زاد المسير في علم التفسير 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: زاد المسير في علم التفسير
المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)
 
وقال قوم: في الآية تقديم وتأخير، ومعناها: إِذا قمتم إِلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء، فاغسلوا وجوهكم «1» .
قوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ «إِلى» حَرْفٌ موضوعٌ للغاية، وقد تدخل الغاية فيها تارة، وقد لا تدخل، فلما كان الحديث يقيناً، لم يرتفع إِلا بيقين مثله، وهو غسل المرفقين. فأما الرأس فنقل عن أحمد وجوب مسح جميعه «2» ، وهو قول مالك، وروي عنه: يجب مسح أكثره، وروي عن أبي حنيفة روايتان: إِحداهما: أنه يتقدّر بربع الرأس. والثانية: بمقدار ثلاث أصابع.
قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم:
بكسر اللام عطفاً على مسح الرأس، وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم، ويعقوب:
بفتح اللام عطفاً على الغَسل، فيكون من المقدم والمؤخّر. قال الزجاج: الرِّجل من أصل الفخذ إِلى القدم، فلما حدّ الكعبين، عُلمَ أن الغسل ينتهي إِليهما، ويدل على وجوب الغَسل التحديد بالكعبين، كما جاء في تحديد اليد «إلى المرافق» ولم يجيء في شيء من المسح تحديد. ويجوز أن يراد الغسل على قراءة الخفض، لأن التحديد بالكعبين يدل على الغسل، فينسق بالغسل على المسح. قال الشاعر:
__________
(1) قال الإمام ابن العربي في «أحكام القرآن» 2/ 48: قال زيد بن أسلم: معناه إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ من النوم، وبين هذا أن النوم حدث، وبه قال جملة الأمة.
وقال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 235- 237 ما ملخصه. فصل: والنوم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
نوم المضطجع، فينقض الوضوء يسيره وكثيره في قول كل من يقول بنقضه بالنوم. الثاني: نوم القاعد، إن كان كثيرا نقض، رواية واحدة، وإن كان يسيرا لم ينقض، وهذا قول حماد والحكم ومالك والثوري وأصحاب الرأي، وقال الشافعي: لا ينقض وإن كثر، إذا كان القاعد متمكنا مفضيا بمحل الحدث إلى الأرض. الثالث:
نوم القائم والراكع والساجد، فروي عن أحمد في جميع ذلك روايتان: إحداهما: ينقض، وهو قول الشافعي، والثانية: لا ينقض إلا إذا كثر. وذهب أبو حنيفة إلى أن النوم في حال من أحوال الصلاة لا ينقض وإن كثر.
لأنه حال من أحوال الصلاة، فأشبهت حال الجلوس. والظاهر عن أحمد التسوية بين القيام والجلوس.
واختلفت الرواية عن أحمد في القاعد المستند والمحتبي. فعنه: لا ينقض يسيره. قال أبو داود: سمعت أحمد قيل له: الوضوء من النوم؟ قال: إذا طال. قيل: فالمحتبي؟ قال: يتوضأ. قيل: فالمتكئ؟ قال: الاتكاء شديد، والمتساند كأنه أشد من الاحتباء، ورأى منها كلها الوضوء، إلا أن يغفو قليلا، وعنه: ينقض بكل حال لأنه معتمد على شيء، فهو كالمضطجع، والأولى أنه متى كان معتمدا بمحل الحدث على الأرض أن لا ينقض منه إلا الكثير اه باختصار. وانظر «المدونة» 1/ 9- 10 و «تفسير القرطبي» 5/ 222.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 175- 176: لا خلاف في وجوب مسح الرأس. واختلف في قدر الواجب، فروي عن أحمد وجوب مسح جميعه في حق كل أحد، وهو مذهب مالك. وعن أحمد: يجزئ مسح بعضه، وبه قال الحسن والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، إلا أن الظاهر عن أحمد في حق الرجل وجوب الاستيعاب، وأن المرأة يجزئها مسح مقدم رأسها اه ملخصا.
وقال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 183- 184 ما ملخصه: فصل: والأذنان من الرأس، فقياس المذهب وجوب مسحهما مع مسحه. وقال الخلال: كلهم حكوا عن أبي عبد الله فيمن ترك مسحهما عامدا أو ناسيا أنه يجزئه، وذلك لأنهما تبع للرأس، والأولى مسحهما معه، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مسحهما مع رأسه.
- وقال الإمام المرغيناني الحنفي في «الهداية» : ومسح الأذنين، وهو سنة بماء الرأس عندنا خلافا للشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام «الأذنان من الرأس» والمراد بيان الحكم دون الخلقة.
(1/521)
 
 
يا ليتَ بَعْلك قد غدا ... متقلِّداً سيفاً ورُمحاً «1»
والمعنى: وحاملاً رمحاً. وقال الآخر.
علفتها تبناً وماءً بارِداً «2» والمعنى: وسقيتها ماءً بارداً. وقال أبو الحسن الأخفش: يجوز الجرّ على الإِتباع، والمعنى:
الغسل، نحو قولهم: جحر ضبٍ خربٍ. وقال ابن الأنباري: لما تأخّرت الأرجل بعد الرؤوس، نسقت عليها للقرب والجوار، وهي في المعنى نسق على الوجوه كقولهم: جحر ضبٍّ خَربٍ، ويجوز أن تكون منسوقة عليها، لأن العرب تسمّي الغسل مسحاً، لأن الغسل لا يكون إِلا بمسح. وقال أبو علي: مَن جرّ فحُجَّتُه أنه وجد في الكلام عاملين: أحدهما: الغسل، والآخر: الباء الجارّة، ووجه العاملين إِذا اجتمعا: أن يحمل الكلام على الأقرب منهما دون الأبعد، وهو «الباء» هاهنا، وقد قامت الدلالة على أن المراد بالمسح: الغسل من وجهين «3» :
__________
(1) البيت غير منسوب في «مشكل القرآن» : 165 و «الكامل» 1/ 289 و «اللسان» مادة: قلد. ونسبه في حواشي ابن القوطية على «الكامل» 189 لعبد الله بن الزبعرى. ويروى الشطر الأول منه «ورأيت زوجك في الوغى» وفي «اللسان» : تقلّد الأمر: احتمله.
(2) هو صدر بيت وعجزه: حتى شتت همّالة عيناها. وهو في «الخزانة» 1/ 499 وشرح «شواهد المغني» 314.
قال العيني: 4/ 181 أنشده الأصمعي وغيره، ولم أر أحدا عزاه إلى قائله.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 2/ 35: ومن أحسن ما يستدل به على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي 1/ 75 عن النزال بن سبرة يحدث عن علي بن أبي طالب أنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتي بكوز من ماء فأخذ منه حفنة واحدة فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضلته، وهو قائم، ثم قال: إن أناسا يكرهون الشرب قائما، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صنع كما صنعت، وقال: «هذا وضوء من لم يحدث» . والأحاديث التي جاءت بالغسل كثيرة. ففي البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو قال تخلف عنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته:
«أسبغوا الوضوء، وبل للأعقاب من النار» . وروى مسلم عن عمر بن الخطاب «أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدم، فأبصره النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ارجع فأحسن وضوءك» قال ابن كثير: وإسناده جيد قوي صحيح.
وقال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» : وغسل الرجلين واجب في قول أكثر أهل العلم، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على غسل القدمين. وروي عن علي أنه مسح على نعليه وقدميه، وحكي عن ابن عباس أنه قال: ما أجد في كتاب الله إلا غسلتين ومسحتين. وحكي عن الشعبي أنه قال: الوضوء مغسولان وممسوحان، فالممسوحان يسقطان في التيمم. ولم نعلم من فقهاء المسلمين من يقول بالمسح على الرجلين غير ما ذكرنا إلا ما حكي عن ابن جرير أنه قال: هو مخيّر بين المسح والغسل، واحتج بظاهر الآية. وما روي عن ابن عباس. ولنا أن عبد الله بن زيد، وعثمان، حكيا وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالا: فغسل قدميه. وفي حديث عثمان: ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا، متفق عليهما. وعن علي أنه حكى وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ثلاثا. فإن قيل: فعطفه على الرأس دليل على أنه أراد حقيقة المسح. قلنا: قد افترقا من وجوه: أحدها: أن الممسوح في الرأس شعر يشق غسله، والرجلين أشبه بالمغسولات. والثاني: أنهما محدودان بحد ينتهي إليه، فأشبها اليدين. والثالث: أنهما معرضتان للخبث لكونهما يوطأ بهما على الأرض بخلاف الرأس. وأما حديث أوس في أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: فإنما أراد الغسل الخفيف وكذلك ابن عباس، ولذلك قال: أخذ ملء كفّه من ماء فرش على قدميه، والمسح يكون بالبلل لا برش الماء.
(1/522)
 
 
أحدهما: أن أبا زيد قال: المسح خفيف الغسل، قالوا: تمسحت للصلاة، وقال أبو عبيدة:
فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ «1» ، أي ضرباً، فكأن المسح في الآية غسل خفيف. فإن قيل: فالمستحب التكرار ثلاثاً؟ قيل: إِنما جاءت الآية بالمفروض دون المسنون.
والوجه الثاني: أن التحديد والتوقيت إِنما جاء في المغسول دون الممسوح، فلما وقع التحديد مع المسح، عُلم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد، وحجة من نصب أنه حَمل ذلك على الغسل لاجتماع فُقهاء الأمصار على الغسل.
قوله تعالى: إِلَى الْكَعْبَيْنِ «إِلى» بمعنى «مع» ، والكعبان: العظمان الناتئان من جانبي القدم.
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا أي: فتطهروا، فأدغمت التاء في الطاء، لأنهما من مكان واحد، وقد بيّن الله عزّ وجلّ طهارة الجنب في سورة النّساء بقوله تعالى: حَتَّى تَغْتَسِلُوا «2» وقد ذكرنا هناك الكلام في تمام الآية إلى قوله تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ و «الحرج» : الضيق، فجعل الله الدين واسعاً حين رخّص في التيمم.
قوله تعالى: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي: يريد أن يطهركم. قال مقاتل: من الأحداث والجنابة، وقال غيره: من الذنوب والخطايا، لأن الوضوء يكفر الذنوب.
قوله تعالى: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في الذي يتمُّ به النعمة أربعة أقوال:
أحدها: بغفران الذنوب.
(404) قال محمد بن كعب القرظي: حدثني عبد الله بن دارة، عن حمران قال: مررت على عثمان بفخّارةٍ من ماءٍ، فدعا بِها فتوضأ، فأحسن الوضوء ثم قال: لو لم أسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير مرة أو مرّتين أو ثلاثاً ما حدّثتكم، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما توضأ عبد فأحسن الوضوء، ثم قام إِلى الصلاة، إِلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى» قال محمد بن كعب: وكنت إِذا سمعت الحديث التمسته في القرآن. فالتمست هذا فوجدته في قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ «3» فعلمت أن الله لم يتم النعمة عليه حتى غفر له ذنوبه، ثم قرأت الآية التي في المائدة: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِلى قوله وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فعلمت أنه لم يتم النعمة عليهم حتى غفر لهم.
__________
ضعيف بهذا اللفظ والإسناد. أخرجه البيهقي في «الشعب» 2728 من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب به، وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر، واسمه عيسى بن أبي عيسى.
- والذي صح عن عثمان ما أخرجه البخاري 159 و 1934 و 6433 ومسلم 226 وغيرهما عن حمران مولى عثمان أن عثمان بن عفان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى المرفقين ثلاثا، ثم مسح برأسه، ثم غسل كل رجل ثلاثا، ثم قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ نحو وضوئي هذا وقال: «من توضأ نحو وضوئي هذا وصلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه» .
__________
(1) سورة ص: 33.
(2) سورة النساء: 43.
(3) سورة الفتح: 1- 2.
(1/523)
 
 
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
والثاني: بالهداية إِلى الإِيمان، وإِكمال الدين، وهذا قول ابن زيد. والثالث: بالرخصة في التيمم، قاله مقاتل، وأبو سليمان. والرابع: ببيان الشرائِع، ذكره بعض المفسّرين.
 
[سورة المائدة (5) : آية 7]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني النعم كلَّها. وفي هذا حثٌ على الشكر.
وفي الميثاق أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه إِقرار كل مؤمن بما آمن به. قال ابن عباس: لما أنزل الله الكتاب، وبعث الرسول، فقالوا: آمنا، ذكَّرهم ميثاقه الذي أقرُّوا به على أنفسهم، وأمرهم بالوفاء.
والثاني: أنه الميثاق الذي أخذه من بني آدم حين أخرجهم من ظهره، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وابن زيد. والثالث: أنه ما وثق على المؤمنين على لسان نبيه عليه السلام من الأمر بالوفاء بما أقرّوا به من الإِيمان. روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع: أنه الميثاق الذي أخذ من الصّحابة على السمع والطاعة في بيعة العقبة، وبيعة الرضوان، ذكره بعض المفسّرين. قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ قال مقاتل: اتقوه في نقض الميثاق إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بما فيها من إيمان وشكّ.
 
[سورة المائدة (5) : آية 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت من أجل كفار قريش أيضا، وقد تقدّم ذكرهم في قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ روى نحو هذا أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال مقاتل.
(405) والثاني: أن قريشاً بعثت رجلاً ليقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأطلع الله نبيه على ذلك، ونزلت هذه الآية، والتي بعدها، هذا قول الحسن.
(406) والثالث: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذهب إِلى يهود بني النضير يستعينهم في ديةٍ، فهمُّوا بقتله، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد، وقتادة.
ومعنى الآية: كونوا قوامين لله بالحق، ولا يحملنَّكم بغض قوم على ترك العدل اعْدِلُوا في
__________
هو الآتي بعد حديث.
هو الآتي بعد حديث جابر.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 481: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول ابن عباس، وهو أن معناه: وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ يعني وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر.
(1/524)
 
 
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
الولي والعدو هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي: إِلى التقوى. والمعنى: أقرب إِلى أن تكونوا متقين، وقيل: هو أقرب إلى اتّقاء النّار.
 
[سورة المائدة (5) : الآيات 9 الى 10]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)
قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ في معناها قولان:
أحدهما: أن المعنى: وعدهم الله أن يغفر لهم ويأجرهم فاكتفى بما ذكر عن هذا المعنى.
والثاني: أن المعنى: وعدهم فقال: لهم مغفرة. وقد بيّنّا في البقرة معنى «الجحيم» » .
 
[سورة المائدة (5) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
في سبب نزولها أربعة أقوال «2» :
(407) أحدها: أن رجلاً من محارب قال لقومه: الا أقتل لكم محمداً، فقالوا: وكيف تقتله؟
فقال: أفتك به، فأقبل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسيفه في حجره، فأخذه، وجعل يهزّه، ويهمّ به، فيَكْبِتُه الله، ثم قال: يا محمد ما تخافني؟ قال: لا، قال: لا تخافني وفي يدي السّيف؟! قال: يمنعني الله منك، فأغمد السيف، فنزلت هذه الآية، رواه الحسن البصري عن جابر بن عبد الله. وفي بعض الألفاظ: فسقط السّيف من يده. وفي لفظ آخر: فما قال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شيئاً ولا عاقبه. واسم هذا الرجل: غورث بن الحارث من محارب خصفة.
__________
ذكر نزول الآية ضعيف. أخرجه الواحدي 385 من طريق ابن إسحاق عن عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر به، وإسناده ضعيف، فيه عنعنة ابن إسحاق والحسن وكلاهما مدلس، وفيه عمرو بن عبيد، وهو ضعيف، والوهن في هذا الخبر بذكر نزول الآية، وأما أصل الحديث فصحيح. أخرجه البخاري 4135 و 4136 ومسلم 843 والواحدي 386 والبيهقي 6/ 319 والطبري 11569 من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه غزا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قبل نجد فلما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفرّق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت سمرة، فعلّق بها سيفه، قال جابر، فنمنا نومة فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعونا فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت له: الله، فها هوذا جالس» ثم لم يعاقبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وليس فيه سبب نزول الآية.
والقائلة: شدة الحر. والعضاه: شجر له شوك. واختراط السيف: سله. صلتا: مجردا من غمده.
__________
(1) سورة البقرة: 119.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 487: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك: عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية، نعمته على المؤمنين به وبرسوله، في استنقاذه نبيهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم مما كانت اليهود همت به في قتله ومن معه، يوم سار إليهم نبي الله صلّى الله عليه وسلّم في الدية التي كان تحمّلها عن قتيلي عمرو بن أمية.
(1/525)
 
 
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
(408) والثاني: أن اليهود عزموا على الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكفاه الله شرّهم، قال ابن عباس:
صنعوا له طعاماً، فأوُحِيَ إِليه بشأنهم، فلم يأت.
(409) وقال مجاهد، وعكرمة: خرج إِليهم يستعينهم في دية، فقالوا: اجلس حتى نعطيك، فجلس هو وأصحابه، فخلا بعضهم ببعض، وقالوا: لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن، فمن يظهر على هذا البيت، فيطرح عليه صخرة؟ فقال عمرو بن جحّاش: أنا، فجاء إِلى رحى عظيمة ليطرحها عليه، فأمسك الله يده، وجاء جبريل، فأخبره، وخرج، ونزلت هذه الآية.
(410) والثالث: أن بني ثعلبة، وبني مُحارب أرادوا أن يفتكوا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبأصحابه، وهم ببطن نخلة في غزاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السابعة، فقالوا: إِِن لهم صلاة هي أحبّ إِليهم من آبائِهم وأمهاتهم، فإذا سجدوا وقعنا بهم، فأطلع الله نبيه على ذلك، وأنزل صلاة الخوف، ونزلت هذه الآية، هذا قول قتادة.
والرابع: أنها نزلت في حق اليهود حين ظاهروا المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، هذا قول ابن زيد.
 
[سورة المائدة (5) : آية 12]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ قال أبو العالية: أخذ الله ميثاقهم أن يخلصوا له العبادة، ولا يعبُدوا غيره. وقال مقاتل: أن يعملوا بما في التوراة.
وفي معنى النقيب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الضمين، قاله الحسن، ومعناه: أنه ضمين ليعرف أحوال من تحت يده، ولا يجوز أن يكون ضميناً عنهم بالوفاء، لأن ذلك لا يصح ضمانه. وقال ابن قتيبة: هو الكفيل على القوم. والنقابة شبيهة بالعرافة. والثاني: أنه الشاهد، قاله قتادة. وقال ابن فارس:
النقيب: شاهد القوم، وضمينهم. والثالث: الأمين، قاله الربيع بن أنس، واليزيدي، وهذه الأقوال تتقارب. قال الزجاج: النقيب في اللغة، كالأمين والكفيل، يقال: نقب الرجل على القوم ينقب: إِذا صار نقيباً عليهم، وصناعته النقابة، وكذلك عرِّف عليهم: إِذا صار عريفاً، ويقال لأول ما يبدو من الجرب: النّقبة، ويجمع النّقب والنّقب. وقال الشاعر:
__________
أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» 2/ 489- 490 من طريق عطاء عن ابن عباس وعن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس مطوّلا، ومقاتل متهم، والضحاك لم يلق ابن عباس، وأخرجه الطبري 11567 بسند فيه مجاهيل.
وانظر ما بعده،
أخرجه الطبري برقم 11561 و 11562 عن مجاهد، وبرقم 11565 عن عكرمة، وكلاهما مرسل.
مرسل. أخرجه الطبري 11568 عن قتادة مرسلا. فهذه المراسيل تتأيد بمجموعها، وإن اختلفت ألفاظها، والله أعلم، فإن المعنى متحد، وهو محاولة الكفرة قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(1/526)
 
 
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
متبذِلاً تبدو محاسنُه ... يضعُ الهناء مواضِعَ النُّقب «1»
ويقال: في فلان مناقب جميلة، وكل الباب معناه: التأثير الذي له عُمق ودخول، ومن ذلك نقبت الحائِط، أي: بلغت في النقب آخِرَه، والنقبة من الجرب: داء شديد الدخول. وإِنما قيل: نقيب، لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعرف مناقبهم، وهو الطريق إِلى معرفة أمورهم. ونقل أن الله تعالى أمر موسى وقومه بالسّير إلى الأرض المقدسة، وكان يسكنها الجبارون، فقال تعالى: يا موسى اخرج إِليها وجاهد من فيها من العدو، وخُذْ من قومك اثني عشر نقيباً، من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أُمروا به، فاختاروا النقباء. وفيما بعثوا له قولان:
أحدهما: أن موسى بعثهم إِلى بيت المقدس، ليأتوه بخبر الجبارين، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي. والثاني: أنهم بعثوا ضمناء على قومِهِمْ بالوفاء بميثاقهم، قاله الحسن، وابن إِسحاق. وفي نبوّتهم قولان: أصحهما: أنهم ليسوا بأنبياء.
قوله تعالى: وَقالَ اللَّهُ في الكلام محذوف. تقديره: وقال الله لهم. وفي المقول لهم قولان: أحدهما: أنهم بنو إِسرائيل، قاله الجمهور. والثاني: أنهم النقباء، قاله الربيع، ومقاتل. ومعنى إِنِّي مَعَكُمْ أي: بالعون والنصرة، وفي معنى: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ قولان: أحدهما: أنه الإِعانة والنصر، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد وقتادة والسدي. والثاني: أنه التعظيم والتوقير، قاله عطاء واليزيدي، وأبو عبيدة، وابن قتيبة.
قوله تعالى: وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً في هذا الإقراض قولان: أحدهما: أنه الزكاة الواجبة.
والثاني: صدقة التطوع. وقد شرحنا في البقرة معنى القرض الحسن.
قوله تعالى: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ يشير إِلى الميثاق فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي: أخطأ قصد الطريق.
 
[سورة المائدة (5) : آية 13]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ في الكلام محذوف، تقديره: فنقضوا، فبنقضهم لعنّاهم. وفي المراد بهذه اللعنة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها التعذيب بالجزية، قاله ابن عباس. والثاني: التعذيب بالمسخ، قاله الحسن، ومقاتل. والثالث: الإِبعاد من الرحمة، قاله عطاء، والزجاج.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: قاسِيَةً بالألف، يقال: قست، فهي قاسية، وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضّل، عن عاصم: «قسيّةً» بغير ألف مع تشديد الياء، لأنه قد يجيء فاعل وفعيل، مثل شاهد وشهيد، وعالم وعليم. و «القسوة» : خلاف اللّين والرّقة. وقد ذكرنا هذا في (البقرة) .
__________
(1) البيت لدريد بن الصّمة كما في «اللسان» مادة- نقب. [.....]
(1/527)
 
 
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
وفي تحريفهم الكلم ثلاثة أقوال: أحدها: تغيير حدود التوراة، قاله ابن عباس. والثاني: تغيير صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله مقاتل. والثالث: تفسيره على غير ما أُنزل، قاله الزجاج.
قوله تعالى: عَنْ مَواضِعِهِ مبيّن في (سورة النساء) .
قوله تعالى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ النسيان هاهنا: الترك عن عمد. والحظ: النصيب.
قال مجاهد: نسوا كتاب الله الذي أُنزل عليهم، وقال غيره: تركوا نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم.
وفي معنى ذُكِّرُوا بِهِ قولان: أحدهما: أمروا. والثاني: أوصوا.
قوله تعالى: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ وقرأ الأعمش «على خيانة منهم» قال ابن قتيبة:
الخائِنة: الخيانة. ويجوز أن تكون صفة للخائِن، كما يقال: رجلٌ طاغية، وراوية للحديث. قال ابن عباس: وذلك مثل نقض قريظة عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخروج كعب بن الأشرف إِلى أهل مكة للتّحريض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم ينقضوا العهد، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: بل القليل ممن لم يؤمن.
قوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ واختلفوا في نسخها على قولين:
أحدهما: أنها منسوخة، قاله الجمهور. واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها آية السّيف. والثاني: قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ... «1» . والثالث:
قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً ... «2» .
(411) والثاني: أنها نزلت في قوم كان بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عهد، فغدروا، وأرادوا قتل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأظهره الله عليهم، ثم أنزل الله هذه الآية، ولم تنسخ.
قال ابن جرير: يجوز أن يعفى عنهم في غدرةٍ فعلوها، ما لم ينصبوا حرباً، ولم يمتنعوا من أداء الجزية والإقرار بالصّغار، فلا يتوجّه النّسخ.
 
[سورة المائدة (5) : آية 14]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)
قوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ قال الحسن: إِنما قال: قالوا:
إِنا نصارى، ولم يقُل: من النصارى، لِيَدل على أنهم ليسوا على منهاج النصارى حقيقة، هم الذين اتبعوا المسيح. وقال قتادة: كانوا بقرية، يقال لها: ناصرة، فسمّوا بهذا الاسم، قال مقاتل: أُخذ عليهم الميثاق، كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد، فتركوا ما أُمروا به.
قوله تعالى: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ قال النّصر: هيّجنا، وقال المؤرّج: حرّشنا بعضهم على بعض وقال الزجاج: ألصقنا بهم ذلك، يقال: غريت بالرّجل غرى مقصوراً: إِذا لصقت به، هذا قول الأصمعيّ.
__________
تقدم آنفا، وقد ساقه المصنف بمعناه. وانظر كلام الطبري في «تفسيره» 4/ 498- 499.
__________
(1) سورة التوبة: 29.
(2) سورة الأنفال: 58.
(1/528)
 
 
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
وقال غير الأصمعي: غريت به غراءً ممدود، وهذا الغراء الذي يُغرى به إِنما يلصق به الأشياء، ومعنى أغرينا بينهم العداوة والبغضاء: أنهم صاروا فرقاً يكفّر بعضهم بعضاً. وفي الهاء والميم مِن قوله بَيْنَهُمُ قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى اليهود والنصارى، قاله مجاهد وقتادة والسدي. الثاني: أنها ترجع إِلى النصارى خاصة، قاله الربيع. وقال الزجاج: هم النصارى، منهم النسطوريّة واليعقوبيّة والملكيّة، وكل فرقة منهم تعادي الأخرى. وفي تمام الآية وعيد شديد لهم.
 
[سورة المائدة (5) : آية 15]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15)
قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود. والثاني: اليهود والنّصارى. و «الرّسول» : محمّد صلّى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ قال ابن عباس: أخفوا آية الرّجم «1» ، وأمر محمّد عليه السلام وصفته وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ يتجاوز، فلا يخبرهم بكتمانه. فان قيل: كيف كان له أن يمسك عن حق كتموه فلا يبينه؟
فعنه جوابان: أحدهما: أنه كان متلقياً ما يؤمر به، فإذا أُمِر باظهار شيءٍ من أمرهم، أظهره، وأخذهم به، وإِلا سكت. والثاني: أن عقد الذّمة إِنما كان على أن يُقرّوا على دينهم، فلما كتموا كثيراً مما أُمروا به، واتخذوا غيره ديناً، أظهر عليهم ما كتموه مِن صفته وعلامة نبوته، لتتحقّق معجزته عندهم، واحتكموا إِليه في الرجم، فأظهر ما كتموا مما يوافق شريعته، وسكت عن أشياء ليتحقق إِقرارهم على دينهم. قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ قال قتادة: يعني بالنور: النبي محمّدا صلّى الله عليه وسلّم. وقال غيره: هو الإِسلام، فأما الكتاب المبين، فهو القرآن.
 
[سورة المائدة (5) : آية 16]
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ يعني: بالكتاب. ورضوانه: ما رضيه الله تعالى. و «السُبل» ، جمع سبيل، قال ابن عباس: سبل السلام: دين الاسلام. وقال السدي: «السلام» : هو الله، و «سبله» :
دينه الذي شرعه. قال الزجاج: وجائِز أن يكون «سُبل السلام» طريق السَّلامة التي مَن سلكها سَلِمَ في دينه، وجائز أن يكون «السلام» اسم الله عزَّ وجلَّ، فيكون المعنى: طرق الله عزّ وجلّ. قوله تعالى:
وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ قال ابن عباس: يعني الكفر إِلَى النُّورِ يعني: الإِيمان بِإِذْنِهِ أي:
بأمره وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الإسلام. وقال الحسن: طريق الحقّ.
 
[سورة المائدة (5) : آية 17]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
__________
(1) أخرجه الطبري 11612 بسند حسن عن ابن عباس.
(1/529)
 
 
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قال ابن عباس: هؤلاء نصارى أهل نجران، وذلك أنهم اتخذوه إِلهاً قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: فمن يقدر أن يدفع من عذابه شيئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أي: فلو كان إِلهاً كما تزعمون لقَدَرَ أن يردّ أمرَ اللهِ إِذا جاءه بإهلاكه أو إِهلاك أمّه، ولما نزل أمر الله بأمّه، لم يقدرْ أن يدفع عنها. وفي قوله تعالى:
يَخْلُقُ ما يَشاءُ ردٌ عليهم حيث قالوا للنبي: فهات مثله من غير أب «1» . فإن قيل: فلم قال وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ولم يقل: وما بينهن؟ فالجواب أن المعنى: وما بَين هذين النوعين من الأشياء، قاله ابن جرير.
 
[سورة المائدة (5) : آية 18]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى قال مقاتل: هم يهود المدينة، ونصارى نجران. وقال السدي: قالوا: إِن الله تعالى أوحى إِلى إِسرائيل: إِنَّ ولدك بكري من الولد. فأدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوماً حتى تطهّرهم، وتأكل خطاياهم، ثم ينادي منادٍ: أخرجوا كلَّ مختون من بني إِسرائيل.
وقيل: إِنهم لما قالوا: المسيح ابن الله، كان معنى قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ أي: منّا ابن الله. وفي قوله: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ إِبطال لدعواهم، لأن الأب لا يعذّب ولده، والحبيبُ لا يُعذّبُ حبيبه وهم يقولون: إِن الله يعذبنا أربعين يَوماً بالنار. وقيل: معنى الكلام: فلمَ عذّب منكم من مسخه قردةً وخنازير؟ وهم أصحاب السبت والمائِدة.
قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أي: أنتم كسائِر بني آدم تُجازَوْن بالإِحسان والإِساءة. قال عطاء: يغفر لمن يشاء، وهم الموحدون، ويعذّب من يشاء، وهم المشركون.
 
[سورة المائدة (5) : آية 19]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا.
(412) سبب نزولها: أن معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن وهب، قالوا: يا معشر اليهود اتقوا الله، والله إِنكم لتعلمون أنه رسول الله، كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه بصفته. فقال وهب بن يهوذا، ورافع: ما قلنا هذا لكم، وما أنزل الله بعد موسى من كتاب، ولا أرسل رسولاً بشيراً ولا نذيراً بعده، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
فأما «الفترة» فأصلها السكون، يقال: فتر الشيء يَفتر فتوراً: إذا سكنت حدّته، وانقطع عمّا كان
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 11619 من طريق محمد بن إسحاق به. وشيخه محمد بن أبي محمد مجهول كما في التقريب، وقال الذهبي في «الميزان» لا يعرف.
__________
(1) تقدم في آل عمران.
(1/530)
 
 
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
عليه، والطرف الفاتر: الذي ليس بحديد. والفتور: الضعف. وفي مدّة الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام أربعة أقوال: أحدها: أنه كان بين عيسى ومحمّد عليهما السلام ستمائة سنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سلمان الفارسي، ومقاتل. والثاني: خمسمائة سنة وستون سنة، قاله قتادة.
والثالث: أربع مائة وبضع وثلاثون سنة، قاله الضحاك. والرابع: خمسمائة سنة وأربعون سنة، قاله ابن السائب. وقال أبو صالح عن ابن عباس عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أي: انقطاع منهم، قال: وكان بين ميلاد عيسى، وميلاد محمّد عليهما السّلام خمسمائة سنة وتسعة وتسعون سنة، وهي فترة. وكان بعد عيسى أربعة من الرسل، فذلك قوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ «1» . قال: والرابع لا أدري من هو. وكان بين تلك السنين مائة سنة، وأربع وثلاثون نبوّة وسائِرها فترة. قال أبو سليمان الدمشقي: والرابع، والله أعلم: خالد بن سنان الذي قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
(413) «نبيٌ ضيَّعه قومُه» .
قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا قال الفرّاء: كي لا تقولوا: مثل قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «2» . وقال غيره: لئلا تقولوا، وقيل: كراهة أن تقولوا.
 
[سورة المائدة (5) : آية 20]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20)
قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ فيهم قولان: أحدهما: أنهم السبعون الذين اختارهم موسى، وانطلقوا معه إِلى الجبل، جعلهم الله أنبياء بعد موسى وهارون، وهذا قول ابن السائب ومقاتل.
والثاني: أنهم الأنبياء الذين أُرْسِلوا من بني إِسرائيل بعد موسى، ذكره الماوردي.
وبماذا جعلهم ملوكاً؟ فيه ثمانية أقوال: أحدها: بالمن والسلوى والحجر. والثاني: بأن جعل للرجل منهم زوجةً وخادماً. والثالث: بالزوجة والخادم والبيت، رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس، وهذا الثالث اختيار الحسن، ومجاهد. والرابع: بالخادم والبيت، قال عكرمة. والخامس: بتمليكهم الخدم. وكانوا أول مَن ملك الخدم، ومن اتخذ خادماً فهو ملك، قاله قتادة. والسادس: بكونهم أحراراً يملك الإِنسان منهم نفسه وأهله وماله، قاله السدّي. والسابع: بالمنازل الواسعة، فيها المياه الجارية، قاله الضحاك. والثامن: بأن جعل لهم الملك والسلطان، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين:
أحدهما: أنهم قوم موسى، وهذا مذهب ابن عباس، ومجاهد. قال ابن عباس: ويعني بالعالمين: الذين
__________
ضعيف منكر. أخرجه البزار 2361 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف قيس بن الربيع.
وهو معارض بحديث «أنا أولى الناس بعيسى، الأنبياء أبناء علات، وليس بيني وبين عيسى نبي» .
- أخرجه البخاري 3443 ومسلم 2365 وأحمد 2/ 319 وغيرهم من حديث أبي هريرة.
- فهذا يرد الحديث المتقدم، بل ولا يصح ثبوت نبوة رجل بخبر ضعيف.
__________
(1) سورة يس: 14.
(2) سورة النساء: 176.
(1/531)
 
 
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
هم بين ظهرانيهم. وفي الذي آتاهم ثلاثة أقوال: أحدها: المن والسّلوى والحجر والغمام، رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به. والثاني: أنه الدار والخادم والزوجة، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن جرير:
ما أُوتي أحد من النِّعم في زمان قوم موسى ما أُوتوا. والثالث: كثرة الأنبياء فيهم، ذكره الماورديّ.
والثاني: أن الخطاب لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا مذهب سعيد بن جبير وأبي مالك.
 
[سورة المائدة (5) : آية 21]
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21)
قوله تعالى: يا قَوْمِ ادْخُلُوا وقرأ ابن محيصن: «يا قوم ادخلوا» بضمّ الميم، وكذلك «يا قوم اذكروا» و «يا قوم اعبدوا» «1» . وفي معنى الْمُقَدَّسَةَ قولان:
أحدهما: المطهرة، قاله ابن عباس، والزجاج. قال: وقيل للسطل: القَدَس، لأنهُ يتطهّر منه، وسُمّي بيت المقدس، لأنه يتطهر فيه من الذنوب. وقيل: سمّاها مقدّسة، لأنها طهرت من الشرك، وجعلت مسكناً للأنبياء والمؤمنين. والثاني: أن المقدَّسة: المباركة، قاله مجاهد.
وفي المراد بتلك الأرض أربعة أقوال: أحدها: أنها أريحا: رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال السدي، وابن زيد. قال السدي: أريحا هي أرض بيت المقدس. وروي عن الضحاك أنه قال: المراد بهذه الأرض إيلياء وبيت المقدس. قال ابن قتيبة: وقرأت في مناجاة موسى أنه قال: اللهم إِنَّك اخترت من الأنعام الضائنة، ومن الطير الحمامة، ومن البيوت بكة وإِيلياء ومن إِيلياء بيت المقدس، فهذا يدل على أن إِيلياء الأرض التي فيها بيت المقدس، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي أن إِيلياء بيت المقدس، وهو معرَّب. قال الفرزدق:
وبيتانِ بَيْتُ الله نحْنُ ولاته ... وبيت بأعلى إيلياء مشرّف
والثاني: أنها الطور وما حوله، رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به. والثالث: أنها دمشق وفلسطين وبعض الأردُن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أنها الشام كلها، قاله قتادة.
وفي قوله تعالى: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بمعنى أمرَكم وفرض عليكم دخولها، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: أنه بمعنى: وهبها الله لكم، قاله محمد بن إِسحاق. وقال ابن قتيبة: جعلها لكم. والثالث: كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكنكم.
فإن قيل: كيف قال: فإنها محرمة عليهم، وقد كتبها لهم؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنه إِنما جعلها لهم بشرط الطاعة، فلما عصَوْا حرَّمها عليهم.
والثاني: أنه كتبها لبني إِسرائيل، وإِليهم صارت، ولم يعنِ موسى أن الله كتبها للذين أُمِرُوا بدخولها بأعيانهم. قال ابن جرير: ويجوز أن يكون الكلام خرج مخرج العموم، وأُريد به الخصوص فتكون مكتوبة لبعضهم، وقد دخلها يوشع، وكالب.
قوله تعالى: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فيه قولان:
أحدهما: لا ترجعوا عن أمر الله إِلى معصيته. والثاني: لا ترجعوا إلى الشّرك به.
__________
(1) سورة الأعراف: 59.
(1/532)
 
 
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
[سورة المائدة (5) : آية 22]
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22)
قوله تعالى: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ قال الزجاج: الجبار من الآدميّين: الذي يُجبِر الناس على ما يريد، يقال: جبار: بَيِّنُ الجَبَرِيَّة، والجِبِرِيَّة بكسر الجيم والباء، والجَبَرُوَّةُ والجُبُّورة والتَّجبار والجَبَرُوت. وفي معنى وصفه هؤلاء بالجبارين ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم كانوا ذوي قوّة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم كانوا عظام الخلْق والأجسام، قاله قتادة. والثالث: أنهم كانوا قتَّالين، قاله مقاتل.
(الإِشارة إِلى القصَّة) قال ابن عباس: لما نزل موسى وقومه بمدينة الجبارين، بعث اثني عشر رجلاً، ليأتوه بخبرهم، فلقيَهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائِه، فأتى بهم المدينة، ونادى في قومه، فاجتمعوا، فقالوا لهم: من أين أنتم؟ فقالوا: نحن قوم موسى بعثنا لنأتيَه بخبركم، فأعطوهم حبَّةً من عنبٍ توقر «1» الرجل، وقالوا لهم، قولوا لموسى وقومه: اقدروا قدر فاكههم، فلما رجعوا، قالوا: يا موسى إِن فيها قوماً جبارين. وقال السدي: كان الذي لقيهم، يقال له: عاج، يعني: عوج بن عناق، فأخذ الاثني عشر، فجعلهم في حُجرته وعلى رأسه حُزمة حطب، وانطلق بهم إِلى امرأته، فقال: انظري إِلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا، فطرحهم بين يديها، قال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا، بل خلِّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا. فلما خرجوا قالوا: يا قوم إِن أخبرتم بني إِسرائيل بخبر القوم، ارتدوا عن نبي الله، فأخذوا الميثاق بينهم على كتمان ذلك، فنكث عشرة، وكتم رجلان، وقال مجاهد: لما رأى النُّقباءُ الجبارينَ، وجدوهم يدخل في كمِّ أحدهم اثنان منهم، ولا يحمل عنقود عنبهم إِلا خمسة أو أربعة، ويدخل في شطر الرّمّانة إذ نزع حبّها خمسة أو أربعة، فرجع النقباء كلُّهم ينهى سبطه عن قتالهم إِلا يوشع، وابن يوقنّا «2» .
 
[سورة المائدة (5) : آية 23]
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
قوله تعالى: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ في الرجلين ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما يوشع بن نون، وكالب بن يوقنة، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: ابن يوقنّا، وهما من النقباء. والثاني: أنهما كانا من الجبارين فأسلما، روي عن ابن عباس. والثالث: أنهما كانا في مدينة الجبارين، وهما على دين موسى، قاله الضحاك. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء، وأيوب: «يُخافون» بضم الياء، على معنى أنهما كانا من العدوّ، فخرجا مؤمنين. وفي معنى «خوفهم» ثلاثة أقوال: أحدها:
أنهم خافوا الله وحده. والثاني: خافوا الجبارين، ولم يمنعهم خوفهم قول الحق. والثالث: يُخاف منهم، على قراءة ابن جبير. وفيما أنعم به عليهما أربعة أقوال: أحدها: الإِسلام، قاله ابن عباس.
__________
(1) في «اللسان» : الوقر: الحمل الثقيل.
(2) هذه الأخبار من مجازفات الإسرائيليين وترّهاتهم، وفيها من المبالغة ما لا يخفى.
(1/533)
 
 
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
والثاني: الصلاح والفضل واليقين، قاله عطاء. والثالث: الهُدى، قاله الضحاك. والرابع: الخوف، ذكره ابن جرير عن بعض السلف. قوله تعالى: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ قال ابن عباس: قال الرجلان:
ادخلوا عليهم باب القرية فانهم قد مُلئوا منّا رعبا وفرقا.
 
[سورة المائدة (5) : آية 24]
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)
قوله تعالى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا قال ابن زيد: قالوا له: انظر كما صنع ربك بفرعون وقومه، فليصنع بهؤلاء. وقال مقاتل: فاذهب أنت وسل ربَّك النصر. وقال غيرهما: اذهب أنت وليُعِنْكَ ربك.
(414) قال ابن مسعود: لقد شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون صاحبه أحبُّ إِليَّ مما عُدِلَ به، أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إِنا هاهنا قاعدون، ولكنّا نقاتل عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك ومن خلفك.
فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشرق لذلك وجهه وسُرّ به.
(415) وقال أنس: استشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس يوم خرج إِلى بدر، فأشار عليه أبو بكر، ثم استشارهم، فأشار عليه عمر فسكت، فقال رجل من الأنصار: إِنما يريدكم، فقالوا: يا رسول الله! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب وأنت وربك فقاتلا إِنا هاهنا قاعدون، ولكن والله لو ضربت أكبادها حتى تبلغ برك الغماد لكنّا معك.
 
[سورة المائدة (5) : آية 25]
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25)
قوله تعالى: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فيه قولان: أحدهما: لا أملك إِلا نفسي، وأخي لا يملك إِلا نفسه. والثاني: لا أملك إِلا نفسي وإِلاّ أخي، أي: وأملك طاعة أخي، لأن أخاه إِذا أطاعه فهو كالمِلْكِ له، وهذا على وجه المجاز، كما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
(416) «ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر» فبكى أبو بكر، وقال: هل أنا ومالي إِلا لك يا رسول الله، يعني: أنِّي متصرّف حيث صرّفتني، وأمرك جائِز في مالي.
قوله تعالى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قال ابن عباس: اقض بيننا وبينهم. وقال أبو عبيدة: باعد، وافصل، وميّز. وفي المراد بالفاسقين ثلاثة أقوال: أحدها: العاصون، قاله ابن عباس.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3952 و 4609 والنسائي في «التفسير» 160 من حديث ابن مسعود.
صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» 161 وأحمد 3/ 105 و 188 وأبو يعلى 3766 و 3803 وابن حبان 4721 من حديث حميد الطويل عن أنس، وإسناده على شرط الشيخين. وأخرجه مسلم 1779 وأبو داود 2681 وأحمد 3/ 219- 220 وابن حبان 4722 من طريق حماد عن ثابت عن أنس نحوه.
صحيح. أخرجه النسائي في «فضائل الصحابة» 9 وابن ماجة 94 وابن أبي شيبة 12/ 6- 7 وأحمد 2/ 253- 366. وابن حبان 6858، وهو حديث صحيح، رووه من حديث أبي هريرة. وأخرجه بأطول مما هنا الترمذي 3661 وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وأصله متفق عليه.
(1/534)
 
 
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
والثاني: الكاذبون، قاله ابن زيد. والثالث: الكافرون، قاله أبو عبيدة، قال السدي: غضب موسى حين قالوا له: اذهب أنت وربك، فدعا عليهم، وكانت عجلة من موسى عجلها.
 
[سورة المائدة (5) : آية 26]
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)
قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ الإِشارة إِلى الأرض المقدَّسة. ومعنى تحريمها عليهم: منعهم منها. فأمّا نصب «الأربعين» ، فقال الفراء: هو منصوب بالتحريم، وجائز أن يكون منصوباً ب «يتيهون» . وقال الزجاج: لا يجوز أن ينتصب بالتحريم، لأن التفسير جاء أنها محرَّمة عليهم أبداً، قلت: وقد اختلف المفسرون في ذلك، فذهب الأكثرون، منهم عكرمة، وقتادة، إِلى ما قال الزجاج، وأنها حرّمت عليهم أبداً، قال عكرمة: فإنها محرّمة عليهم أبداً يتيهون في الأرض أربعين سنة، وذهب قومٌ، منهم الربيع بن أنس، إِلى أنها حُرِّمَت عليهم أربعين سنة، ثم أمروا بالسير إِليها، وهذا اختيار ابن جرير. قال: إِنما نصبت بالتحريم، والتحريم كان عاماً في حق الكلِّ، ولم يدخلها في هذه المدة منهم أحد، فلما انقضت، أُذن لمن بقي منهم بالدخول مع ذراريهم. قال أبو عبيدة: ومعنى: يتيهون:
يحورون ويضلون.
(الإشارة إلى قصتهم) قال ابن عباس: حرّم الله على الذين عَصَوْا دُخُولَ بيت المقدس، فلبثوا في تيههم أربعين سنة، وماتوا في التيه، ومات موسى وهارون، ولم يدخل بيت المقدس إِلا يوشع وكالب بأبناء القوم، وناهض يوشع بمن بقي معه مدينة الجبارين فافتتحها. وقال مجاهد: تاهوا أربعين سنة يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا. وقال السدي: لما ضرب الله عليهم التيه، ندم موسى على دعائه عليهم، وقالوا له: ما صنعت بنا، أين الطعام؟ فأنزل الله المنَّ. قالوا: فأين الشراب؟ فأُمِر موسى أن يضرب بعصاه الحجر. قالوا: فأين الظلُّ؟ فظلّل عليهم الغمام. قالوا: فأين اللباس؟ وكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرّق لهم ثوب، وقُبض موسى ولم يبق أحد ممن أبى دخول قرية الجبارين إِلاَّ مات، ولم يشهد الفتح. وفيه قول آخر أنه لما مضت الأربعون خرج موسى ببني إِسرائيل من التيه، وقال لهم: ادخلوا هذه القرية، فكلوا منها حيث شئتم رغداً، وادخلوا الباب سجداً، وقولوا حطةٌ ... إِلى آخر القصّة. وهذا قول الربيع بن أنس، وعبد الرّحمن بن زيد. قال ابن جرير الطبري، وأبو سليمان الدمشقي: وهذا الصحيح، وأن موسى هو الذي فتح مدينة الجبارين مع الصالحين من بني إِسرائيل، لأن أهل السيرة أجمعوا على أن موسى هو قاتل عوج، وكان عوج ملكهم، وكان بلعم بن باعوراء فيمن سباه موسى وقتله، ولم يدخل مع موسى من قدمائهم غير يوشع وكالب، وإِنما حرِّمت على الذين لم يطيعوا. وفي مسافة أرض التيه قولان: أحدهما: تسعة فراسخ، قاله ابن عباس. قال مقاتل: هذا عرضها، وطولها ثلاثون فرسخاً. والثاني: ستة فراسخ في طول اثني عشر فرسخاً، حكاه مقاتل أيضاً.
قوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قال الزجاج: لا تحزن على قوم شأنهم المعاصي، ومخالفة الرسل. وقال ابن قتيبة: يقال أسيت على كذا، أي: حزنت، فأنا آسي أسى.
(1/535)
 
 
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
[سورة المائدة (5) : آية 27]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ النبأ: الخبر. وفي ابنيْ آدم قولان:
أحدهما: أنهما ابناه لِصُلبه، وهما قابيل وهابيل، قاله ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والثاني: أنهما أخوان من بني إِسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وهذا قول الحسن، والعلماء على الأول، وهو أصح لقوله تعالى: لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ «1» ولو كان من بني إِسرائيل، لكان قد عرف الدّفن.
(417) ولأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال عنه: «إِنه أول من سن القتل» .
وقوله تعالى: بِالْحَقِّ أي: كما كان. والقربان: فعلان من القرب، وقد ذكرناه في آل عمران.
وفي السبب الذي قربا لأجله قولان: أحدهما: أن آدم عليه السلام كان قد نُهِي أن يُنْكِحَ المرأة أخاها الذي هو توأمها، وأُجيز له أن يُنكحها غيره من إِخوتها، وكان يولد له في كل بطن ذكر وأُنثى، فولدت له ابنة وسيمة، وأخرى دميمة، فقال أخو الدميمة لأخي الوسيمة: أنكحني أُختك، وأُنكحك أُختى، فقال أخو الوسيمة: أنا أحق بأختي، وكان أخو الوسيمة صاحب حرث، وأخو الدميمة صاحب غنم، فقال: هلمَّ فلنقرّب قرباناً، فأينا تُقُبِّل قربانُه فهو أحقُّ بها، فجاء صاحب الغنم بكبش أبيض أعين أقرن، وجاء صاحب الحرث بصُبْرَةٍ «2» من طعام، فتُقُبِّل الكبش، فخزنه الله في الجنة أربعين خريفاً، فهو الذي ذبحه إِبراهيم، فقتله صاحب الحرث، فوَلَدُ آدم كلهم من ذلك الكافر، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنهما قرّباه من غير سبب. روى العوفي عن ابن عباس أن ابنيْ آدم كانا قاعدَين يوماً، فقالا: لو قرّبنا قرباناً، فجاء صاحب الغنم بخير غنمه وأسمنها، وجاء الآخر ببعض زرعه، فنزلت النار، فأكلت الشاة، وتركت الزرع، فقال لأخيه: أتمشي في الناس وقد علموا أن قربانك تُقُبِّل، وأنك خيٌر مني لأقتلنَّك.
واختلفوا هل قابيل وأُخته وُلدا قبل هابيل وأُخته، أم بعدهما؟ على قولين، وهل كان قابيل كافراً أو فاسقاً غير كافر؟ فيه قولان: وفي سبب قبول قربان هابيل قولان: أحدهما: أنه كان أتقى الله من قابيل. والثاني: أنه تقرّب بخيار ماله، وتقرب قابيل بشرِّ ماله. وهل كان قربانهما بأمر آدم، أم من قِبل أنفسهما؟ فيه قولان: أحدهما: أنه كان وآدم قد ذهب إِلى زيارة البيت. والثاني: أن آدم أمرهما بذلك.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3335 و 6867 و 7321 ومسلم 1677 والترمذي 2673 والنسائي 7/ 81- 82 في «التفسير» 162 وعبد الرزاق 19718 وابن ماجة 2616 وأحمد 1/ 383 وابن أبي شيبة 9/ 364 وابن حبان 5983 والطحاوي في «المشكل» 1/ 483 من حديث ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقتل نفس ظلماً إِلاّ كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمِها، لأنه أول من سنّ القتل؟» . وانظر «تفسير الشوكاني» 794 و «أحكام القرآن» 690 بتخريجنا.
__________
(1) سورة المائدة: 31.
(2) في «اللسان» : الصّبرة: ما جمع من الطعام بلا كيل ولا وزن. كالكومة.
(1/536)
 
 
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
وهل قُتل هابيل بعد تزويج أُخت قابيل، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه قتله قبل ذلك لئلا يصل إِليها.
والثاني: أنه قتله بعد نكاحها.
قوله تعالى: قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ وروى زيد عن يعقوب: «لأقتلنْك» بسكون النون وتخفيفها.
والقائل: هو الذي لم يُتقبَّل منه. قال الفراء: إِنما حذف ذكره، لأن المعنى يدل عليه، ومثل ذلك في الكلام أن تقول: إِذا رأيت الظالم والمظلوم أعنت، وإِذا اجتمع السفيه والحليم حُمِد، وإِنما كان ذلك، لأن المعنى لا يشكل، فلو قلت: مرّ بي رجلٌ وامرأةٌ، فأعنتُ، وأنت تريد أحدهما، لم يجز، لأنه ليس هناك علامة تدل على مُرادِك. وفي المراد بالمتقين قولان: أحدهما: أنهم الذين يتقون المعاصي، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم الذين يتقون الشرك، قاله الضحاك.
 
[سورة المائدة (5) : آية 28]
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28)
قوله تعالى: ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ فيه قولان: أحدهما: أما أنا بمنتصرٍ لنفسي، قاله ابن عباس. والثاني: ما كنت لأبتدئك، قاله عكرمة. وفي سبب امتناعه من دفعه عنه قولان: أحدهما:
أنه منعه التحرُّج مع قدرته على الدفع وجوازه له، قاله ابن عمر وابن عباس. والثاني: أن دفع الانسان عن نفسه لم يكن في ذلك الوقت جائزاً، قاله الحسن ومجاهد.
وقال ابن جرير: ليس في الآية دليل على أن المقتول علم عزم القاتل على قتله، ثم ترك الدفع عن نفسه، وقد ذُكر أنه قتله غِيلةً، فلا يدَّعى ما ليس في الآية إلا بدليل.
 
[سورة المائدة (5) : آية 29]
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29)
قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فيه قولان:
أحدهما: إِني أُريد أن ترجع بإثم قتلي وإِثمك الذي في عنقك، هذا قول ابن مسعود، وابن عباس. ومجاهد، وقتادة، والضحاك. والثاني: أن تبوء بإثمي في خطاياي، وإِثمك في قتلك لي، وهو مروي عن مجاهد أيضاً. قال ابن جرير: والصحيح عن مجاهد القول الأول.
(418) وقد روى البخاري ومسلم في «صحيحيهما» من حديث ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«لا تقتل نفس ظلماً إِلاّ كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمِها، لأنه كان أول من سن القتل» .
فإن قيل: كيف أراد هابيل وهو من المؤمنين أن يبوء قابيل بالإِثم وهو معصية، والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟ فعنه ثلاثة أجوبة «1» : أحدها: أنه ما أراد لأخيه الخطيئة، وإِنما أراد: إِن قتلتني أردت أن تبوء بالإِثم، وإِلى هذا المعنى ذهب الزجاج. والثاني: أن في الكلام محذوفا، وتقديره: إني
__________
هو الحديث المتقدم.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 534: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي وذلك هو معنى قوله: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وأما معنى: وَإِثْمِكَ
فهو إثمه بغير قتله وذلك معصيته لله جل ثناؤه في أعمال سواه، وأجمع أهل التأويل عليه.
(1/537)
 
 
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
أُريد أن لا تبوء بإثمي وإِثمك، فحذف «لا» كقوله تعالى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي: أن لا تميد بكم، ومنه قول امرئ القيس:
فقلتُ يمينُ اللهِ أبرحُ قَاعِدَاً ... وَلَوْ قطَّعوا رأسي لَدَيْكِ وأوصالي «1»
أراد: لا أبرح. وهذا مذهب ثعلب. والثالث: أن المعنى: أريد زوال أن تبوء باثمي وإِثمك، وبطلان أن تبوء باثمي وإِثمك. فحذف ذلك، وقامت «أن» مقامه، كقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «2» أي: حبّ العجل، ذكره والذي قبله ابن الأنباري.
قوله تعالى: وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ الإِشارة إلى مصاحبة النّار.
 
[سورة المائدة (5) : آية 30]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30)
قوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ فيه خمسة أقوال: أحدها: تابعته على قتل أخيه، قاله ابن عباس. والثاني: شجَّعته، قاله مجاهد. والثالث: زيَّنت له، قاله قتادة. والرابع: رخَّصت له، قاله أبو الحسن الأخفش. والخامس: أنَّ «طوّعت» فعَّلت من «الطوع» والعرب تقول: طاع لهذه الظبية أصول هذا الشجر، وطاع له كذا، أي: أتاه طوعاً، حكاه الزجاج عن المبرّد. وقال ابن قتيبة: شايعتْه وانقادت له، يقال: لساني لا يَطوع بكذا، أي: لا ينقاد، وهذه المعاني تتقارب.
وفي كيفية قتله ثلاثة أقوال: أحدها: أنه رماه بالحجارة حتى قتله، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: ضرب رأسه بصخرة وهو نائم، رواه مجاهد عن ابن عباس، والسدي عن أشياخه. والثالث:
رضخ رأسه بين حجرين، قال ابن جريج: لم يدر كيف يقتله، فتمثّل له إِبليس، وأخذ طائِراً فوضع رأسه على حجر، ثم شدخه بحجر آخر، ففعل به هكذا، وكان ل «هابيل» يومئذٍ عشرون سنة. وفي موضع مصرعه ثلاثة أقوال: أحدها: على جبل ثور، قاله ابن عباس. والثاني: بالبصرة، قاله جعفر الصادق.
والثالث: عند عَقْبَة حِرَاء، حكاه ابن جرير الطّبريّ.
وفي قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: من الخاسرين الدنيا والآخرة، فخسرانه الدنيا: أنه أسخط والديه، وبقي بلا أخ، وخسرانه الآخرة: أنه أسخط ربه، وصار إِلى النار، قاله ابن عباس. والثاني أنه أصبح من الخاسرين الحسنات، قاله الزجاج. والثالث: من الخاسرين أنفسهم بإهلاكهم إيّاها، قاله القاضي أبو يعلى.
 
[سورة المائدة (5) : آية 31]
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
قوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ قال ابن عباس: حمله على عاتقه، فكان إِذا مشى تخطُّ يداه ورجلاه في الأرض، وإِذا قعد وضعه إِلى جنبه حتى رأى غرابين اقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، ثم بحث
__________
(1) في «اللسان» : الوصل: كل عظم على حدة لا يكسر، ولا يخلط بغيره، ولا يوصل به غيره والجمع أوصال والأوصال: مجتمع العظام.
(2) سورة البقرة: 93. [.....]
(1/538)
 
 
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
له الأرض حتى واراه بعد أن حمله سنين. وقال مجاهد: حمله على عاتقه مائة سنة. وقال عطية: حمله حتى أروح «1» . وقال مقاتل: حمله ثلاثة أيام.
وفي المراد بسوأة أخيه قولان: أحدهما: عورة أخيه. والثاني: جيفة أخيه.
قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ، فان قيل: أليس الندم توبة، فَلِم لم يقبل منه؟ فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أنه يجوز أن لا يكون الندم توبة لمن تقدَّمنا، ويكون توبة لهذه الأمة، لأنها خصّت بخصائِص لم تشارَك فيها، قاله الحسن بن الفضل. والثاني: أنه ندم على حمله لا على قتله. والثالث:
أنه ندم إِذ لم يواره حين قتله. والرابع: أنه ندم على فوات أخيه، لا على ركوب الذنب. وفي هذه القصّة تحذير من الحسد، لأنه الذي أهلك قابيل.
 
[سورة المائدة (5) : آية 32]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
قوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ قال الضحاك: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلماً، وقال أبو عبيدة: من جناية ذلك، ومن جري ذلك. قال الشاعر:
وأهل خباءٍ صالحٍ ذَاتُ بينهم ... قدِ احتربوا في عاجِلٍ أنا آجِلُه «2»
أي: جانيه وجارٌ ذلك عليهم. وقال قوم: الكلام متعلق بما قبله، والمعنى: فأصبح من النادمين من أجل ذلك. فعلى هذا يَحسن الوقف هاهنا، وعلى الأول لا يحسن الوقف. والأوّل أصحّ.
وكَتَبْنا بمعنى: فرضنا. ومعنى قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: قتلها ظلماً ولم تقتل نفساً. أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ «فساد» منسوق على نَفْسٍ، المعنى: أو بغير فساد تستحق به القتل. وقيل: أراد بالفساد هاهنا: الشرك.
وفي معنى قوله تعالى: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً خمسة أقوال: أحدها: أن عليه إِثم من قتل الناس جميعاً، قاله الحسن، والزجاج. والثاني: أنه يصلى النار بقتل المسلم، كما لو قتل الناس جميعاً، قاله مجاهد، وعطاء. وقال ابن قتيبة: يُعذَّبُ كما يُعذَّب قاتل النَّاسِ جميعاً. والثالث: أنه يجب عليه من القصاص مثل ما لو قتل الناس جميعاً، قاله ابن زيد. والرابع: أن معنى الكلام: ينبغي لجميع الناس أن يُعينوا ولي المقتول حتى يُقيدوه منه، كما لو قتل أولياءَهم جميعاً، ذكره القاضي أبو يعلى.
والخامس: أن المعنى: من قتل نبياً أو إِماماً عادلاً، فكأنما قتل الناس جميعاً، رواه عكرمة عن ابن عباس. والقول بالعموم أصح.
فإن قيل: إِذا كان إِثم قاتل الواحد كاثم من قتل الناس جميعاً، دل هذا على أنه لا إِثم عليه في
__________
(1) في «اللسان» أروح اللحم: تغيّرت رائحته.
(2) نسبه أبو عبيدة في «مجاز القرآن» إلى الخفوت وهو توبة بن مضرس. ونسبه التبريزي في شرح «إصلاح المنطق» إلى خوات بن جبير وألحق بشعر زهير بن أبي سلمى في ديوانه بشرح الشنتمري.
(1/539)
 
 
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
قتل مَن يقتله بعد قتل الواحد إِلى أن يفنى الناس؟ فالجواب: أن المقدار الذي يستحقّه قاتل الناس جميعاً معلوم عند الله محدود، فالذي يقتل الواحد يلزمه ذلك الإِثم المعلوم، والذي يقتل الاثنين يلزمه مثلاه، وكلما زاد قتلاً زاده الله إِثماً، ومثل هذا قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «1» فالحسنة معلوم عند الله مقدار ثوابها، فعاملها يعطى بمثل ذلك عشر مرات. وهذا الجواب عن سؤال سائل إِن قال: إِذا كان من أحيا نفساً فله ثواب من أحيا الناس، فما ثواب من أحيا الناس كلَّهم؟ هذا كله منقول عن المفسرين. والذي أراه أن التشبيه بالشيء تقريبٌ منه، لأنه لا يجوز أن يكون إِثم قاتل شخصين كإثم قاتل شخص، وإِنما وقع التشبيه ب «كأنما» ، لأن جميع الخلائِق من شخص واحد، فالمقتول يتصوّر منه نشر عدد الخلق كلِّهم.
وفي قوله تعالى: وَمَنْ أَحْياها خمسة أقوال: أحدها: استنقذها من هلكةٍ، روي عن ابن مسعود، ومجاهد. قال الحسن. من أحياها من غرق أو حرق أو هلاك. وفي رواية عكرمة عن ابن عباس: من شدَّ عَضُدَ نبي أو إِمامٍ عادِلٍ، فكأنما أحيا الناس جميعاً. والثاني: ترك قتل النفس المحرّمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية. والثالث: أن يعفو أولياء المقتول عن القصاص، قاله الحسن وابن زيد وابن قتيبة. والرابع: أن يزجر عن قتلها وينهى. والخامس: أن يعين الوليَّ على استيفاء القصاص لأن في القصاص حياةً، ذكرهما القاضي أبو يعلى. وفي قوله تعالى:
فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً قولان: أحدهما: فله أجر من أحيا الناس جميعاً، قاله الحسن وابن قتيبة. والثاني: فعلى جميع الناس شكره كما لو أحياهم، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ يعني: بني إِسرائيل الذين جرى ذكرهم.
 
[سورة المائدة (5) : آية 33]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33)
قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(419) أحدها: أنها نزلت في ناسٍ من عُرَينة قدموا المدينة، فاجتووها، فبعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في
__________
حديث صحيح دون ذكر نزول الآية. أخرجه البخاري 4193 ومسلم 1671 وأبو داود 4366 والترمذي 72 و 1845 و 2042 والنسائي 7/ 97 و 160 وابن أبي شيبة 7/ 75 وأحمد 3/ 186- 198 وابن حبان 1376 والبغوي في «التفسير» 782 من طرق كلهم من حديث أنس، رووه بألفاظ متقاربة والمعنى متحد، وليس في شيء من طرقه ذكر نزول الآية، وإنما ورد من طريق قتادة وحده، وليس في الصحيح.
وورد نزول الآية من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 11812، وورد من مرسل سعيد بن جبير، أخرجه الطبري 11814، وورد موصولا من حديث جرير البجلي، أخرجه الطبري 11815 لكن فيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو متروك. وورد عن قتادة عن أنس، أخرجه الطبري 11819 ولعل الصواب كونه من مرسل قتادة كما تقدم آنفا، فوصله أحد الرواة وهما. وورد من وجه آخر عن أنس أخرجه الطبري 11820 وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وورد من مرسل السدي، أخرجه الطبري 11821. فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، إلا أن روايات الصحيح خالية من ذكر نزول الآية، فالله أعلم.
__________
(1) سورة الأنعام: 160.
(1/540)
 
 
إِبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا، فصحوا، وارتدوا عن الاسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإِبل، فأرسل رسول الله في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمَّر أعينهم، وألقاهم بالحرَّة حتى ماتوا، ونزلت هذه الآية، رواه قتادة عن أنس، وبه قال سعيد بن جبير، والسدي.
(420) والثاني: أن قوماً من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عهد وميثاق، فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض، فخيّر الله رسوله بهذه الآية: إِن شاء أن يقتلهم، وإِن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الضحاك.
(421) والثالث: أن أصحاب أبي بُردة الأسلمي قطعوا الطريق على قوم جاءوا يريدون الاسلام، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(422) وقال ابن السائب: كان أبو بردة، واسمه هلال بن عويمر، وادع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن أتاه من المسلمين لم يُهَجْ، ومن مرّ بهلال إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يُهِجْ، فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الاسلام بناسٍ من قوم هلال، فَنَهَدُوا إِليهم، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، ولم يكن هلال حاضراً، فنزلت هذه الآية.
والرابع: أنها نزلت في المشركين، رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال الحسن «1» .
واعلم أن ذكر «المحاربة» لله عزّ وجلّ في الآية مجاز. وفي معناها للعلماء قولان: أحدهما: أنه سمّاهم محاربين له تشبيهاً بالمحاربين حقيقة، لأن المخالف محارب، وإِن لم يحارب. فيكون المعنى:
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 11807 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به، وفيه إرسال، علي لم يسمع من ابن عباس. وورد عن الضحاك مرسلا، أخرجه الطبري 11808 وفيه جويبر بن سعيد وهو متروك.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وهو متهم بالوضع، فحديثه لا شيء.
عزاه المصنف لابن السائب وهو الكلبي، واسمه محمد، وهو ساقط متهم، فخبره باطل.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 549: وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال: أنزل الله هذه الآية على نبيه معرّفة حكمه على من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادا، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعرنيين ما فعل.
وقال الإمام ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 2/ 93: من قال: إنها نزلت في المشركين أقرب إلى الصواب لأن عكلا وعرينة ارتدّوا وقتلوا وأفسدوا، ولكن يبعد، لأن الكفار لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة. وقد قيل للكفار قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ. وقد قال في المحاربين: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ وكذلك المرتد. يقتل بالردة دون المحاربة، فثبت أنها لا يراد بها المشركون ولا المرتدون فلو ثبت أن هذه الآية نزلت في شأن عكل أو عرينة لكان غرضا ثابتا، ونصا صريحا. وإنما ترك النبي صلّى الله عليه وسلّم استتابة العرنيين لما أحدثوا من القتل والمثلة والحرب، وإنما يستتاب المرتد الذي يرتاب فيستريب به ويرشد ويبيّن له المشكل.
(1/541)
 
 
يخالفون الله ورسوله بالمعاصي. والثاني: أن المراد: يحاربون أولياء الله، وأولياء رسوله. وقال سعيد بن جبير: أراد بالمحاربة لله ورسوله، الكفر بعد الاسلام. وقال مقاتل: أراد بها الشرك «1» . فأما «الفساد» فهو القتل والجراح وأخذ الأموال، وإِخافة السبيل.
قوله تعالى: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا اختلف العلماء هل هذه العقوبة على التّرتيب، أم على التّخيير؟ فمذهب أحمد رضي الله عنه أنها على الترتيب «2» ، وأنهم إِذا قتلوا، وأخذوا المال، أو قتلوا ولم يأخذوا، قُتِلوا وصلِّبوا، وإِن أخذوا المال، ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإِن لم يأخذوا المال، نُفوا. قال ابن الأنباري: فعلى هذا تكون «أو» مبعّضة، فالمعنى: بعضهم يفعل به كذا، وبعضهم كذا، ومثله قوله تعالى: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى «3» المعنى: قال بعضهم هذا، وقال بعضهم هذا. وهذا القول اختيار أكثر اللغويين. وقال الشافعي: إِذا قتلوا وأخذوا المال، قُتِلوا وصُلِّبوا، وإِذا قتلوا ولم يأخذوا المال، قُتلوا ولم يُصلَّبوا، وإِذا أخذوا المال ولم يَقتلوا، قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وقال مالك: الإِمام مخير في إِقامة أيِّ الحدود شاء، سواء قتلوا أو لم يقتلوا، أخذوا المال أو لم يأخذوا، والصلب بعد القتل. وقال أبو حنيفة، ومالك: يُصْلب ويُبعج برمحٍ حتى يموت.
واختلفوا في مقدار زمان الصّلب. فعندنا أنه يُصلب بمقدار ما يشتهر صلبُه. واختلف أصحاب الشافعي، فقال بعضهم: ثلاثة أيام، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال بعضهم: يترك حتى يسيل صديده.
قال أبو عبيدة: معنى «من خلاف» أن تُقطَع يدُه اليُمنى ورجله اليسرى، يُخالَف بين قطعهما. فأما «النفي» فأصله الطرد والإِبعاد. وفي صفة نفيهم أربعة أقوال: أحدها: إِبعادهم من بلاد الاسلام إِلى دار الحرب، قاله أنس بن مالك، والحسن، وقتادة، وهذا إِنما يكون في حق المحارب المشرك، فأما المسلم فلا ينبغي أن يُضطر إِلى ذلك. والثاني: أن يُطلبوا لِتُقام عليهم الحدود، فيُبعدوا، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثالث: إِخراجهم مِن مدينتهم إِلى مدينة أُخرى، قاله سعيد بن جبير. وقال مالك:
ينفى إِلى بلدٍ غير بلده، فيحبس هناك. والرابع: أنه الحبس، قاله أبو حنيفة وأصحابه. وقال أصحابنا:
صِفَةُ النفي: أن يُشرّد ولا يترك يأوي في بلد، فكلما حَصَل في بلد نُفي إِلى بلد غيره. وفي «الخزي»
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 552: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: «المحارب لله ورسوله» من حارب في سابلة المسلمين وذمتهم، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابة.
(2) قال الإمام الموفق في «المغني» 12/ 475: مسألة: «فمن قتل منهم وأخذ المال، قتل وإن عفا صاحب المال، وصلب حتى يشتهر، ودفع إلى أهله، ومن قتل منهم ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، في مقام واحد، ثم حسمتا وخلي» قال الإمام الموفق في شرحه: روينا نحو هذا عن ابن عباس، وبه قال قتادة وأبو مجلز وحماد والليث والشافعي وإسحاق: وعن أحمد: أنه إذا قتل وأخذ المال قتل وقطع، كما لو زنى وسرق، وذهبت طائفة إلى أن الإمام مخيّر فيهم بين القتل والصلب، والقطع والنفي لأن «أو» تقتضي التخيير، وهذا قول ابن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن والضحاك والنخعي وأبي الزناد وأبي ثور وداود، وقال أصحاب الرأي: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطع، وإن قتل وأخذ المال فالإمام مخيّر بين قتله وصلبه، وبين قتله وقطعه، وبين أن يجمع له ذلك كله. لأنه وجد منه ما يوجب القتل والقطع اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» 6/ 150.
(3) سورة البقرة: 135.
(1/542)
 
 
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
قولان: أحدهما: أنه العقاب. والثاني: الفضيحة.
وهل يثبت لهم حكم المحاربين في المصر، أم لا؟ ظاهر كلام أصحابنا أنه لا يثبت لهم ذلك في المصر وهو قول أبي حنيفة. وقال الشافعي، وأبو يوسف: المصر والصحارى سواء «1» ، ويعتبر في المال المأخوذ قدر نصاب، كما يُعتبر في حقِّ السَّارِقِ، خلافاً لمالك.
 
[سورة المائدة (5) : آية 34]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْل