فتح البيان في مقاصد القرآن 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: فتحُ البيان في مقاصد القرآن
المؤلف: أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (المتوفى: 1307هـ)
 
إلى قوله تعالى: (مثنى وثلاث ورباع) وهو بعيد جداً. بل هو إشارة إلى التحريم المذكور في قوله: (حرّمت عليكم) إلى آخر الآية.
وفي قوله (وأحل لكم ما وراء ذلكم) دلالة على أنه يحل لهم نكاح ما سوى المذكورات، وهذا عام مخصوص بما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، ومن ذلك نكاح المعتدة، ومن ذلك أن من كان في نكاحه حرة لا يجوز له نكاح الأمة، ومن ذلك القادر على الحرة لا يجوز له نكاح الأمة، ومن ذلك من عنده أربع زوجات لا يجوز له نكاح خامسة، ومن ذلك الملاعنة فإنها محرمة على الملاعن أبداً.
وقيل لا حاجة للتنبيه على هذا لأن الكلام في التحريم على التأبيد، وما ذكره من الأقسام لا يحرم مؤبداً بل لعارض يزول. نعم يظهر ما قالوه في الملاعنة لأن تحريمها مؤبّد، وقد أبعد من قال إن تحريم الجمع بين المذكورات مأخوذ من الآية هذه لأنه حرم الجمع بين الأختين فيكون ما في معناه في حكمه، وهو الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، وكذلك يحرم نكاح الأمة لمن يستطيع نكاح حرّة فإنه يخصص هذا العموم.
لأجل (أن تبتغو بأموالكم) النساء اللاتي أحلهن الله لكم ولا تبتغوا بها الحرام فتذهب، وقيل هو بدل من (ما) في قوله (ما وراء ذلكم) والأول أولى. وأراد سبحانه بالأموال المذكورة ما يدفعونه في مهور الحرائر وأثمان الإماء (محصنين) الإحصان العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم والعقاب أي حال كونكم متزوجين ومتسرّين متعفّفين عن الزنا (غير مسافحين) أي غير زانين؛ والسفاح الزنا وهو مأخوذ من سفح الماء أي صبه وسيلانه، فكأنه سبحانه أمرهم بأن يطلبوا بأموالهم النساء على وجه النكاح لا على وجه السفاح.
(فما استمتعتم به منهن) قد اختلف أهل العلم في معنى الآية فقال
(3/81)
 
 
الحسن ومجاهد وغيرهما: فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الشرعي، وعلى هذا فالآية واردة في النكاح الصحيح وأن الزوج متى وطئها ولو مرة وجب عليه مهرها المسمى أو مهر المثل، ولكن يرد على هذا أنها تتكرر مع قوله سابقاً (وآتوا النساء صدقاتهن) وقال الجمهور: إن المراد بهذه الآية نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام حيث كان الرجل ينكح المرأة وقتاً معلوماً ليلة أو ليلتين أو أسبوعاً بثوب أو غيره ويقضي منها وطره ثم يسرحها، ويؤيد ذلك قراءة أُبَيّ بن كعب وابن عباس وسعيد بن جبير (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى) ثم نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما صح ذلك من حديث علي قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر (1)، وهو في الصحيحين وغيرهما.
وفي صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يوم فتح مكة: يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، والله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عقده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً (2)، وفي لفظ لمسلم أن ذلك كان في حجة الوداع، فهذا هو الناسخ، وقال سعيد بن جبير نسختها آية الميراث إذ المتعة لا ميراث فيها.
وقالت عائشة والقاسم بن محمد تحريمها ونسخها في القرآن، وذلك قوله تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) وليست المنكوحة بالمتعة من أزواجهم ولا ما ملكت أيمانهم، فإن من شأن الزوجة أن ترث وتورث، وليست المستمتع بها كذلك والأحاديث في تحليل المتعة ثم تحريمها وهل كان نسخها مرة أو مرتين مذكورة في كتب الحديث، وقد روى عن ابن عباس أنه قال بجواز المتعة وأنها باقية لم تنسخ، وروى عنه أنه رجع عن ذلك عقد أن بلغه الناسخ، وقد قال بجوازها جماعة
_________
(1) مسلم 1407 - البخاري 1908.
(2) مسلم 1406.
(3/82)
 
 
من الروافض، ولا اعتبار بأقوالهم، وقد أتعب نفسه بعض المتأخرين بتكثير الكلام على هذه المسئلة وتقوية ما قاله المجوزون لها، وليس هذا المقام مقام بيان بطلان كلامه، وقد طوّل الشوكاني البحث ودفع الشبهة الباطلة التي تمسك بها المجوزون لها في شرحه للمنتقى فليرجع إليه.
وقال ابن العربي: وأما متعة النساء فهي من غرائب الشريعة لأنها أبيحت في صدر الإسلام ثم حرمت يوم خيبر ثم أبيحت في غزوة أوطاس ثم حرمت بعد ذلك، واستقر الأمر على التحريم، وليس لها أخت في الشريعة إلا مسئلة القبلة، فإن النسخ طرأ عليها مرتين ثم استقرت حكاه القرطبي عنه.
(فآتوهن أجورهن) أي مهورهن التي فرضتم لهن، وإنما سمي المهر أجراً لأنه بدل عن المنفعة لا عن العين (فريضة) أي مفروضة مسماة، وقد كمل بهذا الوصف ما قبله ودخل به على ما بعده فهي مصدر مؤكد أو حال من أجورهن.
(ولا جناح عليكم) ولا عليهن (فيما تراضيتم به) أنتم وهن (من بعد الفريضة) أي من زيادة ونقصان في المهر، فإن ذلك سائغ عند التراضي.
هذا عند من قال إن الآية في النكاح الشرعي، وأما عند الجمهور القائلين بأنها في المتعة فالمعنى التراضي في زيادة مدة المتعة أو نقصانها أو في زيادة ما دفعه إليها إلى مقابل الاستمتاع بها أو نقصانه، وقيل ما تراضيتم به من الإبراء من المهر والافتداء والاعتياض، وقال الزجاج: معناه لا جناح عليكم أن تهب المرأة للزوج مهرها وأن يهب الرجل للمرأة التي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه.
(إن الله كان عليماً) بما يصلحكم في مناكحكم وغيرها من سائر أموالكم أو عليماً بالأشياء قبل خلقها (حكيماً) فيما دبر لكم من التدبير وفيما يأمركم وينهاكم عنه ولا يدخل حكمه خلل ولا زلل أو فيما فرض لكم من عقد النكاح الذي به حفظت الأنساب.
(3/83)
 
 
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
(ومن) شرطية أو موصولة (لم يستطع منكم طولاً) الطول الغنى والسعة قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وأبو زيد ومالك والشافعي وأحمد وإسحق وأبو ثور وجمهور أهل العلم، وإنما سمي الغنى طولاً لأنه ينال به من المراد ما لا ينال مع الفقر، والطول كناية عما يصرف إلى المهر والنفقة يقال طال يطول طولاً في الأفضال والقدرة، وفلان ذو طول أي ذو قدرة في ماله، والطول بالضم ضد القصر، وقال قتادة والنخعي وعطاء والثوري: إن الطول الصبر.
ومعنى الآية عندهم أن من كان يهوى أمة حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها فإن له أن يتزوجها إذا لم يملك نفسه، وخاف أن يبغي بها، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة، وقال أبو حنيفة وهو يروي عن مالك: إن الطول المرأة الحرة فمن كان تحته حرة لم يحل له أن ينكح الأمة ومن لم يكن تحته حرة جاز له أن يتزوج أمة ولو كان غنياً، وبه قال أبو يوسف واختاره ابن جرير واحتج له.
والقول الأول هو المطابق لمعنى الآية ولا يخلو ما عداه عن تكلف، فلا
(3/84)
 
 
يجوز للرجل أن يتزوج بالأمة إلا إذا كان لا يقدر على أن يتزوج بالحرة لعدم وجود ما يحتاج إليه في نكاحها من مهر وغيره.
(أن ينكح المحصنات) الحرائر (المؤمنات) هو جري على الغالب فلا مفهوم له، ومعنى الآية فمن لم يستطع منكم غنى وسعة في ماله يقدر بها على نكاح المحصنات المؤمنات (فممّا) أي فلينكح مما (ملكت أيمانكم) يعني جارية أخيك المؤمن، ودخلت الفاء في قوله (فمما ملكت) لتضمن المبتدأ معنى الشرط وقد عرفت أنه لا يجوز للرجل الحر أن يتزوج بالمملوكة إلا بشرط عدم القدرة على الحرة كما ذهب إليه الشافعي، والشرط الثاني ما سيذكره الله سبحانه آخر الآية من قوله (ذلك لمن خشي العنت منكم) فلا يحل للفقير أن يتزوج بالمملوكة إلا إذا كان يخشى على نفسه العنت.
والمراد هنا الأمة المملوكة للغير، وأما أمة الإنسان نفسه فقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز له أن يتزوجها وهي تحت ملكه لتعارض الحقوق واختلافها.
(من فتياتكم المؤمنات) وقد استدل بهذا على أنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية، وبه قال أهل الحجاز وجوّزه أهل العراق، والفتيات جمع فتاة وهي الشابة من النساء والعرب تقول للمملوك فتى وللمملوكة فتاة، وفي الحديث الصحيح: لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي (1).
(والله أعلم بإيمانكم) فيه تسلية لمن ينكح الأمة إذا اجتمع فيه الشرطان المذكوران أي كلكم بنو آدم وأكرمكم عقد الله أتقاكم فلا تستنكفوا من الزواج بالإماء عقد الضرورة فربما كان إيمان بعض الإماء أفضل من إيمان بعض الحرائر، والجملة اعتراضية تفيد أن الإيمان كاف في نكاح الأمة المؤمنة ولو ظاهراً، ولا يشترط في ذلك أن يعلم إيمانها علماً يقيناً فإن ذلك لا يطلع عليه إلا الله تعالى.
_________
(1) مسلم 2249 - البخاري 1251.
(3/85)
 
 
(بعضكم من) جنس (بعض) أي أنهم متصلون في الأنساب، لأنهم جميعاً بنو آدم ومتصلون في الدين لأنهم جميعاً أهل ملة واحدة وكتابهم واحد ونبيهم واحد، والمراد بهذا توطية نفوس العرب لأنهم كانوا يستهجنون أولاد الإماء ويستصغرونهم ويغضون منهم ويسمون ابن الأمة الهجين، فاعلم الله أن ذلك أمر لا يلتفت إليه فلا يتداخلنكم شموخ وأنفة من التزويج بالإماء فإنكم متساوون في النسب إلى آدم.
وقال ابن عباس: يريد أن المؤمنين بعضهم أكفاء بعض، أي فلا يترفع الحر عن نكاح الأمة عند الحاجة إليه.
(فانكحوهن بإذن أهلهن) أي بإذن المالكين لهن ومواليهن لأن منافعهن لهم لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا بإذن من هي له، واتفق أهل العلم على أن نكاح الأمة بغير إذن سيدها باطل لأن الله تعالى جعل إذن السيد شرطاً في جواز نكاح الأمة.
(وآتوهن أجورهن بالمعروف) أي أدوا إليهن مهورهن بما هو المعروف في الشرع من غير مطل ولا نقص ولا ضرار، وقيل مهور أمثالهن، وقد استدلّ بهذا من قال إن الأمة أحق بمهرها من سيدها، وإليه ذهب مالك وذهب الجمهور إلى أن المهر للسيد وإنما أضافها إليهن لأن التأدية إليهن تأدية إلى سيدهن لكونهن ماله.
(محصنات) عفائف حال (غير مسافحات) زانيات جهراً أي غير معلنات بالزنا، وهذا الشرط على سبيل الندب بناء على المشهور من جواز نكاح الزواني ولو كنّ إماء، قاله الخطيب.
(ولا متخذات أخدان) أخلاء يزنون بهن سراً، والأخدان الأخلاء،
(3/86)
 
 
والخدن والخدين المخادن أي المصاحب، وقيل ذات الخدن هي التي تزني سراً فهو مقابل للمسافحة، وهي التي تجاهر بالزنا وقيل المسافحة المبذولة وذات الخدن التي تزني بواحد. وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنا ولا تعيب اتخاذ الأخدان، ثم رفع الإسلام جميع ذلك فقال الله (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) وقال أبو زيد الأخدان الأصدقاء على الفاحشة.
(فإذا أحصنّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) المراد بالإحصان هنا الإسلام، روى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وأنس والأسود بن يزيد. وزر بن حبيش وسعيد بن جبير وعطاء والنخعي والشعبي والسدي، وروى عن عمر بن الخطاب بإسناد منقطع وهو الذي نصّ عليه الشافعي، وبه قال الجمهور، وقال ابن عباس وأبو الدرداء ومجاهد وعكرمة وطاوس والحسن وقتادة وغيرهم أنه التزويج، وروى عن الشافعي.
فعلى القول الأول لا حدَّ على الأمة الكافرة، وعلى الثاني لا حد على الأمة التي لم تتزوج، وقال القاسم: وسالم إحصانها إسلامها وعفافها، وقال ابن جرير: إن معنى القراءتين مختلف، فمن قرأ أحصن بضم الهمزة فمعناه التزويج، ومن قرأ بفتح الهمزة فمعناه الإسلام.
قال قوم إن الإحصان المذكور في الآية هو التزوج ولكن الحد واجب على الأمة المسلمة إذا زنت قبل أن تتزوج بالسنة، وبه قال الزهري.
قال ابن عبد البر: ظاهر قول الله عز وجل يقتضي أنه لا حد على الأمة وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج، ثم جاءت السنة بجلدها وإن لم تحصن وكان ذلك زيادة بيان.
قال القرطبي: ظهر المسلم حمى لا يستباح إلا بيقين ولا يقين مع الأختلاف لولا ما جاء في صحيح السنة من الجلد.
(3/87)
 
 
قال ابن كثير في تفسيره: والأظهر والله أعلم أن المراد بالإحصان هنا التزويج لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه (ومن لم يستطع منكم طولاً إلى قوله فإذا أحصن) الآية فالسياق كله في الفتيات المؤمنات، فتعين أن المراد بقوله (فإذ أحصن) أي تزوجن كما فسره به ابن عباس ومن تبعه (1).
قال: وعلى كلا القولين إشكال على مذهب الجمهور لأنهم يقولون إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة سواء كانت مسلمة أو كافرة مزوّجة أو بكراً مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة من الإماء، قد اختلفت أجوبتهم عن ذلك.
ثم ذكر أن منهم من أجاب وهم الجمهور بتقديم منطوق الأحاديث على هذا المفهوم، ومنهم من عمل على مفهوم الآية وقال إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها، إنما تضرب تأديباً قال وهو المحكي عن ابن عباس وإليه ذهب طاوس وسعيد بن جبير وأبو عبيد وداود الظاهري في رواية عنه.
فهؤلاء قدموا مفهوم الآية على العموم، وأجابوا عن مثل حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، قال: إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير (2)، بإن المراد بالجلد هنا التأديب. وهو تعسف.
وأيضاً قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد، الحديث (3).
_________
(1) ابن كثير 1/ 476.
(2) مسلم 1703 - البخاري 1088.
(3) مسلم 1703 - البخاري 1088.
(3/88)
 
 
ولمسلم من حديث علي: يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها، الحديث.
وأما ما أخرجه سعيد بن منصور وابن خزيمة والبيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، " وليس على الأمة حد حتى تحصن بزوج فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات من العذاب " فقد قال ابن خزيمة والبيهقي إن رفعه خطأ والصواب وقفه.
والفاحشة هنا الزنا فعليهن نصف ما على المحصنات أي الحرائر الأبكار إذا زنين، لأن الثيب عليها الرجم، وهو لا يبعّض، وقيل المراد بالمحصنات هنا المزوجات لأن عليها الجلد والرجم، والرجم لا يتبعّض فصار عليهن نصف ما عليهن من الجلد، فيجلدن خمسين ويغرّبن نصف سنة.
والمراد بالعذاب هنا الجلد، وإنما نقص حد الإماء عن حد الحرائر لأنهن أضعف، وقيل لأنهن لا يصلن إلا مرادهن كما تصل الحرائر، وقيل لأن العقوبة تجب على قدر النعمة كما في قوله تعالى (يضاعف لها العذاب ضعفين) ولم يذكر الله سبحانه في هذه الآية العبيد وهم لاحقون بالإماء بطريق القياس وكما يكون على الإماء والعبيد نصف الحد في الزنا كذلك يكون عليهم نصف الحد في القذف والشرب.
(ذلك) أي نكاح المملوكات عقد عدم الطول (لمن خشي العنت) العنت الوقوع في الإثم وقيل الزنا وأصله في اللغة انكسار العظم بعد الجبر ثم استعير لكل مشقة، وأريد به هنا ما يجر إليه الزنا من العقاب الدنيوي والأخروي، والمعنى ذلك لمن خاف أن تحمله شدة الشبق والغلمة وشدة الشهوة على الزنا.
(3/89)
 
 
وإنما سمي الزنا بالعنت لما يعقبه من المشقة وهي شدة العزوبة فأباح الله تعالى نكاح الأمة بثلاثة شروط: عدم القدرة على نكاح الحرة وخوف العنت وكون الأمة مؤمنة، وفي القاموس العنت الفساد والإثم والهلاك ودخول المشقة على الإنسان ولقاء الشدة والزنا والوهي والإنكسار واكتساب المآثم، وأعنته غيره وعنته تعنيتاً شدد عليه وألزمه ما يصعب عليه (1).
(منكم) بخلاف من لا يخافه من الأحرار فلا يحل له نكاحها، وكذا من استطاع طول حرة، وعليه الشافعي وكذا مالك وأحمد.
(أن تصبروا) أي صبركم عن نكاح الإماء (خير لكم) من نكاحهن لأن نكاحهن يفضي إلى إرقاق الولد والغض من النفس (والله غفور رحيم) هذا كالتأكيد لما تقدم (2).
_________
(1) وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: أيما حر تزوج بأمةٍ فقد أرق نصفه. يعني يصير ولده رقيقاً؛ فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا يرق الولد. وقال سعيد بن جبير: ما نكاح الأمة من الزنى إلا قريب، قال الله تعالى: (وأن تصبروا خير لكم)، أي عن نكاح الإماء. وفي سنن ابن ماجة عن الضحاك بن مزاحم قال: سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أراد أن يلقى الله طاهراً مطهراً فليتزوج الحرائر "، ورواه أبو إسحاق الثعلبي من حديث يونس بن مرداس، وكان خادماً لأنس، وزاد: فقال أبو هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت - أو قال: فساد البيت ".
(2) قال الطبري: والصواب من القول في قوله (ذلك لمن خشي العنت منكم) ذلكن لمن خاف منكم ضرراً في دينه وبدنه.
(3/90)
 
 
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
(3/91)
 
 
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
(يريد الله ليبينّ لكم) استئناف مسوق لتقرير ما سبق من الأحكام وبيان كونها جارية على مناهج المهتدين من الأنبياء والصالحين، واللام هنا لام كي التي تعاقب أن، ومنه (يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم) (وأمرت لأعدل بينكم وأمرنا لنسلم لرب العالمين) وهذا مذهب الكوفيين، وخطأ الزجاج هذا القول.
وقيل اللام زائدة لتأكيد معنى الاستقبال أو لتأكيد إرادة التبيين، وبه قال الزمخشري والسمين .. ومعنى الآية يريد الله أن يبين لكم مصالح دينكم وما يحل لكم وما يحرم عليكم، وقيل يبين لكم ما يقربكم منه، وقيل يبين أن الصبر عن نكاح الأمة خير لكم.
(ويهديكم سنن الذين من قبلكم) أي طرقهم في تحريم الأمهات والبنات والأخوات فإنها كانت محرمة على من قبلكم وهم الأنبياء وأتباعهم لتقتدوا بهم (و) يريد أن (يتوب عليكم) يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته فتوبوا إليه وتلافوا ما فرط منكم بالتوبة يغفر لكم ذنوبكم (والله عليم) بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم (حكيم) فيما دبر أمورهم.
(3/91)
 
 
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
(والله يريد أن يتوب عليكم) هذا تأكيد لما قد فهم من قوله ويتوب عليكم المتقدم، وقيل الأول معناه الإرشاد إلى الطاعات، والثاني فعل أشباهها.
(3/91)
 
 
وقيل إن الثاني لبيان كمال منفعة إرادته سبحانه، وكمال ضرر ما يريده الذين يتبعون الشهوات، وليس المراد به مجرد إرادة التوبة حتى يكون من باب التكرير للتأكيد.
قيل هذه الإرادة منه سبحانه في جميع أحكام الشرع، وقيل في نكاح الأمة فقط، وقال ابن عباس: معناه يريد أن يخرجكم من كل ما يكره إلى ما يحب ويرضى، وقيل معناه يدلكم على ما يكون سبباً لتوبتكم التي يغفر لكم بها ما سلف من ذنوبكم، وقيل معناه إن وقع منكم تقصير في دينه فيتوب عليكم ويغفر لكم.
(ويريد الذين يتبعون الشهوات) المراد بالشهوات هنا ما حرمه الشرع دون ما أحله، اختلف في تعيين متبعي الشهوات فقيل هم الزناة وقيل اليهود والنصارى وقيل اليهود خاصة، وقيل هم المجوس لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب وبنت الأخ، والأول أولى.
(أن تميلوا) تعدلوا عن الحق وقصد السبيل بالمعصية فتكونوا مثلهم (ميلاً عظيماً) يعني بإتيانكم ما حرم الله عليكم، والميل العدول عن طريق الاستواء، ووصف الميل بالعظيم بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة نادراً.
(3/92)
 
 
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
(يريد الله أن يخفف) يسهل (عنكم) أحكام الشرع بما مر من الترخيص أو بكل ما فيه تخفيف عليكم (وخلق الإنسان ضعيفاً) عاجزاً غير قادر على ملك نفسه ودفعها عن شهوتها قليل الصبر عن النساء، فلا صبر له عنهن وفاء يحق التكليف. فهو محتاج من هذه الحيثية إلى التخفيف، فلهذا أراد الله سبحانه التخفيف، وقيل هو ضعيف في أصل الخلقة لأنه خلق من ماء مهين، وقيل إنه لضعفه يستميله الهوى فهو ضعيف العزم عن الهوى.
(3/92)
 
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
(يا أيها الذين آمنوا) شروع في بيان بعض المحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس إثر بيان المحرمات المتعلقة بالإبضاع (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) يعني بالحرام الذي لا يحل في الشرع، والباطل ما ليس بحق، ووجوه ذلك كثيرة كالربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور، وأخذ الأموال باليمين الكاذبة ونحو ذلك، ومن الباطل البيوعات التي نهى عنها الشرع.
وإنما خص الأكل بالذكر ونهى عنه تنبيهاً على غيره من جميع التصرفات الواقعة على وجه الباطل، لأن معظم المقصود من المال الأكل، وقيل يدخل فيه أكل مال نفسه بالباطل ومال غيره، أما أكل ماله بالباطل فهو إنفاقه في المعاصي، وأما أكل مال غيره فقد تقدم معناه، وقيل يدخل في أكل المال بالباطل جميع العقود الفاسدة.
(إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة، وهذا الاستثناء منقطع أي لكن أموال تجارة صادرة عن تراض منكم وطيب نفس جائزة بينكم ولكم أن تأكلوها، أو لكن كون تجارة عن تراض منكم حلالاً لكم لأن التجارة ليست من جنس أكل المال بالباطل، ولأن الاستثناء وقع على الكون، والكون معنى من المعاني ليس مالاً من الأموال، فكان إلا هنا بمعنى لكن.
وقوله عن تراض صفة لتجارة أي كائنة عن تراض، وإنما نص الله
(3/93)
 
 
سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات كالهبة والصدقة لكونها أكثرها وأغلبها، ولأن أسباب الرزق متعلقة بها غالباً، ولأنها أرفق بذوي المروآت بخلاف الإيهاب وطلب الصدقات.
وتطلق التجارة على جزاء الأعمال من الله على وجه المجاز، ومنه قوله تعالى (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم) وقوله تعالى (يرجون تجارة لن تبور).
واختلف العلماء في التراضي فقالت طائفة تمام وجوده بافتراق الأبدان بعد عقد البيع أو بأن يقول أحدهما لصاحبه اختر، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي والثوري والليث وابن عيينة وإسحق وغيرهم، وقال مالك وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فيرتفع بذلك الخيار.
وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته.
وقرىء تجارة بالرفع على أن كان تامة وبالنصب على أنها ناقصة.
وروى الطبراني وابن أبي حاتم قال السيوطي بسند صحيح عن ابن مسعود قال: إنها يعني هذه الآية محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة.
وعن عكرمة والحسن قالا: كان الرجل يتحرج أن يأكل عقد أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية فنسخ ذلك الآية التي في النور (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) الآية.
وأخرج ابن ماجة وابن المنذر عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إنما البيع عن تراض " (1).
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 2319.
(3/94)
 
 
(ولا تقتلوا أنفسكم) أي لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضاً إلا بسبب أثبته الشرع، وإنما قال أنفسكم لأنهم أهل دين واحد فهم كنفس واحدة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في حجة الوداع: ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض (1).
وقيل إن هذا نهي للإنسان عن قتل نفسه بارتكاب ما يؤدي إلى هلاكها، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجَّأ بها في بطنه أي يضرب بها نفسه في نار جهنم مخلداً فيها أبداً (2)، وفي الباب أحاديث.
أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي يعني لا يفعل شيئاً يستحق به القتل مثل أن يقتل فيقتل به فيكون هو الذي تسبب في قتل نفسه بكسب الجريمة، وقيل لا تقتلوا بأكل المال بالباطل وقيل لا تهلكوا أنفسكم بأن تعملوا عملاً ربما أدى إلى قتلها، أو المراد النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة.
ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني، ومما يدل على ذلك احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات السلاسل فقرر النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجاجه، وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرهما.
(إنّ الله كان بكم رحيماً) ومن رحمته بكم أن نهاكم عن كل شيء تستوجبون به مشقة أو محنة، وقيل إن الله تعالى أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم ليكون ذلك توبة لهم، وكان بكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم رحيماً حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة.
_________
(1) مسلم 66 - البخاري 894.
(2) مسلم 109 - البخاري 721.
(3/95)
 
 
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا (31)
(3/96)
 
 
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
(ومن يفعل ذلك) أي القتل خاصّة أو أكل أموال الناس باطلاً، وقيل هو إشارة إلى كل ما نهى عنه في هذه السورة، وقال ابن جرير: إنه عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد وهو قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً) لأن كل ما نهى عنه من أول السورة، قرن به وعيد إلا من قوله (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم) فإنه لا وعيد بعده إلا قوله ذلك.
(عدواناً) على الغير (وظلماً) على النفس لا جهلاً ونسياناً وسفهاً، وعلى هذا لا يرد أنه كيف قدم الأخص على الأعم إذ التجاوز عن العدل جور ثم طغيان ثم تعدّ، والكل ظلم، والعدوان تجاوز الحد. والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وقيل إن معنى العدوان والظلم واحد، وتكريره لقصد التأكيد إلا أن يقال إن العطف باعتبار التغاير في المفهوم كما تقدم، وخرج بقيد العدوان والظلم ما كان من القتل بحق، كالقصاص وقتل المرتد وسائر الحدود الشرعية وكذلك القتل الخطأ.
(فسوف نصليه) أي ندخله في الآخرة (ناراً) عظيمة يحترق فيها، وقرىء نصليه بفتح النون وهو على هذا منقول من صلى ومنه شاة مصلية (وكان ذلك) أي إصلاؤه النار (على الله يسيراً) هيناً لأنه لا يعجزه شيء.
(3/96)
 
 
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
(إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) أي الذنوب التي نهاكم الله عنها، وفي الكلام حذف أي وتفعلوا الطاعات (نكفِّر عنكم) أصل التكفير الستر والتغطية، وفي الشرع إماطة المستحق من العقاب بثواب أزيد أو بتوبة أي نغفر
(3/96)
 
 
لكم (سيآتكم) أي ذنوبكم التي هي صغائر، فالتكفير ليس مرتباً على الاجتناب وحده.
وحملُ السيئآت على الصغائر هنا متعينّ لذكر الكبائر قبلها. وجعل اجتنابها شرط لتكفير السيئآت: واجتناب الشيء المباعدة عنه وتركه جانباً، والكبيرة ما كبر وعظم من الذنوب وعظمت عقوبته.
وقد اختلف أهل الأصول في تحقيق معنى الكبائر ثم في عددها فأما في تحقيقها فقيل: إن الذنوب كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها كما يقال الزنا صغيرة بالإضافة إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بالإضافة إلى الزنا، وقد روى نحو هذا عن الإسفرايني والجويني والقشيري وغيرهم.
قالوا المراد بالكبائر التي يكون اجتنابها سبباً لتكفير السيآت هي الشرك، واستدلوا على ذلك بقراءة من قرأ إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه، وعلى قراءة الجمع فالمراد أجناس الكفر واستدلوا على ما قالوه بقوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) قالوا فهذه الآية مقيدة لقوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه.
وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، وقال ابن مسعود: الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية، قال سعيد بن جبير: كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو كبيرة.
وقال جماعة من أهل الأصول الكبائر كل ذنب رتّب الله عليه الحد أو صرح بالوعيد فيه وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره، وقد ذكر الشوكاني جُلّ ذلك في نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، وقد ذكر رضي الله عنه في إرشاد الفحول من النصوص عليها فوق الثلاثين.
(3/97)
 
 
وأما الأختلاف في عددها فقيل إنها سبع وقيل سبعون وقيل سبعمائة وقيل غير منحصرة ولكن بعضها أكبر من بعض، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا وما هي يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (1).
وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس وقال ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت (2).
وفي لفظ عند البخاري عن ابن عمرو عنه صلى الله عليه وآله وسلم واليمين الغموس.
وأخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قالوا وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (3).
وعن ابن مسعود قال سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندّاً، وهو خلقك، قلت إن ذلك لعظيم (4) ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك، أخرجه البخاري والأحاديث في تعداد الكبائر وتعيينها
_________
(1) مسلم 89 - البخاري 1325.
(2) مسلم 87 - البخاري 1291.
(3) مسلم 90 - البخاري 2310.
(4) البخاري كتاب التفسير سورة 2.
(3/98)
 
 
كثيرة جداً فمن رام الوقوف على ما ورد في ذلك فعليه بكتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر فإنه قد جمع فأوعى.
وقد ثبت من الأدلة المتقدمة أن من الذنوب كبائر وصغائر، وإليه ذهب الجمهور.
واعلم أنه لا بد من تقييد ما في هذه الآية من تكفير السيآت بمجرد اجتناب الكبائر بما أخرجه النسائي وابن ماجه وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن أبي هريرة وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلس على المنبر ثم قال " والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويؤدي الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى إنها لتصفّق، ثم تلا هذه الآية (1).
وعن ابن مسعود قال إن في سورة النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، لقد علمت أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها، قوله تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) الآية وقوله تعالى (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) الآية وقوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء،) وقوله تعالى (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك) الآية وقوله تعالى (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه) الآية.
(وندخلكم مدخلاً كريماً) يعني حسناً شريفاً مرضياً أي مدخلاً تكرمون فيه، والمراد بالمدخل بضم الميم وفتحها كما قرىء بهما في الآية مكان الدخول وهو الجنة ويجوز أن يكون مصدراً.
_________
(1) المستدرك كتاب الصلاة 1/ 200.
(3/99)
 
 
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
(ولا تتمنّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض) التمني نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي، فنهى الله سبحانه المؤمنين عن التمني لأن فيه تعلق البال ونسيان الآجال، قاله القرطبي، وفيه النهي عن أن يتمنى الإنسان ما فضل الله به غيره من الناس عليه، فإن ذلك نوع من عدم الرضا بالقسمة التي قسمها الله بين عباده على مقتضى إرادته وحكمته البالغة، وفيه أيضاً نوع من الحسد المنهي عنه إذا صحبه إرادة زوال تلك النعمة عن الغير.
وعبارة القرطبي فيدخل فيه أن يتمنى الرجل حال الآخر من دين أو دنيا على أن يذهب ما عند الآخر، وهذا هو الحسد بعينه، وهو الذي ذمه الله تعالى أيضاً، ويدخل فيه خطبة الرجل على خطبة أخيه وبيعه على بيعه لأنه داعية إلى الحسد والمقت انتهى.
قد اختلف العلماء في الغبطة هل تجوز أم لا؟ وهي أن يكون له حال مثل حال صاحبه من دون أن يتمنى زوال ذلك الحال عن صاحبه فذهب الجمهور إلى جواز ذلك، واستدلوا بالحديث الصحيح: " لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار، وقد بوّب عليه البخارى باب الاغتباط في العلم والحكم (1).
_________
(1) مسلم 716 - البخاري 9/ 65.
(3/100)
 
 
وعموم لفظ الآية يقتضي تحريم تمني ما وقع به التفضيل سواء كان مصحوباً بما يصير به من جنس الحسد أم لا، وما ورد في السنة من جواز ذلك في أمور معينة يكون مخصصاً لهذا العموم، ومن الناس من منع من الغبطة أيضاً كالإمام مالك قال لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين أو الدنيا.
ونحوه قال الحسن: وسبب نزول الآية ما قال قتادة أن النساء قلن لو جعل أنصباؤنا في الميراث كأنصباء الرجال، وقال الرجال إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(للرّجال نصيب ممّا اكتسبوا وللنساء نصيب ممّا اكتسبن) فيه تخصيص بعد التعميم، ورجوع إلى ما يتضمنه سبب نزول الآية من أن أم سلمة قالت: يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو ولا نقاتل فنستشهد، وإنما لنا نصف الميراث فنزلت، أخرجه عبد الرزاق وابن منصور وابن حميد والترمذي والحاكم والبيهقي وابن جرير وابن المنذر وغيرهم. وقد روي نحو هذا السبب من طرق بألفاظ مختلفة (1).
والمعنى في الآية أن الله جعل لكل من الفريقين نصيباً على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته، وعبّر عن ذلك المجهول لكل فريق من فريقي النساء والرجال بالنصيب مما اكتسبوا على طريق الإستعارة التبعية، شبه اقتضاء حال كل فريق لنصيبه باكتسابه إياه.
قال قتادة: للرجال نصيب مما اكتسبوا من الثواب والعقاب، وللنساء كذلك، وللمرأة الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها كما للرجال، وقال ابن عباس: المراد بذلك الميراث والاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة للذكر مثل حظّ
_________
(1) زاد المسير 68.
(3/101)
 
 
الأنثيين، فنهى الله عن التمني على هذا الوجه لما فيه من دواعي الحسد لأن الله أعلم بمصالحهم منهم فوضع القسمة بينهم على التفاوت على ما علم من مصالحهم (1).
(واسألوا الله من فضله) هذا الأمر يدل على وجوب سؤال الله سبحانه كما قاله جماعة من أهل العلم، وعن مجاهد قال: ليس بعرض الدنيا، وعن سعيد بن جبير قال: العبادة ليس من أمر الدنيا، وأخرج الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل " (2) قال ابن عباس: الفضل الرزق. وقيل الفضل خزائن نعمه التي لا نفاذ لها (إن الله كان بكل شيء عليماً) أي بما يكون صلاحاً للسائلين فليقتصر السائل على المجمل في الطلب.
_________
(1) رواه الترمذي وفي رواية " فإنه يحب أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج ".
وروى ابن ماجه عن أبي هريرة من لم يسأل الله غضب عليه.
(2) رواه الإمام أحمد في " المسند " 6/ 322 والترمذي 2/ 127 والحاكم 2/ 305، عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة. قال الحاكم: هذا حديث على شرط الشيخين إن كان سمع مجاهد من أم سلمة، ووافقه الذهبي على تصحيحه. قال الشيخ أحمد شاكر: وأما حكم الترمذي في روايته من طريق ابن عيينة بأنه حديث مرسل، فانه جزم بلا دليل، ومجاهد أدرك أم سلمة يقيناً وعاصرها.
فإنه ولد سنة 21، وأم سلمة ماتت بعد سنة 60 على اليقين، والمعاصرة من الراوي الثقة تحمل على الاتصال إلا أن يكون الراوي مدلساً، ولم يزعم أحد أن مجاهداً مدلس إلا كلمة قالها القطب الحلبي في " شرح البخاري " حكاها عنه الحافظ في " التهذيب " 10/ 44، ثم عقب عليها بقوله: ولم أر من نسبه إلى التدليس. وقال الحافظ أيضاً في " الفتح ": 6/ 194 رداً على من زعم أن مجاهداً لم يسمع من عبد الله ابن عمرو: لكن سماع مجاهد من عبد الله بن عمرو ثابت وليس بمدلس.
قال ابن كثير: وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية، قال: ولا يتمنى الرجل فيقول: ليت
أن لي مال فلان وأهله، فنهى الله عن ذلك، ولكن ليسأل الله من فضله. وقال الحسن ومحمد بن سيرين وعطاء والضحاك نحو هذا، وهو الظاهر من الآية، ولا يرد على هذا ما ثبت في صحيح البخاري 9/ 65 " لا حسد إلا من اثنتين، رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، فيقول رجل: لو أن لي مثل مال فلان لعملت مثله " فإن هذا شيء غير ما نهت عنه الآية، وذلك أن الحديث حض على تمني مثل نعمة هذا، والآية نهت عن تمني وعين نعمة هذا.
(3/102)
 
 
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
(ولكلّ) من الرجال والنساء مفعول ثان قدم لتأكيد الشمول (جعلنا موالي) يلون ميراثهم وهو جمع مولى يطلق على المعتق والمعتق والناصر وابن العم والجار، والمراد هنا العصبة أي ولكل أحد جعلنا عصبة يرثون ما أبقت الفرائض، فلا حق للحليف فيها وهم يرثون (مما ترك الوالدان والأقربون) من ميراثهم وهم الموروثون وقيل هم الوارثون، والأول أولى لأنه مروي عن ابن عباس وغيره.
وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها أي ليتبع كل واحد ما قسم الله له من الميراث ولا يتمنّى ما فضّل الله به غيره عليه، وقد قيل إن هذه الآية منسوخة لقوله تعالى بعدها (والذين عقدت أيمانكم) وقيل العكس كما روى ذلك ابن جرير، وذهب الجمهور إلى أن الناسخ لقوله تعالى (والذين عقدت أيمانكم) قوله تعالى (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض).
(والذين عقدت أيمانكم) أي الحلفاء الذين عاهدتموهم في الجاهلية على النصر والإرث فالمراد به موالي الموالاة فقد كان الرجل من أهل الجاهلية يعاقد الرجل أي يحالفه فيستحق من ميراثه نصيباً، ثم ثبت في صدر الإسلام بهذه الآية ثم نسخ بقوله (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) وهذا أحد قولين في معنى الآية.
والآخر ما أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عباس ولكل جعلنا موالي ورثة والذين عقدت أيمانكم، قال المهاجرون: لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فلما
(3/103)
 
 
نزلت (ولكلّ جعلنا موالي) نسخت ثم قال (والذين عقدت أيمانكم (1))
(فآتوهم نصيبهم) من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصي له، وفي الباب أحاديث بطرق وألفاظ، وفي الجلالين نصيبهم حظوظهم من الميراث وهو السدس وهو منسوخ كما تقدم، وقرىء عقّدت بتشديد القاف على التكثير أي والذين عقّدت لهم أيمانكم الحلف أو عقّدت عهودهم أيمانكم والتقدير على قراءة الجمهور والذين عاقدتهم أيمانكم، والأيمان جمع يمين يحتمل أن يراد به القسم أو اليد أو هما جميعاً، ونسبة المعاقدة أو العقد إلى الأيمان مجاز، وقيل التقدير عقدت ذوو أيمانكم والمعاقدة المحالفة والمعاهدة (2).
(إن الله كان على كل شيء شهيداً) قال عطاء: يريد أنه لم يغب عنه علم ما خلق وبرأ، فعلى هذا الشهيد بمعنى الشاهد والمراد منه علمه بجميع الأشياء، وقيل الشهيد هو الشاهد على الخلق يوم القيامة بكل ما عملوه، فعلى هذا الشاهد بمعنى الخبر وفيه وعد للطائعين ووعيد للعصاة المخالفين.
_________
(1) أخرجه البخاري 8/ 186، وأبو داود، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي في " سننه " عن ابن عباس، وتمام الحديث: " فلما نزلت: ولكل جعلنا موالي " نسخت، ثم قال: " والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له.
(2) وروى مسلم في " صحيحه " 4/ 1961، والإمام أحمد في " المسند " 4/ 83، وأبو داود وابن جرير، والنسائي، عن جبير بن مطعم، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " قال القرطبي في " المفهم " معنى: لا حلف، لا يتحالف أهل الإسلام كما كان أهل الجاهلية، كانوا يتحالفون، وذلك أن المتحالفين كانا يتناصران في كل شيء فيمنع الرجل حليفه وإن كان ظالماً، ويقوم دونه، ويدفع عنه بكل ممكن حتى يمنع الحقوق، وينتصر به على الظلم والفساد، ولما جاء الشرع بالانتصاف من الظالم، وأنه يؤخذ ما عليه من الحق لا يمنعه أحد من ذلك، وحد الحدود، وبين الأحكام؛ أبطل ما كانت الجاهلية عليه من ذلك.
(3/104)
 
 
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
(الرجال قوّامون) مسلطون (على النساء) كلام مستأنف سيق لبيان سبب استحقاق الرجال الزيادة في الميراث تفصيلاً إثر بيان تفاوت استحقاقهم إجمالاً، وعلل ذلك بأمرين (أولهما) وهبي والثاني كسبي، والمعنى أنهم يقومون بالذب عنهن كما يقوم الحكام والأمراء بالذب عن الرعية، وهم أيضاً يقومون بما يحتجن إليه من النفقة والكسوة والمسكن.
وجاء بصيغة المبالغة لتدلّ على أصالتها في هذا الأمر، وهو جمع قوّام وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب، يشير به إلى أن المراد قيام الولاة على الرعايا قال ابن عباس: أمّروا عليهن فعلى المرأة أن تطيع زوجها في طاعة الله.
(بما) الباء سببية وما مصدرية (فضّل الله) والضمير في قوله (بعضهم على بعض) للرجال والنساء أي إنما استحقوا هذه المزيّة لتفضيل الله إياهم عليهن بما فضلهم به من كون فيهم الأنبياء والخلفاء والسلاطين والحكام والأئمة والغزاة، وزيادة العقل والدين والشهادة والجمعة والجماعات، وأن الرجل يتزوج بأربع نسوة ولا يجوز للمرأة غير زوج واحد، وزيادة النصيب والتعصيب في الميراث، وبيده الطلاق والنكاح والرجعة وإليه الانتساب، وغير ذلك من الأمور، فكل هذا يدل على فضل الرجال على النساء.
(3/105)
 
 
(وبما أنفقوا) أي وبسبب الإنفاق وبما دفعوه في مهورهن (من أموالهم) وكذلك ما ينفقونه في الجهاد وما يلزمهم في العقل والدية، وقد استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على جواز فسخ النكاح إذا عجز الزوج عن نفقة زوجته وكسوتها، وبه قال مالك والشافعي وغيرهما.
(فالصالحات) أي المحسنات العاملات بالخير من النساء (قانتات) أي مطيعات لله قائمات بما يجب عليهن من حقوق الله وحقوق أزواجهن (حافظات للغيب) لما يجب حفظه عقد غيبة أزواجهن عنهن من حفظ نفوسهن وفروجهن وحفظ أموالهن.
و" ما " في قوله (بما حفظ الله) مصدرية أي بحفظ الله إياهن ومعونته وتسديده أو حافظات له بما استحفظهن من أداء الأمانة إلى أزواجهن على الوجه الذي أمر الله به، أو حافظات له بحفظ الله لهن بما أوصى به الأزواج في شأنهن من حسن العشرة.
وقريء بما حفظ الله بنصب الاسم الشريف والمعنى بما حفظن أمر الله أو دينه فحذف الضمير الراجع إليهن للعلم به، وما على هذه القراءة مصدرية أو موصولة كالقراءة الأولى، أي بحفظهن الله أو بالذي حفظن الله به وقال السدي: تحفظ على زوجها ماله وفرجها حتى يرجع كما أمرها الله.
(واللاتي تخافون نشوزهنّ) هذا خطاب للأزواج، قيل الخوف هنا على بابه وهو حالة تحدث في القلب عقد حدوث أمر مكروه أو عقد ظن حدوثه، وقيل المراد بالخوف هنا العلم، والنشوز العصيان وقد تقدم بيان أصل معناه في اللغة.
قال ابن فارس: يقال نشزت المرأة استصعبت على بعلها، ونشز بعلها
(3/106)
 
 
عليها إذا ضربها وجفاها، ودلالات النشوز تكون بالقول وبالفعل بأن رفعت صوتها عليه ولم تجبه إذا دعاهما، ولم تبادر إلى أمره إذا أمرها، أو لا تخضع له إذا خاطبها أو لا تقوم له إذا دخل عليها.
(فعظوهنّ) أي ذكروهن بما أوجبه الله عليهن من الطاعة وحسن المعاشرة ورغّبوهن ورهّبوهن إذا ظهر منهن أمارات النشوز وهو أن يقول لها اتقي الله وخافيه فإن لي عليك حقاً، وارجعي عما أنت عليه، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو ذلك، فإن أصرت على ذلك هجرها في المضجع كما قال تعالى:
(واهجروهن في المضاجع) يقال هجره أي تباعد منه، والمضاجع جمع مضجع وهو محلّ الاضطجاع أي تباعدوا عن مضاجعتهن ولا تدخلوهن تحت ما تجعلونه عليكم حال الاضطجاع من الثياب، وقيل هو أن يوليها ظهره عند الاضطجاع في الفراش، وقيل هو كناية عن ترك جماعها، وقيل لا تبيت معه في البيت الذي يضطجع فيه.
(واضربوهن) إن لم ينزعن بالهجران ضرباً غير مبرح ولا شائن، وظاهر النظم القرآني أنه يجوز للزوج أن يفعل جميع هذه الأمور عند مخافة النشوز، وقيل حكم الآية مشروع على الترتيب وإن دلّ ظاهر العطف بالواو على الجمع لأن الترتيب مستفاد من قرينة المقام، وسوق الكلام للرفق في إصلاحهن وإدخالهن تحت الطاعة.
فالأمور الثلاثة مرتبة أي لأنها لدفع الضرر كدفع الصائل فاعتبر فيها الأخف فالأخف وقيل إنه لا يهجرها إلا بعد عدم تأثير الوعظ فإن أثّر الوعظ لم ينتقل إلى الهجر، وإن كفاه الهجر لم ينتقل إلى الضرب، وقال الشافعي: الضرب مباح وتركه أفضل، وفي الجمل: إن كلاً من الهجر والضرب مقيد بعلم
(3/107)
 
 
النشوز، ولا يجوز بمجرد الظن.
(فإن أطعنكم) كما يجب وقمن لواجب حقكم وتركن النشوز (فلا تبغوا عليهن سبيلا) أي لا تتعرضوا لهن بشيء مما يكرهن لا بقول ولا بفعل، وقيل المعنى لا تكلفوهن الحب لكم فإنه لا يدخل تحت اختيارهن (إن الله كان علياً كبيراً) إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب أي وإن كنتم تقدرون عليهن فاذكروا قدرة الله عليكم فإنها فوق كل قدرة وهو بالمرصاد لكم.
عن ابن عباس قال: تلك المرأة تنشز وتستخفّ بحق زوجها ولا تطيع أمره، فأمره الله أن يعظها ويذكرها بالله ويعظم حقه عليها فإن قبلت وإلا هجرها في المضجع ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها، وذلك عليها شديد فإن رجعت وإلا ضربها ضرباً غير مبرح ولا يكسر لها عظماً ولا يجرح لها جرحاً فإن أطاعتك فلا تجني عليها العلل، وعنه قال يهجرها بلسانه ويغلظ لها بالقول ولا يدع الجماع، وسئل عن ضرب غير مبرح فقال: بالسواك ونحوه.
وقد أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد خطبة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيها أنه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً (1).
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن زمعة قال: قال رسول
_________
(1) الترمذي كتاب الرضاع.
(3/108)
 
 
الله - صلى الله عليه وسلم -: أيضرب أحدكم أمرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر اليوم (1).
وفي هذه دليل على أن الأولى ترك الضرب للنساء فإن احتاج فلا يوالي بالضرب على موضع واحد من بدنها وليتّق الوجه لأنه مجمع المحاسن، ولا يبلغ بالضرب عشرة أسواط، وقيل ينبغي أن يكون الضرب بالمنديل واليد، ولا يضرب بالسوط والعصا (2).
وبالجملة فالتخفيف بأبلغ شيء أولى في هذا الباب، قيل حكم الآية مشروع على الترتيب وقيل هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز، وأما عند تحقق النشوز فلا بأس بالجمع بين الكل والأول أولى، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يسأل الرجل فيم ضرب امرأته أخرجه أبو داود (3).
_________
(1) ولطم رجل زوجته فاستعدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الخبر في الأصول كلها معزو لابن عباس، وقد بحثت في كتب " التفسير " فلم أجد أحداً عزاه إليه، ولا نقله عنه، وقد ذكره ابن جرير 7/ 291 عن الحسن، وابن جريج، والسدي، وفي " الدر المنثور " 2/ 151، واخرج ابن أبي حاتم من طريق أشعث بن عبد الملك، عن الحسن، وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير منها طريق قتادة عن الحسن. وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق جرير بن حازم، عن الحسن. وأخرج ابن مردويه عن علي قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) البخاري كتاب النكاح باب 93.
(3) وذكر ابن جرير 8/ 291 عن الحسن وابن جريج والسدي، وفي الدر المنثور 2/ 151 وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وابن المنذر وغيرهم .. عن علي أن رجلاً لطم زوجته لطمة فاستعدت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت هذه الآية (الرجال قوامون).
وروى الترمذي القرطبي 5/ 173.
ورواه أبو داود/التفاح/42.
(3/109)
 
 
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
(وإن خفتم شقاق بينهما) قد تقدم معنى الشقاق في البقرة وأصله أن كل واحد منهما يأخذ شقاً غير شق صاحبه أي ناحية غير ناحيته، وأضيف الشقاق إلى الظرف لإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى (بل مكر الليل والنهار) وقولهم يا سارق الليلة أهل الدار، والضمير في بينهما للزوجين لأنه قد تقدم ذكر ما يدل عليهما وهو ذكر الرجال والنساء.
(فابعثوا) إلى الزوجين برضاهما، قيل المخاطب بذلك الإمام أو نائبه لأن تنفيذ الأحكام الشرعية إليه. وقيل كل أحد من صالحي الأمة وقيل هو خطاب للزوجين (حكماً) رجلاً عدلاً (من أهله) أقاربه (وحكماً من أهلها) أي من يصلح للحكم بينهما، من يصلح لذلك عقل وديناً وانصافاً، وإنما نص الله سبحانه على أن الحكمين يكونان من أهل الزوجين لأنهما أقدر بمعرفة أحوالهما، فإذا لم يوجد الحكمان منهم كانا من غيرهم.
وهذا إذا أشكل أمرهما، ولم يتبين من هو المسيء منهما فأما إذا عرف المسيء فإنه يؤخذ لصاحبه الحق منه، والبعث واجب وكون الحكمين من أهلهما مندوب.
(إن يريدا إصلاحاً) أي الحكمان وقيل الزوجان والأول أولى، أي على الحكمين أن يسعيا في إصلاح ذات البين جهدهما، فإن قدرا على ذلك عملا عليه، وإن أعياهما إصلاح حالهما ورأيا التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون أمر من الحاكم في البلد ولا توكيل بالفرقة من الزوجين، وبه قال مالك والأوزاعي واسحق، وهو مروى عن عثمان وعلي وابن عباس والشعبي والنخعي
(3/110)
 
 
والشافعي، وحكاه ابن كثير عن الجمهور قالوا لأن الله تعالى قال (فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها) وهذا نص من الله سبحانه أنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان (1).
وقال الكوفيون وعطاء وابن زيد والحكم وهو أحد قولي الشافعي: إن التفريق هو إلى الإمام أو الحاكم في البلد لا إليهما ما لم يوكلهما الزوجان، أو يأمرهما الإمام أو الحاكم، لأنهما رسولان شاهدان، فليس إليهما التفريق، ويرشد إلى هذا قوله إن يريدا أي الحكمان إصلاحاً يوفق الله بينهما لاقتصاره على ذكر الإصلاح دون التفريق.
ومعنى إن يريدا إصلاحاً (يوفق الله بينهما) أي يوقع الألفة والموافقة بين الزوجين حتى يعودا إلى الألفة وحسن المعاشرة، ومعنى الإرادة خلوص نيتهما لصلاح الحال بين الزوجين.
وقيل إن الضمير في قوله بينهما للحكمين كما في قوله (إن يريدا إصلاحاً) أي يوفق بين الحكمين في اتحاد كلمتهما وحصول مقصودهما، وقيل كلا الضميرين للزوجين أي إن يريدا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله به بينهما الألفة والوفاق.
وإذا اختلف الحكمان لم ينفذ حكمهما ولا يلزم قبول قولهما بلا خلاف، وعن ابن عباس قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين فقيل لنا إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، والذي بعثهما عثمان.
(إن الله كان عليماً خبيراً) يعلم كيف يوفق بين المختلفين ويجمع بين المتفرقين، وفيه وعيد شديد للزوجين والحكمين إن سلكوا غير طريق الحق.
_________
(1) ابن كثير 1/ 493.
(3/111)
 
 
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (36)
(واعبدوا الله) يعني وحِّدوه وأطيعوه، وعبادة الله عبارة عن كل فعل يأتي به العبد لمجرد الله ويدخل فيه جميع أعمال القلوب وأفعال الجوارح (ولا تشركوا به) العطف للتأسيس و (شيئاً) إما مفعول به أي شيئاً من الأشياء من غير فرق بين حي وميت وجماد وحيوان، وإما مصدر أي شيئاً من الإشراك من غير فرق بين الشرك الأكبر والأصغر، والواضح والخفي.
(و) أحسنوا (بالوالدين إحساناً) برّاً ولين جانب، وقد دل ذكر الإحسان إليهما بعد الأمر بعبادة الله والنهي عن الإشراك به على عظم حقهما، ومثله (أن اشكر لي ولوالديك) فأمر سبحانه بأن يشكرا معه وهو أن يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما ويسعى في تحصيل مرادهما والإنفاق عليهما بقدر القدرة، وقد وردت أحاديث كثيرة في حقوقهما وهي معروفة.
(وبذي القربى) أي صاحب القرابة وهو من يصح إطلاق اسم القربى عليه وإن كان بعيداً، وقيل ذو رحمة من قبل أمه وأبيه، وعن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " من سرّه أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه " أخرجه البخاري ومسلم (1)، وقد تقدم نظيره في البقرة إلا أنه هنا قال بإعادة الباء وذلك لأنها في حق هذه الأمة فالاعتناء بها أكثر، وإعادة
_________
(1) مسلم 2557 - البخاري 1044.
(3/112)
 
 
الباء تدل على زيادة التأكيد فناسب ذلك هنا بخلاف آية البقرة فإنها في حق بني إسرائيل.
(واليتامى والمساكين) وقد تقدم تفسيرهم، والمعنى وأحسنوا إليهم إلى آخر ما هو مذكور في هذه الآية، إنما أمر بالإحسان إليهم لأن اليتيم مخصوص بنوعين من العجز: الصغر وعدم المشفق، والمسكين هو الذي ركبه ذل الفاقة والفقر فتمسكن لذلك.
وعن سهل بن سعد قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبّابة والوسطى، وفرج بينهما شيئاً " أخرجه البخاري (1).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال: وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم لا يفطر " أخرجه الشيخان (2).
(والجار ذي القربى) أي القريب منك جواره وقيل هو من له مع الجوار في الدار قُرْب في النسب أو الدين (والجار الجنب) يستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع مذكراً كان أو مؤنثاً، قاله السمين أي المجانب وهو مقابل للجار ذي القربى والمراد من يصدق عليه مسمى الجوار مع كون داره بعيدة.
وفي ذلك دليل على تعميم الجيران بالإحسان إليهم سواء كانت الديار متقاربة أو متباعدة، وعلى أن الجوار حرمة مرعية مأمور بها.
وفيه ردٌّ على من يظن أن الجار مختص بالملاصق دون من بينه وبينه حائل، أو مختص بالقريب دون البعيد.
_________
(1) البخاري، كتاب الطلاق باب 25.
(2) مسلم 2982 البخاري 2170.
(3/113)
 
 
وقيل المراد بالجار الجنب هنا هو الغريب، وقيل هو الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبين المجاور له، وقرىء الجنب بفتح الجيم وسكون النون أي ذي الجنب وهو الناحية، وقيل المراد بالجار ذي القربى المسلم، وبالجار الجنب اليهودي والنصراني.
وقد اختلف أهل العلم في المقدار الذي عليه يصدق مسمى الجوار ويثبت لصاحبه الحق فروي عن الأوزاعي والحسن أنه إلى حدّ أربعين داراً من كل ناحية وروي عن الزهري نحوه، وقيل من سمع إقامة الصلاة، وقيل إذا جمعتهما محلة وقيل من سمع النداء.
والأولى أن يرجع في معنى الجار إلى الشرع فإن وجد فيه ما يقتضي بيانه وأنه يكون جار إلى حد كذا من الدور أو من مسافة الأرض، كان العمل عليه متعيناً، وإن لم يوجد رجع إلى معناه لغة أو عرفاً، ولم يأت في الشرع ما يفيد أن الجار هو الذي بينه وبين جاره مقدار كذا، ولا ورد في لغة العرب أيضاً ما يفيد ذلك، بل المراد بالجار في اللغة المجاور ويطلق على معان.
قال في القاموس: الجار المجاور، والذي أجرته من أن يظلم، والمجير والمستجير والشريك في التجارة وزوج المرأة وهي جارته، وفرج المرأة وما قرب من المنازل والاست كالجارة والقاسم والحليف والناصر انتهى.
قال القرطبي في تفسيره: وروى أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني نزلت محلة قوم وإن أقربهم إلي جواراً أشدهم لي أذى فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر وعمر وعلياً يصيحون على أبواب المساجد ألا إن أربعين داراً جار، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه أهـ.
(3/114)
 
 
قال الشوكاني: ولو ثبت هذا لكان مغنياً عن غيره، ولكنه رواه كما ترى من غير عزو له إلى أحد كتب الحديث المعروفة، وهو وإن كان إماماً في علم الرواية فلا تقوم الحجة بما يرويه بغير سند مذكور، ولا نقل عن كتاب مشهور، ولا سيما وهو يذكر الواهيات كثيراً كما يفعل في تذكرته انتهى.
أقول هذا الحديث بلفظه أخرجه الطبراني كما ذكر في الترغيب والترهيب وروى السيوطي في الجامع الصغير " الجوار أربعون داراً " أخرجه البيهقي عن عائشة. قال المناوي في شرحه: وروي عن عائشة أوصاني جبريل بالجار إلى أربعين داراً، وكلاهما ضعيف (1)، والمعروف المرسل الذي أخرجه أبو داود، وهكذا نقل عن السيوطي ثم قال:
ولفظ مرسل أبي داود حق الجوار أربعون داراً هكذا وهكذا، وأشار قداماً ويميناً وخلفاً. قال الزركشي: سنده صحيح. قال ابن حجر: رجاله ثقات، ورواه أبو يعلى عن أبي هريرة مرفوعاً باللفظ المذكور ولكن سنده كما قال الزركشي ضعيف، قال ابن حجر: فيه عبد السلام بن أبي الحبوب منكر الحديث انتهى.
فهذا يؤيد أصل ما نقله القرطبى والله أعلم.
وقد ورد في القرآن ما يدل على أن المساكنة في مدينة مجاورة، قال الله تعالى (لئن لم ينته المنافقون إلى قوله ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً) فجعل اجتماعهم في المدينة جواراً، وأما الأعراف في مسمى الجوار فهي تختلف باختلاف أهلها، ولا يصح حمل القرآن على أعراف متعارفة واصطلاحات متواضعة.
_________
(1) ولعل الحديث المروي عن أبي ذر قال: قال رسول الله،- صلى الله عليه وسلم -: " يا أبا ذر إذا طبخت مرقة، فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك " رواه مسلم 4/ 2052.
(3/115)
 
 
(والصاحب بالجنب) الباء بمعنى (في) أو على بابها وهو الأولى ومعناه الملابسة أي حال كونه ملتبساً بالجنب أي بالقرب بجنبه، قيل هو الرفيق في السفر قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك، وقال علي ابن أبي طالب وابن مسعود وابن أبي ليلى هو الزوجة والمرأة، وقال ابن جريج: هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك.
وقال زيد ابن أسلم: هو جليسك في الحضر، ورفيقك في السفر وامرأتك التي تضاجعك، ولا يبعد أن تتناول الآية جميع ما في هذه الأقوال مع زيادة عليها وهو كل من صدق عليه أنه صاحب بالجنب أي بجنبك كمن يقف بجنبك في تحصيل علم أو تعلّم صناعة أو مباشرة تجارة أو نحو ذلك، فإنه صحبك وحصل بجنبك، ومنهم من قعد في مسجد أو مجلس أو غير ذلك مع أدق صحبة بينك وبينه.
(وابن السبيل) قال مجاهد: هو الذي يجتاز بك ماراً، والسبيل الطريق فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه، فالأولى تفسيره بمن هو على سفر، فإن على القيم أن يحسن إليه، وقيل هو المنقطع به في سفره للحج أو للغزو أو مطلقاً، والأظهر أن يقول المسافر من غير قيد الانقطاع، وقيل هو الضيف قاله القارىء، وقد وردت أحاديث صحيحة في إكرام الضيف وجائزته ثلاثة أيام في الصحيحين وغيرهما.
(و) أحسنوا إلى (ما ملكت أيمانكم) من الأرقاء إحساناً، وهم العبيد والإماء، وقيل أعم فيشمل الحيوانات وهي غير الأرقاء أكثر في يد الإنسان منهم فغلب جانب الكثرة، وأمر الله بالإحسان إلى كل مملوك آدمي وغيره قاله القارىء، والأول أولى.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم يطعمون مما يطعم
(3/116)
 
 
مالكهم، ويلبسون مما يلبس قال مجاهد: فما خوّلك الله فأحسن صحبته، كل هذا أوصى الله به، وعن مقاتل نحوه.
والإحسان إليهم أن لا يكلفهم ما لا يطيقونه ولا يؤذيهم بالكلام الخشن، وأن يعطيهم من الطعام الكسوة ما يحتاجون إليه بقدر الكفاية، وعن علي بن أبي طالب قال: كان آخر كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الصلاة واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم " (1) وقد ورد مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بر الوالدين وفي صلة القرابة وفي الإحسان إلى اليتامى والجار، وفي القيام بما يحتاج إليه المماليك أحاديث كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة لا حاجة بنا إلى بسطها هنا.
وقوله (إن الله) علة لمحذوف تقديره ولا تفتخروا عليهم لأن الله (لا يحب من كان مختالاً) ذا الخيلاء وهو الكبر والتيه اسم فاعل من اختال يختال أي تكبر وأعجب بنفسه أي لا يحب من كان متكبراً تائها على الناس (فخوراً) مفتخراً عليهم، والفخر المدح للنفس والتطاول وتعديد المناقب والمحاسن.
وخص هاتين الصفتين لأنهما يحملان صاحبهما على الأنفة مما ندب الله إليه في هذه الآية يعني يأنف من أقاربه الفقراء ومن جيرانه الضعفاء وغيرهم، ولا يلتفت إليهم، ومن كان متكبراً لا يقوم بحقوق الناس، وقد ورد في ذم الاختيال والكبر والفخر ما هو معروف.
_________
(1) روى مسلم عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " للعبد المملوك المصلح أجران " والذي نفسُ أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك.
وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين ".
(3/117)
 
 
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
(الذين يبخلون) البخل المذموم في الشرع هو الامتناع من أداء ما أوجب الله، وهؤلاء المذكورون في هذه الآية ضموا إلى ما وقعوا فيه من البخل الذي هو أشر خصال الشر، ما هو أقبح منه وأدل على سقوط نفس فاعله وبلوغه في الرذالة إلى غايتها (و) هو أنهم مع بخلهم بأموالهم وبما منحوا به وكتمهم لما أنعم الله به عليهم من فضله (يأمرون الناس بالبخل) كأنهم يجدون في صدورهم من جود غيرهم بماله حرجاً ومضاضة، فلا كثر الله في عباده من أمثالكم.
هذه أموالكم قد بخلتم بها لكونكم تظنون انتقاصها بإخراج بعضها في مواضعه فما بالكم بخلتم بأموال غيركم مع أنه لا يلحقكم في ذلك ضرر، وهل هذا إلا غاية اللؤم ونهاية الحمق والرقاعة وقبح الطباع وسوء الأختيار، وقد قيل إن المراد بهذه الآية اليهود فإنهم جمعوا بين الإختيال والفخر والبخل بالمال، وكتمان ما أنزل الله في التوراة، وفي البخل أربع لغات فتح الباء والخاء وضمهما وفتح الباء مع سكون الخاء وضم الباء مع سكون الخاء وقرىء بها جميعاً، وقرأ الجمهور بالأخيرة.
(ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) من صفة محمد أو من العلم أو الغنى، قيل المراد بها المنافقون ولا يخفى أن اللفظ أوسع من ذلك وأكثر شمولاً وأعم فائدة (وأعتدنا للكافرين) يعني الجاحدين لنعمة الله عليهم (عذاباً مهيناً) في الآخرة، وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق " أخرجه الترمذي واستغربه.
(3/118)
 
 
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
(والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) عطف على قوله (الذين يبخلون) ووجه ذلك أن الأولين قد فرطوا بالبخل وبأمر الناس به وبكتم ما آتاهم الله من فضله، وهؤلاء أفرطوا ببذل أموالهم في غير مواضعها لمجرد الرياء والسمعة، وليقال ما أسخاهم وما أجودهم كما يفعله من يريد أن يتسامع الناس بأنه كريم، ويتطاول على غيره بذلك ويشمخ بأنفه عليه، مع ما ضم إلى هذا الإنفاق الذي يعود عليه بالضرر من عدم الإيمان بالله واليوم الآخر أي لا يصدقون بتوحيد الله ولا بالمعاد الذي فيه جزاء الأعمال أنه كائن.
وكررت لا وكذلك الباء إشعاراً بأن الإيمان بكل منهما منتف على حد، قيل نزلت في اليهود، وقيل في المنافقين، وقيل في مشركي مكة.
(ومن يكن الشيطان له قريناً) في الكلام إضمار والتقدير ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فقرينهم الشيطان، ومن يكن الخ، والقرين المقارن وهو الصاحب والخليل فعيل بمعنى مفاعل كالخليط والجليس، والقرين الحبل لأنه يقرن به بين البعيرين، والمعنى من قبل من الشيطان في الدنيا فقد قارنه فيها أو فهو قرينه في النار (فساء) الشيطان (قريناً) وبئس الصاحب وبئس الخليل هو.
وفيه تقريع لهم على طاعة الشيطان، وقيل هذا في الآخرة يجعل الله الشياطين قرناءهم في النار يقرن مع كل كافر شيطان في سلسلة من النار، والأول أولى وألصق بظاهر الآية.
(3/119)
 
 
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
(3/120)
 
 
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
(وماذا عليهم) أي على هذه الطوائف (لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله) ابتغاء لوجهه وامتثالاً لأمره، أي وماذا يكون عليهم من ضرر ووبال لو فعلوا ذلك (وكان الله بهم عليماً) فيه وعيد لهم وتهديد وتوبيخ على الجهل بمكان المنفعة.
(3/120)
 
 
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
(إنّ الله لا يظلم مثقال) مفعال من الثقل كالمقدار من القدر أي لا يظلم شيئاً مقدار (ذرة) واحدة الذرّ وهي النمل الصغار، وقيل رأس النملة، وقيل الخردلة، وقيل كل جزء من أجزاء الهباء الذي يظهر فيما يدخل من الشمس من كوّة أو غيرها ذرة، والأول هو المعنى اللغوي الذي يجب حمل القرآن عليه.
والمراد من هذا الكلام أن الله لا يظلم كثيراً ولا قليلاً أي لا يبخسهم من ثواب أعمالهم ولا يزيد في عقاب ذنوبهم وزن ذرة فضلاً عما فوقها، ومناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة.
(وإن تك حسنة) قرأ أهل الحجاز بالرفع أي أن توجد حسنة على أن كان هي التامة لا الناقصة، وقرأ من عداهم بالنصب أي إن تك فعلته حسنة وحذفت منه النون من غير قياس تشبيهاً بحرف العلة وتخفيفاً لكثرة الاستعمال.
(3/120)
 
 
وقال الزجاج: الأصل في (تك) تكون فسقطت الضمة للجزم والواو لسكونها وسكون النون، وسقوط النون لكثرة الاستعمال تشبيهاً بحروف اللين لأنها ساكنة فحذفت استخفافاً، وقيل إن التقدير إن يك مثقال الذرة حسنة (يضاعفها) أنث ضمير المثقال لكونه مضافاً إلى المؤنث، والأول أولى.
وقرأ الحسن (نضاعفها) بالنون والباقون بالياء وهي الأرجح، وقد تقدم الكلام في المضاعفة والمراد مضاعفة ثواب الحسنة لأن مضاعفة نفس الحسنة بأن تجعل الصلاة الواحدة صلاتين مما لا يعقل.
عن سعيد بن جبير: وإن يك حسنة وزن ذرة زادت على سيآته يضاعفها، فأما المشرك فيخفف بها عنه العذاب ولا يخرج من النار أبداً، قال قتادة: لأن تفضل حسناتي على سيآتي بمثقال ذرة أحب إلي من الدنيا وما فيها، وفي الباب أحاديث يطول ذكرها وهذا عند الحساب.
(ويؤت) أي يعط صاحبها (من لدنه) أي من عقده على نهج التفضل زائداً على ما وعده في مقابلة العمل (أجراً عظيماً) يعني الجنة، قال أبو هريرة: إذا قال الله أجراً عظيماً فمن يقدر قدره.
(3/121)
 
 
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
(فكيف) يكون حال هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين أو حال كفار قريش خاصة يوم القيامة؛ هذا الاستفهام معناه التوبيخ والتقريع (إذا جئنا من كل أمة بشهيد) قال ابن عباس: إنه يؤتى بنبي كل أمة يشهد عليها ولها (وجئنا بك على هؤلاء) أي الأنبياء أو جميع الأمم أو المنافقين أو المشركين، وقيل على المؤمنين (شهيداً).
عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اقرأ عليّ القرآن قلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم إني أحب
(3/121)
 
 
أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) قال حسبك الآن، فإذا عيناه تذرفان، أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري وأخرجه الحاكم وصحّحه من حديث عمرو بن حريث (1).
_________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده 3550 والبخاري 9/ 81 عن عبد الله بن مسعود. وفي رواية رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل وهذا لفظ مسلم 1/ 551 والمستدرك 3/ 319.
(3/122)
 
 
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
(يومئذ يودّ الذين كفروا وعصوا الرسول) فيما أمرهم به من التوحيد (لو تسوّى بهم الأرض) وقرىء تسوى بفتح التاء وتشديد السين وبفتحها وتخفيف السين أي أن الأرض هي التي تسوى بهم أي أنهم تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها، وقيل بهم بمعنى عليهم، وعلى القراءة الأولى أي بالبناء للمفعول معناه لو سوى الله بهم الأرض فيجعلهم والأرض سواء حتى لا يبعثوا.
(ولا يكتمون الله حديثاً) أي أنهم لا يقدرون على الكتم في مواطن دون مواطن، قال ابن عباس لا يكتمون أي بجوارحهم ولا يقدرون على ذلك يعني تشهد عليهم الجوارح والأعضاء والزمان والمكان فلم يستطيعوا الكتمان، قال الزجاج: هذا كلام مستأنف لأن ما عملوه ظاهر عقد الله لا يقدرون على كتمانه، وقال بعضهم: المعنى يودون أن الأرض سوّيت بهم وأنهم لم يكتموا حديثاً لأنه ظهر كذبهم.
(3/122)
 
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
(يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) جعل الخطاب خاصاً بالمؤمنين لأنهم الذين كانوا يقربون الصلاة حال السكر، وأما الكفار فهم لا يقربونها سكارى ولا غير سكارى، قال أهل اللغة: إذا قيل لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تتلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن منه.
والمراد هنا النهي عن التلبس بالصلاة وغشيانها، وبه قال جماعة من المفسرين، وإليه ذهب أبو حنيفة، وقال آخرون المراد مواضع الصلاة وبه قال الشافعي، وعلى هذا فلا بد من تقدير مضاف، ويقوّي هذا قوله (ولا جنباً إلا عابري سبيل).
وقالت طائفة: المراد الصلاة ومواضعها معاً لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين، فكانا متلازمين، وسكارى جمع سكران مثل كسالى جمع كسلان، وقرىء سكرى بالفتح وهو تكسير سكران، وقرأ الأعمش: سكرى كحبلى.
والسكر لغة السدّ، ومنه قيل لما يعرض للمرء من شرب المسكر لأنه يسد ما بين المرء وعقله وأكثر ما يقال السكر لإزالة العقل بالمسكر، وقد يقال ذلك لإزالته بغضب ونحوه من عشق وغيره، والسكر بالفتح وسكون الكاف حبس الماء وبالكسر نفس الموضع المسدود، وأما السكر بفتحهما فما يسكر به من
(3/123)
 
 
المشروب، ومنه (سكراً ورزقاً حسناً) وقد ذهب العلماء كافة إلى أن المراد بالسكر هنا سكر الخمر إلا الضحاك فإنه قال سكر النوم، وقال ابن عباس: النعاس، وسيأتي بيان سبب نزول الآية وبه يندفع ما يخالف الصواب من هذه الأقوال.
(حتى تعلموا ما تقولون) هذا غاية النهي عن قربان الصلاة في حال السكر أي حتى يزول عنكم أثر السكر وتعلموا ما تقولونه وتصحوا وتفيقوا من السكر. فإن السكران لا يعلم ما يقوله.
وقد تمسك بهذا من قال إن طلاق السكران لا يقع، لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد، وبه قال عثمان بن عفان وابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة وهو قول الليث بن سعد وإسحق وأبي ثور والمزني واختاره الطحاوي وقال: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز والسكران معتوه كالموسوس.
وأجازت طائفة وقوع طلاقه وهو محكي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي. واختلف قول الشافعي في ذلك. وقال مالك: يلزمه الطلاق والقود في الجراح والقتل ولا يلزمه النكاح والبيع.
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسّنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والضياء في المختارة عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا وحضرت الصالاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله هذه الآية، وأخرج ابن جرير وابن المنذر أن الذي صلّى بهم عبد الرحمن. وروى بألفاظ من طرق (1).
_________
(1) أخرجه أبو داود 3/ 445 والترمذي 2/ 128 وابن جرير 8/ 376 والإمام أحمد 1/ 379.
(3/124)
 
 
(ولا جنباً إلا عابري سبيل) الجنب لا يؤنّث ولا يثنّى ولا يجمع لأنه ملحق بالمصدر كالبعد والقرب، قال الفراء: جنب الرجل وأجنب من الجنابة وهو المشهور في اللغة والفصيح وبه جاء القرآن، وقيل يجمع الجنب في لغة على أجناب مثل عنق وأعناق وطنب وأطناب.
والمعنى جنباً بإيلاج وإنزال ونصبه على الحال، والاستثناء مفرغ أي لا تقربوها في حال من الأحوال إلا في حال عبور السبيل، والمراد به هنا السفر، فإنه يجوز لكم أن تصلوا بالتيمم. وهذا قول علي وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم قالوا: لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال إلا المسافر فإنه يتيمّم، لأن الماء قد يعدم في السفر لا في الحضر، فإن الغالب أنه لا يعدم.
وقال ابن مسعود وعكرمة، والنخعي وعمرو بن دينار ومالك والشافعي: " عابر السبيل " هو المجتاز في المسجد وهو مروي عن ابن عباس، فيكون معنى الآية على هذا لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب.
وفي القول الأول قوة من جهة كون الصلاة فيه باقية على معناها الحقيقي، وضعف من جهة ما في حمل عابر السبيل على المسافر، وأن معناه أنه يقرب الصلاة عند عدم الماء بالتيمم، فإن هذا الحكم يكون في الحاضر إذا عدم الماء كما يكون في المسافر.
وفي القول الثاني قوة من جهة عدم التكلف في معنى قوله (إلا عابري سبيل) وضعف من جهة حمل الصلاة على مواضعها.
وبالجملة فالحال الأولى أعني قوله (وأنتم سكارى) تقوي بقاء الصلاة
(3/125)
 
 
على معناها الحقيقي من دون تقدير مضاف؛ وسبب نزول الآية كما سبق يقوّي ذلك، وقوله (إلا عابري سبيل) يقوي تقدير المضاف أي لا تقربوا مواضع الصلاة.
ويمكن أن يقال إن بعض