زاد المسير في علم التفسير 004

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: زاد المسير في علم التفسير
المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)
 
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
اعرضوا عليه صِغار ذنوبه، فتُعْرَض عليه صِغار ذنوبه، وتنحّى عنه كبارها، فيقال: عملتَ يوم كذا، كذا وكذا، وهو مُقِرّ لا يُنْكِر، وهو مُشْفِق من الكبار، فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة» ، أخرجه مسلم في «صحيحه» .
 
[سورة الفرقان (25) : الآيات 71 الى 74]
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74)
قوله تعالى: وَمَنْ تابَ ظاهر هذه التوبة أنها عن الذنوب المذكورة. وقال ابن عباس: يعني:
ممن لم يَقْتُل ولم يزن، وَعَمِلَ صالِحاً فانّي قد قدَّمتُهم وفضَّلتُهم على من قاتل نبيّي واستحلَّ محارمي.
قوله تعالى: فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً قال ابن الأنباري: معناه: من أراد التوبة وقصد حقيقتها، فينبغي له أن يُريد اللهَ بها ولا يخلط بها ما يُفسدها وهذا كما يقول الرجل: من تجر فانه يتّجر في البزّ، ومن ناظر فانه يناظر في النحو، أي: من أراد ذلك، فينبغي أن يقصد هذا الفن قال: ويجوز أن يكون معنى هذه الآية: ومن تاب وعمل صالحاً، فان ثوابه وجزاءه يعظُمان له عند ربِّه الذي أراد بتوبته، فلما كان قوله: فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً يؤدِّي عن هذا المعنى، كفى منه، وهذا كما يقول الرجل للرجل:
إِذا تكلَّمتَ فاعلم أنك تكلِّم الوزير، أي تكلِّم من يَعرف كلامك ويجازيك، ومثله قوله تعالى: إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ، أي: فاني أتوكَّل على من ينصرني ولا يُسْلِمني. وقال قوم: معنى الآية: فانه يرجع إِلى الله مرجعاً يقبله منه.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ فيه ثمانية أقوال «1» : أحدها: أنه الصَّنم، روى الضحاك عن ابن عباس ان الزُّور صنم كان للمشركين. والثاني: أنه الغناء، قاله محمّد ابن الحنفية، ومكحول وروى ليث عن مجاهد قال: لا يسمعون الغناء. والثالث: الشِّرك، قاله الضحاك، وأبو مالك. والرابع:
لعب كان لهم في الجاهلية، قاله عكرمة. والخامس: الكذب، قاله قتادة، وابن جريج. والسادس: شهادة الزور، قاله عليّ بن أبي طلحة. والسابع: أعياد المشركين، قاله الرّبيع بن أنس. والثامن: أنه الخنا، قاله عمرو بن قيس. وفي المراد باللّغو ها هنا خمسة أقوال «2» : أحدها: المعاصي، قاله الحسن. والثاني: أذى المشركين إِياهم، قاله مجاهد. والثالث: الباطل، قاله قتادة. والرابع: الشِّرك، قاله الضحاك. والخامس:
إِذا ذكروا النكاح كنوا عنه، قاله مجاهد. وقال محمد بن علي: إِذا ذكروا الفروج كنّوا عنها.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 9/ 421: وأصل الزور تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه، أنه خلاف ما هو به، والشرك قد يدخل بذلك لأنه محسن لأهله، حتى ظنوا أنه حق، وهو باطل، ويدخل فيه الغناء، لأنه أيضا مما يعنيه ترجيع الصوت حتى يستحلي سامعه سماعه، والكذب أيضا قد يدخل فيه، لتحسين صاحبه أنه حق، فكل ذلك مما يدخل في معنى الزور فالتأويل: الذين لا يشهدون شيئا من الباطل، وكل ما لزمه اسم الزور.
(2) قال الطبري رحمه الله 9/ 422: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء المؤمنين الذين مدحهم بأنهم إذا مروا باللغو مرّوا كراما، واللغو في كلام العرب هو كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له ولا أصل، أو ما يستقبح، وكل ما يدخل في معنى اللغو، فلا وجه إذ كان كل ذلك يلزمه اسم اللغو، أن يقال: عني به بعض ذلك دون بعض.
(3/331)
 
 
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
قوله تعالى: مَرُّوا كِراماً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: مَرُّوا حُلَماء، قاله ابن السائب. والثاني:
مَرُّوا مُعْرِضِين عنه، قاله مقاتل. والثالث: أن المعنى إِذا مَرُّوا باللغو جاوزوه، قاله الفراء. قوله تعالى:
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا أي: وُعِظوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وهي القرآن لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً قال ابن قتيبة: لم يتغافلوا عنها فكأنّهم صُمٌّ لم يسمعوها، عميٌ لم يَرَوها. وقال غيره من أهل اللغة: لم يثبتوا على حالتهم الأولى كأنهم لم يسمعوا ولم يَرَوا، وإِن لم يكونوا خَرُّوا حقيقة تقول العرب:
شتمت فلاناً فقام يبكي، وقعد يندب، وأقبل يعتذر، وظلَّ يتحيَّر، وإِن لم يكن قام ولا قعد. قوله تعالى: هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «وذُرِّيَّاتِنَا» على الجمع. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم: «وذُرِّيَّتِنَا» على التوحيد، قُرَّةَ أَعْيُنٍ وقرأ ابن مسعود، وأبو حيوة: «قُرَّاتَ أَعْيُنٍ» يعنون: من يعمل بطاعتك فتقرّ به أعيننا في الدنيا والآخرة. وسئل الحسن عن قوله: «قُرَّةَ أعين» في الدنيا، أم في الآخرة؟ قال: لا، بل في الدنيا، وأيُّ شيء أقَرُّ لعين المؤمن من أن يرى زوجته وولده يُطيعون الله، والله ما طلب القوم إِلا أن يُطاع الله فتَقَرّ أعينهم. قال الفراء: إِنما قال: «قُرَّةَ» لأنها فعل، والفعل لا يكاد يُجمع، ألا ترى إِلى قوله: وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً «1» فلم يجمعه والقُرَّة مصدر، تقول: قَرَّت عينه قُرَّة، ولو قيل: قُرَّة عين أو قُرَّات أعين كان صواباً. وقال غيره: أصل القُرَّة من البَرْد، لأن العرب تتأذى بالحَرِّ، وتستروح إِلى البَرْد.
قوله تعالى: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً فيه قولان: أحدهما: اجعلنا أئمة يُقتدى بنا، قاله ابن عباس. وقال غيره: هذا من الواحد الذي يراد به الجمع، كقوله: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
«2» ، وقوله:
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي «3» . والثاني: اجعلنا مؤتمِّين بالمُتَّقِين مقتدين بهم، قاله مجاهد فعلى هذا يكون الكلام من المقلوب، فالمعنى: واجعل المتّقين لنا إماما.
 
[سورة الفرقان (25) : الآيات 75 الى 77]
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)
قوله تعالى: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ قال ابن عباس: يعني الجنة. وقال غيره: الغرفة: كل بناءٍ عالٍ مرتفع، والمراد غرف الجنة، وهي من الزَّبَرجد والدُّرّ والياقوت، بِما صَبَرُوا على دينهم وعلى أذى المشركين. قوله تعالى: وَيُلَقَّوْنَ فِيها قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم: «ويُلَقَّوْنَ» بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف. وقرأ أبن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «ويَلْقَوْنَ» بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، تَحِيَّةً وَسَلاماً قال ابن عباس: يُحيِّي بعضُهم بعضاً بالسلام، ويرسل إليهم الرّبّ عزّ وجلّ بالسلام. وقال مقاتل: «تحيةً» يعني السلام، «وسلاماً» أي: سلَّم الله لهم أمرهم وتجاوز عنهم. قوله تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي فيه ثلاثة أقوال:
__________
(1) الفرقان: 44.
(2) الشعراء: 16.
(3) الشعراء: 77.
(3/332)
 
 
أحدها: ما يصنع بكم! قاله ابن عباس. والثاني: أيّ وزن يكون لكم عنده تقول: ما عبأتُ بفلان، أي: ما كان له عندي وزن ولا قَدْر، قاله الزجاج. والثالث: ما يعبأ بعذابكم، قاله ابن قتيبة. وفي قوله تعالى: لَوْلا دُعاؤُكُمْ أربعة أقوال: أحدها: لولا إِيمانكم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: لولا عبادتكم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: لولا دعاؤه إِيّاكم لِتعبُدوه، قاله مجاهد والمراد نفع الخَلْق، لأن الله تعالى غير محتاج. والرابع: لولا توحيدكم، حكاه الزجاج. وعلى قول الأكثرين ليس في الآية إِضمار وقال ابن قتيبة: فيها إِضمار تقديره: ما يعبأ بعذابكم لولا ما تَدْعونه من الشريك والولد، ويوضح ذلك قوله تعالى: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً يعني: العذاب، ومثله قول الشاعر:
مَنْ شَاءَ دَلَّى النَّفْسَ في هُوَّةٍ ... ضَنْكٍ ولكِنْ مَنْ لَهُ بالمَضِيقْ
أي: بالخروج من المضيق. وهل هذا خطاب للمؤمنين، أو للكفار؟ فيه قولان. فأما قوله تعالى:
فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فهو خطاب لأهل مكة حين كذَّبوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فَسَوْفَ يَكُونُ يعني: تكذيبكم لِزاماً أي: عذاباً لازماً لكم وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قتلهم يوم بدر، فقُتلوا يومئذ، واتصل بهم عذاب الآخرة لازماً لهم، وهذا مذهب ابن مسعود، وأُبيِّ بن كعب، ومجاهد في آخرين. والثاني:
أنه الموت، قاله ابن عباس. والثالث: أنّ اللّزام: القتال، قاله ابن زيد. والله أعلم بالصّواب.
(3/333)
 
 
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
سورة الشّعراء
وهي مكّيّة كلّها، إلّا أربع آيات منها نزلت بالمدينة، من قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) إلى آخرها، قاله ابن عباس، وقتادة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
قوله تعالى: طسم قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «طسم» بفتح الطاء وإِدغام النون من هجاء «سين» عند الميم. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبان، والمفضل: «طسم» و «طس» «1» بامالة الطاء فيهما. وأظهر النون من هجاء «سين» عند الميم حمزة ها هنا وفي «القصص» .
وفي معنى «طسم» أربعة أقوال «2» :
أحدها: أنها حروف من كلمات، ثم فيها ثلاثة أقوال:
(1059) أحدها: رواه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت «طسم» قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الطاء: طور سيناء، والسين: الاسكندرية، والميم: «مكة» . والثاني: أن الطاء: طَيْبَة، وسين: بيت المقدس، وميم: مكة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: الطاء: شجرة طوبى، والسين: سدرة المنتهى، والميم: محمّد صلى الله عليه وسلّم، قاله جعفر الصادق.
والثاني: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله تعالى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقد بيَّنَّا كيف يكون مثل هذا من أسماء الله تعالى في فاتحة (مريم) . وقال القرظيّ: أقسم الله بطوله وسنائه
__________
لا أصل له في المرفوع، ولم يذكره سوى المصنف، وهو من بدع التأويل، ولو صح مثل هذا ما اختلف المفسّرون في تأويل الحروف في أوائل السور.
__________
(1) النمل: 1.
(2) تقدم في سورة البقرة أن الراجح في ذلك كله هو أن نكل علم ذلك إلى الله تعالى، فهو أعلم بمراده.
(3/334)
 
 
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
ومُلكه. والثالث: انه اسم للسُّورة، قاله مجاهد. والرابع: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة، وأبو روق. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «1» إِلى قوله: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ والمعنى: لعلّك قاتل نفسك لتركهم الإِيمان.
ثم أخبر أنه لو أراد أن يُنزل عليهم ما يضطرهم إِلى الإِيمان لفعل، فقال: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ وقرأ أبو زرين، وأبو المتوكل: «إِن يَشَأْ يُنَزِّلْ» بالياء فيهما، عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ جعل الفعل أولاً للأعناق، ثم جعل «خاضعين» للرجال، لأن الأعناق إِذا خضعت فأربابها خاضعون. وقيل:
لمّا وصف الأعناق بالخضوع، وهو من صفات بني آدم، أخرج الفعل مخرج الآدميّين كما بيّنّا في قوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «2» ، وهذا اختيار أبي عبيدة. وقال الزجاج: قوله: «فظلَّت» معناه: فتَظَلُّ، لأن الجزاء يقع فيه لفظ الماضي في معنى المستقبل، كقولك: إِن تأْتني أكرمتُكَ، معناه:
أُكْرِمْكَ وإِنما قال: «خاضعِين» لأن خضوع الأعناق هو خضوع أصحابها، وذلك أن الخضوع لمَّا لم يكن إِلا بخضوع الأعناق، جاز أن يخبر عن المضاف إِليه، كما قال الشاعر:
رَأتْ مَرَّ السّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي ... كمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الهِلالِ «3»
فلما كانت السّنون لا تكون إِلا بمَرٍّ، أخبر عن السنين، وإِن كان أضاف إِليها المرور. قال: وجاء في التفسير أنه يعني بالأعناق كبراءَهم ورؤساءَهم. وجاء في اللغة أن أعناقهم جماعاتهم يقال: جاءني عُنُق من الناس، أي: جماعة. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «4» إلى قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ يعني المكذِّبين بالبعث كَمْ أَنْبَتْنا فِيها بعد أن لم يكن بها نبات مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ قال ابن قتيبة: من كل جنس حسن. وقال الزجاج: الزوج: النوع، والكريم: المحمود.
قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ الإِنبات لَآيَةً تدل على وحدانية الله وقُدرته وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي: ما كان أكثرهم يؤمِن في عِلْم الله، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ المنتقِم من أعدائه الرَّحِيمُ بأوليائه.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 22]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)
قوله تعالى: وَإِذْ نادى المعنى: واتل هذه القصة على قومك. قوله تعالى: أَنْ يُكَذِّبُونِ ياء
__________
(1) المائدة: 15، والكهف: 6. [.....]
(2) يوسف: 4.
(3) البيت لجرير، كما في ديوانه 426 و «اللسان» - خضع- و «تفسير القرطبي» 13/ 87.
(4) الأنبياء: 2.
(3/335)
 
 
«يكذّبون» محذوفة، ومثلها أَنْ يَقْتُلُونِ «1» «سيهدين» «2» «فهو يهدين» «3» «ويسقين» «4» «فهو يشفين» «5» «ثم يحيين» «6» «كذّبون» «7» «وأطيعون» «8» فهذه ثماني آيات أثبتهن في الحالين يعقوب.
قوله تعالى: وَيَضِيقُ صَدْرِي أي: بتكذيبهم إِيّاي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي للعُقدة التي كانت بلسانه.
وقرأ يعقوب: «ويَضيقَ» «ولا يَنطلقَ» بنصب القاف فيهما، فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ المعنى: ليُعينني، فحُذف، لأن في الكلام دليلاً عليه. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ وهو القتيل الذي وكزه فقضى عليه والمعنى:
ولهم عليَّ دعوى ذَنْب فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ به قالَ كَلَّا وهو ردع وزجر عن الإِقامة على هذا الظن والمعنى: لن يقتلوك لأنّي لا اسلِّطهم عليك، فَاذْهَبا يعني: أنت وأخوك بِآياتِنا وهي: ما أعطاهما من المعجزة إِنَّا يعني نفسه عزّ وجلّ مَعَكُمْ فأجراهما مجرى الجماعة مُسْتَمِعُونَ نسمع ما تقولان وما يجيبونكما به.
قوله تعالى: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
قال ابن قتيبة: الرسول يكون بمعنى الجميع، كقوله:
هؤُلاءِ ضَيْفِي «9» وقوله: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «10» . وقال الزجاج: المعنى: إِنْا رِسالةُ ربِّ العالَمين، أي: ذوو رسالة ربِّ العالمين، قال الشاعر:
لقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ ما بُحْتُ عِنْدَهُم ... بِسرٍّ وَلا أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ «11»
أي: برسالة.
قوله تعالى: أَنْ أَرْسِلْ المعنى: بأن أرسل مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي: أَطْلِقْهم من الاستعباد، فأَتَياه فبلَّغاه الرسالة، ف قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً أي: صبيّاً صغيراً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وفيها ثلاثة أقوال. أحدها: ثماني عشرة سنة، قاله ابن عباس. والثاني: أربعون سنة، قاله ابن السائب. والثالث:
ثلاثون سنة، قاله مقاتل، والمعنى: فجازيْتَنا على ان ربَّيناك أن كفرت نعمتنا، وقتلت منّا نفساً، وهو قوله: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ وهي قتل النفس. قال الفراء: وإِنما نُصِبَت الفاء، لأنها مرة واحدة، ولو أُريد بها مثل الجِلسة والمِشية جاز كسرها.
وفي قوله: وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ قولان «12» : أحدهما: من الكافرين لنعمتي، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحاك وابن زيد. والثاني: من الكافرين بالهك، كنتَ معنا على ديننا الذي تعيب، قاله الحسن، والسدي. فعلى الاول: وأنت من الكافرين الآن. وعلى الثاني: وكنت. وفي قوله: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ثلاثة أَقوال: أحدها: من الجاهلين، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن
__________
(1) الشعراء: 14.
(2) الشعراء: 62.
(3) الشعراء: 78.
(4) الشعراء: 79.
(5) الشعراء: 80.
(6) الشعراء: 81.
(7) الشعراء: 117.
(8) الشعراء: 108.
(9) الحجر: 68.
(10) الحج: 5.
(11) البيت لكثير عزة، كما في «اللسان» - رسل-. [.....]
(12) قال الطبري رحمه الله 9/ 437: وأشبه الأقوال بتأويل الآية أن يقال: من الكافرين لنعمتي، لأن فرعون لم يكن مقرا لله بالربوبية وإنما كان يزعم أنه هو الرب، فغير جائز أن يقول لموسى إن كان موسى عنده على دينه يوم قتل القتيل. إلا أن يقول قائل: إنما أراد: وأنت من الكافرين يومئذ يا موسى على قولك اليوم فيكون ذلك وجها يتوجه.
(3/336)
 
 
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
جبير، وقتادة. وقال بعض المفسرين: المعنى: إِني كنت جاهلاً لم يأتني من الله شيء. والثاني: من الخاطئين والمعنى: إِني قتلت النفس خطأً، قاله ابن زيد. والثالث: من الناسين ومثله: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما «1» ، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ أي: ذهبت من بينكم لَمَّا خِفْتُكُمْ على نفسي إلى مَدْيَنِ، وقرأ عاصم الجحدري، والضحاك، وابن يعمر: «لِمَا» بكسر اللام وتخفيف الميم، فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وفيه قولان: أحدهما: النبوَّة، قاله ابن السائب. والثاني: العِلْم والفَهم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ يعني التربية أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: اتخذْتَهم عبيداً يقال:
عبَّدتُ فلاناً وأعبدتُه واستعبدتُه: إِذا اتخذتَه عبداً. وفي «أنْ» وجهان: أحدهما: أن تكون في موضع رفع على البدل من «نِعْمةٌ» . والثاني: أن تكون في موضع نصب بنزع الخافض، تقديره: لأَن عبَّدتَ، أو لتعبيدك. واختلف العلماء في تفسير الآية «2» ، ففسرها قوم على الإِنكار، وقوم على الإِقرار، فمن فسرها على الإِنكار قال معنى الكلام: أو تلك نعمة؟! على طريق الاستفهام، ومثله هذا رَبِّي «3» ، وقوله:
فَهُمُ الْخالِدُونَ «4» ، وأنشدوا:
لم أنس يوم الرحيل وقفتَها ... وجفنها من دموعها شَرِقُ
وقولَها والركابُ سائرة ... تتركنا هكذا وتنطلق
وهذا قول جماعة منهم. ثم لهم في معنى الكلام ووجهه أربعة أقوال: أحدها: أن فرعون أخذ أموال بني إِسرائيل واستعبدهم وأنفق على موسى منها، فأبطل موسى النِّعمة لأنها أموال بني إِسرائيل، قاله الحسن. والثاني: أن المعنى: إِنك لو كنت لا تقتُل أبناء بني إِسرائيل لكفلني أهلي، وكانت أُمِّي تستغني عن قذفي في اليمِّ، فكأنك تمنُّ عليَّ بما كان بلاؤك سبباً له، وهذا قول المبرِّد، والزجّاج، والأزهري. والثالث: أن المعنى: تمنُّ عليَّ باحسانك إِليَّ خاصة، وتنسى إِساءتك بتعبيدك بني إِسرائيل؟! قاله مقاتل. والرابع: أن المعنى: كيف تمنُّ عليَّ بالتربية وقد استعبدت قومي؟! ومن أُهين قومُه فقد ذَلَّ، فقد حبط إحسانك بتعبيدك قومي، حكاه الثعلبي. فأما من فسرها على الإِقرار، فانه قال:
عدَّها موسى نعمة حيثُ ربَّاه ولم يقتله ولا استعبده. فالمعنى: هي لعمري نعمة إِذ ربَّيتني ولم تستعبدني كاستعبادك بني إِسرائيل ف «أنْ» تدل على المحذوف، ومثله في الكلام- أن تَضرب بعض عبيدك وتترك الآخر، فيقول المتروك-: هذه نعمة عليَّ أن ضربتَ فلاناً وتركتني، ثم تحذف «وتركتني» لأن المعنى معروف، هذا قول الفراءِ.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 28]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
__________
(1) البقرة: 282.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 413: أي وما أحسنت إليّ وربيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل! فجعلتهم عبيدا وخدما، تصرّفهم في أعمالك ومشاق رعيتك أفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم؟ أي: ليس ما ذكرته شيئا بالنسبة إلى ما فعلت بهم.
(3) الأنعام: 76.
(4) الأنبياء: 34.
(3/337)
 
 
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
قوله تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ سأله عن ماهيَّةِ مَنْ لا ماهيَّة له «1» ، فأجابه بما يدلُّ عليه من مصنوعاته. وفي قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قولان: أحدهما: أنّه خَلَقَ السموات والأرض.
والثاني: إِن كنتم موقنين أن ما تعاينونه كما تعاينونه، فكذلك، فأيقنوا أن رب العالمين ربّ السّموات والأرض. قوله تعالى: قالَ يعني: فرعون لِمَنْ حَوْلَهُ من أشراف قومه أَلا تَسْتَمِعُونَ معجِّباً لهم.
فان قيل: فأين جوابهم؟ فالجواب: أنه أراد: ألا تستمعون قول موسى؟ فردَّ موسى، لأنه المراد بالجواب، ثم زاد في البيان بقوله: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، فأعرض فرعون عن جوابه ونسبه إِلى الجنون، فلم يَحْفِل موسى بقول فرعون، واشتغل بتأكيد الحُجَّة ف قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي: إِن كنتم ذوي عقول لم يَخْفَ عليكم ما أقول.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 29 الى 48]
قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)
فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48)
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 3/ 414: يقول تعالى مخبرا عن كفر فرعون، وتمرده، وطغيانه وجحوده في قوله وَما رَبُّ الْعالَمِينَ وذلك أنه كان يقول لقومه: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ وكانوا يجحدون الصانع- تعالى- ويعتقدون أنه لا رب لهم سوى فرعون. فلما قال موسى: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ قال له: ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟! ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط، فإنه لم يكن مقرا بالصانع حتى يسأل عن ماهيته. بل كان جاحدا له بالكلية فيما يظهر، وإن كانت الحجج والبراهين قد قامت عليه، فيجيبه موسى:
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي: إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصار نافذة، فعند ذلك التفت فرعون إلى من حوله من ملئه ورؤساء دولته قائلا لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله: أَلا تَسْتَمِعُونَ أي: ألا تعجبون مما يقول هذا في زعمه أن لكم إلها غيري. فأجاب موسى بقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ولهذا لما غلب فرعون وانقطعت حجته عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه، واعتقد أن ذلك نافع له ونافذ في موسى- عليه السلام- فقال: ما أخبر الله تعالى عنه: قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ.
(3/338)
 
 
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
قوله تعالى: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي: بأمر ظاهر يعرف به صدقي أتسجنني؟! وما بعد هذا مفسر في الأعراف «1» إِلى قوله: فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وهو يوم الزينة، وكان عيداً لهم، وَقِيلَ لِلنَّاسِ يعني أهل مصر. وذهب ابن زيد إِلى أن اجتماعهم كان بالاسكندرية. قوله تعالى: لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ قال الاكثرون: أرادوا سَحَرة فرعون فالمعنى: لعلَّنا نتَّبعهم على أمرهم. وقال بعضهم:
أرادوا موسى وهارون، وإِنما قالوا ذلك استهزاءً. قال ابن جرير: و «لعل» ها هنا بمعنى «كي» . وقوله تعالى: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ أي: بعظمته.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 49 الى 51]
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
قوله تعالى: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ قال الزجاج: اللام دخلت للتوكيد.
قوله تعالى: لا ضَيْرَ أي: لا ضرر. قال ابن قتيبة: هو من ضَارَه يَضُوره ويَضيره بمعنى ضَرَّه. والمعنى: لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا لأنّا ننقلب إِلى ربِّنا في الآخرة مؤمِّلين غفرانه.
قوله تعالى: أَنْ كُنَّا أي: لأن كنا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ بآيات موسى في هذه الحال.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 59]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59)
قوله تعالى: إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي: يَتبعكم فرعون وقومه.
قوله تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ المعنى: وقال فرعون إِن هؤلاء، يعني بني إِسرائيل لَشِرْذِمَةٌ قال ابن قتيبة: أي: طائفة. قال الزجاج: والشرذمة في كلام العرب: القليل. قال المفسرون: وكانوا ستمائة ألف، وإِنما استقلَّهم بالإِضافة إِلى جنده، وكان جنده لا يُحصى. قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ تقول:
غاظني الشيء، إِذا أغضبك. قال ابن جرير: وذُكر أن غيظهم كان لقتل الملائكة من قَتَلَتْ من أبكارهم.
قال: ويحتمل أن غيظهم لذهابهم بالعواري التي استعاروها من حُليِّهم، ويحتمل أن يكون لفراقهم إِياهم وخروجهم من أرضهم على كُره منهم.
قوله تعالى: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «حَذِرون» بغير ألف. وقرأ الباقون: حاذِرُونَ بألف. وهل بينهما فرق؟ فيه قولان: أحدهما: أن الحاذر، المستعدُّ، والحذر:
المتيقّظ. وجاء في التفسير أن معنى حاذرين: مُؤْدُون، أي: ذَوو أداة، وهي السلاح، لأنها أداة الحرب. والثاني: أنهما لغتان معناهما واحد قال أبو عبيدة: يقال: رجل حَذِرٌ وحَذُرٌ وحاذرٌ. والمَقام الكريم: المنزل الحسن. وفي قوله تعالى: كَذلِكَ قولان: أحدهما: كذلك أفعل بمن عصاني، قاله
__________
(1) الأعراف: 107.
(3/339)
 
 
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
ابن السائب. والثاني: الأمر كذلك، أي: كما وصفنا، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ وذلك أن الله تعالى ردَّهم إِلى مصر بعد غرق فرعون، وأعطاهم ما كان لفرعون وقومه من المساكن والأموال. وقال ابن جرير الطبري: إِنما جعل ديار آل فرعون مُلْكاً لبني إِسرائيل ولم يَرْدُدْهم إِليها لكنه جعل مساكنهم الشّام.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 60 الى 68]
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
قوله تعالى: فَأَتْبَعُوهُمْ قال ابن قتيبة: لحقوهم مُشْرِقِينَ أي: حين شَرَقت الشمس، أي:
طلعت، يقال: أشْرَقْنا: دخلنا في الشُّروق، كما يقال: أمسينا وأصبحنا. وقرأ الحسن، وأيوب السَّخْتِياني: «فاتَّبعوهم» بالتّشديد. قوله تعالى: فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ وقرأ أبو رجاء، والنخعي، والأعمش: «تَرِاأَى» بكسر الراء وفتح الهمزة، أي: تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه.
قوله تعالى: كَلَّا أي: لن يُدركونا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أي: سيدلُّني على طريق النجاة. قوله تعالى: فَانْفَلَقَ فيه إِضمار «فضرب فانفلق» ، أي: انشقَّ الماء اثني عشر طريقاً فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ أي:
كل جزءٍ انفرق منه. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري: «كُلُّ فِلْقٍ» باللام، كَالطَّوْدِ وهو الجبل.
قوله تعالى: وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ أي: قرَّبْنا الآخَرين من الغرق، وهم أصحاب فرعون. وقال أبو عبيدة: «أزلفنا» أي: جمعنا. قال الزجاج: وكلا القولين حسن، لأن جمعهم تقريب بعضهم من بعض، وأصل الزُّلفى في كلام العرب: القُرْبَى. وقرأ ابن مسعود وأُبيُّ بن كعب وأبو رجاء والضحاك وابن يعمر: «أزلقنا» بالقاف، وكذلك قرءوا: «أزلقت الجنّة» «1» بقاف أيضاً. قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني: في إِهلاك فرعون وقومه عبرة لمن بعدهم وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي: لم يكن أكثر أهل مصر مؤمنين، إِنما آمنت آسية، وخِربيل مؤمن آل فرعون، وفنّة الماشطة، ومريم- امرأة دلَّت موسى على عظام يوسف-، هذا قول مقاتل «2» . وما أخللنا به من تفسير كلمات في قصة موسى، فقد سبق بيانها، وكذلك ما تفقد ذِكْره في مكان، فهو إِما أن يكون قد سبق، وإِما أن يكون ظاهراً، فتنبَّه لهذا.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 82]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
__________
(1) في الشعراء: 90.
(2) عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالكذب، فخبره لا شيء.
(3/340)
 
 
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
قوله تعالى: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ والمعنى: هل يَسمعون دعاءكم. وقرأ سعيد بن جبير وابن يعمر وعاصم الجحدري: «هل يُسْمِعونكم» بضم الياء وكسر الميم، إِذْ تَدْعُونَ قال الزجاج: إِن شئت بيَّنت الذال، وإِن شئت أدغمتها في التاء وهو أجود في العربية لقرب الذال من التاء. قوله تعالى: أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أي: إِن عبدتموهم أَوْ يَضُرُّونَ إِن لم تعبدوهم؟ فأخبروا عن تقليد آبائهم. قوله تعالى:
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي فيه وجهان: أحدهما: أن لفظه لفظ الواحد والمراد به الجميع فالمعنى: فانهم أعداءٌ لي. والثاني: فان كلَّ معبود لكم عدوٌّ لي. فان قيل: ما وجه وصف الجماد بالعداوة؟ فالجواب: من وجهين. أحدهما: أن معناه: فانهم عدوٌّ لي يوم القيامة إِن عبدتُهم. والثاني: أنه من المقلوب والمعنى: فإنِّي عدوٌّ لهم، لأن مَنْ عاديتَه عاداكَ، قاله ابن قتيبة. وفي قوله تعالى: إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ قولان: أحدهما: أنه استثناء من الجنس، لأنه عَلِم أنهم كانوا يعبُدون الله مع آلهتهم، قاله ابن زيد.
والثاني: أنه من غير الجنس فالمعنى: ولكنّ ربّ العالمين ليس كذلك، قاله أكثر النحويين.
قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أي: إِلى الرّشد، لا ما تعبُدون وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ أي هو رازقي الطعام والشراب.
فإن قيل: لم قال: «مرضتُ» ، ولم يقل: «أمرضَني» ؟ فالجواب: أنه أراد الثناء على ربّه فأضاف إِليه الخير المحض، لأنه لو قال: «أمرضَني» لعدَّ قومُه ذلك عيباً، فاستعمل حُسن الأدب ونظيره قصة الخضر حين قال في العيب: «فأردت» «1» ، وفي الخير المحض: «فأراد ربّك» «2» .
فإن قيل: فهذا يردُّه قوله: وَالَّذِي يُمِيتُنِي. فالجواب: أن القوم كانوا لا يُنكرون الموت، وإِنما يجعلون له سبباً سوى تقدير الله عزّ وجلّ، فأضافه إبراهيم إلى الله تعالى، وقوله تعالى: ثُمَّ يُحْيِينِ يعني للبعث، وهو أمرٌ لا يُقِرُّون به، وإِنما قاله استدلالاً عليهم والمعنى: أن ما وافقتموني عليه موجب لِصِحَّة قولي فيما خالفتموني فيه. قوله تعالى: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يعني: ما يجري على مِثْلِي من الزَّلل والمفسرون يقولون: إِنما عنى الكلمات الثلاث التي ذكرناها في الأنبياء «3» ، يَوْمَ الدِّينِ يعني:
يوم الحشر والحساب وهذا احتجاج على قومه أنه لا تصلحُ الإِلهية إلّا لمن فعل هذه الأفعال.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 83 الى 89]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
قوله تعالى: هَبْ لِي حُكْماً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: النبوَّة، قاله أبو صالح، عن ابن عباس.
والثاني: اللُّبّ، قاله عكرمة. والثالث: الفهم والعلم، قاله مقاتل، وقد بيّنّا قوله: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ
__________
(1) الكهف: 79.
(2) الكهف: 82.
(3) الأنبياء: 63.
(3/341)
 
 
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
في سورة يوسف «1» ، وبيَّنَّا معنى لِسانَ صِدْقٍ في مريم «2» والمراد بالآخِرِين: الذين يأتون بعده إِلى يوم القيامة.
قوله تعالى: وَاغْفِرْ لِأَبِي قال الحسن: بلغني أن أُمَّه كانت مسلمة على دينه، فلذلك لم يذكُرها. فإن قيل: فقد قال: اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ «3» . قيل: أكثر الذِّكْر إِنما جرى لأبيه، فيجوز أن يسأل الغفران لأمِّه وهي مؤمنة، فأما أبوه فلا شك في كفره. وقد بيَّنَّا سبب استغفاره لأبيه في براءة «4» ، وذكرنا معنى الخزي في آل عمران «5» . قوله تعالى: يَوْمَ يُبْعَثُونَ يعني: الخلائق. قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ فيه ستة أقوال: أحدها: سليم من الشِّرك، قاله الحسن وابن زيد. والثاني: سليم من الشَّكّ، قاله مجاهد. والثالث: سليم، أي صحيح، وهو قلب المؤمن، لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قاله سعيد بن المسيب. والرابع: أن السَّليم في اللغة: اللّديغ، فالمعنى: كاللّديغ من خوف الله عزّ وجلّ، قاله الجنيد. والخامس: سليم من آفات المال والبنين، قاله الحسين بن الفضل. والسادس:
سليم من البدعة، مُطْمئنّ على السُّنَّة، حكاه الثعلبي.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
قوله تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ اي: قًُرِّبَتْ إِليهم حتى نظروا إِليها، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ أي:
أُظهرتْ لِلْغاوِينَ وهم الضالُّون، وَقِيلَ لَهُمْ على وجه التوبيخ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أي: يمنعونكم من العذاب، أو يمتنعون منه.
قوله تعالى: فَكُبْكِبُوا قال السّدي: هم المشركون. قال ابن قتيبة: أُلْقُوا على رؤوسهم، وأصل الحرف «كُبِّبوا» من قولك: كَبَبْتُ الإِناء، فأبدَلَ من الباء الوسطى كافاً، استثقالاً لاجتماع ثلاث باءات، كما قالوا: «كُمْكِمُوا» من «الكُمَّة» ، والأصل: «كُمّمُوا» . وقال الزجاج: معناه: طُرح بعضُهم على بعض: وحقيقة ذلك في اللغة تكرير الانكباب، كأنه إِذا أُلقي يَنْكَبُّ مَرَّةً بعد مَرَّة حتى يَسْتَقِرَّ فيها. وفي الغاوين ثلاثة اقوال: أحدها: المشركون، قاله ابن عباس. والثاني: الشياطين، قاله قتادة، ومقاتل.
والثالث: الآلهة، قاله السدي. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أتباعه من الجنّ والإِنس. قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ يعني: هم وآلهتهم، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا قال الفراء: لقد كُنَّا. وقال الزجاج: ما كُنَّا إِلا في ضلال.
قوله تعالى: إِذْ نُسَوِّيكُمْ أي: نعدلِكُم بالله في العبادة وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فيهم قولان:
أحدهما: الشياطين. والثاني: أولَّوهم الذين اقتَدَوا بهم، قال عكرمة: إِبليسُ وابن آدم القاتل. قوله
__________
(1) يوسف: 101.
(2) مريم: 50. [.....]
(3) إبراهيم: 41.
(4) التوبة: 113.
(5) آل عمران: 192.
(3/342)
 
 
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
تعالى: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ هذا قولهم إِذا شفع الأنبياء والملائكة والمؤمنون.
(1060) وروى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إِن الرجل يقول في الجنة: ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم، فيقول الله عزّ وجلّ: أخرجوا له صديقه إِلى الجنة، فيقول من بقي في النار: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم؟. والحميم: القريب الذي تَوَدُّه ويودّك والمعنى: ما لنا من ذي قرابة يُهِمُّه أمرنا، فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي: رجعة إِلى الدنيا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لتَحِلَّ لنا الشفاعة كما حَلَّت للموحّدين.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 110]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ قال الزجاج: القوم مذكَّرون والمعنى كذَّبت جماعةُ قوم نوح.
قوله تعالى: إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ كانت الأُخوَّة من جهة النَّسَب بينهم، لا من جهة الدِّين، أَلا تَتَّقُونَ عذاب الله بتوحيده وطاعته، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ على الرّسالة فيما بيني وبين ربّكم. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي: على الدعاء إِلى التّوحيد.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 111 الى 116]
قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)
قوله تعالى: وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ وقرأ يعقوب بفتح الهمزة وتسكين التاء وضم العين: «وأَتْبَاعُكَ الأرذلون» ، وفيهم ثلاثة أقوال: أحدها: الحاكَة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: الحاكَة والأساكفة قاله عكرمة. والثالث: المساكين الذين ليس لهم مال ولا عزٌّ، قاله عطاء. وهذا جهل منهم، لأن الصناعات لا تضرُّ في باب الدِّيانات.
قوله تعالى: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: لم أعلم أعمالهم وصنائعهم، ولم أُكلَّف ذلك، إِنما كلِّفتُ أن أدعوَهم، إِنْ حِسابُهُمْ فيما يعملون إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ بذلك ما عبتموهم في صنائعهم، وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ أي: ما أنا بالذي لا أقبل إِيمانهم لزعمكم أنهم الأرذلون. وفي قوله تعالى: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: من المشتومين، قاله الضحاك. والثاني: من المضروبين بالحجارة، قاله قتادة. والثالث: من المقتولين بالرَّجم، قاله مقاتل.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 117 الى 122]
قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
__________
أخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 357 من حديث جابر، وإسناده ضعيف جدا، الوليد بن مسلم يدلس عن كذابين، وهاهنا شيخه لم يسم، وباقي الإسناد ثقات. وأبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس.
(3/343)
 
 
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)
قوله تعالى: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ أي: اقض بيني وبينهم قضاء، يعني: بالعذاب وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ من ذلك العذاب. والفُلْك قد تقدم بيانه. والمشحون: المملوء، يقال: شحنتُ الإِناء: إِذا مَلأْتَه وكانت سفينة نوح قد ملئت من الناس والطير والحيوان كُلِّه، ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ بعد نجاة نوح ومن معه الْباقِينَ.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 135]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
قوله تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً وقرأ عاصم الجحدري، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة: «بكُلِّ رَيْع» بفتح الراء. قال الفراء: هما لغتان. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه المكان المرتفع روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: بكل شَرَف. قال الزجاج: هو في اللغة: الموضع المرتفع من الأرض.
والثاني: أنه الطريق، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثالث: الفجُّ بين الجبلين، قاله مجاهد. والآية: العلامة. وفيما أراد بهذا البناء ثلاثة أقوال. أحدها: أنه أراد: تبنون ما لا تسكنون، رواه عطاء عن ابن عباس والمعنى أنه جعل بناءهم ما يستغنون عنه عبثاً. والثاني: بروج الحمام، قاله سعيد بن جبير ومجاهد. والثالث: أنهم كانوا يبنون في المواضع المرتفعة ليُشرفوا على المارَّة فيَسْخَروا منهم ويَعْبَثوا بهم، وهو معنى قول الضحاك. قوله تعالى: وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: قصور مشيَّدة، قاله مجاهد. والثاني: مصانع للماء تحت الارض، قاله قتادة. والثالث: بروج الحمام، قاله السّدّيّ. وفي قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ قولان: أحدهما: كأنَّكم تخلُدون، قاله ابن عباس، وأبو مالك. والثاني: كَيْما تَخْلُدوا، قاله الفراء، وابن قتيبة. وقرأ عكرمة، والنخعي، وقتادة، وابن يعمر: «تُخْلَدون» برفع التاء وتسكين الخاء وفتح اللام مخففة. وقرأ عاصم الجحدري، وأبو حسين: «تُخَلَّدون» بفتح الخاء وتشديد اللام. قوله تعالى: وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ المعنى: إِذا ضربتم ضربتم بالسياط ضرب الجبَّارين، وإِذا عاقبتم قَتَلتم وإِنما أنكر عليهم ذلك، لأنه صدر عن ظلم، إِذ لو ضَربوا بالسيف أو بالسوط في حقّ ما ليموا. وفي قوله: عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قولان:
أحدهما: ما عذِّبوا به في الدنيا. والثاني: عذاب جهنم.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 136 الى 145]
قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)
قوله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي: «خَلْق» بفتح الخاء وتسكين اللام قال ابن قتيبة: أرادوا اختلاقهم وكذبهم، يقال: خَلَقتُ الحديثَ واختلقتُه، أي: افتعلته،
(3/344)
 
 
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)
قال الفراء: والعرب تقول للخُرافات: أحاديثُ الخَلْق. وقرأ عاصم، ونافع وابن عامر وحمزة وخلف «خُلُق الأولين» بضم الخاء واللام. وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وعاصم الجحدري: «خُلْق» برفع الخاء وتسكين اللام والمعنى: عادتهم وشأنهم. قال قتادة: قالوا له: هكذا كان الناس يعيشون ما عاشوا ثم يموتون، ولا بعث لهم ولا حساب.
قوله تعالى: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي: على ما نفعله في الدنيا.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 146 الى 152]
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152)
قوله تعالى: أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا أي: فيما أعطاكم الله في الدنيا آمِنِينَ من الموت والعذاب. قوله تعالى: طَلْعُها هَضِيمٌ الطَّلْع: الثمر. وفي الهضيم سبعة أقوال: أحدها: أنه الذي قد اينع وبلغ، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه الذي يتهشَّم تهشُّماً، قاله مجاهد. والثالث: أنه الذي ليس له نوى، قاله الحسن. والرابع: أنه المذنَّب من الرُّطَب، قاله سعيد بن جبير. والخامس:
اللَّيِّن، قاله قتادة، والفراء. والسادس: أنه الحَمْل الكثير الذي يركب بعضه بعضاً، قاله الضحاك.
والسابع: أنه الطَّلْع قبل أن ينشقَّ عنه القشر وينفتح، يريد أنه منضمٌّ مكتَنِزٌ، ومنه قيل: رجل أهضَمُ الكَشْحَيْن، إِذا كان منضمّهما، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «فَرِهين» . وقرأ الباقون: «فارِهِين» بألف. قال ابن قتيبة: «فَرِهِينَ» : أَشِرِين بَطِرِين، ويقال: الهاءُ فيه مبدَلةٌ من حاء، أي: فَرِحِين، و «الفرحُ» قد يكون السرورَ، وقد يكون الأَشَرَ، ومنه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ «1» أي: الأشِرِين، ومن قرأ: «فَارِهِينَ» فهي لغة أخرى، يقال: فَرِهٌ وفارِهٌ، كما يقال: فَرِحٌ وفارِحٌ، ويقال: «فَارِهِينَ» أي: حاذِقِين قال عكرمة: حاذِقِين بنحتها.
قوله تعالى: وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ قال ابن عباس: يعني: المشركين. وقال مقاتل: هم التّسعة الذين عقروا النّاقة.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 153 الى 164]
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157)
فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)
__________
(1) القصص: 76.
(3/345)
 
 
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)
قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ قال الزجاج: أي: ممن له سَحْر، والسَّحْر: الرِّئة، والمعنى: أنت بشر مثلنا. وجائز أن يكون من المفعَّلين من السِّحر والمعنى: ممن قد سُحِر مَرَّة بعد مَرَّة. قوله تعالى: لَها شِرْبٌ أي: حظّ من الماء. وقال ابن عباس: لها شِرب معروف لا تحضروه معها، ولكم شِرْب لا تحضر معكم، فكانت إِذا كان يومهم حضروا الماء فاقتسموه، وإِذا كان يومها شَربتِ الماءَ كُلَّه. وقال قتادة: كانت إِذا كان يوم شربها، شربت ماءهم أول النهار، وسقتهم اللبن آخر النهار. وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن أبي عبلة: «لها شُرْبٌ» بضم الشين.
قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ قال ابن عباس: ندموا حين رأوا العذاب، على عَقْرها، وعذابهم كان بالصّيحة.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 165 الى 175]
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
قوله تعالى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ وهو جمع ذَكَر مِنَ الْعالَمِينَ أي: من بني آدم، وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ قال الزجاج: وقرأ ابن مسعود: «ما أَصلح لكم ربُّكم من أزواجكم» يعني به الفروج. وقال مجاهد: تركتم أقبال النساء إِلى أدبار الرجال.
قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ أي: ظالمون معتدون. قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ أي: لئن لم تسكت عن نهينا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ من بلدنا. قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ يعني: إِتيان الرجال مِنَ الْقالِينَ قال ابن قتيبة: أي: من المُبْغِضِين، يقال: قَلَيْتُ الرجلَ: إِذا أبغضتَه.
قوله تعالى: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي: من عقوبة عملهم فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ وقد ذكرناهم في هود «1» ، إِلَّا عَجُوزاً يعني امرأته فِي الْغابِرِينَ أي: الباقين في العذاب. ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أهلكناهم بالخَسْف والحَصْب، وهو قوله تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً يعني الحجارة.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 180]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180)
قوله تعالى: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «أصحاب ليكة» ها هنا، وفي (ص) «2» بغير همز والتاء مفتوحة وقرأ الباقون: «الأيكة» بالهمزة فيهما والألف. وقد سبق هذا الحرف «3» . إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ إِن قيل: لِمَ لم يقل: أخوهم، كما قال في (الأعراف) «4» ؟ فالجواب:
أن شعيباً لم يكن من نسل أصحاب الأيكة، فلذلك لم يقل: أخوهم وإِنما أرسل إليهم بعد أن أرسل
__________
(1) هود: 80.
(2) ص: 13.
(3) الحجر: 78.
(4) الأعراف: 85.
(3/346)
 
 
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)
إِلى مَدْيَن، وهو من نسل مَدْيَن، فلذلك قال هناك: أخوهم، هذا قول مقاتل بن سليمان. وقد ذكرنا في سورة (هود) «1» عن محمد بن كعب القرظي، أن أهل مَدْين عذِّبوا بعذاب الظُّلَّة، فإن كانوا غير أصحاب الأيكة كما زعم مقاتل، فقد تساوَوا في العذاب، وإِن كان أصحاب مَدْين هم أصحاب الأيكة، وهو مذهب ابن جرير الطبري كان حذف ذكر الأخ تخفيفا، والله أعلم.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 181 الى 184]
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي: من الناقِصِين للكَيْل، يقال: أخسرتُ الكَيْل والوزن:
إِذا نقصته. وقد ذكرنا القسطاس في (بني إِسرائيل) «2» .
قوله تعالى: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ أي: وخَلَق الجِبِلَّة. وقيل: المعنى: واذكروا ما نزل بالجِبِلَّة الْأَوَّلِينَ. وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: «الجبلّة» برفع الجيم والباء جميعاً مشددة اللام. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك، وعاصم الجحدري: بكسر الجيم وتسكين الباء وتخفيف اللام. قال ابن قتيبة: الجِبِلَّة: الخَلْق، يقال: جُبِل فلان على كذا، أي:
خُلق، قال الشاعر:
والموتُ أعظم حادث ... ممّا يمرّ على الجبلّه
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 185 الى 191]
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
قوله تعالى: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً قال ابن قتيبة: أي قطعةً مِنَ السَّماءِ، و «كِسَفٌ» جمع «كِسْفَة» ، كما يقال: قِطَعٌ وقِطْعَة.
قوله تعالى: رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي: من نقصان الكيل والميزان والمعنى: إِنه يُجازيكم إِن شاء، وليس عذابكم بيدي، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ قال المفسرون: بعث الله عليهم حرّاً شديداً، فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إِلى البرِّيَّة، فبعث الله عليهم سحابة أظلَّتهم من الشمس، فوجدوا لها برداً، ونادى بعضهم بعضاً، حتى إِذا اجتمعوا تحتها، أرسل الله عليهم ناراً، فكان ذلك من أعظم العذاب، فالظّلّة: السّحابة التي أظلّتهم.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 199]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)
__________
(1) هود: 94.
(2) الإسراء: 35.
(3/347)
 
 
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
قوله تعالى: وَإِنَّهُ يعني القرآن لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم: «نَزَل به» خفيفاً «الرُّوحُ الأمينُ» بالرفع. وقرأ أبن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «نَزَّلَ» مشددة الزاي «الرُّوحَ الأمينَ» بالنصب. والمراد بالرُّوح الأمين جبريل، وهو أمين على وحي الله تعالى إِلى أنبيائه، عَلى قَلْبِكَ قال الزجاج: معناه: نزل عليك فوعاه قلبك، فثبت، فلا تنساه أبداً. قوله تعالى: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي: ممن أَنذر بآيات الله المكذَِّبين، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ قال ابن عباس: بلسان قريش ليفْهموا ما فيه.
قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ وقرأ الاعمش: «زُبْرِ» بتسكين الباء. وفي هاء الكناية قولان:
أحدهما: أنها ترجع إِلى القرآن والمعنى: وإِنَّ ذِكْر القرآن وخبره، هذا قول الأكثرين. والثاني: أنها تعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قاله مقاتل. والزُّبُر: الكُتُب.
قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائيّ: «أو لم يكن» بالياء «آيةً» بالنصب. وقرأ ابن عامر، وابن أبي عبلة: «تكن» بالتاء «آيةٌ» بالرفع. وقرأ أبو عمران الجوني، وقتادة: «تكن» بالتاء «آيةً» بالنصب، قال الزجاج: إِذا قلت: «يكن» بالياء، فالاختيار نصب «آية» وتكون «أن» اسم كان، وتكون «آية» خبر كان، المعنى: أَوَلَم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم حقّ، وأنّ نبوّته حقّ؟! «آية» : علامة موضحة، لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل وجدوا ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلّم مكتوباً عندهم في التوراة والإِنجيل. ومن قرأ «أولم تكن» بالتاء جعل «آية» هي الاسم، و «أن يعلمه» خبر «تكن» . ويجوز أيضا «أو لم تكن» بالتاء «آية» بالنّصب، كقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ «1» وقرأ الشعبي، والضحاك، وعاصم الجحدري:
«أن تَعْلَمَهُ» بالتاء.
(1061) وقال ابن عباس: بعث أهل مكة إِلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمّد صلى الله عليه وسلّم، فقالوا: إِنّ هذا لَزمانُه، وإِنّا لنجد في التوراة صفته، فكان ذلك آية لهم على صِدقه.
قوله تعالى: عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ قال الزجاج: هو جمع أعجم، والأنثى عجماء، والأعجم:
الذي لا يُفْصِح، وكذلك الأعجمي فأما العجمي: فالذي من جنس العجم، أفصح أو لم يُفْصِح. قوله تعالى: ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أي: لو قرأه عليهم أعجميّ لقالوا: لا نفقه هذا، فلم يؤمنوا.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 200 الى 209]
كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209)
__________
لا أصل له. ذكره البغوي في «تفسيره» 3/ 398 والقرطبي 13/ 126 كلاهما عن ابن عباس بدون إسناد.
__________
(1) الأنعام: 23.
(3/348)
 
 
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
قوله تعالى: كَذلِكَ سَلَكْناهُ قد شرحناه في الحجر «1» . والمجرمون ها هنا: المشركون. قوله تعالى: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ قال الفراء: المعنى: كي لا يؤمنوا. فأما العذاب الأليم، فهو عند الموت.
فَيَقُولُوا عند نزول العذاب هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أي: مُؤَخَّرون لنؤمِن ونصدِّق.
(1062) قال مقاتل: فلمّا أوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالعذاب، قالوا: فمتى هو؟ تكذيباً به، فقال الله تعالى: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ.
قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ قال عكرمة: عُمُرَ الدنيا. قوله تعالى: ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ أي: من العذاب. وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بالعذاب في الدنيا إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ يعني:
رسُلاً تنذرهم العذابَ. ذِكْرى أي: موعظة وتذكيراً.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 210 الى 212]
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
قوله تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ.
(1063) سبب نزولها أن قريشاً قالت: إِنما تجىء بالقرآن الشياطين فتُلقيه على لسان محمد، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أي: أن ينزلوا بالقرآن وَما يَسْتَطِيعُونَ أن يأتوا به من السماء، لأنهم قد حِيل بينهم وبين السَّمع بالملائكة والشُّهُب. إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ أي: عن الاستماع للوحي من السماء لَمَعْزُولُونَ فكيف ينزلون به؟! وقال عطاء: عن سماع القرآن لمحجوبون، لأنهم يُرْجَمون بالنجوم.
 
[سورة الشعراء (26) : الآيات 213 الى 220]
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
قوله تعالى: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ قال ابن عباس: يحذِّر به غيره، يقول: أنت أكرمُ الخَلْق عليَّ، ولو اتَّخذتَ من دوني إِلهاً لعذَّبتُك.
قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ.
(1064) روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين أنزل الله تعالى
__________
لا أصل له. ذكره البغوي في «تفسيره» 3/ 399 عن مقاتل بدون إسناد. ومقاتل متهم بوضع الحديث.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك يضع الحديث.
صحيح. أخرجه البخاري 2753 و 3527 و 4771 ومسلم 206 والترمذي 3185 والنسائي 6/ 248- 249 وأحمد 2/ 333 وابن حبان 646 و 6549 والبيهقي 6/ 280 والبغو