هم الصادقون) أي الكاملون في الصدق، الراسخون فيه، قال قتادة: هم المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والعشائر، وخرجوا حباً لله ولرسوله، واختاروا الإسلام على ما كانوا فيه من شدة، حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها " وعن سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، يدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم، وذلك خمسمائة سنة أخرجه أبو داود ثم لما فرغ من مدحهم مدح الأنصار بخصال حميدة فقال:
(14/50)
 
 
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
(وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ) وهو كلام مستأنف، والمراد بالدار المدينة، وهي دار الهجرة ومعنى تبوّئهم أنهم اتخذوهما مباءة أي تمكنوا منهما تمكناً شديداً والتبوؤ في الأصل إنما يكون للمكان، ولكنه جعل الإيمان مثله
(14/50)
 
 
لتمكنهم فيه تنزيلاً للحال منزلة المحل، وقيل: التقدير واعتقدوا الإيمان أو أخلصوا الإيمان كذا قال أبو علي الفارسي أو تبوأوا الدار وموضع الإيمان، ويجوز أن يكون تبوّأوا مضمناً معنى لزموا، أي لزموا الدار والإيمان ومعنى (من قبلهم) أسلموا في ديارهم، وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل هجرة المهاجرين، وقبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، فلا بد من تقدير مضاف، لأن الأنصار إنما آمنوا بعد إيمان المهاجرين، وقيل: من قبل المهاجرين لأنهم سبقوهم في تبوّىء الدار.
وقد أخرج البخاري.
" عن عمر بن الخطاب أنه قال: أوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم، أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم " (1).
(يحبون من هاجر إليهم) وذلك أنهم أحسنوا إلى المهاجرين، وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم (ولا يجدون) أي لا يجد الأنصار (في صدورهم حاجة) أي حسداً وغيظاً وحزازة فالمراد بالحاجة هذه المعاني، وإطلاق لفظ الحاجة عليها من إطلاق الملزوم على اللازم على سبيل الكناية، لأن هذه المعاني لا تنفك عن الحاجة غالباً، وفي الكلام مضاف محذوف، أي لا يجدون في صدورهم من حاجة أو أثر حاجة، وكل ما يجده الإنسان في صدره مما يحتاج إليه فهو حاجة.
(مما أوتوا) أي مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء بل طابت أنفسهم
_________
(1) رواه البخاري
(14/51)
 
 
بذلك، وكان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين، من إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم، ثم قال: إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبين المهاجرين، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم، والمشاركة لكم في أموالكم، وإن أحببتهم أعطيتهم ذلك، وخرجوا من دياركم، فرضوا بقسمة ذلك في المهاجرين، وطابت أنفسهم.
(ويؤثرون على أنفسهم) أي في كل شيء من أسباب المعاش، والإيثار تقديم الغير على النفس في حظوظ الدنيا، رغبة في حظوظ الآخرة، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، ووكيد المحبة، والصبر على المشقة، يقال: آثرته بكذا أي خصصته به وفضلته، والمعنى ويقدمون المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا (ولو كان بهم خصاصة) أي حاجة وفقر، والخصاصة مأخوذة من خصاص البيت وهي الفروج التي تكون فيه وقيل: مأخوذة من الاختصاص وهو الإنفراد بالأمر، فالخصاصة الإنفراد بالحاجة.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما:
" عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاًً فقال: ألا رجل يضيف هذا الليلة رحمه الله؟ فقال رجل من الأنصار، وفي رواية: فقال أبو طلحة الأنصاري: أنا يا رسول الله، فذهب به إلى أهله فقال لامرأته أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئاًً، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليل لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت، ثم غدا الضيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله من فلان وفلانة وأنزل الله فيها " هذه الآية " (1).
_________
(1) رواه البخاري.
(14/52)
 
 
وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب:
عن " ابن عمر قال أهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول فنزلت فيهم هذه الآية.
(ومن يوق شح نفسه) قرأ الجمهور يوق بسكون الواو وتخفيف القاف من الوقاية، وقرىء بفتح الواو وتشديد القاف، وقرأوا شح بضم الشين، وقرىء بكسرها، وهذا كلام عام، (ومن) شرطية، ويوق فعل الشرط، والشح البخل مع الحرص كذا في الصحاح، وقيل: الشح أشد من البخل، قال مقاتل: شح نفسه حرص نفسه. قال سعيد بن جبير: شح النفس هو أخذ الحرام ومنع الزكاة، قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ولم يمنع شيئاًً أمره الله بأدائه فقد وقى شح نفسه، قال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده والشح أن يشح بما في أيدي الناس يُحبُّ أن يكون له ما في أيديهم بالحلال والحرام؛ لا يقنع. وقال ابن عيينة: الشح الظلم وقال الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم.
(فأولئك هم المفلحون) جزاء الشرط المتقدم، وفيه رعاية معنى من بعد رعاية لفظها، والفلاح الفوز والظفر بكل مطلوب، أي الفائزون بما أرادوا والظاهر من الآية أن الفلاح مترتب على عدم شح النفس بشيء من الأشياء التي يقبح الشح بها شرعاً، من زكاة أو صدقة أو صلة رحم أو نحو ذلك، كما تفيده إضافة الشح إلى النفس، عن ابن مسعود أن رجلاً قال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: إني سمعت الله يقول (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)، وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء، فقال له ابن مسعود: ليس ذلك بالشح، ولكنه البخل،
(14/53)
 
 
ولا خير في البخل، وإن الشح الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً.
وعن ابن عمر في الآية قال: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، ولكنه البخل وإنه لشر، إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له، وعن علي ابن أبي طالب قال: من أدى زكاة ماله فقد وقي شح نفسه.
" وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما محق الإسلام محق الشح شيء قط " أخرجه أبو يعلى وابن مردويه، وأخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي:
" عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم " (1).
" وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً ". رواه النسائي، وفي الجامع الصغير:
" الشحيح لا يدخل الجنة " رواه الخطيب في كتاب البخلاء عن ابن عمر، وقد وردت أحاديث في ذم الشح كثيرة.
ثم لما فرغ سبحانه من الثناء على المهاجرين والأنصار، ذكر ما ينبغي أن يقوله من جاء بعدهم فقال:
_________
(1) مسلم.
(14/54)
 
 
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
(والذين جاؤوا من بعدهم) وهم التابعون بإحسان إلى يوم القيامة، وقيل: هم الذين هاجروا بعد ما قوي الإسلام والظاهر شمول الآية لمن جاء بعد السابقين من الصحابة، المتأخر إسلامهم في عصر النبوة، ومن تبعهم من المسلمين بعد عصر النبوة إلى يوم القيامة، لأنه يصدق على الكل أنهم جاؤوا
(14/54)
 
 
بعد المهاجرين الأولين والأنصار، عن سعد بن أبي وقاص قال: الناس على ثلاث منازل، قد مضت منزلتان وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت، ثم قرأ: (والذين جاؤوا من بعدهم) الآية.
(يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) المراد بالأُخوّة هنا أخوة الدين، أمرهم الله أن يستغفروا لأنفسهم، ولمن تقدمهم من المهاجرين والأنصار، قال في المصباح: الأخ لامه محذوفة، وهي واو، وترد في التثنية على الأشهر، فيقال: أخوان، وفي لغة يستعمل منقوصاً فيقال: أخان وجمعه إخوة وإخوان بكسر الهمزة فيهما، وضمها لغة، وقيل: جمعه بالواو والنون، وعلى آخاء وزن آباء أقل: والأنثى أخت، وجمعها أخوات، وهو جمع مؤنث سالم.
(وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا) أي غشاً وحقداً وبغضاً وحسداً (لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) أي كثير الرأفة والرحمة، بليغهما لمن يستحق ذلك من عبادك، أمر الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أولياً، لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية، فإن وجد في قلبه غلاً لهم فقد أصابه نزغ الشيطان، وحل به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه، وخير أمة نبيه صلى الله عليه وسلم، وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم، إن لم يتدارك نفسه بالالتجاء أو باللجإِ (1) إلى الله سبحانه، والاستغاثة به بأن ينزع عن قلبه ما طوّقه من الغل لخير القرون، وأشرف هذه الأمة، فإن جاوز
_________
(1) لجأ من باب منع وفرح؟.
(14/55)
 
 
ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم فقد انقاد للشيطان بزمام، ووقع في غضب الله وسخطه.
وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلى بمعلم من الرافضة، أو صاحب من أعداء خير الأمة، الذين تلاعب بهم الشيطان، وزين لهم الأكاذيب المختلفة، والأقاصيص المفتراة، والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور، فاشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا الخسران العظيم، بالربح الوافر، وما زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة، ومن رتبة إلى رتبة، حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله، وخير أمته وصالحي عباده، وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله، وهجروا شعائر الدين، وسعوا في كيد الإِسلام وأهله كل السعي، ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر، والله من ورائهم محيط.
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها في الآية: أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم، ثم قرأت هذه الآية، وقيل لسعيد بن المسيب: ما تقول في عثمان وطلحة والزبير؟ قال: أقول ما قولنيه الله، وتلا هذه الآية، وأخرج ابن مردويه:
" عن ابن عمر أنه سمع رجلاً وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه: (للفقراء والمهاجرين)، ثم قال: هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت؟ قال: لا ثم قرأ عليه (والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم) الآية ثم قال: هؤلاء الأنصار أفأنت منهم؟ قال: لا. ثم قرأ عليه: (والذين جاؤوا من بعدهم) الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو، قال: ليس من هؤلاء من سبب هؤلاء.
ولما فرغ سبحانه من ذكر الطبقات الثلاث من المؤمنين ذكر ما جرى بين المنافقين واليهود من المقاولة لتعجيب المؤمنين من حالهم فقال:
(14/56)
 
 
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)
(14/57)
 
 
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا)؟ هم عبد الله بن أبيّ وأصحابه وقال ابن عباس: ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن نبتل وأوس بن قيظي وإخوانهم بنو النضير، والخطاب لرسول الله صلى عليه وسلم أو لكل من يصلح له (يقولون لإخوانهم) اللام لام التبليغ (الذين كفروا من أهل الكتاب) مستأنفة لبيان المتعجب منه، والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة، أو للدلالة على الاستمرار، وجعلهم إخواناً لهم لكون الكفر قد جمعهم، وإن اختلف نوع كفرهم فهم إخوان في الكفر، وقيل: هو من قول بني النضير لبني قريظة، والأول أولى لأن بني النضير وبني قريظة هم يهود، والمنافقون غيرهم.
(لئن أخرجتم) اللام هي الموطئة للقسم، وتسمى المؤذنة أيضاًً، أي والله لئن أخرجتم من دياركم (لنخرجن معكم) من ديارنا في صحبتكم وهذا جواب القسم (ولا نطيع فيكم) أي في شأنكم ومن أجلكم (أحداً) ممن يريد أن يمنعنا من الخروج معكم وإن طال الزمان، وهو معنى قوله: (أبداً) وهو ظرف للنفي لا للمنفي، ثم لما وعدوهم بالخروج معهم
(14/57)
 
 
وعدوهم بالنصرة لهم، فقالوا: (وإن قوتلتم) حذف منه اللام الموطئة، وهو قليل في كلام العرب، والكثير إثباتها (لننصرنكم) على عدوكم ثم كذبهم الله سبحانه فقال:
(والله يشهد إنهم لكاذبون) فيما وعدهم به من الخروج معهم، والنصر لهم، وفيه دليل على صحة النبوة، ولأنه إخبار بالغيب، ووقع كما أخبر وهذا مبني على تقدم نزول الآية على الواقعة، وعليه يدل النظم، فإن كلمة إن للاستقبال وإعجاز القرآن من حيث الإخبار عن الغيب، عن ابن عباس قال: إن رهطاً من بني عوف بن الحرث منهم عبد الله بن أبي ابن سلول، ووديعة بن مالك، وسويد، وداعس، بعثوا إلى بني النضير أن أثبتوا وتمنعوا فإننا لا نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل إلى الحلقة ففعل فكان الرجل منهم يهدم بيته فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام.
ثم لما أجمل سبحانه كذبهم فيما وعدوا به، فصل ما كذبوا فيه فقال:
(14/58)
 
 
لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)
(لئن أخرجوا لا يخرجون معهم) هذا تكذيب للمقالة الأولى وقوله: (ولئن قوتلوا لا ينصرونهم) تكذيب للمقالة الثالثة، وأما الثانية فلم يذكر لها تكذيب في التفصيل، وقد كان الأمر كذلك، فإن المنافقين لم يخرجوا مع من أخرج من اليهود، وهم بنو النضير، ومن معهم، ولم ينصروا من قوتل من اليهود وهم بنو قريظة وأهل خيبر (ولئن نصروهم) أي جاؤوا لنصرهم قاله المحلي أو لو قدر وجود نصرهم إياهم، لأن ما نفاه الله لا يجوز وجوده، قال الزجاج: معناه لو قصدوا نصر اليهود وهذا من تمام تكذيبهم في المقالة الثالثة (ليولن الأدبار) منهزمين.
(ثم لا ينصرون) يعني اليهود، ولا يصيرون منصورين إذا انهزم
(14/58)
 
 
ناصرهم وهم المنافقون، وقيل: يعني لا يصير المنافقون منصورين بعد ذلك، بل يذلهم الله ولا ينفعهم نفاقهم، وقيل: معنى الآية لا ينصرونهم طائعين، ولئن نصروهم مكرهين ليولن الأدبار، وقيل: معنى لا ينصرونهم لا يدومون على نصرهم، والأولى أولى، ويكون من باب قوله: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه).
(14/59)
 
 
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)
(لأنتم أشد رهبة في صدورهم) أي لأنتم يا معاشر المسلمين أشد خوفاً وخشية في صدور المنافقين أو صدور اليهود، أو صدور الجميع (من الله) أي من رهبة الله، والرهبة هنا بمعنى المرهوبية، لأنها مصدر من المبني للمفعول وفيه دلالة على نفاقهم، يعني أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله، وأنتم أهيب في صدورهم منه (ذلك بأنهم قوم لا يفقهون) أي ما ذكر من الرهبة الموصوفة بسبب عدم فقههم بشيء من الأشياء، ولو كان لهم فقه لعلموا أن الله سبحانه هو الذي سلطكم عليهم، فهو أحق بالرهبة منه دونكم، ثم أخبر سبحانه بمزيد فشلهم وضعف نكايتهم فقال:
(14/59)
 
 
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)
(لا يقاتلونكم جميعاً) يعني لا يبرز اليهود والمنافقون مجتمعين لقتالكم، ولا يقدرون على ذلك (إلا في قرى محصنة) بالدروب والدور والخنادق (أو من وراء جدر) أي من خلف الحيطان التي يستترون بها لجبنهم ورهبتهم قرأ الجمهور جدر بالجمع، وقرىء جدار بالإفراد، واختار الأولى أبو عبيد وأبو حاتم، لأنها موافقة لقوله: (قرى محصنة)، وهما سبعيتان وقرىء جدر بفتح الجيم وإسكان الدال، وهي لغة في الجدار.
(بأسهم بينهم شديد) أي بعضهم فظ غليظ على بعض، وقلوبهم مختلفة، ونياتهم متباينة، قال السدي: المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد، وقال مجاهد: (بأسهم بينهم شديد) بالكلام والوعيد، لنفعلن كذا، والمعنى أنهم إذا انفردوا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، وإذا لاقوا عدواً ذلوا وخضعوا وانهزموا، وقيل: المعنى أن بأسهم بالنسبة إلى أقرانهم شديد، وإنما ضعفهم بالنسبة إليكم لما قذف الله في قلوبهم من
(14/59)
 
 
الرعب، والأول أولى لقوله: (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى) فإنه يدل على أن اجتماعهم إنما هو في الظاهر مع تخالف قلوبهم في الباطن، وهذا التخالف هو البأس الذي بينهم، الموصوف بالشدة، والجملة حالية أو مستأنفة للإخبار بذلك.
والعامة على أن شتى بلا تنوين لأنها ألف تأنيث، ومعنى شتى متفرقة، قال مجاهد: يعني اليهود والمنافقين، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، أي لافتراق عقائدهم، واختلاف مقاصدهم، وروي عنه أيضاًً أنه قال: المراد المنافقون، وقال الثوري: هم المشركون وأهل الكتاب، قال قتادة: (تحسبهم جميعاً) أي مجتمعين على أمر، ورأي، وقلوبهم متفرقة، فأهل الباطل مختلفة آراؤهم، مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم، وهم يجتمعون في عداوة أهل الحق، وقرأ ابن مسعود وقلوبهم أشت أي: أشد اختلافاً، قال ابن عباس في الآية: هم المشركون، وهذا تجسير للمؤمنين، وتشجيع لقلوبهم على قتالهم.
(ذلك بأنهم) أي ذلك الاختلاف والتشتت بسب أنهم (قوم لا يعقلون) شيئاًً مما فيه صلاحهم، فإن تشتيت القلوب يوهن قواهم، ولو عقلوا لعرفوا الحق واتبعوه
(14/60)
 
 
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)
(كمثل) أي أن مثل المنافقين واليهود أي بني النضير كمثل (الذين من قبلهم) من كفار المشركين وأهل مكة (قريباً) يعني في زمان قريب وقيل: يشبهونهم في زمن قريب، وقيل العامل فيه: (ذاقوا) أي ذاقوا في زمن قريب، أي بين وقعة بدر ووقعة بني النضير نحو سنة ونصف، لأنها كانت في ربيع الأول من الرابعة، وبدر كانت في رمضان من الثانية.
(وبال أمرهم) أي سوء عاقبة كفرهم في الدنيا، بقتلهم يوم بدر. وكان ذلك قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، قاله مجاهد وغيره، وقيل: المراد بنو النضير حيث أمكن الله منهم، قاله قتادة: وقيل: قتل بني قريظة، قاله الضحاك، وقيل: هو عام في كل من انتقم الله منه بسبب كفره، والأول أولى (ولهم) مع ذلك (عذاب أليم) في الآخرة، ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلاً آخر فقال:
(14/60)
 
 
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
(14/61)
 
 
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)
(كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ) وقيل: المثل الأول خاص باليهود، والثاني بالمنافقين أي مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال، أو تخاذلهم وعدم تناصرهم، كمثل الشيطان، والمراد به حقيقته لا شيطان الإنس، وقيل: الثاني بيان للأول، ثم بين سبحانه وجه الشبه فقال: (إذ قال للإنسان اكفر) أي أغراه بالكفر: وزينه له وحمله عليه، والمراد بالإنسان هنا جنس من أطاع الشيطان من نوع الإنسان، كما قال مجاهد: المراد بالإنسان هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم، وقيل: هو أبو جهل، وقيل: هو عابد كان في بني إسرائيل حمله الشيطان على الكفر فأطاعه وهو برصيصاً والأول أولى.
" عن علي بن أبي طالب أن رجلاً كان يتعبد في صومعة، وأن امرأة كان لها إخوة فعرض لها شيء فأتوه بها، فزينت له نفسه فوقع عليها، فحملت، فجاءه الشيطان فقال: اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت، فقتلها ودفنها، فجاؤوه فأخذوه فذهبوا به، فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال: إني أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك فسجد له، فذلك قوله: (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر) الآية أخرجه أحمد في الزهد، والبخاري في تاريخه، والحاكم وصححه، والبيهقي وغيرهم، قلت: وهذا لا يدل على أن هذا الإنسان هو المقصود بالآية، بل يدل على أنه من جملة من
(14/61)
 
 
تصدق عليه، وقد أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس بأطول من هذا، وليس فيه ما يدل على أنه المقصود بالآية، وأخرجه بنحوه ابن جرير عن ابن مسعود، وعنه قال: ضرب الله مثل الكفار والمنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر).
(فلما كفر) أي الإنسان مطاوعة للشيطان وقبولاً لتزيينه (قال) الشيطان (إني بريء منك) إن أريد بالإنسان الجنس فهذا التبرؤ من الشيطان يكون يوم القيامة، يتبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب كما ينبىء عنه قوله: (إني أخاف الله رب العالمين) وإن أريد به أبو جهل فقوله: اكفر عبارة عن قول إبليس يوم بدر: (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم) وتبرؤه قوله: يومئذ (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ) الآية وهذا تعليل لبراءته من الإنسان بعد كفره، قيل: وليس قول الشيطان: إني أخاف الله على حقيقته، إنما هو على وجه التبرؤ من الإنسان كذباً ورياءً، وإلا فهو لا يخاف الله، فهو تأكيد لقوله: (إني بريء منك) قرىء إني بإسكان الياء وبفتحها.
(14/62)
 
 
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
(فكان عاقبتهما أنهما في النار) أي فكان عاقبة الشيطان وذلك الإنسان الذي كفر أنهما صائران إلى النار (خالدين فيها) وقرىء خالدان على أنه خبر أن (وذلك) أي الخلود في النار (جزاء الظالمين) ويدخل هؤلاء فيهم دخولاً أولياً، ثم رجع سبحانه إلى خطاب المؤمنين بالموعظة الحسنة لأن الموعظة بعد المصيبة أوقع في النفس، لرقة القلوب والحذر مما يوجب العقاب، فقال:
(14/62)
 
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) أي اتقوا عقابه بفعل ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه (ولتنظر نفس ما قدمت لغد) أي لتنظر أي شيء قدمت من الأعمال ليوم القيامة، والعرب تكني عن الزمان المستقبل بالغد، وهو في الأصل عبارة عن يوم بينك وبينه ليلة، وإنما أطلق اسم الغد على يوم القيامة تقريباً له، كقوله تعالى: (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر) فكأنه لقربه
(14/62)
 
 
شبه بما ليس بينك وبينه إلا ليلة واحدة، أو لأن الدنيا أي زمانها كيوم والآخرة كغده، لاختصاص كل منهما بأحكام وأحوال متشابهة، وتعقيب الثاني للأول، فلفظ الغد حينئذ استعارة، وفائدة تنكير النفس بيان، إن الأنفس الناظرة في معادها قليلة جداً، كأنه قيل: ولتنظر نفس واحدة في ذلك، وأين تلك النفس؟ وفائدة تنكير الغد تعظيمه، وإبهام أمره، كأنه قيل: لغد لا تعرف النفس كنه عظمته، وهو له. فالتنكير فيه للتعظيم، وفي النفس للتقليل أو للتعريض بغفلة كلهم عن هذا النظر الواجب أفاده الكرخي.
(واتقوا الله) كرر الأمر بالتقوى للتأكيد أو الأول في أداء الواجبات لأنه مقرون بالعمل، فإن ما قدمت لغد عبارة عن أعمال الخير، والثاني في ترك المحارم، لاقترانه بقوله: (إن الله خبير بما تعملون) ورجح هذا الوجه بفضل التأسيس على التأكيد، وأنت خبير بأن التقوى تشمل كليهما فإنها على ما مر في أول البقرة هي التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك، ولا وجه للتوزيع، بل المقام مقام الاهتمام بأمر التقوى، فالتأكيد أولى وأقوى، ذكره الكرخي، والمعنى لا تخفى عليه من ذلك خافية، فهو مجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
(14/63)
 
 
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
(ولا تكونوا كالذين نسوا الله) أي تركوا أمره وطاعته، أو ما قدروه حق قدره أو لم يخافوه أو جميع ذلك (فأنساهم أنفسهم) أي جعلهم ناسين لها بسبب نسيانهم له، فلم يشتغلوا بالأعمال التي تنجيهم من عذاب الله ولم يكفوا عن المعاصي التي توقعهم فيه، ففي الكلام مضاف محذوف، أي أنساهم حظوظ أنفسهم أو تقديم خير لأنفسهم قال سفيان: نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم وقيل: نسوا الله في الرخاء فأنساهم في الشدائد وقيل نسوا الله بترك شكره وتعظيمه فأنساهم أنفسهم أن يذكر بعضهم بعضاً حكاه ابن عيسى وقال سهل ابن عبد الله: نسوا الله عند الذنوب فأنساهم أنفسهم
(14/63)
 
 
عند التوبة ونسب الله تعالى الفعل إلى نفسه في أنساهم إيذاناً بأن ذلك بسبب أمره ونهيه كقوله: أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً وأصل نسوا نسيوا يقال نسي ينسى كرضي يرضى (أولئك هم الفاسقون) أي الكاملون في الخروج عن طاعة الله.
(14/64)
 
 
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
(لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) في الفضل والرتبة والمراد الفريقان على العموم فيدخل في فريق أهل النار من نسي الله منهم دخولاً أولياً ويدخل في فريق أهل الجنة الذين اتقوا دخولاً أولياً لأن السياق فيهم، وقد تقدم الكلام في معنى مثل هذه الآية في سورة المائدة وفي سورة السجدة وفي سورة ص وفيه مزيد الترغيب فيما يزلفهم إلى الله ويدخلهم دار كرامته ويجعلهم من أصحابها ومن ثم دق ولطف استدلال الشافعية بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر، وأن الكافر لا يملك مال المسلم بالاستيلاء، وحسن كلام القاضي حيث قال: لا يستوي الذين استكملوا نفوسهم فاستأهلوا الجنة، والذين استمهنوا نفوسهم أي استعملوها في المهنة والشهوات، فاستحقوا النار، قاله الكرخي.
ثم أخبر سبحانه وتعالى عن أصحاب الجنة، بعد نفي التساوي بينهم وبين أهل النار، فقال:
(أصحاب الجنة هم الفائزون) أي الظافرون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه، وفي الآية تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم، وقلة فكرهم في العاقبة، وتهالكهم على إيثار العاجلة، واتباع الشهوات، كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما، وأن الفوز العظيم مع أصحاب الجنة، والعذاب الأليم مع أصحاب النار فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه، ولما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة وأهل النار، وبين عدم التساوي بينهم في شيء من الأشياء، ذكر تعظيم كتابه الكريم وأخبر عن جلالته، وأنه حقيق بأن تخشع له القلوب، وترق له الأفئدة فقال:
(14/64)
 
 
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
(14/65)
 
 
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
(لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ) أي من شأنه وعظمته، وجودة ألفاظه، وقوة مبانيه وبلاغته، واشتماله على المواعظ التي تلين لها القلوب، أنه لو أنزل على جبل من الجبال الكائنة في الأرض، وجعل فيه تمييز كالإنسان على قساوته، ثم أنزلنا عليه القرآن (لرأيته) مع كونه في غاية القسوة وشدة الصلابة، وضخامة الجرم (خاشعاً متصدعاً) أي متشققاً.
(من خشية الله) سبحانه حذراً من عقابه، وخوفاً من أن يؤدي ما يجب عليه من تعظيم كلام الله، وهذا تمثيل وتخييل، يقتضي علو شأن القرآن، وقوة تأثيره في القلوب، قال ابن عباس في الآية: يقول: لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل وحملته إياه لتصدع وخشع من ثقله، ومن خشية الله، فأمر الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديد، والتخشع والخاشع الذليل المتواضع.
" وعن علي وابن مسعود مرفوعاً في الآية قال: هي رقية الصداع " ورواه الديلمي بإسنادين لا ندري كيف رجالهما، وأخرج الخطيب في تاريخه بإسناده إلى إدريس بن عبد الكريم الحداد مسلسلاً إلى ابن مسعود مرفوعاً، قاله الذهبي: هو باطل، قيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت، ولتصدع من نزوله عليه وقد
(14/65)
 
 
أنزلناه عليك وثبتناك له وقويناك عليه، فيكون على هذا من باب الامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله سبحانه ثبته لما لا تثبت له الجبال الرواسي، وقيل الخطاب للأمة.
(وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) فيما يجب عليهم التفكر فيه ليتعظوا بالمواعظ، وينزجروا بالزواجر، وفيه توبيخ وتقريع للكفار حيث لم يخشعوا للقرآن، ولا اتعظوا بمواعظه، ولا انزجروا بزواجره، ثم أخبر سبحانه بربوبيته وعظمته فقال:
(14/66)
 
 
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)
(هو) أي الذي وجوده من ذاته فلا عدم له بوجه من الوجوه، فلا شيء يستحق الوصف بِهُوَ غيره، لأنه الموجود دائماً أزلاً وأبداً، فهو حاضر في كل ضمير، غائب بعظمته عن كل حس، فلذلك تصدع الجبل من خشيته، ولما عبر عنه بأخص أسمائه أخبر عنه لطفاً بنا، وتنزيلاً لنا بأشهرها الذي هو مسمي الأسماء كلها بقوله: (الله) أي المعبود الذي لا تنبغي العبادة والألوهية إلا له (الذي لا إله إلا هو) فإنه لا مجانس له ولا يليق ولا يصح ولا يتصور أن يكافئه أو يدانيه شيء.
(عالم الغيب والشهادة) أي عالم ما غاب عن الإحساس وما حضر، وقيل: عالم السر والعلانية وقيل: ما كان وما يكون، وقيل: الآخرة والدنيا، وقيل: المعدوم والموجود، وقدم الغيب على الشهادة لكونه متقدماً وجوداً (هو الرحمن الرحيم) قد تقدم تفسير هذين الاسمين.
(14/66)
 
 
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
(هو الله الذي لا إله إلا هو) كرره للتأكيد والتقرير لكون التوحيد حقيقاً بذلك (الملك) الذي لا يزول ملكه المتصرف بالأمر والنهي في جميع خلقه، المالك لهم فهم تحت ملكه وقهره وإرادته (القدوس) أي الطاهر من كل عيب المنزه عن كل نقص، وقيل: هو الذي كثرت بركته، والقدس بالتحريك في لغة أهل الحجاز السطل لأنه يتطهر به، ومنه القادوس لواحد الأواني التي يستخرج بها الماء، قرأ الجمهور القدوس بضم القاف، وقرىء
(14/66)
 
 
بفتحها، وكان سيبويه يقول: سبوح قدوس بفتح أولهما، وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابياً فصيحاً يقرأ القدوس بفتح القاف قال ثعلب: كل اسم على فعول فهو مفتوح الأول إلا السبوح والقدوس، فإن الضم فيهما أكثر وقد يفتحان.
(السلام) قال ابن العربي: اتفق العلماء على أن معنى قولنا في الله السلام النسبة، تقديره: ذو السلامة، ثم اختلفوا في ترجمة النسبة على ثلاثة أقوال:
الأول: معناه الذي سلم من كل عيب وبرىء من كل نقص.
الثاني: معناه ذو السلام أي المسلم على عباده في الجنة، كما قال: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ).
الثالث: أن معناه الذي سلم الخلق من ظلمه، وهذا قول الخطابي، وبه قال الأكثر وعليه والذي قبله يكون صفة فعل وعلى أنه البريء من العيوب والنقائص يكون صفة ذات وقيل: السلام معناه السلم لعباده وهو مصدر وصف به للمبالغة.
(المؤمن) أي الذي وهب لعباده الأمن من عذابه وقيل: المصدق لرسوله بإظهار المعجزات وقيل: المصدق للمؤمنين بما وعدهم به من الثواب والمصدق للكافرين بما أوعدهم به من العذاب وقيل: المؤمن الذي يأمن أولياؤه من عذابه ويأمن عباده من ظلمه يقال آمنه من الأمان الذي هو ضد الخوف كما قال تعالى: (وآمنهم من خوف) فهو مؤمن وقال مجاهد: المؤمن الذي وجد نفسه بقوله: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) قرأ الجمهور المؤمن بكسر الميم اسم فاعل من آمن بمعنى أمن، وقرىء بفتحها بمعنى المؤمن به على الحذف كقوله: (واختار موسى قومه)، وقال أبو حاتم: لا تجوز هذه القراءة لأن معناه أنه كان خائفاً فأمنه غيره.
(المهيمن) من هيمن يهيمن إذا كان رقيباً على الشيء، أي الشهيد
(14/67)
 
 
على عباده بأعمالهم الرقيب عليهم، كذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل، قال الواحدي: وذهب كثير من المفسرين إلى أن أصله مؤيمن من آمن يؤمن فيكون بمعنى المؤمن، والأول أولى، وقيل: القائم على خلقه برزقه، وقيل: هو الرقيب الحافظ، وقيل: هو المصدق، وقيل: هو القاضي، وقيل: هو الأمين والمؤيمن، وقيل: هو العلي، وقيل: اسم من أسماء الله وهو أعلم بتأويله، وقد قدمنا الكلام على المهيمن في سورة المائدة.
(العزيز) الذي لا يوجد له نظير، وقيل: القاهر. وقيل: الغالب غير الغلوب، وقيل: القوي.
(الجبار) جبروت الله عظمته، فعلى هذا هو صفة ذات، والعرب تسمي الملك الجبار، ويجوز أن يكون من جبر إذا أغنى الفقير، وأصلح الكسير، وعلى هذا هو صفة فعل أو من جبره على كذا إذا أكرهه على ما أراد، فهو الذي جبر خلقه على ما أراد منهم، وبه قال السدي ومقاتل واختاره الزجاج والفراء قال: هو من أجبره على الأمر أي قهره، قال: ولم أسمع فعالاً من أفعل إلا في جبار من أجبر، ودراك من أدرك، قلت: وإنه يستعمل ثلاثياً أيضاًً، وقيل: الجبار الذي لا تطاق سطوته، وقيل: هو القهار الذي إذا أراد أمراً فعله لا يحجزه عنه حاجز، وقيل: الجبار هو الذي لا ينال ولا يدانى، والجبر في صفة الله مدح، وفي صفة الناس ذم.
(المتكبر) أي الذي تكبر عن كل نقص، وتعظم عما لا يليق به وأصل التكبر الامتناع وعدم الانقياد والكبر في صفات الله مدح لأن له جميع صفات العلو والعظمة والعز والكبرياء فإن أظهر ذلك كان ذلك ضم كمال إلى كمال وفي صفات العلو والعظمة والعز والكبرياء فإن أظهر ذلك كان ذلك ضم كمال إلى كمال وصفات المخلوقين ذم لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر وذلك نقص في حقه لأنه ليس له كبر ولا علو بل له الحقارة والذلة فإذا أظهر الكذب كان كاذباً في فعله فكان مذموماً في حق الناس قال قتادة: هو الذي تكبر عن كل سوء قال ابن الأنباري: المتكبر ذو الكبرياء وهو الملك.
(14/68)
 
 
وقيل: هو الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله وقيل هو المتعظم عما لا يليق بجلاله وجماله وقيل: هو المتكبر عن ظلم عباده.
ثم نزه سبحانه نفسه الكريمة عن شرك المشركين فقال (سبحانه الله عما يشركون) أي عما يشركونه أو عن إشراكهم به.
(14/69)
 
 
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
(هو الله الخالق) أصل الخلق التقدير يقال: خلقت الأديم للسقاء إذا قدرته له أي المقدر للأشياء ولما يوجده على مقتضى إرادته ومشيئته وهذا يرجع إلى صفة الإرادة وتعلقها التنجيزي القديم (الْبَارِئُ) أي المنشيء المبدع المخترع للأشياء والأعيان الموجد لها والمبرز من العدم إلى الوجود فيرجع لتأثير القدرة الحادث لكن في خصوص الأعيان، وقيل: المميز لبعضها من بعض.
(المصور) أي الموجد للصور المركب لها على هيئات مختلفة فالتصوير آخراً والتقدير والبرء بينهما أو تابع لهما ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل وقرأ حاطب بن أبي بلتعة الصحابي (المصور) بفتح الواو ونصب الراء على أنه مفعول به للبارىء، أي الذي برأ المصور أي ميزه (له الأسماء الحسنى) قد تقدم بيانها والكلام فيها عند تفسير قوله ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها والحسنى مؤنث الأحسن الذي هو أفعل تفضيل لا مؤنث أحسن المقابل لامرأة حسناء ففي القاموس ولا تقل رجل أحسن في مقابلة امرأة حسناء وعكسه غلام أمرد ولا يقال جارية مرداء وإنما يقال هو الأحسن على إرادة أفعل التفضيل وجمعه أحاسن والحسنى بالضم ضد السوأى.
قال الزمخشري: ولله الأسماء الحسنى التي هي أحسن الأسماء لأنها تدل على معان حسنة من تحميد وتقديس وغير ذلك ووصف الجمع الذي لا يعقل بما توصف به الواحدة كقوله: (ولي فيها مآرب أخرى) وهو فصيح ولو جاء على المطابقة للجميع لكان التركيب الحسن على وزن الآخر كقوله: (فعدة من أيام أخر) لأن جمع ما لا يعقل يخبر عنه ويوصف بجمع المؤنثات وإن كان المفرد مذكراً.
(14/69)
 
 
(يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي ينطق بتنزيهه بلسان الحال أو المقال كل ما فيهما (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي الغالب لغيره، الذي لا يغالبه مغالب الحكيم في كل الأمور التي يقضي بها.
" عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً إذا أوى إلى فراشه أن يقرأ آخر سورة الحشر، وقال: إن مت مت شهيداً " أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة، وابن مردويه (1).
" وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات ثم قرأ آخر سورة الحشر بعث الله سبعين ملكاً يطردون عنه شياطين الإنس والجن إن كان ليلاً حتى يصبح، وإن كان نهاراً حتى يمسي "، أخرجه ابن مردويه.
" وعن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة " أخرجه البيهقي والدارمي وأحمد والطبراني وابن الضريس والترمذي وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
" وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ خواتيم الحشر في ليل أو نهار فمات من يومه أو ليلته أوجب الله له الجنة " أخرجه البيهقي في الشعب وابن عدي وابن مردويه والخطيب.
_________
(1) رواه أحمد.
(14/70)
 
 
سورة الممتحنة
(هي ثلاث عشرة آية وهي مدنية)
قال القرطبي: في قول الجميع، قال ابن عباس: نزلت بالمدينة، وعن ابن الزبير مثله، والممتحنة بكسر الحاء اسم فاعل أي المختبرة أضيف الفعل إليها مجازاً كما سميت سورة براءة المبعثرة والفاضحة، لكشفها عن عيوب المنافقين وعلى هذا فالإضافة بيانية أي السورة الممتحنة، وقيل: بفتح الحاء اسم مفعول إضافة إلى المرأة التي فيها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، لقوله سبحانه: (فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ)، وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف والدة إبراهيم بن عبد الرحمن، وعلى هذا فليست الإضافة بيانية، والمعنى سورة المرأة المهاجرة التي نزلت فيها آية الامتحان.
(14/71)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
(14/73)
 
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) قال المفسرون: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى مشركي قريش يخبرهم بمسير النبي (صلى الله عليه وسلم) إليهم، وسيأتي ذكر القصة، وأضاف سبحانه العدو إلى نفسه تعظيماً لجرمهم وتغليظاً فيه، والعدو وصف يطلق على الواحد والاثنين والجماعة والآية تدل على النهي عن موالاة الكفار بوجه من الوجوه، وفيه دليل على أن الكبيرة لا تسلب اسم الإيمان.
(تلقون إليهم بالمودة) أي توصلون إليهم المودة على أن الباء زائدة أو هي سببية، والمعنى تلقون إليهم أخبار النبي (صلى الله عليه وسلم) بسبب المودة التي بينكم وبينهم، وقال الزجاج: تلقون إليهم أخبار النبي (صلى الله عليه وسلم) وسره بالمودة التي بينكم وبينهم، والجملة في محل نصب على الحال من ضمير تتخذوا، ويجوز أن تكون مستأنفة لقصد الإخبار بما تضمنته، أو لتفسير موالاتهم إياهم، أو في محل نصب صفة لأولياء وجملة: (وقد كفروا بما جاءكم من الحق) في محل نصب على الحال من فاعل تلقون، أو من فاعل لا تتخذوا، ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان حال الكفار.
(14/73)
 
 
قرأ الجمهور بما جاءكم بالموحدة، وقرىء لما جاءكم باللام أي لأجل ما جاءكم من الحق على حذف المكفور به، أي كفروا بالله والرسول لأجل ما جاءكم من الحق، أي دين الإسلام، والقرآن، أو على جعل ما هو سبب للإيمان سبباً للكفر توبيخاً لهم (يخرجون الرسول وإياكم) مستأنفة لبيان كفرهم أو حالية وقدم الرسول عليهم تشريفاً له، وقد استدل به من يجوز انفصال الضمير مع القدرة على اتصاله، إذ كان يجوز أن يقال: يخرجونكم والرسول.
(أن تؤمنوا بالله ربكم) تعليل للإخراج، أي يخرجونكم لأجل إيمانكم أو كراهة أن تؤمنوا (إن كنتم خرجتم) من مكة (جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي) جواب الشرط محذوف، أي إن كنتم كذلك فلا تلقوا إليهم بالمودة، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، وانتصاب جهاداً وابتغاء على العلة أي إن كنتم خرجتم للجهاد في سبيلي، ولأجل ابتغاء مرضاتي، أو حال كونكم مجاهدين ومبتغين.
(تسرون إليهم بالمودة) مستأنفة للتقريع والتوبيخ، أي تسرون إليهم الأخبار بسبب المودة، وقيل: هي بدل من قوله: (تلقون)، ثم أخبر سبحانه بأنه لا يخفى عليه من أحوالهم شيء فقال: (وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم) أي بما أضمرتم في صدوركم، وما أظهرتم وأعلنتم بألسنتكم، والجملة في محل نصب على الحال؛ والباء في بما زائدة يقال: علمت كذا وعلمت بكذا هذا على أن أعلم مضارع، وقيل: هو أفعل تفضيل، أي أعلم من كل واحد بما تخفون وما تعلنون.
(ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل) أي من يفعل ذلك الاتخاذ لعدوي وعدوكم أولياء، ويلقي إليهم بالمودة فقد أخطأ طريق الحق والصواب وضل عن قصد السبيل.
(14/74)
 
 
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
(إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء) أي إن يلقوكم ويصادفوكم يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة، ومنه المثاقفة وهي طلب مصادفة العزة في المسابقة، يقال: ثقفت الشيء ثقفاً من باب تعب أخذته، وثقفت الرجل في الحرب أدركته، وثقفته ظفرت به، وثقفت الحديث فهمته بسرعة، والفاعل ثقيف، وقيل: المعنى إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم، والمعنيان متقاربان (ويبسطوا إليكم أيديهم) بالضوب ونحوه (وألسنتهم بالسوء) أي بالسب والشتم (وودوا لو تكفرون) معطوف على جواب الشرط، أو على جملة الشرط والجزاء، ورجحه أبو حيان على غيره من الاحتمالات، والمعنى أنهم تمنوا ارتدادكم وودوا رجوعكم إلى الكفر.
(14/75)
 
 
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
(لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم) أي لا ينفعكم القرابات على عمومها ولا الأولاد، وخصهم بالذكر مع دخولهم في الأرحام لمزيد المحبة لهم والحنو عليهم، والمعنى أن هؤلاء لا ينفعونكم شيئاًً يوم القيامة حتى توالوا الكفار لأجلهم كما وقع في قصة حاطب بن أبي بلتعة، بل الذي ينفعكم ما أمركم الله به من معاداة الكفار، وترك موالاتهم، وجملة: (يوم القيامة يفصل بينكم) مستأنفة لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد في ذلك اليوم، والمعنى يفرق بينكم فيدخل أهل طاعته الجنة وأهل معصيته النار، وقيل: المراد بالفصل بينهم أنه يفر كل واحد منهم من الآخر من شدة الهول كما في قوله: (يوم يفر المرء من أخيه) الآية.
ويجوز أن يتعلق يوم القيامة، أي لن ينفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة، ويبتدأ بقوله: يفصل بينكم، والأولى أن يتعلق يوم القيامة بما بعده، كما ذكرنا قرأ الجمهور يفصل بالتخفيف وبضم الياء وفتح الصاد مبنياً للمفعول واختار هذه القراءة أبو عبيد، وقرىء بفتح الياء وكسر الصاد مبنياً للفاعل. وقرىء بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد مشددة من التفصيل، وقرىء بضم الياء وكسر الصاد مخففة، وقرىء بالنون وكلها سبعية.
(14/75)
 
 
(والله بما تعلمون بصير) لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم، فهو مجازيكم على ذلك، وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما.
" عن علي بن أبي طالب قال: بعثني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنا والزبير والمقداد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فأتوني به، فخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة، قلنا: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي من كتاب، فقلنا، لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا حاطب؟ قال لا تعجل عليّ يا رسول الله إني كنت امرأً ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أصطنع إليهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق، فقال عمر: دعني أضرب عنقه، فقال: إنه شهد بدراً وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "، ونزلت هذه الآية (1).
وفي الباب أحاديث مسندة ومرسلة، متضمنة لبيان هذه القصة، وأن هذه الآيات إلى قوله، (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم)، نازلة في ذلك ولما فرغ سبحانه من النهي عن موالاة المشركين، والذم لمن وقع منه ذلك ضرب لهم إبراهيم مثلاً حين تبرأ من قومه فقال:
_________
(1) رواه مسلم.
(14/76)
 
 
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
(14/77)
 
 
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي خصلة حميدة تقتدون بها، يقال: لي به أسوة في هذا الأمر. أي اقتداء، فأرشدهم سبحانه إلى الاقتداء بإبراهيم في ذلك إلا في استغفاره لأبيه، قرأ الجمهور أسوة بكسر الهمزة، وقرأ بضمها وهما لغتان، وقراءاتان سبعيتان، وأصل الأسوة بالضم والكسر القدوة، ويقال: هو أسوتك أي مثلك وأنت مثله (في إبراهيم) أي في أفعاله وأقواله، وفي متعلقة بأسوة، ومنعه أبو البقاء، أو بحسنة أو نعت ثان لأسوة أو حال من الضمير المستتر في حسنة أو خبر لكان، ولكم تبيين (والذين معه) هم أصحابه المؤمنون، وقال ابن زيد: هم الأنبياء قال الفراء: يقول: أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم؟ فتتبرأ من أهلك كما تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه؟
(إذا قالوا لقومهم) خبر كان أو متعلق بخبرها قالهما أبو البقاء، ومن جوز في كان أن تعمل في الظرف علقه بها، هذا ما في السمين، وقال الحفناوي: الظرف بدل اشتمال من إبراهيم والذين معه وهذا أحسن الأعاريب المذكورة هنا، والمعنى وقت قولهم لقومهم الكفار وقد كانوا أكثر من عدوكم وأقوى ولهم فيهم أرحام وقرابات، ومع ذلك لم يبالوا بهم، بل قالوا:
(14/77)
 
 
(إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ) أي من دينكم جمع بريء مثل شركاء جمع شريك، وظرفاء جمع ظريف، قرأ الجمهور بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين ككرماء في كريم وقرىء بكسر الباء وفتح الراء ككرام في كريم وبضم الباء وهمزة بعد ألف.
(ومما تعبدون من دون الله) وهي الأصنام (كفرنا بكم) أي بما آمنتم به من الأوثان أو بدينكم أو بأفعالكم أي لا نعتد بشأنكم ولا بشأن آلهتكم (وبدا بيننا وبينكم العداوة) بالأفعال (والبغضاء) بالقلوب (أبداً) أي هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم (حتى تؤمنوا بالله وحده) وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك، فإذا فعلتم ذلك صارت تلك العداوة موالاة والبغضاء محبة (إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) هو الاستثناء متصل من قوله في إبراهيم بتقدير مضاف محذوف ليصح الاستثناء أي قد كانت لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم كلها، إلا قوله لأبيه إلخ أو من أسوة حسنة، وصح ذلك لأن القول من جملة الأسوة، كأنه قيل: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم في جميع أقواله وأفعاله، إلا قوله لأبيه، وهذا عندي واضح غير محوج إلى تقدير مضاف، وغير مخرج للاستثناء من الاتصال الذي هو أصله، إلى الانقطاع، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره، أو من التبري والقطيعة التي ذكرت أي لم يواصله إلا قوله، ذكر هذا ابن عطية أو هو منقطع أي لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن فلا تتأسوا به فتستغفرون للمشركين فإنه كان عن موعدة وعدها إياه أو أن ذلك إنما وقع منه لأنه ظن أنه قد أسلم، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، وقد تقدم تحقيق هذا في سورة براءة. قال ابن عباس في الآية: نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه وهو مشرك.
(وما أملك لك من الله من شيء) هذا من تمام القول المستثنى يعني ما أغني عنك وما أدفع عنك من عذاب الله وثوابه شيئاًً والجملة في محل نصب على الحال من فاعل لأستغفرن، فالاستثناء متوجه إلى الاستغفار لا إلى هذا
(14/78)
 
 
القيد، فإنه إظهار للعجز، وتفويض للأمر إلى الله، وذلك من خصال الخير (ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير) هذا من دعاء إبراهيم وأصحابه، ومما فيه أسوة حسنة يقتدي به فيها، وقيل: هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا هذا القول والتوكل هو تفويض الأمور إلى الله والإنابة الرجوع، والمصير المرجع. وتقديم الجار والمجرور لقصر التوكل والإنابة والمصير على الله.
(14/79)
 
 
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
(ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) الظاهر أنه دعاء متعدد لا ارتباط لِكُلٍّ بسابقة كالجمل المعدودة، وليس هو وما بعده بدلاً مما قبله كما قيل، لعدم اتحاد المعنيين لا كُلاًّ ولا جزءاً، ولا ملابسة بينهما سوى الدعاء قال الزجاج: لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتنوا بذلك، وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم ذلك، وبه قال ابن عباس: وقال أيضاًً: لا تسلطهم علينا فيفتنونا (واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز) أي الغالب الذي لا يغالب (الحكيم) ذو الحكمة البالغة في ملكه وصنعه.
(14/79)
 
 
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
(لقد كان لكم فيهم) أي في إبراهيم والذين معه في التبري من الكفار (أسوة) أي قدوة (حسنة) كرر هذا للمبالغة في التحريض على الحكم والتأكيد على الائتساء بإبراهيم وقومه، ولهذا جاء به مصدّراً بالقسم لأنه الغاية في التأكيد. وقيل: إن هذا نزل بعد الأولى بمدة، قال ابن عباس: أي في صنيع إبراهيم كله إلا في الاستغفار لأبيه وهو مشرك.
(لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) أي إن هذه الأسوة إنما تكون لمن يخاف الله ويخاف عقاب الآخرة، أو يطمع في الخير من الله في الدنيا والآخرة بدل اشتمال من كم بإعادة الجار، قال المحلي: تبعاً للكواشي وقال أبو حيان وغيره: بدل بعض من كل (ومن يتول) أي يعرض عن التأسي بإبراهيم
(14/79)
 
 
وأمته (فإن الله هو الغني) عن خلقه (الحميد) إلى أوليائه لم يترك نوعاً من التأكيد إلا جاء به ولما نزلت هذه الآية وتشدد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين أطمعهم في تحول الحال إلى خلافة فقال:
(14/80)
 
 
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
(عسى الله) وعسى وعد من الله على عادات الملوك، حيث يقولون في بعض الحوائج: عسى أو لعل، فلا تبقى شبهة المحتاج في تمام ذلك أو أريد به إطماع المؤمنين (أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة) وذلك بأن يسلموا فيصيروا من أهل دينكم، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة وحسن إسلامهم، ووقعت بينهم وبين من تقدمهم في الإسلام مودة، وجاهدوا وفعلوا الأفعال المقربة إلى الله، وقيل: المراد بالمودة هنا تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان، فصار معاوية خال المؤمنين، قاله ابن عباس، ولا وجه لهذا التخصيص، وإن كان من جملة ما صار سبباً إلى المودة فإن أبا سفيان بعد ذلك ترك ما كان عليه من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها لم تحصل المودة إلا بإسلامه يوم الفتح وما بعده.
وعن أبي هريرة قال: أول من قاتل أهل الردة على إقامة دين الله أبو سفيان ابن حرب، وفيه نزلت هذه الآية، وعن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان بن حرب على بعض اليمن، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل فلقي ذا الخمار مرتداً فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين، قال: وهو فيمن قال الله فيه (عسى الله أن يجعل) الآية.
وفي صحيح مسلم.
" عن ابن عباس أن أبا سفيان قال: يا رسول الله ثلاث أعطنيهن
(14/80)
 
 
قال: نعم قال: تؤَمِّرُني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين قال: نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك قال نعم، قال: وعندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها " الحديث (1) قال محمد بن إبراهيم الوزير في التنقيح ما لفظه: قال ابن حزم هذا موضوع لا شك في وضعه، والآفة فيه عن عكرمة بن عمار، قلت: قد رد الحفاظ على ابن حزم ما ذكره وجمع ابن كثير الحافظ جزءاً مفرداً في بيان ضعف كلامه، وفي الحديث غلط ووهم في اسم المخطوب لها النبي صلى الله عليه وسلم: وهي عزة أخت أم حبيبة خطب أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطبته لها أختها أم حبيبة كما ثبت في الصحيحين فأخبرهما النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم الجمع بين الأختين، وقد ذكر له تأويلات كثيرة هذا أقربها والموجب للتأويل ما علم من تزويج النبي صلى الله