أحكام القرآن لابن نور الدين اليمني

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
[المجلد الأول]
(/)
1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبه نستعينُ، وحَسْبِيَ اللهُ وكفى، ونِعْمَ الوكيلُ (1)
يقول العبدُ الفقيرُ إلى اللهِ الكريمِ محمدُ بنُ علىِّ بنِ عبدِ الله بنِ إبراهيمَ ابنِ الخطيبِ، المعروفِ بابْنِ نورِ الدينِ، اليَمَنِيُّ الشَّعْبِيُّ المَوْزَعيُّ (2):
الحمدُ للهِ الذي خلقَ الإنسان، وعَلَّمَهُ القرآن، وفَهَّمَهَ البَيان، ورَزَقَهُ الفَهْمَ والعِرْفان، أحمدُهُ بجميع محامدِهِ، ما علمْتُ منها وما لم أعلَمْ، وأشكرهُ على ما مَنَحَ وفهَّمَ وعَلَّم (3).
وأشهدُ أن لا إله إلا الله الَّذي لا إِله إلا هُوَ، الفَرْدُ الصَّمَدُ، الواحِدُ الأحدُ، الذي لم يلِدْ ولم يولَدْ، ولم يكنْ له كُفُوًا أَحَد، وأنه اللهُ الَعِليُّ الكَبير، العليمُ الخَبير، الذي ليسَ كَمِثْلهِ شيءٌ، وهو السميعُ العليمُ البَصير.
وأشهدُ أن اللهَ بعثَ عبدَه وصَفِيَّهُ محمدَ بنَ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المُطَّلبِ في العالَمين سِراجًا مُنيرًا، وأرسلَهُ إليهم بَشيرًا ونذيرًا، وأنزلَ عليهِ القُرآن الكريم هدًى للمتَّقين، ورَحْمَةً للعالمين، فلم يزل -صلى الله عليه وآله وسلم- للعالَمين ناصِحًا، ولأَعدائِهِ مُكافِحَاً، حتى أقامَ (4) المِلَّةَ الحَنيفيَّةَ
__________
(1) "وبه نستعين، وحسبي الله وكفى، ونعم الوكيل" ليس في "ب".
(2) في "ب": "قال الفقيه الأجل الأوحد العلامة، جمال الدين محمد بن علي بن عبد الله بن الخطيب، عرف بابن نور الدين الموزعي اليمني الشعبي".
(3) في "ب": "وعلم وفهّم".
(4) في "ب": زيادة "الله".
(1/3)
1
على المَنْهَجِ القَويم، والصِّراطِ المُستقيم، مُبيِّنًا شرائعَ الإسلام، وقواعدَ الأَحكام؛ منَ الواجبِ والحَلالِ والحَرامِ، حَتَّى أَتاهُ اليَقين.
وقد أتمَّ الله بهِ الدينَ المُبينَ، فجزاه اللهُ عَنّا أَفْضَلَ الجزَاءِ، وجَمَعَ شَمْلَنا به في دارِ البقاءِ.
ثمَّ خَلَفَ من بعدِهِ خُلَفاءُ حَقٍّ، وأُمَنَاءُ صِدْقٍ، فنصحوا لأُمَّتهِ (1)، فعلَّموهُمْ من حكمتهِ ما عَلِموهُ، وفَهَّموهم من بيانِهِ ما فَهِموهُ، وأَظْهروا لهمِ ما اجْتَهدوا فيه واستَنْبَطوهُ، فرضيَ اللهُ عنهُمْ وأَرضاهُمْ، وفي أَعْلى الجِنان بَوَأَهُمْ.
ثمَّ لم يَزَلْ بفضلِ اللهِ ورَحْمَتِه في هذه الأمَّةِ في جَميعِ أعصارها، واخْتِلافِ أَطوارِها مَنْ ينقُلُ لِخَلَفِها عن سَلِفها مِنْ وِفاقِها وخِلافِها، ويُظهرُ بالبحثِ أنوارَها، بالاستِنْباطِ أسرارَها، حَتَّى جَعَل (2) اللهُ سبحانَهُ القائِمَ بذلكَ في عصرِهِ نورًا للأَنامِ، وعَلَمًا للأَعْلام، وإِمامًا للأَئِمَّةِ الكرامِ؛ لقيامِهِ بهَذا الدينِ المتينِ، ونصيحته للهِ رَبِّ العالَمين.
ولَمَّا كانَ القيامُ يَفي بهذهِ النَصيحةِ العَظيمةِ، والوَظيفَةِ الكَريمَةِ، بهذا المنصِبِ الأَسْنى، والمَحَل الأَعْلى، إِمّا دِيْنًا لا يَسَعُ تَرْكُهُ، أو فَريضةً لا يدعُها إلا من سَفِه نفسَهُ، استَخَرْتُ اللهَ الكريمَ الحكيمَ (3) العليمَ في تصنيفٍ صغيرٍ حجمُه، خفيفٍ حَمْلُه، كثيرٍ نَفْعُهُ، كبير قَدْرُهُ، يكونُ تَنْبيهًا للطالبينَ، على مَناهِجِ العُلماءِ السَّالفينَ؛ في استخراجِ الأَحْكامِ، ومعرفةِ الحَلالِ والحَرامِ، ليتعلموا صَنيعَهُمْ، ويَقتْفوا أَثَرَهُمْ بسابقِ فَضْلِ اللهِ عليهِمْ، ورحمتِهِ لهُمْ.
__________
(1) في "ب": "لأهل ملته".
(2) في "ب": "وجعل".
(3) في "ب": "الحليم".
(1/4)
1
ولَعَمْري إِنَّها طريقةٌ دَرَسَتْ آثارُها، وأَفَلَتْ أنوارُها، وعُطِّلَتْ أعلامُهَا، وعَدِمَتْ قُوّامُها.
ولقد طَلَبْتُها زمنًا طويلًا، فلم أجدْ لها دَليلًا، ولا بها كفيلًا، إلا كما قالَ الأوّل (1): [البحر البسيط]
فَمَا وَجَدْتُ بِهَا شَيئًا أَلُوذُ بِهِ ... إلاّ الثُّمَامَ وَإلّا مَوقِدَ النَّارِ
فحينئذٍ جعلتُ أدعو اللهَ الكريمَ، البَرَّ الرَّحيم، في الاهتداءِ لسبيلِهِمْ، والاقْتِفاءِ لِطريقِهمْ، والاغْتِرافِ منْ بَحْرِهمْ، والاعْتِلالِ منْ نَهرِهِمْ، وابْتَهَلْتُ إليه -سُبْحانه- في مَظانِّ الإِجابَةِ للدَّعَواتِ، وإنْزالِ الرَّغَباتِ، فَرَحِمَني اللهُ الكريمُ بفضلِهِ، فَبيَّنَها لي بعدَ درُوسها، وأَوْضَحَها بعدَ طُموسها، فللَّهِ الحَمْدُ ربِّ العالمين، وأرجو مِنْ فضلِ (2) اللهِ الكريمِ ورحمتِهِ أن يُظْهِرَ في الآفاقِ هذهِ الطريقةَ، ويقطعَ منها الاْنْقِطاعَ والتَّعويقَ، وتُدْرَكَ بعدَ فَوتها، وتُحيا بعدَ موتها، أليسَ اللهُ بقادرٍ على أَنْ يُحْيِيَ المَوْتى؟!
ولا يُنْكِرُ شَرَفَ ما وضعتُهُ في كتابي هذا، في زَمني هذا، في بلدي هذا، إلا جَاِهلٌ عَانِدٌ، أو مُتَجامِلٌ (3) حاسِدٌ، فنعوذُ بالله من شَرِّ حاسدٍ إذا حَسَدَ.
وإنِّي في خيرِ حالاتي؛ بل في جَميعِ أوقاتي قَدِ امتلأَ القلبُ والقالَبُ شُغْلًا وهَمًّا، ودَينًا (4) وغُرْمًا، وظُلْمًا وهَضْمًا: [البحر الطويل]
خَليِليَّ رِفْقًا رَيْثَ أَقْضي لُبانةً ... من العَرَصاتِ المُذْكِراتِ عُهودا (5)
__________
(1) هو النابغة الذبياني، انظر: "ديوانه" (ق 65/ 5)، (ص: 234).
(2) "فضل "ليست في "ب".
(3) في "ب": "متجاهل".
(4) في "ب": "وذنبًا".
(5) لُبانة: هي الحاجةُ من غير فاقةٍ، ولكن من هِمة، يقال: قضى فلانٌ لُبانته،=
(1/5)
1
أما واللهِ الأَعَزِّ الأَكْرَمِ، اللَّطيفِ الأَرْحَمِ، لولا أَلْطافُهُ الخفِيَّةُ، ومراميه الحَفِيَّة، التي أخرها وسَهَّلَ مَجْراها على يدِ عبدِهِ الذي مَلَّكَهُ في أَرْضِهِ، واستَوْدَعَهُ دينَهُ، واستأْمَنَهُ على خَلْقِهِ، أَلَا وهوَ الإمامُ الأَعْلَمُ، القاِئمُ الأَقْوَمُ، المُسْتَمْسِكُ بحبلِ اللهِ الأَعْصمِ، ذو المَجْدِ الأَشْرَفِ، والمُلْكِ الأَصيلِ الأَعْرفِ: أبَو العَبَّاسِ، ذو النَّجْدَة والبأسِ، صلاحُ الدُّنيا والدِّين، المَلِكُ النّاصِرُ أَحْمَدُ بْنُ المَلِكِ الأَشْرَفِ إِسماعيلَ بْنِ المَلِكِ الأَفْضَلِ هو العَبَّاسُ بنُ المَلِكِ المُجاهِد عَليِّ بْنِ المَلِكِ المُؤَيَّدِ داودَ بْنِ المَلِكِ المُظَفَّرِ يوسُفَ بْنِ المَلِكِ المَنْصورِ عُمَرَ، بَرَّد اللهُ مَضَاجِعَهُم، وآنسَ برحمتِهِ مَهاجِعَهُمْ، ألا وهوَ مَلِكُ اليَمَنِ، رَفيعُ الفَنَنِ، رحَيبُ العَطَنِ (1)، عَيْنُ مُلوكِ الزَّمَن، ضاعفَ اللهُ الكريمُ صَلاحَهُ وفلاحَه، وأصلحَ اللهُ لنا بدولتِه الظاهِرَةِ، وصولَتِهِ القاهِرَةِ دِينَنَا ودُنْيانا، وأتمَّ بهِ نِظامَ أُولانا وأُخرانا.
ولَمّا أوجبَ اللهُ -سُبْحانه- على الكافَّةِ مِنْ خلقِهِ أَداءَ شُكرِهِ، والقِيامَ بواجبِ حَقِّهِ، رأيْتُ إتحافَ هذا المَلِكِ الجَليلِ السَّيَدِ الأصيلِ بهذهِ التُّحْفَةِ السَّنِيَّةِ، والزُّلْفَةِ الهَنِيَّةِ (2)، فَعَلْتُ ذلكَ لِذلِك، ورَغْبَةً فيما هنُالِك، وتَحَبُّبًا
__________
= والجمعُ لبانٌ؛ كحاجةٍ وحاج. "لسان العرب" (مادة: لبن) (13/ 377).
قلتُ: قال امرؤ القيس:
خليلىَّ مُرَّا بي على أمِّ جُندبِ ... لنقضي لُبانات الفؤاد المعذّبِ
فجمع لبانة على لبانات.
والعرصات: جمع عَرْصَة: وهي كل بقعة بين الدور واسعة، ليس فيها بناء، وتُجمع أيضًا على عِراص وأعراص. "القاموس" (مادة: عرص)، (ص: 559). وانظر "مغني اللبيب" لابن هشام (ص: 551).
(1) رحيب العَطَن: كثير المال، واسع الرحل، رحب الذراع. "القاموس" (مادة: عطن) (ص: 1096).
(2) الزلفة: وهي القُربةُ، والدرجة والمنزلة، ومثلها الزُّلفى. قال تعالى: {وَمَا=
(1/6)
1
إلى قلبِه، وتأديةً لِحَقِّ ربِّنا وحَقِّه (1).
وأسألُكَ -اللَّهُمَّ- تيسيرَ ذلكَ وتسهيلَهُ، وتحقيقَهُ وتكميلَهُ، وأَرْغَبُ إليكَ في إخلاصِ العملِ لكَ، وصِدْقِ الإيمانِ بكَ، وما توفيقي إلا باللهِ، عليهِ تَوَكَّلْتُ، وإليهِ أُنيبُ.
وها أنا مُقدِّمٌ، في أوَّلِ كتابي هذا الذي قصدتُ به بيانَ أحكامِ القرآنِ، وسمَّيْتُهُ:
"تَيْسِيْرُ البيانِ (2) لِأحْكَامِ القُرْآنِ"
ما رويته في "صحيح مسلم" عن تَميمٍ الدَّارِيِّ -رضي اللهُ عنهُ-: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدينُ النصيحةُ؛ للهِ، ولرسولهِ، ولكتابِهِ، ولأئمةِ المسلمينَ، وعامَّتِهمْ" (3).
فإذا كانَ ذلكَ كذلكَ (4)، فاعلَمُوا أنَّ النصيحةَ للهِ -جَلَّ جَلالُهُ- هيَ توحيدُه وتنزيهُه، وتعظيمُه وشكرُه، والقيامُ بعبوديتِه في مُلْكِهِ ومَلَكوتِهِ، واجتنابُ نَهْيِهِ، وامْتثالُ أَمْرهِ، وقَبولُ إرشادِهِ وتأديبِهِ، ولكنْ لا يقومُ العَبْدُ بطاعتِه إلاّ بعدَ الاهْتِداءِ بكتابهِ العَزيز.
قال اللهُ -جَلَّ جَلالُهُ-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
__________
= وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى}. انظر: "اللسان" (مادة: زلف) (9/ 138).
(1) من قوله: "أما والله الأعز الأكرم ... " إلى هنا ليس في "ب".
(2) في "أ": "تيسير إحكام البيان لأحكام القرآن"، وما جاء في "ب" هو الأحسن والأظهر في اسم الكتاب.
(3) رواه مسلم (55)، كتاب: الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة.
(4) "كذلك" ليست في "ب".
(1/7)
1
وقال تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
وقال تبارَكَ وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 174 - 175].
واعلموا أنَّهُ لا اهْتِداءَ بِكتابِ الله -تبارَكَ وتعَالى- إلَّا بعدَ عِلْمِهِ، وعِلْمِ سُنَّةِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّمَ-. قال تباركَ وتعَالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 52 - 53].
واعلَموا أنهُ لا معرفةَ لكتاب اللهِ تَعالى، ولا لِسُنَّةِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّم- إلَّا بعدَ معرفةِ اللِّسانِ العربِيَّةِ، والسَّجيَّةِ القُرَشِيَّةِ، ألاَ وهِيَ لُغَةُ رسَولِ اللهِ، صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ.
* * *
 
فصل
واعلموا -أَرْشَدَكُمُ اللهُ الكريمُ-: أَنَّ الله -جَلَّ جلالُهُ، وتَقَدَّسَتْ أسماؤهُ- اصْطَفى عبدَهُ ورسولَهُ مُحَمداً -صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ- مِنْ أَزْكى العَرَبِ أَصْلاً، وأَعْظَمِهِمْ فَضلاً، وأَشْرَفِهِمْ قَدْراً، وأَفْضَلِهِمْ داراً، ولم تَزَلِ العربُ في سالِفِ الأَزْمانِ تَعْرِفُ ذلكَ لِقُرَيْشٍ، وتُعَظِّمها وتَعُزِّزُها وتُوَقِّرُها، وتَتَحاكمُ إِليها في أمُورها، وتتعلمُ منها مناسِكَها وآدابَها، وتُسَمِّيها آلَ اللهِ.
(1/8)
1
روينا في الصَّحيحَينِ عن أَبي هريرةَ -رضيَ اللهُ عنهُ-: أَنَّ النبيَّ -صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّم- قال: "النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ في هذا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ، وكِافرُهُمْ تَبَعٌ لِكافِرِهْم" (1).
وروينا في صحيحِ مسلمٍ عن واثِلَةَ بنِ الأَسْقَعِ -رضيَ اللهُ عنهُ- قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ اللهَ اصْطَفى كَنِانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسماعيلَ، واصْطَفى قُرَيْشاً مِنْ كِنانَةَ، واصْطَفى مِنْ قريشٍ بني هاشِمٍ، واصْطفاني منْ بني هاشِمٍ" (2).
وأَجْمَعَ أهلُ العلمِ بكلامِ العربِ ولغاتِها، وخُطَبها وأشعارِها وأَيّامِها وأَحْوالِها (3) أَنَّ قريشاً أَفْصَحُ العربِ لِساناً، وأحسنُهم بَياناً، وأصفاهُم لغةً، وألطفهم بِنَاءً، وما ذاك إلا لِمَكانَتِهم (4) من نبيِّ اللهِ وصَفِيِّهِ مُحَمَّدٍ -صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ- فجعلَهُمْ حَضَنَةَ بيتِهِ، وسُكَّانَ حَرَمِه، حَتَّى وردَتْ عليِهم وفُودُ العَرَبِ وفُصحاؤها، وتَخَيَّروا (5) من كلامِها وبيانِها أحسنَ لُغاتِها، وأَصْفى كَلامِها، مع ما طُبعوا عليهِ منْ لسانِهِمُ الفصيحَةِ، وسَجِيَّتِهم البَليغةِ.
__________
(1) رواه البخاري (3305) كتاب: المناقب، باب: قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ...} وما ينهى عن دعوى الجاهلية، ومسلم (1818) كتاب: الإمارة، باب: الناس تبع لقريش، والخلافة في قريش.
(2) رواه مسلم (2276) كتاب: الفضائل، باب: فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة.
(3) "وأحوالها" ليس في "ب".
(4) في "ب": "لمكانهم".
(5) في "ب": " فتخيروا".
(1/9)
1
ثم (1) إِنَّ اللهَ أَنشْأَ مُحَمَّداً -صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّمَ- ورَبَّاه في القَومِ الفُصَحاءِ، والعَرَبِ البلُغاءِ: بَني سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ.
قال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ-: "أنا أَفْصَحُ العَرَب، بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ، وإِنِّي نَشأْتُ في بنَي سَعْدِ بْنِ بكْرٍ" (2).
وهؤُلاءِ منَ الذينَ قالَ فيهم أبو عَمْرِو بْنُ العَلاء: أَفْصَحُ العَرَبِ: عُليا هَوازِنَ، وسُفلى تَميمٍ (3).
ثم أنزلَ اللهُ -جَل جَلالُهُ- عليهِ القُرآنَ المَجيدَ باللَّسانِ العربيِّ المُبينِ.
قال اللهُ تباركَ وتعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195].
وأنزلَهُ على سبعة أحرُفِ من قبائلِ العرب المَجْبولين على الفَصاحَة واللَّسَنِ والكَيْس (4) والبَلاغَةِ؛ لُطْفاً منُه بهِم؛ لِكَيْ يَفهموهُ، ورِفْقاً بهم ليَتْلوهُ
__________
(1) "ثم" ليست في "أ".
(2) قال ابن الملقن في "البدر المنير" (8/ 281): هذا الحديث ذكره الفقيه نجم الدين بن الرفعة في "مطلبه"، ولم يعزه إلا إلى الفقهاء، ثم قال ابن الملقن: الذي ألفيته في كتب الحديث بعد الفحص البليغ والتتبع الشديد ما رواه الطبراني في أكبر "معاجمه"، من حديث بقية، عن مبشر بن عبيد، عن الحجاج بن أرطأة، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، أنا أعرب العرب، ولدتني قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر، فأنَّى يأتيني اللحن". وهذا سند ظاهر الضعف، انتهى.
وانظر "التلخيص الحبير" لابن حجر (4/ 6).
(3) "عُليا هوازن": هم سعد بن بكر، وجثم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف.
و"سُفلى تميم": يعني بني دارم. انظر: "فتح الباري" (9/ 27).
(4) "والكيس" ليس في "ب".
(1/10)
1
ويَقْرؤوهُ، وحُجَّةً عليهِمْ لِئَلاً يَجْحَدوهُ، فبيّنَ لَهُمْ -جَلَّ جَلالهُ- ما فيهِ صَلاحُهُمْ ورُشْدُهم، وفلاحُهم في دِينِهم ودُنْياهُم؛ مِنْ صَلاتِهِمْ وزَكاتِهِم وحَجِّهِم وصِيامِهم، ومُناكَحَتهِم ومعُاملاَتهم، وأَكْلِهم وعاداتهم، ومكارِم أخلاقِهم التي شَرُفوا بها على أمثالهم، وبيّن الله -سبحانه وتعالى- فيهِ منَ المباحِثِ القُدْسِيّاتِ، والبَراهينِ القَطْعِيّاتِ، والأَحْكامِ الَبيِّناتِ، والسِّياساتِ القَيِّمات، وتَهْذيبِ النفسِ من النقائِصِ المُسْتَقْذَراتِ، وتَزْكِيتها بالأخلاقِ الزَّكِيّاتِ، وغيرِ ذلك منَ العلومِ الغَزيراتِ، فعملوا منهُ بما عَلِموا (1)، وتَفَهَّموا من رسولِ اللهِ (2) -صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّم- ما لم يفهموا، إذْ جعلَ اللهُ -سُبْحانهُ- إليه بيان القرآنِ العَظيم، فَمَنْ قبِلَ عنهُ -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّمَ- فَعَنِ اللهِ قَبِل.
قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
* * *
 
فصل
واعلموا أنَّ اللهَ تَعالى أوجبَ على نبيِّه -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّم- بيانَ ما أَنْزَلَ عليهِ، وجَعلَ بيانَ ذلكَ إليهِ، وخَصَّه بهذا المَنْصِبِ الشَّريفِ الأَعْلى، زادَهُ الله الكريمُ شَرَفاً وفَضْلاً، وقالَ -جَلَّ وعلا- {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
ثمَّ اعلَموا أَنَّ بيانَه لأمتهِ مِنْ ثلاثةِ أَوْجُهٍ، فَوَجْهانِ مُتَّفَقٌ عليهما عندَ أهلِ العِلم، وفي الثِالثِ اختلافٌ عندَهُمْ:
__________
(1) في "ب": "فعلموا منه ما علموا".
(2) في "ب": "وتفهموا منه".
(1/11)
1
الوجه الأول: ما نصَّ اللهُ -جَلَّ جَلالهُ- عليه، وأَحْكَمَ فَرْضَهُ، وَبَيَّنهُ بأوضَحِ بَيانٍ، ثُمَّ بَيَّنه النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّم- إِمَّا بقَوْلٍ، أَو فِعْلٍ، كَما بَيَّنه اللهُ -جَلَّ جَلالهُ-.
الوجه الثاني: ما نصَّ اللهُ تَعالى عليهِ جُمْلَةً، وأَحْكَمَ فَرْضَهُ، وجعلَ إلى نبيِّه -صَلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّم- بيانَ تِلْكَ الجُمْلَةِ، فبيَّنَ مَواقيتَها وأَحْوالَها، وفَرائِضَها، وآدابَها، ومقدَّماتِها، ولَواحِقَها، وبيَّنَ على مَنْ تَجبُ، وعَمَّن تَسْقُطُ، وكيفَ يأتي بها العبدُ، وغيرَ ذلكَ مِنَ الأحوال.
الوجه الثالث: ما سَنَّ رسولُ اللهِ مِمَّا لمْ يردْ فيه كتابٌ، وهذا هو المختلَفُ فيه، فمنهُمْ من قال: جعلَ اللهُ لهُ ذلك؛ لِما خَصَّه منْ وجُوبِ طاعَتِه، وتوفيقِه لِما يرضاه، وعصمَتِه لهُ عن الخَطَأ أَنْ يَسُنَّ فيما لمْ يردْ فيه كتابٌ، وإليهِ ميلُ الإمامِ أبي عبدِ الله الشافعي -رضيَ اللهُ عنه (1) -، ومنهمْ من قالَ: لم يَسُنَّ سُنَّةً قَطُّ (2) إلا ولَها أصلٌ في كتاب الله تعالى.
* * *
 
فصل
وَلمّا كانَ خِطابُ اللهِ -تبارك وتعالى- وبيانُ رسولِه -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّمَ- معَ العربِ بلسانِهمْ وسُنَّتِهم في كَلامِهِمْ، فلا سبيلَ إلى معرفةِ خِطابِ اللهِ -جَلَّ جلالهُ- وبيانِ رسولهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّم- إلا بعدَ معرفةِ لُغَتِهم، وصنوفِ معَانيهم، وأسرارِ مبَانيهم.
فواجبٌ عليكَ أَيُّها الأَخُ تَعَلُّمُ لُغَةِ العَربِ؛ لتعلمَ بها خطابَ الله -جَلّ جَلالُه- وبيانَ رَسولهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ-.
__________
(1) انظر: "الرسالة" للإمام الشافعي (ص: 91 - 92).
(2) "قط" ليس في "ب".
(1/12)
1
قال أبو عبدِ اللهِ الشافِعُّي -رضي اللهُ عنهُ-: ولا يَعلمُ مِنْ إيضاحِ جُمَلِ عِلْمِ الكتابِ أحدٌ جهلَ سَعَةَ لسانِ العربِ وكثرةَ وجُوهِه، وجِماعَ مَعانيهِ، ومَنْ علمَ ذلكَ انتفتْ عنه الشُّبَهُ التي دخلتْ على من جَهِل لسانَها (1).
ثم اعلَموا أن أهلَ العلمِ قد قَسَّموا لغةَ العربِ إلى أربعةِ أقسامٍ، وأفردوا كلَّ قسمٍ منها بتصنيفٍ:
فالقسمُ (2) الأولُ: علمُ الغَريبِ؛ كالعلمِ بالأسماءِ؛ كأسماءِ الأسَدِ والذِّئبِ والإِبِلِ والخَيْل، وأسماءِ السِّلاحِ والفَيافي والقِفارِ (3)، وغيرِ ذلكَ، وكالعِلْمِ بالأفعالِ وتصاريفِها، ويكفي أَهْلَ النَّظَرِ والفُتْيا (4) منهُ طَرَفٌ يعرفونَ بهِ الألفاظَ الدائرة في الكتاب والسُّنَّةِ، ولا يضرُّهُمْ جَهْلُ ما وراءَ ذلكَ من حُوشِيِّ اللُّغَةِ وغَريبها؛ لسهولةِ ألفاظِ القرآنِ والسُّنَّةِ، وسَماحتِها، وخُلُوِّها عنِ الألفاظ الحُوشِيَّةِ غالِباً.
وقد أفردَ أهلُ العلمِ غريبَ القرآنِ والسُّنَّةِ بالتَّصانيفِ الكافيةِ المفيدةِ (5).
والقسمُ الثاني: علمُ النَّحْوِ، وهو: معرفةُ قوانينَ كُلِّيَّةٍ نتوصَّلُ بها إلى
__________
(1) انظر: "الرسالة" للإمام الشافعي (ص: 50).
(2) في "ب": "القسم".
(3) الفيافي: مفردها الفيف، والفيفاةُ، وهي المفازة التي لا ماء فيها، قال الليث: الفيفُ: المفازة التي لا ماء فيها مع الاستواء والسعة، وإذا أُنِّثت فهي الفيفاة.
"اللسان" (مادة: فيف) (9/ 274).
والقفار: جمعٌ مفردُه قَفْر وقَفْرةٌ، وهي الخلاء من الأرض، يقال: أرض قفرٌ، ومفازةٌ قَفْر وقفرةٌ، وقيل: القفر: مفازة لا نبات بها ولا ماء. "اللسان" (مادة: قفر)، (5/ 110).
(4) في "ب": "الفتيا والنظر".
(5) من أبدعها: "مفردات القرآن" للراغب الأصفهاني، و "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير.
(1/13)
1
معاني الكلامِ، [ومعرفة الصوابِ من وُجوه الخِطابِ.
وذلكَ كتقسيم الكلامِ] (1) إلى: اسمٍ وفِعْلٍ وحَرْفٍ جاءَ لِمَعْنًى.
وتقسيمِ الاسمِ إلى: مُعْرَبٍ وَمبْنِيٍّ، ومَقْصورٍ ومَنْقوصٍ، وغيرِ ذلكَ من الأنواعِ.
وتقسيم الفعلِ إلى: ماضٍ ومستقبلٍ وأمرٍ، ومُتَعَدٍّ وغَيْرِ مُتَعَدٍّ، وغَيْرِ ذلك من الأَقسام.
وتقسيمِ الحُروفِ إلى عَوامِلَ وغيرِ عَواملَ، وإلى رافعةٍ وجارَّةٍ وناصِبَةٍ، وبهذا العلمِ أيضاً تتميز بعضُ المعاني من بَعْضٍ.
وقَدْ نصبَ اللهُ الكريمُ أقواماً دَوَّنوا هذا الفنَّ، وحفِظوا بهِ كتابَ اللهِ -تبارك وتعالى- منَ التَّحْريفِ والتَّخْليطِ، وإمامُهم أَبو الحَسَنِ عليُّ بنُ أبي طالِبٍ -رضيَ اللهُ عنه (2) -.
ويَكفي أهْلَ النظرِ (3) والفُتْيا منهُ طَرَفٌ يعرفونَ بهِ وجُوهَ الإعرابِ الدائِرَةَ في الخِطابِ، ويعرفونَ منهُ المعانيَ المتعلقَةَ بالحروفِ، وما أشبَهَها منَ الأسماءِ والظُّروفِ.
وقدْ وضعْتُ في مَعاني الحُروفِ "جُزْءاً" (4) في نحوِ مِئَةِ وَرَقَةٍ بما فيه مَقْنَعٌ -إنْ شاءَ اللهُ تعالى- ولا يضرُّ المُفْتِيَ جَهْلُ ما وراءَ ذلكَ، وإن كانَ علمُه فضيلَةً، لا يَجْهَلُها إلَّا من ضَلَّ رأيُه، وذهبَ نورُه.
__________
(1) ما بين معكوفتين ليس في "ب".
(2) في "ب" زيادة: "وعنهم أجمعين".
(3) "النظر" ليس في "ب".
(4) هو كتابه المسمى: "مصابيح المغاني في معاني حروف المعاني". وقد أسلفنا الكلام عنه في مقدمة هذا الكتاب.
(1/14)
1
والقسمُ الثالثُ: العلمُ بما يتعلقُ بتركيب الكلامِ وتأليفِه، وتَحْسينِه وتَرْصيفِه، على مُقْتَضى الخَصائِصِ ومَقاماتِ الأحوالِ؛ إذْ مقاماتُ الكلامِ متفاوِتَةٌ.
فَمَقامُ التَّنْكيرِ يُباينُ مقامَ التَّعريفِ، ومقامُ الإِطلاقِ يُباينُ مَقَامَ التَّقييدِ، ومقامُ الذِّكْرِ يُباينُ مَقامَ الحَذْفِ، ومقامُ الإيجازِ يُباينُ مقامَ الإِطْنابِ.
وهذا يُسَمَّى: عِلْمَ المعَاني والبَيان.
وهذا لا يَحتاجُ إليهِ أهلُ النظرِ والفُتْيا، وإنَّما يَحْتاجُ إليهِ الذي يطلبُ الكَشْفَ عن وجهِ إِعْجازِ القرآنِ، وضَروَرةُ الأدباِء والشعراءِ إليهِ شديدةٌ، بلْ هوَ عُدَّتُهم العَتيدَةُ.
والقسم الرابع: وإليهِ ضَرورةُ أهلِ النَّظَرِ والفُتْيا والمُفَسِّرينَ وسائرِ العُلماءِ، وهو معرفة رُسُومِ العرَبِ في خِطابِها، وسُنَنِها في كلامِها، واتِّساعِ معانيها، وأسرارِ مَبانيها، ودَقيقِ إشارتها، ولطيفِ عِبارتِها.
فمنْ سُنَّةِ العَرَبِ فِي كلامِها أنها تُسَمِّي الشيءَ الواحدَ بالأسماءِ الكثيرةِ، وتسمي بِالاسمِ الواحدِ المَعانِيَ الكَثيرةَ، وتأتي بالكلام بَيِّناً، وتأتي بهِ مُشْكِلاً، وتخاطبُ باللَّفْظِ العامِّ (1) وتريدُ بِه العامَّ، وتخاطبُ بالعامِّ وتريدُ بهِ الخاصَّ، وتخاطبُ بالخاصِّ وتريدُ به الخاصَّ، وتخاطبُ بالخاصِّ وتريدُ بهِ العامَّ، وتُطْلِقُ الكلامَ وتقُيِّدُهُ، وتذكرُ الاسمَ مَقْروناً ببعضِ صِفاته، وتريدُ نَفْيَ ما عداهُ، وقدْ لا تريدُ، بلْ هو وغيرُه سَواءٌ، وتأتي بالكلامِ على حقيقتِه، وعلى غيرِ حقيقتِه، فتزيدُ وتَنْقُص، وتُظْهِرُ وتُضْمِرُ، وتقدِّمُ ما يَنبغي تأخيرُه، وتؤخِّرُ ما يَنبغي تقديمُه، وتستعملُ في كلامِهَا الاستعارةَ والتشبيهَ، والمُحاذاة والمُقابَلَةَ كَثيراً، وتأتي بالأمرِ على وَجْهِهِ، وتَأتي بهِ
__________
(1) في "ب": "وتخاطب الخاص باللفظ العام".
(1/15)
1
على غيرِ حقيقَتِهِ، وكذلكَ تفعلُ في النَّهْيِ والخَبَرِ أيضاً، وتأتي بالكلامِ يُعْرَفُ من سِياقِهِ أنهُ أُريدَ بهِ غيرُ ظاهرِهِ، وقَدْ يُعرفُ ذلك في أولِ كلامِها وآخِره ووسطِه، وتبَتدِئُ بالكلامِ ويُنْبِئُ (1) أولُ لفظِها فيه عن آخره، وتَبْتدئُ بالكَلام وينبئُ (2) آخرُ لفظِها عن أوَّلِهِ، وهو أكثرُ منْ ضِدِّهِ، وقد يكونُ البيانُ مُتَّصِلاً بالكلامِ الأَوَّلِ، وقد يكونُ مُنْفَصِلاً، وتتكلمُ بالشيءِ تعرفهُ بالإيماءِ دونَ الإيضاحِ باللَّفظِ.
قال الشافعيُّ: ويكون ذلكَ عندَها من أعلى كلامِها؛ لانفرادِ أهلِ عِلْمِها به (3).
وجميعُ هذهِ الأقسامَ بَيّنةٌ متقاربةُ الاستواءِ عندَ العربِ، وإن كانَ بعضُها أَشَدَّ بياناً من بَعْضِ، مُتفاوِتَةٌ عندَ مَنْ يَجْهَلُ لِسانَها؛ لأنَ أقلَّ البيانِ عندَ العربِ كافٍ، إنَّما يريدُ بهِ السامعُ فَهْمَ قولِ القَائلِ، فأقلُّ ما يُفْهِمُ بهِ كافٍ عندَهُ.
وهذا هو الذي اعتمدَهُ أهلُ النَّظَرِ والفُتْيا في اسْتِنباطِ الأحْكام، ومَعْرِفَةِ الحَلالِ والحَرام، فَسمَّوْهُ (4): أصولَ اللُّغَةِ.
وأولُ منْ أبرزَ ذلكَ وأظهرَهُ الإمامُ أبو عبدِ الله محمدُ بنُ إدريسَ الشافِعِيُّ -رضيَ اللهُ عنُه- لا منازَعَةَ في ذلكَ؛ ولا مِرْيَة؛ ولأجل مَعْرِفتهِ بلسان العربِ واتِّساعِ معانيها صارَ إِماماً للأئمةِ الهادين والعلماءِ المجتهدين -رضي اللهُ تعالى عنهمْ أجمعين-.
وقد سَمَّى بعضُ عُلماءِ اللسانِ -وهو الإمامُ أبو الحسين أحمدُ بنُ فارسٍ-
__________
(1) في "ب": "ويبين".
(2) في "ب": "ويبين".
(3) انظر: "الرسالة" للإمام الشافعي (ص: 52).
(4) في"ب": "وسموه".
(1/16)
1
- هذا النوعَ من اللغةِ: أصولَ اللُّغَةِ، وسَمَّى غيرَهُ: فَروعَ اللغةِ.
ولما كانَ لاَ تَتِمُّ معرفةُ خِطابِ اللهِ -جَلَّ جلاَلهُ- إلا ببَيانِ رَسولِ الله -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسَلَّم- كَمَا قَدَّمْتُ، وكان فِي السُّنَّةِ علَلٌ لا تَتَعَلَّقُ باللُّغَةِ= وضعَ أهلُ العلمِ للمعارَضَةِ الصحيحة (1) عِلمَ النَّسْخِ، وَبيَّنوا عِلَل السُّنَّةِ، وقَسَّموها أَقْساماً وأنواعاً.
ولما كانتِ الألفاظُ لا تَفي بالحوادِثِ، نَصبَ الشارعُ علاماتٍ وأَماراتٍ يَهتدي بها أهلُ العِلم إلى اسْتِنْباطِ الأَحكامِ، فوضعوا لذلك عِلْمَ الِقياسِ، وبينوا قَوِيَّهُ وضَعيِفَهُ، وصَحيحَهُ وفاسِدَهُ، ورِاجحَهُ وأَرْجَحَهُ، وصَحيحَهُ وأَصَحَّهُ، وسَمَّوا جميعَ هذهِ الجُملِ المذكورةِ: أَصولَ الفِقْهِ.
وحقيقته حينَئِذٍ أنه: قوانينُ كلِّيَّة يُتَوَصَّلُ بها إلى استخراجِ الأحكامِ الشرعيةِ.
* وسأُبيِّنُ ما أَشَرْتُ إليهِ من صنوفِ هذهِ اللُّغَةِ الشريفة بمقدمةٍ ينتفعُ بها طالبُ هذا النحوِ، ويستدلُّ بها على ما وراءها من معاني اللغةِ، فوراءَ ذلكَ ما لا يُحْصَى.
قالَ الشافعيُّ: ولا نعلمُ أحداً يُحيطُ بجميعِ علم (2) لسانِ العربِ غيرَ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم- ولكنَّه لا يذهبُ منه شيءٌ على عامتها، حَتَّى لا يكونَ فيها موجودٌ من لا يعرفها، كما نَقولُ في عِلْمِ السُّنَّةِ (3).
* * *
__________
(1) في "ب": "الصريحة".
(2) "علم" ليست في "أ".
(3) انظر: "الرسالة" للإمام الشافعي (ص: 42).
(1/17)
1
مقدِّمة جَامِعَة في أصول الفقه والتَّفسِيْر
(1/19)
1
القولُ في الأسماءِ المُفْرَدَةِ
* اعلموا -رحمكمُ الله تعالى- أنَّ من سُنَّةِ العَرَبِ أن تُسَمِّيَ الأشياءَ المختلفةَ بالأسماءِ المُخْتَلفَةِ؛ كالرَّجُل، والفَرَس، والحِمار، والبُرِّ، والشّعيرِ؛ لاختلافِ مُسَمَّياتها.
ويُسمِّي الأُصوليّونَ هذا النوعَ: الأسماءَ المُتبايِنَةَ (1).
وتُسَمَّى الأشياءُ الكثيرةُ بالاسم الواحِد:
 
1 - فقْد تكونُ تلكَ الأشياءُ متفقَةً من جميعِ الوُجوه؛ كالإِنسان، والمُشْرك (2)، واللونِ، والثَّمَر (3)، وغيرِ ذلكَ من أَسْماءِ الأجناسِ، ويسمُّونها: الأسماءَ المتُواطِئَةَ؛ لِتَواطُئِها على معانيها (4).
وحكمُ هذا النوعِ إذا وَرَدَ في كتابِ اللهِ -تباركَ وتَعالى- أو سُنَّةِ نبيّه -صَلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّم- أن يُحْمَل على ما يقْتضيهِ اللَّفْظُ.
__________
(1) انظر: "المستصفى" للغزالي (1/ 76)، و"شرح تنقيح الفصول" للقرافي (ص: 32)، و"غاية الوصول" للشيخ زكريا الأنصاري (ص: 42).
(2) في "ب": "المشترك".
(3) في "ب": "الثمن".
(4) التواطؤ: هي نسبة وجود معنى كلي في أفراد؛ بحيث يكون وجوده في الأفراد متوافقاً غير متفاوت؛ كإطلاق اسم "اللون" على السواد والبياض والحُمرة، فإنها متفقة في المعنى الذي به سُمِّي اللون لوناً.
(1/21)
1
فإنْ كانَ اللَّفْظُ يقتضي العُمومَ، حُمِلَ عليهِ؛ كقولِك: اقْتُلِ المُشْرِكَ، فيُحمل على كلِّ مشركٍ، يَهوديًّا كانَ أو نَصْرانياً أو وَثَنِيًّا.
وإن كانَ اللفظُ يَقتضي التَّخصيصَ، حُمِل عليهِ؛ كقولك: اقْتُلِ المُشْرِكَ النَّصْرانِيَّ، أو: اقتلْ مُشْرِكاً نَصْرانِيًّا (1).
 
2 - وقدْ تكونُ تلكَ الأشياءُ مختلفةَ المعاني: كالبيْضَةِ، فإنَّها تقعُ على بَيْضَةِ الدَّجاجِ والنَّعامِ، وبيضَةِ الحَديد.
وكالعَيْنِ؛ فإنَّها تقعُ على العَيْن الناظِرَةِ، وعلى عَيْنِ الذَّهَبِ، وعَيْنِ الماءِ، وعَيْنِ المِيزانِ.
وكالجَوْن (2)، فإنَّهُ يُطلَقُ (3) على الأبيضِ والأسودِ، ويُسَمَّى هذا النوعُ: الأسماءَ المُشْتَرَكَةَ (4).
وأنكرَ قومٌ (5) لا يُعْتَدُّ بهم هذا النوعَ منَ الأسماءِ، وقالوا: لا تأتي (6) العَرَبُ باسمٍ واحدٍ للشيءِ وضِدِّهِ.
والدليلُ على ما قُلناهُ أنَّ الذينَ رَوَوْا عنِ العربِ الأسماءَ المُتباينَةَ
__________
(1) انظر: "اللمع" للشيرازي (ص: 42).
(2) أي: كإطلاق كلمة "الجون" في اللغة على كلٍّ من الأبيض والأسود والأحمر. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (مادة: جون).
(3) في "ب": "فإنها تقع".
(4) انظر: "المستصفى" (1/ 76)، و "تقريب الوصول" (ص: 103)، و"شرح الأخضري على السلّم" (ص: 27).
(5) نُسِبَ نفي وقوع المشترك في اللغة إلى ثعلب، وأبي زيد البلخي، والأبهري. انظر: "البحر المحيط" للزركشي (2/ 122).
(6) "تأتي" ليست في "ب".
(1/22)
1
والمُتواطِئَةَ، همُ الذين رَوَوْا عنهمْ تَسمية المُتَضادَّةِ باسمٍ واحد، وهم الواسطةُ بينَنا وبينَ العرب (1).
وحكمُ هذا النَّوع أن يُحْمَلَ على ما يَقتضيهِ اللفظُ:
فإن كانَ اللفظُ يقتضي التَّخْصيص؛ حُمِلَ عليه؛ كما إذا قال: أَعْطِني بَيْضَةَ الحَرْبِ، أو عَيْناً أَشتري بها مَتاعاً، أو الجَوْنَ الأبيضَ.
وإن كانَ اللفظُ يقَتضي العُمومَ والإطْلاَق؛ كما لو قالَ لعبدِهِ: أَعْطِني البَيْضَةَ، وأَعْطِني العَيْنَ، وأَعْطِني الجونَ، حُمِل عليهِ عِنْدَ الشافِعيِّ -رحمهُ اللهُ تَعالى- وعِدَّةٍ يسيرة منَ الأُصولِيِّين (2)، والجمهورُ على خلافِهِ.
فلا يصيرُ العبدُ مُمْتَثِلاً عندَهُ إِلاّ إذا أتى بجميع ما يقعُ عليه اسمُ البَيْضَةِ، وبِجميعِ ما يقعُ عليهِ اسمُ العَيْنِ والجَوْنِ، والدليلُ عليهِ أنَّ الحَمْلَ على الجَميع غيرُ مُسْتَحيلٍ، واللَّفْظُ يصلُح لهُ، فَحُمِلَ عليه بِمُقْتَضى اللُّغَةِ.
نَعَمْ إذا دَلَّ العقلُ أو الشرعُ على أنَّ المرادَ بهِ شيءٌ بعَيْنِهِ، ولم نَتَبَيَّنْهُ في اللفظِ؛ كقولِهِ -تعالى-: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وقد دلَّ الدليلُ على أن المرادَ واحدٌ بعينه، إمّا الحَيْضُ، أو الطُّهْرُ،
__________
(1) انظر مبحث وقوع المشترك في اللغة أو عدم وقوعه في المراجع التالية:
"المحصول" للرازي (1/ 261)، و"الإحكام" للآمدي (1/ 41)، و"بيان المختصر" للأصفهاني (1/ 124)، و"البحر المحيط" للزركشي (2/ 122)، و"المحلي مع حاشية البناني" (1/ 292)، و"إرشاد الفحول" للشوكاني (ص:19).
(2) قد وافق الإمام الشافعيَّ على حمل المشترك على جميع معانيه: الباقلانيُّ، والجُبَّائيُّ، وعبد الجبار، وابن الحاجب، والبيضاوي، وغيرهم، ونُقل عن الإمام مالك.
انظر: "الإحكام" للآمدي (1/ 2/ 261)، و"نهاية السول" للإسنوي (1/ 261)، و"سلاسل الذهب" للزركشي (ص: 175).
(1/23)
1
فهذا يكون مُشكِلاً مُجْمَلاً، لا يُعَرفُ مَعْناه من لفظِهِ، وإنما يعُرفُ المرادُ منهُ بِغيرهِ، إمّا من دليلٍ، أو قرينةٍ، أو شاهدِ حالٍ (1).
* ومن سُنَّةِ العَرَبِ في كلامِها -أَيْضاً- أَنْ تسميَ الشيءَ الواحدَ بالأسماءِ المختلفةِ؛ نحو: السَّيْفِ والمُهَنَّدِ والصّارِمِ والحُسامِ، وأَكْثَرُ أسماءِ الغَريب على ذلك، ويُسمَّى هذا الصنفُ: الأسماءَ المترادِفَةَ (2).
فمذهبُ الأُصوليِّين واللُّغَويين أَنَّها أسماءٌ لمعنَى واحِدٍ.
وقال ثَعْلَبٌ: إنَّ الاسمَ منها واحدُ، وهو السيفُ مَثَلاً، وما بعدَهُ من الأسماءِ صفاتٌ لهُ باعتباراتٍ زائدةٍ على الاسمِ، وفي كلِّ صفَةٍ منها مَعْنًى غيرُ مَعْنى الصِّفةِ الأُخْرى.
واحتجَّ مَنْ خالَفَ ثَعْلَباً بأنهُ لو كانَ الأمرُ كما ذَكَر، لَما أمكَن أن يُعَبَّرَ عن شيءٍ بغيرِ عِبارَتِهِ، ولو كانَ ذلكَ كذلكَ، لم تُفْهَمِ اللغةُ، ولَمَّا رأيناهمْ يعبرونَ بِبَعْضها عن بَعْضٍ، دَلَّ على ما قلناهُ.
وأجيبَ بأنَّ هذه الأسماءَ ليستْ مختلِفةً متبايِنةً، فيلزمُ ما قالوه، وإنَّما في كلِّ واحدٍ منها مَعْنًى ليسَ في الآخَرِ، فَمِنْ أَجْلِ ذلكَ جازَ التعبيرُ ببعضِها عن بعضٍ من طريقِ المُشاكَلَةِ والاتفِّاقِ.
__________
(1) انظر مبحث حمل المشترك على جميع معانيه أو عدم جوازه:
"الإحكام" للآمدي (1/ 2/ 261)، و"نهاية السول" للإسنوي (1/ 261)، و"البحر المحيط" للزركشي (2/ 132)، و"سلاسل الذهب" للزركشي (ص:175)، و"المحلي مع حاشية البناني" (1/ 296)، و"أصول السرخسي" (1/ 126).
(2) انظر: "بيان المختصر" للأصفهاني (1/ 130)، و"نهاية السول" للإسنوي (1/ 237)، و"البحر المحيط" للزركشي (2/ 105).
(1/24)
1
واختار أبو الحسَينِ أحمدُ بنُ فارسٍ قولَ ثَعْلَبٍ، وبالَغَ في نُصْرَتِهِ (1).
* ومن سُنَّتِها -أيضاً- أنها تسميَ الشيءَ باسمٍ إذا كانَ مُتَّصِفاً بصفةٍ، فإنْ فُقِدَتْ تلكَ الصِّفَةُ، فلا يُسَمَّى بذلكَ الاسمِ.
فمنْ ذلكَ: المائِدَةُ، لا يُقال لها: مائدةً، حتى يكونَ عليها طَعامٌ، وإلَّا فاسمُها خِوانٌ.
وكذلكَ الكأسُ، لا يكونُ كأساً حتى تكونَ فيها شرابٌ، وإلاّ فهوَ قَدَحُ.
وكذلك القَلَمُ لا يكونُ قَلَماً إلا وقد بُريَ وأُصْلِحَ، وإلاَ فهُوَ أُنْبوبَةٌ.
ويُحكى أنه قيلَ لأَعْرابيٍّ: ما القَلَمُ؟ فقالَ: لا أَدري، فقيلَ: تَوَهَّمْهُ، فقالَ: عودٌ قُلِّم من أحدِ جانبيهِ كَتَقْليمِ الأظفارِ فَسُمِّيَ قَلَماً.
* * *
__________
(1) استغرب الشوكاني نسبة ذلك إلى ثعلب وابن فارس، فقال: العجب من نسبة المنع من الوقوع إلى مثل ثعلب وابن فارس مع توسعهما في العلم. انظر: "إرشاد الفحول" (ص: 19).
وانظر مسألة وقوع المترادف في اللغة: "الإحكام" للآمدي (1/ 1/ 46)، و"بيان المختصر" للأصفهاني (1/ 130)، و"نهاية السول" للإسنوي (1/ 248)، و"المحلي مع حاشية البناني" (1/ 290)، و"البحر المحيط" للزركشي (2/ 105).
(1/25)
1
القولُ في البَيِّنِ والمُشْكِلِ
* واعلموا -رحمكمُ اللهُ الكريمُ- أَنَّ الكلام الَبيِّنَ في لغةِ العربِ: ما استَقَلَّ بنفسهِ في الكشفِ عنِ المرادِ به.
وهو اسمٌ جامعٌ لأشياءَ مُتَّفِقَةِ الأصول، مُتَّسِعَةِ (1) الفُروع، وبعضُها أَجْلى من بَعْض، وهيَ مُتَقارِبَةُ الاستواءِ عندَ العربِ، وإنْ كانَ بعضُها أَجْلى من بعضٍ؛ لأنَّ أقلَّ البيانِ عندَهم كافٍ، وهي متفاوتة عندَ من يجهلُ لِسانَ العربِ.
* والبيانُ واقعٌ في جميعِ أنواعِ الكلامِ منَ الأَمْرِ والنَّهْيِ، والحَقيقَةِ والمَجاز، والعُمومِ والخُصوصِ، والإطْلاقِ والتَّقييدِ، وسائرِ صُنوفِ لُغاتِ العربِ.
ولولا خوفُ الإطالَةِ لَمَثَّلْتُ لكمْ جميعَ ذلكَ منَ الكتابِ العَزيز، ولكنِّي أذكرُ لكمْ آيةً واحدةً من الكِتابِ العزيزِ، وما انتهى إليه فَهْمي لِيُستَدلَّ بها على أمثالها إنْ شاءَ اللهُ تَعالى.
قال اللهُ -تَبارَكَ وتَعالى-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196].
__________
(1) في "ب":"متشعبة".
(1/26)
1
فأقول: جمعتْ هذهِ الآيةُ أنواعاً من البَيانِ، وبعضُ هذهِ الأنواعِ أَجْلى من بعضٍ:
فأجْلاها: بَيانُ العِدَّةِ التي أوجبَها اللهُ منَ الثَّلاثِ والسَّبْع، وكانَ الأمرُ بَيِّناً مفهوماً أنَّ السَّبْعَ إذا ضُمَّتْ إلى الثلاثِ، كانَتْ عَشْراً، فزادَ اللهُ -سَبُحْانَهُ- في البيانِ تأكيداً ثانياً لدَفْعِ تَوَهُّمِ إيجابِ أحدِ العِدَّتَيْنِ، وأَنَّ الأُخْرى تَطَوُّعٌ، فَقَصَدَ التأكيدَ في البَيانِ، ولم يَقْصِدْ تعليمَ العربِ العَدَّ؛ إذْ لم يزالوا يعرفونَ أنَّ الثلاثَ إذا ضُمَّتْ إلى السَّبْعِ كانتْ عَشْراً.
ويليهِ في البَيانِ: ترتيبُ الهَدْي على التَّمَتُّعِ، والصِّيامِ على فقْدانِ الهَدْي؛ فإنَّ ترتيبَ الجَزاءِ على الشرطِ بَيِّنٌ في لسانِ العربِ (1)، وإنْ تخلَّف (2) في بعضِ الأحوالِ؛ كما في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] وتراجُعُهُما جائزٌ وإنْ ظَنَّا أَلَّا يُقيما حدودَ اللهِ، ولكنَّ الشرطَ خرجَ على غالبِ الوُجودِ؛ فإنَّ المتفارِقَيْنِ لِعِلَّةٍ لا يَجْتمعان معَ وُجودها غالباً.
ويليهِ في البيَان: تخصيصُ هذا الحُكْمِ المذكور لغيرِ الحاضري المسجد الحرام؛ فإنه بيِّنٌ في لسانِ العربِ أن الأَلِفَ واللامَ يَقْتَضيان التَّخصيصَ، وبَيِّنٌ عندهم أنَّ ذلك إشارةٌ إلى الحكم المرتَّب على قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] من وجوب الهَدْيِ، والصِّيامِ عندَ العَجْزِ.
ويليهِ في البيانِ: التَّعْميمُ في كُلِّ مَنْ تَمَتَّعَ بالعُمْرة؛ فإنهَ بَيِّنٌ في لِسانِ العربِ أَنَّ "مَنْ" تَصْلُحُ للعُمومِ والاسْتِغراقِ، ولولا صَلاحِيَةُ استغراقه، لَما
__________
(1) في "ب": "العربية".
(2) في "ب": "تختلف".
(1/27)
1
حَسُنَ تخصيصُه بغير الحاضري المَسْجِدِ الحَرامِ، وهذا منَ العامِّ الذي أريدَ بهِ الخاصُّ، ومِنَ الصّنفِ الذي يُبَيِّنُ آخرُه أوَلَهُ.
ويليه في البيانِ: تخصيصُ ثلاثةِ أيامٍ بالحجِّ؛ لقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] فهذا بَيِّنٌ ظاهِرٌ في لِسانهم، وإنْ كانَ فيه شيءٌ من لَطيف الاسْتِعارة، وعلى ذلك أكثرُ كلامِ العربِ، وقد قال بهِ الشافعيُّ -رحمهُ اللهُ تَعالى- ولم يُجَوِّزِ الصِّيام إلَّا بعدَ الإِحْرام بالحجِّ، وحَمَلَهُ أبو حَنيفةَ -رحمهُ اللهُ تَعالى- على أشهرِ الحَجِّ، وجوّزَ الصيامَ قبلَ الإحرامِ بالحجِّ، وكذلك في قوله -تعالى-: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197].
وقولُ الشافعيِّ -رحمهُ اللهُ تَعالى- أَبْيَنُ وأَقْرَبُ إلى مُقْتَضى حقيقةِ اللُّغة.
وقولُ أبي حنيفةَ مُحْتَملٌ، ولكنهُ خِلاف البيِّنِ، وأبعدُ منَ الحقيقةِ؛ لما فيه منَ الحَذْفِ والإضْمَارِ.
وفي الآية مباحثُ أُخَرُ، وسأعيدُ الكلام عليها حينَ أتكلمُ على الأحكامِ -إن شاء الله تعالى- وبهِ العَوْنُ والعِصْمَةُ.
* * *
 
فصل (المُشْكِلُ)
وأما المُشْكِلُ، وهو الذي تسميه الشافعيةُ: "المُجْمَل"، فنوعٌ حَسَنٌ في اللَّسان في بعضِ الأَحْوال، إذْ هوَ من مَقاصِدِ العقلاء، ومُسْتَحْسَناتِ الفُضَلاء.
كما رُويَ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والشِّيعَةِ اخْتَصموا في بَغْدادَ في تَفْضيلِ أبي بَكْرٍ وعَلِيٍّ -رضيَ اللهُ تعالى عنهُما- فرضُوا بما قال أبو الفَرَج بنُ الجَوْزِيِّ، فَسُئِلَ عنْ ذلك؛ فَقَالَ: مَنْ كانَتِ ابنتُه تَحْتَه؛ ونزلَ من كُرْسيِّ وَعْظِهِ،
(1/28)
1
فادَّعى كلُّ فريق أن الجواب له، وعدَّ أهلُ الفضلِ ذلكَ من بَديعِ الأجوبةِ، ومن أحسنِ المَقَاصدِ (1).
ومثله قولُ الشاعر (2) في عَمْرٍو الأعورِ: [من مجزوء الرمل]
خَاطَ لِيْ عَمْرٌو قَبَاءْ (3) ... لَيْتَ عَيْنَيهِ سَوَاءْ
وَحَدُّهُ: الكلامُ الذي لا يَسْتَقِلُّ بنفسِه في الكَشْفِ عن المُرادِ، وإنما يكشفُهُ ويُبَيِّنُهُ غيرُهُ (4).
وهوَ -أيضاً-: اسمٌ لأشياءَ مجتمعةِ الأُصولِ، مُتَّسِعَةِ الفُروعِ، وذلك على وجوه:
أحدها: أن تُحذفَ القِصَّة أو بعضُها، معَ الإشارة إليها، فيتوقفُ فَهْمُ الكلامِ على معرفةِ القِصَّةِ (5)، وذلك كثيرٌ في الكتابِ والسنَّةِ، وبيان هذا المُشْكِلِ يكونُ بذكرِ القِصَّةِ واستيفائِها.
ثانيها: أن يذكرَ المتكلمُ شيئاً مَجْهولاً عندَ السامع لا يعرفُ كيفيتَهُ ومَعْناه.
وذلك كالصلاةِ والزكاةِ عندَ العربِ في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43].
__________
(1) انظر الحكاية في: "تذكرة الحفاظ" للذهبي (4/ 1345).
(2) هو بشار بن برد. انظر: "مقدمة ديوانه" (ص: 14).
(3) قباء: بفتح القاف: من الثياب، جمعه أقبية، يقال: قبَّى ثوبه: قطع منه قباءً. وتقبَّى قباءه: لبسه. "اللسان" (مادة: قبو)، (15/ 168).
(4) انظر: "المحصول" للرازي (3/ 153)، و"الإحكام" للآمدي (2/ 3/ 11)، و"بيان المختصر" للأصفهاني (2/ 591)، و"البحر المحيط" للزركشي (3/ 454)، و"المحلي مع حاشية البناني" (2/ 58).
(5) في "ب" زيادة: "واستيفائها".
(1/29)
1
فإنها كانت تَجْهل كيفيةَ الصلاةِ ومعناها في الشرع، فهذا مِمَّا أحكمَ اللهُ -تعالى- فرضَه، وجعلَ بيانَه إلى نبيِّهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّم-، فلا يُعْرَفُ بيانُه إلَّا من جِهَتِهِ -صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم (1).
ثالثها: أن يعلَّقَ الحُكْمُ على الأسماءِ، التي لا تُعْرَفُ حقيقةُ معناها إلا بضربٍ من الاحتمالِ والتَّقريبِ؛ كالحِينْ، والزَّمانِ، والدَّهْر، والغِنى، والفَقْر، والمَسْكَنَةِ.
فإنه لا يُعرف الحدُّ الذي ينبغي أن يُسَمَّى به فقيراً أو مسكيناً معرفةً حقيقية، وإنما يُعرف بضربٍ من التقريب، ولهذا بيَّن النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ- لأصحابه، وهمْ أفصحُ العربِ وأعرفُهم بلسانِها، فقالَ: "ليس المسكينُ بهذا الطَّوَّافِ الذي يَطُوفُ على الناس، فتردُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمتانِ، والتَّمْرَةُ والتَّمْرَتانِ"، فقالوا: وما المسكين؟ قال: "الَّذي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنيهِ، ولا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عليهِ، ولا يَسْألُ النَّاسَ شَيْئاً" (2).
ولأجل هذا اختلف الفقهاء في حقيقةِ الفقيرِ والمسكين، ولو كان لَهُ حَدٌّ في اللغةِ، لَرَجَعوا إليه، ولم يَخْتَلفوا.
وبيان هذا الصِّنفِ يُؤْخَذُ من بيانِ الصِّنْفِ الذي يليه.
رابعها: أن يَذْكُرَ المتكلمُ شيئاً معلوماً، ولكنْ أجزاؤه مُتَفاوِتَةٌ، ويُعلِّقَ
__________
(1) كبيانه - صلى الله عليه وسلم - قولَه تعالى -مثلاً-: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] بقوله: "فيما سقت السماء العشر"، وكبيانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] بحجه - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: "لتأخذوا عني مناسككم".
(2) رواه البخاري (4265)، كتاب: التفسير، باب: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]، ومسلم (1039) كتاب: الزكاة، باب: المسكين الذي لا يجد غنى، ولا يفطن له فيتصدق عليه. عن أبي هريرة، وهذا لفظ مسلم، وعنده: "قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ ".
(1/30)
1
عليه حُكْماً، ولا يُدْرَى هل المُرادُ بالحكم أدنى دَرَجاتِه أو أَقْصاها.
وذلكَ كقولِ اللهِ تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]، والرجوعُ (1) شيءٌ معلومٌ، ولهُ بِدايةٌ ونِهاية، ولم يُعْقَل من اللفظ أن المرادَ بالرجوعِ ابتداؤه أو انتهاؤه.
ومثل ما قد عُلِمَ الفَرْقُ بين قليله وكثيرِهِ، وعُلِّقَ الحكمُ بأحدِهما، ولكن لا يعلم ما حدُّ ذلكَ القليلِ والكثيرِ.
وبيانُ هذا النوعِ والنوعِ الذي قبلَه أن يُصارَ فيه إلى حدِّ شيءٍ من أنواع الدّلالة:
 
1 - إمَّا بأن يوجَدَ فيه قولٌ أو فعل من النبيِّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسَلَّم-.
 
2 - أو قولٌ أو فعلٌ من الصَّحابة -رضيَ اللهُ عنهمْ-، أو قولُ واحدٍ لا يُعلَمُ له مخالفٌ، ولو قلْنا: إنه ليسَ بحجَّةٍ على القولِ الجديدِ للشافعيِّ رضيَ اللهُ تَعالى عنه.
 
3 - أو اعتبارِه ببعضِ الأُصول التي قد ثبتَتْ فيها التقديراتُ والحدودُ إذا لم يوجَدْ شيءٌ يُردّ إليه أدلّ منه، وإن خرجَ ذلكَ عنْ تحقيقِ القياسِ؛ لأن التقريبَ والإعمالَ خيرٌ من التَّعْطيِل والإهمال.
 
4 - وإن لم يوجد في الأصول ما يُرْجَعُ إليه، رُجِع في بيانه إلى النظر فيما قُصِدَ له ذلك الشيءُ، فما أدَّى إلى إسقاطِ المعنى المقصودِ تُرك، وما لمْ يُسْقِطْه، اعتُبر.
 
5 - وإن لم يوجدْ بيانُه فيما قصد له من ذلك القصد، رُجِع (2) في بيانِه إلى ضَرْبٍ من التقريبِ مِمَّا يُعْقَل ويُعْرَف.
__________
(1) في "ب" زيادة: "وذلك الرجوع".
(2) "رجع" ليس في "ب".
(1/31)
1
وسأبين ذلك كلَّه هاهنا بأمثلةٍ؛ لتعتبرَ بها أيُّها الأخ فيما يَرِدُ عليك إن شاء الله تعالى:
 
1 - فمثالُ ما وُجد فيه القولُ عن النبيِّ -صَلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّم- بيانُ حَدّ الرُّجوع:
روى مسلم في صحيحه: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- قال للمتمتِّعين: "مَنْ كانَ معهُ هَدْيٌ فَلْيُهْدِ، ومَنْ لم يَجِدْ فَصِيامُ ثلاَثةِ أيامٍ في الحَجِّ، وسَبْعَةٍ إذا رَجَعَ إلى أَهْلِهِ" (1).
ووجِدَ أيضاً بيانُ حدِّ المِسكينِ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسَلَّم- وهو قوله: "الذي لاَ يِجدُ غنًى يُغْنِيْهِ" (2).
 
2 - ومثالُ الذي وُجِدَ فيه حَدٌّ من الصَّحابيِّ: قول الله -تبارك تعالى-: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] فرجعَ الشافعيُّ في بيانِه إلى قولِ ابن عُمَرَ وابنِ عَبّاس -رضيَ الله عنهم-: القَصْرُ في أَرْبَعَةِ بُرُدٍ (3).
__________
(1) رواه البخاري (1606)، كتاب: الحج، باب: من ساق البدن معه، ومسلم (227) كتاب: الحج، باب: وجوب الدم على المتمتع. عن ابن عمر رضي الله عنهما، في حديث طويل.
(2) تقدم تخريجه قريباً.
(3) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (1/ 388)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 137)، وعلَّقه البخاري في "صحيحه" (1/ 368).
والبُرُد: جمع بريد، وسكك البريد: كل سكة منها اثنا عشر ميلاً، والأربعةُ البرد: هي ستة عشر فرسخاً والفرسخ: ثلاثة أميال، والميل: أربعة آلاف ذراع، والسفر الذي يجوز فيه القصر: أربعة برد، وهي ثمانية وأربعون ميلاً بالأميال الهاشمية التي في طريق مكة. "اللسان" (مادة: برد) (3/ 86).
(1/32)
1
3 - ومثالُ الذي وُجِدَ فيه الاعتبارُ ببعض الأصولِ والنظائِرِ: قولُ اللهِ- عزَّ وجلَّ-: {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]، وحاضرو المسجد الحرام مَن قَرُبَ منه.
ولَمّا كانَ حَدُّ الحُضورِ والقُرْبِ غيرَ مذكورٍ، ولا معلوم، رُجِعَ في بيانِه إلى أَقَل ما وُجِدَ في الشرعِ من المَسافاتِ القريبةِ التي تَتَعَلَّق بها الأحْكامُ، فلم يوجد أقلُّ من مَسافَةِ القَصْرِ.
ومثالُه أيضاً قولُ اللهِ -تبارك وتعالى-: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] فألْزَمَ اللهُ -تبارك وتعالى- كُلَّ أَحَدٍ على قَدْرِ حالِه، وذلكَ غيرُ مَحْدودٍ، فرُجِعَ في نفقةِ المُعْسِرِ إلى أقلِّ ما وُجِدَ منْ وُجوهِ الإطْعامِ، وهو مُدٌّ (1)، وذلك في كَفَّارَةِ
__________
(1) المُدُّ: بالضم: مكيال، وهو رِطْلٌ وثلث عند أهل الحجاز والشافعي، ورِطْلانِ عند أهل العراق وأبي حنيفة، والصاع أربعة أمداد. انظر: "النهاية في غريب الحديث" (4/ 308)، و"لسان العرب" (3/ 400)، (مادة: مدد).
ثم إن الصاع يزن (2040) غراماً، فيكون المد (510) غراماً.
وللتوضيح أكثر عن الأكيال المستعملة شرعاً، أقول: قال أبو عبيد في كتابه "الأموال" (ص: 617): وجدنا الآثار قد نقلت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين بعدهم، بثمانية أصناف من المكاييل؛ الصاع، والمد، والفَرَق، والقسط، والمدي، والمختوم، والقفيز، والمكوك، إلا أنه عظم ذلك في المد والصاع، انتهى.
فالصاع يساوي: (2040) غراماً.
والمد: ربع صاع، ويساوي (510) غراماً.
والفَرَق: ثلاث أصوع، أي: (6210) غراماً.
والعَرَق: يساوي ما بين (15) إلى (20) صاع.
والوَسَق: يساوي ستين صاعاً؛ أي: (400 و 122) غراماً.
(1/33)
1
المُفْطِرِ في رَمَضانَ، وفي الشَّيخِ الكبيرِ الذي لا يُطيقُ الصَّومَ.
ورُجِعَ في نَفَقَةِ المُوسِرِ إلى أَكْثَرِ ما وُجِدَ في ذلك، وهو مُدَّان في فِدْية الأَذى.
ويُرْجَعُ في نفقةِ المتوسِّط إلى مُدٍّ ونصْفٍ؛ ليكون ما زاد على المدِّ مقسوماً بين الحالين، لارْتِفاعِهِ عن درجةِ المُعْسِرِ، ونُزولِهِ عن درجةِ المُوسِرِ.
ولَمَّا كانَ لخادِمِ الزوجةِ نفقةٌ، جُعِلَتْ نفقةُ الخادِمِ على المُعْسِرِ مُدًّا؛ كنفقةِ الزوجةِ نَفْسِها؛ لأَنَّ ذلكَ أَقَلُّ الكِفاية، ولا بدَّ منهُ، ولم يُقَدَّرْ في الشرعِ مِقدارٌ أَقَلُّ منهُ، ولم يُلْتَفَتْ إلى كَمالِ الزَّوْجَةِ ونُقْصانِ الخادِمِ في حال الضِّيقِ؛ اعتِباراً بتسويةِ الله -تعالى- بينَ الأبِ الذي له ثُلُثا المالِ، وبينَ الأُمِّ التي لَها ثُلُثُ المالِ، في حالِ الضِّيقِ (1) حينَ تساويا في السُّدُسِ.
وإنْ كانَ الزوجُ مُوسِراً، احْتِيجَ إلى الزِّيادَةِ كما احْتيجَ إلى ذلك في نفقةِ الزوجة، ولم يُمْكِنِ التَّسْوِيَةُ بينَهما في الزيادةِ؛ لكمال الزوجةِ، ونُقصانِ الخادِم، فاعتبر ذلك بدور التَّفْضيلِ من أَصْحابِ الكمالِ وغيرِهم إذا اجْتَمعوا، فوُجِدَ للابْنِ الثُّلُثانِ، وللبنْتِ الثُّلُثُ إذا اجتمعا؛ لكمال الابن، ونقصانِ البنتِ، وكذلك وُجد الأبُ والأمُّ، للأبِ الثُّلُثان، وللأُمِّ الثُّلُثُ إذا
__________
= والمكوك: يساوي صاعاً ونصف الصاع؛ أي: (3060) غراماً.
والقفيز: يساوي ثمان مكاكيك؛ أي: (480، 24) غراماً.
وللاستزادة أكثر عن الأكيال الشرعية، ينظر كتاب أبي العباس المقريزي "الأوزان والأكيال الشرعية".
(1) المراد بالضيق: هو ضيق التركة إذا وجد معهما ولد ذكر؛ فإنه عاصب، فزاحمهما وضيَّق عليهما، فأخذ كلٌّ منهما السُّدسَ فقط.
(1/34)
1
اجْتَمَعا، فَفُضِّلَ الأَبُ والابْنُ بِثُلُثَيِ الميراثِ لِكمالِهِمْ، فَكَذلكَ فُضِّلَتِ الزوجةُ على الخادِمِ.
ومن هذا النوع تقديرُ الشافعيِّ -رحمهُ اللهُ تعالى- في حَلْقِ الشَّعْرَةِ الواحِدَةِ مُدًّا، وفي الشَّعرتين مُدَّيْنِ، وفي الثَّلاثِ فصاعِداً دَمٌ، كأنَّه رَأى أنَّ الثَّلاثَ جماعُ الشَّعْرِ، فهو حدُّ الكَثْرَةِ، ففيها ما في أَكْثَرِ الكَثيرِ، ورأَى أن الشعرةَ الواحدةَ لا يُمْكِنُ إبْطالُ حُكْمِها؛ إذْ إتلافُها في الإحرامِ محظورٌ كإتلافِ الشَّعرِ الكثيرِ، ولا يمكنُ تسويتُها بالكثير، فاحْتيجَ إلى ما يُفرِّقُ بينَ القليلِ والكثيرِ، فرَجَعَ في القليلِ إلى أقلِّ ما وُجِدَ مُقَدَّراً، وذلك مُدٌّ، وعلى هذا تَرْكُ حَصاةٍ ومبيتِ ليلة من ليالي منى ورمي الجمار.
 
4 - ومثالُ ما لم يوجَدْ له أصلٌ في التقدير يُرَدُّ إليه، وأُخِذَ بيانهُ من الأمرِ الذي قُصِدَ لهُ: قولُ اللهِ -تبارَكَ وتَعالى- {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3].
فذهبَ الجُمهورُ إلى أن المَعيبَ (1) لا يُجْزئ، فقيَّدوا إطلاقَ الآيةِ، واتفقوا على الفرقِ بينَ العيب الكثيرِ، فيضُرُّ، واليسير، فلا يَضُرُّ، وإنِ اختَلَفوا في تعيينهِ، وليسَ لذلكَ نظير في المُقَدَّراتِ فيرجعُ إليهِ، فأُخِذَ بيانهُ من مَعْناه، فنُظِرَ (2) إلى العتقِ، فوُجد معناهُ أنه يملكُ العبدُ منافعَ نفسِه، فدلَّهم ذلكَ على أنَّ كلَّ عَيْبٍ يَضُرُّ بالمنافِعِ إضراراً بَيِّناً، فإنه لا يُجْزِئُ؛ لأنه يُسْقِط فائِدَةَ العِتْقِ، وما لاَ يَضُرُّ بالعَمل إِضراراً بيِّناً، فإنه يُجزئُ؛ لوجود معنى العتقِ.
ولنا أن نقولَ: بل لهُ نَظَيرٌ يعتبرُ بهِ، وهو الهَدايا والضَّحايا.
__________
(1) المراد بالمعيب: هو الرقبة التي تعتق في هذا الحكم، فإنها لا تجزئ أن تكون معيبة.
(2) في "ب": "فنظروا".
(1/35)
1
5 - ومثالُ ما لم يُوجَدْ له أصلٌ يُرَدُّ إليهِ، ولا يُؤْخَذُ بيانُه من مَعْناه، وإنُّما يُرْجَعُ إليهِ بِضَرْبٍ منَ التَّقْريبِ لِعُرْفِ الناسِ وعادتِهِم: العَفْوُ عن دَمِ البراغيثِ، واليَسيرِ من سائِرِ الدِّماء، عُفي عن قليلِها لمشقَّةِ الاحْترازِ؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ولم يُعْفَ عن الكثيرِ؛ إذ لا مَشَقَّةَ في اجْتِنابِهِ، فرُجِعَ في بيانِ القليلِ إلى عُرْفِ الناسِ وعادتِهم.
ولهذا نظائر (1) كثيرةٌ.
وعلى هذا فاعملْ في جميعِ ما يَرِدُ عليكَ من هذا البابِ، وَقدِّمْ من الأدلَّةِ أَقواها، فإن لم تجدْ، فارجع إلى الأصول والاعتبار.
وهذا فصل نفيس، فاحتفظْ به تستفدْ منه علماً كثيراً، وتطلعْ على سِرِّ الفقه ولطائفه، وعلى هذا السبيلِ جميعُ الفقهاءِ وإنَّما يختلفونَ في تفاصيلِ المسائل.
خامس الوجوهِ (2): الاشتراكُ في المَعْنى، وهو على وجوه:
أحدها: أن يُعَلَّقَ الحُكْمُ على اسمٍ مشترَكٍ، ويَدُلَّ الدليلُ على أن المرادَ به أحدُ معانيه، لا بِعَيْنِهِ (3).
كقول الله -تبَارَك وتَعالى-: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فقد اتفقوا على أن المرادَ بهِ الطُّهْرُ، أوِ الحَيْضُ (4)، وإنَّما اختلفوا في تعيينه، فهذا يُؤْخَذُ بيانُه من الأَدِلَّةِ.
__________
(1) في "ب": "أنظار".
(2) يعني: من أوجه المُشْكِل.
(3) انظر هذا الوجه في: "المستصفى" للغزالي (2/ 36)، و"المحصول" للرازي (3/ 156)، والإحكام" للآمدي (2/ 3/ 13).
(4) انظر: "لسان العرب" (1/ 130) (مادة: قرأ).
(1/36)
1
وإن لم يدلَّ الدليلُ على أن المرادَ به أحدُهما، لا بِعَيْنْهِ، ففيه مذهبان:
أحدُهما، وهو مذهبُ الشافعيِّ وأكثرِ أصحابِه: أَنَّهُ بَيِّنٌ ظاهرٌ، فيُحمل على الجميع لغة وخطاباً، وقال القاضي أبو بكر: يحمل على الجميع احتياطاً.
والثاني (1): -وبه قالَ أبو حنيفةَ وأكثرُ الأصوليِّينَ- إنه مُشْكِلٌ، فلا يُحْمَل على شيءٍ منها إلا بِدليلٍ.
والكلامُ في تقرير المَذْهَبَيْنِ مذكور في كتبِ الأصول.
ثانيها: أن يُنقلَ فِعْلٌ، وذلك الفعلُ يحتمل حالينِ؛ فإنه مُشْكِلٌ لا يُعْقَلُ المُرادُ منهُ (2).
كما رويَ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جمعَ بينَ الصَّلاتَيْنِ فِي السَّفر (3)، والفِعْلُ لا يقع إلا في حالٍ واحدٍ من الحالَيْنِ، إمَّا أن يكونَ السَّفرُ طويلاً، أو قَصيراً، فهذا يُرجع في بيانِه إلى الأدِلَّةِ السمعيةِ.
ثالثها: أن يُنقل أَنَّه قَضى في واقعةٍ بحُكْمِ، والواقعةُ تحتملُ حالَيْنِ، فهو
__________
(1) في "ب" زيادة: "أي: المذهب الثاني".
(2) هذه المسألة هي: أن الفعل لا عموم له في أقسامه، لأنه يقع على صفة واحدة منها.
انظر ذلك في: "المحصول" للرازي (2/ 397)، و"الإحكام" للآمدي (1/ 2/ 272)، و"البحر المحيط" للزركشي (4/ 166)، و"المحلي مع حاشية البناني" (1/ 344)، و"إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 114).
(3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 351)، والطبراني في "مسند الشاميين" (2696).
(1/37)
1
مُشْكِلٌ لا يستقلُّ بنفسِهِ في الكشفِ عن المُرادِ؛ لأنَّ القضاءَ واحدٌ، والواقعةُ تحتملُ أحوالاً (1).
وذلك كما رُوِيَ: أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالشُّفْعَةِ (2) للجارِ (3)، فالقَضِيَّةُ واحِدَةٌ، والجارُ الذي قَضى له يُحتمل أن يكونَ جُنُباً أو مُلاصِقاً أو مشايعاً، فهذا يُرْجَعُ في بيانِه إلى الأدلَّةِ، فإنْ لم يوجَدْ دليلٌ، فيؤخذُ بأقلِّ ما قيلَ (4)، فيُحملُ على الجارِ المُشَايعِ؛ كما فعل الشافعيُّ رحمه الله تعالى.
__________
(1) هذه المسألة مشابهة لما قبلها وهي: هل أنَّ ما يجري مجرى الفعل، يعم أولا يُعم؟ قال العمريطي في "نظم الورقات":
ثم العموم أبطلت دعواه ... في الفعل بل وما جرى مجراه
وانظر: "الإحكام" للآمدي (1/ 2/ 274)، و"شرح تنقيح الفصول" للقرافي (ص: 188)، و "بيان المختصر" للأصفهاني (2/ 518)، و"نهاية السول" للإسنوي (1/ 467)، و"البحر المحيط" للزركشي (3/ 168).
(2) الشفعَة: الشُّفعة في الدار والأرض: القضاءُ بها لصاحبها. قال القتيبي في تفسير الشفعة: كان الرجل في الجاهلية إذا أراد بيع منزل أتاه رجل فشفع إليه فيما باع فشفّعه وجعله أولى بالمبيع ممن بعُد بيته، فسُميت شفعةً وسمي طالبها شفيعاً. "اللسان" (مادة: شفع) (8/ 184).
والمعنى في الحديث أن الجار أولى من غيره بشراء ما يباعُ مما في جواره.
(3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (4/ 518) عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، ورواه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 111) عن سعيد بن المسيب، مرسلاً.
(4) الأخذ بأقل ما قيل: وهو أن توحَّد الأقوال في المسألة دون ترجيح لأحدها، ويكون بعضها داخلاً في بعض، متفقاً على حكمه ضمن الأقوال، ومختلفاً فيما زاد على الأقل. وهو قول الإمام الشافعي والباقلاني، ونسب إلى غيرهما.
انظر: "المستصفى" للغزالي (1/ 375)، و "شرح تنقيح الفصول" للقرافي (ص: 452)، و"سلاسل الذهب" للزركشي (ص: 430)، و "غاية الوصول" للشيخ زكريا الأنصاري (ص: 108).
(1/38)
1
وهذا الاشتراك في المفردات.
 
وأَمَّا المركَّباتُ، فيأتي على وُجوهٍ -أيضاً-:
منها: الاشتراكُ بين الأمرِ والخَبَر:
كقول الله -جل جلاله-: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} [طه: 37 - 39]، فإنه يَحْتَمِل أن يكون أخبرها إلهاماً منه -سبحانه- أن اليمَّ يُلقيهِ، ويَحْتَملُ أن يكون أخبرها أنه أمرَ البحرَ بإلقائه.
 
ومنها: الاشتراك بين السؤال والتَّنْبيهِ:
كقولك: أرأيتَ إنْ صَلَّى الإمامُ قَاعداً، كيفَ يُصلِّي مَنْ خلفه؟ فإنَّه يَحْتَمِل أن (1) يكون سؤالاً منكَ، ويَحْتَمِل أن يكونَ تنبيهاً على المنع من الصلاةِ خلفَهُ.
 
ومنها: الاشتراك بينَ السؤالِ والدُّعاء (2):
كقولِ اللهِ -جَلَّ جَلالُهُ-: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9]، وحملَهُ على الدُّعاء أبو زكريا الفَرَّاء، وعلى السؤالِ غيرُه.
 
ومنها: الاشتراك في المَفْعولِ إذا تنازعَه فِعلان يَقْتضيانِ مُقْتَضًى واحداً:
كقولِ الله -تعالى-: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]، فإنه يحتمل أن يكون {قِطْرًا} مفعولَ {آتُونِي}، ويحتمل أن يكونَ مفعولَ {أُفْرِغْ}.
 
ومنها: الاشتراك في الإبهام:
كقول الله -تبارك وتعالى-: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] على أحدِ الأقوالِ في الآيةِ.
__________
(1) في "ب": "أنه".
(2) في "ب": "بين الدعاء والسؤال".
(1/39)
1
واختلفَ علماؤنا في مسائلَ:
الأولى: الأسماءُ الإسلاميةُ؛ كالصَّلاة والزكاةِ والصَّوْمِ والحَجِّ، والمُؤْمِنِ والفاسِقِ.
فقالَ بعضُهُمْ: هيَ بَيّنَةٌ، وقال بَعْضُهُمْ: هي مُشْكِلَةٌ؛ لأنَّهُمْ لم يكونوا يَعْرِفونها (1).
والحَقُّ أَنَّها مُشْكِلَةٌ عندَ مصادَمَةِ الخِطابِ الأَوَّلِ لأهلِ الزَّمَنِ الأَوَّلِ، بَيِّنَةٌ في الزمنِ الأخيرِ عندَ استقرارِ بَيانِ الشرعِ.
ثانيها: قوله -تعالى-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، والربا في لسانِهم هو الزيادَةُ (2).
وقالَ بعضُ أهلِ العلمِ: الآية بَيِّنَةٌ، وليستْ مُشْكِلَةً؛ لأن البيعَ مَعقولٌ في اللغةِ، فيُحْمَلُ على كلِّ ما يصلُحُ لهُ، ولا يُتْرَكُ بعضُه إلَّا بدليلٍ يدلُّ على أَنُّه رِبًا، أو مَنْهِيٌّ عنه.
وقالَ بعضُهم: هي مُجْمَلَةٌ؛ لأن اللهَ -تَعالى- أحلَّ البيعَ وحَرَّمَ الرِّبا، والرِّبا هو الزيادَةُ، وما من بيعٍ إلا وفيه زِيادَةٌ، فافتقَر إلى بيانِ ما يَحِلُّ منها مِمّا يَحْرُمُ (3).
والذي أراه الصوابَ -إن شاءَ الله تعالى- أَنَّ لفظَ البيعِ غيرُ مُشْكِلٍ؛ فإنه
__________
(1) انظر: "اللمع" للشيرازي (ص: 113)، و "المستصفى" للغزالي (2/ 34)، و "مفتاح الأصول" للتلمساني (ص: 92)، و"إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 172).
(2) في "ب": "والربا: هو الزيادة في لسانهم".
(3) انظر ذلك في: "اللمع" للشيرازي (ص: 113)، و"البرهان" للجويني (1/ 421)، و"المسوَّدة" لآل تيمية (1/ 386)، و"كشف الأسرار" لعبد العزيز البخاري (1/ 86)، و "البحر المحيط" للزركشي (3/ 460).
(1/40)
1
معلومٌ عندَ العربِ، وعليه جرتْ عادتُهم، وقامتْ به دُنياهمِ، وأما لفظُ الرِّبا فَمُشْكِلٌ؛ لاشتباهِهِ عليهم، وإن كانت حقيقةُ وَضْعِهِ مَعْروفَةً عندهم؛ لأنهم عَلِموا أنَّ اللهَ لا يأمرهم بترك جميعِ البيُوعاتِ والزياداتِ؛ لأن الله -تبارك وتعالى- لا (1) يأمرهُمْ بما فيه هلاكُهم وتركُ معاشِهِم (2) وهَدْمُ دُنياهم، فعلموا حِلَّ كُلِّ بَيْع ومُبادلة، وعلموا حقيقةَ المنهيِّ عنهُ أنه الزيادةُ، وعلموا أن المرادَ بعضُ الزيادةِ دونَ بعضٍ، ولم يعرفوا على أيِّ صفةٍ يكون تحريمُها، ولا مبلغُ حدِّها، ولهذا بَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أعيانَ الرِّبا، وبَيَّنَ صِفَتَهُ وشرائِطَهُ في مَقامٍ واحدٍ، ولفظٍ واحدٍ مُتَّصِلاً به في أَثَرهِ، ولو كانَ بيِّناً، لَما احتاجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى بيانِهِ لهم، وأَمَّا البيعُ، فلم يُبَيِّنْهُ كذلكَ، وإنَّما بَيَّنَ مَضارَّهُ ومُفْسِداتِهِ مُنْفَصِلاً، وذلك إمَّا تخصيصٌ لعمومِهِ، أو تقييدٌ لمُطْلَقِهِ، أو تَبيينٌ لِشَرْطِهِ (3).
ثالثها: الأعيانُ التي عُلِّقَ التَّحْليلُ أو التحريمُ عليها؛ كقول الله -جل جلاله-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23].
فقال بعضهم: هي مُجْمَلَةٌ؛ لأن الأعيانَ لا تُوصَفُ بالتحليلِ والتحريِم، وإنما تُوصفُ بذلك أفعالُنا، وأفعالُنا غيرُ مذكورة، وهيَ متنوعَةٌ، وليسَ على ما يَحْرُمُ منها ولا ما يَحِلُّ دليلٌ يخصُّه ويُبَيِّنُهُ.
ومنهم من قالَ: إنها ليستْ بِمُجْمَلَةٍ، بَلْ هي بَيِّنَةٌ (4)، وهو الصَّوابُ
__________
(1) في "ب": "لم".
(2) في "ب": "معايشهم".
(3) سيأتي ذكر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا وتخريجه.
(4) انظر: "اللمع" للشيرازي (ص: 114)، و"المستصفى" للغزالي (2/ 28)، و"مفتاح الأصول" للتلمساني (ص: 90)، و"غاية الوصول" للأنصاري (ص: 84)، و"إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 169).
(1/41)
1
عندي إنْ شاءَ اللهُ تعالى؛ فإنه بَيِّنٌ في لسانِ العربِ أنهم إذا قالوا مثلَ ذلكَ في الأعيانِ، فما الممنوعُ المحرَّم إلا الأمرُ المَقْصودُ المُنْتَفَعُ بِه من تلكَ العَيْنِ، فلو قالَ: حَرَّمْتُ عليكمُ هذهِ الفَرَسَ، عُقِل منهُ أن المرادَ تحريمُ الرُّكوبِ واللَّحْمِ، لا تحريمُ البيعِ. وكذلكَ إذا قال: حَرَّمْتُ عليكُمُ المَيْتَةَ، عُقِل منهُ أن المرادَ (1) تحريمُ أكلِها الَّذي هو مقصودٌ منها، ولم يُعْقَلْ منهُ غيرُ ذلكَ.
ونقولُ لهذا القائِل: هل تَرى العربَ لمّا خاطبهُم اللهُ تعالى بهذهِ الآيةِ، لَمْ يعرفوا مُرادَ اللهِ تبارَكَ وتعَالى، فاحْتاجوا إلى سؤالِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن بَيانِ ذلك الشيءِ المُحَرَّمِ؟ كَلاّ، بل عَقَلوا عن اللهِ تَعالى مُرادَهُ، وعلموا أَنَّه أرادَ تَحريمَ نِكاح أُمَّهاتِهم وبَناتِهم. فمن قالَ: إنهم لم يَعْقِلوا مرادَ الله -تَعالى- في هذا الخِطاب، فقدْ جَهَّلَ العربَ بِلُغتهم، وإنما هذا من أوضح البيان عندَهُم إن شاء الله تعالى.
رابعها: الخطابُ الذي يَتَضَمَّنُ نفياً وإثباتاً في الأَعْيان؛ كقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الأَعْمالُ بالنِّيَّاتِ" (2)، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نِكاحَ إلا بوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وشاهِدَيْ عَدْلِ" (3).
__________
(1) في "ب": "أنه أراد" بدل "أن المراد".
(2) رواه البخاري (1)، كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (1907)، كتاب: الإمارة، باب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية" عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وهذا لفظ البخاري.
(3) رواه ابن الجوزي في "التحقيق في أحاديث الخلاف" (1702) عن جابر بن عبد الله مرفوعاً. ورواه الإمام الشافعي في "مسنده" (1/ 220)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 112) عن ابن عباس موقوفاً عليه من قوله، وهو المشهور. وانظر: "خلاصة البدر المنير" لابن الملقن (2/ 189)، و"التلخيص الحبير" لابن حجر (3/ 162).
(1/42)
1
فقال بعضهم: هي مُجْمَلَةٌ مُشْكِلَةٌ؛ لأن الذي نفاهُ هو العملُ والنِّكاحُ، وذلك موجودٌ مشاهَدٌ، والشرعُ لا ينفي المُشاهَداتِ، فدلَّ على أن النفيَ صفةٌ غيرُ مذكورةٍ، ولم تُبَيَّنْ تلكَ الصفةُ، وكانَ مُشْكِلاً.
وقال بعضُهم: هي بَيِّنَةٌ غيرُ مُشْكِلَةٍ (1)، وهوَ الصَّوابُ عِنْدي إنْ شاءَ اللهُ تعالى؛ فإن المتكلمَ إذا قصدَ بالنفي شيئاً متنوِّعاً، حُمِلَ لفظُه على ما يليقُ بقَصْدِهِ، فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليسَ قَصْدُهُ إلَّا التشريعَ والبيانَ، فإذا نَفَى شيئاً، حُمِل على ما قَصَدَه (2)، وهُوَ التشريعُ، فكأنه قالَ: لا عملَ في الشَّرْعِ إلا بالنِّيَّةِ، ولا نكاحَ في الشرعِ (3) إلا بِوَليٍّ مُرْشِدٍ وشاهِدَيْ عَدْلٍ، ويكونُ نفيُه على عُمومِه، فإذا وجدناه اعتبرَ ذلكَ الأمرَ المَنْفِيَّ معَ عدَمِ الصِّفةِ المَذْكورَةِ، كما إذا اعتبرَ عَمَلاً بغير نِيَّةٍ، واعتدَّ بهِ، جَعَلْناه تَخْصيصاً لِعُموم نَفْيِه.
خامسها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسيانُ وما اسْتُكْرِهوا عليهِ" (4).
فمنهم مَنْ قالَ: هو مُشْكِلٌ؛ للإضْمارِ الذي فيه؛ إذْ لم يعيَّنْ ما هو المَعْنِيُّ من الأشياءِ المُرادةِ بالرَّفْعِ.
__________
(1) انظر هذه المسألة في: "المستصفى" للغزالي (2/ 31)، و"الإحكام" للآمدي (2/ 3/ 19)، و"مفتاح الأصول" للتلمساني (ص: 91)، و"البحر المحيط" للزركشي (3/ 466)، و"إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 170).
(2) في "ب": "حمل على قصده".
(3) في "ب": "بالشرع".
(4) لا يوجد هذا الحديث بهذا اللفظ، وإنما وقع هكذا في كتب كثير من الفقهاء والأصوليين. انظر: "المقاصد الحسنة" للسخاوي (528)، و"الدراية في تخريج أحاديث الهداية" لابن حجر (1/ 175)، و"كشف الخفاء" للعجلوني (1/ 522).
قلت: وقد رواه ابن ماجه (2045)، كتاب: الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي، لكن بلفظ "وضع" بدل "رفع". من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(1/43)
1
ومنهُمْ من قالَ: إنَّه بَيِّنٌ (1)، وعَزاه إلى نَصِّ الشِّافعيِّ (2) رضي اللهُ تَعالى عنهُ، وهو الصوابُ عندي -إن شاءَ اللهُ تَعالى-؛ لأنه معقولٌ في لسانِ العرب، أي (3): رَفْعُ المُؤَاخَذَةِ، ألا تَرى أن العربيَّ إذا قالَ لعبدِهِ: رفعْتُ عنكَ خَطَأَكَ، فُهِمَ منهُ تَرْكُ المُؤاخَذَةِ بالخَطَأ؟
سادسها: قول اللهِ -تَبَارك وتَعالى-: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
نُقِلَ عن الشافعيِّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنه- في كتابِ "الأُمِّ" (4) أَنَّ في الآيةِ إِضمْاراً، والمَقْصود منها بيِّنٌ غيرُ مُجْمَل، فكأنه قال: فمنْ كانَ منكمْ مريضاً، أو به أذًى من رأسِه، فحَلَقَ، أو دَهَنَ، أو لَبِسَ، أو تطيَّبَ، فَفِدْيةٌ، وذلك ظاهر من قصدِهِ في رَفْعِ تَحريمِ المُحَرَّماتِ عنهُ، وتعليقِ الكفارةِ بهِ، هذا معنى قوله، رحمهُ اللهُ تعالى.
ونُقِلَ عنهُ أنه قالَ في كتابِ "الإملاء": إِنَّ ذلكَ المُضْمَرَ غَيْرُ بَيِّنٍ.
والصَّحيحُ عندي هوَ الأَوَّلُ.
فإنْ قيلَ: فهل بَيْن هذه المسألةِ وبين (5) المسائلِ المتقدمةِ فَرْقٌ أو لا؟ ففي الكُلِّ إضماراتٌ؟
__________
(1) انظر: "اللمع" للشيرازي (ص: 115)، و"الإحكام" للآمدي (2/ 3/ 18)، و"بيان المختصر" للأصفهاني (2/ 595)، و"البحر المحيط" للزركشي (3/ 471)، و"إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 171).
(2) لم أجد من عزا ذلك إلى الإمام الشافعي -رحمه الله- رغم طول البحث عنه.
(3) "أي" ليس في "أ".
(4) انظر: "الأم" (2/ 188) وما بعدها، و (6/ 190) وما بعدها.
(5) "وبين" ليس في "أ".
(1/44)
1
فالجوابُ: أَنَّ بينهما فَرْقاً لطيفاً، وهو أن الآياتِ المتقدِّماتِ فارغةٌ مِنَ الإضماراتِ والحذفِ.
فأما الآيةُ الأولى، وهي قولُه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، فإنه بيِّنٌ عندهم أنَّ الله -تعالى- إنما قصدَ تحريمَ نِكاحِهِنَّ لا غَيْر. واللَّمْسُ لِشَهْوَةٍ والتقبيلُ من توابعِهِ ولوازِمِهِ، فَمَنِ ادَّعى أنه أُضْمِرَ شيءٌ آخَرُ، فقدْ أَخْطَأ.
وأَمّا التي تتضمَّنُ النفيَ والإثبات في الأعيان، فقد قُلْتُ (1): إنَّ الشارعَ إنما يَنْفي ويُثْبتُ الشَّرْعِيّاتِ، فكأنه قالَ: لا عملَ عندي إلا بالنيّةِ، فيكون عامًّا ظاهِراً فيَ النَّفْي، فلا إضمارَ فيه.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيانُ وما اسْتُكْرِهوا عليهِ (2) " (3)، فقد ثبتَ أنَّه معقولٌ في لِسانِ العربِ أَنَّهُ إنَّما قصدَ رَفْعَ عُقوبةِ الخَطَأ، وذلكَ مُطْلَقٌ في كُلِّ عُقوبةٍ، فإن تخلفتْ عقوبةٌ عن هذا الإطلاقِ، وأُخِذَ بها المخطِئُ أو النَّاسي، كَغَرامَةِ المُتْلَفاتِ، فذلكَ كالتَّقييدِ لهذا المُطْلَقِ، ولا إضمارَ فيها، وإنّما فيه إقامةُ المُضاف إليهِ مقامَ المُضافِ، على حدِّ قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
وأَمّا هذهِ المسألةُ، وهي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] ففيها إضماراتٌ كثيرةٌ، لكنَّه قال في "الأم": تلكَ الإضْماراتُ ظاهرةٌ معقولةٌ من فَحْوى قصدِ المُتكلِّم، فكأنها مذكورَةٌ. وقال في "الإملاء" بخلافه، وقول "الأُمِّ" أقربُ وأصوبُ إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في "ب": "بينت".
(2) "وما استكرهوا عليه" ليس في "ب".
(3) تقدم تخريجه قريباً.
(1/45)
1
وظَنِّي أَنَّ أصحابَ الشافعيِّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم- إِنَّما أخذوا الخِلاف في المسائل المتقدِّمَةِ من قولِه هاهنا في "الإِملاء"، فافهم هذه النُّكْتَةَ، فإنَّها في نهايةٍ من التحقيق إن شاء الله تعالى.
* * *
(1/46)
1
القَولُ في العَامِّ والخَاصِّ
العمومُ في اللُّغَةِ: الإحاطَةُ والشُّمول، ومن ذلكَ (1) قولُهم: العامَّةُ.
 
والخُصوص: التمييزُ والانفِرادُ، ومن ذلك قولُهم: الخاصَّةُ، لتميُّزهِمْ عنِ العامَّةِ بأشياءَ.
والعامُّ والخاصُّ من أوسعِ لغةِ العربِ مَجالاً، وأكثرِها استعمالاً، والكلامُ فيه يَسْتَدْعي أربعةَ فُصول:
الفصل الأول: في بيان ألفاظه.
والثاني: في كيفية استعمال العرب للعامِّ، وتصرُّفِها فيه.
والثالث: في التخصيص.
والرابع: في ترتيب العامِّ على الخاصِّ.
* * *
 
الفصل الأول في الألفاظ
الأول وهو على وجوه: الجَمْعُ المعَرَّفُ بالأَلِفِ واللَّامِ؛ كالمُسلمين والمُشركين، والأَبْرار، والفُجَّار.
__________
(1) "ذلك" ليس في "ب".
(1/47)
1
وأما المُنَكَّرُ منُه كقولك (1): مُسلمون، وأبرارٌ، فواضحٌ في لسان العربِ عمومُه على سبيل الإطْلاقِ، وأمّا على سبيلِ الاسْتِغراق والشُّمولِ، فَلا، فمن (2) قال بعمومه بهذه الطريقِ، فقدْ أَخْطَأَ.
وقد أوضحتُ هذهِ المسألةَ في كتابي "مصابيح المَغاني في مَعاني حروفِ المَعاني".
 
الثاني: الأسماءُ المُبْهَمَةُ، وهيَ "مَن" فيَمْن يعلَمُ، و"ما" فيما لا يعلَمُ في الاستِفْهام والجَزاءِ و "أَيّ" فيمن يعلَمُ وفيما لا يَعْلَمُ في حالِ الاسْتفِهامِ والجَزاء، و"أَيْنَ" في الاستِفْهام عنِ المكان، و "أَيْنَما" في الجَزاء دون الاسْتِفهام، و "أَيَّانَ" و"مَتى" في الزَّمان، في الجَزاءِ والاستفِهام، و"حَيْثُ" في المَكانِ، هكذا ذكرهُ عُلماؤنا، وهذه عامةٌ مستغرقةٌ كالذي قَبْلَها، ولكنها تفُارِقُها في أنها تقعُ على الفردِ الواحدِ حقيقةً، بخلافه.
 
الثالث: النَّفْيُ في النكرة بدون "مِنْ" عامٌّ ظاهِرٌ في العموم، كقولك: ما عندي شيء، ولا رجلٌ في الدار، وأما مَعَ "مِنْ" فإنه يكون نَصًّا في العموم (3)؛ كقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91]، وقوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65] فلا يدخله التخصيص، بخلاف العامِّ الظاهرِ؛ فإنه يدخُلُه التخصيصُ.
__________
(1) في "ب":"مثل قولك".
(2) في "ب": "ومن".
(3) وقد صحح الشوكاني -رحمه الله-: أن دخول "مِنْ" هو لتأكيد الاستغراق فقط. وقال: لو لم تكن من صيغ العموم قبل دخول "من"، لما كان نحو قوله تعالى: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} و {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} مقتضياً للعموم. انظر: "إرشاد الفحول" (ص: 119).
(1/48)
1
الرابع: ضمائرُ الجُموع، كقولِ اللهِ -تبَاركَ وتَعالى-: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وما أشبَهَ ذلك.
 
الخامس: لفظة "كُلّ" و"أَجْمَع" و"عامَّة" وكذا "سائر" عندَ الجَوْهَرِيِّ.
ووراء هذه مسائلُ شرعيةٌ اختلف فيها علماؤنا:
 
المسألة الأولى: الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - يدخلُ في خِطابِ الأمَّةِ على الصَّحيحِ عندَ أصحابِ الشافعيِّ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم- وإنْ صَحِبتهُ كَلِمَةُ: {قُلْ}، خلافاً للحُليمي، فإنَّه قالَ: إن صَحِبَتْهُ كلمةُ {قُلْ} لم يدخل (1)، نحو: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ} (2) [الأعراف: 158].
 
الثانية: إذا خُوطِبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بخِطابٍ خاصٍّ، مثل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]، {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1]، لم يدخلْ معهُ غيرُهُ إلَّا بدليلٍ؛ خلافاً لَأبي حَنيفةَ وأحمدَ -رضيَ اللهُ تَعالى عنهُما-؛ لأنَّ الخطاب مقصورٌ عليه، غيرُ صالِحٍ لغيرِه (3).
قالوا: جرتْ عادةُ العربِ أنهم يخاطِبونَ الخَاصَّ (4)، ويُريدون بهِ العامَّ، فيخاطِبونَ الرئيسَ، ومقصودُهم بهِ (5) أتباعُه، كقول الله تعالى:
__________
(1) انظر ذلك في: "المستصفى" للغزالي (2/ 145)، و"شرح تنقيح الفصول" للقرافي (ص: 197)، و"سلاسل الذهب" للزركشي (ص: 234)، و"غاية الوصول" للأنصاري (ص: 74)، و"إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 129).
(2) من قوله: "وإن صحبته كلمة ... " إلى هنا زيادة من "ب".
(3) انظر: "المحصول" للرازي (2/ 379)، و"الإحكام" للآمدي (1/ 2/ 279)، و"البحر المحيط" للزركشي (3/ 189)، و"غاية الوصول" للأنصاري (ص: 74)، و"إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 129).
(4) في "أ": "بالخاص".
(5) "به" ليس في "ب".
(1/49)
1
{عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} [يونس: 83] أي: على خَوْفٍ من آلِ فِرْعون، وكقوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94]، وكقولهم: دخلَ الأميرُ البلدَ قَهْراً، ويريدونَه مَعَ جُنْدِه.
 
الثالثة: المتكلمُ هلْ يدخلُ في كلامِهِ؛ كالرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فيهِ مذهبانِ للشافعيَّةِ (1).
 
الرابعة: الكفارُ هل يَدْخُلون في الخِطاب بِفُروعِ الشَّرْعِ؟ فيه مذاهب، يُفَرَّقُ في الثالثِ بينَ المَنْهِيّات، فيدخلونَ فيها، وبينَ المأموراتِ، فلاَ يَدْخُلون فيها، والظاهرُ دُخولُهم؛ لظاهِرِ الآياتِ الواردَةِ في القرآن، ولِصَلاحِيَةِ اللفظِ لهم (2).
__________
(1) توضيح هذه المسألة أن يقال: المخاطِب -بكسر الطاء- هل يدخل في عموم خطابه أم لا؟ فذهب جمهور العلماء إلى أنه يدخل في خطابه، ولا يخرج عنه إلا بدليل، وهو الصحيح من مذهب الشافعية.
وقال الغزالي: قال قوم: لا يندرج تحت خطابه، بدليل قوله تعالى: {وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَئٍ}، ولا يدخل هو تعالى تحته. قال الغزالي: وهذا فاسد؛ لأن القرينة هي التي أخرجت المخاطب مما ذكروه.
انظر: "المستصفى" للغزالي (2/ 148)، و"الإحكام" للآمدي (1/ 2/ 296)، و"المحلي مع حاشية البناني" (2/ 429)، و"البحر المحيط" للزركشي (3/ 192)، و"إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 130).
(2) اتفق العلماء على أن الكفار مخاطبون بأصول الشرع، وهو الإيمان.
واتفقوا على خطابهم بالمعاملات، كالبيع والشراء والرهن وغيرها.
واتفقوا على أنهم مخاطبون بالعقوبات، كالحدود والقصاص.
واختلفوا في غير ذلك؛ كالصلاة والصيام والحج وإيقاع الطلاق والكفارات وغيرها، فذهب جمهور العلماء إلى أنهم مخاطبون بها، وخالف في ذلك جمهور الحنفية.
انظر: "المستصفى" للغزالي (1/ 17)، و "المحصول" للرازي (2/ 237)،=
(1/50)
1
الخامسة: العبيدُ يَدْخلون في الخِطاب للأحرار؛ كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 153] {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] بِوَضْعِ اللُّغَةِ؛ لصلاحِ اللَّفْظِ لهمْ.
وهل يَدْخلون بعُرْفِ الشرع؟ اختلفَ أهلُ العِلمِ في ذلك (1):
فقال قوم: يَدْخلون، وصحّحَ في "جَمْعِ الجَوامِعِ" (2) دخُولَهُمْ في مَحَلِّ الإطلاقِ، ولا يَخْرُجون إلا بدليل.
وقال قَومٌ: لا يدخلونَ إلا بِدليل (3).
وقال أبو بكرٍ الرَّازِيُّ منَ الحَنَفِيَّةِ: إنَ كانَ الخطابُ لحقِّ الله تعالى، دخلوا، وإن كانَ لحقِّ العِباد، فلا يَدْخُلون (4).
والصَّحيحُ هو الأَوَّلُ، والدَّليُل عليه بعدَ اللغةِ استقراءُ آياتِ القرآنِ الكريمِ، فكلُّ حكمٍ أَطْلَقَ الكِتابُ الخِطَابَ، دَخَلوا فيه، ولم يُفْرَدوا فيه بالذِّكْرِ.
__________
= و"شرح تنقيح الفصول" للقرافي (ص: 162)، و"التمهيد في تخريج الفروع على الأصول" للإسنوي (ص: 126)، و"سلاسل الذهب" للزركشي (ص: 151)، و"البحر المحيط" (1/ 398)، و"إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 10).
(1) انظر هذه المسألة في: "اللمع" للشيرازي (ص: 60)، و"البرهان" للجويني (1/ 356)، و"الإحكام" للآمدي (1/ 2/ 289)، و"البحر المحيط" للزركشي (3/ 181)، و"إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 128).
(2) انظر: "جمع الجوامع مع المحلي وحاشية البناني" (1/ 427).
(3) قال أبو إسحاق الشيرازي في "اللمع" (ص: 21) وهذا خطأ؛ لأن الخطاب يصلح لهم، كما يصلح للأحرار.
(4) نسبه إليه الآمدي في "الإحكام" (1/ 2/ 289)، والأصفهاني في "بيان المختصر" (2/ 530)، والزركشي في "البحر المحيط" (3/ 182)، والشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص: 128).
(1/51)
1
كقولِ اللهِ تبَارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178].
وكقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183].
وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23].
وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]، وغيرِ ذلكَ من الآياتِ الكريماتِ.
وأَيُّ موطِنٍ لا يَدْخلونَ فيه، فإنَّهُ لا بُدَّ من بيانِ تَخْصيصِهم بالحُكمِ، إما في (1) الكِتاب، أو السنة؛ كقولِ الله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، وكبيانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عدَمَ وجوبِ الجُمُعَةِ على العَبْد (2)، وغيرِ ذلك.
وكلام الشافعي في "الأم" (3) يدل على ما قلته.
السادسة: النِّساءُ لا يَدْخُلْن في جَمْع الرّجالِ؛ لأنَّ لهنَّ لَفْظاً مَخْصوصاً، كَما أَن للرّجالِ لَفْظاً مَخْصوصاً. وقال الحنفيةُ وابنُ داودَ: يَدْخُلْنَ؛ لكثرةِ استعمالِ ذلكَ (4)، ورجَّحَهُ بعضُ أهلِ اللُّغة (5).
__________
(1) "في" ليس في "ب".
(2) انظر تخريجه فيما يأتي.
(3) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 189) وما بعدها.
(4) انظر: "اللمع" للشيرازي (ص: 21) قال: وهذا خطأ؛ لان للنساء لفظاً مخصوصاً، كما أن للرجال لفظاً مخصوصاً، فكما لم يدخل الرجال في خطاب النساء، لم تدخل ال