زاد المسير في علم التفسير 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
 
الكتاب: زاد المسير في علم التفسير
المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ)
 
__________
(1) الإسراء: 88.
نجاوزها إلى العشر الأخر حتى نعلم ما فيها من العلم والعمل.
وروى قتادة عن الحسن أنّه قال: ما أنزل الله آية إلا أحبّ أن أعلم فيم أنزلت، وماذا عنى بها.
وقال إياس بن معاوية: مثل من يقرأ القرآن ومن يعلم تفسيره أو لا يعلم، مثل قوم جاءهم كتاب من صاحب لهم ليلا، وليس عندهم مصباح، فتداخلهم لمجيء الكتاب روعة لا يدرون ما فيه، فإذا جاءهم المصباح عرفوا ما فيه.
فصل: اختلف العلماء: هل التّفسير والتّأويل بمعنى، أم يختلفان؟ فذهب قوم يميلون إلى العربية إلى أنهما بمعنى، وهذا قول جمهور المفسّرين المتقدّمين. وذهب قوم يميلون إلى الفقه إلى اختلافهما، فقالوا: التفسير: إخراج الشيء من مقام الخفاء إلى مقام التّجلّي. والتأويل: نقل الكلام عن وضعه فيما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، فهو مأخوذ من قولك: آل الشيء إلى كذا، أي:
صار إليه.
 
فصل في مدّة نزول القرآن
روى عكرمة عن ابن عباس قال: أُنزلَ القرآنُ جملة واحدة من اللّوح المحفوظ في ليلة القدر إلى بيت العزّة، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة «1» . وقال الشعبي: فرّق الله تنزيل القرآن، فكان بين أوله وآخره عشرون سنة. وقال الحسن: ذكر لنا أنه كان بين أوّله وآخره ثماني عشرة سنة، أنزل عليه بمكة ثماني سنين، وبالمدينة عشر سنين.
فصل: واختلفوا في أول ما نزل من القرآن:
(2) فأثبت المنقول أنّ أول ما نزل من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «2» ، رواه عروة عن عائشة وبه قال
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3 ومسلم 160 وأحمد 6/ 232- 233. والطيالسي 1467 وابن حبان 33 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 135- 136 من حديث عائشة أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: «ما أنا بقارئ» قال:
«فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ! قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ! قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني، فقال:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» . فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: «زملوني زملوني» ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسي» فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى- ابن عم خديجة- وكان امرأ تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أو مخرجي هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلّا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم يلبث ورقة أن توفي، وفتر الوحي. واللفظ للبخاري.
__________
(1) موقوف حسن، وسيأتي تخريجه إن شاء الله.
(2) العلق: 1.
(1/12)
 
 
قتادة وأبو صالح. وروي عن جابر بن عبد الله: أن أوّل ما نزل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ.
والصحيح أنه لما نزل عليه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ رجع فتدثّر فنزل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ.
(3) يدل عليه ما أخرج في «الصحيحين» من حديث جابر قال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يحدّث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض، فجثثت منه رعبا، فرجعت فقلت:
زمّلوني، زمّلوني، فدثّروني، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» ، ومعنى جثثت: فرقت. يقال: رجل مجؤوث ومجثوث. وقد صحّفه بعض الرواة فقال: جبنت، من الجبن، والصحيح الأول.
وروي عن الحسن وعكرمة: أن أوّل ما نزل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
فصل: واختلفوا في آخر ما نزل:
(4) فروى البخاري في أفراده من حديث ابن عباس، قال: آخر آية أنزلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، آية الرّبا «1» .
(5) وفي أفراد مسلم عنه: آخر سورة نزلت جميعا: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «2» .
(6) وروى الضّحّاك عن ابن عباس قال: آخر آية أنزلت: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ «3» ، وهذا مذهب سعيد بن جبير وأبي صالح.
(7) وروى أبو إسحاق عن البراء قال: آخر آية نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «4» ، وآخر سورة نزلت «براءة» .
(8) وروي عن أبيّ بن كعب: أن آخر آية نزلت: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «5» ، إلى آخر السورة.
__________
أخرجه البخاري 3238 و 4925 ومسلم 161 والترمذي 3325 وابن حبان 34، وسيأتي في سورة المدثر.
صحيح. أخرجه البخاري 4544 عن ابن عباس، ويأتي.
يأتي في سورة النصر.
يأتي ذكر الحديث عند الآية 281 من سورة البقرة.
صحيح. أخرجه البخاري 4654 عن البراء.
حسن. أخرجه أحمد 5/ 117 من طريق شعبة عن علي بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس عن أبي بن كعب به. وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد، ويوسف هو ابن مهران لين الحديث، وثقه أبو زرعة، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ويذاكر، وقال أحمد: لا يعرف. نقله الذهبي في «الميزان» 4/ 474. وقال الحافظ في «التقريب» : يوسف بن مهران، ليس هو يوسف بن ماهك، ذاك ثقة، وهذا لم يرو عنه إلّا ابن جدعان، وهو لين الحديث. وأخرجه الحاكم 2/ 338 من وجه آخر عن شعبة عن يونس بن عبيد وعلي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران به. وقال: حديث شعبة عن يونس بن عبيد صحيح على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي!. وليس كما قالا، فقد ظن الحاكم أن الذي في الإسناد هو يوسف بن ماهك، فذاك روى له الشيخان، وقد فرّق بينهما ابن حجر كما تقدم، وكذا الذهبي في «الميزان» 4/ 474. فالإسناد لين، لكن توبع، فقد أخرجه ابن أبي داود في «المصاحف» ص 38 من وجه آخر وفيه أبو جعفر الرازي وهو ضعيف الحديث، لكن يصلح للمتابعة. فالحديث حسن من جهة الإسناد.
- ويأتي الكلام على الجمع بين هذه الأحاديث إن شاء الله، والله أعلم.
__________
(1) وهي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
(2) سورة النصر: 1.
(3) البقرة: 281.
(4) النساء: 176.
(5) التوبة: 138.
(1/13)
 
 
فصل: لما رأيت جمهور كتب المفسّرين لا يكاد الكتاب منها يفي بالمقصود كشفه حتى ينظر للآية الواحدة في كتب، فربّ تفسير أخلّ فيه بعلم النّاسخ والمنسوخ، أو ببعضه، فإن وجد فيه لم يوجد أسباب النزول، أو أكثرها، فإن وجد لم يوجد بيان المكيّ من المدنيّ، وإن وجد ذلك لم توجد الإشارة إلى حكم الآية، فإن وجد لم يوجد جواب إشكال يقع في الآية، إلى غير ذلك من الفنون المطلوبة.
وقد أدرجت في هذا الكتاب من هذه الفنون المذكورة مع ما لم أذكره مما لا يستغني التفسير عنه ما أرجو به وقوع الغناء بهذا الكتاب عن أكثر ما يجانسه.
وقد حذرت من إعادة تفسير كلمة متقدمة إلا على وجه الإشارة، ولم أغادر من الأقوال التي أحطت بها إلا ما تبعد صحته مع الاختصار البالغ، فإذا رأيت في فرش الآيات ما لم يذكر تفسيره، فهو لا يخلو من أمرين: إِما أن يكون قد سبق، وإِما أن يكون ظاهرا لا يحتاج إلى تفسير. وقد انتقى كتابنا هذا أنقى التفاسير، فأخذ منها الأصحّ والأحسن والأصون، فنظمه في عبارة الاختصار. وهذا حين شروعنا فيما ابتدأنا له، والله الموفّق.
 
فصل في الاستعاذة
قد أمر الله عزّ وجلّ بالاستعاذة عند القراءة بقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) «1» ، ومعناه: إذا أردت القراءة. ومعنى أعوذ: ألجأ وألوذ.
 
فصل في بسْم اللهِ الرحمنِ الرحيم
قال ابن عمر: نزلت في كل سورة.
وقد اختلف العلماء: هل هي آية كاملة، أم لا؟ وفيه عن أحمد روايتان، واختلفوا: هل هي من الفاتحة، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان أيضاً. فأما من قال: إِنها من الفاتحة، فإنه يوجب قراءتها في الصلاة إِذا قال بوجوب الفاتحة، وأما من لم يرها من الفاتحة، فانه يقول: قراءتها في الصلاة سنة، ما
__________
(1) النحل: 98.
(1/14)
 
 
عدا مالكاً فانه لا يستحب قراءتها في الصلاة «1» .
واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به «2» ، فنقل جماعة عن أحمد: أنه لا يسن الجهر بها، وهو قول أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وابن مغفَّل، وابن الزبير، وابن عباس، وقال به من كبراء التابعين ومن بعدهم: الحسن، والشعبي، وسعيد بن جبير، وابراهيم، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، والأعمش، وسفيان الثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأبو عبيد في آخرين. وذهب الشافعي إِلى أن الجهر بها مسنون، وهو مروي عن معاوية بن أبي سفيان، وعطاء، وطاوس، ومجاهد.
فأما تفسيرها: فقوله: بِسْمِ اللَّهِ اختصار، كأنه قال: أبدأ باسم الله، أو: بدأت باسم الله. وفي الاسم خمس لغات: إِسم بكسر الألف، وأُسم بضم الألف إذا ابتدأت بها، وسم بكسر السين، وسم
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 1/ 132: وجملة مذهب مالك وأصحابه: أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب ولا غيرها، ولا يقرأ بها المصلي في المكتوبة، ولا في غيرها سرا ولا جهرا.
ويجوز أن يقرأها في النوافل. هذا هو المشهور في مذهبه عند أصحابه. وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السورة في النوافل، ولا تقرأ أول أم القرآن. وروي عن ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصّلاة الفرض والنفل ولا تترك بحال. ومن أهل المدينة من يقول: إنه لا بد فيها من بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ منهم ابن عمر وابن شهاب.
وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد. وهذا يدل على أن المسألة مسألة اجتهادية لا قطعية كما ظن بعض الجهّال من المتفقهة الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين، وليس كما ظن لوجود الاختلاف المذكور، والحمد لله. وقد ذهب جمع من العلماء إلى الإسرار بها مع الفاتحة، منهم: أبو حنيفة، والثوري وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وعمّار وابن الزبير، وهو قول الحكم وحمّاد وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد، وروي عن الأوزاعي مثل ذلك. وانظر المغني 2/ 147- 149.
(2) قال الإمام الموفّق رحمه الله في «المغني» 2/ 149- 151: ولا تختلف الرّواية عن أحمد أن الجهر بها غير مسنون. قال الترمذي: وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن بعدهم التابعين منهم أبو بكر وعمر وعثمان، وعليّ. وذكره ابن المنذر، عن ابن مسعود، وابن الزبير وعمار. وبه يقول الحكم وحمّاد، والأوزاعي، والثّوري، وابن المبارك، وأصحاب الرأي. ويروى عن عطاء، وطاوس، ومجاهد وسعيد بن جبير، الجهر بها. وهو مذهب الشافعي لحديث أبي هريرة، أنّه قرأها في الصّلاة. وقد صح عنه أنه قال: ما أسمعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسمعناكم، وما أخفى أخفيناه عليكم. متفق عليه. وعن أنس، أنه صلّى وجهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم. وقال: أقتدي بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولما تقدّم من حديث أم سلمة وغيره، ولأنّها آية من الفاتحة فيجهر بها الإمام في صلاة الجهر، كسائر آياتها. ولنا حديث أنس وعبد الله بن المغفّل، وعن عائشة، رضي الله عنها، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين. متفق عليه. وروى أبو هريرة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. قال الله: حمدني عبدي» وذكر الخبر. أخرجه مسلم. وهذا يدل على أنّه لم يذكر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، ولم يجهر بها. وحديث أبي هريرة الذي احتجوا به ليس فيه أنّه جهر بها، ولا يمتنع أن يسمع منه حال الإسرار، كما سمع الاستفتاح والاستعاذة من النبي صلّى الله عليه وسلّم، مع إسراره بهما، وقد روى أبو قتادة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يسمعهم الآية أحيانا في صلاة الظهر. متفق عليه. وحديث أم سلمة ليس فيه أنه جهر بها، وسائر أخبار الجهر ضعيفة، فإن رواتها هم رواة الإخفاء، وإسناد الإخفاء صحيح ثابت بغير خلاف فيه، فدل على ضعف رواية الجهر، وقد بلغنا أن الدارقطني قال: لم يصح في الجهر حديث.
(1/15)
 
 
بضمّها، وسما. قال الشاعر «1» :
والله أسماك سمى مباركا ... آثرك الله به إيثاركا
وأَنشدوا «2» :
باسم الذي في كل سورةٍ سمه
قال الفراء: بعض قيس يقولون: سمه، يريدون: اسمه، وبعض قضاعة يقولون: سُمُه. أَنشدني بعضهم:
وعامنا أَعجبنا مقدّمه ... يدعى أبا السمح وقرضاب سُمُه «3»
والقرضاب: القطاع، يقال: سيف قرضاب.
واختلف العلماء في اسم الله الذي هو «الله» فقال قوم: إِنه مشتق، وقال آخرون: إنه علم ليس بمشتق. وفيه عن الخليل روايتان: إِحداهما: أنه ليس بمشتق، ولا يجوز حذف الألف واللام منه كما يجوز من الرحمن. والثانية: رواها عنه سيبويه: أنه مشتق. وذكر أبو سليمان الخطابي عن بعض العلماء أن أصله في الكلام مشتق من: أله الرجل يأله: إِذا فزع اليه من أمر نزل به. فألهه، أي: أجاره وأمَّنه، فسمي إِلهاً كما يسمّى الرجل إِماماً. وقال غيره: أصله ولاه. فأبدلت الواو همزة فقيل: إله كما قالوا:
وسادة وإسادة، ووشاح وإِشاح. واشتق من الوله، لأن قلوب العباد توله نحوه، كقوله تعالى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ «4» . وكان القياس أن يقال: مألوه، كما قيل: معبود، إلا أنهم خالفوا به البناء ليكون علماً، كما قالوا للمكتوب: كتاب، وللمحسوب: حساب. وقال بعضهم: أصله من: أله الرجل يأله إِذا تحير، لأن القلوب تتحير عند التفكر في عظمته. وحكي عن بعض اللغويين: أله الرجل يأله إِلاهة، بمعنى: عبد يعبد عبادة. وروي عن ابن عباس أنه قال: «ويذرك وإلاهتك» أي: عبادتك. قال:
والتأله: التعبد. قال رؤبة:
لله در الغانيات المدَّه ... سبَّحن واسترجعن من تألهي
فمعنى الإِله: المعبود.
فأما «الرَّحمن» : فذهب الجمهور إِلى أنه مشتق من الرحمة، مبني على المبالغة، ومعناه: ذو الرحمة التي لا نظير له فيها. وبناء فعلان في كلامهم للمبالغة، فإنهم يقولون للشديد الامتلاء: ملآن، وللشديد الشبع: شبعان. قال الخطابي: ف «الرحمن» : ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم، وعمت المؤمن والكافر. و «الرحيم» : خاصّ للمؤمنين. قال عزّ وجلّ: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «5» . والرحيم: بمعنى الرّاحم.
__________
(1) هو أبو خالد القناني كما في «اللسان» 14/ 401، 402 مادة (سما) . [.....]
(2) هو لرؤبة بن العجّاج وتمامه: قد وردت على طريق تعلمه.
(3) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 1/ 137: قرضب الرّجل: إذا أكل شيئا يابسا فهو قرضاب. وفي «القاموس» القرضاب: الذي لا يدع شيئا إلا أكله.
(4) النحل: 53.
(5) الأحزاب: 43.
(1/16)
 
 
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
سورة الفاتحة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
 
[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
(9) روى أبو هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال- وقرأ عليه أبيّ بن كعب أم القرآن- فقال: «والذي نفسي بيده، ما أُنزل في التوراة، ولا في الانجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» .
فمن أسمائها: الفاتحة، لأنه يستفتح الكتاب بها تلاوة وكتابة. ومن أسمائها: أم القرآن، وأم الكتاب، لأنها أمت الكتاب بالتقدم. ومن أسمائها: السَّبع المثاني، وإنما سميت بذلك لما سنشرحه في (الحجر) إن شاء الله.
واختلف العلماء في نزولها على قولين: أحدهما: أنها مكية، وهو مروي عن علي بن أبي طالب، والحسن، وأبي العالية، وقتادة، وأبي ميسرة. والثاني: أنها مدنية، وهو مرويّ عن أبي هريرة، ومجاهد، وعبيد بن عمير، وعطاء الخراساني. وعن ابن عباس كالقولين «1» .
__________
صحيح. أخرجه الترمذي 3125 والنسائي 2/ 139 وأحمد 5/ 114 وابن خزيمة 500 وابن حبان 775 وصححه الحاكم 1/ 557 ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. وأخرجه الترمذي 2875 والطبري 15889 والبغوي 1183 من حديث أبي هريرة مطوّلا، وإسناده حسن. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ووافقه البغوي وعجزه، أخرجه البخاري 4704 من حديث أبي هريرة أيضا. وفي الباب من حديث أبي سعيد بن المعلى أخرجه البخاري 4474 و 4647 و 4703 و 5006 وأبو داود 1458 وابن ماجة 3785 والطيالسي 2/ 9 وأحمد 3/ 211 و 450 وابن حبّان 777 والطبراني 22/ 303 والبيهقي 2/ 368 وانظر «فتح الباري» 8/ 157.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله 1/ 154: اختلفوا أهي مكية أم مدنية؟ فقال ابن عباس وقتادة وأبو العالية الرياحي- واسمه رفيع- وغيرهم: هي مكية. وقال أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري وغيرهم: هي مدنية.
ويقال نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة. حكاه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي في تفسيره. والأول أصح لقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] والحجر مكية بإجماع. ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة. وما حفظ أنه كان في الإسلام قط صلاة بغير «الحمد لله رب العالمين» يدل على هذا قوله عليه السلام: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وهذا خبر عن الحكم، لا عن الابتداء، والله أعلم.
(1/17)
 
 
فصل: فأما تفسيرها: ف الْحَمْدُ رفع بالابتداء، ولِلَّهِ الخبر. والمعنى: الحمد ثابت لله، ومستقرّ له، والجمهور على كسر لام «لله» ، وضمها ابن [أبي] «1» عبلة، قال الفراء: هي لغة بعض بني ربيعة، وقرأ ابن السَّميفع «2» : «الحمد» بنصب الدال «لله» بكسر اللام. وقرأ أبو نهيك بكسر الدال واللام جميعا.
واعلم أن الحمد: ثناء على المحمود، ويشاركه الشكر، إلا أن بينهما فرقاً، وهو: أن الحمد قد يقع ابتداء للثناء، والشكر لا يكون إلا في مقابلة النعمة، وقيل: لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر، فتقديره: قولوا: الحمد لله. وقال ابن قتيبة: (الحمد) الثناء على الرجل بما فيه من كرم أو حسب أو شجاعة، وأشباه ذلك. والشكر: الثناء عليه بمعروف أو لاكه، وقد يوضع الحمد موضع الشكر. فيقال:
حمدته على معروفه عندي، كما يقال: شكرت له على شجاعته.
فأما «الرب» فهو المالك، ولا يذكر هذا الاسم في حق المخلوق إلا بالاضافة، فيقال: هذا رب الدار، ورب العبد. وقيل: هو مأخوذ من التربية. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: ربّ فلان صنيعته يربها رباً: إذا أتمها وأصلحها، فهو ربّ ورابٌ. قال الشاعر:
يربّ الذي يأتي من الخير إنه ... إذا سئل المعروف زاد وتمُّما
قال: والرب يقال على ثلاثة أوجه: أحدها: المالك. يقال: رب الدار. والثاني: المصلح، يقال: رب الشيء. والثالث: السيد المطاع. قال تعالى: فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً «3» .
والجمهور على خفض باء «ربِّ» . وقرأ أبو العالية، وابن السّميفع، وعيسى بن عمر بنصبها. وقرأ أبو رزين العقيلي، والربيع بن خثيم «4» وأبو عمران الجوني، برفعها.
فأما الْعالَمِينَ فجمع عالم، وهو عند أهل العربية: اسم للخلق من مبتداهم إلى منتهاهم، وقد سموا أهل الزمان الحاضر عالما. فقال الحطيئة:
أراح الله منك العالمينا «5»
__________
(1) سقط من نسخ المطبوع، والاستدراك عن كتب التراجم، و «تفسير القرطبي» 1/ 181 طبع «دار الكتاب العربي» بتخريجنا. وابن أبي عبلة اسمه إبراهيم، تابعي ثقة، توفي سنة 152.
(2) كذا في الأصل و «الميزان» للذهبي و «اللسان» لابن حجر، ووقع في «لسان العرب» و «شرح القاموس» «السميقع» . والمثبت هو الراجح، فإن الذهبي ضبطه كذلك، وهو إمام علم الحديث والرجال من المتأخرين.
قال الذهبي في «الميزان» 3/ 575: محمد بن السّميفع اليماني، أحد القرّاء، له قراءة شاذة منقطعة السند، قاله أبو عمرو الدّاني وغيره، روى أخباره محمد بن مسلم المكي ذاك الواهي.
(3) يوسف: 41.
(4) وقع في المطبوع هنا وبعد قليل: (خيثم) والتصويب عن «التقريب» وكتب التراجم.
(5) هو عجز بيت، وصدره: تنحي فاجلسي مني بعيدا.
(1/18)
 
 
فأمّا أهل النظر، فالعالم عندهم: اسم يقع على الكون الكلي المحدث من فلكٍ، وسماء، وأرض، وما بين ذلك.
وفي اشتقاق «العالم» قولان: أحدهما: أنه من العلم، وهو يقوي قول أهل اللغة. والثاني: أنه من العلامة، وهو يقوي قول أهل النظر، فكأنه إنما سمي عندهم بذلك، لانه دالٌ على خالقه.
وللمفسرين في المراد ب «العالمين» هاهنا خمسة أقول: أحدها: الخلق كلّه، السّماوات والأرضون ما فيهنّ وما بينهن. رواه الضحّاك عن ابن عباس. والثاني: كل ذي رُوح دب على وجه الأرض. رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنهم الجن والإنس. روي ايضا عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، ومقاتل. والرابع: أنهم الجن والإنس والملائكة، نقل عن ابن عباس أيضا، واختاره ابن قتيبة. والخامس: أنهم الملائكة، وهو مروي عن ابن عباس أيضا.
قوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) . قرأ أبو العالية، وابن السميفع، وعيسى بن عمر بالنصب فيهما، وقرأ أبو رزين العقيلي، والربيع بن خثيم، وأبو عمران الجوني بالرفع فيهما.
قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) . قرأ عاصم والكسائيّ، وخلق ويعقوب: «مالك» بألف. وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة كذلك، إِلا أنهما نصبا الكاف. وقرأ أبو هريرة، وعاصم الجحدري: «ملْكِ» باسكان اللام من غير الألف مع كسر الكاف، وقرأ أبو عثمان النهدي، والشعبي «مَلِكَ» بكسر اللام ونصب الكاف من غير ألف. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وعائشة، ومورَّق العجلي:
«مَلِكُ» مثل ذلك إلا أنهم رفعوا الكاف. وقرأ أبيّ بن كعب، وأبو رجاء العطاردي «مليك» بياء بعد اللام مكسورة الكاف من غير ألف. وقرأ عمرو بن العاص كذلك، إلا أنه ضمَّ الكاف. وقرأَ أبو حنيفة، وأبو حياة «مَلكَ» على الفعل الماضي، «ويومَ» بالنصب. وروى عبد الوارث عن أبي عمرو: إِسكان اللام، والمشهور عن أبي عمرو وجمهور القراء «مَلِك» بفتح الميم مع كسر اللام، وهو أظهر في المدح، لأن كل ملك مالك، وليس كلّ مالك ملكا.
وفي «الدّين» ها هنا قولان: أحدهما: أنه الحساب. قاله ابن مسعود. والثاني: الجزاء. قاله ابن عباس. ولما أخبر الله عزّ وجلّ في قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ أنه مالك الدنيا. دل بقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ على أنه مالك الأخرى. وقيل: إِنما خصَّ يوم الدين، لأنه ينفرد يومئذ بالحكم في خلقه.
قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ. وقرأ الحسن، وأبو المتوكل، وأبو مجلز «يُعْبَدُ» بضم الياء وفتح الباء.
قال ابن الأنباري: المعنى: قل يا محمد: إِياك يعبد، والعرب ترجع من الغيبة إِلى الخطاب، ومن الخطاب الى الغيبة كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ «1» ، وقوله: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً «2» . وقال لبيد:
باتت تشكى إليَّ النفس مجهشة ... وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
وفي المراد بهذه العبارة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى التوحيد. روي عن علي، وابن عباس في آخرين. والثاني: أنها بمعنى الطاعة، كقوله: لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ «3» . والثالث: أنها بمعنى
__________
(1) يونس: 22.
(2) الدهر: 21، 22.
(3) يس: 60.
(1/19)
 
 
الدعاء كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي «1» .
قوله تعالى: اهْدِنَا فيه أربعة أقوال: أحدها: ثبتنا. قاله عليّ، وأبيّ. والثاني: أرشدنا.
والثالث: وفقنا. والرابع: ألهمنا. رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس.
والصِّراطَ: الطريق. ويقال: إِن أصله بالسين، لأنه من الاستراط وهو: الابتلاع، فالسراط كأنه يسترط المارّين عليه، فمن قرأ بالسين، كمجاهد، وابن محيصن، ويعقوب، فعلى أصل الكلمة، ومن قرأ بالصاد، كأبي عمرو، والجمهور، فلأنها أَخف على اللسان، ومن قرأ بالزاي، كرواية الأصمعي عن أبي عمرو، واحتج بقول العرب: صقر وسقر وزقر. وروي عن حمزة: إِشمام السين زاياً، وروي عنه أنه تلفظ بالصراط بين الصاد والزاي. قال الفراء: اللغة الجيدة بالصاد، وهي لغة قريش الأولى، وعامة العرب يجعلونها سيناً، وبعض قيس يشمُّون الصاد، فيقول: الصراط بين الصاد والسين، وكان حمزة يقرأ «الزراط» بالزاي، وهي لغة لعذرة وكلب وبني القين. يقولون في «أصدق» : أزدق.
وفي المراد بالصّراط ها هنا أربعة أقوال:
(10) أحدها: أنه كتاب الله، رواه عليّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
__________
المرفوع ضعيف، والصحيح موقوف. ورد من وجوه متعددة، أشهرها حديث الحارث الأعور، قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على علي رضي الله عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى أنّ النّاس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إني قد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ألا إنها ستكون فتنة، فقلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن- أي لم يتوقفوا- في قبوله، وأنه كلام الله تعالى إذ سمعته حتى قالوا: إِنّا سَمِعْنا قرآناً عَجَباً يَهدي إِلى الرُّشْد فآمنا به، من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» خذها إليك يا أعور. أخرجه الترمذي 2906 وابن أبي شيبة 10/ 482 والدارمي 2/ 435 والبزار في مسنده 3/ 71- 72 والفريابي في «فضائل القرآن» 81 وأبو بكر الأنباري في «إيضاح الوقف والابتداء» 1/ 5- 6. ومحمد بن نصر المروزي في «قيام الليل» ص 157 ويحيى بن الحسين الشجري في «الأمالي» 1/ 91 والبيهقي في «الشعب» 4/ 496- 497 من طريق حمزة الزّيات بهذا الإسناد، وإسناده ضعيف لضعف الحارث بن عبد الله. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلّا من حديث حمزة الزيات وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث مقال اه. وورد من طريق سعيد بن سنان البرجمي عن عروة بن مرة عن سعيد بن فيروز عن الحارث الأعور به. عند الدارمي 2/ 435- 436 والفريابي في «فضائل القرآن» 79، والبزار 3/ 70- 71 وأبو الفضل الرازي في «فضائل القرآن» 35. وأخرجه أحمد 1/ 91 وأبو يعلى 1/ 302- 303 والبزار 3/ 70 من طريق ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث به. وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» 8/ 321 من طريق أبي هاشم عمن سمع عليا ... وهذا إسناد ضعيف، فيه من لم يسم، والظاهر أنه الحارث، وقال الحافظ ابن كثير في «فضائل القرآن» ص 17- 18 بعد أن ذكر هذه الروايات وتكلم عليها: وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح اه.
وله شاهد من حديث ابن مسعود أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص 21 وابن الضريس 58 والحاكم 1/ 555 والآجري في «أخلاق حملة القرآن» 11 وابن حبان في «المجروحين» 1/ 100 وأبو الشيخ في «طبقات أصبهان» 4/ 252 وأبو الفضل الرازي 30 وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» 2/ 278 وابن الجوزي في «العلل» 1/ 101- 102 ويحيى بن الحسين الشجري في «الأمالي» 1/ 88 والبيهقي في «الشعب» 4/ 550.
وإسناده ضعيف فيه إبراهيم بن مسلم الهجري، وهو لين الحديث. والحديث صححه الحاكم، وقال الذهبي:
إبراهيم بن مسلم ضعيف اه. وقال ابن الجوزي: يشبه أن يكون من كلام ابن مسعود اه. وقال ابن كثير في «فضائل القرآن» ص 17- 18: وهذا غريب من هذا الوجه، وإبراهيم بن مسلم هو أحد التابعين، ولكن تكلموا فيه كثيرا، وقال أبو حاتم الرازي: لين ليس بالقوي. وقال أبو الفتح الأزدي: رفّاع كثير الوهم. قال ابن كثير: فيحتمل- والله أعلم- أن يكون وهم في رفع هذا الحديث وإنما هو من كلام ابن مسعود ولكن له شاهد من وجه آخر والله أعلم اه.
- والموقوف على ابن مسعود أخرجه الدارمي 2/ 431 والطبراني في «الكبير» 9/ 139 وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» 2/ 272 وأبو الفضل الرازي 31 و 32 والبيهقي في «الشعب» 4/ 549.
- وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الطبري 7570 وفيه عطية العوفي، وهو ضعيف، والأشبه في هذه الأحاديث كونها موقوفة على هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وقد أنكر الذهبي رحمه الله هذا الحديث، كونه مرفوعا، وصوّب ابن كثير فيه الوقف، وهو الراجح، والله أعلم.
__________
(1) غافر: 60. [.....]
(1/20)
 
 
والثاني: أنه دين الاسلام. قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وأبو العالية في آخرين.
والثالث: أنه الطريق الهادي إلى دين الله، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والرابع: أنه طريق الجنة، نقل عن ابن عباس أيضاً. فان قيل: ما معنى سؤال المسلمين الهداية وهم مهتدون؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن المعنى: إِهدنا لزوم الصراط، فحذف اللزوم. قاله ابن الأنباري. والثاني: أن المعنى: ثبتنا على الهدى، تقول العرب للقائم: قم حتى آتيك، أي: اثبت على حالك. والثالث: أن المعنى: زدنا هداية.
قوله تعالى: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. قال ابن عباس: هم النبيُّون، والصديقون، والشهداء، والصالحون. وقرأ الأكثرون «عليهم» بكسر الهاء، وكذلك «لديهم» و «إِليهم» وقرأهنَّ حمزة بضمها.
وكان ابن كثير يصل «1» ضم الميم بواو. وقال ابن الأنباري: حكى اللّغويون في «عليهم» عشر لغات، قرئ بعامّتها «عليهم» بضم الهاء وإسكان الميم «وعليهم» بكسر الهاء وإسكان الميم، و «وعليهمي» بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة، و «عليهُمو» بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة، و «عليهمو» بضم الهاء والميم وإِدخال واو بعد الميم، و «عليهُمُ» بضم الهاء والميم من غير زيادة واو، وهذه الأوجه الستة مأثورة عن القراء، وأوجه أربعة منقولة عن العرب «عليهُمي» بضم الهاء وكسر الميم وإدخال ياء بعد الميم، و «عليهُمِ» بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياءٍ، و «عليهِمُ» بكسر الهاء وضم الميم من غير إِلحاق واو، و «عليهِمِ» بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم.
(11) فأما «المغضوب عليهم» فهم اليهود و «الضالون» : النصارى. رواه عدي بن حاتم عن
__________
صحيح. أخرجه الترمذي 2954 وأحمد 4/ 378- 379 وابن حبان 7206 والبيهقي في «الدلائل» 5/ 339 341 والطبراني 17/ 237 من حديث عدي بن حاتم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضلال» ، وحسّن إسناده الترمذي. وقال الهيثمي في «المجمع» 5/ 335: رجال أحمد رجال الصحيح غير عباد بن حبيش، وهو ثقة اه. وتوبع عباد عند الطبري 207 وقد تقدم ومن وجه آخر 209 فهو صحيح.
ويشهد له ما أخرجه أحمد 5/ 32- 33 والطبري 212 وعبد الرزاق في «تفسيره» 13 عن عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بوادي القرى، وهو على فرسه فسأله رجل من بلقين، فقال: يا رسول الله: «من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المغضوب عليهم- وأشار إلى اليهود- قال: فمن هؤلاء؟ قال: هؤلاء الضالين- يعني النصارى- قال: وجاء رجل فقال: استشهد مولاك، أو قال: غلامك فلان، قال: بل يجر إلى النار في عباءة غلها» . وإسناده إليه صحيح وجهالة الصحابي لا تضر. وانظر «المجمع» 10809 و 10810. وانظر «تفسير الشوكاني» 1/ 29 بتخريجنا.
__________
(1) قال السيوطي في «الدر» 1/ 42: وأخرج ابن الأنباري عن ابن كثير أنه كان يقرأ «عليهمو» بكسر الهاء وضم الميم مع إلحاق الواو. وأخرج أيضا عن ابن إسحاق أنه قرأ «عليهم» بضم الهاء والميم من غير إلحاق واو.
وانظر «تفسير الشوكاني» 1/ 29.
(1/21)
 
 
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن قتيبة: والضلال: الحيرة والعدول عن الحقّ.
فصل: ومن السّنّة في حق قارئ الفاتحة أن يعقبها ب «آمين» . قال شيخنا أبو الحسن عليّ بن عبيد الله: وسواء كان خارج الصلاة أو فيها.
(12) لما روى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا قال الامام (غَيْرِ المغْضُوبِ عَليْهم ولا الضَّالين) فقال من خلفه: آمين، فوافق ذلك قول أهل السماء، غفر له ما تقدم من ذنبه» .
وفي معنى «آمين» ثلاثة أقوال: أحدها: أن معنى آمين: كذلك يكون. حكاه ابن الأنباري عن ابن عباس، والحسن. والثاني: أنها بمعنى: اللهم استجب. قاله الحسن والزجاج. والثالث: أنه اسم من أسماء الله تعالى. قاله مجاهد، وهلال بن يساف، وجعفر بن محمد.
وقال ابن قتيبة: معناها: يا أمين أجب دعاءنا، فسقطت يا، كما سقطت في قوله: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا «1» ، تأويله: يا يوسف. ومن طوَّل الألف فقال: آمين، أدخل ألف النداء على ألف أمين، كما يقال: آزيد أَقبل: ومعناه: يا زيد. قال ابن الأنباري: وهذا القول خطأ عند جميع النحويين، لأنه إِذا أدخل «يا» على «آمين» كان منادىً مفرداً، فحكم آخره الرفع، فلما أجمعت العرب على فتح نونه، دل على أنه غير منادى، وإنما فتحت نون «آمين» لسكونها وسكون الياء التي قبلها، كما تقول العرب:
ليت، ولعل. قال: وفي «آمين» لغتان: «أمين» بالقصر، و «آمين» بالمد، والنون فيهما مفتوحة. أنشدنا أبو العباس عن ابن الاعرابي:
سقى الله حياً بين صارة والحمى ... حمى فيْدَ صوبَ المُدْجِنات المواطر «2»
أمين وأَدى الله ركباً إليهمُ ... بخير ووقَّاهم حمام المقادر
__________
صحيح. أخرجه البخاري 780- 781- 782- 6402 ومسلم 410 وأبو داود 936 والترمذي 250 والنسائي 2/ 143- 144 وابن ماجة 852 ومالك 1/ 87 والشافعي في «المسند» 1/ 76 وعبد الرزاق في «المصنّف» 2644 وأحمد 2/ 233، والدارمي 1/ 284 وابن حبان 1804 والبيهقي في «السنن» 2/ 57 عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه» قال ابن شهاب وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «آمين» . لفظ البخاري.
__________
(1) يوسف: 29.
(2) الدّاجنة: المطرة المطبقة كالدّيمة. والدّجن: إلباس الغيم الأرض وأقطار السماء، والمطر الكثير.
(1/22)
 
 
وأَنشدنا أبو العباس أيضاً:
تباعد مني فُطْحُل وابن أمه ... أَمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وأنشدنا أبو العباس أيضاً:
يا رب لا تسلبنّي حبها أبداً ... ويرحم الله عبداً قال آمينا
وأَنشدني أَبي:
أمين ومن أعطاك منّي هوادة ... رمى الله في أطرافه فاقفعلَّت «1»
وأنشدني أبي:
فقلت له قد هجت لي بارح الهوى ... أصَاب حمام الموت أَهوننا وجدا
أمين وأضناه الهوى فوق ما به ... أمين ولاقى من تباريحه جهدا
فصل: نقل الأكثرون عن أحمد أن الفاتحة شرط في صحة الصلاة، فمن تركها مع القدرة عليها لم تصح صلاته وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا تتعين، وهي رواية عن أحمد «2» .
(13) ويدل على الرواية الأولى: ما روي في «الصحيحين» من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» .
__________
صحيح. أخرجه البخاري 756 ومسلم 394 وأبو داود 822 والنسائي 2/ 137 والدارمي 1/ 283 وابن ماجة 837 وابن الجارود 185 والحميدي 386 والشافعي 1/ 75 وأحمد 5/ 314- 321 وابن حبّان 1782 و 1786 كلهم من حديث عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» . ورواية لمسلم «لا صلاة لمن لم يقترئ بأم القرآن» . وانظر «تفسير القرطبي» 1/ 154- 157 بتخريجي.
__________
(1) في «القاموس» اقفعلّت يداه اقفعلالا: تشنجت وتقبّضت.
(2) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 1/ 157- 160.: واختلف العلماء في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة فقال مالك وأصحابه: هي متعيّنة للإمام والمنفرد في كل ركعة. قال ابن خويز منداد البصري المالكي: لم يختلف قول مالك أنه من نسيها في صلاة ركعة من صلاة ركعتين أن صلاته تبطل ولا تجزيه. واختلف قوله فيمن تركها ناسيا في ركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية فقال مرة: يعيد الصلاة، وقال مرة أخرى: يسجد سجدتي السهو، قال ابن عبد البر: الصحيح من القول إلغاء تلك الركعة ويأتي بركعة بدلا منها كمن أسقط سجدة سهوا. وقال أبو الحسن البصري: إذا قرأ بأم القرآن مرة واحدة في الصلاة أجزأه ولم تكن عليه إعادة لأنها صلاة قد قرأ فيها بأم القرآن وهي تامة لقوله عليه السلام: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن» وهذا قد قرأ بها. قلت: ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في كل ركعة وهو الصحيح على ما يأتي. وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك.
وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: أقلّه ثلاث آيات أو آية طويلة كآية الدّين. والصحيح من هذه الأقوال قول الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر وأن الفاتحة متعينة في كل ركعة لكل أحد على العموم لقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» وقوله: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج» ثلاثا.
وقال أبو هريرة: أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أنادي أنه: «لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد» أخرجه أبو داود. كما لا ينوب سجود ركعة ولا ركوعها عن ركعة أخرى فكذلك لا تنوب قراءة ركعة عن غيرها.
(1/23)
 
 
الم (1)
سورة البقرة
(فصل في فضيلتها) (14) روى أبو هريرة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإنّ البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشّيطان» .
(15) وروى أبو أمامة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «أقرأوا الزّهراوين: البقرة وآل عمران، فإنّهما يأتيان يوم القيامة كأنّهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صوافّ، اقرءوا البقرة، فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة» . والمراد بالزّهراوين: المنيرتين. يقال لكل منير: زاهر. والغياية:
كل شيء أظلّ الإنسان فوق رأسه، مثل السّحابة والغبرة. يقال: غايا القوم فوق رأس فلان بالسيف، كأنهم أظلّوه به. قال لبيد:
فتدلّيت عليه قافلا ... وعلى الأرض غيايات الطّفل
ومعنى فرقان: قطعتان. والفرق: القطعة من الشيء. قال الله عزّ وجلّ: فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ «1» . والصوّاف: المصطفّة المتضامّة لتظلّ قارئها. والبطلة: السّحرة.
(فصل في نزولها) قال ابن عباس: هي أوّل ما نزل بالمدينة، وهذا قول الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، وقتادة، ومقاتل. وذكر قوم أنها مدنية سوى آية، وهي قوله عزّ وجلّ: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ «2» ، فإنها نزلت يوم النّحر بمنى في حجّة الوداع.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
 
[سورة البقرة (2) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1)
فصل: وأما التفسير فقوله: ألم. اختلف العلماء فيها وفي سائر الحروف المقطّعة في أوائل
__________
صحيح. أخرجه مسلم 780 والترمذي 2877، والنسائي في «الكبرى» 6/ 10801.
صحيح. أخرجه مسلم 804 من حديث أبي أمامة.
__________
(1) الشعراء: 63.
(2) البقرة: 281.
(1/24)
 
 
السور على ستة أقوال «1» : أحدها: أنها من المتشابه الذي لا يعلمه الا الله. قال أبو بكر الصّديق رضي الله عنه: لله عزّ وجلّ في كل كتاب سر، وسر الله في القرآن أوائل السور، وإلى هذا المعنى ذهب الشعبي، وأبو صالح، وابن زيد. والثاني: أنها حروف من أسماء، فاذا أُلفت ضرباً من التأليف كانت أسماء من أسماء الله عزّ وجلّ. قال علي بن أبي طالب: هي أسماء مقطعة، لو علم الناس تأليفها علموا اسم الله الذي إِذا دعي به أجاب. وسئل ابن عباس عن «آلر» و «حم» و «نون» ، فقال: اسم الرحمن على الهجاء، وإِلى نحو هذا ذهب أبو العالية، والربيع بن أنس. والثالث: أنها حروف أقسم الله بها، قاله ابن عباس، وعكرمة. قال ابن قتيبة: ويجوز أن يكون أقسم بالحروف المقطعة كلها، واقتصر على ذكر بعضها كما يقول القائل: تعلمت «أب ت ث» وهو يريد سائر الحروف، وكما يقول: قرأت الحمد، يريد فاتحة الكتاب، فيسميها بأول حرف منها، وإِنما أقسم بحروف المعجم لشرفها، ولأنها مباني كتبه المنزلة، وبها يذكر ويوحد. قال ابن الانباري: وجواب القسم محذوف، تقديره: وحروف المعجم لقد بين الله لكم السبيل، وأنهجت لكم الدّلالات بالكتاب المنزل، وإِنما حذف لعلم المخاطبين به، ولأن في قوله: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ دليلاً على الجواب. والرابع: انه أشار بما ذكر من الحروف إِلى سائرها، والمعنى: أنه لما كانت الحروف أُصولاً للكلام المؤلف، أخبر أن هذا القرآن إِنما هو مؤلف من هذه الحروف، قاله الفراء، وقطرب. فان قيل: فقد علموا أنه حروف، فما الفائدة في إِعلامهم بهذا؟ فالجواب أنه نبه بذلك على إِعجازه، فكأنه قال: هو من هذه الحروف التي تؤلفون منها كلامكم، فما بالكم تعجزون عن معارضته؟! فاذا عجزتم فاعلموا أنه ليس من قول محمّد عليه السلام.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 35- 37: قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السّور. فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسروها. ومنهم من فسّرها، واختلف هؤلاء في معناها فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنما هي أسماء السور. وقال الزمخشري في «تفسيره» : وعليه إطباق الأكثر ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة (آلم) السجدة، و (هل أتى على الإنسان) . وقال سفيان الثوري آلم، حم، والمص، وص، فواتح افتتح الله بها القرآن. وفي رواية عن ابن أبي نجيح أنه قال: آلم اسم من أسماء القرآن.
ولعل هذا يرجع إلى معنى القول اسم من أسماء السور فإنه يبعد أن يكون المص اسما للقرآن كله لأن المتبادر إلى فهم السامع من يقول قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن والله أعلم. وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى قال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس قال: آلم اسم الله الأعظم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو قسم أقسم الله به وهو من أسماء الله تعالى. قلت مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفا وهي يجمعها قولك: نص حكيم قاطع له سر.
وهي نصف الحروف عددا والمذكور منها أشرف من المتروك. قال الزمخشري: وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة ومن الرخوة والشديدة ومن المطبقة والمفتوحة ... وقد سردها مفصلة ثم قال فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت. وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث فقد ادعى ما ليس له وطار في غير مطاره. وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته. وهو ممن لا يحتج به ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها وذلك يبلغ منه جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرار فأطم وأعظم. والله أعلم.
(1/25)
 
 
والخامس: أنها أسماء للسور. روي عن زيد بن أسلم، وابنه، وأبي فاختة سعيد بن علاقة مولى أم هانئ. والسادس: أنها من الرمز الذي تستعمله العرب في كلامها. يقول الرجل للرجل: هل تا؟ فيقول له: بلى، يريد هل تأتي؟ فيكتفي بحرف من حروفه. وأنشدوا:
قلنا لها قفي لنا فقالت قاف «1»
أراد: قالت: أقف. ومثله:
نادوهم أن ألجموا ألا تا ... قالوا جميعا كلّهم بلى فا
يريد: ألا تركبون؟ قالوا: بلى فاركبوا. ومثله:
بالخير خيرات وإن شراً فا ... ولا أريد الشر إِلا أن تا
معناه: وإن شراً فشر ولا أريد الشر إِلا أن تشاء. وإِلى هذا القول ذهب الأخفش، والزجاج، وابن الأنباري. وقال أبو روق عطية بن الحارث الهمدانيّ «2» :
(16) كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يجهر بالقراءة في الصلوات كلها، وكان المشركون يصفّقون ويصفّرون، فنزلت هذه الحروف المقطعة، فسمعوها فبقوا متحيرين. وقال غيره: إِنما خاطبهم بما لا يفهمون ليقبلوا على استماعه، لأن النفوس تتطلع إِلى ما غاب عنها. معناه: فاذا أقبلوا اليه خاطبهم بما يفهمون، فصار ذلك كالوسيلة إلى الإبلاغ، إلا أنه لا بد له من معنى يعلمه غيرهم، أو يكون معلوما عند المخاطب، فهذا الكلام يعم جميع الحروف.
وقد خص المفسّرون قوله «الم» بخمسة أقوال «3» : أحدها: أنه من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله عزّ وجلّ، وقد سبق بيانه. والثاني: أَن معناه: أَنا الله أعلم. رواه أَبو الضحى عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، وسعيد بن جبير. والثالث: أنه قسم. رواه أبو صالح عن ابن عباس، وخالد الحذاء عن عكرمة. والرابع: أنها حروف من أسماء. ثم فيها قولان: أَحدهما: أَن الألف من «الله» واللام من «جبريل» والميم من «محمد» ، قاله ابن عباس. فان قيل: إِذا كان قد تنوول من كل اسم حرفه الأول اكتفاءً به، فلم أُخذت اللام من جبريل وهي آخر الاسم؟! فالجواب: أن مبتدأَ القرآن من الله تعالى، فدلَّ على ذلك بابتداء أول حرف من اسمه، وجبريل انختم به التنزيل والإِقراء، فتنوول من اسمه نهاية حروفه، و «محمد» مبتدأ في الإقراء، فتنوول أول حروفه. والقول الثاني: أَن الألف من «الله» تعالى، واللام من «لطيف» والميم من «مجيد» قاله أبو العالية. والخامس: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله مجاهد، والشعبي، وقتادة، وابن جريج.
__________
لم أقف على إسناده إلى أبي روق، وأبو روق تابعي، فالخبر مرسل، والمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث.
__________
(1) صدر بيت وعجزه «لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف» .
(2) نسبة إلى همدان، وهي قبيلة يمنية، وأما همذان- بفتحات وبالذال، فهي مدينة في فارس.
(3) الصحيح في ذلك أن يقال: الله أعلم بمراده، فهذا نكل علمه إلى الله سبحانه، وتقدم كلام الحافظ ابن كثير.
(1/26)
 
 
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
[سورة البقرة (2) : آية 2]
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
قوله تعالى: ذلِكَ فيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى هذا، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والكسائي، وأبي عبيدة، والأخفش. واحتج بعضهم بقول خفاف بن ندبة:
أَقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إِنني أنا ذلكا «1»
أي: أنا هذا. وقال ابن الأنباري: إنما أراد: أنا ذلك الذي تعرفه.
والثاني: أنها إشارة الى غائب. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أراد به ما تقدم إنزاله عليه من القرآن. والثاني: أنه أراد به ما وعده أن يوحيه إليه في قوله: سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا «2» . والثالث: أنه أراد بذلك ما وعد به أهل الكتاب السّالفة، لأنهم وعدوا بنبيّ وكتاب.
والْكِتابُ: القرآن. وسمي كتاباً، لأنه جمع بعضه إلى بعض، ومنه الكتيبة، سميت بذلك لاجتماع بعضها إلى بعض. ومنه: كتبت البغلة «3» .
قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ. الرَّيب: الشك. والهدى: الإِرشاد. والمتقون: المحترزون مما اتقوه. وفرَّق شيخنا علي بن عبيد الله بين التقوى والورع، فقال: التقوى: أخذ عدة، والورع: دفع شبهة، فالتقوى: متحقق السبب، والورع: مظنون المسبَّب.
واختلف العلماء في معنى هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ظاهرها النفي، ومعناها النهي، وتقديرها: لا ينبغي لأحد أن يرتاب به لإتقانه وإحكامه. ومثله: ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ «4» ، أي: ما ينبغي لنا. ومثله: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ «5» ، وهذا مذهب الخليل، وابن الأنباري. والثاني: أن معناها: لا ريب فيه أنه هدىً للمتقين. قاله المبرّد. والثالث: أن معناها: لا ريب فيه أنه من عند الله، قاله مقاتل في آخرين. فان قيل: فقد ارتاب به قوم. فالجواب: انه حق في نفسه، فمن حقق النظر فيه علم. قال الشاعر «6» :
ليس في الحق يا أمامة ريب ... إنما الريب ما يقول الكذوب
فان قيل: فالمتقي مهتد، فما فائدة اختصاص الهداية به؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه أراد المتقين والكافرين، فاكتفى بذكر أحد الفريقين كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «7» ، أراد:
والبرد. والثاني: أنه خصَّ المتقين لانتفاعهم به كقوله: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها «8» ، وكان منذراً لمن يخشى ولمن لا يخشى.
__________
(1) في «القاموس» تأطّر الرمح: تثنّى وانعطف. المتن من السهم: ما بين الريش إلى وسطه.
(2) المزمل: 5.
(3) في «القاموس» كتبت الناقة: ختم حياؤها، أو خزم بحلقة من حديد ونحوه. وكتب الناقة: ظأرها فخزم منخريها بشيء لئلا تشمّ اه مع التصرف. [.....]
(4) يوسف: 38.
(5) البقرة: 196.
(6) هو عبد الله بن الزّبعرى. انظر «تفسير القرطبي» 1/ 205.
(7) النحل: 81.
(8) النازعات: 45.
(1/27)
 
 
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
[سورة البقرة (2) : آية 3]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، الايمان في اللغة: التصديق، والشرع أقره على ذلك، وزاد فيه القول والعمل. وأصل الغيب: المكان المطمئن الذي يستتر فيه لنزوله عما حوله، فسمي كلّ مستتر:
غيبا. وفي المراد بالغيب ها هنا ستة أقوال: أحدها: أنه الوحي، قاله ابن عباس، وابن جريج. والثاني:
القرآن، قاله أبو رزين العقيلي، وزر بن حبيش. والثالث: الله عزّ وجلّ، قاله عطاء، وسعيد بن جبير.
والرابع: ما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار، ونحو ذلك مما ذكر في القرآن. رواه السدي عن أشياخه، وإليه ذهب أبو العالية، وقتادة. والخامس: أنه قدر الله عزّ وجلّ، قاله الزهري. والسادس: أنه الايمان بالرسول في حق من لم يره. قال عمرو بن مرَّة: قال أصحاب عبد الله «1» له: طوبى لك، جاهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجالسته. فقال: إن شأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان مبيِّنا لمن رآه، ولكن أعجب من ذلك: قوم يجدون كتاباً مكتوباً يؤمنون به ولم يروه، ثم قرأ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.
قوله تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ. الصلاة في اللغة: الدعاء. وفي الشريعة: أفعال وأقوال على صفات مخصوصة. وفي تسميتها بالصلاة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها سميت بذلك لرفع الصَّلا، وهو مغرز الذنب من الفرس. والثاني: أنها من صليت العود، إذا لينته، فالمصلي يلين ويخشع. والثالث:
أنها مبنية على السؤال والدعاء، والصلاة في اللغة: الدعاء، وهي في هذا المكان اسم جنس. قال مقاتل: أراد بها هاهنا: الصلوات الخمس.
وفي معنى إقامتها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه تمام فعلها على الوجه المأمور به، روي عن ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أنه المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، قاله قتادة، ومقاتل. والثالث: أنه إِدامتها، والعرب تقول في الشيء الراتب: قائم، وفلان يقيم أرزاق الجند، قاله ابن كيسان.
قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أي: أعطيناهم يُنْفِقُونَ أي: يخرجون. وأصل الإِنفاق الإِخراج. يقال: نفقت الدابة: إذا خرجت روحها. وفي المراد بهذه النفقة أربعة أقوال: أحدها: أنها النفقة على الأهل والعيال، قاله ابن مسعود، وحذيفة. والثاني: أنها الزكاة المفروضة، قاله ابن عباس، وقتادة. والثالث: أنها الصدقات النوافل، قاله مجاهد والضحاك. والرابع: أنها النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة، ذكره بعض المفسرين، وقالوا: إنه كان فرض على الرجل أن يمسك مما في يده مقدار كفايته يومه وليلته. ويفرق باقيه على الفقراء. فعلى قول هؤلاء، الآية منسوخة بآية الزكاة، وغير هذا القول أثبت. واعلم أن الحكمة في الجمع بين الإِيمان بالغيب وهو عقد القلب، وبين الصلاة وهي فعل البدن، وبين الصدقة وهو تكليف يتعلق بالمال، أنه ليس في التكليف قسم رابع، إذ ما عدا هذه الأقسام فهو ممتزج بين اثنين منهما، كالحجّ والصّوم ونحوهما.
 
[سورة البقرة (2) : آية 4]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
__________
(1) هو عبد الله بن مسعود، أحد الصحابة السابقين، توفي سنة 33 رضي الله عنه.
(1/28)
 
 
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ، اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، رواه الضحاك عن ابن عباس، واختاره مقاتل «1» . والثاني: أنها نزلت في العرب الذين آمنوا بالنبي وبما أُنزل من قبله. رواه أبو صالح عن ابن عباس «2» . قال المفسرون: الذي أنزل إليه، القرآن. وقال شيخنا علي بن عبيد الله: القرآن وغيره مما أُوحي إِليه. قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يعني الكتاب المتقدمة والوحي، فأما (الآخرة) فهي اسم لما بعد الدنيا، وسميت آخرة، لأن الدنيا قد تقدمتها. وقيل: سميت آخرة لأنها نهاية الأمر. قوله تعالى: يُوقِنُونَ، اليقين: ما حصلت به الثقة، وثلج به الصدر، وهو أبلغ علم مكتسب.
 
[سورة البقرة (2) : آية 5]
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً أي على رشاد. وقال ابن عباس: على نور واستقامة. قال ابن قتيبة: الْمُفْلِحُونَ: الفائزون ببقاء الأبد. وأصل الفلاح: البقاء. ويشهد لهذا قول لبيد:
نحل بلاداً كلُّها حُلَّ قبلنا ... ونرجو الفلاح بعد عادٍ وحمير
يريد: البقاء، وقال الزجاج: المفلح: الفائز بما فيه غاية صلاح حاله. قال ابن الأنباري: ومنه:
حيَّ على الفلاح، معناه: هلموا إِلى سبيل الفوز ودخول الجنة.
 
[سورة البقرة (2) : آية 6]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا في نزولها أربعة أقوال: أحدها: أنها نزلت في قادة الأحزاب، قاله أبو العالية. والثاني: أنها نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته، قاله الضحاك. والثالث: أنها نزلت في طائفة من اليهود، ومنهم حيي بن أخطب، قاله ابن السائب. والرابع: أنها نزلت في مشركي العرب، كأبي جهل وأبي طالب وأبي لهب وغيرهم ممن لم يسلم «3» ، قاله مقاتل.
فأما تفسيرها، فالكفر في اللغة: التغطية. تقول: كفرت الشيء إذا غطيته، فسمي الكافر كافراً، لأنه يغطي الحق. قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ، أي: متعادل عندهم الانذار وتركه، والانذار: إِعلام مع تخويف، وتناذر بنو فلان هذا الأمر: إذا خوّفه بعضهم بعضا.
__________
(1) أثر ابن عباس لم أقف عليه، ولا يصح، فإنه من رواية الضّحّاك، وهو لم يلق ابن عباس، والراوي عن الضحاك هو جويبر بن سعيد، ذاك المتروك، وهو إن لم يذكره المصنف، فهو المتعين، لأنه يروي عن الضحّاك عن ابن عباس تفسيرا كاملا، ولا يصح. وأما أثر مقاتل، فهو واه أيضا، فهو مرسل، ومع إرساله مقاتل إن كان ابن سليمان فهو كذاب، وإن كان ابن حيان، فقد روى مناكير، والراجح عند الإطلاق ابن سليمان. والصحيح عموم الآية، والله أعلم.
(2) ضعيف. أخرجه الطبري 292 من طريق أبي صالح عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، لضعف أبي صالح، واسمه باذان، ويقال باذام.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 45: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إِلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول وهو الأظهر ويفسر ببقية الآيات التي في معناها والله أعلم.
(1/29)
 
 
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
قال شيخنا علي بن عبيد الله: هذه الآية وردت بلفظ العموم، والمراد بها الخصوص، لأنها آذنت بأن الكافر حين إنذاره لا يؤمن، وقد آمن كثير من الكفار عند إنذارهم، ولو كانت على ظاهرها في العموم، لكان خبر الله لهم خلاف مخبره، ولذلك وجب نقلها إلى الخصوص.
 
[سورة البقرة (2) : آية 7]
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)
قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، الختم: الطبع، والقلب: قطعة من دم جامدة سوداء، وهو مستكن في الفؤاد، وهو بيت النفس، ومسكن العقل، وسمي قلبا لتقلبه. وقيل: لأنه خالص البدن، وإما خصَّه بالختم لأنه محل الفهم.
قوله تعالى: وَعَلى سَمْعِهِمْ، يريد: على أسماعهم، فذكره بلفظ التوحيد، ومعناه: الجمع، ونظيره قوله تعالى: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «1» . وأنشدوا من ذلك:
كُلُوا في نِصْفِ بَطْنِكُم تَعِيْشُوا ... فانَّ زَمَانَكُم زمن خميص
أي: في أنصاف بطونكم. ذكر هذا القول أبو عبيدة، والزجاج. وفيه وجه آخر، وهو أن العرب تذهب بالسمع مذهب المصدر، والمصدر يوحد، تقول: يعجبني حديثكم، ويعجبني ضربكم. فأما البصر والقلب فهما اسمان لا يجريان مجرى المصادر في مثل هذا المعنى. ذكره الزجاج، وابن القاسم.
وقد قرأ عمرو بن العاص، وابن أبي عبلة: (وعلى أسماعهم) .
قوله تعالى: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ، الغشاوة: الغطاء. قال الفراء: أما قريش وعامة العرب، فيكسرون الغين من «غشاوة» ، وعكل يضمون الغين، وبعض العرب يفتحها، وأظنها لربيعة. وروى المفضل عن عاصم «غِشاوَةٌ» بالنصب على تقدير: وجعل على أبصارهم غشاوة. فأما العذاب، فهو الألم المستمر، وماء عذب: إذا استمر في الحلق سائغا.
 
[سورة البقرة (2) : آية 8]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها في المنافقين، ذكره السدي عن ابن مسعود، وابن عباس، وبه قال أبو العالية، وقتادة، وابن زيد «2» .
والثاني: أنها في منافقي أهل الكتاب. رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال ابن سيرين: كانوا يتخوفون من هذه الآية. وقال قتادة: هذه الآية نعت المنافق، يعرف بلسانه، وينكر بقلبه، ويصدّق بلسانه، ويخالف بعمله، ويصبح على حالٍ، ويمسي على غيرها، ويتكفّأ تكفّؤ السّفينة، كلما هبّت ريح هبّ معها.
 
[سورة البقرة (2) : آية 9]
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9)
قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ. قال ابن عباس: كان عبد الله بن أُبيّ، ومعتب بن قشير، والجدّ بن
__________
(1) الحج: 5.
(2) هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العمري، مولاهم المدني أخو عبد الله وأسامة. قال البخاري: عبد الرحمن ضعفه عليّ جدّا، وقال النسائي: ضعيف. وقال أحمد: عبد الله ثقة والآخران ضعيفان. كما في الميزان.
(1/30)
 
 
القيس إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، ونشهد أن صاحبكم صادق، فاذا خلوا لم يكونوا كذلك، فنزلت هذه الآية «1» . فأما التفسير، فالخديعة: الحيلة والمكر، وسميت خديعة، لأنها تكون في خفاء.
والمخدع: بيت داخل البيت تختفي فيه المرأة، ورجل خادع: إذا فعل الخديعة، سواء حصل مقصوده أو لم يحصل، فاذا حصل مقصوده، قيل: قد خدع. وانخدع الرجل: استجاب للخادع، سواء تعمد الاستجابة أو لم يقصدها، والعرب تسمي الدهر خداعاً، لتلونه بما يخفيه من خير وشر. وفي معنى خداعهم الله خمسة أقوال: أحدها: انهم كانوا يخادعون المؤمنين، فكأنهم خادعوا الله. روي عن ابن عباس واختاره ابن قتيبة. والثاني: انهم كانوا يخادعون نبي الله، فأقام الله نبيه مقامه، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «2» ، قاله الزجاج. والثالث: أن الخادع عند العرب: الفاسد.
وأنشدوا «3» :
[أبيض اللون لذيذ طعمه] «4» ... طيب الريق إِذا الريق خدع
أي: فسد. رواه محمد بن القاسم عن ثعلب عن ابن الاعرابي. قال ابن القاسم: فتأويل:
يخادعون الله: يفسدون ما يظهرون من الايمان بما يضمرون من الكفر.
والرابع: أنهم كانوا يفعلون في دين الله ما لو فعلوه بينهم كان خداعا.
والخامس: أنهم كانوا يخفون كفرهم، ويظهرون الإيمان به.
قوله تعالى: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ قرأَ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «وما يخادعون» وقرأَ الكوفيون، وابن عامر: (يخدعون) ، والمعنى: أن وبال ذلك الخداع عائد عليهم.
ومتى يعود وبال خداعهم عليهم؟ فيه قولان:
أحدهما: في دار الدنيا، وذلك بطريقين: أحدهما: بالاستدراج والإِمهال الذي يزيدهم عذابا.
والثاني: باطلاع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين على أحوالهم التي أسروها.
والقول الثاني: ان عود الخداع عليهم في الآخرة. وفي ذلك قولان: أحدهما: أنه يعود عليهم عند ضرب الحجاب بينهم وبين المؤمنين، وذلك قوله: قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ «5» الآية ... والثاني: أنه يعود عليهم عند اطلاع أهل الجنة عليهم، فاذا رأَوهم طمعوا في نيل راحة من قبلهم، فقالوا: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ «6» ، فيجيبونهم: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ «7» .
قوله تعالى: وَما يَشْعُرُونَ، أَي: وما يعلمون. وفي الذي لم يشعروا به قولان:
__________
(1) باطل. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 26 عن ابن عباس إسناده واه جدا فيه محمد بن مروان بن السائب عن الكلبي عن أبي صالح، أطلق العلماء على هذا الإسناد: سلسلة الكذب والأثر ذكره السيوطي في «الدر» 1/ 31 وعزاه للواحدي والثعلبي بسند واه.
(2) الفتح: 10.
(3) البيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري. [.....]
(4) ما بين المعقوفتين زيادة عن «اللسان» .
(5) الحديد: 13.
(6) الأعراف: 50.
(7) الأعراف: 51.
(1/31)
 
 
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
أحدهما: أَنه إِطلاع الله نبيه على كذبهم، قاله ابن عباس.
والثاني: أَنه إِسرارهم بأنفسهم بكفرهم، قاله ابن زيد.
 
[سورة البقرة (2) : آية 10]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)
قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، المرض هاهنا: الشك، قاله عكرمة، وقتادة. فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً هذا الإخبار من الله عزّ وجلّ أنه فعل بهم ذلك، و «الأليم» بمعنى المؤلم، والجمهور يقرءون «يكذبون» بالتشديد، وقرأ الكوفيون سوى أبان عن عاصم بالتخفيف مع فتح الياء.
 
[سورة البقرة (2) : آية 11]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
أحدهما: أنها نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول الجمهور، منهم ابن عباس، ومجاهد.
والثاني: أن المراد بها قوم لم يكونوا خلقوا حين نزولها، قاله سلمان الفارسي. وكان الكسائي يقرأ بضم القاف من «قيل» والحاء من «حيل» والغين من «غيض» ، والجيم من «جيء» ، والسين من «سيئ» و «سيئت» . وكان ابن عامر يضم من ذلك ثلاثة: «حيل» و «سيق» و «سيئ» . وكان نافع يضم «سيئ» و «سيئت» ، ويكسر البواقي، والآخرون يكسرون جميع ذلك. وقال الفراء: أهل الحجاز من قريش ومن جاورهم من بني كنانة يكسرون القاف في «قيل» و «جيء» و «غيض» ، وكثير من عقيل ومن جاورهم وعامة أسد، يشمون إلى الضمة من «قيل» و «جيء» .
وفي المراد بالفساد ها هنا خمسة أقوال: أحدها: أنه الكفر، قاله ابن عباس. والثاني: العمل بالمعاصي، قاله أبو العالية، ومقاتل. والثالث: أنه الكفر والمعاصي، قاله السّدي عن أشياخه. والرابع:
أنه ترك امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، قاله مجاهد. والخامس: أنه النفاق الذي صادفوا به الكفار، وأطلعوهم على أسرار المؤمنين، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله.
قوله تعالى: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ، فيه خمسة أقوال: أحدها: أن معناه إنكار ما عرفوا به، وتقديره: ما فعلنا شيئاً يوجب الفساد. والثاني: أن معناه: إنا نقصد الإصلاح بين المسلمين والكافرين، والقولان عن ابن عباس. والثالث: أنهم أرادوا: في مصافاة الكفار صلاح لا فساد، قاله مجاهد وقتادة.
والرابع: أنهم أرادوا أن فعلنا هذا هو الصلاح، وتصديق محمد هو الفساد، قاله السّدي. والخامس:
أنهم ظنوا أن مصافاة الكفار صلاح في الدنيا لا في الدين، لأنهم اعتقدوا أن الدّولة «1» إن كانت للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقد أمنوه بمتابعته، وإن كانت للكفار فقد أمنوهم بمصافاتهم، ذكره شيخنا.
 
[سورة البقرة (2) : آية 12]
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)
قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، قال الزجاج: ألا: كلمة يبتدأُ بها، ينبه بها المخاطب،
__________
(1) في «القاموس» الدّولة: انقلاب الزمان، والغلبة.
(1/32)
 
 
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
تدل على صحة ما بعدها. و «هم» : تأكيد للكلام.
وفي قوله تعالى: وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ قولان: أحدهما: لا يشعرون أن الله يطلع نبيه على فسادهم. والثاني: لا يشعرون أن ما فعلوه فساد، لا صلاح.
 
[سورة البقرة (2) : آية 13]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا، في المقول لهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: المنافقون، قاله مجاهد، وابن زيد.
وفي القائلين لهم قولان: أحدهما: أنهم أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس، ولم يعيّن أحداً من أصحابه. والثاني: أنهم معينون، وهم سعد بن معاذ، وأبو لبابة وأسيد، ذكره مقاتل.
وفي الإِيمان الذي دعوا إليه قولان: أحدهما: أنه التصديق بالنبي، وهو قول من قال: هم اليهود. والثاني: أنه العمل بمقتضى ما أظهروه، وهو قول من قال: هم المنافقون.
وفي المراد بالناس ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: جميع الصحابة، قاله ابن عبَّاس. والثاني:
عبد الله بن سلام، ومن أسلم معه من اليهود، قاله مقاتل. والثالث: معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وجماعة من وجوه الأنصار، عدهم الكلبي.
وفيمن عنوا بالسفهاء ثلاثة أقوال: أحدها: جميع الصحابة، قاله ابن عبَّاس. والثاني: النساء والصبيان، قاله الحسن. والثالث: ابن سلام وأصحابه، قاله مقاتل.
وفيما عنوه بالغيب من إِيمان الذين زعموا أنهم السفهاء ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أرادوا دين الإِسلام، قاله ابن عباس، والسُّدي. والثاني: أنهم أرادوا البعث والجزاء، قاله مجاهد. والثالث: أنهم عنوا مكاشفة الفريقين بالعداوة من غير نظر في عاقبة، وهذا الوجه والذي قبله يخرج على أنهم المنافقون، والأول يخرج على أنهم اليهود. قال ابن قتيبة: السّفهاء: الجهلة، يقال: سفه فلان رأيه، إذا جهله، ومنه قيل للبذاء: سفه، لأنه جهل. قال الزجاج: وأصل السَّفه في اللغة: خفة الحلم، ويقال:
ثوب سفيه: إِذا كان رقيقاً بالياً، وتسفهت الريح الشجر: إذا مالت به. قال الشاعر «1» :
مشين كما اهتزت رماح تسفَّهت ... أعاليَها مرُّ الرياح النواسم «2»
قوله تعالى: وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ. قال مقاتل: لا يعلمون أنهم هم السّفهاء.
 
[سورة البقرة (2) : آية 14]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14)
قوله تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا. اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه، قاله ابن عباس «3» . والثاني: أنها نزلت في المنافقين وغيرهم من أهل الكتاب
__________
(1) هو ذو الرّمّة- غيلان بن عقبة.
(2) النواسم: الرياح الضعيفة الهبوب، قاله يصف النساء، وهن يمشين.
(3) تقدم أنه ورد بسند ساقط.
(1/33)
 
 
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
الذين كانوا يظهرون للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الإيمان ما يلقون رؤساءهم بضدّه، قاله الحسن.
فأما التفسير: ف «إلى» : بمعنى «مع» ، كقوله تعالى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «1» أي: مع الله.
والشياطين: جمع شيطان، قال الخليل: كل متمرّد عند العرب شيطان. وفي هذا الاسم قولان:
أحدهما: أنه من شطن، أي: بعد عن الخير، فعلى هذا تكون النون أصليَّة. قال أميَّة بن أبي الصَّلت في صفة سليمان عليه السلام:
أيما شاطنٍ عصاه عكاه ... ثم يُلقى في السّجن والأغلال
عكاه: أوثقه. وقال النابغة:
نأت بسعاد عنك نوىً شطون ... فبانت والفؤاد بها رهين
والثاني: أنه من شاط يشيط: إِذا التهب واحترق، فتكون النون زائدة. وأنشدوا:
وقد يشيط على أرماحنا البطل «2»
أي: يهلك. وفي المراد: بشياطينهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم رؤوسهم في الكفر، قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، والسّدي. والثاني: إِخوانهم من المشركين، قاله أبو العالية، ومجاهد.
والثالث: كهنتهم، قاله الضَّحاك، والكلبي.
قوله تعالى: إِنَّا مَعَكُمْ. فيه قولان: أحدهما: أنَّهم أرادوا: إنا معكم على دينكم.
والثاني: إِنا معكم على النّصرة والمعاضدة. والهزء: السّخرية.
 
[سورة البقرة (2) : آية 15]
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ. اختلف العلماء في المراد، باستهزاء الله بهم على تسعة أقوال:
أحدها: أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار، فيسرعون إليه فيغلق، ثم يفتح لهم باب آخر، فيسرعون فيغلق، فيضحك منهم المؤمنون. روي عن ابن عباس. والثاني: أنه إذا كان يوم القيامة جمدت النَّار لهم كما تجمد الإِهالة «3» في القدر، فيمشون فتنخسف بهم. روي عن الحسن البصري.
والثالث: أن الاستهزاء بهم: إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، فيبقون في الظلمة، فيقال لهم: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً «4» ، قاله مقاتل. والرابع: أن المراد به: يجازيهم على استهزائهم، فقوبل اللفظ بمثله لفظاً وإن خالفه معنى، فهو كقوله تعالى:
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «5» ، وقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «6» . وقال عمرو بن كلثوم:
__________
(1) الصف: 14.
(2) هو عجز بيت للأعشى وصدره: قد نخضب العير في مكنون فائله.
- وانظر «المعجم المفصل» . والفائل: عرق من الفخذ يكون في خربة الورك ينحدر في الرجلين، ومكنون فائله: دمه الذي كنّ فيه. وأراد: إنا حذّاق بالطعن.
(3) الإهالة: الشحم.
(4) الحديد: 13.
(5) الشورى: 40.
(6) البقرة: 194. [.....]
(1/34)
 
 
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا ... فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا
أراد: فنعاقبه بأغلظ من عقوبته. والخامس: أن الاستهزاء من الله تعالى التّخطئة لهم، والتّجهيل، فمعناه: الله يخطّئ فعلهم، ويجهلهم في الإقامة على كفرهم. والسادس: أن استهزاءه: استدراجه إياهم. والسابع: أنه إيقاع استهزائهم بهم، وردّ خداعهم ومكرهم عليهم. ذكر هذه الأقوال محمّد بن القاسم الأنباري. والثامن: أن الاستهزاء بهم أن يقال لأحدهم في النار وهو في غاية الذل: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) «1» . ذكره شيخنا في كتابه. والتاسع: أنه لما أظهروا من أحكام إسلامهم في الدنيا خلاف ما أبطن لهم في الآخرة، كان كالاستهزاء بهم.
قوله: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. فيه أربعة أقوال: أحدها: يمكِّن لهم، قاله ابن مسعود.
والثاني: يملي لهم، قاله ابن عباس. والثالث: يزيدهم، قاله مجاهد. والرابع: يمهلهم، قاله الزجاج.
والطغيان: الزيادة على القدر، والخروج عن حيز الاعتدال في الكثرة، يقال: طغى البحر: إذا هاجت أمواجه، وطغى السيل: إذا جاء بماء كثير. وفي المراد بطغيانهم قولان: أحدهما: أنه كفرهم، قاله الجمهور. والثاني: أنه عتوهم وتكبرهم، قاله ابن قتيبة.
ويَعْمَهُونَ بمعنى: يتحيرون، يقال: رجل عمه وعامه، أي: متحير. قال الراجز «2» :
ومَخْفَقٍ من لُهلُهٍ ولُهْلُهِ ... من مهمه يجتنبه في مهمه
أعمى الهدى بالجاهلين العُمَّه «3» وقال ابن قتيبة: (يعمهون) يركبون رؤوسهم، فلا يبصرون.
 
[سورة البقرة (2) : آية 16]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى. في نزولها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في جميع الكفار، قاله ابن مسعود، وابن عباس. والثاني: أنها في أهل الكتاب، قاله قتادة والسدي ومقاتل. والثالث: أنها في المنافقين، قاله مجاهد.
واشْتَرَوُا: بمعنى استبدلوا، والعرب تجعل من آثر شيئاً على شيء مشترياً له، وبائعا للآخر.
والضلالة والضلال بمعنى واحد. وفيهما للمفسّرين ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد بها ها هنا الكفر، والمراد بالهدى: الإيمان، روي عن الحسن وقتادة والسدي. والثاني: أنها الشك، والهدى: اليقين.
والثالث: أنها الجهل، والهدى: العلم. وفي كيفية استبدالهم الضلالة بالهدى ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم آمنوا ثم كفروا، قاله مجاهد. والثاني: أن اليهود آمنوا بالنبي قبل مبعثه، فلما بعث كفروا به، قاله مقاتل. والثالث: أن الكفار لما بلغهم ما جاء به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الهدى فردوه واختاروا الضلال، كانوا كمن أبدل شيئا بشيء، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله.
__________
(1) الدخان: 49.
(2) هو رؤبة بن العجّاج.
(3) المخفق: الأرض الواسعة المستوية التي يضطرب فيها السراب. واللهله: الأرض الواسعة أيضا. والمهمه:
المفازة المقفرة.
(1/35)
 
 
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
وقوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ. من مجاز الكلام، لأن التجارة لا تربح، وإنما يربح فيها، ومثله قوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «1» ، يريد: بل مكرهم في الليل والنهار. ومثله: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ «2» ، أي: عزم عليه. وأنشدوا «3» :
حارثُ قد فرَّجْتَ عني همي ... فنام ليلي وتجلى غمّي
والليل لا ينام، بل ينام فيه، وإِنما يستعمل مثل هذا فيما يزول فيه الإِشكال ويعلم مقصود قائله، فأما إذا أضيف إلى ما يصلح أن يوصف به، وأريد به ما سواه، لم يجز، مثل أن يقول: ربح عبدك، وتريد: ربحت في عبدك. وإلى هذا المعنى ذهب الفراء وابن قتيبة والزجاج.
قوله تعالى: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. فيه خمسة أقوال: أحدها: وما كانوا في العلم بالله مهتدين.
والثاني: وما كانوا مهتدين من الضلالة. والثالث: وما كانوا مهتدين إلى تجارة المؤمنين. والرابع: وما كانوا مهتدين في اشتراء الضلالة. والخامس: أنه قد لا يربح التاجر ويكون على هدىً من تجارته غير مستحق للذم فيما اعتمده، فنفى الله عزّ وجلّ عنهم الأمرين مبالغة في ذمّهم.
 
[سورة البقرة (2) : آية 17]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)
قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً. هذه الآية نزلت في المنافقين. والمثل بتحريك الثاء: ما يضرب ويوضع لبيان النظائر في الاحوال.
وفي قوله تعالى: اسْتَوْقَدَ قولان: أحدهما: أن السين زائدة، وأنشدوا «4» :
وداعٍ دعا يا من يجيب إِلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أراد: فلم يجبه، وهذا قول الجمهور، منهم الأخفش وابن قتيبة.
والثاني: أن السين داخلة للطلب، أراد: كمن طلب من غيره نارا.
وفي أَضاءَتْ قولان: أحدهما: أنه من الفعل المتعدي، قال الشاعر:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه «5»
وقال آخر «6» :
أضاءت لنا النار وجهاً أغرَّ ... ملتبساً بالفؤاد التباسا
والثاني: أنه من الفعل اللازم. قال أبو عبيد: يقال: أضاءت النَّار، وأضاءها غيرها. وقال الزجاج: يقال: ضاء القمر، وأضاء.
وفي «ما» قولان: أحدهما: أنها زائدة، تقديره: أضاءت حوله. والثاني: أنها بمعنى الذي.
__________
(1) سبأ: 33.
(2) محمد: 21.
(3) هو لرؤبة بن العجّاج يمدح الحارث بن سليم.
(4) هو لكعب بن سعد الغنوي، يرثي أخاه أبا المغوار. انظر «تفسير القرطبي» 1/ 257 بتخريجي.
(5) في «القاموس» : الجزع: الخرز اليماني، تشبّه به الأعين.
(6) هو النابغة الجعدي.
(1/36)
 
 
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
وحول الشَّيء: ما دار من جوانبه. والهاء: عائدة على الْمستوقد. فان قيل: كيف وحد، فقال:
كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ، ثم جمع فقال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ؟ فالجواب: أن ثعلبا حكى عن الفراء أنه قال: إنما ضرب المثل للفعل، لا لأعيان الرجال، وهو مثل للنفاق، وإنما قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ لأن المعنى ذاهب إلى المنافقين، فجمع لذلك. قال ثعلب: وقال غير الفراء: معنى الذي: الجمع، وحد أولاً للفظه، وجمع بعد لمعناه، كما قال الشاعر «1» :
فإنَّ الذي حانَتْ بِفَلْجٍ دِماؤُهُمْ ... هُمُ القَوْمُ كلُّ القوم يا أم خالد «2»
فجعل «الذي» جمعاً.
فصل: اختلف العلماء في الذي ضرب الله تعالى له هذا المثل من أحوال المنافقين على قولين:
أحدهما: أنه ضرب لكلمة الإسلام التي يلفظون بها، ونورها صيانة النفس وحقن الدماء، فاذا ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ، كما سلب صاحب النَّار ضوءه. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس. والثاني: أنه ضرب لإِقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول، فذهاب نورهم: إِقبالهم على الكافرين والضلال، وهذا قول مجاهد.
وفي المراد ب «الظلمات» ها هنا أربعة أقوال: أحدها: العذاب، قاله ابن عباس. والثاني: ظلمة الكفر، قاله مجاهد. والثالث: ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت، قاله قتادة. والرابع: أنها نفاقهم، قاله السدي.
فصل: وفي ضرب المثل لهم بالنار ثلاث حكم: إحداهنّ: أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره، لا من قبل نفسه، فاذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة، فكأنهم لم