فتح البيان في مقاصد القرآن 006

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: فتحُ البيان في مقاصد القرآن
المؤلف: أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (المتوفى: 1307هـ)
 
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)
(12/14)
 
 
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)
(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) المراد بالملأ الأشراف كما هو مقرر في غير موضع من تفسير الكتاب العزيز، عن ابن عباس قال: نزلت حين انطلق أشراف قريش إلى أبي طالب فكلموه في النبي صلى الله عليه وسلم قائلين، بعضهم للبعض: (أن امشوا) أي امضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه.
(واصبروا على آلهتكم) أي اثبتوا على عبادتها وقيل: المعنى وانطلق الأشراف منهم فقالوا للعوام: امشوا واصبروا على آلهتكم، وأن هي المفسرة للأقول المقدر، أو لقوله: (وانطلق) لآنه مضمن معنى القول ويجوز أن تكون مصدرية معمولة للمقدر، أو للمذكور، أي بأن امشوا وقيل: المراد بالانطلاق الاندفاع في القول، وامشوا من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها أي اجتمعوا وأكثروا وهو بعيد جداً، وخلاف ما يدل عليه الانطلاق والمشي بحقيقتهما، وخلاف ما تقدم في سبب النزول.
وجملة (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) تعليل لما تقدمه من الأمر بالصبر، أي يريده محمد بنا وآلهتنا ويود تمامه من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه ليعلو علينا، ونكون له أتباعاً فيتحكم فينا بما يريد فيكون هذا الكلام خارجاً مخرج التحذير منه والتنفير عنه.
وقيل: إن هذا الأمر يريده الله سبحانه، وما أراده ويحكم بإمضائه فهو كائن لا محالة، ولا ينفع فيه إلا الصبر فاصبروا على عبادة آلهتكم. وقيل المعنى إن دينكم لشيء يراد أي يطلب ليؤخذ منكم، وتغلبوا عليه أو أن هذا
(12/14)
 
 
الأمر شيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا انفكاك لنا منه، أو أمر يراد بأهل الأرض والأول أولى.
(12/15)
 
 
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
(ما سمعنا بهذا) الذي يقوله محمد من التوحيد (في الملة الآخرة) وهي ملة النصرانية فإنها آخر الملل قبل ملة الإسلام كذا قال محمد بن كعب القرظي وقتادة ومقاتل والكلبي والسدي، وبه قال ابن عباس، وقال مجاهد: يعنون به ملة قريش، أي التي أدركنا عليها آباءنا وعن قتادة مثله وقال الحسن المعنى ما سمعنا أن هذا يكون في آخر الزمان، وقيل إن المعنى ما سمعنا من اليهود والنصارى أن محمداً رسول الله.
(إن هذا إلا اختلاق) أي ما هذا إلا كذب اختلقه محمد وافتراه من تلقاء نفسه وافتعله، ثم استنكروا أن يخص الله رسوله بمزية النبوة دونهم فقالوا:
(12/15)
 
 
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)
(أأنزل عليه الذكر من بيننا) والاستفهام للإنكار، أي كيف يكون ذلك ونحن الرؤساء والأشراف، قال الزجاج: قالوا: كيف أنزل على محمد القرآن من بيننا؟ ونحن أكبر سناً وأعظم شرفاً منه، وهذا مثل قولهم (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) فأنكروا أن يتفضل الله سبحانه على من يشاء من عباده بما شاء. ولما ذكر استنكارهم لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم دونهم، بين السبب الذي لأجله تركوا التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به فقال:
(بل هم في شك من ذكري) أي من القرآن أو الوحي، لإعراضهم عن النظر الموجب لتصديقه، وإهمالهم للأدلة الدالة على أنه حق منزل من عند الله (بل لما يذوقوا عذاب) أي بل السبب أنهم لم يذوقوا عذابي فاغتروا بطول المهلة. ولو ذاقوا عذابي على ما هم عليه من الشرك والشك لصدقوا ما جئت به من القرآن، ولم يشكوا فيه، وذوقهم له متوقع فإذا ذاقوه زال عنهم الشك، وصدقوا، وتصديقهم لا ينفعهم حينئذ لأنهم صدقوا مضطرين فقوله: بل لما يذوقوا إضراب عن الإضراب الأول خلاف ما يفهم من
(12/15)
 
 
الكشاف من تعلقه بالكلامين قبله.
(12/16)
 
 
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
(أم) أي بل أ (عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب)؟ أي مفاتيح نعم ربك وهي النبوة وما هو دونها من النعم، حتى يعطوها من شاءوا فما لهم ولإنكار ما تفضل الله به على هذا النبي واختاره له واصطفاه لرسالته والمعنى أن النبوة عطية من الله يتفضل بها على من يشاء من عباده لا مانع له فإنه العزيز الغالب القاهر الذي لا يغلب الوهاب المعطي بغير حساب، الذي له أن يهب كل ما يشاء لمن يشاء ثم رشح ذلك فقال:
(12/16)
 
 
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)
(أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما) أي: بل ألهم ملك هذه الأشياء حتى يعطوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ويعترضوا على إعطاء الله سبحانه ما شاء لمن شاءوا المعنى أنه ليس لهم مدخل في أمر هذا العالم الجسماني الذي هو جزء يسير من خزائنه، فمن أين لهم أن يتصرفوا فيها.
وقوله (فليرتقوا في الأسباب) جواب شرط محذوف أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب أي المعارج والمناهج، والطرق التي توصلهم إلى السماء أو إلى العرش حتى يستووا عليه ويحكموا بما يريدون من عطاء ومنع ويدبروا أمر العالم بما يشتهون أو فليصعدوا وليمنعوا الملائكة من نزولهم بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم.
والأسباب أبواب السموات التي تنزل الملائكة منها، قاله مجاهد وقتادة، قال الربيع بن أنس: الأسباب أدق من الشعر وأشد من الحديد ولكن لا ترى، وقال السدي في الأسباب في الفضل والدين، وقيل: فليعملوا في أسباب القوة إن ظنوا أنها مانعة، وهو قول أبي عبيدة وقيل: الأسباب الحبال أي إن وجدوا حبالا يصعدون فيها إلى السماء فعلوا والأسباب عند أهل اللغة كل شيء يتوصل به إلى المطلوب كائناً ما كان وفي هذا الكلام تهكم بهم وتعجيز لهم، قال ابن عباس الأسباب السماء أي لأنها أسباب الحوادث السفلية.
(12/16)
 
 
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
(12/17)
 
 
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
(جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب) هذا وعد من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بالنصر عليهم، والظفر، و (جند) مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم جند حقير، يعني الكفار مهزوم مكسور عما قريب، فلا تبال بهم، ولا تظن أنهم يصلون إلى شيء مما يضمرونه بك من الكيد، و (ما) في قوله: ما هنالك هي صفة لجند، لإفادة التعظيم أو التحقير، أي جند أي جند، وقيل هي زائدة، يقال: هزمت الجيش كسرته، وتهزمت القرية إذا تكسرت، وهذا الكلام متصل بما تقدم، وهو قوله: (بل الذين كفروا في عزة وشقاق) وهم جند من الأحزاب مهزومون فلا تحزن لعزتهم وشقاقهم، فإني أسلب عزهم وأهزم جمعهم، وقد وقع ذلك ولله الحمد في يوم بدر، وفيما بعده من مواطن الله، وهو إخبار بالغيب، وقيل: مشار به إلى نصرة الإسلام، وقيل: إلى حفر الخندق، يعني إلى مكان ذلك، قال الرازي: والأصح عندي حمله على يوم فتح مكة، لأن المعنى إنهم جند سيصيرون مهزومين في الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات، وذلك الموضع هو مكة وما ذاك إلا في يوم الفتح.
(12/17)
 
 
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)
(كذبت قبلهم) استئناف مقرر لمضمون ما قبله ببيان أحوال العتاة الطغاة الذين هؤلاء جند من جنسهم بما فعلوا من الكفر والتكذيب، وفعل بهم من العقاب والعذاب (قوم نوح) أي كذبوا رسولهم نوحاً، وكذا يقدر
(12/17)
 
 
فيما بعده، وتأنيث قوم باعتبار المعنى. وهو أنهم أمة وطائفة وجماعة.
(وعاد وفرعون ذو الأوتاد) قال المفسرون كانت له أوتاد يعذب بها الناس وذلك أنه كان إذا غضب على أحد وتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض، وقيل: كانت له أوتاد وحبال يلعب بها بين يديه، وما أبرد هذا القول، وقيل ذو القوة والبطش، وقيل: المراد بالأوتاد الجموع والجنود الكثيرة، يعني أنهم كانوا يقوون أمره ويشدون سلطانه، كما تقوى الأوتاد ما ضربت عليه فالكلام خارج مخرج الاستعارة على هذا قال ابن قتيبة، العرب تقول: هم في عز أو في ملك ثابت الأوتاد ويريدون ملكاً دائماً شديداً، وأصل هذا أن البيت من بيوت الشعر إنما يثبت ويقوم بالأوتاد، وقيل: المراد بالأوتاد هنا البناء المحكم، أي وفرعون ذو الأبنية المحكمة، قال الضحاك: والبنيان يسمى أوتاداً والأوتاد جمع وتد، وفيه لغات أفصحها فتح الواو وكسر التاء ويقال: وتد بفتحهما. وود بإدغام التاء في الدال بوزن وج، وودت وهي لغة أهل نجد قال الأصمعي: ويقال وتد واتد مثل شغل شاغل.
(12/18)
 
 
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)
(وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة) أي الغيضة، وهي الأشجار الملتفة المجتمعة، وقد تقدم تفسيرها في سورة الشعراء ومعنى: (أولئك الأحزاب) أنهم الموصوفون بالقوة والكثرة كقولهم فلان هو الرجل، وقريش - وإن كانوا حزباً كما قال الله تعالى فيما تقدم: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ) ولكن هؤلاء الذين قصهم الله علينا من الأمم السالفة هم أكثر منهم عدداً، وأقوى أبداناً، وأوسع أموالاً وأعماراً. وقيل، إن المعنى أن مشركي قريش من أولئك الأحزاب، وهم هم، ومنهم وجد التكذيب، وهذه الجملة مستأنفة أو خبر، والمبتدأ قوله. وعاد كذا قال أبو البقاء وهو ضعيف، بل الظاهر أن (عاد) وما بعده معطوفات على قوم نوح، والأولى أن تكون هذه الجملة خبراً لمبتدأ محذوف أو بدلاً من الأمم المذكورة.
(12/18)
 
 
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)
(إن كل) أي ما كل حزب من هذه الأحزاب (إلا كذب الرسل)
(12/18)
 
 
لأن تكذيب الحزب لرسوله المرسل إليه تكذيب لجميع الرسل لأن دعوتهم واحدة، وهي التوحيد، أو هو من مقابلة الجمع بالجمع، والمراد تكذيب كل حزب لرسوله، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي ما كان أحد من الأحزاب في جميع أحواله إلا وقع منه تكذيب الرسل، وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية، أولا، وبالاستثنائية ثانياً، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد، أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العقاب وأبلغه؛ ثم قال:
(فحق عقاب) أي فحق عليهم عقابي بتكذيبهم. ومعنى حق ثبت ووجب وإن تأخر فكأنه واقع بهم. وكل ما هو آت قريب. وقرىء عقاب بإثبات الياء وحذفها مطابقة لرؤوس الآي. وفي الآية زجر وتخويف للسامعين.
(12/19)
 
 
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
(وما ينظر) أي ما ينتظر (هؤلاء) أي كفار مكة (إلا صيحة واحدة) وهي النفخة الكائنة عند قيام الساعة (1). وقيل: هي النفخة الثانية. وعلى الأول المراد من عاصر نبينا صلى الله عليه وسلم من الكفار.
وعلى الثاني المراد كفار الأمم المذكورة أي ليس بينهم وبين ما أعد الله لهم من عذاب النار إلا أن ينفخ في الصور النفخة الثانية. وقيل: المراد بالصيحة عذاب يفجأهم في الدنيا وجملة:
(ما لها من فواق) في محل نصب صفة لصيحة، قال الزجاج. فواق بفتح الفاء وضمها لغتان بمعنى واحد (2)، وهو الزمان الذي بين حلبتي الحالب، ورضعتي الراضع، وهو مشتق من الرجوع أيضاًً، لأنه يعود اللبن إلى الضرع بين الحلبتين، ويقال. أفاق من مرضه أي رجع إلى الصحة، ولهذا قال مجاهد ومقاتل. إن الفواق الرجوع، وقال قتادة: ما لها من مثنوية
_________
(1) قال ابن كثير: وهذه الصيحة هي نفخة الفزع التي يأمر الله تعالى إسرافيل أن يطولها فلا يبقى أحد.
(2) عن أنس بن مالك قال رسول الله عليه وسلم: العيادة فواق الناقة " رواه السيوطي في الجامع الصغير ".
(12/19)
 
 
وقال السدي: ما لها من إفاقة، وقيل: ما لها من مرد قال الجوهري: ما لها من نظرة وراحة وإفاقة.
وقال ابن عباس: ما لها من رجعة. والفيقة اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين وجمعها فيق وفواق وأما أفاويق فجمع الجمع قال الفراء والسدوسي وأبو عبيدة وابن زيد والسدي الفواق بفتح الفاء الراحة والإفاقة أي لا يفيقون فيها كما يفيق المريض والمغشى عليه. وبالضم الانتظار، ومعنى الآية أن تلك الصيحة هي ميعاد عذابهم. فإذا جاءت لم ترجع ولا ترد عنهم، ولا تصرف منهم، ولا تتوقف مقدار فواق ناقة، وهي ما بين حلبتي الحالب لها، وهذا في المعنى كقوله تعالى (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
(12/20)
 
 
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
(و) لما سمعوا ما توعدهم الله به من العذاب (قالوا) استهزاء وسخرية (رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) والقط في اللغة النصيب من القط، وهو القطع؛ وبهذا قال قتادة وسعيد بن جبير، قال الفراء: القط في كلام العرب الحظ والنصيب، ومنه قيل للصك قط. قال أبو عبيدة والكسائي. القط الكتاب بالجوائز، والجمع القطوط، وأصله من قط الشيء أي قطعه، ومنه قط القلم ومعنى الآية سؤالهم لربهم أن يعجل لهم نصيبهم وحظهم من العذاب، وهو مثل قوله (ويستعجلونك بالعذاب) وقال السدي: سألوا ربهم أن يمثل لهم منازلهم من الجنة ليعلموا حقيقة ما يوعدون به.
وقال إسمعيل بن أبي خالد: المعنى عجل لنا أرزاقنا، وبه قال سعيد بن جبير والسدي. وقال أبو العالية والكلبي ومقاتل لما نزل قوله: (وأما من أوتي كتابه بشماله) قالت قريش: زعمت يا محمد أنا نؤتي كتابنا بشمالنا فعجل لنا قطنا يوم الحساب، قال ابن عباس: سألوا الله أن يجعل لهم، وقال: قطنا نصيبنا من الجنة، ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر على ما يسمعه من أقوالهم فقال:
(12/20)
 
 
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
(12/21)
 
 
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
(اصبر على ما يقولون) من أقوالهم الباطلة التي هذا القول المحكي عنهم من جملتها، وصن نفسك أن تزل فيما كلفت من مصابرتهم، وتحمل أذاهم، قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل محكمة وهو الصحيح. ولما فرغ من ذكر قرون الضلالة وأمم الكفر والتكذيب وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يسمعه، زاد في تسليته وتأسيته بذكر قصة داود وما بعدها فقال:
(واذكر عبدنا داود الأيد) أي أذكر قصته فإنك تجد فيها ما تتسلى به، والأيد: القوة، قاله ابن عباس، ومنه رجل أيد أي قوي، وتأيد الشيء تقوى، والأيد مفرد بوزن البيع، وهو مصدر، وليس جمع يد، يقال: آد الرجل يئيد أيداً وإياداً بالكسر إذا قوي واشتد، فهو أيد مثل سيد وهين، ومنه قولهم: أيدك الله تأييداً والمراد ما كان فيه عليه السلام من القوة على العبادة، قال الزجاج وكانت قوة داود على العبادة أتم قوة.
ومن قوته ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم " أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يصلي نصف الليل، وكان لا يفر إذا لاقى العدو " (1).
_________
(1) روى بمعناه البخاري 3/ 14 ومسلم 2/ 816 باختلاف يسير في ألفاظه وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم.
(12/21)
 
 
وجملة (إنه أواب) تعليل لكونه ذا الأيد، والأواب الرجاع عن كل ما يكرهه الله سبحانه إلى ما يحبه، ولا يستطيع ذلك إلا من كان قوياً في دينه وقيل: معناه كلما ذكر ذنبه استغفر منه وتاب عنه، وهذا داخل تحت المعنى الأول، يقال آب يؤوب إذا رجع. وقال ابن عباس الآواب المسبح بلغة الحبشة.
وأخرج الديلمي عن مجاهد قال: سألت ابن عمر عن الأواب فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال " هو الذي يذكر ذنوبه في الخلا فيستغفر الله " وعن ابن عباس قال الأواب الموقن.
(12/22)
 
 
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)
(إنا سخرنا الجبال معه) استئناف مسوق لتعليل قوته في الدين، وكونه رجاعاً إلى مرضاته تعالى، وإيثار مع على اللام لما أشير إليه في سورة الأنبياء من أن تسخير الجبال لم يكن بطريق التصرف الكلي فيها إليه كتسخير الريح وغيرها لسليمان بل بطريق التبعية له والاقتداء به، قيل كان تسخيرها أنها تسير معه إذا أراد سيرها إلى حيث يريد.
(يسبحن) ولم يقل مسبحات ليدل على حدوث التسبيح من الجبال شيئاًً فشيئاًً، وحالاً بعد حال، أي يقدسن الله سبحانه وينزهنه، عما لا يليق به. ويسبحن في محل نصب على الحال، وفي هذا بيان ما أعطاه الله من البرهان والمعجزة، وهو تسبيح الجبال معه، قال مقاتل كان داود إذا ذكر الله ذكرت الجبال معه، وكان يفقه تسبيح الجبال، وقال محمد بن إسحق أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دوي حسن، فهذا معنى تسبيح الجبال، والأول أولى، ومعنى يسبحن يصلين، ومعه متعلق بسخرنا.
(بِالْعَشِيِّ) أي وقت صلاة العشاء (وَالْإِشْرَاقِ) أي وقت صلاة الضحى وهو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوؤها، والمعنى كان داود يسبح إثر صلاته عند طلوع الشمس وغروبها، وقال الكلبي أي غدوة وعشية، يقال أشرقت الشمس إذا أضاءت، وذلك وقت الضحى، وأما شروقها فطلوعها،
(12/22)
 
 
قال الزجاج شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت.
عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت هذه الآية وعنه قال لقد أتى عليّ زمان وما أدري وجه هذه الآية حتى رأيت الناس يصلون الضحى، أخرجه ابن المنذر وابن مردويه.
وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عنه قال كنت أمر بهذه الآية فما أدري ما هي، حتى حدثتني أم هانىء بنت أبي طالب " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى، ثم قال يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق " (1). والأحاديث في صلاة الضحى كثيرة جداً، قد ذكرها الشوكاني في شرحه للمنتقى.
_________
(1) راجع ما ذكرناه في سورة النور آية 36.
(12/23)
 
 
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
(والطير محشورة) أي وسخرنا له الطير حال كونها محشورة أي مجموعة إليه من كل ناحية، تسبح الله معه، قيل كانت تجمعها إليه الملائكة، وقيل كانت تجمعها الريح (كل له أواب) أي كل واحد من داود والجبال والطير رجاع إلى طاعة الله وأمره والضمير في له راجع إلى الله عز وجل، وقيل إلى داود أي لأجل تسبيح داود مسبح، فوضع أواب موضع مسبح، والأول أولى، وقد قدمنا أن الأواب الكثير الرجوع إلى الله سبحانه.
(12/23)
 
 
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
(وشددنا ملكه) أي قويناه وثبتناه بالنصر في المواطن على أعدائه، وإلقاء الرعب منه في قلوبهم؛ وقيل بكثرة الجنود، كان يبيت حول محرابه كل ليلة ستة أو ثلاثة وثلاثون ألف رجل يحرسونه، وكان أشد ملوك الأرض سلطاناً.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس " قال استعدى رجل من بني إسرائيل عند داود على رجل من عظمائهم فقال إن هذا غصبني بقراً لي، فسأل داود الرجل عن ذلك، فجحده، فسأل الآخر البينة فلم تكن له بينة فقال لهما
(12/23)
 
 
داود قوماً حتى أنظر في أمركما، فقاما من عنده؛ فأتى داود في منامه فقيل له اقتل الرجل الذي استعدى، فقال إن هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت: فأتى الليلة الثانية في منامه فأمر أن يقتل الرجل فلم يفعل ثم أتى الليلة الثالثة؛ فقيل له اقتل الرجل أو تأتيك العقوبة من الله فأرسل داود إلى الرجل فقال إن الله أمرني أن أقتلك قال تقتلني بغير بينة ولا تثبت قال نعم والله لأنفذن أمر الله فيك فقال الرجل لا تعجل عليّ حتى أخبرك أني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أخذت؛ فأمر به داود فقتل، فاشتدت هيبته في بني إسرائيل وشدد به ملكه فهو قول الله وشددنا ملكه ".
(وآتيناه الحكمة) المراد بها النبوة والمعرفة بكل ما يحكم به، وقال مقاتل: الفهم والعلم، وقيل الزبور وعلم الشرائع، وقيل الإصابة في الأمور وقيل كل كلام وافق الحق فهو الحكمة، وقال مجاهد: العدل وقال أبو العالية العلم بكتاب الله، وقال شريح: السنة، ولا مانع من حمل الآية على الكل.
(وفصل الخطاب) المراد به الفصل في القضاء، وبه قال الحسن والكلبي ومقاتل وحكى الواحدي عن الأكثر أن فصل الخطاب الشهود والأيمان لأنها إنما تنقطع الخصومة بهذه وبه قال أُبي ابن كعب، وقال علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وقيل: الفصل بين الحق والباطل، وقاله شريح والشعبي وقتادة أيضاًً، وقيل: هو الإيجاز يجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل، وقيل: بيان الكلام، وقيل علم الحكم والتبصر بالقضاء والمعاني متقاربة.
وعن أبي موسى الأشعري قال: " أول من قال: أما بعد، داود عليه السلام، وهو فصل الخطاب "، أخرجه ابن أبي حاتم والديلمي، وعن الشعبي أنه سمع زياد بن أبيه يقول: فصل الخطاب الذي أوتيه داود: أما بعد أخرجه سعيد بن منصور، ولما مدحه الله سبحانه بما تقدم ذكره أردف ذلك بذكر هذه القصة الواقعة له، لما فيها من الأخبار العجيبة وقال:
(12/24)
 
 
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
(12/25)
 
 
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)
(وهل أتاك نبأ الخصم) ومعنى الاستفهام هنا التعجب، والتشويق إلى استماع ما بعده لكونه أمراً غريباً، كما تقول لمخاطبك هل تعلم ما وقع اليوم؟ ثم تذكر له ما وقع قال مقاتل: بعث الله إلى داود ملكين جبريل وميكائيل لينبهه على التوبة فأتياه وهو في محرابه قال النحاس: ولا خلاف بين أهل التفسير أن المراد بالخصم هنا الملكان، والخصم مصدر يقع على الواحد والإثنين والجماعة، ومعنى قوله:
(إذ تسوروا المحراب) أتوه من أعلى سوره، ونزلوا إليه، والسور الحائط المرتفع، وجاء بلفظ الجمع في تسوروا مع كونهما اثنين نظراً إلى ما يحتمله لفظ الخصم من الجمع، والمحراب الغرفة لأنهم تسوروا عليه وهو فيها، كذا قال يحيى بن سلام.
وقال أبو عبيدة: إنه صدر المجلس، ومنه محراب المسجد، وقيل: إنهما كان إنسيين ولم يكونا ملكين، والعامل في إذ النبأ أي هل أتاك الخبر الواقع في وقت تسورهم؟ وبهذا قال ابن عطية ومكي وأبو البقاء، وقيل:
(12/25)
 
 
العامل فيه. أتاك، وقيل: معمول للخصم، وقيل: معمول لمحذوف، أي وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم.
عن ابن عباس أن داود حدث نفسه إذا ابتلى أنه يعتصم، فقيل له: إنك ستبتلى وستعلم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك، فقيل له. هذا اليوم الذي تبتلى فيه فأخذ الزبور ودخل المحراب، وأغلق باب المحراب، وأخذ الزبور في حجره وأقعد منصفاً يعني خادماً على الباب، وقال: لا تأذن لأحد عليَّ اليوم فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر مذهب كأحسن ما يكون للطير فيه من كل لون فجعل يدور بين يديه فدنا منه فأمكن أن يأخذه فتناوله بيده ليأخذه فاستوفز من خلفه فأطبق الزبور، وقام إليه ليأخذه فطار فوقع على كوة المحراب، فدنا منه ليأخذه فأفضى فوقع على خص فأشرف عليه لينظر أين وقع؟ فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل من الحيض، فلما رأت ظله حركت رأسها فغطت جسدها أجمع بشعرها وكان زوجها غازياً في سبيل الله فكتب داود إلى رأس الغزاة انظر أوريا فاجعله في حملة التابوت، وكان حملة التابوت، إما أن يفتح عليهم، وإما أن يقتلوا، فقدمه في حملة التابوت فقتل، فلما انقضت عدتها خطبها داود، فاشترطت عليه إن ولدت غلاماً أن يكون الخليفة من بعده، وأشهدت عليه خمسين من بني إسرائيل، وكتبت عليه بذلك كتاباً فما شعر بفتنته أنه افتتن حتى ولدت سليمان، وشب فتسور عليه الملكان المحراب وكان شأنهما ما قص الله في كتابه، وخر داود ساجداً فغفر الله له، وتاب عليه. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي حاتم (1).
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب قال، ما أصاب داود ما
_________
(1) رواه الطبري من رواية الصوفي عن ابن عباس 23/ 146 والصوفي ضعيف ورواه عن السدي 23/ 147 وقال ابن كثير: ولم يثبت عن المعصوم فيها حديث يجب اتباعه وأكثرها مأخوذ من الإسرائيليات. وقال عياض في الشفا: فلا يجب أن يلتفت إلى ما سطره الإخباريون عن أهل الكتاب الذين بدّلوا وغيروا. والله أعلم.
(12/26)
 
 
أصابه بعد القدر إلا من عجب بنفسه وذلك أنه قال، يا رب ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك يصلي لك أو يسبح أو يكبر، وذكر أشياء فكره الله ذلك فقال، يا داود إن ذلك لم يكن إلا بي فلولا عوني ما قويت عليه، وعزتي وجلالي لأكلنك إلى نفسك يوماً، قال يا رب فأخبرني به فأخبر به فأصابته الفتنة ذلك اليوم.
وأخرج أصل القصة الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن أبي حاتم عن أنسر مرفوعاً بإسناد ضعيف.
وأخرجها ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس مطولة وأخرجها جماعة عن جماعة من التابعين.
قال صاحب الكشاف بعد ذكر هذه القصة هذا ونحوه مما يقبح أن يحدث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أفناء المسلمين فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء اهـ ...
وقال القاضي عياض، لا يجوز أن يلتفت إلى ما سطره الإخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا نقله بعض المفسرين، ولم ينص الله على شيء من ذلك، ولا ورد في حديث صحيح، والذي نص عليه الله في قصة داود (وظن داود أنما فتناه) وليس في قصة داود وأوريا خبر ثابت وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه من أمر داود.
قال الرازي: حاصل القصة يرجع إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق، وإلى الطمع في زوجته وكلاهما منكر عظيم، فلا يليق بعاقل أن يظن بداود عليه السلام هذا، وقال غيره: إن الله أثنى على داود قبل هذه القصة وبعدها وذلك يدل على استحالة ما نقلوه من القصة فكيف يتوهم عاقل أن يقع بين مدحين ذم ولو جرى ذلك من بعض الناس لاستهجنه العقلاء، ولقالوا أنت في مدح شخص كيف تجري ذمه أثناء مدحك والله تعالى منزه عن مثل هذا في كتابه القديم.
(12/27)
 
 
وروى سعيد بن المسيب والحارث الأعور عن عليّ بن أبي طالب أنه قال من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة وهو حد الفرية على الأنبياء وروى أنه حُدِّث بذلك عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق فكذب المحدث به، وقال إن كانت القصة على ما في كتاب الله فما ينبغي أن يلتمس خلافها، وأعظم بأن يقال غير ذلك وإن كان على ما ذكرت وكف الله عنها ستراً على نبيه فما ينبغي إظهارها عليه فقال عمر سماعي هذا الكلام أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس.
قال النسفي: والذي يدل عليه المثل الذي ضربه الله بقصته عليه السلام ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب، وإنما جاءت على طريق التمثيل والتعريض دون التصريح، لكونها أبلغ في التوبيخ من قبل أن التأمل إذا أداه إلى الشعور بالمعرض به كان أوقع في نفسه وأشد تمكناً من قلبه، وأعظم أثراً فيه، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة انتهى قال أبو السعود: وأما ما يذكر من أنه عليه السلام تزوج امرأة أوريا فهو إفك مبتدع مكروه، ومكر مخترع تمجه الأسماع، وتنفر عنه الطباع، ويل لمن ابتدعه وأشاعه، وتباً لمن اخترعه وأذاعه، وسيأتي الكلام على ذنب داود عليه السلام في آخر هذه القصة.
(12/28)
 
 
إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)
(إذ) بدل من الأولى، وقيل هو معمول لتسوروا، وقال الفراء إن أحد الظرفين المذكورين بمعنى لما (دخلوا على داود ففزع منهم) لأنهما أتياه ليلاً في غير وقت دخول الخصوم، ودخلوا عليه بغير إذنه، ولم يدخلوا من الباب الذي يدخل منه الناس، قال ابن الأعرابي: وكان محراب داود من الامتناع بالإرتفاع بحيث لا يرتقي إليه آدمي بحيلة.
(قالوا لا تخف) جملة مستأنفة كأنه قيل: فماذا قالوا لداود لما فزع منهم (خصمان) أي نحن خصمان وجاء فيما سبق بلفظ الجمع، وهنا
(12/28)
 
 
بلفظ التثنية لما ذكرنا من أن لفظ الخصم يحتمل المفرد والمثنى والمجموع، فالكل جائز قال الخليل: هو كما تقول: نحن فعلنا كذا إذا كنتما اثنين: وقال الكسائي جمع لما كان خبراً فلما انقضى الخبر وجاءت المخاطبة أخبر الإثنان عن أنفسهما فقالا: خصمان وقوله.
(بغى بعضنا على بعض) هو على سبيل الفرض والتقدير أو على سبيل التعريض، لأن من المعلوم أن الملكين لا يبغيان؛ ثم طلبا منه أن يحكم بينهما بالحق ونهياه عن الجور فقالا: (فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط) أي لا تجر في حكمك يقال: شط الرجل وأشط شططاً وإشطاطاً إذا جار في حكمه وتجاوز الحد قال أبو عبيدة شططت عليه وأشططت فيه أي جرت فهو مما اتفق فيه فعل وأفعل وقال الأخفش معناه لا تسرف وقيل لا تفرط وقيل لا تمل والمعنى متقارب والأصل فيه البعد من شطت الدار إذا بعدت قال أبو عمر: والشطط مجاوزة القدر في كل شيء.
(وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) أي وسطه ومحجته أي العدل والصواب، والمعنى أرشدنا إلى الحق واحملنا عليه ثم لما أخبراه عن الخصومة إجمالاً شرعا في تفصيلها وشرحها فقال:
(12/29)
 
 
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
(إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) المراد بالأخوة هنا أخوة الدين، قاله ابن مسعود، أو الصحبة أو الألفة أو أخوة الشركة والخلطة، والنعجة هي الأنثى من الضأن، وقد يقال لبقر الوحش: نعجة ويعبر بها عن المرأة لما هي عليه من السكون والعجز وضعف الجانب وقد يكنّى عنها بالبقرة والحجر والناقة لأن الكل مركوب قال الواحدي النعجة البقرة الوحشية والعرب تكني عن المرأة بها وتشبه النساء بالنعاج من البقر، قرأ الجمهور تسع وتسعون بكسر التاء، وقرىء بفتحها، قال النحاس وهي لغة شاذة، وإنما عنى بهذا داود لأنه كان له تسع وتسعون امرأة وعنى بقوله:
(ولي نعجة واحدة) أوريا زوج المرأة التي أراد أن يتزوجها داود (1) كما تقدم بيان ذلك (فقال أكفلنيها) أي ضمها إليّ وانزل لي عنها حتى أكفلها
_________
(1) راجع تعليقات المطيعي رقم 1 في الاستدراك آخر الكتاب.
(12/29)
 
 
وأصير بعلاً لها قال ابن كيسان اجعلها كفلي ونصيبي قال ابن مسعود ما زاد داود على أن قال اكفلنيها وعن ابن عباس قال ما زاد داود على أن قال تحول لي عنها وهذا يخالف ما سبق عنه (1).
(وعزني في الخطاب) أي غلبني يقال عزه يعزه عزاً إذا غلبه، وفي المثل من عزّ بزّ أي من غلب أخذ السلب، والإسم العزة، وهي القوة قال عطاء المعنى إن تكلم كان أفصح مني، وإن حارب كان أبطش مني لقوة ملكه فالغلبة كانت له عليّ لضعفي في يده، وإن كان الحق معي، وهذا كله تمثيل، وقرىء وعازني أي غالبني من المعازة وهي المغالبة.
_________
(1) قال المفسر (ص 160) " ولي نعجة واحدة " أوريا .. الخ. وجاء التعليق هكذا: كان على المصنف أن لا يقحم قصة أوريا الإسرائيلية في مفهوم الآيات، لا سيما وقد سبق له أنه نقل إن الصحابة رفضوا هذه القصة.
(12/30)
 
 
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
(قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) أي بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه التسع والتسعين إن كان الأمر على ما تقول واللام هي الموطئة للقسم، وهي وما بعدها جواب القسم المقدر، وجاء بالقسم في كلامه مبالغة في إنكار ما سمعه من طلب صاحب التسع والتسعين النعجة أن يضم إليه النعجة الواحدة التي مع صاحبه ولم يكن معه غيرها ويمكن أنه إنما قال بهذا بعد أن سمع الإعتراف من الآخر قال النحاس ويقال إن خطيئة داود هي قوله لقد ظلمك لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت.
(وإن كثيراً من الخلطاء) وهم الشركاء واحدهم خليط، وهو المخالط في المال (ليبغي) اللام لام التوكيد وقعت في خبر إن أي يتعدى (بعضهم على بعض) ويظلمه غير مراع لحقه (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فإنهم يتحامون ذلك، ولا يظلمون خليطاً ولا غيره والإستثناء متصل (وقليل ما هم) أي وقليل هم، وما زائدة لتوكيد القلة والتعجيب وقيل هي موصولة وهم مبتدأ وقليل خبره، عن ابن عباس قال يقول قليل الذي هم فيه.
(12/30)
 
 
(وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) قال أبو عمرو والفراء: ظن بمعنى أيقن، ومعنى فتناه إبتليناه، وقال ابن عباس. اختبرناه، والمعنى أنه عند أن تخاصما إليه، وقال ما قال، علم عند ذلك أنه المراد وأن مقصودهما التعريص به وبصاحبه الذي أراد أن ينزل له عن امرأته، قال الواحدي قال المفسرون، فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك فعند ذلك علم داود بما أراداه قرأ الجمهور فتناه بالتخفيف للتاء وتشديد النون وقرىء بالتشديد للتاء والنون وهي مبالغة في الفتنة، وقرأ الضحاك أفتناه، وقرىء فتناه بتخفيفهما وإسناد الفعل إلى الملكين.
(فاستغفر ربه) لذنبه (وخر راكعاً) أي ساجداً، وعبر بالركوع عن السجود لأن كل واحد منهما فيه انحناء، وقيل: خر ساجداً بعد ما كان راكعاً، قال ابن العربي لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هنا السجود فإن السجود هو الميل والركوع هو الإنحناء وأحدهما يدخل في الآخر ولكنه قد يختص كل واحد منهما بهيئته ثم جاء هذا على تسمية أحدهما بالآخر وقيل المعنى للسجود راكعاً أي مصلياً وقيل: بل كان ركوعهم سجوداً، وقيل: بل كان سجودهم ركوعاً.
(وأناب) أي رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه، قال المفسرون: سجد داود أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلا لحاجة أو لوقت صلاة مكتوبة ثم يعود ساجداً إلى تمام أربعين لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادي ربه عز وجل ويسأله التوبة ثم أنزل الله له التوبة والمغفرة وقد اختلف المفسرون في ذنب داود الذي استغفر له وتاب عنه على أقوال.
الأول: أنه نظر إلى امرأة الرجل الذي أراد أن تكون زوجة له كذا قال سعيد بن جبير وغيره قال الزجاج ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود
(12/31)
 
 
النظر إليها وصارت الأولى له والثانية عليه.
الثاني: أنه أرسل زوجها في جملة الغزاة.
الثالث: أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها.
الرابع: أن أوريا بن حنان كان خطب تلك المرأة فلما غاب خطبها داود فزوجت منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا فعتب الله عليه حيث لم يتركها لخاطبها.
الخامس: أنه لم يجزع على قتل أوريا كما كان يجزع على من هلك من الجند، ثم تزوج امرأته فعاتبه الله على ذلك لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة.
السادس: أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر كما قدمنا، وأقول الظاهر من الخصومة التي وقعت بين الملكين تعريضاً لداود عليه السلام أنه طلب من زوج المرأة الواحدة أن ينزل له عنها ويضمها إلى نسائه، ولا ينافي هذا العصمة الكائنة للأنبياء فقد نبهه الله على ذلك وعرض له بإرسال ملائكته إليه ليتخاصموا في مثل قصته حتى يستغفر لذنبه ويتوب منه، فاستغفر وتاب عنه.
وقد قال تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى) وهو أبو البشر، وأول الأنبياء ووقع لغيره من الأنبياء ما قصه الله علينا في كتابه، وفي الآية ما يدل على صدور الذنب منه، وهو قوله (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) وقوله (فاستغفر ربه) وقوله (وأناب) وقوله:
(12/32)
 
 
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
(فغفرنا له ذلك) والجواب عن هذا بأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ليس كما ينبغي، والأولى ما ذكرناه، ثم أخبر سبحانه أنه قبل استغفاره وتوبته فقال:
(12/32)
 
 
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)
(فغفرنا له ذلك) الذنب الذي استغفر منه قال عطاء الخراساني وغيره إن داود بقي ساجداً أربعين يوماً حتى نبت الرعي حول وجهه، وغمر رأسه قال ابن الأنباري: الوقف على قوله: ذلك تام. ثم يبتدأ الكلام بقوله.
(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) والزلفى القربة والكرامة بعد المغفرة لذنبه، قال مجاهد الزلفى الدنو من الله عز وجل يوم القيامة والمراد بحسن المآب حسن المرجع وهو الجنة.
وأخرج ابن مردويه عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه ذكر يوم القيامة فعظم شأنه وشدته قال: ويقول الرحمن عز وجل لداود عليه السلام: مر بين يدي، فيقول داود: يا رب أخاف أن تدحضني خطيئتي، خذ بقدمي، فيأخذ بقدمه عز وجل فيمر قال فتلك الزلفى التي قال الله (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ).
وأخرج أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه قال في السجود في (ص) ليست من عزائم السجود وقد " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها " وأخرج النسائي وابن مردويه بسند جيد عنه أيضاًً " أن النبي صلى الله عليه
(12/33)
 
 
وسلم سجد في (ص) وقال: سجدها داود توبة ونسجدها شكراً " (1).
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في (ص) وعن أنس مثله مرفوعاً، أخرجه ابن مردويه وأخرج الدارمي وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي سعيد قال " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر (ص) فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه؛ فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تهيأ الناس للسجود فقال إنما هي توبة ولكني رأيتكم تهيأتم للسجود فنزل فسجد ".
_________
(1) النسائي 2/ 319 السنن الكبرى.
(12/34)
 
 
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) لما تمم سبحانه قصة داود أردفها ببيان تفويض أمر خلافة الأرض إليه، والجملة مقولة لقول مقدر معطوف على غفرنا أي وقلنا له: يا داود إنا استخلفناك على الأرض، أو جعلناك خليفة لمن قبلك من الأنبياء لتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتدبر أمر الناس، وفيه دليل على أن حاله بعد التوبة بقيت على ما كانت عليه لم تتغير قط.
(فاحكم بين الناس بالحق) أي بالعدل الذي هو حكم الله بين عباده لأن الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الحقة الإلهية انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات، وإذا كانت الأحكام على وفق الأهوية وتحصيل مقاصد الأنفس أفضى إلى تخريب العالم ووقوع الهرج فيه؛ والمرج في الخلق وذلك يفضي إلى هلاك ذلك الحاكم.
(ولا تتبع الهوى). أي هوى النفس في الحكم بين العباد وفيه تنبيه لداود عليه السلام أن الذي عوتب عليه ليس بعدل، وأن فيه شائبة من اتباع هوى النفس.
(فيضلك عن سبيل الله) بالنصب على أنه جواب النهي، والفاعل
(12/34)
 
 
هو الهوى، ويجوز أن يكون الفعل مجزوماً بالعطف على النهي، وإنما حرك لالتقاء الساكنين، فعلى الوجه الأول يكون المنهي عنه الجمع بينهما وعلى الثاني يكون النهي عن كل واحد منهما على حدة، وسبيل الله هو طريق الجنة أو دلائله التي نصبها على الحق تشريعاً وتكويناً.
(إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد) تعليل للنهي عن اتباع الهوى، والوقوع في الضلال (بما نسوا يوم الحساب) الباء للسببية، ومعنى النسيان الترك، قال الزجاج: أي بتركهم العمل لذلك اليوم صاروا بمنزلة الناسين، وإن كانوا ينظرون ويذكرون ولو أيقنوا بيوم الحساب لآمنوا في الدنيا.
وقال عكرمة والسدي: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير، ولهم عذاب يوم الحساب بما نسوا أي تركوا القضاء بالعدل والأول أولى.
(12/35)
 
 
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)
(وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً) مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها من أمر البعث والحساب أي ما خلقنا هذه الأشياء خلقاً باطلاً خارجاً عن الحكمة الباهرة، بل خلقناها للدلالة على قدرتنا. فانتصاب باطلاً على المصدرية أو على الحالية أو على أنه مفعول لأجله، والإشارة بقوله (ذلك) إلى النفي قبله وهو مبتدأ وخبره: (ظن الذين كفروا) أي مظنونهم فإنهم يظنون أن هذه الأشياء خلقت لا لغرض ويقولون: إنه لا قيامة ولا بعث ولا حساب، وذلك يستلزم أن يكون خلق هذه المخلوقات باطلاً.
(فويل للذين كفروا من النار) الفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل أي فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم، كما أن وضع الموصول موضع ضميرهم للإشعار بعلية للصلة، لاستحقاقهم الويل، ثم وبخهم وبكتهم فقال:
(12/35)
 
 
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
(12/36)
 
 
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) قال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين: إنا نعطي في الآخرة كما تعطون فنزلت وأم هي المنقطعة المقدرة ببل، والهمزة للإضراب الانتقالي عن تقرير أمر البعث والحساب والجزاء، بما مر من نفي خلق العالم خالياً عن الحكم والمصالح إلى تقريره وتحقيقه بما في الهمزة من إنكار التسوية بين الفريقين، ونفيها على أبلغ وجه وآكده؛ أي بل أنجعل الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله وعملوا بفرائضه كالكفرة المفسدين في أقطار الأرض بالمعاصي.
قال ابن عباس في الآية الذين آمنوا عليّ وحمزة وعبيدة بن الحارث والمفسدون في الأرض عتبة وشيبة والوليد ثم أضرب سبحانه إضراباً آخر وانتقل عن الأول إلى ما هو أظهر استحالة منه فقال:
(أم نجعل المتقين كالفجار) أي بل أنجعل أتقياء المؤمنين كأشقياء الكافرين والمنافقين؟ وحمل الفجار على المنهمكين في معاصي الله سبحانه من المسلمين، مما لا يساعده المقام، وقيل المراد بالمتقين الصحابة ولا وجه للتخصيص بغير مخصص والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويجوز أن يراد بهذين الفريقين على الأولين ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين هما أدخل في إنكار التسوية من الوصفين الأولين.
(12/36)
 
 
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
(كتاب) أي القرآن كتاب (أنزلناه إليك) يا محمد (مبارك). أي
(12/36)
 
 
كثير الخير والبركة (ليدبروا آياته) أي التي من جملتها هذه الآيات المعربة عن أسرار التكوين والتشريع، وهو متعلق بأنزلناه؛ وفي الآية دليل على أن الله سبحانه إنما أنزل القرآن للتدبر والتفكر في معانيه لا لمجرد التلاوة بدون تدبر، قال الحسن قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله حفظوا حروفه وضيعوا حدوده، قرأ الجمهور ليدبروا بالإدغام، وقرىء لتدبروا بالتاء الفوقية على الخطاب وهي قراءة عليّ رضي الله تعالى عنه والأصل لتتدبروا.
(وليتذكر أولو الألباب) أي ليتعظ أهل العقول والبصائر والألباب جمع لب وهو العقل.
(12/37)
 
 
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)
(ووهبنا لداود سليمان) أخبر سبحانه بأن من جملة نعمه على داود أنه وهب له سليمان ولداً ثم مدح سليمان فقال (نعم العبد) أي سليمان فالمخصوص بالمدح محذوف، وقيل: إن المدح هنا بقوله نعم العبد هو لداود، والأول أولى وجملة (إنه أواب) تعليل لما قبلها من المدح والأواب الرجاع إلى الله بالتوبة، كما تقدم بيانه.
(12/37)
 
 
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)
(إذ عرض عليه بالعشي) أي اذكر ما صدر عنه وقت أن عرض عليه (الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ) وقيل: هو متعلق بنعم، وهو مع كونه غير متصرف لا وجه لتقييده بذلك الوقت، قيل: متعلق بأواب، ولا وجه لتقييد كونه أواباً بذلك الوقت، والعشي من الظهر أو العصر إلى آخر النهار. والصافنات جمع صافن.
وقد اختلف أهل اللغة في معناه، فقال القتيبي والفراء الصافن في كلام العرب الواقف من الخيل أو غيرها وبه قال قتادة ومنه الحديث " من أحب أن يتمثل له الناس صفونا فليتبوأ مقعده من النار (1) "، أي يديمون القيام له وقال
_________
(1) لم نره بهذا اللفظ ورواه الترمذي 2/ 100 من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: " من سره أن يتمثل به الرجال قياماً فليتبؤوا مقعده من النار " ورواه أبو داود 5229. وأحمد 4/ 91 باختلاف في الرواية.
(12/37)
 
 
الزجاج هو الذي يقف على إحدى اليدين ويرفع الأخرى، ويجعل على الأرض طرف الحافر منها، حتى كأنه يقوم على ثلاث وهي الرجلان وإحدى اليدين وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه، وهي علامة الفراهة.
وقال أبو عبيدة الصافن الذي يجمع يديه ويسويهما وأما الذي يقف على سنبكه فاسمه المتخيم، والجياد جمع جواد يقال للفرس ذكراً كان أو أنثى إذا كان شديد العدو، وقيل: إنها الطوال الأعناق، مأخوذ من الجيد وهو العنق وقيل الذي يجود في الركض، قيل كانت مائة فرس. وقيل كانت عشرين ألفاً قيل كانت عشرين فرساً، وعن إبراهيم التيمي قال كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة فعقرها، وقيل إنها خرجت له من البحر وكانت لها أجنحة (1).
وعن أبي هريرة قال الصافنات الجياد خيل خلقت على ما شاء وعن مجاهد قال صفون الفرس رفع إحدى يديه حتى يكون على أطراف الحافر والجياد السراع لأنه يجود بالركض وصفها بالصفون لأنه لا يكون في الهجان، وإنما هو في العراب، وقيل: وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين الوصفين المحمودين، واقفة وجارية يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعاً خفافاً في جريها، قيل إن سليمان غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس، وقيل ورثها من أبيه وأصابها أبوه من العمالقة.
_________
(1) قد يكون في هذا القول غرابة لأننا لم نسمع بخيل لها أجنحة إلا أنه ليس بمستبعد لأن الله وهب لسليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعد.
(12/38)
 
 
فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)
(فقال) اعترافاً بما صدر منه وندماً عليه وتمهيداً لما يعقبه من الأمر بردها وعقرها والتعقيب باعتبار آخر العرض الممتد دون ابتدائه (إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي) انتصاب حب على أنه مفعول أحببت بعد تضمينه معنى آثرت، قال الفراء يقول آثرت حب الخير، وكل من أحب شيئاًً فقد آثره وقيل انتصابه على المصدرية بحذف الزوائد، والناصب له أحببت، وقيل هو مصدر تشبيهي أي حباً مثل حب الخير، والأول أولى، والمراد بالخير هنا
(12/38)
 
 
الخيل، قاله الزجاج، وقال الفراء الخير والخيل في كلام العرب واحد، وأنها تعاقب بين الراء واللام فتقول انهملت العين وانهمرت وختلت وخترت، قال النحاس وفي الحديث، الخيل معقود بنواصيها الخير فكأنها سميت خيراً لهذا وقيل لما فيها من المنافع وعن بمعنى على، أي آثرت حب الخيل على ذكر ربي يعني صلاة العصر، وبه قال علي، وقال ابن عباس الخير المال، وقيل أحببت بمعنى لزمت، وقيل بمعنى قعدت من أحب البعير إذا سقط وبرك من الإعياء، وفيل بمعنى أردت.
(حتى توارت بالحجاب) يعني الشمس ولم يتقدم لها ذكر ولكن المقام يدل على ذلك، قال الزجاج إنما يجوز الإضمار إذا جرى ذكر الشيء أو دليل الذكر، وقد جرى هنا الدليل. وهو قوله بالعشي، والتواري الاستتار عن الأبصار والحجاب ما يحجبها عن الأبصار، قال قتادة وكعب الحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق وهو جبل قاف، وسمي الليل حجاباً لأنه يستر ما فيه ويقال إن الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه وفيه بعد وبرودة (1)، وعن ابن مسعود قال توارت من وراء ياقوتة خضراء فخضرة السماء منها، وعن ابن عباس قال كان سليمان لا يكلم إعظاماً له فلقد فاتته صلاة العصر وما استطاع أحد أن يكلمه، وقيل الضمير للخيل أي حتى توارت في المسابقة عن الأعين، والأول أولى.
وقوله:
_________
(1) قال المفسر (ص 168) " حتى توارت بالحجاب " قال قتادة وكعب: الحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق، وهو جبل قاف الخ. وكان تعليق الأستاذ طويلاً وخلاصته أنه لا يوجد في الدنيا جبل اسمه جبل قاف، وقد حصرت جبال الدنيا الآن وعرف الإنسان جميع الجبال وأسماءها وأماكنها.
(12/39)
 
 
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
(ردوها عليّ) من تمام كلام سليمان أي أعيدوا عرضها عليّ مرة أخرى، قال الحسن إن سليمان لما شغله عرض الخيل حتى فاتته صلاة العصر
(12/39)
 
 
غضب لله، وقال ردوها عليّ، أي أعيدوها، وقال ابن عباس ردوها أي الخيل وقيل الضمير يعود إلى الشمس، ويكون ذلك معجزة له، وإنما أمر بإرجاعها بعد مغيبها لأجل أن يصلي العصر، والأول أولى.
(فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) الفاء هي الفصيحة التي تدل على محذوف في الكلام والتقدير هنا فردوها عليه قال أبو عبيدة طفق يفعل مثل ما زال يفعل، وهو مثل ظل وبات وانتصاب مسحاً على المصدرية بفعل مقدر، أي يمسح مسحاً لأن خبر طفق لا يكون إلا فعلاً مضارعاً، وقيل: هو مصدر في موضع الحال والأول أولى والسوق جمع ساق والأعناق جمع عنق والمراد أنه طفق يضرب أعناقها وسوقها بالسيف، يقال مسح علاوته أي ضرب عنقه قال الفراء المسح هنا القطع قال: والمعنى أنه أقبل يضرب سوقها وأعناقها لأنها كانت سبب فوت صلاته، وكذا قال أبو عبيدة قال الزجاج ولم يكن يفعل ذلك إلا وقد أباحه الله له، وجاز أن يباح ذلك لسليمان. ويحظر في هذا الوقت.
وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية فقال قوم المراد بالمسح ما تقدم وقال آخرون منهم الزهري وقتادة أن المراد به المسح على سوقها وأعناقها لكشف الغبار عنها حيالها، والقول الأول أولى بسياق الكلام فإنه ذكر أنه آثرها على ذكر ربه حتى فاتته صلاة العصر، ثم أمرهم بردها عليه ليعاقب نفسه بإفساد ما ألهاه عن ذلك. وما صده عن عبادة ربه، وشغله عن القيام بما فرضه الله عليه، ولا يناسب هذا أن يكون الغرض من ردها عليه هو كشف الغبار عن سوقها وأعناقها بالمسح عليها بيده، أو بثوبه، ولا متمسك لمن قال إن إفساد المال لا يصدر عن نبي فإن هذا مجرد استبعاد باعتبار ما هو المتقرر في شرعنا مع جواز أن يكون في شرع سليمان أن مثل هذا مباح.
(12/40)
 
 
على أن إفساد المال المنهي عنه في شرعنا إنما هو مجرد إضاعته لغير غرض صحيح وأما لغرض صحيح فقد جاز مثله في شرعنا، كما وقع منه صلى الله عليه وسلم من إكفاء القدور التي طبخت من الغنيمة قبل القسمة، ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة، ومن ذلك ما وقع من الصحابة من إحراق طعام المحتكر، قال ابن عباس مسحاً عقراً بالسيف، أي قطع سوقها وأعناقها بالسيف.
قال الرازي: التفسير الحق المطابق لألفاظ القرآن أن تقول: إن رباط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما أنه كذلك في ديننا. ثم إن سليمان احتاج إلى غزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس، وإنما أحبها لأمر الله تعالى، وتقوية دينه، وهو المراد بقوله عن ذكر ربي، ثم إنه أمر بإعدائها وإجرائها حتى توارت بالحجاب ثم أمر برد الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح والغرض من ذلك المسح أمور:
الأول: تشريفها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو.
الثاني: أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والمملكة يبلغ إلى أنه يباشر الأمور بنفسه.
الثالث: أنه أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها من غيره فكان يمسح حتى يعلم ما فيها مما يدل على المرض، فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن ولا يلزمنا شيء من تلك المنكرات والمحظورات انتهى وما أبرد هذا التفسير من الرازي، وأبعده عن النظم القرآني والحق ما ذكرناه فإن اللغة تشهد بضرب السوق والأعناق، ولا وجه للعدول عنه إلى تأويل ركيك، وتوجيه بعيد، بناء على عصمة الأنبياء عليهم السلام.
(12/41)
 
 
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)
(12/42)
 
 
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)
(ولقد فتنا سليمان) أي ابتليناه واختبرناه بسلب ملكه قال الواحدي قال أكثر المفسرين: تزوج سليمان امرأة من بنات الملوك فعبدت الصنم في داره، ولم يعلم بذلك سليمان، فامتحن بسبب غفلته عن ذلك وقيل: إن سبب الفتنة أنه تزوج سليمان امرأة يقال لها جرادة وكان يحبها حباً شديداً فاختصم إليه فريقان أحدهما من أهل جرادة فأحب أن يكون القضاء لهم، ثم قضى بينهم بالحق.
وقيل السبب أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد، وقيل إنه تزوج جرادة هذه وهي مشركة لأنه عرض عليها الإسلام فقالت: اقتلني ولا أسلم.
وقال كعب الأحبار: إنه لما ظلم الخيل بالقتل سلب ملكه، وقال الحسن إنه قارب بعض نسائه في شيء من حيض أو غيره.
وقيل إنه أمر أن لا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل فتزوج امرأة من غيرهم.
وقيل إن سبب فتنته ما ثبت في الحديث الصحيح " أنه قال: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يقاتل في سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله " وقيل غير ذلك والمصير إلى الحديث متعين.
(12/42)
 
 
قال النسفي وأما ما يروى من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان فمن أباطيل اليهود انتهى، أقول حديث الخاتم أخرجه النسائي وغيره وقواه السيوطي كما سيأتي فكونه من أباطيل اليهود ليس على ما ينبغي (1) ثم بين سبحانه ما عاقبه به فقال:
ْ (وألقينا على كرسيه جسداً) قال أكثر المفسرين هذا الجسد الذي ألقاه الله على كرسي سليمان هو شيطان اسمه صخر، وكان متمرداً عليه غير داخل في طاعته. ألقى الله شبه سليمان عليه، وما زال يحتال حتى ظفر بخاتم سليمان وذلك عند دخول سليمان الكنيف لأنه كان يلقيه إذا دخل الكنيف فجاء صخر في صورة سليمان فأخذ الخاتم من امرأة من نساء سليمان فقعد على سرير سليمان، وأقام أربعين يوماً على ملكه، وسليمان هارب كان ملكه مرتباً على لبسه، فإذا لبسه سخرت له الجن والإنس والرياح وغيرها وإذا نزعه زال عنه الملك.
قيل وكان خاتمه من الجنة نزل به آدم كما نزل بعصا موسى والحجر الأسود وبعود البخور وبأوراق التين وقد نظم الخمسة بعضهم في قوله:
وآدم معه أنزل العود والعصا ... لموسى من الآس النبات المكرم
وأوراق تين واليمين بمكة ... وختم سليمان النبي المعظم
ولكن يفتقر ذلك إلى دليل يدل له من الأخبار المرفوعة الصحيحة.
وقال مجاهد إن شيطاناً قال له سليمان كيف تفتنون الناس؟ قال أرني خاتمك أخبرك، فلما أعطاه إياه نبذه في البحر فذهب ملكه وقعد الشيطان على
_________
(1) حاول المفسر (170) أن يصحح حديث خاتم سليمان، وقد قال عنه النسفي إنه من أباطيل اليهود، والمفسر في محاولته احتج بتقوية السيوطي له، فجاء التعليق هكذا: لا يبعد أن يدس اليهود بعض الأباطيل على المسلمين ليفسدوا هذا الدين الذي قوض ملكهم، وأما تقوية السيوطي فلا وزن لها لما عرف عنه من تصحيح الضعيف. وأما ما نقله عن كعب الأخبار قبل ذلك بسطرين من ظلم سليمان فأرجو أن لا يقيم له القارىء وزناً.
(12/43)
 
 
كرسيه ومنعه الله نساء سليمان، فلم يقربهن، وكان سليمان يستطعم فيقول أتعرفونني؟ أطعموني، فيكذبوه حتى أعطته امرأة يوما حوتاً فشق بطنه فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وهو معنى قوله (1):
(ثم أناب) أي رجع إلى ملكه بعد أربعين، وقيل معنى أناب رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه، وهذا هو الصواب، قيل فتن سليمان بعدما ملك عشرين سنة وملك بعد الفتنة عشرين سنة أخرج الحاكم وصححه والفريابي والحكيم الترمذي عن ابن عباس، قال الشيطان الذي كان على كرسيه يقضي بين الناس أربعين يوماً، وكان لسليمان امرأة يقال لها جرادة وكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة فقضى بينهم بالحق إلا أنه ود أن الحق كان لأهلها فأوحى الله إليه أن سيصيبك بلاء فكان لا يدري أيأتيه من السماء؟ أم من الأرض؟.
وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم بسند قال السيوطي قوي عن ابن عباس " قال أراد سليمان أن يدخل الخلاء فأعطى جرادة خاتمه وكانت جرادة امرأته، وكانت أحب نسائه إليه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأعطته فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين، فلما خرج سليمان من الخلاء قال هاتي خاتمي قالت قد أعطيته سليمان قال أنا سليمان قالت كذبت لست سليمان، فجعل لا يأتي أحداً يقول أنا سليمان إلا كذبه حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة، فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر الله وقام الشيطان يحكم بين الناس؛ فلما أراد الله أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن تنكرن
_________
(1) ذكر المؤلف (ص 171) عن مجاهد بضعة أسطر فجاء تعليق الأستاذ هكذا: هذا الكلام بأقاصيص ألف ليلة وليلة أشبه، وأبعد ما يكون عن سير المرسلين.
(12/44)
 
 
من أمر سليمان شيئاًً؟ قلن نعم إنه يأتينا ونحن نحيض وما كان يأتينا قبل ذلك فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع فكتبوا كتباً فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أثاروها وقرأوها على الناس، وقالوا: بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم. فأكفر الناس سليمان، فلم يزالوا يكفرونه، وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته وكان سليمان يعمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكاً فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فدعا سليمان فقال: تحمل لي هذا السمك؟ قال نعم بكم؟ قال بسمكة من هذا السمك فحمل سليمان السمك ثم أنطلق به إلى منزله، فلما انتهى الرجل إلى باب داره أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فأخذها سليمان فشق بطنها فإذا الخاتم في جوفها فأخذه فلبسه فلما لبسه دانت له الجن والإنس والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر فأرسل سليمان في طلبه وكان شيطاناً مريداً فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوماً نائماً فجاؤوا فبنوا عليه بنياناً من رصاص فاستيقظ فوثب، فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا انباط معه الرصاص فأخذوه فأوثقوه وجاؤا به إلى سليمان فأمر به فنقر له تخت من رخام، ثم أدخله في جوفه ثم شد بالنحاس، ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا) يعني الشيطان الذي كان سلط عليه (1).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال صخر الجني تمثل على كرسيه على صورته.
_________
(1) ذكر المؤلف (ص 171) عن النسائي وابن جرير قصة طويلة عن خاتم سليمان، وهي قصة موضوعة؛ ومما يدل على وضعها أن الشيطان جاء في صورة سليمان، والشيطان لا يتصور بصورة الأنبياء ووغيرهم.
(12/45)
 
 
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
(قال) سليمان (رب اغفر لي) ما صدر عني من الذنب الذي ابتليتني لأجله وطلب المغفرة دأب الأنبياء والصلحاء، هضماً للنفس وإظهاراً للذل والخشوع، وطلباً للترقي في المقامات ثم لما قدم التوبة والاستغفار جعلها وسيلة إلى إجابة طلبته فقال:
(وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي) قال أبو عبيدة معناه لا يكون لأحد من بعدي، وقيل لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعد هذه السلبة أو لا يصح لأحد من بعدي لعظمته، وليس هذا من سؤال نبي الله سليمان عليه السلام للدنيا وملكها، والشرف بين أهلها بل المراد بسؤاله الملك أن يتمكن به من إنقاذ حكم الله سبحانه والأخذ على يد المتمردين من عباده من الجن والإنس ولو لم يكن من المقتضيات لهذا السؤال منه إلا ما رآه عند قعود الشيطان على كرسيه من الأحكام الشيطانية الجارية في عباد الله لكفى.
وجملة (إنك أنت الوهاب) تعليل لما قبلها مما طلبه من مغفرة الله له وهبة الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، لا بالأخيرة فقط، فإن المغفرة أيضاًً من أحكام وصف الوهابية قطعاً قاله أبو السعود.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن عفريتاً من الجن جعل يتفلت عليّ البارحة ليقطع عليّ صلاتي، وإن الله أمكنني منه فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) فرده الله خاسئاً " (1) ثم ذكر سبحانه إجابته لدعوته وإعطاءه لمسألته فقال:
_________
(1) رواه البخاري 6/ 329 و8/ 420 ومسلم 1/ 384 والسيوطي في الدر 5/ 313.
(12/46)
 
 
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)
(فسخرنا له الريح) أي ذللناها له، وجعلناها منقادة لأمره ثم بين
(12/46)
 
 
كيفية التسخير لها بقوله: (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً) أي لينة الهبوب ليست بالعاصف مأخوذ من الرخاوة والمعنى أنها ريح لينة لا تزعزع ولا تعصف مع قوة هبوبها وسرعة جريها ولا ينافي هذا قوله في آية أخرى ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره، لأن المراد أنها في قوة العاصفة ولا تعصف وقيل إنها كانت تارة رخاء وتارة عاصفة، على ما يريده سليمان ويشتهيه، وهذا أولى في الجمع بين الآيتين.
(حيث أصاب) قال الزجاج إجماع أهل اللغة والمفسرين على أن معنى حيث أصاب حيث أراد، وحقيقته حيث قصد، وقال الأصمعي وابن الأعرابي العرب تقول أصاب الصواب، وأخطأ الجواب. وقيل معنى أصاب بلغة حمير أراد، وليس من لغة العرب، وقيل هو بلسان هجر والأول أولى وهو مأخوذ من إصابة السهم للغرض.
(12/47)
 
 
وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)
(و) سخرنا له (الشياطين) وقوله: (كل بناء وغواص) بدل من الشياطين أي كل بناء منهم، وغواص منهم، يبنون له ما يشاء من المباني، ويغوصون في البحر فيستخرجون له الدّر منه. وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر.
(12/47)
 
 
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)
(وآخرين مقرنين في الأصفاد) معطوف على كل داخل في حكم البدل، وهم مردة الجن والشياطين، سخروا له حتى قرنهم في الأصفاد يقال: قرنهم في الحبال إذا كانوا جماعة كثيرة، والأصفاد الأغلال واحدها صفد، قال الزجاج: هي السلاسل فكل ما شددته شداً وثيقاً بالحديد وغيره فقد صفدته قال أبو عبيدة: صفدت الرجل فهو مصفود، وصفدته فهو مصفد، قال يحيى ابن سلام: ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفارهم، فإذا آمنوا أطلقهم ولم يسخرهم.
(12/47)
 
 
هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)
(12/48)
 
 
هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)
(هذا) أي ما تقدم من تسخير الريح والشياطين له أو من الملك والمال والبسطة، وهو بتقدير القول، أي وقلنا له: هذا (عطاؤنا) الذي أعطيناكه من الملك العظيم الذي طلبته.
(فامنن أو أمسك) أي فأعط من شئت وامنع من شئت، قاله الحسن والضحاك وغيرهما، وقال ابن عباس: أعتق من الجن من شئت، وأمسك منهم من شئت (بغير حساب) لا حساب عليك في ذلك الإعطاء والإمساك، أو عطاؤنا لك بغير حساب، لكثرته وعظمته، وقال قتادة: إن قوله هذا عطاؤنا إشارة إلى ما أعطيه من قوة الجماع، وهذا لا وجه لقصر الآية عليه، لو قدرنا أنه قد تقدم ذكره من جملة تلك المذكورات فكيف يدعي اختصاص الآية مع عدم ذكره؟
(12/48)
 
 
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى) أي قربة في الآخرة (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي حسن مرجع وهو الجنة.
(واذكر عبدنا أيوب) أيوب عطف بيان، وعدم تصدير قصة سليمان بهذا العنوان لكمال الاتصال بينه وبين داود عليهما السلام حتى كأن قصتيهما قصة واحدة (وأيوب) هو ابن عيصو بن إسحق.
(12/48)
 
 
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)
(إذ نادى ربه) بدل اشتمال من عبدنا (أني مسني الشيطان) قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنه حكاية لكلامه الذي نادى به ربه، ولو لم يحكه لقال: إنه مسه، وقرىء بكسرها على إضمار القول وفي ذكر قصة أيوب إرشاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء به في الصبر على المكاره.
(12/48)
 
 
(بنصب) قرأ الجمهور بضم النون وسكون الصاد فقيل: هو جمع نصب بفتحتين نحو أسد وأسد، وقيل هو لغة في النصب نحو رشد ورشد وقرىء بضمتين، وبفتحتين وبفتح وسكون وهذه القراءات باختلاف اللغات. وقال أبو عبيدة: إن النصب بفتحتين التعب والإعياء، وعلى بقية القراءات الشر والبلاء.
(وعذاب) أي ألم، قال قتادة ومقاتل: النصب في الجسد والعذاب في المال، قال النحاس: وفيه بعد، كذا قال، والأولى تفسير النصب بالمعنى اللغوي وهو التعب والإعياء وتفسير العذاب بما يصدق عليه مسمى العذاب، وهو الألم وكلاهما راجع إلى البدن.
وقد أخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس خبراً طويلاً في قصة أيوب " أوله أن الشيطان عرج إلى السماء فقال: يا رب سلطني على أيوب، قال الله تعالى: لقد سلطتك على ماله وولده ولم أسلطك على جسده الحديث بطوله " (1)، وفيه نكارة شديدة فإن الله سبحانه لا يمكن الشيطان من نبي من أنبيائه ويسلطه عليه، هذا التسليط العظيم، وأسند المس إلى الشيطان مع أن الله سبحانه هو الذي مسه بذلك إما لكونه لما عمل بوسوسته عوقب على ذلك بذلك النصب والعذاب، فقد قيل إنه أعجب بكثرة ماله، وقيل استغاثه مظلوم فلم يغثه، وقيل إنه قال ذلك على طريقة الأدب وقيل إنه قال ذلك لأن الشيطان وسوس إلى أتباعه فرفضوه وأخرجوه من ديارهم وقيل المراد به ما كان يوسوسه الشيطان إليه حال مرضه وابتلائه من
_________
(1) ذكر المؤلف (ص 175) بضعة تفاسير لقول أيوب (أني مسني الشيطان) فجاء التعليق هكذا: لماذا لا يكون مس الشيطان متصلاً بعمل أيوب كنبي ورسول إلى قومه حيث كان يوسوس لقومه فيكابرون وينقضون ما عقدوه مع أيوب من المواثيق، فكان عمل الشيطان له صلة مباشرة بإرهاق أيوب ومسه بالتعب.
(12/49)
 
 
تحسين الجزع، وعدم الصبر على المصيبة، وقيل غير ذلك.
(12/50)
 
 
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)
(اركض برجلك) أي قلنا له اركض كذا قال الكسائي والركض الدفع بالرجل، يقال: ركض الدابة إذا ضربها بها وقال المبرد الركض التحريك، قال الأصمعي يقال ركضت الدابة، ولا يقال ركضت هي لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه، ولا فعل لها في ذلك، وحكى سيبويه ركضت الدابة فركضت مثل جبرت العظم فجبر.
(هذا مغتسل بارد وشراب) هذا أيضاًً من مقول القول المقدر، وفي الكلام حذف والتقدير فركض برجله فنبعت عين فقلنا له هذا مغتسل الخ وظاهر النظم الكريم أن الاغتسال والشرب كانا من عين واحدة والمغتسل هو الماء الذي يغتسل به والشراب الذي يشرب منه، وقيل إن المغتسل هو المكان الذي يغتسل فيه، قال قتادة: هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها الجابية فاغتسل من إحداهما فأذهب الله ظاهر دائه وشرب من الأخرى فأذهب الله باطن دائه، وكذا قال الحسن، وقال مقاتل نبعت عين جارية فاغتسل فيها فخرج صحيحاً، ثم نبعت عين أخرى فشرب منها ماء عذباً بارداً.
(12/50)
 
 
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)
(ووهبنا له أهله) معطوف على مقدر كأنه قيل فاغتسل وشرب فكشفنا عنه بذلك ما به من ضر ووهبنا له أهله قيل أحياهم الله بعد أن أماتهم وقيل جمعهم بعد تفرقهم، وقيل غيرهم مثلهم، ثم زاده مثلهم معهم، وهو معنى قوله:
(ومثلهم معهم) فكانوا مثلى ما كانوا من قبل ابتلائه (رحمة منا وذكرى لأولي الألباب) أي وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه وليتذكر بحاله أولو الألباب، فيصبروا على الشدائد كما صبر، ويلجأوا إلى الله كما لجأ ليفعل بهم ما فعل به من حسن العاقبة: وقد تقدم في سورة الأنبياء تفسير هذه الآية مستوفى فلا نعيده.
(12/50)
 
 
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)
(12/51)
 
 
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
(وخذ) معطوف على اركض، أو على وهبنا، أو التقدير وقلنا له خذ (بيدك ضغثاً) هو عثكال النخل بشماريخه، وقيل هو قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها، وقيل الحزمة الكبيرة من القضبان، وأصل المادة تدل على جمع المختلطات، قال الواحدي الضغث ملء الكف من الشجر والحشيش والشماريخ، وعن ابن عباس قال: الضغث هو الأسل، وقال أيضاًً الضغث القبضة من المرعى الرطب، وقال أيضاًً الحزمة.
(فاضرب به) أي بذلك الضغث (ولا تحنث) في يمينك والحنث الإثم ويطلق على فعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله، لأنهما سببان فيه، وكان أيوب قد حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة، واختلف في سبب ذلك فقال سعيد بن المسيب إنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز فخاف خيانتها فحلف ليضربها.
وقال يحيى بن سلام وغيره، إن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلةً تقرباً إليه فإنه إذا فعل ذلك بريء. فحلف ليضربنها إذا عوفي مائة جلدة، وقيل باعت ذؤابتها برغيفين إذ لم تجد شيئاًً وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام، فلهذا حلف ليضربنها وأخرج أحمد في الزهد عن ابن عباس قال: إن إبليس قعد على الطريق وأخذ تابوتاً يداوي الناس فقالت امرأة أيوب: يا عبد الله إن ههنا مبتلى من أمره كذا وكذا فهل لك أن تداويه،
(12/51)
 
 
قال: نعم بشرط إن أنا شفيته أن يقول أنت شفيتني لا أريد منه أجراً غيره فأتت أيوب فذكرت له ذلك، فقال: ويحك ذاك الشيطان، لله عليَّ إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثاً فيضربها به، فأخذ عذقاً فيه مائة شمراخ فضربها به ضربة واحدة (1).
وأخرج أحمد والطبراني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال " حملت وليدة في بني ساعدة من زنا فقيل لها: ممن حملك؟ قالت من فلان المقعد، فسئل المقعد فقال: صدقت فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا عثكولاً فيه مائة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة. وله طرق أخرى.
وقد اختلف العلماء هل هذا خاص بأيوب أو عام للناس كلهم؟ وأن من حلف خرج من يمينه بمثل ذلك؟ قال الشافعي: إذا حلف ليضربن فلاناً مائة جلدة أو ضرباً ولم يقل ضرباً شديداً ولم ينو بقلبه فيكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية حكاه ابن المنذر عنه، وعن أبي ثور وأصحاب الرأي، وقال عطاء هو خاص بأيوب، ورواه ابن القاسم عن مالك، ثم أثنى الله سبحانه على أيوب فقال:
(إنا وجدناه) أي علمناه (صابراً) على البلاء الذي ابتليناه به فإنه ابتلي بالداء العظيم في جسده وذهاب ماله وولده وأهله فصبر وليس في شكواه إلى الله إخلال بذلك فإنه ليس جزعاً تمني العافية وطلب الشفاء، والشكاية المذمومة إنما هي إذا كانت للمخلوقين، قال ابن مسعود أيوب رأس الصابرين يوم القيامة.
(نعم العبد) أي أيوب (إنه أواب) أي رجاع إلى الله تعالى بالاستغفار والتوبة.
_________
(1) انظر ما كتبه ابن الجوزي في كتابه زاد السير 7/ 143.
(12/52)
 
 
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)
(وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) أي أذكر صبرهم على ما أصابهم تتأس بهم، قرأ الجمهور عبادنا بالجمع، وقرىء بالإفراد؛ فعلى قراءة الجمهور يكون إسحق وإبراهيم ويعقوب عطف بيان، وعلى القراءة الأخرى يكون إبراهيم عطف بيان، وما بعده عطف على عبدنا لا على إبراهيم، وقد يقال لما كان المراد بعبدنا الجنس جاز إبدال الجماعة منه، وقيل إن إبراهيم وما بعده بدل، أو النصب بإضمار أعني، وعطف البيان أظهر وقراءة الجمهور أبين، وقد اختارها أبو حاتم وأبو عبيدة.
(أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) الأيدي جمع اليد أي الجارحة فكني بذلك عن الأعمال لأن أكثر الأعمال إنما يزاول باليد، وقيل جمع اليد التي بمعنى القوة والقدرة، قال قتادة أعطوا قوة في العباد ونصراً في الدين قال الواحدي وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير والمفسرون قال النحاس أما الأبصار فمتفق على أنها البصائر في الدين والعلم وأما الأيدي فمختلف في تأويلها فأهل التفسير يقولون إنها القوة في الدين، وقوم يقولون الأيدي جمع يد، وهي النعمة أي هم أصحاب النعم الذين أنعم الله عز وجل عليهم وقيل هم أصحاب النعم على الناس والإحسان إليهم لأنهم قد أحسنوا وقدموا خيراً واختار هذا ابن جرير، قرأ الجمهور الأيدي بإثبات الياء وقرىء بغير ياء فقيل معناها معنى الأولى وإنما حذفت الياء لدلالة كسرة الدال عليها وقيل الأيد القوة إلا أن الزمخشري قال وتفسيره بالأيد من التأييد قلق غير متمكن انتهى وكأنه إنما قلق عنده لعطف الابصار عليه. فهو غير مناسب للأيد من التأييد وقد يقال إنه لا يراد حقيقة الجوارح إذ كل أحد كذلك إنما المراد الكناية عن العمل الصالح والتفكر ببصيرته فلم يقلق حينئذ إذ لم يرد حقيقة الابصار وكأنه قيل أولي القوة والتفكر بالبصيرة، وقد نحا الزمخشري إلى شيء من هذا قبل ذلك، قاله السمين، قال ابن عباس القوة في العبادة والأبصار، الفقه في الدين؛ وعنه قال الأيدي النعمة وقيل أولى الأعمال الجليلة، والعلوم الشريفة فعبر بالأيدي عن الأعمال وبالابصار عن المعارف لأنها أقوى مباديها.
(12/53)
 
 
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
(12/54)
 
 
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)
(إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) تعليل لما وصفوا به من شرف العبودية، وعلو الرتبة في العلم والعمل، قرأ الجمهور بخالصة بالتنوين وعدم الإضافة على أنها مصدر بمعنى الإخلاص، فيكون ذكرى منصوباً به أو بمعنى الخلوص، فيكون ذكرى مرفوعاً به أو يكون خالصة اسم فاعل على بابه، وذكرى بدل منها، أو بيان لها أو منصوبة بإضمار أعني أو مرفوعة على إضمار مبتدأ، والدار مفعول به بذكرى أو ظرف إما على الاتساع أو على إسقاط الخافض، وعلى كل تقدير فخالصة صفة لموصوف محذوف، والباء للسببية، أي بسبب خصلة خالصة لا شوب فيها، وقرىء بإضافة خالصة إلى ذكرى، على أن الإضافة للبيان، لأن الخالصة قد تكون ذكرى وغير ذكرى، كما في قوله (شهاب قبس) لأن الشهاب يكون قبساً وغيره، أو على أن خالصة مصدر مضاف إلى مفعوله، والفاعل محذوف، أي بأن أخلصوا ذكر الدار وتناسوا عند ذكرها ذكر الدنيا، أو مصدر بمعنى الخلوص مضاف إلى فاعله، قال مجاهد معنى الآية استصفيناهم بذكر الآخرة فأخلصناهم بذكرها، وقال قتادة كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله، وقال السدي: أخلصوا بخوف الآخرة.
قال الواحدي: فمن قرأ بالتنوين في خالصة كان المعنى جعلناهم لنا
(12/54)
 
 
خالصين بأن خلصت لهم ذكرى الدار، والخالصة مصدر بمعنى الخلوص، والذكرى بمعنى التذكر، أي خلص لهم تذكر الدار، وهو أنهم يذكرون التأهب لها ويزهدون في الدنيا، وذلك من شأن الأنبياء وأما من أضاف فالمعنى أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار، والخالصة مصدر مضاف إلى الفاعل والذكرى على هذا المعنى الذكر.
قال ابن عباس أخلصوا بذكر دار الآخرة أن يعلموا لها وقيل: ذكرى الدار الثناء الجميل في الدنيا. وهذا شيء قد أخلصهم به، فليس يذكر غيرهم في الدنيا بمثل ما يذكرون به يقويه قوله (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) قاله النسفي، وفيه بعد. وقال ابن جزي: معناه إنا جعلناهم خالصين لنا أو خصصناهم دون غيرهم، وأما الباء على الأول فهي للتعليل.
وعلى الثاني هي لتعدية الفعل انتهى.
(12/55)
 
 
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)
(وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) فهو الاصطفاء الاختيار، والأخيار، جمع خير بالتشديد والتخفيف كأموات في جمع ميت مشدداً ومخففاً، والمعنى إنهم عندنا لمن المختارين من أبناء جنسهم من الأخيار.
(12/55)
 
 
وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
(وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ) قيل وجه ذكره مفرداً بعد ذكر أبيه وأخيه وابن أخيه للإشعار بأنه عريق في الصبر الذي هو المقصود بالتذكير هنا.
(وَالْيَسَعَ) هو ابن أخطوب بن العجوز استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم استنبىء.
(وَذَا الْكِفْلِ) اختلف في نبوته ولق