زاد المسير في علم التفسير 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: زاد المسير في علم التفسير
المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)
 
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
أن يكون «إنه ربي» يعني الله عزّ وجلّ «أحسن مثواي» أي: توّلاني في طول مُقامي.
قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي: إن فعلت هذا فخنته في أهله بعد ما أكرمني فأنا ظالم.
وقيل: الظّالمون ها هنا: الزّناة.
 
[سورة يوسف (12) : آية 24]
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
قوله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ الهم بالشيء في كلام العرب: حديث المرء نفسه بمواقعته ما لم يواقع. فأما همّ أزليخا، فقال المفسرون: دعته إِلى نفسها واستلقت له. واختلفوا في همِّه بها على خمسة أقوال «1» :
__________
(1) وقال الإمام أبو حيان في «البحر المحيط» 5/ 294/ 295 ما ملخصه: طوّل المفسرون في تفسير هذين الهمين، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق والذي أختاره: أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم بها البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول: لقد قارفت لولا أن عصمك الله، ولا تقول إن جواب لولا متقدم عليها، وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك، بل صريح أدوات الشرط العامة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون، ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري وأبو العباس المبرد، بل نقول: إن جواب (لولا) محذوف لدلالة ما قبله عليه، كما تقول: جمهور البصريين في قول العرب: أنت ظالم إن فعلت. فيقدرونه: إن فعلت فأنت ظالم، ولا يدل قوله: أنت ظالم على ثبوت الظلم، بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل، وكذلك هنا التقدير: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فكان موجدا لهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان، لكنه وجد رؤية البرهان، فانتفى الهم، ولا التفات إلى قول الزجاج، ولو كان الكلام: ولهمّ بها، كان بعيدا، فكيف مع سقوط اللام، لأنه يوهم أن قوله: وهم بها هو جواب (لولا) ونحن لم نقل بذلك، وإنما هو دليل الجواب، وعلى تقدير أن يكون نفس الجواب، فاللام ليست بلازمة، لجواز أن ما يأتي جواب (لولا) إذا كان بصيغة الماضي باللام، وبغير لام تقول: لولا زيد لأكرمتك، فمن ذهب إلى أن قوله (وهمّ بها) هو نفس الجواب لم يبعد، ولا التفات إلى قول ابن عطية: إن قول من قال: إن الكلام قد تم في قوله (ولقد همت به) وإن جواب (لولا) في قوله (وهم بها) ، وإن المعنى لولا أن رأى البرهان لهم بها. فلم يهم يوسف عليه السلام قال: وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف.
أما قوله: يرده لسان العرب، فليس كما ذكر، وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب، قال تعالى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- القصص: 10- فقوله: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ إما أن يتخرج على أنه الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل وإما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب، والتقدير: لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به، وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك، لأنها أقوال متكاذبة، يناقض بعضها بعضا. مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين، فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة، والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب، لأنهم قدروا جواب (لولا) محذوفا، ولا يدل عليه دليل، لأنهم لم يقدروا: لهمّ بها، ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط، لأن ما قبل الشرط دليل عليه، ولا يحذف الشيء لغير دليل عليه، وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب، ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين، ومن أراد أن يقف على ما نقل عن المفسرين في هذه الآية فليطالع ذلك في تفسير الزمخشري وابن عطية وغيرهما. [.....]
(2/427)
 
 
أحدها: أنه كان من جنس همّها، ولولا أن الله تعالى عصمه لفعل، وإِلى هذا المعنى ذهب الحسن، وسعيد بن جبير، والضحاك، والسدي، وهو قول عامة المفسرين المتقدمين، واختاره من المتأخرين جماعة منهم ابن جرير، وابن الأنباري. وقال ابن قتيبة: لا يجوز في اللغة: هممت بفلان، وهمّ بي، وأنت تريد اختلاف الهمَّين. واحتجَ منْ نصر هذا القول بأنه مذهب الأكثرين من السلف والعلماء الأكابر، ويدل عليه ما سنذكره من أمر البرهان الذي رآه. قالوا: ورجوعه عما همّ به من ذلك خوفاً من الله تعالى يمحو عنه سيّئ الهمِّ، ويوجب له علوَّ المنازل.
(807) ويدل على هذا الحديث الصّحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن ثلاثة خرجوا فلجؤوا إِلى غار، فانطبقت عليهم صخرة، فقالوا: ليذكر كل واحد منكم أفضل عمله. فقال أحدهم: اللهم إِنك تعلم أنه كانت لي بنت عم فراودتها عن نفسها فأبت إلّا بمائة دينار، فلمّا أتيت بها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة أُرعدتْ وقالت: إِن هذا لعملٌ ما عملته قطُّ، فقمت عنها وأعطيتها المائة الدينار، فإن كنتَ تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرِج عنا، فزال ثلث الحجر» . والحديث معروف، وقد ذكرته في «الحدائق» ، فعلى هذا نقول: إِنما همت، فترقَّت همَّتها إِلى العزيمة، فصارت مصرَّة على الزنا. فأما هو، فعارضه ما يعارض البشر من خَطَرَاتِ القلب، وحديث النفس، من غير عزم، فلم يلزمه هذا الهمُّ ذنباً، فإن الرجل الصالح قد يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد، فإذا لم يشرب لم يؤاخذ بما هجس في نفسه.
(808) وقد قال عليه السلام: «عفي لأمّتي عمّا حدّثت به أنفسها ما لم تتكلّم أو تعمل» .
(809) وقال عليه السّلام: «هلك المصرّون» وليس الإِصرار إِلا عزم القلب، فقد فرَّق بين حديث النفس وعزم القلب. وسئل سفيان الثوري: أيؤاخذ العبد بالهمة؟ فقال: إذا كانت عزما.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2215 و 2233 و 3465 و 5974، ومسلم 2743، والطبراني في «الدعاء» 199، وابن حبان 897، والبغوي في «شرح السنة» 3420 من طريق نافع عن ابن عمر مرفوعا بأتم منه.
- وأخرجه البخاري 2272 ومسلم 2743 وأحمد 2/ 116 من طريقين عن سالم، عن ابن عمر به.
- وله شواهد منها: حديث أبي هريرة: أخرجه البزار 1869 وابن حبان 972 وإسناده حسن. وقال الهيثمي في «المجمع» 8/ 142 و 143: رواه البزار والطبراني في «الأوسط» بأسانيد ورجال البزار وأحد أسانيد الطبراني رجالهما رجال الصحيح. وحديث النعمان بن بشير: أخرجه أحمد 2/ 142 والبزار 3178 و 3179 و 3180.
وذكره الهيثمي في «المجمع» 8/ 142 وقال: ورجال أحمد ثقات. وحديث أنس: أخرجه أحمد 3/ 142 و 143 والبزار 1868 والطبراني في «الدعاء» 200. وقال الهيثمي في «المجمع» 8/ 140: رواه أحمد مرفوعا، ورواه أبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح. فهذا حديث مشهور.
صحيح. أخرجه البخاري 2528 و 5269 و 6664 ومسلم 127 وأبو داود 2209 والترمذي 1183 والنسائي 6/ 156 و 157 وابن ماجة 2044 والبيهقي 7/ 298 والطيالسي 2459 وابن حبان 4334 من طرق عن قتادة، عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة به.
حسن. أخرجه أحمد 2/ 165- 219 والبيهقي في «الشعب» 7236 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في أثناء حديث، وإسناده حسن، وجوّده المنذري في «الترغيب» 3628. وقال الهيثمي في «المجمع» 10/ 190- 191: رجال أحمد رجال الصحيح غير حبان بن زيد، ووثقه ابن حبان. قلت: وقال عنه الحافظ في «التقريب» : ثقة.
(2/428)
 
 
(810) ويؤيده الحديث الصّحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى: إِذا همّ عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها عليه سيئة» . واحتج القاضي أبو يعلى على أن همته لم تكن من جهة العزيمة، وإِنما كانت من جهة دواعي الشهوة بقوله: قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي وقولِه:
كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ وكل ذلك إِخبار ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية، وعلى هذا تكون همته مجرد خاطر لم يخرج إلى العزم.
فإن قيل: فقد سوّى القرآن بين الهمتين، فلم فرقتم؟
فالجواب: أن الاستواء وقع في بداية الهمة، ثم ترقت همتها إِلى العزيمة، بدليل مراودتها واستلقائها بين يديه، ولم تتعد همته مقامها، بل نزلت عن رتبتها، وانحل معقودها. بدليل هربه منها، وقوله: قالَ مَعاذَ. ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حلّ السراويل وقعد منها مقعد الرجل، فإنه لو كان هذا، دل على العزم، والأنبياء معصومون من العزم على الزنا.
والقول الثاني: أنها همت به أن يفترشها، وهمّ بها، أي: تمنَّاها أن تكون له زوجة، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والقول الثالث: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها فلما رأى البرهان، لم يقع منه الهم، فقُدِّم جواب «لولا» عليها، كما يقال: قد كنتَ من الهالكين، لولا أن فلاناً خلَّصك لكنت من الهالكين، ومنه قول الشاعر:
فَلا يَدْعُني قَوْمِي صَرِيْحاً لِحُرَّةٍ ... لئن كُنْتُ مَقْتُولاً وتَسْلَم عَامِرُ
أراد: لئن كنت مقتولاً وتسلم عامر، فلا يدعني قومي، فقدم الجواب. وإِلى هذا القول ذهب قطرب، وأنكره قوم، منهم ابن الأنباري، وقالوا: تقديم جواب «لولا» عليها شاذ مستكره، لا يوجد في فصيح كلام العرب، فأما البيت المستشهَد به، فمن اضطرار الشعراء، لأن الشاعر يضيق الكلام به عند اهتمامه بتصحيح أجزاء شعره، فيضع الكلمة في غير موضعها، ويقدِّم ما حكمه التأخير، ويؤخِّر ما حكمه التقديم، ويعدل عن الاختيار إلى المستقبح للضّرورة، قال الشاعر:
وجزى ربُّه عَنِّي عَدِيَّ بنَ حَاتِمٍ ... بِتَرْكي وَخِذْلاَني جَزَاءً موفَّراً
تقديره: جزى عني عديَّ بن حاتم ربُّه، فاضطر إِلى تقديم الرب، وقال الآخر:
لَمَّا جْفَا إِخوانُه مُصْعَبَاً ... أدَّى بِذَاكَ البيَعَ صَاعاً بِصاعِ
أراد: لما جفا مصعباً إخوانه، وأنشد الفرّاء:
طلبا لعرفك يا ابن يحيى بعد ما ... تقطّعت بي دونك الأسباب
فزاد تاء على تاء «تقطعت» لا أصل لها ليصلح وزن شعره، وأنشد ثعلب:
إِنَّ شَكْلِي وَإِنَّ شَكْلَك شَتَّى ... فَالْزَمِي الخَفْضَ وانعمي تَبْيَضِّضي
فزاد ضاداً لا أصل لها لتكمل أجزاء البيت، وقال الفرزدق:
__________
صحيح. أخرجه البخاري 7501 و 6491، ومسلم 128، والترمذي 3073، وأحمد 2/ 242، وابن مندة 375، من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا.
(2/429)
 
 
هُمَا تَفَلا في فِيَّ مِن فَمَوَيْهِمَا ... عَلَى النَّابِحِ العَاوِي أشدُّ لِجَامِيا
فزاد واواً بعد الميم ليصلح شعره. ومثل هذه الأشياء لا يحمل عليها كتاب الله النازل بالفصاحة، لأنها من ضرورات الشعراء.
والقول الرابع: أنه همّ أن يضربها ويدفعها عن نفسه، فكان البرهان الذي رآه من ربه أن الله أوقع في نفسه أنه إِن ضربها كان ضربه إِياها حجة عليه، لأنها تقول: راودني فمنعته فضربني، ذكره ابن الأنباري.
والقول الخامس: أنه همّ بالفرار منها، حكاه الثعلبي، وهو قول مرذول، أفَتراه أراد الفرار منها، فلما رأى البرهان أقام عندها؟! قال بعض العلماء: كان همّ يوسف خطيئة من الصغائر الجائزة على الأنبياء، وإِنما ابتلاهم بذلك ليكونوا على خوف منه، وليعرفهم مواقع نعمته في الصفح عنهم، وليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء الرحمة. قال الحسن: إِن الله تعالى لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعييرا لهم، ولكن لئلا تقنطوا من رحمته. يعني الحسن أن الحجة للأنبياء ألزم، فاذا قبل التوبة منهم، كان إِلى قبولها منكم أسرع.
(811) وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أحد يلقى الله تعالى إِلا وقد همّ بخطيئة أو عملها، إِلا يحيى بن زكريا، فإنه لم يهم ولم يعملها» .
قوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ جواب «لولا» محذوف. قال الزجاج: المعنى: لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما همّ به. قال ابن الأنباري: لزنى، فلما رأى البرهان كان سبب انصراف الزنا عنه. وفي البرهان ستة أقوال:
أحدها: أنه مُثّل له يعقوب. روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: نُودي يا يوسف، أتزني فتكون مثل الطائر الذي نُتف ريشه فذهب يطير فلم يستطع؟ فلم يعط على النداء شيئاً، فنودي الثانية، فلم يعط على النداء شيئاً فتمثل له يعقوب فضرب صدره، فقام، فخرجت شهوته من أنامله. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: رأى صورة أبيه يعقوب في وسط البيت عاضَّاً على أنامله، فأدبر هارباً، وقال: وحقِّك يا أبت لا أعود أبدا. وقال أبو صالح عن ابن عباس: رأى مثال يعقوب في الحائط عاضَّاً
__________
متن واه بمرة، شبه موضوع، فيه زيادة تدل على بطلانه. أخرجه ابن المنذر كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 369 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد يلقى الله إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا فإن الله تعالى يقول: وَسَيِّداً وَحَصُوراً قال: «وإنما ذكره مثل هدبة الثوب» . وكذا ذكره الديلمي في «الفردوس» 4788 وفي الإسناد سويد بن سعيد، وقد ضعفه الجمهور وهو الذي جاء بحديث «من عشق فعف ... » وقال فيه ابن معين: لو كان لي فرس ورمح غزوت سويدا. وقال البخاري: منكر الحديث. وقد قال البخاري في تاريخه، كل من قلت عنه منكر الحديث فلا يحل الرواية عنه. اه راجع ترجمته في «الميزان» . وله طريق أخرى عند الطبري 6976 وفيه ابن إسحاق مدلس وقد عنعن، والظاهر أنه سمعه من ضعيف فأسقطه، فقد كرره الطبري 6977 بإسناد صحيح عن ابن المسيب من قوله وهو أشبه وكرره 6979 بإسناد آخر عنه أيضا، و 6978 عن ابن المسيب عن عبد الله بن عمرو موقوفا وهو أشبه، فإن المتن منكر أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والراجح أنه متلقى عن أهل الكتاب هذا ما تميل إليه النفس والله أعلم. وقد رجح الوقف السيوطي في «الدر» 2/ 39.
(2/430)
 
 
على شفتيه. وقال الحسن: مثّل له جبريل في صورة يعقوب في سقف البيت عاضَّا على إِبهامه أو بعض أصابعه. وإِلى هذا المعنى ذهب مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، وابن سيرين، والضحاك في آخرين. وقال عكرمة: كل ولد يعقوب، قد ولد له اثنا عشر ولداً، إلاَّ يوسف فانه ولد له أحد عشر ولداً، فنُقص بتلك الشهوة ولداً.
والثاني: أنه جبريل عليه السلام. روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: مثِّل له يعقوب فلم يزدجر، فنودي: أتزني فتكون مثل الطائر نتف ريشه؟! فلم يزدجر حتى ركضه جبريل في ظهره، فوثب.
والثالث: أنها قامت إِلى صنم في زاوية البيت فسترته بثوب، فقال لها يوسف: أي شيء تصنعين؟
قالت: أستحي من إِلهي هذا أن يراني على هذه السوأة، فقال: أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع، ولا أستحي من إِلهي القائم على كل نفس بما كسبت؟ فهو البرهان الذي رأى، قاله عليّ بن أبي طالب، وعليّ بن الحسين، والضحاك.
والرابع: أنّ الله تعالى بعث إِليه ملكاً، فكتب في وجه المرأة بالدّم: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا «1» ، قاله الضحاك عن ابن عباس. وروي عن محمد بن كعب القرظي: أنه رأى هذه الآية مكتوبة بين عينيها، وفي رواية أخرى عنه، أنه رآها مكتوبة في الحائط. وروى مجاهد عن ابن عباس قال: بدت فيما بينهما كف ليس فيها عضد ولا معصم، وفيها مكتوب وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا، فقام هاربا، وقامت، فلمّا ذهب عنهما الرّوع عادت وعاد، فلما قعد إِذا بكفٍّ قد بدت فيما بينهما فيها مكتوب وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ»
الآية، فقام هارباً، فلما عاد، قال الله تعالى لجبرئيل: أدركْ عبدي قبل أن يصيب الخطيئة، فانحط جبريل عاضّاً على كفه أو أصبعه وهو يقول: يا يوسف، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء؟!. وقال وهب بن منبه: ظهرت تلك الكف وعليها مكتوب بالعبرانية أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «3» ، فانصرفا، فلما عادا رجعت وعليها مكتوب وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ «4» ، فلما عادا عادت وعليها مكتوب وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى الآية، فعاد، فعادت الرابعة وعليها مكتوب وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، فولَّى يوسف هاربا «5» .
والخامس: أنه سيّدُه العزيز دنا من الباب، رواه ابن إِسحاق عن بعض أهل العلم. وقال ابن إِسحاق: يقال: إِن البرهان خيال سيِّده، رآه عند الباب فهرب.
والسادس: أن البرهان أنه علِم ما أحل الله مما حرّم الله، فرأى تحريم الزنا، روي عن محمد بن كعب القرظي. قال ابن قتيبة: رأى حجة الله عليه، وهي البرهان، وهذا هو القول الصحيح، وما تقدَّمه فليس بشيء، وإِنما هي أحاديث من أعمال القصاص، وقد أشرت إِلى فسادها في كتاب «المغني في التفسير» . وكيف يُظن بنبيٍّ لله كريمٍ أنه يخوَّف ويرعَّب ويُضطر إِلى ترك هذه المعصية وهو مصرّ؟! هذا غاية القبح.
__________
(1) سورة الإسراء: 32.
(2) سورة البقرة: 281.
(3) سورة الرعد: 33.
(4) سورة الانفطار: 10- 11.
(5) هذه الآثار جميعا من الإسرائيليات، لا حجة في شيء منها، وتقدم ما فيه كفاية.
(2/431)
 
 
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
قوله تعالى: كَذلِكَ أي: كذلك أريناه البرهان لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وهو خيانة صاحبه وَالْفَحْشاءَ ركوبَ الفاحشة إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر بكسر اللام، والمعنى: إِنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بفتح اللام، أرادوا: من الذين أخلصهم الله من الأسواء والفواحش. وبعض المفسرين يقول: السوء: الزنى، والفحشاء: المعاصي.
 
[سورة يوسف (12) : الآيات 25 الى 27]
وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
قوله تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبابَ يعني يوسف والمرأة، تبادرا إِلى الباب يجتهد كل واحد منهما أن يسبق صاحبه، وأراد يوسف أن يسبق ليفتح الباب ويخرج، وأرادت هي إِن سبقت إِمساك الباب لئلا يخرج، فأدركته فتعلقت بقميصه من ورائه، فجذبته إِليها، فقدَّت قميصه من دبر، أي: قطعته من خلفه، لأنه كان هو الهارب وهي الطالبة له. قال المفسرون: قطعت قميصه نصفين، فلما خرجا، ألفيا سيدها، أي: صادفا زوجها عند الباب، فحضرها في ذلك الوقت كيد، فقالت سابقةً بالقول مبرِّئةً لنفسها من الأمر ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً قال ابن عباس: تريد الزّنى إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أي: ما جزاؤه إِلا السّجن أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني الضرب بالسياط، فغضب يوسف حينئذ وقال: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وقال وهب بن منبِّه: قال له العزيز حينئذ: أخنتني يا يوسف في أهلي، وغدرتَ بي، وغررتني بما كنت أرى من صلاحك! فقال حينئذ: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي.
قوله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها وذلك أنه لما تعارض قولاهما، احتاجا إِلى شاهد يُعلَم به قول الصادق. وفي ذلك الشاهد ثلاثة «1» أقوال: أحدها: أنه كان صبياً في المهد، رواه عكرمة عن ابن عباس «2» ، وشهر بن حوشب عن أبي هريرة، وبه قال سعيد بن جبير، والضحاك، وهلال بن يساف
__________
(1) الصواب من هذه الأقوال القول الثاني، وأنه- أي الشاهد- من خاصة الملك أو العزيز، والأشبه أن يكون مستشارا له أو قاضيا، فإن ما قاله في شأن القميص يدل على فهم وخبرة.
- وأما مستند القول الأول عن ابن عباس فخبره واه، لا تقوم به حجة.
(2) أخرجه الطبري 19109 و 19118 عن ابن عباس قوله، وإسناده ضعيف، فيه عطاء بن السائب، وقد اختلط.
وكرره 19120 بإسناد ساقط، فيه عطية العوفي ضعيف، وعنه مجاهيل وأخرج خلافه برقم 19121 عن ابن عباس قوله: كان ذا لحية. ورجاله رجال مسلم، لكن سماك بن حرب مضطرب الرواية في عكرمة.
- قلت: وورد أثر ابن عباس بمثل سياق المصنف مرفوعا، أخرجه الحاكم 2/ 595 من طريق السري بن خزيمة عن مسلم بن إبراهيم عن جرير بن حازم عن ابن سيرين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وابن ماشطة فرعون» .
- صححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي! وليس بشيء، والوهم فيه من السري بن خزيمة، أو من شيخ الحاكم، فقد أخرج البخاري 3436 ومسلم 2550 وأحمد 2/ 307 وغيرهما من طرق عن مسلم بن إبراهيم.
بهذا الإسناد «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة فذكر فيه عيسى بن مريم، وصاحب جريج، والطفل الرضيع وقصته مع الجبار والجارية» وسيأتي. فهذا هو الصحيح، وليس فيه ذكر ابن ماشطة فرعون ولا شاهد يوسف.
ويلاحظ أن خبر الحاكم صدره «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة. ثم ذكر أربعة؟!!. فهذا دليل على أنه حديث مقلوب، جعل إسناده لمتن آخر، والله أعلم.
(2/432)
 
 
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
في آخرين. والثاني: أنه كان من خاصة الملك. رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس. وقال أبو صالح عن ابن عباس: كان ابن عم لها، وكان رجلاً حكيماً، فقال: قد سمعنا الاشتداد والجلبة من وراء الباب، فإن كان شقُّ القميص من قدَّامه فأنتِ صادقة وهو كاذب، وإِن كان من خلفه فهو صادق وأنت كاذبة، وقال بعضهم: كان ابن خالة المرأة. والثالث: أنه شقُّ القميص، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وفيه ضعف، لقوله: مِنْ أَهْلِها.
فإن قيل: كيف وقعت شهادة الشّاهد ها هنا معلَّقة بشرط، والشارط غير عالم بما يشرطه؟
فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري.
أحدهما: أن الشاهد شاهد بأمر قد علمه، فكأنه سمع بعض كلام يوسف وأزليخا، فعلم، غير أنه أوقع في شهادته شرطاً ليَلزم المخاطبين قبولُ شهادته من جهة العقل والتمييز، فكأنه قال: هو الصّادق عندي، فإن تدبّرتم ما أشترطه لكم، عقلتم قولي، ومثل هذا قول الحكماء: إِن كان القَدَر حقاً، فالحرص باطل، وإِن كان الموت يقيناً، فالطمأنينة إِلى الدنيا حمق.
والجواب الثاني: أن الشاهد لم يقطع بالقول، ولم يعلم حقيقة ما جرى، وإِنما قال ما قال على جهة إِظهار ما يسنح له من الرأي، فكان معنى قوله: وَشَهِدَ شاهِدٌ: أعلم وبيَّن. فقال: الذي عندي من الرأي أن نقيس القميص ليوقَف على الخائن. فهذان الجوابان يدلان على أن المتكلم رجل.
فإن قلنا: إِنه صبي في المهد، كان دخول الشرط مصحِّحاً لبراءة يوسف، لأن كلام مثله أعجوبة ومعجزة لا يبقى معها شكّ.
 
[سورة يوسف (12) : آية 28]
فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
قوله تعالى: فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ في هذا الرائي والقائل: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ قولان:
أحدهما: أنه الزوج. والثاني: الشاهد.
وفي هاء الكناية في قوله: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ «1» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى تمزيق القميص، قاله مقاتل. والثاني: إِلى قولها: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً، فالمعنى: قولكِ هذا من كيدكن، قاله الزجاج. والثالث: إِلى السوء الذي دعته إِليه، ذكره الماوردي.
قال ابن عباس: إِنَّ كَيْدَكُنَّ أي: عملكن عَظِيمٌ تخلطن البريء والسّقيم.
 
[سورة يوسف (12) : الآيات 29 الى 30]
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله 2/ 586: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ أي: إن هذا البهت واللطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن.
(2/433)
 
 
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
قوله تعالى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا المعنى: يا يوسف أعرض. وفي القائل له هذا قولان:
أحدهما: أنه ابن عمها وهو الشاهد، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الزوج، ذكره جماعة من المفسرين.
قال ابن عباس: أَعرضْ عن هذا الأمر فلا تذكره لأحد، واكتمه عليها. وروى الحلبيّ عن عبد الوارث:
«يوسف أعرَضَ عن هذا» بفتح الراء على الخبر.
قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ فيه قولان: أحدهما: استعفي زوجك لئلا يعاقبَكِ، قاله ابن عباس. والثاني: توبي من ذنبكِ فإِنكِ قد أثمتِ.
وفي القائل لهذا قولان: أحدهما: ابن عمها. والثاني: الزوج.
قوله تعالى: إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ يعني: من المذنبين. قال المفسرون: ثم شاع ذلك الحديث في مصر حتى تحدَّث بذلك النساء، وهو قوله: وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ، وفي عددهن قولان: أحدهما: أنهن كن أربعاً: امرأة ساقي الملك، وامرأة صاحب دواته، وامرأة خبَّازه، وامرأة صاحب سجنه، قاله ابن عباس. والثاني: أنهن خمس: امرأة الخبَّاز، وامرأة الساقي، وامرأة السجَّان، وامرأة صاحب الدواة، وامرأة الآذن، قاله مقاتل.
وأما العزيز، فهو بلغتهم الملك، والفتى بمعنى العبد. قال الزجاج: كانوا يسمون المملوك فتى.
وإِنما تكلم النسوة في حقها، طعناً فيها، وتحقيقاً لبراءة يوسف.
قوله تعالى: قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي: بلغ حبُّه شَغاف قلبها. وفي الشَّغاف أربعة أقوال: أحدها: أنه جلدةٌ بين القلب والفؤاد، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أنه غلاف القلب، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة: ولم يُرِدِ الغلاف، إِنما أراد القلب، يقال: شغفت فلاناً: إِذا أصبت شغافه، كما يقال: كبدته:
إِذا أصبت كبده، وبطنته: إِذا أصبت بطنه. والثالث: أنه حَبَّة القلب وسويداؤه. والرابع: أنه داءٌ يكون في الجوف في الشراسيف، وأنشدوا:
وَقَدْ حَالَ هَمٌّ دُوْنَ ذَلِكَ دَاخِلٌ ... دُخُوْلَ الشَّغافِ تَبْتَغِيْهِ الأَصَابِعُ «1»
ذكر القولين الزجاج. وقال الأصمعي: الشَّغاف عند العرب: داءٌ يكون تحت الشراسيف في الجانب الأيمن من البطن، والشَّراسيف: مقاطّ رؤوس الأضلاع، واحدها: شُرسوف. وقرأ عبد الله بن عمرو، وعلي بن الحسين، والحسن البصري، ومجاهد، وابن محيصن، وابن أبي عبلة «قد شعفها» بالعين، قال الفراء: كأنه ذهب بها كل مذهب، والشَّعَف: رؤوس الجبال.
قوله تعالى: إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: عن طريق الرشد، لحبها إِياه. والمبين: الظّاهر.
 
[سورة يوسف (12) : الآيات 31 الى 32]
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
قوله تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ يعني: امرأة العزيز بِمَكْرِهِنَّ وفيه قولان: أحدهما: أنه قولهنّ
__________
(1) البيت للنابغة الذبياني انظر ديوانه 79، وذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «شغف» .
(2/434)
 
 
وعيبهن لها، قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي، وابن قتيبة. قال الزجاج: وإِنما سمي هذا القول مكراً، لأنها كانت أطلعتهن على أمرها، واستكتمتهن، فمكرن وأفشين سرها. والثاني: أنه مكر حقيقة، وإِنما قلن ذلك مكراً بها لتريَهنّ يوسف، قاله ابن إِسحاق.
قوله تعالى: وَأَعْتَدَتْ قال الزجاج: أفعلت من العتاد، وكل ما اتخذته عُدَّةً لشيء فهو عتاد، والعتاد: الشيء الثابت اللازم. فأما المتكأ، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه المجلس فالمعنى: هيأت لهن مجلساً، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنه الوسائد اللائي يتكئن عليها، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال الزجاج: المتكأ: ما يُتَّكأ عليه لطعام أو شراب أو حديث. والثالث: أنه الطعام، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة. قال ابن قتيبة: يقال: اتكأنا عند فلان: إِذا طعمنا، قال جميل بن معمر:
فَظَلِلْنَا في نَعْمةٍ واتَّكأْنا ... وَشَرِبْنَا الحَلاَلَ مِنْ قُلَلِهْ «1»
والأصل في هذا أن من دَعَوْتَه ليطعم، أعددت له التُّكأة للمقام والطمأنينة، فسمي الطعام متَّكأً على الاستعارة. قال الأزهري: إِنما قيل للطعام: متكأ، لأن القوم إِذا قعدوا على الطعام اتكؤوا، ونُهيت هذه الأمة عن ذلك. وقرأ مجاهد «مُتْكاً» بإسكان التاء خفيفة، وفيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه الأُتْرُجّ، قاله ابن عباس ومجاهد ويحيى بن يعمر في آخرين، ومنه قول الشاعر:
وترى المُتْكَ بَيْنَنَا مُسْتَعَارَا «2»
يريد: الأُتْرُجّ. والثاني: أنه الطعام أيضا، قاله عكرمة. والثالث: كل شيء يُحَزُّ بالسكاكين، قاله الضحاك. والرابع: أنه الزُّماورد، روي عن الضحاك أيضاً.
وقد روي عن جماعة أنهم فسروا المتَّكأَ بما فسروا به المُتك، فروي عن ابن جريج أنه قال:
المتَّكأُ: الأترج، وكل ما يُحَزُّ بالسكاكين. وعن الضحاك قال: المتَّكأُ: كل ما يُحَزُّ بالسكاكين. وفرق آخرون بين القراءتين، فقال مجاهد: من قرأ «متَّكَأً» بالتثقيل، فهو الطعام، ومن قرأ بالتخفيف، فهو الأُتْرُجُّ. قال ابن قتيبة: من قرأ «مُتْكاً» فإنه يريد الأترج، ويقال: الزُّماورد. وأياً ما كان، فإني لا أحسبه سمي مُتْكاً إِلا بالقطع، كأنه مأخوذ من البَتْك، فأبدلت الميم منه باءً، كما يقال: سَمَد رأسه وسَبَده: إِذا استأصله، وشر لازم، ولازب، والميم تبدل من الباء كثيراً، لقرب مخرجيها.
قوله تعالى: وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً إِنما فعلت ذلك، لأن الطعام الذي قدمتْ لهن يحتاج إِلى السكاكين. وقيل: كان مقصودها افتضاحهن بتقطيع أيديهن كما فضحنها. قال وهب بن منبه:
ناولت كل واحدة منهن أُتْرُجَّةً وسكيناً، وقالت لهن: لا تقطعن ولا تأكلن حتى أُعلمكن، ثم قالت ليوسف: اخرج عليهن. قال الزجاج: إِن شئت ضممت التاء من قوله: «وقالت» ، وإِن شئت كسرت، والكسر الأصل لسكون التاء والخاء، ومن ضم التاء، فلثقل الضمة بعد الكسرة. ولم يمكنه أن لا يخرج، لأنه بمنزلة العبد لها. وذكر بعض أهل العلم أنها إِنما قالت: «اخرج» وأضمرت في نفسها «عليهن» ، فأخبر الحق عما في النفس كأن اللسان قد نطق به، ومثله: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً
__________
(1) في «اللسان» مادة «قلل» القلّة: الحبّ العظيم، وقيل: الجرة العظيمة، وقيل: الجرة عامة وقيل: الكوز الصغير، والجمع قلل وقلال، وقيل: هو إناء للعرب كالجرة الكبيرة.
(2) هو عجز بيت وصدره: لنشرب الإثم بالصّواع جهارا. انظر «تفسير القرطبي» 9/ 153.
(2/435)
 
 
وَلا شُكُوراً «1» لم يقولوا ذلك، إِنما أضمروه، ويدل على صحة هذا أنها لو قالت له وهو شاب مستحسَن: اخرج على نسوة من طبعهن الفتنة، ما فعل.
وفي قوله تعالى: أَكْبَرْنَهُ قولان: أحدهما: أَعْظَمْنَهُ، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال قتادة، وابن زيد. والثاني: حِضْنَ «2» ، رواه الضحاك عن ابن عباس. وروى عليّ بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال: حضن من الفَرَح، قال: وفي ذلك يقول الشاعر:
نَأْتي النساءَ لدى أطهارهنّ ولا ... نأتي النساء إذا أكثرن إِكبارا «3»
وقد روى هذا المعنى ليث عن مجاهد، واختاره ابن الأنباري، وردّه بعض اللغويين، فروي عن أبي عبيدة أنه قال: ليس في كلام العرب «أكبرن» بمعنى «حِضن» ، ولكن عسى أن يكنّ من شدة ما أعظمنه حضن، وكذلك روي عن الزجاج أنه أنكره.
قوله تعالى: وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: حَزَزْنَ أيديَهن، وكن يحسبن أنهن يقطّعن طعاماً، قاله ابن عباس، وابن زيد. والثاني: قطّعن أيدَيهن حتى ألقينها، قاله مجاهد، وقتادة. والثالث:
كلَمن الأكُفَّ وأبنَّ الأنامل، قاله وهب بن منبّه.
قوله تعالى: وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ قرأ أبو عمرو «حاشا» بألف في الوصل في الموضعين، واتفقوا على حذف الألف في الوقف، وأبو عمرو جاء به على التمام والأصل، والباقون حذفوا. وهذه الكلمة تستعمل في موضعين. أحدهما: الاستثناء. والثاني: التبرئة من الشر. والأصل «حاشا» وهي مشتقة من قولك: كنت في حشا فلان، أي: في ناحيته. والحشا: الناحية، وأنشدوا:
بأيِّ الحَشَا أَمْسَى الخَلِيْطُ المُبَايِنُ «4»
أي: بأي النواحي، والمعنى: صار يوسف في حشاً من أن يكون بشراً، لفرط جماله. وقيل:
صار في حشاً مما قرفته به امرأة العزيز. وقال ابن عباس، ومجاهد: «حاش لله» بمعنى: معاذ الله. قال الفراء: و «بشراً» منصوب، لأن الباء قد استعملت فيه، فلا يكاد أهل الحجاز ينطقون إِلا بالباء، فلما حذفوها أحبوا أن يكون لها أثر فيما خرجت منه، فنصبوا على ذلك، وكذلك قوله: ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ «5» ، وأما أهل نجد فيتكلمون بالباء وبغير الباء، فإذا أسقطوها، رفعوا، وهو أقوى الوجهين في العربية. قال الزّجّاج: قوله: الرّفع أقوى الوجهين، غلط، لأن كتاب الله أقوى اللغات، ولم يقرأ بالرفع أحد. وزعم الخليل، وسيبويه، وجميع النحويين القدماء أن «بشراً» منصوب، لأنه خبر «ما» و «ما» بمنزلة «ليس» . قلت: وقد قرأ أبو المتوكّل، وأبو نهيك، وعكرمة، ومعاذ القارئ في آخرين: «ما هذا
__________
(1) سورة الإنسان: 9.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله: 7/ 203: مرجحا القول الأول: لا شك أن المحال أن يحضن من يوسف، ولكن الخبر، إن كان صحيحا عن ابن عباس على ما روي فخليق أن يكون معناه في ذلك: أنهن حضن لما أكبرن من حسن يوسف وجماله في أنفسهن، ووجدن ما يجد النساء من مثل ذلك.
ووافقه ابن كثير في تفسيره 2/ 587 بقوله: أكبرنه: أي أعظمن شأنه وأجللن قدره.
(3) بيت مصنوع، وقائله مجهول، انظر تفسير الطبري والبحر المحيط. [.....]
(4) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «حشا» ، وعزاه إلى المعطّل الهذلي، وعنده- الحبيب- بدل- الخليط-.
(5) سورة المجادلة: 2.
(2/436)
 
 
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
بشر» بالرفع. وقرأ أُبيُّ بنُ كعبٍ، وأبو الجوزاء، وأبو السَّوَّار: «ما هذا بِشِرىً» بكسر الباء والشين مقصوراً منونّاً. قال الفراء: أي: ما هذا بمشترى. وقرأ ابن مسعود: «بشراءٍ» بالمد والهمز مخفوضاً منونّاً.
قوله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قرأ أبيّ، وأبو رزين، وعكرمة، وأبو حياة، والجحدري:
«ملِك» بكسر اللام.
قوله تعالى: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ قال المفسرون: لما ذهلت عقولهن فقطَّعن أيدَيهن، قالت لهن ذلك. فإن قيل: كيف أشارت إِليه وهو حاضر بقولها: «فذلكن» ؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري: أحدهما: أنها أشارت ب «ذلكن» إِلى يوسف بعد انصرافه من المجلس. والثاني: أن في الكلام إِضمار «هذا» تقديره: فهذا ذلكن. ومعنى «لمتنّني فيه» أي: في حبه. ثم أقرت عندهن، فقالت:
وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ أي: امتنع.
قوله تعالى: وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ قال الزجاج: القراءة الجيدة تخفيف «وليكوننْ» والوقف عليها بالألف، لأن النون الخفيفة تبدل منهما في الوقف الألف، تقول: اضربا زيداً، وإِذا وقفت قلت:
اضربا. وقد قرئت «وليكوننَّ» بتشديد النون، وأكرهُها، لخلاف المصحف، لأن الشديدة لا يبدل منها شيء. والصاغرون: المذَلُّون.
 
[سورة يوسف (12) : الآيات 33 الى 34]
قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
قوله تعالى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ قال وهب بن منبه: لما قالت: «فذلكن الذي لمتنّني فيه» قلن: لا لوم عليكِ، قالت: فاطلبن إِلى يوسف أن يسعفني بحاجتي، فقلن: يا يوسف افعل، فقالت:
لئن لم يفعل لأخلدنَّه السجن، فعند ذلك قال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ. وقرأ يعقوب: «السَّجن» بفتح السين ها هنا فحسب. قال الزجاج: من كسر سين «السجن» فعلى اسم المكان، فيكون المعنى: نزول السجن أحب إِليَّ من ركوب المعصية، ومن فتح، فعلى المصدر، المعنى: أن أُسجن أحب إِلي.
وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أي: إِلاَّ تعصمني أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أي: أمِل إِليهن. يقال: صبا إِلى اللهو يصبو صَبْواً وصُبُوّاً وصَباءً: إِذا مال إليه. وقال ابن الأنباري: ومعنى هذا الكلام: اللهم اصرف عني كيدهن، ولذلك قال: فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ.
قال: فإن قيل: إِنما كادته امرأة العزيز وحدها، فكيف قال: «كيدهن» ؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن العرب توقع الجمع على الواحد، فيقول قائلهم: خرجت إِلى البصرة في السفن، وهو لم يخرج إِلا في سفينة واحدة. والثاني: أن المكنيَّ عنه امرأة العزيز والنسوة اللاتي عاضدنها على أمرها. والثالث: أنه عنى امرأة العزيز وغيرها من نساء العالَمين اللاتي لهنّ مثل كيدها.
 
[سورة يوسف (12) : آية 35]
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
قوله تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ في المراد بالآيات ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها شق القميص، وقضاء ابن عمها عليها، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(2/437)
 
 
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
والثاني: أنها قدّ القميص، وشهادة الشاهد، وقطع الأيدي، وإِعظام النساء إِياه، رواه مجاهد عن ابن عباس. والثالث: جَمَاله وعِفَّتُه، ذكره الماوردي.
قال وهب بن منبه: فأشار النسوة عليها بسجنه رجاء أن يستهوينه حين يخلو لهن في السجن، وقلن: متى سجنتيه قطع ذلك عنكِ قَالَةَ الناس التي قد شاعت، ورأوا أنكِ تبغضينه، ويذلُّه السجن لك، فلما انصرفن عادت إِلى مراودته فلم يزدد إِلا بُعداً عنها، فلما يئست، قالت لسيدها: إِن هذا العبد قد فضحني، وقد أبغضتُ رؤيته، فائذن لي في سجنه، فأذن لها، فسجنتْه وأضرَّتْ به. وقال السدي:
قالت: إِما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر بعذري، وإِما أن تحبسه كما حبستني، فظهر للعزيز وأصحابه من الرأي حبس يوسف. قال الزجاج: كان العزيز أمر بالإِعراض فقط، ثم تغيَّر رأيه عن ذلك. قال ابن الأنباري: وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: «ثم بدا لهم» أي: ظهر لهم بالقول والرأي والفكر سجنه.
والثاني: ثم بدا لهم في يوسف بداء، فقالوا: والله لنسجننَّه، فاللام جواب يمين مضمرة.
فأما «الحين» ، فهو يقع على قصير الزمان وطويله. وفي المراد به ها هنا للمفسرين خمسة أقوال:
أحدها: خمس سنين، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: سنة، روي عن ابن عباس أيضاً.
والثالث: سبع سنين، قاله عكرمة. والرابع: إِلى انقطاع القالَة، قاله عطاء. والخامس: أنه زمان غير محدود، ذكره الماوردي، وهذا هو الصحيح، لأنهم لم يعزموا على حبسه مدة معلومة، وإِنما ذكر المفسّرون قدر ما لبث.
 
[سورة يوسف (12) : آية 36]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
قوله تعالى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قال الزجاج: فيه دليل على أنه حبس، وإِن لم يُذكر ذلك. و «فتيان» جائز أن يكونا حَدَثين أو شيخين، لأنهم يسمون المملوك فتى. قال ابن الأنباري: إِنما قال: «فتيان» لأنهما كانا مملوكين، والعرب تسمي المملوك فتى، شاباً كان أو شيخاً. قال المفسرون:
عُمِّر ملك مصر فملُّوه، فدسُّوا إِلى خبَّازه وصاحب شرابه أن يسمَّاه، فبلغه ذلك فحبسهما، فكان يوسف قال لأهل السجن: إِني أعبِّر الأحلام، فقال أحد الفتيين: هلم فلنجرب هذا العبد العبراني. واختلفوا هل كانت رؤياهما صادقة، أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها كانت كذباً، وإِنما سألاه تجريباً، قاله ابن مسعود، والسدي.
والثاني: أنها كانت صدقاً، قاله مجاهد، وابن إِسحاق.
والثالث: أن الذي صُلب منهما كان كاذباً، وكان الآخر صادقاً، قاله أبو مجلز.
قوله تعالى: قالَ أَحَدُهُما يعني الساقي إِنِّي أَرانِي أي: في النوم أَعْصِرُ خَمْراً أي: عنباً.
وفي تسمية العنب خمراً ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه سماه باسم ما يؤول إِليه، لأن المعنى لا يلتبس، كما يقال: فلان يطبخ الآجُرَّ ويعمل الدبس، وإِنما يطبخ اللبِن ويصنع التمر، وهذا قول أكثر المفسرين. قال ابن الأنباري: وإِنما كان
(2/438)
 
 
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
كذلك، لأن العرب توقع بالفرع ما هو واقع بالأصل كقولهم: فلان يطبخ آجُرَّاً.
والثاني: أن الخمر في لغة أهل عُمان اسم للعنب، قاله الضحاك، والزجاج. قال ابن القاسم:
وقد نطقت قريش بهذه اللغة وعرفتها.
والثالث: أن المعنى: أعصر عنب خمر، وأصل خمر، وسبب خمر، فحذف المضاف، وخلفه المضاف إِليه، كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» . قال أبو صالح عن ابن عباس: رأى يوسف ذات يوم الخباز والساقي مهمومَين، فقال: ما شأنكما؟ قالا: رأينا رؤيا، قال: قصّاها عليّ، فقال الساقي: إِني رأيت كأني دخلت كرماً فجنيت ثلاثة عناقيد عنب، فعصرتهن في الكأس، ثم أتيت به الملك فشربه، وقال الخباز: رأيت أني خرجت من مطبخ الملك أحمل فوق رأسي ثلاث سلال من خبز، فوقع طير على أعلاهن فأكل منها، نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أي: أخبرنا بتفسيره. وفي قوله تعالى: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ خمسة أقوال:
أحدها: أنه كان يعود المرضى ويداويهم ويعزّي الحزين، رواه مجاهد عن ابن عباس.
والثاني: إِنا نراك محسناً إِن أنبأتنا بتأويله، قاله ابن إِسحاق.
والثالث: إِنا نراك من العالِمين قد أحسنت العلم، قاله الفراء. قال ابن الأنباري: فعلى هذا يكون مفعول الإِحسان محذوفاً، كما حذف في قوله: وَفِيهِ يَعْصِرُونَ «2» يعني العنب والسمسم. وإِنما علموا أنه عالم، لنشره العلم بينهم.
والرابع: إِنا نراك ممن يحسن التأويل، ذكره الزجاج.
والخامس: إِنا نراك محسناً إِلى نفسك بلزومك طاعة الله، ذكره ابن الأنباري.
 
[سورة يوسف (12) : الآيات 37 الى 39]
قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39)
قوله تعالى: قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ في معنى الكلام قولان:
أحدهما: لا يأتيكما طعام تُرْزَقانه في اليقظة إِلا أخبرتكما به قبل أن يصل إِليكما، لأنه كان يخبر بما غاب كعيسى عليه السلام، وهو قول الحسن.
والثاني: لا يأتيكما طعام تُرْزَقانه في المنام إِلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما في اليقظة، هذا قول السدي. قال ابن عباس: فقالا له: وكيف تعلم ذلك، ولست بساحر، ولا عرّاف، ولا صاحب نجوم فقال: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي.
فإن قيل: هذا كله ليس بجواب سؤالهما، فأين جواب سؤالهما؟ فعنه أربعة أجوبة:
__________
(1) سورة يوسف: 82.
(2) سورة يوسف: 49.
(2/439)
 
 
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
أحدها: أنه لما علم أن أحدهما مقتول، دعاهما إِلى نصيبهما من الآخرة، قاله قتادة.
والثاني: أنه عدل عن الجواب لما فيه من المكروه لأحدهما، قاله ابن جريج.
والثالث: أنه ابتدأ بدعائهما إِلى الإِيمان قبل جواب السؤال، قاله الزجاج.
والرابع: أنه ظنهما كاذبَين في رؤياهما، فعدل عن جوابهما ليُعرضا عن مطالبته بالجواب، فلما ألحّا أجابهما، ذكره ابن الأنباري. فأما الملَّة فهي الدين. وتكرير قوله: «هم» للتوكيد.
قوله تعالى: ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قال ابن عباس: يريد: أن الله عصمنا من الشرك ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا أي: اتِّباعنا الإِيمان بتوفيق الله. وَعَلَى النَّاسِ يعني المؤمنين بأن دلهم على دينه. وقال ابن عباس: «ذلك من فضل الله علينا» أن جعلنا أنبياء «وعلى الناس» أن بعثنا إِليهم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ من أهل مصر لا يَشْكُرُونَ نعم الله فيوحِّدونه.
قوله تعالى: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ يعني: الأصنام من صغير وكبير خَيْرٌ أي: أعظم صفة في المدح أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ يعني أنه أحق بالإِلهية من الأصنام؟ فأما الواحد، فقال الخطابي: هو الفرد الذي لم يزل وحده، وقيل: هو المنقطع القرين، المعدوم الشريك والنظير، وليس كسائر الآحاد من الأجسام المؤلَّفة، فإن كل شيء سواه يُدعى واحداً من جهة، غير واحد من جهات، والواحد لا يثنّى من لفظه، لا يقال: واحدان. والقهار: الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعقوبة، وقهر الخلق كلَّهم بالموت. وقال غيره: القهار: الذي قهر كل شيء فذلَّلَه، فاستسلم وذلّ له.
 
[سورة يوسف (12) : الآيات 40 الى 41]
ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41)
قوله تعالى: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِنما جمع في الخطاب لهما، لأنه أراد جميع من شاركهما في شركهما. وقوله: «من دونه» أي: من دون الله إِلَّا أَسْماءً يعني: الأرباب والآلهة، ولا يصح معاني تلك الأسماء للأصنام، فكأنها أسماء فارغة، فكأنهم يعبدون الأسماء، لأنها لا تصح معانيها. ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي: من حجة بعبادتها إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي: ما القضاء والأمر والنهي إِلا له.
ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي: المستقيم، يشير إِلى التوحيد. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فيه قولان:
أحدهما: أنه لا يجوز عبادة غيره. والثاني: لا يعلمون ما للمطيعين من الثواب وللعاصين من العقاب.
قوله تعالى: أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً الرب هاهنا: السيد. قال ابن السائب: لما قص الساقي رؤياه على يوسف، قال له: ما أحسن ما رأيت! أما الأغصان الثلاثة، فثلاثة أيام، يبعث إِليك الملك عند انقضائها، فيردك إِلى عملك، فتعود كأحسن ما كنت فيه، وقال للخبَّاز: بئس ما رأيت، السلال الثلاث، ثلاثة أيام، ثم يبعث إِليك الملك عند انقضائهن، فيقتلك ويصلبك ويأكل الطير من رأسك، فقالا: ما رأينا شيئاً، فقال: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي: فُرغ منه، وسيقع بكما، صدقتما أو كذبتما.
(2/440)
 
 
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
فإن قيل: لم حتّم على وقوع التأويل، وربما صدق تأويل الرؤيا وكذب؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنه حتم ذلك لوحي أتاه من الله، وسبيل المنام المكذوب فيه أن لا يقع تأويله، فلما قال: «قضي الأمر» ، دل على أنه وحي.
والثاني: أنه لم يحتم، بدليل قوله: وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا، قال أصحاب هذا الجواب:
معنى «قضي الأمر» : قُطع الجواب الذي التمستماه من جهتي، ولم يعنِ أن الأمر واقع بكما. وقال أصحاب الجواب الأول: الظّنّ ها هنا بمعنى العلم.
 
[سورة يوسف (12) : آية 42]
وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
قوله تعالى: وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا يعني الساقي. وفي هذا الظن قولان: أحدهما: أنه بمعنى العلم، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه الظن الذي يخالف اليقين، قاله قتادة.
قوله تعالى: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أي: عند صاحبك، وهو الملك، وقل له: إِن في السجن غلاماً حُبس ظلماً. واسم الملك: الوليد بن الريّان.
قوله تعالى: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فيه قولان:
أحدهما: فأنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف لربه، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن إِسحاق. والثاني: فأنسى الشيطان يوسف ذكر ربه، وأمره بذكر الملك ابتغاءَ الفرج من عنده، قاله مجاهد ومقاتل والزجاج، وهذا نسيان عمد، لا نسيان سهو، وعكسه القول الذي قبله.
قوله تعالى: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ أي: غير ما كان قد لبث قبل ذلك، عقوبة له على تعلُّقه بمخلوق. وفي البضع تسعة أقوال: أحدها: ما بين السبع والتسع.
(812) روى ابن عباس أن أبا بكر لما ناحب قريشاً عند نزول الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ، قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا احتطتَ، فانَّ البِضْع ما بين السبع إِلى التسع» .
والثاني: اثنتا عشرة سنة، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث: سبع سنين، قاله عكرمة.
والرابع: أنه ما بين الخمس إِلى السبع، قاله الحسن. والخامس: أنه ما بين الأربع إِلى التسع، قاله مجاهد. والسادس: ما بين الثلاث إِلى التسع، قاله الأصمعي، والزجاج. والسابع: أن البضع يكون بين الثلاث والتسع والعشر، قاله قتادة. والثامن: أنه ما دون العشرة، قاله الفراء، وقال الأخفش: البضع:
من واحد إلى عشرة. والتاسع: أنه ما لم يبلغ العقد ولا نصفه، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة: يعني ما بين الواحد إِلى الأربعة. وروى الأثرم عن أبي عبيدة: البضع: ما بين ثلاث وخمس. وفي جملة ما لبث في السجن ثلاثة أقوال: أحدها: اثنتا عشرة سنة، قاله ابن عباس. والثاني: أربع عشرة، قاله الضحاك.
والثالث: سبع سنين، قاله قتادة. قال مالك بن دينار: لما قال يوسف للساقي: «اذكرني عند ربك» ، قيل
__________
يأتي في مطلع سورة الروم إن شاء الله تعالى.
(2/441)
 
 
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
له: يا يوسف، أتخذت من دوني وكيلاً؟ لأطيلنّ حبسك، فبكى، وقال: يا ربّ، أنسى قلبي كَثرةُ البلوى، فقلت كلمة، فويل لإخوتي.
 
[سورة يوسف (12) : آية 43]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43)
قوله تعالى: وَقالَ الْمَلِكُ يعني ملك مصر الأكبر إِنِّي أَرى يعني في المنام، ولم يقل:
رأيت، وهذا جائز في اللغة أن يقول القائل: أرى، بمعنى رأيت. قال وهب بن منبه: لما انقضت المدة التي وقّتها الله تعالى ليوسف في حبسه، دخل عليه جبريل إِلى السجن، فبشَّره بالخروج وملكِ مصر ولقاءِ أبيه، فلما أمسى الملك من ليلتئذ، رأى سبع بقرات سمان خرجن من البحر، في آثارهن سبع عجاف، فأقبلت العجاف على السمان، فأخذن بأذنابهن فأكلنهن إِلى القرنين، ولم يزد في العجاف شيء، ورأى سبع سنبلات خضر وقد أقبل عليهن سبع يابسات فأكلنهن حتى أتين عليهن، ولم يزدد في اليابسات شيء، فدعا أشراف قومه فقصها عليهم، فقالوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ. قال الزجاج: والعجاف: التي قد بلغت في الهزال الغاية. والملأ: الذين يُرجع إِليهم في الأمور ويقتدى برأيهم، واللام في قوله: لِلرُّءْيا دخلت على المفعول للتبيين، المعنى: إِن كنتم تعبرون. ثم بيّن باللام فقال: «للرؤيا» . ومعنى عبرتُ الرؤيا وعبَّرتها: أخبرت بآخر ما يؤول إِليه أمرها، واشتقاقه من عبر النهر، وهو شاطئ النهر، فتأويل عبرت النهر: بلغت إِلى عِبْره، أي: إِلى شطه، وهو آخر عرضه. وذكر ابن الأنباري في اللام قولين: أحدهما: أنها للتوكيد. والثاني: أنها أفادت معنى «إِلى» والمعنى: إن كنتم توجّهون العبارة إلى الرّؤيا.
 
[سورة يوسف (12) : آية 44]
قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44)
قوله تعالى: قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ قال أبو عبيدة: واحدها ضِغث، مكسورة، وهي ما لا تأويل له من الرؤيا تراه جماعات، تُجمع من الرؤيا كما يُجمع الحشيش، فيقال: ضغث، أي: ملء كف منه.
وقال الكسائي: الأضغاث: الرؤيا المختلطة. وقال ابن قتيبة: «أضغاث أحلام» أي: أخلاط مثل أضغاث النبات يجمعها الرجل، فيكون فيها ضروب مختلفة. وقال الزجاج: الضغث في اللغة: الحزمة والباقة من الشيء، كالبقل وما أشبهه، فقالوا له: رؤياك أخلاط أضغاث، أي: حزم أخلاط، ليست برؤيا بيِّنه وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ أي: ليس للرؤيا المختلطة عندنا تأويل. وقال غيره: وما نحن بتأويل الأحلام الذي هذا وصفها بعالمين. والأحلام: جمع حُلُم، وهو ما يراه الإِنسان في نومه مما يصحّ ومما يبطل.
 
[سورة يوسف (12) : الآيات 45 الى 48]
وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
(2/442)
 
 
قوله تعالي: وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما يعني الذي تخلص من القتل من الفتيين، وهو الساقي، وَادَّكَرَ اي: تذكر شأن يوسف وما وصَّاه به. قال الزجاج: وأصل ادَّكر: اذتكر، ولكن التاء ابدلت منها الدال، وأدغمت الذال في الدال. وقرأ الحسن: «واذَّكر» بالذال المشددة.
وقوله تعالى: بَعْدَ أُمَّةٍ أي: بعد حين، وهو الزمان الذي لبثه يوسف بعده في السجن، وقد سبق بيانه. وقرأ ابن عباس، والحسن «بعد أَمَةً» أراد: بعد نسيان.
فإن قيل: هذا يدل على أن الناسي في قوله: «فأنساه الشيطان ذكر ربه» هو الساقي، ولا شك أن من قال: إِن الناسي يوسف يقول: لم ينس الساقي. فالجواب: أن من قال: إِن يوسف نسي، يقول:
معنى قوله: «وادَّكر» ذكر، كما تقول العرب: احتلب بمعنى حلب، واغتدى بمعنى غدا، فلا يدل إِذاً على نسيان سبقه. وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: إِنما لم يذكر الساقي خبر يوسف للملك حتى احتاج الملك إِلى تأويل رؤياه، خوفاً من أن يكون ذكره ليوسف سبباً لذكره الذنب الذي من أجله حبس، ذكر هذا الجواب ابن الأنباري.
قوله تعالى: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ أي: من جهة يوسف فَأَرْسِلُونِ أثبت الياء فيها وفي وَلا تَقْرَبُونِ «1» أَنْ تُفَنِّدُونِ «2» يعقوب في الحالين، فخاطب الملك وحده بخطاب الجميع، تعظيماً، وقيل: خاطبه وخاطب أتباعه. وفي الكلام اختصار، المعنى: فأرسلوه فأتى يوسف فقال: يا يوسف يا أيها الصدّيق. والصدّيق: الكثير الصدق، كما يقال: فسّيق، وسكّير، وقد سبق بيانه.
قوله تعالى: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ يعني الملك وأصحابه والعلماء الذين جمعهم لتعبير رؤياه.
وفي قوله: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: يعلمون تأويل رؤيا الملك. والثاني: يعلمون بمكانك فيكون سبب خلاصك. وذكر ابن الأنباري في تكرير «لعلّ» قولين. أحدهما: أن «لعل» الأولى متعلقة بالإِفتاء، والثانية: مبنية على الرجوع، وكلتاهما بمعنى «كي» . والثاني: أن الأولى بمعنى «عسى» ، والثانية بمعنى «كي» فأعيدت لاختلاف المعنيين، وهذا هو الجواب عن قوله: لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «3» .
قال: المفسرون: كان سيِّده العزيز قد مات، واشتغلت عنه امرأته. وقال بعضهم: لم يكن العزيز قد مات، فقال يوسف للساقي: قل للملك: هذه سبع سنين مُخصِبات، ومن بعدهن سبع سنين شداد، إِلا أن يُحتال لهن، فانطلق الرسول إِلى الملك فأخبره، فقال له الملك: ارجع إِليه فقل له: كيف يُصنع؟
فقال: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «دأْباً» ساكنة الهمزة، إِلا أن أبا عمرو كان إِذا أدرج القراءة لم يهمزها. وروى حفص عن عاصم «دأَباً» بفتح الهمزة. قال أبو علي: الأكثر في «دأب» الإِسكان، ولعل الفتح لغة، ومعنى «دأَباً» أي: زراعة متوالية على عادتكم، والمعنى: تزرعون دائبين. فناب «دأب» عن «دائبين» . وقال الزجاج:
المعنى: تدأبون دأباً، ودل على تدأبون «تزرعون» والدأب: الملازمة للشيء والعادة.
فإن قيل: كيف حكم بعلم الغيب، فقال: «تزرعون» ولم يقل: إِن شاء الله؟ فعنه أربعة أجوبة:
__________
(1) سورة يوسف: 60.
(2) سورة يوسف: 94.
(3) سورة يوسف: 63.
(2/443)
 
 
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
أحدها: أنه كان بوحي من الله عزّ وجل. والثاني: أنه بنى على علم ما علّمه الله من التأويل الحق، فلم يشك. والثالث: أنه أضمر «إِن شاء الله» كما أضمر إِخوته في قولهم: وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا «1» ، فاضمروا الاستثناء في نياتهم، لأنهم على غير ثقة مما وعدوا، ذكره ابن الأنباري. والرابع: أنه كالآمر لهم، فكأنه قال: ازرعوا.
قوله تعالى: فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ فإنه أبقى له، وأبعد من الفساد. والشِّداد: المجدبات التي تشتد على الناس. يَأْكُلْنَ أي: يُذهبن ما قدمتم لهنّ في السنين المخصبة، فوصف السنين بالأكل، وإِنما يؤكل فيها، كما يقال: ليل نائم.
قوله تعالى: إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ أي: تحرزون وتدّخرون.
 
[سورة يوسف (12) : آية 49]
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
قوله تعالى: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ إِن قيل: لِمَ أشار إِلى السنين وهي مؤنثة ب «ذلك» ؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن القاسم: أحدهما: أن السبع مؤنثه، ولا علامة للتأنيث في لفظها، فأشبهت المذكّر، كقوله تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ «2» فذكّر منفطراً لمّا لم يكن في السماء علم التأنيث، قال الشاعر:
فلا مُزْنةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ... وَلاَ أَرْضٌ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا «3»
فذكرّ «أبقل» لِما وصفنا. والثاني: أن «ذلك» إِشارة إِلى الجدب، وهذا قول مقاتل، والأول قول الكلبي. قال قتادة: زاده الله علم عام لم يسألوه عنه.
قوله تعالى: فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ فيه قولان أحدهما: يصيبهم الغيث، قاله ابن عباس. والثاني:
يغاثون بالخصب. ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم: «يعصرون» بالياء. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء، فوجَّها الخطاب إِلى المستفتين. وفي قوله: «يعصرون» خمسة أقوال: أحدها: يعصرون العنب والزيت والثمرات، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والجمهور. والثاني: «يعصرون» بمعنى يحتلبون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وروى ابن الأنباري عن أبيه عن أحمد بن عبيد قال: تفسير «يعصرون» يحتلبون الألبان لِسَعَةِ خيرهم واتِّساع خصبهم، واحتج بقول الشاعر:
فما عِصْمةُ الأعْرَابِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُم ... طَعَامٌ وَلاَ دَرٌّ مِنَ المَالِ يُعْصَرُ
أي: يُحلب. والثالث: ينجون، وهو من العَصَر، والعَصَر: النجاء، والعُصْرة: المنجاة. ويقال:
فلان في عُصْرة: إِذا كان في حصن لا يُقدَر عليه، قال الشاعر:
صَادِياً يَسْتغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود «4»
__________
(1) سورة يوسف: 65.
(2) سورة المزمل: 18.
(3) البيت لعامر بن جوين الطائي، انظر «خزانة الأدب» 1/ 21. وذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «ودق» . وودق به أي: أنس، والودق: المطر كله شديدة وهيّنه، وقد ودق: أي قطر.
(4) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «عصر» ونسبه لأبي زبيد. والصدى: شدة العطش.
(2/444)
 
 
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
أي: غياثاً للمغلوب المقهور، وقال عدي:
لَوْ بِغَيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ ... كُنْتُ كالغصَّانِ بالماءِ اعْتِصَارِي «1»
هذا قول أبي عبيده. والرابع: يصيبون ما يحبون، روي عن أبي عبيدة أيضاً أنه قال: المعتصر:
الذي يصيب الشيء ويأخذه، ومنه هذه الآية. ومنه قول ابن أحمر:
فإنَّما العَيْشُ بريّانِه ... وأَنْتَ من أفْنَانِه مُعْتَصَر
والخامس: يعطون ويفضِلون لِسَعَةِ عيشهم، رواه ابن الأنباري عن بعض أهل اللغة. وقرأ سعيد بن جبير: «يُعصَرون» بضم الياء وفتح الصاد. وقال الزجاج: أراد: يُمطرون من قوله: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً «2» .
 
[سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 51]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
قوله تعالى: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ قال المفسرون: لما رجع الساقي إِلى الملك وأخبره بتأويل رؤياه، وقع في نفسه صحة ما قال، فقال: ائتوني بالذي عبّر رؤياي، فجاءه الرسول، فقال: أجب الملك، فأبى أن يخرج حتى تبين براءته مما قُرف به، فقال: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ يعني الملك فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ وقرأ ابن أبي عبلة: «النُّسوة» بضم النون، والمعنى: فاسأل الملك أن يتعرف ما شأن تلك النسوة وحالهن ليعلم صحة براءتي، وإِنما أشفق أن يراه الملك بعين مشكوك في أمره أو متّهم بفاحشة، وأحب أن يراه بعد استقرار براءته عنده. وظاهر قوله: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ أنه يعني الله عزّ وجلّ، وحكى ابن جرير الطبري أنه أراد به سيده العزيز، والمعنى: أنه يعلم براءتي. وقد روي عن نبيّنا صلّى الله عليه وسلم أنه استحسن حزم يوسف وصبره عن التسرع إلى الخروج. فقال صلّى الله عليه وسلم:
(813) «إنّ الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إِسحاق بن إِبراهيم، لو لبثت في السجن ما لبث يوسف، ثم جاءني الداعي لأجبت» .
__________
صحيح. أخرجه الترمذي 3116، والطحاوي في «المشكل» 330، والطبري 19404 من حديث أبي هريرة، وإسناده حسن لأجل محمد بن عمرو، وحسنه الترمذي. وورد من وجه آخر بنحوه. أخرجه البخاري 3372 ومسلم 151 وابن ماجة 4026، وأحمد 2/ 326، وابن حبان 6208، والطحاوي في «المشكل» 326 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظه في البخاري: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «نحن أحق من إبراهيم إذ قال:
رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ويرحم الله لوطاً، لقد كان يأوي إِلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي» .
__________
(1) البيت لعدي بن زيد انظر «مجاز القرآن» 1/ 314، و «الخزانة» 3/ 594، وذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «شرق» . والشّرق: الشجا والغصة.
(2) سورة النبأ: 14.
(2/445)
 
 
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
وفي ذكره للنسوة دون امرأة العزيز أربعة أقوال: أحدها: أنه خلطها بالنسوة، لحسن عِشرةٍ فيه وأدبٍ، قاله الزجاج. والثاني: لأنها زوجة ملك، فصانها. والثالث: لأن النسوة شاهدات عليها له.
والرابع: لأن في ذكره لها نوع تهمة، ذكر الأقوال الثلاثة الماوردي.
قال المفسرون: فرجع الرسول إِلى الملك برسالة يوسف، فدعا الملك النسوة وفيهن امرأة العزيز، فقال: ما خَطْبُكُنَّ أي: ما شأنكن وقصتكن إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ. فإن قيل: إِنما راودته واحدة، فلم جمعهنّ؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه جمعهن في السؤال ليُعلم عينُ المراوِدة. والثاني:
أن أزليخا راودته على نفسه، وراوده باقي النسوة على القبول منها. والثالث: أنه جمعهنَّ في الخطاب، والمعنى لواحدة منهن، لأنه قد يوقع على النوع وصف الجنس إِذا أُمن من اللبس، يدلّ عليه قول النبي صلّى الله عليه وسلم:
(814) «إِنكن أكثر أهل النار» فجمعهن في الخطاب والمعنى لبعضهن، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ قال الزجاج: قرأ الحسن «حاش» بتسكين الشين، ولا اختلاف بين النحويين أن الإِسكان غير جائز، لأن الجمع بين ساكنين لا يجوز، ولا هو من كلام العرب. فأعلم النسوةُ الملكَ براءة يوسف من السوء، فقالت امرأة العزيز: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أي: برز وتبين، واشتقاقه في اللغة من الحِصَّة، أي: بانت حصة الحق وجهته من حصة الباطل. وقال ابن القاسم:
«حصحص» بمعنى وضح وانكشف، تقول العرب: حصحص البعير في بروكه: إِذا تمكن، وأثَّر في الأرض، وفرَّق الحصى. وللمفسرين في ابتداء أزليخا بالإِقرار قولان:
أحدهما: أنها لما رأت النسوة قد برّأنه، قالت: لم يبق إِلا أن يُقبِلن علي بالتقرير، فأقرت، قاله الفراء. والثاني: أنها أظهرت التوبة وحقّقت صدق يوسف، قاله الماوردي.
 
[سورة يوسف (12) : آية 52]
ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52)
قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال مقاتل: «ذلك» بمعنى هذا. وقال ابن الأنباري:
قال اللغويون: هذا وذلك يصلحان في هذا الموضع وأشباهه، لقرب الخبر من أصحابه، فصار كالمشاهد الذي يشار إِليه بهذا، ولمّا كان متقضياً أمكن أن يشار إِليه بذلك، لأن المتقضّي كالغائب.
واختلفوا في القائل لهذا على ثلاثة أقوال:
__________
صحيح. هذا جزء من حديث طويل، أخرجه البخاري 304، ومسلم 80 والبيهقي 4/ 235، وابن حبان 5744 والبغوي 19 من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ولفظه في البخاري خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أضحى- أو فطر- إلى المصلى، فمرّ على النساء فقال: «يا معشر النساء تصدّقن، فإني أريتكن أكثر أهل النار» ، فقلن: وبم يا رسول الله؟، قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن» ، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟» قلن: بلى. قال: «فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم؟» قلن: بلى. قال: «فذلك من نقصان دينها» . وله شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه مسلم 79.
(2/446)
 
 
أحدها: أنه يوسف «1» ، وهو من أغمض ما يأتي من الكلام أن تحكي عن شخص شيئاً ثم تصله بالحكاية عن آخر، ونظير هذا قوله: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ هذا قول الملأ فَماذا تَأْمُرُونَ «2» قول فرعون. ومثله: وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً هذا قول بلقيس وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ «3» قول الله عزّ وجلّ. ومثله: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا قول الكفار، فقالت الملائكة: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ «4» وإِنما يجوز مثل هذا في الكلام، لظهور الدلالة على المعنى. واختلفوا، أين قال يوسف هذا؟ على قولين:
أحدهما: أنه لما رجع الساقي إِلى يوسف فأخبره وهو في السجن بجواب امرأة العزيز والنسوة للملك، قال حينئذ: «ذلك ليعلم» ، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن جريج.
والثاني: أنه قاله بعد حضوره مجلس الملك، رواه عطاء عن ابن عباس.
قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أي: ذلك الذي فعلت من ردِّي رسول الملك، ليعلم.
واختلفوا في المشار إِليه بقوله: «ليعلم» وقوله: «لم أخنه» على أربعة أقوال:
أحدها: أنه العزيز، والمعنى: ليعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته بِالْغَيْبِ أي: إِذا غاب عني، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وقتادة، والجمهور.
والثاني: أن المشار إِليه بقوله: «ليعلم» الملك، والمشار إِليه بقوله: «لم أخنه» العزيز، والمعنى:
ليعلم الملك أني لم أخن العزيز في أهله بالغيب، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: أن المشار إِليه بالشيئين، الملك، فالمعنى: ليعلم الملك أني لم أخنه، يعني الملك أيضاً، بالغيب. وفي وجه خيانة الملك في ذلك قولان: أحدهما: لكون العزيز وزيره، فالمعنى: لم أخنه في امرأة وزيره، قاله ابن الأنباري. والثاني: لم أخنه في بنت أخنه، وكانت أزليخا بنت أخت الملك، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والرابع: أن المشار إِليه بقوله: «ليعلم» الله عزّ وجلّ، فالمعنى: ليعلم الله أني لم أخنه، روي عن مجاهد، قال ابن الأنباري: نسبَ العلم إِلى الله في الظاهر، وهو في المعنى للمخلوقين، كقوله:
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ «5» .
فإن قيل: إِن كان يوسف قال هذا في مجلس الملك، فكيف قال: «ليعلم» ولم يقل: لتعلم، وهو يخاطبه؟ فالجواب: أنا إِن قلنا: إِنه كان حاضراً عند الملك، فانما آثر الخطاب بالياء توقيراً للملك، كما يقول الرجل للوزير: إِن رأى الوزير أن يوقّع في قصتي. وإِن قلنا: إِنه كان غائباً، فلا وجه لدخول التاء، وكذلك إِن قلنا: إِنه عنى العزيز، والعزيز غائب عن مجلس الملك حينئذ.
والقول الثاني: أنه قول امرأة العزيز، فعلى هذا يتصل بما قبله، والمعنى: ليعلم يوسف أني لم
__________
(1) هذا القول ورد عن جماعة من المفسرين، وهو غريب، وكأنهم تتابعوا على ذلك حيث أخذه بعضهم عن بعض، وليس بصواب وانظر ما يأتي. [.....]
(2) سورة الأعراف: 110.
(3) سورة النمل: 34.
(4) سورة يس: 52.
(5) سورة محمد: 31.
(2/447)
 
 
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
أخنه في غيبته الآن بالكذب عليه «1» .
والثالث: أنه قول العزيز، والمعنى: ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، فلم أغفل عن مجازاته على أمانته، حكى القولين الماوردي.
قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ قال ابن عباس: لا يصوِّب عمل الزناة، وقال غيره:
لا يرشد من خان أمانته ويفضحه في عاقبته.
 
[سورة يوسف (12) : الآيات 53 الى 56]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
قوله تعالى: وَما أُبَرِّئُ، في القائل لهذا ثلاثة أقوال، وهي تقدمت في الآية قبلها.
فالذين قالوا: هو يوسف، اختلفوا في سبب قوله لذلك على خمسة أقوال: أحدها: أنه لما قال:
«ليعلم أني لم أخنه بالغيب» غمزه جبريل عليه السّلام، فقال: ولا حين هممت؟ فقال: «وما أبرّئ نفسي» رواه عكرمة عن ابن عباس «2» ، وبه قال الأكثرون. والثاني: أن يوسف لما قال: «لم أخنه» ذكر أنه قد همّ بها، فقال: «وما أبرّئ نفسي» ، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنه لمّا قال ذلك،
__________
(1) هذا القول هو الحق إن شاء الله تعالى، وسياق الكلام في الآيات وسياقها يدل على ذلك دلالة واضحة، فيوسف اكتفى بقوله لرسول الملك ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قاله وهو في السجن، وانقطع كلامه، ثم كان من الملك أن جمع النسوة مع امرأة العزيز، وسألهن عن ذلك بقوله قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ... فالكلام موصول. حوار يدور بين الملك والنسوة، وأما يوسف فهو في السجن، وقد اكتفى بأمره رسول الملك أن يستفسر الملك عن ذلك.
- وقال الحافظ ابن كثير في «التفسير» 2/ 593 ما ملخصه: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ تقول: إنما اعترفت بهذا على نفسي، ذلك ليعلم زوجي أني لم أخنه في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة، وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي تقول المرأة: ولست أبرئ نفسي، فإن النفس تتحدث وتتمنى، ولهذا راودته لأن النفس أمّارة بالسوء، إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي أي: إلا من عصمه الله تعالى، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وهذا القول هو الأشهر والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام. وقد حكاه الماوردي في تفسيره. وانتدب لنصره الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله فأفرده بتصنيف على حدة، وقد قيل: إن ذلك من كلام يوسف عليه السلام، وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة، وابن أبي هذيل، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي والقول الأول أقوى وأظهر، لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف- عليه السلام- عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك.
(2) باطل مصنوع. أخرجه الطبري 19435 و 19436 و 19437 من طرق عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس، وسماك ضعيف في روايته عن عكرمة، وقد اختلط بأخرة، وهذا قول باطل، وإن ثبت عن ابن عباس، فإنما يكون تلقاه عن كتب الأقدمين.
(2/448)
 
 
خاف أن يكون قد زكَّى نفسه، فقال: «وما أبرّئ نفسي» ، قاله الحسن. والرابع: أنه لما قاله، قال له الملك الذي معه: اذكر ما هممت به، فقال: «وما أبرّئ نفسي» ، قاله قتادة. والخامس: أنه لما قاله، قالت امرأة العزيز: ولا يوم حللتَ سراويلك؟ فقال: «وما أبرّئ نفسي» ، قاله السدي «1» .
والذين قالوا: هذا قول امرأة العزيز، فالمعنى: وما أبرّئ نفسي من سوء الظن بيوسف، لأنه قد خطر لي.
قوله تعالى: لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة، ويعقوب إِلا رويساً: «بالسوء إِلا» بتحقيق الهمزتين. وقرأ أبو عمرو، وابن شنبوذ عن قنبل بتحقيق الثانية وحذف الأولى. وروى نظيف عن قنبل بتحقيق الأولى وقلب الثانية ياءً. وقرأ أبو جعفر، وورش، ورويس بتحقيق الأولى وتليين الثانية بين بين، مثل: «السُّوء عِلاَّ» . وروى ابن فليح بتحقيق الثانية وقلب الأولى واواً، وأدغمها في الواو قبلها، فتصير واواً مكسورة مشددة قبل همزة «إِلا» .
قوله تعالى: إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي قال ابن الأنباري: قال اللغويون: هذا استثناء منقطع، والمعنى:
إِلا أن رحمة ربي عليها المعتمَد. قال أبو صالح عن ابن عباس: المعنى: إِلا من عصم ربي وقيل «ما» بمعنى «من» . قال الماوردي: ومن قال: هو من قول امرأة العزيز، فالمعنى: إِلا من رحم ربي في قهره لشهوته، أو في نزعها عنه. ومن قال: هو قول العزيز، فالمعنى: إِلا من رحم ربي بأن يكفيَه سوء الظن، أو يث