تفسير جزء عم للشيخ مساعد الطيار

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: تفسير جزء عم للشيخ مساعد الطيار
المؤلف: د مساعد بن سليمان بن ناصر الطَّيَّار
سورة النبأ
آياتها: 40
(1/19)
 
 
سورة النبأ
بسم الله الرحمن الرحيم
 
عم يتساءلون * عن النبأ العظيم * الذي هم فيه مخلفون * كلا سيعلمون * ثم كلا سيعلمون * ألم نجعل الأرض مهدا * والجبال أوتادا * وخلقناكم أزواجا * وجعلنا نومكم سباتا * وجعل الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا * وبنينا فوقكم سبعا شدادا * وجعلنا سراجا وهاجا * وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا * لنخرج به حبا ونباتا * وجنات ألفافا * إن يوم الفضل كان ميقاتا * يوم ينفخ في الصور فتأتون فواجا * وفتحت السماء فكانت أبوابا * وسيرت الجبال فكان سرابا * إن جهنم كانت مرصادا * للطاغين مئابا * لبثين فيها أحقابا * لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا * جزاء وفاقا * إنهم كانوا لا يرجون حسابا * وكذبوا بآياتنا كذابا * وكل شيء أحصيناه كتبا * فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا * إن للمتقين مفازاً * حدائق وأعنابا * وكواعب أترابا * وكأساً دهاقا * لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا * جزاء من ربك عطاء حسابا * رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا * يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا * ذلك اليوم الحق فمن شاء أتخذ إلى ربه مئاباً * إنا أنذرنكم عذابا قريباً يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت تراباً} .
(1/20)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النبأ
... 1- قوله تعالى: {عم يتساءلون} أي: عن أي شيء يسال كفار مكة بعضهم بعضاً.
2- قوله تعالى: {عن النبأ العظيم} ؛ أي: يتساءلون عن الخبر العظيم الذي استطار أمره بينهم، وهو القرآن، ويحتمل أن يكون البعث (1) .
3- قوله تعالى: {الذي هم فيه مختلفون} ؛ أي: صاروا فيه فرقاً في حقيقة هذا النبأ وصحته (2) .
4- 5- قوله تعالى: {كلا سيعلمون * ثم كلا سيعلمون} ؛ أي: ليس الأمر (3) كما يزعم هؤلاء المختلفون في النبأ، وسيعلمون عاقبة اختلافهم
_________
(1) يشهد لمن قال: القرآن، وهو مجاهد، أن الاختلاف وقع فيه بين كفار مكة، فوصفوه بأنه شعر، وكهانة، وكذب، وغيرها، وهو أعلم من القول الثاني؛ لأن البعث جزء من أخبار القرآن الذي وقع فيه الاختلاف.
(2) يلاحظ أن الله سبحانه وتعالى لم ينص على النبأ بعينه، وإنما اكتفى بذكر وصفه: بأنهم اختلفوا فيه، وهذا سبب في وقع الخلاف، ولك أن تقول: إن سبب الاختلاف التواطؤ، أو ذكر وصف لموصوف محذوف، وهذا من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى قولين، والله أعلم.
(3) كذا فسر الطبري لفظ "كلا"، وهو من أفضل التعبيرات عن معناها، وهي هنا بمعنى الرد ويعبر عنه بعض العلماء بالردع والزجر، وهي تكون كذلك إذا وقع قبلها باطل أو خطأ من كلام أو فعل، والله أعلم.
(1/21)
 
 
فيه (1) ، وهذا وعيد للمختلفين في النبأ، وكرر الوعيد لتأكيده.
6- عدد الله في هذه الآيات نعمة الكونية على الناس، والتي لو تفكر فيها هؤلاء الكفار، لما وقع منهم اختلاف في النبأ العظيم الذي جاءهم من عند الله، فقال تعالى: {ألم نجعل الأرض مهدا} ، وهو استفهام على سبيل التقرير، معناه: أن الله جعل هذه الأرض البسيطة مهيئة للناس كالمهاد الذي يمتهدونه ويفترشونه.
7- قوله تعالى: {والجبال أوتادا} ؛ أي: وجعلنا الجبال الراسيات كالوتد الذي تشد به أطناب الخيمة، فتمسك الأرض كي لا تميد بأهلها كما تمسك الأوتاد الخيمة فلا تسقط.
8- قوله تعالى: {وخلقناكم أزواجاً} ؛ أي: أنشأناكم وقدرناكم وجعلناكم أيها الناس من ذكر وأنثى.
9- قوله تعالى: {وجعلنا نومكم سباتا} ؛ أي: جعلنا نومكن راحة ودعة لكم، تهدأون به وتسكنون (2) .
10- قوله تعالى: {وجعلنا الليل لباسا} ؛ أي: جعلناه يغشاكم بظلامه،
_________
(1) عبر بعض المفسرين عن ذلك أنهم سيعلمون حقيقة النبأ، وذلك القول أعلم، لأنهم إذا علموا عاقبتهم فيه، فإنهم سيكونون قد علموا حقيقته لزوماً، والله أعلم.
(2) يذكر بعض المتأخرين ممن يحرص على تكثير الاحتمالات اللغوية في معاني الآي أقوالاً خمسة في معنى السبات، وهو تكثر لا داعي له؛ لأن أشهر المعاني في مادة سبت: الراحة، قال ابن فارس في مقاييس اللغة (3: 124) : السين والباء والتاء أصل واحد يدل على راحة وسكون. أما تفسيره: بالموت، أو النوم، أو التمدد، أو القطع، فإنها وإن كانت صحيحة لغة، فإنها مما تنبو عنها فصاحة القرآن في هذا الموضع، كما أن سياق الآية الوارد في مجال الامتنان يردها، والله أعلم.
(1/22)
 
 
فيكون لكم كاللباس الذي سيتركم (1) ، فتستريحون فيه بعد عناء التقلب في النهار.
11- قوله تعالى: {وجعلنا النهار معاشا} ؛ أي: جعلنا لكم النهار المبصر وقتاً للتعيش؛ أي: طلب المعاش الذي تقوم به حياتكم.
12- قوله تعالى: {وبنينا فوقكم سبعا شدادا} ، أي: رفعنا فوقكم بناء: سبع سماوات محكمة قوية البنيان، ليس فيهافطور، ولا خلل في الخلق.
13- قوله تعالى: {وجعلنا سراجا وهاجا} ؛ أي: جعلنا في السماء الشمس كالسراج المتقد المضيء.
14- قوله تعالى: {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا} ؛ أي: أنزلنا من السحاب (2) مطراً غزيراً.
_________
(1) قال قتادة: لباساً: سكناً، وهذا تفسير بالمعنى، وكأنه اعتبر قوله تعالى: {وجعل الليل سكنا} [الأنعام: 96] ، وقوله تعالى: {هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه} [يونس: 67] ، وهو يؤول إلى معنى اللباس بالنظر إلى التغطية والستر فيهما، والله أعلم.
(2) ورد هذا عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وعن أبي العالية، والضحاك، والربيع بن أنس، وسفيان. وفسرها مجاهد وعكرمة وقتادة ومقاتل وابن زيد بأنها الرياح، وعليه فقوله: "من" يكون بمعنى الباء؛ أي: أنزلنا بالرياح، والصواب أنها السحاب، وعليه تبقى "من" على بابها، وهو أولى؛ لأنه إذا تعرض ظاهر الآية احتمال التأويل، قدم الظاهر. ... =
(1/23)
 
 
15- قوله تعالى: {لنخرج به حبا ونباتا} أي: أنزلنا المطر من السحاب لأجل أن نخرج الحب، وهو شامل الجميع الحبوب؛ كالقمح والشعير والأرز، وغيرهما، ونخرج النبات، وهو ما عدا الحبوب مما ينبت في الأرض؛ كالنخيل والرمان والأعناب، وغيرها.
16- قوله تعالى {وجنات ألفافا} (1) ؛ أي: ونخرج بالمطر البساتين (2) التي التفت أغصان أشجارها بعضها على بعض (3) .
17- قوله تعالى: {إن يوم الفصل كان ميقاتا} ؛ أي: إن يوم القيامة كان موعدا مؤقتا للجمع بين هذه الخلائق، ليفصل الله فيه بينها (4) .
18- قوله تعالى: {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا} ؛ أي: يوم الفصل هو يوم ينفخ إسرافيل عليه اسلام النفخة الثانية في البوق، فتجيئون إليه الناس زمراً زمر، وجماعات جماعات (5) .
_________
(1) ويبقى أنه يستفاد من تفسير هؤلاء صحة إطلاق المعصرات على الرياح من حيث اللغة، لوروده عنهم، وإن لم تحتمله الآية.
وقد ورد عن الحسن وقتادة تفسير غريب، وهو أن المعصرات: السماء، وهذا إن حمل على التفسير على المعنى، كان له وجه، ويكون تفسيرهما على إرادة الجهة التي تأتي منها المعصرات، لا أنه تفسير مطابق لمعنى المعصرات؛ كما جاء في قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ما طهورا} [الفرقان: 48] ، والله أعلم.
ويكون الاختلاف من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى. وسبب الاختلاف هنا المعصرات وصف لموصوف محذوف، وهو محتمل لأحد المعنيين المذكورين، ويترجح أحدهما بدلالة ظاهر الآية.
() ... في هذه الآيات (6-16) أدلة على البعث، أنظر في تفصيلها: تتمة أضواء البيان، لمحمد عطية سالم.
(2) سميت البساتين جنات، لأنها تجن من بداخلها؛ أي: تستره، وهذا هو أصل معنى هذه المادة في لغة العرب.
(3) عبر بهذا ابن عباس من طريق العوفي، ومجاهد، وقتادة من طريق سعيد بن أبي عروبة ومعمر بن راشد، وابن زيد، وسفيان. وجاء عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: مجتمعة، وهو تفسير بالمعنى؛ لأن من لازم التفافها أن تكون مجتمعة.
(4) أكد الخبر بـ "إن" لأنه مما كان يخالف فيه المشركون، وقد وقعت هذه الآية بعد قوله تعالى: {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا * لنخرج به حبا ونباتا * وجنات الفافا} [النبأ: 14-16] ، للمشابهة التي بين خروج النبات وخروج الناس من قبورهم يوم البعث.
(5) جاء الفعل " ينفخ " مبنياً للمفعول اهتماماً بالحديث، وهو النفخ في الصور، وطوي ذكر قيامهم من قبورهم، وسيرهم إلى أرض المحشر تنبيها على سرعة هذا الحدث، وأن الفاصل بين البعث والإتيان يسير جداً، والله أعلم.
(1/24)
 
 
19- قوله تعالى: {وفاتحت السماء فكانت أبواباً} ؛ أي: صار في السماء فروج على هيئة الأبواب، حتى أن الناظر إليها يراها أبواباً مفتحة (1) .
20- قوله تعالى: {وسيرت الجبال فكانت سراب} ؛ أي: يجعل الله هذه الجبال الأوتاد للأرض تسير، حتى تصل إلى مرحلة الهباء الذي يتطاير، فيحسبه الرائي جبلاً، وإذا هو كالسراب الذي يراه الرائي على أنه ماء، وهو ليس كذلك (2) .
21- قوله تعالى: {إن جهنم كانت مرصادا} ؛ أي: إن نار جهنم كانت ذات ارتقاب، ترقب من يجتازها وترصدهم (3) .
_________
(1) بنى الفعل " فتحت " للمعفول للاهتمام بالحديث، وقرئ بتشديد التاء، وفيه مبالغة: إما لكثرة الفتح، وإما لشدته. وجاء الفعل ماضياً، والحدث لم يقع بعد، لتأكد وقوعه وتحققه، وفي هذا الحدث فساد لنظام هذا الجرم العظيم، وهو إيذان بنهاية هذا العالم الفاني.
وقد ورد هذا المعنى في غير ما آية؛ كقوله تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمم ونزل الملائكة تنزيلاً} [الفرقان: 25] ، وقوله: {فإن أنشقت السماء فكانت وردة كالدهان} [الرحمن: 37] ، وقوله: {وانشقت السماء فهي يومئذ واهبة} [الحافة: 16] ، وقوله: {وإذا المساء فرجت} [المرسلات: 9] وقوله: {إذا السماء انفطرت} [الانفطار: 1] ، وقوله: {إذا السماء انشقت} [الانشقاق: 1] .
(2) بُنى الفعل للمفعول للاهتمم بالحدث، وقد ذكر الله في هذه الآية حالين للجبال في هذا اليوم، وهما التسيير، وتحولهما إلى هيئة السراب، وهي مرحلة الهباء والعهن الذي ذكره الله بقوله: {وبست الجبال بسا * فكانت هباء منبثا} [الواقعة: 5-6] ، وقوله: {وتكون البجال كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] ، وقوله: {وكانت الجبال كتيبا مهيلا} [المزمل: 14] ، وبين هذين الحالين أحوال تمر بها في هذا اليوم، كداك، والنسف، والرجف، ذكرها الله في مواضع من القرآن.
(3) لما كان المقام مقام وعيد وتهديد للمختلفين في النبأ قدم ذكر جهنم، التي هي اسم من أسماء دار العذاب الأخروي، والمرصاد: مكان الرصد والترقب، وفي هذا إشارة إلى ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الصراط الذي وضع على متن جهنم، فيمر الناس عليه، فتختطف النار بكلاليبها وخطاطيفها أهلها الذين حكم الله عليهم بدخولها، وقد أشار السلف في تفسير هذه الآية إلى المرور على النار؛ كالحسن، وقتادة، وسفيان الثوري.
(1/25)
 
 
22- قوله تعالى: {للطاغين مئابا} ؛ أي: إن جهنم للذين تجاوزوا الحد في العصيان حتى بلغوا الكفر، مرجع ومصير يصيرون إليه وستقرون فيه.
23- قوله تعالى: {لابثين فيها أحقابا} أي: إن هؤلاء الطاغين ماكثون ومقيمون في النار أزماناً طويلة تلو أزمان لا انقطاع لها (1) .
_________
(1) ورد عن بعض السلف - كالحسن وقتادة والربيع بن أنس - تحديد مدة الحقب، ومع ذلك نبهوا على أن هذه الأحقاب تتوالى على الكافرين فلا تنتهي، وهذا يرفع ما يورده بعض من استدل على فناء النار بهذه الآية، وذلك أنه كان للحب مدة محددة، لكن الله أطلق هذه الأحقاب فلم يقيدها بعدد، فصدق عليهم أنهم يمكثون في النار أحقاباً لا حصر لها، كما لو قيل: لابثين فيها سنين، فهذا لا يمنع الخلود، فهم يصدق عليهم أنهم يلبثون سنين، لكن لا حصر لها.
وفيه توجيه آخر ذكره الطبري، فقال: وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك: لابثين فيها أحقاباً في هذا النوع من العذاب، وهو أنهم: {لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا} [النبأ: 24-25] ، فإذا انقضت تلك الأحقاب، صار لهم من العذاب أنواع غير ذلك؛ كما قال جل ثناؤه في كتابه: {هذا وإن للطاغين لشر مئاب * جهنم يصلونها فبأس الهماد * هذا فليذوقوه حميم وعشاق * وءاخر من شكله أزواج} [ص: 55- 58] ، وهذا القول عندي أشبه بمعنى الآية.
وقد ذكر الإمام الطبري عن مقاتل بن حيان أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} [النبأ: 30] ، ثم قال: "ولا معنى لهذا القول؛ لأن قوله: {لابثين فيها أحقابا} [النبأ: 23] ، ثم قال: " ولا معنى لهذا القول؛ لأن قوله: {لابثين فيها أحقابا} [النبأ: 23] خبر، والأخبار لا يكون فيها نسخ، وإنما النسخ في الأمر والنهي ".
ولو حُمل كلام مقاتل على مفهوم النسخ عند السلف - وهو مطلق الرفع لشيء من معنى الآية أو حُكمها، وهو أعم من المصطلح الذي ذكره الطبري - لما كان في الأمر إشكال، ويكون مراد مقاتل أن الآية الأخرى تبين أنهم إذا انتهوا من العذاب في هذه الأحقاب، فإنه يزاد عليهم العذاب بعد ذلك، وهذا هو معنى التوجيه الثاني الذي ذكره الطبري واختاره.
ويظهر من هذا المثال وغيره أ، الإمام الطبري رحمه الله تعالى لم يكن يُعمل مصطلح السلف في النسخ، ولذا كان يعترض على مثال هذا المثال، وفي هذا فائدة علمية ذات خطر، وهي أن تعرف مصطلح كل قوم، ولا تحمل كلامهم على مصطلح غيرهم، فتقع في الخطأ، وأعظم ما يكون الخطأ إذ حملت ألفاظ القرآن والسنة على المصطلحات حادثة مبتدعة، فتقع بذلك الطوام، وتحرف نصوص الكتاب والسنة. انظر في ذلك: الصواعق المرسلة، لابن القيم، تحقيق: الدخيل الله (1: 189 - 192) .
(1/26)
 
 
24- قوله تعالى: {لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا} ؛ أي: لا يحسون ولا يطعمون فيها هواء يبرد حر السعير عنهم (1) ، ولا يشربون شيئاً يروى عطشهم الذي نتج عن هذا الحر.
25- قوله تعالى: {إلا حميما وغساقا} ؛ أي: لا يذوقون البرد والشراب، لكن يذوقون الماء الذي بلغ النهاية في حرارته، وصديد أهل النار المنتن الذي بلغ النهاية في برودته (2) .
_________
(1) ذكر في معنى البرد قول آخر، وهو أن يكون البرد النوم، وقال عنه الطبري: "وقد زعم بعض أهل العلم بالكلام العرب - يعني: أبا عبيدة معمر بن المثنى - أن البرد في هذا الموضع النوم، وأن معنى الكلام: لا يذوقون فيها نوماً ولا شراباً، واستشهد لقيله ذلك بقول الكندي:
بردت مراشفها على فصدني ... عنها وعن قبلاتها البرد
يعني بالبرد: النعاس.
والنوم، وإن كان يبرد غليل العطش، فقيل له من أجل ذلك: البرد، فليس هو بأسمه المعروف، وتأويل كلام الله على الأغلب من معروف كلام العرب دون غيره".
وقد نسب هذا القول لابن عباس (تفسير البغوي) ، ومجاهد والسدي (تفسير الماوردي) ، وهو قول يحتمله السياق، غير أنه مترجح للسبب الذي ذكره الطبري، وإذا كان كذلك، فإن سبب الاختلاف: الاشتراك اللغوي، ويكون من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى.
(2) اختلفت عبارة السلف في تفسير الغساق، فقال بعضهم: الغساق: هو ما سال من صديد أهل النار، ورد ذلك عن عطية العوفي، وعكرمة، وأبي رزين، وإبراهيم النخعي، وابن زيد. وعن عبد الله بن بريدة أن المنتن بلاطخارية [أي بلغة أهل طخارستان} . قال بعضهم: الغساق، الزمهرير، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وعن مجاهد من طريق ليث، وعن أبي العالية، والربيع ابن نس.
ومادة (غسق) فيها هذا المعنيان، أما الغسق بمعنى البرد، فمنه غسق الليل، سمى بذلك لبرودته. وأما الغسق بمعنى الصديد المنتن الذي يسيل من أهل النار، فمن قولهم غسق الجرح: إذا سال فيحه. وعلى هذا، فالتفسيران صحيحان، وجائز اجتماعهما في معنى الغساق، ويكون من عذاب النار الذي يعذب الله به الكفار. وهذا هو ترجيح الإمام الطبري.
وعلى هذا فسبب الاختلاف: الاشتراك اللغوي، وهو من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى.
(1/27)
 
 
26- قوله تعالى: {جزاء وفاقا} ؛ أي ك ثواباً موافقاً لأعمالهم (1) .
27- قوله تعالى: {إنهم كانوا لا يرجون حسابا} ؛ أي: إن هؤلاء الطاغين كانوا في الدنيا لا يخافون (2) أن يجازيهم أحد على سوء أعمالهم، فوقعت منهم هذه الأعمال التي جوزوا عليها جزاء وفاقا.
28- قوله تعالى: {وكذبوا بآياتنا كذابا} ؛ أي: كذبوا تكذيباً شديداً، ولم يصدقوا بالقرآن وغيره من الآيات.
29- قوله تعالى: {وكل شيء أحصيناه كتابا} ؛ أي: ضبطنا وعددنا عليهم كل شيء عملوه، فكتبناه وحفظناه عليهم (3) .
30- قوله تعالى: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا} ؛ أي: ذوقوا أيها الكفار الطاغون من عذاب هذه الأحقاب، فلن نزيدكم إلا عذاباً من جنس عذاب
_________
(1) كذا ورد عن السلف: ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والربيع من طريق أبي جعفر، وابن زيد الذي جعل نظيرها قوله تعالى: {ثم كان عاقبة الذين اسئوا السواى} [الروم: 10] .
(2) عبر مجاهد وقتادة عن جملة " لا يرجون" بأنهم لا يخافون، وقد ورد عن أهل اللغة كذلك (تهذيب اللغة: 11: 182) ، ويرد الإشكال في تفسير الرجاء الذي هو ترقب حصول أمر محبوب للنفس، بالخوف الذي هو ضد له. وتحرير ذلك: أن الرجاء بمعنى الخوف لا يأتي إلا منفيا؛ أي: لا يرجون (انظر: معاني القرآن للفراء: 1: 286) ، وإنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف؛ لأن الرجاء أمل قد يخاف ألم يتم (انظر: معاني القرآن، للزجاج: 2: 100) .
(3) يظهر من السياق أن الحديث عن كتاب الأعمال الذي تسجله الملائكة على العباد؛ لأن المقام -فيما يظهر- مقام محاسبة، وهم سيحاسبون على ما كتب عليهم، لا على عموم قدر الله سبحانه، ذلك أن بعض المفسرين جعل المحصى هنا كل قدر الله الذي في اللوح المحفوظ، والله أعلم.
(1/28)
 
 
النار (1) ؛ كما قال تعالى: {هذا فليذوقوه حميم وغساق * وءاخر من شكله أزواج} ، والعياذ بالله، وهذه الآية من أشد ما نزل في عذاب الكفار (2) .
31- قوله تعالى: {إن للمتقين مفازا} : عقب بذكر المتقين على عادة القرآن في ذكر الفريقين وأحوالهم ومآلهم. والمعنى: إن للذين اتقوا الله بطاعته وتجنب معصيته مكان فوز، وهو الجنة (3) .
32- قوله تعالى: {حدائق وأعنابا} ؛ أي: إن مكان الفوز هو هذه البساتين المسورة: إما بجدار، وإما بأشجار، وخص العنب لفضله عندهم.
33- قوله تعالى: {وكواعب أترابا} ؛ أي: ومن المفاز: الجواري المستويات الأسنان، اللواتي قد استدارت نهودهن وتفلكت.
34- قوله تعالى: {وكأسا دهاقا} ؛ أي: ومن المفاز: إناء الخمر، أو غيره، المملوء عن آخره، الذي يشربونه صافياً متتابعاً بلا انقطاع (4) .
_________
(1) هذه الآية مرتبطة بقوله: {جزاء وفاقا} [النبأ: 26] ، وما قبلها من قوله: {إن جهنم كانت مرصادا} [النبأ: 21] ، وتكون الجمل التي بينهما معترضة، والله أعلم. انظر: التحرير والنوير.
(2) أسند الطبري، عن عبد الله بن عمرو، قال: لم تنزل على أهل النار آية أشد من هذه: {فذوقوا فلن تزيدكم إلا عذابا} [النبأ: 30] قال: فهم في مزيد من العذاب أبداً.
(3) عبر ابن عباس عن المفاز بأنه المتنزه، وعبر عنه مجاهد وقتادة أنهم فازوا بأن نجوا من النار، وعند التأمل تجد أن نتيجة هذه الأقوال ومؤداها واحد، والله أعلم.
(4) عبر جمهور السف عن معنى الدهاق بالامتلاء، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق مسلم بن نسطاس وأبي صالح وعلي بن أبي طلحة، وعن الحسن من طريق أبي رجاء ويونس، وعن مجاهد من طريق منصور، وعن قتادة من طريق معمر وسعيد، وعن ابن زيد.
وورد تفسيرها بالمتتابعة عن أبي هريرة، وعن ابن عباس من طريق عمرو بن دينار، وعن سعيد بن جبير. وورد تفسيرها بالصافية عن عكرمة.
ويظهر أن التفسير الأول هو التفسير اللغوي الأشهر في معنى اللفظ، أما الثاني، فقد أشار الطبري إلى وجود أصله في اللغة، بقوله: "وقوله: {وكأسا دهاقا} [النبأ: 34] يقول: وكأساً ملأى متتابعة على شاربيها بكثرة امتلائها، وأصله من الدهق، وهو متابعة الضغط على الإنسان بشدة وعنف، وكذلك الكأس الدهاق: متتابعة على شاربيها بكثرة وامتلاء". (انظر في هذا المعنى: تاج العروس: مادة: دهق) .
وأما التفسير الأخير فلا تعطيه اللفظة ولا يخصها، بل هو تفسير مبني على ما عرف من صفاء شراب الجنة وعدم وجود الغش فيه، وهل يجوز أن تكون لغة من لغات العرب علمها عكرمة، ففسر بها؟! الله أعلم.
وعلى هذا يكون الاختلاف من قبيل اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، ويكون سبب الاختلاف في القولين الأولين: الاشتراك اللغوي.
(1/29)
 
 
35- قوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا} ؛ أي: لا يسمعون في الجنة التي هي المفاز (1) أي كلام باطل، ولا يكذب بعضهم بعضا (2) .
36- قوله تعالى: {جزاء من ربكم عطاء حسابا} ؛ أي: أثابهم الرب (3) بهذا المفاز وما فيه من النعيم المذكور مقابل أعمالهم الصالحة في الدنيا، ثم إنه تفضل عليهم بالعطاء الذي فيه الكفاية لهم (4) ، وهو عطاء من غير مقابل، وهو زيادة في الجنة يزيدها الرب لمن شاء من عباده.
37- قوله تعالى: {رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا} ؛ أي: هذا الرب الذي جازاهم وأعطاهم هو رب السموات والأرش وما بينهما، وهو الرحمن الذي بيده جلائل النعم، وفي هذا تنبيه على أنه أعطاهم ما أعطاهم بربوبيته وملكه ورحمته لهم.
وقوله: {لا يملكون منه خطابا} ؛ أي: هؤلاء الخلق المذكورون في
_________
(1) ذكر بعض المفسرين أن الضمير في {فيها} يعود إلى قوله: {وكأسا} ؛ أي: خمراً، ويجعل "في" بمعنى "الباء"؛ أي: بسببها، ويكون المعنى: لا يسمعون بسبب شرب خمر الجنة لغواً ولا كذاباً، والأولى أن يعود الضمير إلى الجنة المشار إليها بالمفاز، وعليه فلا تحتاج إلى هذا التأويل.
(2) هذا فيه دلالة على طيب أكلهم وشربهم فلا يحدث بسببه ما يصدر منه لغو ولا كذب كما هو الحال في الدنيا في شرب الخمر وغيره من المسكرات.
(3) في إيثار اسم الربوبية هنا ما يشعر بأن النعم من آثار ربوبية الله لعباده، والله أعلم.
(4) عل بعض المفسرين لفظ "حساباً" صفة للجزاء، ومن ثم يكون الحساب بمعنى المعدود؛ أي: جزاء معدوداً على قدر أعمالهم.
(1/30)
 
 
قوله: {السموات والأرض وما بينهما} لا يستطيعون مخاطبة الله في يوم القيامة إلا بإذنه، كما سيرد في الآية بعدها.
38- قوله تعالى: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا} ؛ أي: لا يملك الخلق من الله مخاطبته في هذا اليوم الذي يقوم فيه هذا الخلق العظيم -لروح (1) والملائكة - صفا، تعظيماً لله
_________
(1) وقع خلاف بين السلف في تحديد الروح على أقوال:
الأول: أنه ملك من أعظم المائكة، ورد ذلك عن ابن مسعود وابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، مع زيادة في تفصيل خلقه عند ابن مسعود.
الثاني: أنه جبريل، ورد ذلك عن الشعبي والضحاك من طريق سفيان وثابت. ... =
(1/31)
 
 
كما لا يستطيعون مكالمته إلا من قبل الله منه أن يتكلم،
 
وتكلم بالحق، وعمل به في الدنيا. وأعظم الحق قول لا إله إلا الله، والعمل بها (1) .
39- قوله تعالى: {ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مئابا} ؛ أي: ذلك اليوم الذي يقوم فيه الروح والملائكة، هو اليوم الكائن الثابت الذي لا شك فيه، فمن أراد منكم أيها العباد النجاة في ذلك اليوم، فليتخذ من الأعمال الحسنة ما يكون لا سبيلاً ومرجعاً يرجع به إلى الله سبحانه (2) .
40- قول تعالى: {إنا أنذرناكم عذاباً قريباً يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا} ؛ أي: إنا حذرناكم أيها لعباد (3) عذاباً قد دنا منكم وقرب، وذلك كائن يوم ينظر المرء
منكم إلى أعماله التي قدم بها إلى الله، ويوم يتمنى الذي لم يؤمن بربه وكفر به أن لو جعل تراباً، كما يصير للبهائم في ذلك اليوم (4) ، والله أعلم.
_________
(1) الثالث: خلق من خلق الله في صورة آدم، ورد ذلك عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح ومسلم وسليمان، وأبي صالح من طريق إسماعيل ابن أبي خالد، والأعمش.
الرابع: أنهم بنوا آدم، ورد ذلك عن الحسن وقتادة من طريق معمر وسعيد.
الخامس: أنه أرواح بني آدم، عن ابن عباس من طريق العوفي.
السادس: أنه القرآن، عن زيد بن أسلم من طريق ابنه عبد الرحمن، واستشهد لذلك بقوله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52] .
وقال الطبري - معلقاً على هذه الأقوال -: "والروح خلق من خلقه، وجائز أن يكون بعض هذه الأشياء التي ذكرت، والله أعلم أي ذلك هو، ولا خبر بشيء من ذلك أنه المعني به دون غيره يجب التسليم له، ولا حجة تدل عليه، وغير ضائل الجهل به ".
والروح فيما يظهر من هذه الأقوال أمر غيبي، والمرجع فيه إلى الأثر عن المعصوم في خبره، ولم يرد إسناد شيء من هذه الأقوال إليه، ويظهر على بعضها أنها اجتهاد من قائله نظر فيه: إما القرآن؛ كالقول بأنه جبريل؛ لوروده صراحة في غير هذا الموضع بهذا الوصف؛ كقوله تعالى: {نزل به الروح الأمين} [الشعراء: 193] ، والقول بأنه القرآن لوروده في قوله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} [الشورى: 52] ، وإما لدلالة عقل وإطلاق لغوي؛ كمن قال: هم بنو آدم، أو أرواحهم، في مقابل ذكر الملائكة.
أما القول الأول الذي ورد عن ابن عباس وابن مسعود فمما لا يمكن أن يعلم إلا من طريق الوحي، ومن القواعد المقررة عند أهل العلم أن الصحابي إذا فسر شيئاً غيبياً، فإن الأصل قبول قوله، ما لم يرد ما يدل على أنه لم يتلقه من الرسول صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
والملاحظ أن ابن جرير لم يعمل بهذا في هذا الموضع، كما أنه رحمه الله تعالى لا يميز -في الغالب- بين طبقات السلف الثلاث (الصحابة والتابعين وأتباعهم) في التعامل معهم وترجيح أقوالهم؛ أي: لا يقدم قول الصحابي دائماً، بل قد يختار عليه قول التابعي، أو تابع التابعي، وهذا المنهج يحتاج إلى دراسة.
() ... قال مجاهد في تفسير {صوابا} : "قال حقا في الدنيا وعمل به". وفسر الصواب بلا إله إلا الله، كل من ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة وأبي صالح مولى أم هانئ، وعكرمة من طريق الحكم بن ابان.
(2) ورد عن قتادة عن طريق معمر: {مئابا} سبيلاً. وهذا تفسير بالمعنى؛ لا، المآب: المرجع، والسبيل: الطريق إلى ذهاب المآب، فلا وصول إلى هذا المرجع إلا بسلوك السبيل، وهو الأعمال الصالحة، ففسر قتادة بلازم اللفظ، لا بمطابقه، والله أعلم.
(3) قال الحسن البصري في {المرء} : المرء المؤمن. وكأنه لما ذكر الكافر بعده، جعل ذلك مقابلا له، ولو فسر المرء بعمومه فشمل الكافر والمؤمن، لكان صواباً، والله أعلم.
(4) وردت آثار في ذلك عن عبد الله بن عمرو، وأبي هريرة، وأبي الزناد، وقد أورد الطبري في ذلك حديثاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم أسنده أبو هريرة، والله أعلم.
(1/32)
 
 
سورة النازعات
آياتها: 46.
(1/33)
 
 
سورة النازعات
بسم الله الرحمن الرحيم
 
والنازعات غرقا * والناشطات نشطا * والسابحات سبحا * فالسابقات سبقا * فالمدبرات أمرا * يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة * أبصرها خاشعة * يقولون أءنا لمردودون في لحافرة * أءذا كنا عظاما نخرة * قالوا تلك إذا كرة خاسرة * فإنما هي زجر وحده * فإذاهم بالساهرة * هل أتاك حديث موسى * إذا ناداه ربه بالواد المقدس طوى * أذهب إلى فرعون إنه طغى * فقل هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى * فأراءه الآية الكرى* فكذب وعصى * ثم أدبر يسعى * فحسر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى * فأخذه الله نكال الأخره والأولى * إن في ذلك لعبرة لمن يخشى * ءأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحها * والأرض بعد ذلك دحها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعا لكم ولأنعامكم * فإذا جاءت الطامة الكبرى * يوم يتذكر الإنسان ما سعى * وبرزت الجحيم لمن يرى * فأما من طغى * وءاثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإنه الجنة هي المأوى *
يسألونك عن الساعة أيان مرساها * فيم أنت من ذكراها * إلى ربك منتهاها * إنما أنت منذر من يخشاها * كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحها *
(1/34)
 
 
سورة النازعات
1- قوله تعالى: {والنازعات غرقا} : يقسم ربنا الملائكة التي تجذب أرواح الكفار من أجسادهم عند الموت جذباً شديداً، كما يشد الرامي بالقوس السهم إلى آخر مداه (1) .
_________
(1) وقع خلاف في تفسير النازعات بين مفسري السلف على أقول:
1- الملائكة التي تجذب روح الكافر من أقاصي بدنه، عن ابن مسعود من طريق مسروق، وابن عباس نم طريق العوفي وأبي صالح، وعن مسروق، وسعيد بن جبير.
2- الموت ينزع النفوس، وهو قول مجاهد من طرق ابن أبي نجيح.
3- النجوم تنزع من أفق إلى أفق، وهو قول الحسن من طريق أبي العوام، وقتادة من طريق معمر.
4- القسي تنزع بالسهم، وهو قول عطاء.
5- النفس حين تنزع، وهو قول السدي من طريق سفيان.
وإذا تأملت هذه الأقوال، فإنك ستجدها جاءت على دلالة أسم فاعل؛ أي أنها نازعة، عدا قول السدي الذي حمل اسم الفاعل على المفعول، وفيه نظر؟
كما أنها جعلت فعل النازعات من قبيل المتعدي؛ كقوله تعالى: {تنزع الناس} ، سوى قول من قال هي النجوم، فالفعل عنده لازم لا يحتاج إلى مفعول.
وجاء اسم الفاعل، ولم يذكر مفعوله لأن النزع هو المقصود في المقام، كما جاء جمعاً لتأويله بالجماعات النازعات.
وهذا من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، وسبب هذا الخلاف أن هذه وصاف لم يذكر موصوفها، وهي صالحة لأن تحمل على كل ما قيل فيها - كما قال ابن جرير - وعليه فهي من قبيل المتواطئ، غير أن الراجح من أقوال المفسرين، أن النازعات وما بعدها من الأوصاف هي الملائكة، وعلة ذلك أن المفسرين أجمعوا على أن المدبرات هي الملائكة، ودلت الفاء في قوله تعالى {فالمدبرات أمرا} على أنها متفرعة عن جملة: {فالسابقات سبقا} [النازعات: 4] ، وهذه الجملة متفرعة عن جملة: {والسابحات سبحا} [النازعات: 3] ، وعليه فهذه الأوصاف الثلاثة في الملائكة، وكون الوصفين الأولين فيهما أيضاًَ أولى؛ لاتحاد هذه الأوصاف في موصوف واحد. وتفريق الأوصاف على أجناس مختلفة، مع هذا التأويل غير متمكن، ولا دليل عليه، والله أعلم. (انظر: التبيان في أقسام القرآن: 85) .
(1/35)
 
 
2- قوله تعالى: {والناشطات نشطا} : ويقسم بالملائكة أن تسل روح المؤمن من جسه بخفة وسهولة (1) .
2-
3- قوله تعالى {والسابحات سبحا} : ويقسم بالملائكة التي تجوب آفاق السماء، وتنزل إلى الأرض بأمر الله (2) .
_________
(1) اختلف السلف في النشاط على أقوال:
1- الملائكة، وهو قول ابن عباس من رواية العوفي، وهو الراجح كما سبق في النازعات. ... =
(2) لموت: وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح. وقد أدخل ابن جرير ابن عباس والسدي في من قال بهذا القول، ولا يصح دخولها فيه؛ لأن عبارتهما مجملة، وقد صرح السدي بالسند نفسه في تفسير "النازعات" أنها النفس، والأولى أن يحمل هنا عليها، فيكون قوله في الناشطات كقوله في النازعات. أما ابن عباس فقد ورد بالسند نفسه في تفسير النازعات، وجعله تحت قول من قال هي الملائكة، مع أن عبارته مجملة كذلك، حيث قال: النازعات: حين تنزع نفسه، والناشطات: حين تنشط نفسه، وهذا مشكل، والله أعلم.
3- أنها النجوم تنشط من أفق إلى أفق، وهو قول قتادة من طريق معمر.
4- أنها الأوهاق، وهي الحبل يرمي في أنشوطة، فتؤخذ به الدابة أو الإنسان، وهو قول عطاء.
() ... السبح يطلق على العوم في الماء والمرور في السماء؛ كما قال تعالى: {كل في فلك يسبحون} [الأبنياء: 33] وقد اختلف السلف في المراد بالسابحات على أقوال:
1- الملائكة، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح. وقد ذكر ابن كثير أنه قول ابن مسعود، وروي عن علي ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي صالح.
2- أنها الموت يسبح في جسد الإنسان، وهو قول مجاهد أيضاً، وقد اختلف عليه، ويظهر أن هذا القول هو اختياره؛ لأنه مر بالأسانيد نفسها في تفسير النازعات والناشطات وأنها الموت، وكون هذا أشبه بما قبله عنده أظهر من كونه قال بغيره ما دام قد ورد عنه والله أعلم. وقد علق أبو جعفر الطبري على هاتين الروايتين بقوله: "هكذا وجدته في كتابي"، وهذا يدل على استكشاله في الرواية التي عنده عن مجاهد، والله أعلم.
3- أنها النجوم تسبح في فلكها، وهو قول قتادة من طريق معمر وسعيد.
أنها السفن تسبح في الماء، وهو قول عطاء.
(1/36)
 
 
4- قوله تعالى: {فالسابقات سبقا} : عطف السابقات على السابحات بالفاء، ومعنى ذلك: أن السابقات من جنس السابحات، وهي الملائكة التي يسبق بعضها بعضاً في تدبير أمر الله تعالى (1) .
5- قوله تعالى: {فالمدبرات امرا} : أجمع المفسرون على أنها الملائكة التي تنفذ ما أمر الله به من قضائه (2) ؛ كالملائكة الموكلون بأعمال العباد، والموكلون بالنار، والموكلون بالجنة، وغرهم.
وجواب هذا الأقسام محذوف (3) . ولما كان موضوع السورة في البعث، جاز تقدير الجواب ـ "لتبعثن"، ويكون المعنى والنازعات لتبعثن، وهكذا.
6-7- قوله تعالى: {يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة} ؛ أي لتبعثن
_________
(1) وقع في السابقات اختلاف بين السلف على أقوال:
1- الملائكة: وهو قول مجاهد، قال ابن كثير: "وروى عن علي ومسروق ومجاهد وابي صالح ولحسن البصري".
2- الموت، وهو قول مجاهد. (انظر التعليق السابق في السابحات على قولي مجاهد) .
3- الخيل، وهو قول عطاء.
النجوم، وهو قول قتادة من رواية معمر وسعيد.
(2) الغرب أن قول قتادة في هذه الآية أنها الملائكة، مع أن قوله في ما سبق من الأوصاف أنها النجوم، ولم يذكر ابن جرير غير قول قتادة، فلم يرد عنده فيها خلاف في هذه الآية، كما وقع في سابقاتها، وقد حكى الإجماع السمعاني في تفسيره، وابن القيم في التبيان في القرآن: 86. وقال ابن عطية: "وأما المدبرات فلا أحفظ فيها خلافاً"، وقال ابن كثير: " ... هي الملائكة ... ولم يختلفوا في هذا".
(3) انظر: (تفسير الطبري، ط: الحلبي: 30: 32، والتباين في أقسام القرآن: 87) .
(1/37)
 
 
يوم تهتز وتضطرب الأرض بسبب النفخة الأولى التي تتبعها النفخة الثانية (1) .
8- قوله تعالى: {قلوب يومئذ واجفة} ؛ أي: قولب خلق من خلقه يوم تقع هذه الأحداث، خائفة (2) .
9- قوله تعالى: {أبصارهم خشعة} ؛ أي: أبصار أصحابها ذليلة مما قد نزل بها من الخوف والرعب (3) .
10- قوله تعالى: {يقولون أءنا لمردودون في الحافرة} ؛ أي: يقول أصحاب هذا القلوب الذين أنكروا البعث في الدنيا: أنرجعُ إلى الحياة بعد أن نموت وندفن تحت التراب؟ (4) .
_________
(1) عبر جمهور السلف عن الراجفة بأنها النفخة الأولى، والرادفة: النفخة الثانية، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وعن الحسن منطريق أبي رجاء، وعن قتادة من طريق سعيد، وعن الضحاك من طريق عبيد المكتب.
وعبر مجاهد وابن زيد عن الراجفة بأنها الأرض ترجف، وهذا غير مخالف للأول، لأنها ترجف بسبب النفخة، كما في القول الأول، وجعل مجاهد وقت الرادفة مقروناً بانشقاق السماء، فقال: "هو قوله: {وإذ السماء انشقت} [الانشقاق: 1] فدكتا دكة واحدة "؛ أي: الرادفة هي دك الأرض بالجبال. وهذا خلاف لما عليه أهل القول الأول، وهم الجمهور، إلا أن يقال إن هذا يكون بعد النفخة الثانية فيلتئم قوله مع قولهم، والله أعلم.
أما ابن زيد فعبر عن الرادفة بالساعة، وهذا غير مخالف، لأن الساعة لا تقوم إلا بالنفخة الثانية، والله أعلم.
(2) هذا من عبارة الطبري في تفسير هذه الآية، وكذا ورد تفسير "واجفة" عن السلف: ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد. وأفاد التنكير في "قلوب": التكثير؛ أي: قلوب كثيرة خائفة في هذا اليوم.
(3) الضمير في ظاهر الكلام يعود إلى القلوب، والمراد أصحاب القلوب، فعبر عنهم بجزء منهم، وهي القلوب، التي هي محل الخوف والإذعان، ثم يظهر بعد ذلك على الأبصار، والله أعلم.
(4) هذه الجملة مستأنفة للحديث عن أصحاب هذه القلوب الواجفة في الحياة الدنيا والاستفهام جاء على سبيل التعجب من حصول البعث الذي ينكره هؤلاء، وجاء الفعل "يقولون" مضارعاً؛ لإفادة تجدد هذا الحديث، وحصوله منهم مرة بعد مرة.
والحافرة عند العرب: رجوع المرء من الطريق الذي أتى منه، يقولون: رجع فلان إلى حافرته؛ أي: إلى طريقه الذي جاء منه؛ كأنه يتبع حفر قدميه في الأرض في حال رجوعه، ومنه قول الشاعر:
أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وطيش
وقد ورد خلاف بين السلف في تفسير الحافرة على أقوال:
1- الحياة بعد الموت، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة وعطية العوفي، وقتادة من طريق معمر وسعيد، ومحمد بن قيس أو محمد بن كعب القرظي، والسدي من طريق سفيان الثوري.
2- الأرض، وهو قول مجاهد من طريق عبد الله بن أبي نجيح، وقال: "الأرض، نبعث خلقاً جديداً". وقوله في ما يظهر لا يخالف القول الأول إلا في العبارة، والنتيجة واحدة في القولين؛ لأن العود للحياة سيكون على الأرض، وهذان القولان يناسبان المعنى اللغوي للحافرة؛ لأنها يدلان على أن الإنسان يعود إلى ما كان عليه قبل موته، والله أعلم.
النار، وهو قول ابن زيد، وقد جعل الحافرة اسماً للنار، وهو مخالف لقول الجمهور، ولو لم ينص على أنها من أسماء النار لاحتمل أن يكون تفسيره مقبولاً على أنه أراد التنبيه على المآل الذي يصير إليه الكافر، فيكون تفسيره على المعنى، لا على مطابق اللفظ، وسياق الآيات بعدها يضعف أن يكون المراد بالحافرة النار؛ لقوله: {فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة} [النازعات: 13-14] على ما سيرد في تفسيرها، والله أعلم.
(1/38)
 
 
11- قوله تعالى: {أءذا كنا عظاما نخرة} ؛ أي: كيف نرجع إلى حالنا الأول، وقد تحللت أجسامنا وصرنا عظاماً بالية فارغة (1) .
_________
(1) عبر ابن عباس من طريق العوفي عن ذلك بالفانية البالية، وعبر قتادة من طريق سعيد بالبالية، وعبر مجاهد من طريق ابن أبي نجيح بالمرفوتة، أي: المحطمة المدقوقة. وهذا من اختلاف التنوع الذي يكون التعبير فيه عن المعنى بألفاظ متقاربة. ... =
(1/39)
 
 
12- قوله تعالى: {قالوا تلك إذا كره خاسرة} ؛ أي: إن الرجعة إلى الحياة بعد الممات رجعة لا خير فيها، بل فيها غبن لهم (1) .
13- قوله تعالى: {فإنما هي زجرة وحدة} ؛ أي: إن الأمر لا يحتاج إلى كبير عناء، بل هي صيحة واحدة لا ثانية لها ينفخها إسرافيل في الصور، فيقومون من قبورهم أحياء (2) .
14- قوله تعالى: {فإذا هم بالساهرة} ؛ أي: بعد أن يسمعوا الصيحة فإنهم سرعان ما سيكونون على الأرض (3) .
_________
(1) وقد ورد في لفظ "نخرة" قراءتان: الأولى بلا ألف، والثانية بألف على وزن فاعل، ومعناهما واحد، وقيل باختلافهما في المعنى. فالنخرة: البالية، والناخرة، المجوفة التي تنخر الريح في جوفها إذا مرت بها، وتفسير السلف يدل على أن معناهما واحد، إذ لم يرد عنهم التفريق بين لمعنيين، والله أعلم.
() ... كذا قال قتادة من طريق سعيد، وابن زيد.
(2) كذا جاء عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وابن زيد.
(3) ورد خلاف بين السلف في تفسير الساهرة على أقوال:
1- الأرض، وهو قول ابن عباس من طريق عكرمة والعوفي، وعكرمة من طريق حصين وعمارة بن أبي حفصة، والحسن من طريق أبي رجاء، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وسعيد بن جبر من طريق عكرمة وأبي الهيثم، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد.
2- اسم مكان معروف من الأرض، وهو بالشام، ورد ذلك عن عثمان بن أبي العاتكة وسفيان الثوري، هذا القول يمكن أن يحتمل على أنهم أرادوا تعيين أرض المحشر، وأنها جزء من الأرض، لا أن الساهرة علم مخصص بهذا المكان دون الأرض.
وقال وهب بن منبه: هو جبل إلى جنب بيت المقدس، وهذا إن كان أراد أن هذا الجبل بعينه هو الساهرة، فإنه غير صحيح، وهو مخالف لما عليه جمهور السلف، وإن كان إنما ذكر جزءاً من أرض المحشر التي يحشر الناس إليها، فيمكن أن يحتمل قوله على هذا التوجيه، والله أعلم.
3- وقال قتادة: في الساهرة: في جهنم. وهذا مخالف لما ورد عن الجمهور، ولا يظهر موافقته لقولهم من أي وجه. والله أعلم.
والقول الأول، وهو قول جمهور السلف، هو القول الراجح، وهو المعروف من لغة العرب، قال أمية بن أبي الصلت:
وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به أبد مقيم
وإنما سميت الأرض بهذا الاسم؛ لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم، فسميت بذلك للملابسة، والله أعلم. انظر: معاني القرآن للفراء، وتفسير الطبري
(1/40)
 
 
15-16- قوله تعالى: {هل أتاك حديث موسى * إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى} : استفهام للتشويق لخبر موسى بن عمران، والمعنى: هل جاءك خبر موسى حن كلمه الله نداء في وادي طوى المطهر (1) .
17- قوله تعالى: {أذهب إلى فرعون إنه طغى} ؛ أي: ناداه أن أذهب إلى فرعون مصر، إنه قد تجاوز الحد في العدوان والتكبر (2) .
18- قوله تعالى: {فقل هل لك إلى أن تزكى} ؛ أي: اعرض عليه أن
_________
(1) اختلفت عبارة السلف في تفسير طوى على الأقوال:
الأول: أنه اسم الوادي، عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، ومجاهد من طريق أبن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد، وابن زيد، وهذا هو أظهر الأقوال، والله أعلم.
الثاني: أنه أمر لموسى بأن يطأ بقدميه، عن ابن عباس من طريق عكرمة، ومجاهد من طرق ابن جريج، وعكرمة من طريق يزيد.
الثالث: بمعنى الذي طويته، عن ابن عباس من طريق العوفي. ويكون المعنى: بالوادي المقدس الذي طواه موسى مشياً بقدميه، ويكون "طوى" مصدراً خرج من غيره لفظه.
الرابع: أن طوى بمعنى مرتين، عن الحسن من طريق ابن جريج، ومجاهد من طريق ابن جريج. ويكون - على قولهم - مصدراً من غير لفظه، وهو الشيء الذي يثنى؛ أي: يكرر مرة بعد مرة، وقد يكون مفعولاً مطلقاً للمقدس، ويكون المعنى: بالوادي المقدس مرتين، أو يكون لناداه، فيكون المعنى: ناداه مرتين في الوادي المقدس.
وهذه التفاسير مبنية على قراءة طوى، فقرئت بالتنوين طوى، وبتركه. (انظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي: 16: 146 - 147) .
(2) فرعون لقب ملك مصر في عهد الفراعنة، وقد كان في عصر إبراهيم ويوسف يلقب بالملك، كما ورد في سورة يوسف وفي قصة إبراهيم في السنة، وهذا يعني أن مصر مرت بمرحلتين في الحكم، وهي مرحلة الملوك، وهم من يطلق عليهم في التاريخ المصري "الهكسوس"، ومرحلة الفراعنة، ومنهم فرعون موسى الذي تربى موسى في بيته. وهل فرعون الولادة هو فرعون الخروج، أم لا؟ في ذلك خلاف بين المؤرخين الذين درسوا هذه الفترة، ونص القرآن يعطي أنه فرعون واحد؛ كقوله تعالى: {قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين} [الشعراء: 18] والله أعلم بما كان، وليس في ذلك كبير أهمية، غير أن النفس تتطلع لما غاب عنها بشيء من الاهتمام.
(1/41)
 
 
يتطهر من الكفر والتجبر، فيسلم لله (1) .
19- قوله تعالى: {وأهديك إلى ربك فتخشى} ؛ أي: أدلك وأرشد إلى الطريق الموصول لمن ملكك بربوبيته، وهو الاستسلام لله، فيخضع قلبك ويلين ويطيع، بعد أن كان قاسياً بعيداً عن الخير (2) .
_________
(1) عبر عكرمة عن التزكي بأن يقول: لا إله إلا الله، وهذا أول ما يدخل به المتزكي الإسلام، وقال ابن زيد: أن تسلم، قال: "والتزكي في القرآن كله: الإسلام، وقرأ قول الله: {وذلك جزاء من تزكى} ، قال: من أسلم، وقرأ: {وما يدريك لعله يزكى} [عبس: 3] ، قال يسلم، وقرأ: {وما عليك ألا يزكى} [عبس: 7] أن لا يسلم ". وفي هذا فائدتان:
الأولى: أن السف يرد عنهم مثل هذه الكليات التفسيرية، وهي تحتاج إلى جمع، ثم استقراء مواقعها في القرآن، للنظر في تطابق هذه الكلية على جميع الآيات، فتكون بعد ذلك مصطلحاً قرآنياً في اللفظة.
الثانية: أن ابن زيد يُكثر من ذكر النظائر القرآنية، وهو مما يدخل بتفسير القرآن بالقرآن، وهذه المسألة صالحة للدراسة لمعرفة طريقة ابن زيد في هذا الأسلوب التفسيري.
(2) علق ابن القيم في كتابه (التباين في أقسام القرآن: 88) على ما في هاتين الآيتين من لين الخطاب، أنقله بطوله لما فيه من الفائدة: قال: "ثم أمره أن يخاطبه بألين خطاب، فيقول: {فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى} [النازعات: 18 -19] ، ففي هذا من لطف الخطاب ولينه وجوه:
أحدها: إخراج الكلام مخرج العرض، ولم يخرجه مخرج الأمر والإلزام، هو ألطف، ونظيره قول إبراهيم لضيفه المكرمين: {ألا تأكلون} [الذاريات: 27] ولم يقل: كلوا.
الثاني: قوله ك {إلى أ، تزكى} ، والتزكي: النماء والطهارة والبركة والزيادة، فعرض عليه أمراً يقبله كل عاقل ولا يرده إلا كل أحمق جاهل.
الثالث: قوله: {تزكى} ولم يقل: أزكيك، فأضاف التزكية إلى نفسه، وعلى هذا يخاطب الملوك.
الرابع: قوله: {وأهديك} ؛ أي: أكون دليل لك، وهادياً بن يديك. فنسب الهداية إليه، والتزكى إلى المخاطب؛ أي: أكون دليلاً لك وهادياً، فتزكى أنت، كما تقول للرجل: هل لك أن أدلك على كنز تأخذ منه ما شئت؟ وهذا أحسن من قوله: أعطيتك.
الخامس: قوله: {إلى ربك} ، فإن في هذا ما يوجب قبول ما دل عليه، وهو أن يدعوه ويوصله إلى ربه: فاطره وخالقه الذي أوجده، ورباه بنعمه: جنيناً، وصغيراً، وكبيراً، وآتاه الملك. وهو نوع من خطاب الاستعطاف والإلزام: كما تقول لمن خرج عن طاعة سيده: ألا تطيع سيدك ومولاك ومالكك. وتقول للولد: ألا تطيع أباك الذي رباك. ... =
(1/42)
 
 
20- قوله تعالى: {فأراه الآية الكبرى} ؛ أي: فأظهر موسى عليه السلام لفرعون العصا واليد علامة واضحة على نبوته وصدقه فيما جاء به (1) .
21- قوله تعالى: {فكذب وعصى} ؛ أي: كانت نتيجة هذه المقابلة وعرض الآية لم يصدقها فرعون، وخالف من أمره به موسى عليه السلام من الطاعة.
22- قوله تعالى: {ثم أدبر يسعى} ؛ أي: ثم أعرض عن الإيمان بما جاء به موسى عليه السلام ومضى في عمل الفساد.
23- 24- قوله تعالى: {فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى} ؛ أي: من سعيه بالفساد أنه جمع قومه وأتباعه، ونادى فيهم قائلاً: أنا ربكم الأعلى، وفي هذه رد لما جاء به موسى عليه السلام من دعوته لربه، فزعم أنه رب لقومه.
25- قوله تعالى: {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} ؛ أي: فناله الله بعقوبة الدنيا بالغرق، والآخرة بالنار، على ما فعله في أول أمره وآخره (2) .
_________
(1) السادس: قوله: {فتخشى} ؛ إذا اهتديت إليه وعرفته خشيته؛ لأن من عرف الله خاف، ومن لم يعرف لم يخفه، فخشية الله مقرونة بمعرفته، وعلى قدر المعرفة تكون الخشية.
السابع: أن في قوله: {هل لك} فائدة لطيفة، وهي أن المعنى: هل لك في ذلك حاجة أو إرب؟ ومعلوم أ، كل عاقل يبادر إلى قبول ذلك؛ لأن الداعي إنما يدعو إلى حاجته ومصلحته؛ لا إلى حاجة الداعي، فكأنه يقول: الحاجة لك، وأنت المتزكي، وأنا الدليل لك، والمرشد لك إلى أعظم مصالحك.
() ... فسر السلف الآية بأنها العصا واليد، وفي هذا إشارة إلى أن لفظ الآية في الآية يراد به جنسها، لا أنها آية واحدة.
(2) وقع خلاف بين السلف في الآخرة والأولى، وسببه أنه وصف لموصوف محذوف، فقال كل منهم ما يناسب هذا الموصوف على سبيل التواطؤ، وكل الأقوال محتملة، وأقوالهم كالآتي:
الأول: آخر كلامه وأوله، وهو قوله: {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38] ، وقوله {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] وهذا قول ابن عباس من طريق أبي الضحى والعوفي، ومجاهد من طريق عبد الكريم الجزري وابن أبي نجيح، والشعبي من طريق إسماعيل الأسدي وزكريا، والضحاك من طريق عبيد.
الثاني: الآخرة والدنيا، عن الحسن من طريق عوف وقتادة، وعن قتادة من طريق سعيد.
الثالث: الأولى: تكذيبه وعصيانه، والآخرة: قوله: أنا ربكم الأعلى، عن أبي رزين من طريق إسماعيل بن سميع. ... =
(1/43)
 
 
26- قوله تعالى: {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} ؛ أي: إن في ما حدث لفرعون موعظة لمن يتعظ ويخاف عقاب الله (1) .
27- قوله تعالى: {ءانتم أشد خلقاً أم السماء بناها} يقول تعالى للمكذبين بالبعث القائلين: {أءذا كنا عظاما نخرة} : أأنتم أيها الناس أصعب في الإيجاد، أم إيجاد السماء وابتداعها أصعب؟ ولا شك أن خلق السماء أصعب، وفي هذه دلالة على وقوع البعث الذي أنكروه.
ثم بين كيفية خلقه للسماء بجمل متعاقبة، فقال: {بناها} ؛ أي: شيدها.
28- قوله تعالى ك {رفع سمكها فسوها} بين كيف بناؤها بقوله: {رفع سمكها} ؛ أي جعل ارتفاعها ارتفاعاً عالياً في البناء، معتدلة الأرجاء، لا فطور فيها، ولا تفاوت.
29- قوله تعالى: {وأغطش ليلها وأخرج ضحاها} ؛ أي: جعل ليل السماء
_________
(1) رابع: أول عمله وآخر عمله، وهو قول مجاهد من طريق منصور، والكلبي من طريق معمر.
() ... جاء قصة موسى مع فرعون بين إنكار المنكرين للبعث وبين أدلته التي تبدأ بقوله تعالى: {ءانتم أشد خلقا} ، وفيها إشارة إلى تهديد هؤلاء المنكرين بأن الله قد عذب من هو أشد منهم قوة، وأنهم لا يعجزونه إن لم يؤمنوا بما جاء به نبيه أن يقع بهم ما وقع بفرعون، والله أعلم.
(1/44)
 
 
مظلماً، وأظهر ضحاها بنور الشمس (1) .
30- قوله تعالى: {والأرض بد ذلك دحاها} ؛ أي: بسط الأرض (2) بعد خلق السماء وإغطاش ليلها وإخراج ضحاها (3) .
31- قوله تعالى: {أخرج منها ماءها ومرعاها} ؛ أي: أظهر من الأرض ماءها وكلأها من النبات (4) .
_________
(1) لما كان طلوع الشمس وغروبها ينتج عنهما ظلمة الليل وضوء الضحى، والشمس في السماء، أضاف ظلمة الليل وضوء الضحى إليه. هذا من قول الطبري في تفسيره.
(2) ورد التفسير بذلك عن: قتادة من طريق سعيد، والسدي من طريق أبي حمزة، وسفيان من طريق عبد الرحمن.
وعبر ابن زيد عن ذلك بقوله: " {دحاها} حرثها وشقها، وقال: {أخرج منها ماءها ومرعاها} [النازعات: 31] ، وقرأ: {ثم شققنا الأرض شقا} حتى بلغ: {وفاكهة وأبا} [عبس: 29-31] ، وقال: حين شقها أثبت هذا منه، وقرأ: {والأرض ذات الصدع} [الطارق: 12] ". فجعل الدح مفسراً بما بعدها، وكذا ورد عن ابن عباس. وهذا من تمام الدحو لا من تفسيره على لفظه، والله أعلم.
(3) أشكل على بعض العلماء هذا النظم في سياق خل السماء والأرض، ذلك أن الله ذكر في أكثر من موضع خل الأرض قبل خلق السماء؛ مثل قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم =
(4) استوى إلى السماء} ، وقال: {قل انبئكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ويجعلون له أندادا بذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض أئتيا طوعا وكرها قالتا أتينا طائعين * فقضهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا وذلك تقدير العزيز العليم} [فصلت: 9-12] .
والجواب الصحيح في ذلك ما ذهب إليه حبر الأمة ابن عباس، وفحواه: أن الله خلق الأرض في يومين غير مدحوة، ثم استوى إلى السماء فخلقها، ثم دحا الأرض، فالخلق غير الدحو الذي تتحدث عنه آية النازعات. انظر: (تفسير الطبري، وفتح الباري، سورة فصلت من كتاب التفسير) ، وانظر: (تأويل مشكل القرآن: 67، وتهذيب اللغة: 2: 243) . وقد جعل مجاهد والسدي المعنى: والأرض مع ذلك دحاها، وهذا يبين أن الإشكال قد ورد عليهما، فخلصا منه بهذا التأويل، وهو ضعيف؛ لأن دلالة الآية واضحة على قول ابن عباس، ولا تحتاج إلى تأويل "بعد" بمعنى "مع"، وبقاء اللفظ على معناه، مع صحة تأويل الآية، أولى من جعله بمعنى لفظ آخر يُحمل عليه تأويل الآية.
وقد ذكر بعض اللغويين أن "بعد" بمعنى "قبل"، وهذا لتخريج الإشكال الوارد على الآية، ويقال فيه ما قيل في القول الذي قبله.
() ... هذا الإخراج من توابع دحو الأرض، والآية تثبت أن الماء الذي في الأرض أصله من الأرض؛ لقوله: {منها} ، والمرعى في القرآن: مكان الكلأ والعشب الذي تأكله البهائم، وقد ناسب ذكره هنا، لقوله بعد ذلك: {متاعاً لكم ولأنعمكم} وهو في النهاية يرجع إليهم؛ لأن الأنعام من متاعهم، غير أن في ذكر الأنعام هنا إشارة إلى أن الأنعام تشاركهم في التمتع في الأرض، وأن عليهم زيادة في ذلك، وهو الاعتبار والأتعاظ بما أنعز الله عليهم به، لكيلا يكونوا كالأنعام أو أضل سبيلاً؛ كما قال تعالى: {كلوا وارعوا أنعمكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى} [طه: 54] ، والله أعلم.
(1/45)
 
 
32- قوله تعالى: {والجبال أرساها} ؛ أي: ثبت الجبال في الأرض، فهي مثبتة للأرض، والأرض مثبتة لها (1) .
33- قوله تعالى: {متاعا لكم ولأنعامكم} ؛ أي: ما ذكره من خلق السماء ودحو الأرض وإرساء الجبال منفعة لكم، تنتفعون به أنتم وأنعامكم مدة من الزمان، ثم ينتهي هذا الانتفاع.
34- قوله تعالى: {فإذا جاءت الطامة الكبرى} ؛ أي: إذا جاءت الساعة (2) التي تطم (أي: تغمرها بعظيم هولها، حتى لا يوجد أكبر منها عرفوا سوء عاقبتهم وتكذيبهم بالبعث (3) .
35- قوله تعالى: {يوم يتذكر الإنسان ما سعى} : أي: إذا جاءت
_________
(1) تثبت هذه الآية الجبال مرساه، كما ورد في الآيات الأخرى أنها مرسية للارض، وهذا يعني أن الجبال تثبت الأرض، كما أن الجبال ثابتة - أي: مرساة - في الأرض، فلو قلعت من مكانها لما استقرت الأرض. والله أعلم.
(2) قال ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة - في الطامة -: من أسماء القيامة، عظمه الله، وحذره عباده.
(3) هذا جواب إذا، وهو مضمر، وذكر الطبري عن القاسم بن الوليد الكوفي القاضي (ت: 141) في قوله {فغذا جاءت الطامة الكبرى} ، قال: "سيق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار"، وتفسيره هذا يشعر بأنه جواب إذا، ويؤخذ منه أن الجواب يقدر بما يناسب السياق، والله أعلم.
وذكر في وجواب إذا قول آخر، وهو مبني على قوله: {فأما من طغى} [النازعات: 37] وما بعدها، والتقدير: إذا جاءت الطامة الكبرى، كانت أحوال الطاغين كذا، وأحوال المتقين كذا، والله أعلم.
(1/46)
 
 
الطامة، كان من الإنسان المؤمن والكافر تذكر ما عمله في حياته من خير وشر (1) .
36- قوله تعالى: {وبرزت الجحيم لمن يرى} ؛ أي: جيء بجهنم فأظهرت، ليراها من يبصر في هذا اليوم، كما ورد في حديث ابن مسعود: يؤتي بجهنم يومئذ، لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها (2) .
37- قوله تعالى: {فأما من طغى} : تفصيل في حال الفريقين من أهل السعي من الناس؛ فبدأ بالذي تجاوز الحد في أعماله، وهو المكذوب بالبعث؛ لأن السورة في النعي عليه، وإثبات ما أنكره.
38- قوله تعالى: {وءاثر الحياة الدنيا} ؛ أي: قدم الحياة الدنيا بما فيها من الملذات الزائلة عن نعيم الآخرة.
39- قوله تعالى: {فإن الجحيم هي المأوى} ؛ أي: مآل هذا المكذب بالبعث ومسكنه النار التي قد تجحمت من شدة الإيقاد.
40- قوله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} ، هذا الفريق الثاني، وهو من امتلأ قلبه بالخوف من قيام أمام ربه، وكف نفسه عن ما ترغبه من المعاصي (3) .
41- قوله تعالى: {فإن الجنة هي المأوى} هذا جواب أما، والمعنى: أن الجنة هي مرجع ومستقر من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى.
_________
(1) غلب استخدم لفظ السعي في القرآن على ما يعلمه الإنسان من خير وشر.
(2) رواه مسلم، وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى: {وبرزت الجحيم للغاوين} [الشعراء: 91] ، وقوله: {وجائ يومئذ بجهنم} [الفجر: 23] ، ويلاحظ في هذه الأفعال أنها جاءت على صيغة المفعول دلالة على الاهتمام بالحدث دون فاعله، كما يلاحظ أن الآية ذكرت مجيء النار دون الجنة؛ لأن المقام مع المكذبين بالبعث، فناسب ذلك ذكرها تهديداً، والله أعلم.
(3) غلب اسهم الهوى على ما هو مذموم.
(1/47)
 
 
42- قوله تعالى: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها} ؛ أي: يسألك المكذبون بالبعث متى تقع الساعة؟
43- قوله تعالى: {فيم أنت من ذكراها} ؛ في أي شيء أنت من ذكر الساعة والبحث عن وقت وقوعها؟ ؛ أي ليس هذا من شأنك، بل شأنك الإعداد لها، كما قال صلى الله عليه وسلم للسائل عنها: ماذا أعدت بها.
44- قوله تعالى: {إلى ربك منتهاها} ؛ أي: إلى ربك مرجع علم وقوعها، وعلم ما فيها.
45- قوله تعالى: {وإنما أن منذر من يخشاها} : هذا بيان لمهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي تخويف الناس وتحذيرهم من الساعة وأهولها، وخص الخائفين، منها بالذكر لأنهم المنتفعون بها.
46- قوله تعالى: {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} ؛ أي: كأن هؤلاء المكذبين بالبعث يوم يعاينون الساعة بأبصارهم، ولم يمكثوا في هذه الدنيا إلا زمناً يسيراً، لا يتجاوز قدره آخر النهار، أو أوله، والله أعلم.
(1/48)
 
 
سورة عبس
آياتها: 42
(1/49)
 
 
سورة عبس
بسم الله الرحمن الرحيم
{عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك إلا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى * كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة * قتل الإنسان ما أكفره * من أي شيء خلقه * من نطفة خلقه فقدره * ثم السبيل يسره * ثم أماته فأقبره * ثم إذا شاء أنشره * كلا لما يقض ما أمره * فلينظر فيها حبا * وعنبا وقصبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا * متاعا لكم ولأنعامكم * فإذا جاءت الصاخة * يقوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحباته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه * وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها برة * ترهقها فترة * أولئك هم الكفرة الفجرة} .
(1/50)
 
 
سورة عبس
نزلت سورة عبس بشأن عبد الله بن أم مكتوم، قالت عائشة: أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: أرشدني، وعنده من عظماء المشركين. قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول: أترى بما أقوله بأساً؟ فيقول: لا، ففي هذا أنزلت: {عبس وتولى} .
1-2- قوله تعالى: {عبس وتولى * إن جاءه الأعمى} ؛ أي: قطب وجهه وكلح؛ لأجل أن جاءه الأعمى يسترشد عن الدين، وأعرض وانشغل عنه بالغني الكافر رجاء أن يسلم (1) .
3- قوله تعالى: {وما يدريك لعله يزكى} ؛ أي: وما يعلمك، لعل هذا الأعمى الذي عبست في وجهه يتطهر من ذنوبه بموعظتك، فيسلم؟ (2) ..
4- قوله تعالى: {أو يذكر فتنفعه الذكرى} ؛ أي: فإن لم يقع منه تزك، حصل الاتعاظ بالموعظة، فتنفعه ولو بعد حين؟ (3) .
_________
(1) جاء الخطاب على صيغة الغيبة تلطفاً في عتاب النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء ذكر عبد الله بن أم مكتوم بوصفه إشعاراً بعذره في عدم معرفته بانشغال الرسول صلى الله عليه وسلم، وترقيقاً لقلب النبي صلى الله عليه وسلم لأجل علته، وهي العمى، حيث يحتاج من الرعاية ما لا يحتاجها غيره، والله أعلم.
(2) عبر ابن زيد عن معنى "يزكى" فقال: يسلم، وهذا فيه إشارة إلى أن ابن أم مكتوم لم يسلم بعد، وقد سبق بيان كلية تفسيرية لهذا اللفظ عند ابن زيد، وهي أن التزكي في القرآن بمعنى الإسلام.
(3) في ذكر التزكي وبعده التذكر، وهو حصول أثر التذكير احتمالان:
الأول: أن يكون الأمر من قبيل التخلية والتحلية، فالتزكي: تطهير، وهذا جانب التخلية، وحصول التذكر في القلب تحلية.
الثاني: أن يكون التزكي: كمال حصول الموعظة في القلب، والتذكر: ما يحصل فيه القلب من يسيرها، ويكون المعنى: إن لم يقع منه كمال تزك، وقع منه يسير ينفعه في المستقبل، والله أعلم.
(1/51)
 
 
5-6- قوله تعالى: {أما من استغنى * فأنت له تصدى} ؛ أما من عد نفسه غنياً عنك، وعن الإيمان بك (1) ، فأنت تتعرض له.
7- قوله تعالى {وما عليك ألا يزكى} ؛ أي: أي شيء سيلحقك إذا لم يسلم هذا الكافر؟ (2) .
8-10- قوله تعالى: {وأما من جاء يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى} ؛ أي: أما هذا الأعمى الذي أتى حيث الخطي إليك بنفسه، وقد وفر في قلبه الخوف من الله، فأنت تنشغل عنه بهذا الكافر المظنون إسلامه.
11- قوله تعالى: {كلا إنها تذكرة} ؛ أي: ما الأمر كما فعلت يا محمد عليه الصلاة والسلام - من أن تعبس في وجه من جاء يسعى. إن هذه الآيات موعظة وتذكرة لمن أراد أن يتذكر.
12- قوله تعالى: {فمن شاء ذكره} ؛ أي: فمن أراد من عباد الله - صادقاً في إرادته- أن يتعظ بالقرآن وآياته حصل له الاتعاظ (3) .
_________
(1) يذكر بعض المفسرين أن معنى استغنى: استغنى بماله، ولا يمنع أن يكون هذا الكافر غنياً بماله، غير أن المناسب لسبب النزول أن يكون استغنى عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
(2) يذكر بعض المفسرين في "ما" احتمالاً آخر، وهو أن تكون نافية، ويكون المعنى، لا شيء عليك إذا لم يسلم هذا الكافر، والأول أنسب لسياق العتاب، والله أعلم.
وفي كلا الاحتمالين إشارة لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أن عليه البلاغ، أما الهداية فمن الله، كما قال تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} [البقرة: 272] ، وقال: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} [النور: 54] .
(3) أعاد بعض المفسرين الضمير في "ذكره" إلى الله، والمعنى: فمن شاء من العباد ذكر الله. غير أن سياق الآيات يدل على الأول؛ لأن الحديث عن القرآن قبل هذه الآية وبعدها، والله أعلم.
(1/52)
 
 
13- قوله تعالى: {في صحف مكرمة} ؛ أي: هذا القرآن مكتوب في صحف الملائكة، وهي صحف شريفة رفيعة القدر (1) .
14- قوله تعالى: {مرفوعة مطهرة} ؛ أي: هي في مكان عال وقدر رفيع؛ لأنها بأيدي الملائكة، ولذا فإن الدنس لا يقربها.
15- قوله تعالى: {بأيدي سفرة} ؛ أي: هذه الصحف التي كتب بها القرآن بأيدي رسل الله من الملائكة الذين يؤدون عنه وحيه إلى عباده (2) .
16- قوله تعالى: {كرام برره} ؛ أي ك هؤلاء السفرة من الملائكة في مرتبة شريفة عند الله، حيث خصهم بوحيه (3) ، وهم كثيرو الخير، كثيرو
_________
(1) وقع خلاف في المراد بالصحف، وهو مبني على الاختلاف في المراد بالسفرة، على قولين:
الأول: أن السفرة الملائكة، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، وابن زيد، ونسبه ابن كثير إلى مجاهد والضحاك.
الثاني: أن السفرة القراء، قاله قتادة من طريق سعيد، وذكر ابن كثير عن وهب بن منبه، قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
والقول الأول أرجح؛ لدلالة قوله صلى الله عليه وسلم: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ... " فوصفهم بما ورد في هذه الآيات، وحمله عليه أولى، ثم إن وصف المؤمنين في القرآن جاء على صيغة "الأبرار"، لا البررة، مما يشعر أن المعني بهذا الوصف الملائكة.
(2) عبر ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وقتادة من طريق معمر، عن السفرة بأنهم الكتبة، كما عبر قتادة من طريق سعيد بأنهم القراء، وتأويل السفرة بالرسل يشمل هذه المعاني، قال الإمام الطبري: "وأولى الأقوال في ذل بالصواب قول من قال: هم الملائكة الذين يسفرون بين الله ورسله بالوحي ... وإذا وجه التأويل إلى ما قلنا، احتمل الوجه الذي قاله القائلون: هم الكتبة، والذي قاله القائلون: هم القراء؛ لأن الملائكة هي التي تقرأ الكتب، وتسفر بين الله وبين رسله ".
(3) الكريم: هو الشريف في جنسه، وقد وصف الله الملائكة بهذا الوصف في قوله تعالى: {كراما كاتبين} [الانفطار: 11] .
(1/53)
 
 
الطاعة: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} (1) [التحريم: 6] .
17- قوله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره} : هذا دعاء على الإنسان الكافر (2) بالقتل (3) ، لشدة كفره بالله (4) ، ومن لازم ذلك لعنه وطرده من رحمة الله.
18- قوله تعالى: {من أي شيء خلقه} : استفهام على سبيل التقرير، والمعنى: ما أصل خلق هذا الإنسان حتى يستغني عن الإيمان بربه ويكفر؟ .
19- قوله تعالى: {من نطفة خلقه فقدره} : بين الله في هذا أصل الإنسان، وأن منشأه من ماء قليل هو أصل هذا التناسل البشري، وأنه قدره بعد ذلك أطواراً في الخلق، حتى صار جنيناً في بطن أمه.
20- قوله تعالى: {ثم السبيل يسره} ؛ أي: ثم بعد هذه الأطوار التي عاشها في بطن أمه، سهل الله له الخروج من هذا البطن (5) .
_________
(1) قال ابن كثير: "ومن هنا ينبغي لحامل القرآن أ، يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد".
(2) قال مجاهد من طريق الأعمش: "ما كان في القرآن (قتل الإنسان) أو فعل بالإنسان، فإنما عنى به الكافر". وقال الطاهر بن عاشور (30: 326) "الغالب في إطلاق لفظ الإنسان، في القرآن النازل بمكة؛ كقوله: {إن الإنسان ليطغى} [العلق: 6] ، {أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه} [القيامة: 3] ... ".
(3) عبر المفسرون عن معنى "قتل": لعن، وهو تفسير بالمعنى؛ لأن من دعاء عليه الله بالقتل، فقد طرده من رحمته، وهو معنى اللعن. (انظر: تفسير ابن عطية لقوله: {قتل أصحاب الأخدود} [البروج: 4] ويحسن الوقف في هذه الجملة على "الإنسان"، والاستئناف بما بعدها، لبيان المعنى فيهما.
(4) هذا التفسير على أن "ما" تعجبية، وقد جعلها بعض المفسرين استفهامية، ويكون تقدير الكلام: أي شيء جعله يكفر.، والتعجب - فيما يظهر - أبلغ في هذا المقام، وهو أنسب في بيان شدة كفر هذا الكافر، والله أعلم.
ويكون الخلاف من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، وسببه: الاشتراك اللغوي، والله أعلم.
(5) السبيل في اللغة: الطريق، وقد اختلف السلف في المراد بهذا السبيل في الآية، على قولين:
الأول: السبيل: طريق خروجه من بطن أمه، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، وأبي صالح من طريق إسماعيل، والسدي من طريق سفيان، وقتادة من طريق معمر وسعيد، وهذا القول يناسب السياق.
الثاني: السبيل: طريق الحق والباطل، بيناه وأعلمناه، وهو قول مجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح، وجعل الآية نظير قوله تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا} [الإنسان: 3] ، وقول الحسن من طريق قتادة، وعبر عنه ابن زيد، بقوله: "والسبيل: سبيل الإسلام"، وهذا القول محمول على نظير له في القرآن.
ورجح الطبري القول الأول بدلالة السباق، فقال: "وأولى التأويلين عندي بالصواب قول من قال: ثم الطريق، وهو خروجه من بطن أمه، يسره. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب؛ لأنه أشبههما بظاهر الآية، وذلك أن الخبر قبلها وبعدها عن صفته خلقه، وتدبيره جسمه، وتصريفه إياه في الأحوال، فالأولى أن يكون أوسط ذلك نظير ما قبله وما بعده".
ويكون هذا الاختلاف من قبيل اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، وسببه التواطؤ في لفظ السبيل، والله أعلم.
(1/54)
 
 
21- قوله تعالى: {ثم أماته فأقبره} ؛ أي: حكم الله عليه بالموت بعد أن عاش في هذه الحياة، وأمر بدفنه في باطن الأرض (1) .
22- قوله تعالى: {ثم إذا شاء أنشره} ؛ أي: بعد أن يموت هذا الإنسان، فإن الله سيبعثه إذا أراد ذلك، وهو كائن يوم ينفخ في الصور (2) .
_________
(1) يسمى المباشر للدفن قابر، والآمر به مقبر؛ فتقول: أقبره الله، وقبره فلان، كما قال الأعشى:
ولو أسند ميت إلى صدرها ... لعاش ولم ينقل إلى قابر
أي: إلى دافن يدفنه في قبره.
(2) يلاحظ في الآيات السابقة تكرر العطف بـ "الفاء"، و "ثم"، أما الأولى: فللدلالة على تعاقب الحدثين، وسرعة وجود الآخر بعد الأول. وأما الثاني: فللدلالة على تراخ وبعد بين الحدثين، وسرعة وجود الآخر بعد الأول. وأما الثاني: فللدلالة على تراخ وبعد بين الحدثين؛ فقوله تعالى: {من نطفة خلقه فقدره} ، إشارة إلى أن الأطوار المقدرة تعقب حال النطفة، ثم قال: {ثم السبيل يسره} ، وهذا إشارة إلى طول الزمان الذي يقر فيه الجنين في البطن بعد التقدير، ثم قال: {ثم أماته فأقبره} ، وهذا يدل على تراخ بين خروجه من بطن أمه إلى موته، وهي فترة الحياة التي يعيشها، أما الفترة التي بين موته ودفنه فإنه يسيرة، ولذا جاء التعقيب بالفاء، ولما كان الزمن بين الموت والبعث طويلاً، جاء التعقيب بحرف العطف "ثم"، والله أعلم.
(1/55)
 
 
23- قوله تعالى: {كلا لما يقض ما أمره} ؛ أي: ليس الأمر على ما يظنه من اشتد كفره من انه أدى حق الله، بل إنه لم يؤد أوامر الله التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم (1) .
24- قوله تعالى: {فلينظر الإنسان إلى طعامه} ؛ أي: فيعتبر هذا الكافر (2) مستعيناً بما وهبه الله من النظر بعينيه إلى الأحوال التي يمر بها طعامه، حتى يصل إليه، فإنه لو اعتبر لترك كفره (3) .
25- قوله تعالى: {أنا صببنا الماء صبا} : هذا البدء بذكر أحوال الطعام، والمعنى: فلينظر إلى إلقائنا المطر من السماء إلى الأرض بغزارة وقوة (4) .
26- قول تعالى: {ثم شققنا الأرض شقا} ؛ أي: لما أنزلنا هذا المطر على الأرض واستقر بها مدة، أنبت النبات، ففتق هذا النبات الأرض وخرج منها.
27-29- قوله تعالى: {فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا} ؛ أي: فأنبتنا في هذه الأرض المتشققة: الحبوب، وكروم العنب، والعلف (5) ، والزيتون، ,النخيل، وكلها كانت معروفة لهم يستفيدون من شجرها وثمرها.
_________
(1) قال مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: "لا يقضي أحد أبداً ما افترض عليه". وهو بهذا يجعل الضمير في "يقض" عاماً للكافر والمؤمن، ويكون المؤمن على قوله هذا داخلاً في معنى هذه الآية، وهذا القول صحيح في التفسير؛ لأن الآية - وإن كانت نازلة في الكافر - تصدق على المؤمن قياساً، والله أعلم.
(2) الخطاب هنا للكافر، وهو إن كان نازلاً فيه أولاً، فإنه لا يعني أنه مختص به، بل يدخل معه غيره؛ لأن الاعتبار مطلوب منه ومن المؤمن، والله أعلم.
(3) قال مجاهد: "قوله: "فلينظر الإنسان إلى طعامه} : آية لهم ".
(4) فرئ: "إنا" على الاستئناف؛ أي أنه استأنف الخبر مبيناً الأحوال التي يمر بها الطعام، ,والقراءة الأخرى "أنا على البدل، وهو بدل اشتمال، وهذا يعني أن الأحوال المذكورة التي يمر بها الطعام، هي محل النظر والاعتبار، والله أعلم.
(5) وردت عبارة السلف عن القضب كالآتي: عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: الفصفصة، وعن قتادة من طريق سعيد: الفصافص، وعن الضحاك من طريق عبيد: الرطبة، وعن الحسن من طريق يونس: العلف.
وقال ابن جرير: يعني بالقضب: الرطبة، وأهل مكة يسمون القت: القضب.
وهذا يعني أن القضب له أكثر من مسمى، فعبر عنه كل واحد منهم بأحد أسمائه، وهي: العلف، والرطبة، والقت، وهو البرسيم كذلك.
وأن حمل تفسير السلف على المثال لا التعيين في هذا الوضع، فإن القضب يطلق على ما يقضب من النبات؛ أي ك يقطع ثم ينمو، ويشمل ذلك أصنافاً كثيرة تشبه العلف في هذا الوصف؛ كالجبرجير والكراث والنعناع، وغيرها، والله أعلم.
(1/56)
 
 
30- قوله تعالى: {وحدائق غلبا} ؛ أي: وبساتين قد أحيط عليها بسور من شجر أو حجر أو غيره، وهذا البساتين شجرها عظيم الجذع، ملتف بعضها على بعض لطولها (1) .
31- قوله تعالى: {وفاكهة وأبا} ؛ أي: وأنبتنا بهذا الماء المنصب:
_________
(1) قال أبو جعفر الطبري: وقوله: {غلبا} ؛ يعني: غلاظاً، ويعني بقوله: {غلبا} : أشجاراً في بساتين غلاظ ... وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل، على اختلاف منهم في البيان عنه ". ثم ذكر الرواية عن السلف كالآتي:
1- ما التف واجتمع، عن ابن عباس من طريق كليب بن شهاب.
2- الطيبة، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح.
3- نبت الشجر كله، عن ابن عباس من طريق كليب بن شهاب، ومن طريق عكرمة: الشجر يستظل به في الجنة.
4- الطوال، عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة.
5- النخل الكرام، عن قتادة من طريق سعيد ومعمر.
6- العظام، عن ابن زيد: عظام، النخل العظيمة الجذع، وعن عكرمة: عظام الأوساط.
وإذا تأملت هذه الأقوال وجدتها تأتلف ولا تختلف كما قال ابن جرير، فالغالب: العظيمة الجذع، وهو تعبير عكرمة، ومثل له ابن زيد بالنخل، وإذا كانت عظيمة الجذع، فإنها ستلتف وتجتمع كما قال ابن عباس، وهي نبت الشجر كله، وهو الشجر الطويل كما قال ابن عباس، فنبه على أن =
(1/57)
 
 
فاكهة من ثمار هذه الأشجار يتفكه الناس بأكلها، وعشباً تأكله أنعامهم في المرعى (1) .
32- قوله تعالى: {متاعاً لكم ولإنعامكم} ؛ أي جعلنا هذا الطعام منفعة لكم، تنتفعون به أنتم وأنعامكم مدة من الزمان، ثم ينتهي هذا الانتفاع.
_________
(1) الشجر يصلح أن يكون بهذه الصفة، والعادة جرت على طيب شجر هذه الحدائق، وهو تفسير مجاهد، والله أعلم.
() ... جعل السلف الفاكهة للناس، فقال الحسن من طريق مبارك: الفاكهة: ما يأكل ابن آدم، وقال مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: ما أكل الناس، وقال قتادة من طريق سعيد: أما الفاكهة فلكم، وقال ابن زيد: الفاكهة لنا.
أما الأب، فالجمهور على أنه الكلأ والعشب الذي للحيوان، وقد عبر السلف عن ذلك بقولهم: الأب: ما أنبتت الأرض مما لا يأكل الناس، أو الكلأ والمرعى كله، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق كليب بن شهاب، وعن سعيد بن جبير، وعن العوفي، وعن مجاهد من طريق الأعمش أو غيره وسفيان وابن أبي نجيح، والحسن من طريق مبارك ومعمر ويونس، وقتادة من طريق سعيد، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد.
وعبر أبو رزين، فقال: الأب: النبات. وهذا أعلم من الأقوال التي ذكرت.
وورد عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، أنه الثمار الرطبة، وهو غريب.
ونسب للضحاك أنه التبن (الدر المنثور) ، ويجوز أن يعود إلى معنى النبات أو العشب على أنه يبيسهما، فيكون فسر بمآل الأب لا عينه، والله أعلم.
وأصل الأب في اللغة دال على العود؛ أي: أنه شيء الذي يذهب ثم يعود؛ كقولهم: "أب إلى وطنه"؛ أي: عاد إليه، وهذا المعنى متحقق فيما قاله المفسرون في معنى الأب من أنه: النبات، أو العشب، أو الثمار الرطبة، أو التبن؛ لأنها تجيء بعد ذهاب، غير أو الأول أولى؛ لأنه قول الجمهور، وللإشارة إليه بقوله: {ولانعامكم} على ما فسره أصحاب هذا القول، والله أعلم.
أما ما ورد عن صديق الأمة رضي الله عنه من أنه سئل عن الأب، فقال: "أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم "، فهو منقطع الإسناد.
وما صح عن عمر أنه قرأ هذه الآية، فقال: " قد عرفنا الفاكهة، فما الأب؟ قال: لعمرك يا ابن الخطاب، إن هذا لهو التكلف"، وله روايات أخرى. فإن فيه أن عمر لم يعرف معنى الأب، ولعلها ليست من لغة قريش، فجهلها. وفيه أنه جعل طلب معرفة ذلك من التكلف، وفي هذا إشكال، وهو هل تطلب مثل هذا يدخل في التكلف؟! الله أعلم.
(1/58)
 
 
33- قوله تعالى: {فإذا جاءت الصاخة} ؛ أي: تنتفعون بهذا المتاع الذي سرعان ما ينتهي، وذلك بمجيء تلك الصيحة العظيمة التي تصك الآذان بشدة صوتها (1) .
34-36- قوله تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه} ؛ أي: إذا جاءت تلك الصيحة وقع هروب الإنسان من هؤلاء القرابة، وهم الأخوة والأبوان والزوجة والأبناء.
37- قولهم تعالى: {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} ؛ أي: يهرب هؤلاء من بعضهم لأن كل منهم حاله التي تشغله من غيره (2) .
38- 39- قوله تعالى: {وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة} ؛ أي: في ذلك اليوم ينقسم الناس إلى فريقين: فريق قد أضاء وجهه واستنار، فهو منبسط منشرح بسبب ما سيلاقيه من النعيم.
40-42- قوله تعالى: {ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها فترة * أولئك هم الكفرة الفجرة} ؛ أي: وفريق قد تغبرت وجوههم، وعلاها السود والظلمة بسبب ما هي صائرة إليه من العذاب، وهي وجوه الذين ستروا فطرهم بالكفر، وشقوا ربقة الإيمان بأعمال الفجور، فجمعوا بين فساد الاعتقاد والعمل، والله أعلم.
_________
(1) ورد عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة أن الصاخة من أسماء يوم القيامة.
(2) استشهد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية لبيان انشغال كل واحد بنفسه في هذا اليوم، فقد ورد في الحديث أنه قال: "يحشر الناس حفاة عراة غرلاً، فقالت عائشة: أيبصر بعضنا بعضاً؟! فقال: يا عائشة: {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} ".
(1/59)
 
 
سورة التكوير
آياتها: 29
(1/61)
 
 
سورة التكوير
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا الشمس كورت * وإذا النجوم أنكدرت * وإذا الجبال سيرت * وإذا العشار عطلت * وإذا الوحوش حشرت * وإذا البحار سجرت * وإذا النفوس زوجت * وإذا الموؤدة سئلت * بأي ذنب قتلت * وإذا الصحف نشرت * وإذا السماء كشطت * وإذا الجحيم سعرت * وإذا الجنة أزلفت * علمت نفس ما أحضرت * فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس * والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس * إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين * وما صاحبكم بمجنون * ولقد راءه بالأفق المبين * وما هو على الغيب بضنين * وما هو بقول شيطان رجيم * فأين تذهبون * إن هو إلا ذكر العالمين * لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء رب العالمين.
(1/62)
 
 
سورة التكوير
قال صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين، فليقرأ: {إذا الشمس كورت} ، و {إذا السماء انفطرت} ، و {إذا السماء انشقت} .
وقد ورد عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن الآيات لست الأولى تكون في آخر الزمان والناس ينظرون إليها، ولست الأخيرة تكون في يوم القيامة.
1- قوله تعالى: {إذا الشمس كورت} ؛ أي: إذا جمع جرم الشمس، وذهب ضوؤها، فألقيت في النار (1) .
_________
(1) عبر السلف عن التكوير بالعبارات الآتية:
1- ذهبت، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، والضحاك من طريق عبيد، وقال مجاهد من طريق أبي يحيى: اضمحلت وذهبت، وقال سعيد بن جبير من طريق جعفر: غورت.
2- ذهب ضوؤها، وهو قول أبي بن كعب من طريق أبي العالية، وقتادة من طريق شعبة، وقال ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: أظلمت.
3- رُمي بها، وهو قول الربيع بن خثيم، وأبي صالح من طريق إسماعيل، وفي رواية أخرى ن طريق إسماعيل: نكست.
وهذه الأقوال ترجع إلى معنيين: ذهابها بذاتها، يلحقه ذهاب ضوئها، ورميها، وعلى هذه التفاسير يكون التكوير محتملاً لهذين الأمرين، ويربط بينهما أنهما من الأحوال التي تمر بها الشمس في ذلك اليوم، فجاءت هذه اللفظة الواحدة دالة على هذه المعاني، والله أعلم.
قال ابن جرير الطبري: "الصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال: "كورت" كما قال الله جل ثناؤه، والتكوير في كلام العرب: جمع بعض الشيء إلى بعض، وذلك كتكوير العمامة، وهو لفها على الرأس، وكتكوير الكارة، وهي جمع الثياب بعضها إلى بعض ولفها، وكذلك قوله: {إذا الشمس كورت} إنما معناه: جمع بعضها إلى بعض، ثم لفت، فرمي بها، وإذا فعل ذلك بها ذهب ضوؤها، فعلى التأويل الذي تأولناه وبيناه لكلا القولين اللذين ذكرت عن أهل التأويل وجه صحيح، وذلك أنها إذا كورت ورمي بها ذهب ضوؤها".
وعلى هذا الترجيح من الطبري يزيد معنى اللف والمع، ولم أجده لأحد من السلف قبل الطبري، وهو مستنبط من المعنى اللغوي للتكوير، كما أن من قال: رمي بها، فإنه مأخوذ من معنى لغوي آخر في مادة التكوير، تقول: كورت الرجل؛ أي: طرحته في الأرض، وقد ورد في الحديث: "الشمس والقمر ثوران مكوران في النار". وهذا يشهد لهذا المعنى التفسيري، ويزيد عليه بيان مآل الشمس. أما من فسرها بذهبت واضمحلت فإن ذلك لازم لفها كما ذكرى الطبري، وإذا ذهبت ذهب ضوؤها، والله أعلم.
(1/63)
 
 
2- قوله تعالى: {وإذا النجوم انكدرت} ؛ أي: وإذا نجوم السماء وقعت وانتثرت، فتغيرت وطمس ضوؤها (1) .
3- قوله تعالى: {وإذا الجبال سيرت} ؛ أي: وإذا هذه الجبال العظيمة قد أمر الله بتحريكها من مكانها، فسارت (2) .
_________
(1) ورد في تفسير الأنكدار قولان:
الأول: تناثرت، وهو قول الربيع بن خثيم، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وأبي صالح من طريق إسماعيل، وقتادة من طريق سعيد، وعبارته: "تساقطت وتهافتت} ، وابن زيد، وعبارته: "رمي بها من السماء إلى الأرض".
والثاني: تغيرت، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة.
وهذان القولان ليس بينهما تضاد، بل الثاني من لوازم الأول، والمعنى أنها إذا تساقطت؛ كما قال تعالى: {وإذا الكواكب انتثرت} [الانفطار: 2] ، فإنها تتغير ويذهب ضوؤها؛ كما قال تعالى {وإذا الكواكب انتثرت} [الانفطار: 2] ، فإنها تتغير ويذهب ضوؤها؛ كما قال تعالى: {فإذا النجوم طمست] [المرسلات: 8] . وهذان القولان مرجعهما اللغة، فالأول جعل اللفظ من الانكدار، أي الانصباب؛ كما قال العجاج:
تقضى البازي إذا البازى كسر ... أبصر غربان فضاء فانكدر
والمعنى الثاني مأخوذ من الكدرة، وهي التغير، تقول: كدرت الماء فانكدر؛ أي: تغير بما يكدر صفاءه، وهذا من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى معنيين غيرمتضادين، ويجوز أن يرادا في الآية، ويكون سبب الاختلاف التنوع الذي يرجع إلى معنيين غير متضادين، ويجوز أن يرادا في الآية، ويكون سبب الاختلاف الاشتراك اللغوي في لفظ: انكدرت، والله أعلم.
(2) عبر مجاهد عن معنى التسيير بقوله: "ذهبت"، وهذا من لوازم تسيير الجبال؛ لأنها إذا سارت فقد ذهبت، والله أعلم.
وهذه الآية كقوله تعالى: {وسيرت الجبال فكانت سرايا} ، وجاء الفعل على صيغة المفعول للاهتمام بالحديث، وللدلالة على أن هذا الفعل يكون مبدؤه بفعل فاعل فيها، ثم إنها تنفل لهذا الحدث فتسير؛ كما قال تعالى: {وتسير الجبال سيرا} ، ويظهر أن هذه أول حال من الأحوال التي تمر بها الجبال في ذلك اليوم، والله أعلم.
(1/64)
 
 
4- قوله تعالى: {وإذا العشار عطلت} ؛ أي: وإذا النوق الحوامل التي بلغت الشهر العاشر من حملها، التي هي أنفس أموالهم، قد أهملها أهلها وتركوها من هول الموقف (1) .
5- قوله تعالى: {وإذا الوحوش حشرت} ؛ أي: وإذا الحيوانات البرية التي لم تأنس بالإنسان جمعت معه وزال ما بينهما من الاستيحاش بسبب هول الموقف (2) .
_________
(1) كذا قال السلف: أبي بن كعب من طريق أبي العالية، والربيع بن خثيم، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح وأبي يحيى، والحسن من طريق عوف، وقتادة من طريق معمر، و