تفسير القرآن العزيز لابن أبي زمنين 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: تفسير القرآن العزيز
المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عيسى بن محمد المري، الإلبيري المعروف بابن أبي زَمَنِين المالكي (المتوفى: 399هـ)
 
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
{أَو لم يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْض كَانَتَا رتقا} [قَالَ السُّدِّيُّ: أَوْ لَمْ يَعْلَمْ] قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: مُلْتَزِقَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا على الْأُخْرَى {ففتقناهما} يَقُولُ: فَوَضَعَ الْأَرْضَ، وَرَفَعَ السَّمَاءَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {كَانَتَا رَتْقًا} لِأَنَّ السَّمَوَاتِ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالسَّمَاءِ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ، وَمَعْنَى (رتقا) أَيْ: شَيْئًا وَاحِدًا
(3/145)
 
 
مُلْتَحِمًا؛ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ. {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ} أَيْ: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ فَإِنَّمَا خلق من المَاء.
(3/146)
 
 
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
{وَجَعَلنَا فِي الأَرْض رواسي} يَعْنِي: الْجِبَالَ {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} لِئَلَّا تَحَرَّكَ بِهِمْ {وَجَعَلْنَا فِيهَا فجاجا سبلا} يَعْنِي: أَعْلَامًا طَرِقًا {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} لكَي يهتدوا الطّرق
(3/146)
 
 
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)
{وَجَعَلنَا السَّمَاء سقفا} على من تحتهَا {مَحْفُوظًا} يَعْنِي: مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ. {وهم عَن آياتها معرضون} أَي: لَا يتفكرون فِيهَا يَرَوْنَ؛ فَيَعْرِفُونَ أَنَّ لَهُمْ مَعَادًا فيؤمنون.
(3/146)
 
 
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يسبحون} أَي: يجرونَ، تفسيرالحسن: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ فِي طَاحُونَةٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَهَيْئَةِ فَلَكَةِ الْمِغْزَلِ تَدُورُ فِيهَا، وَلَوْ كَانَتْ مُلْتَزِقَةٌ بِالسَّمَاءِ لَمْ تَجْرِ.
(3/146)
 
 
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
{أفأين مت فهم الخالدون} على (ل 215) الِاسْتِفْهَامِ: أَفَهُمُ الْخَالِدُونَ؟ أَيْ: لَا يخلدُونَ.
(3/146)
 
 
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
{وتبلوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْر} يَعْنِي: الشدَّة والرخاء {فتْنَة} أَي: اختبارا.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 36 آيَة 40).
(3/146)
 
 
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
{وَإِذا رآك الَّذين كفرُوا} يَقُولُهُ لِلنَّبِيِّ {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} أَيْ: يَعِيبُهَا وَيَشْتِمُهَا، يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. قَالَ اللَّهُ: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ}.
(3/147)
 
 
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
{خلق الْإِنْسَان من عجل} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: خُلِقَ عَجُولًا.
قَالَ اللَّهُ: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} وَذَلِكَ لِمَا كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام مِنَ الْعَذَابِ اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ وَتَكْذِيبًا.
(3/147)
 
 
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُم صَادِقين} هَذَا قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيِّ؛ مَتَى هَذَا الَّذِي تَعِدُنَا بِهِ مِنْ أَمر الْقِيَامَة؟!
(3/147)
 
 
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)
قَالَ اللَّهُ: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوههم النَّار} الْآيَةُ (وَفِيهَا تَقْدِيمٌ؛ أَيْ: أَنَّ الْوَعْد الَّذِي كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا هُوَ يَوْمُ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ) {وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هم ينْصرُونَ} لَو يعلم الَّذين كفرُوا
(3/147)
 
 
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
{بل تأتيهم بَغْتَة} يَعْنِي: الْقِيَامَة {فتبهتهم} أَيْ: تُحَيِّرُهُمْ {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هم ينظرُونَ} يؤخرون.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 41 آيَة 44).
(3/147)
 
 
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فحاق بالذين سخروا مِنْهُم} أَيْ: كَذَّبُوهُمْ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِمْ {مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون} يَعْنِي: الْعَذَابَ الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ.
(3/148)
 
 
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ من الرَّحْمَن} أَيْ: هُمْ مِنَ الرَّحْمَنِ؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ؛ كَقَوْلِهِ: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمر الله} أَيْ: هُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَهُمْ مَلَائِكَةٌ حَفَظَةٌ لِبَنِي آدَمَ ولأعمالهم، وَقد مضى تَفْسِيره.
(3/148)
 
 
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُوننَا} أَيْ: قَدِ اتَّخَذُوا آلِهَةً لَا تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا.
قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: لَا تَمْنَعُهُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ عَذَابَهُمْ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا تُعَذَّبُ الشَّيَاطِينُ الَّتِي دَعَتْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَلَا تُعَذَّبُ الْأَصْنَامُ. {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} يَقُولُ: لَا تَسْتَطِيعُ تِلْكَ الْأَصْنَامُ نَصْرَ أَنْفُسِهَا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُعَذِّبَهَا {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَقُولُ: وَلَا مَنْ عَبدهَا منا يجارون.
(3/148)
 
 
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
{بل متعنَا هَؤُلَاءِ} يَعْنِي: قُرَيْشًا {وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِم الْعُمر} لم يَأْتهمْ رَسُول حَتَّى جَاءَهُم مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ ننقصها من أطرافها} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كُلَّمَا بُعِثَ إِلَى أَرْضٍ ظَهَرَ عَلَيْهَا؛ أَيْ: يَنْقُصُهَا بِالظُّهُورِ عَلَيْهَا أَرْضًا فَأَرْضًا {أَفَهُمُ الغالبون} أَيْ: لَيْسُوا بِالْغَالِبِينَ، وَلَكِنَّ رَسُولَ الله هُوَ الْغَالِب.
(3/148)
 
 
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 45 آيَة 50).
(3/149)
 
 
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
{قل إِنَّمَا أنذركم بِالْوَحْي} بِالْقُرْآنِ، أُنْذِرُكُمْ بِهِ عَذَابَ الدُّنْيَا وَعَذَابَ الْآخِرَةِ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {وَلا يسمع الصم الدُّعَاء} يَعْنِي: النِّدَاءَ {إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} والصم هَاهُنَا: الْكفَّار؛ صموا عَن الْهدى
(3/149)
 
 
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)
{وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبك} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: عُقُوبَةً.
قَالَ يَحْيَى: يَعْنِي: النَّفْخَةَ الْأُولَى الَّتِي يُهَلْكُ بِهَا كُفَّارُ آخِرِ هَذِهِ الْأمة.
(3/149)
 
 
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
{وَنَضَع الموازين الْقسْط} (يَعْنِي: الْعَدْلَ) {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تظلم نفس شَيْئا} لَا تُنْقَصُ مِنْ ثَوَابِ عَمَلِهَا {وَإِن كَانَ مِثْقَال حَبَّة} أَيْ: وَزْنَ حَبَّةٍ {مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} قَالَ الْحَسَنُ: لَا يَعْلَمُ حِسَابَ مَثَاقِيلِ الذَّرِّ وَالْخَرْدَلِ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يُحَاسِبُ الْعِبَادَ إِلَّا هُوَ.
(3/149)
 
 
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} يَعْنِي: التَّوْرَاةَ، وفُرْقَانُهَا أَنَّهُ فَرَّقَ فِيهَا حلالها وحرامها.
(3/149)
 
 
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
{الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ} أَيْ: يَذْكَرُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ ذَنْبَهُ فِي الْخَلَاءِ؛
(3/149)
 
 
فَيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ مِنْهُ. {وَهُمْ مِنَ السَّاعَة مشفقون} خَائِفُونَ مِنْ شَرِّ ذَلِكَ الْيَوْمَ وهم الْمُؤْمِنُونَ.
(3/150)
 
 
وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
{وَهَذَا ذكر مبارك} يَعْنِي: الْقُرْآنَ. {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ يَعْنِي: قد أنكرتموه.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 51 آيَة 57).
(3/150)
 
 
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قبل} يَعْنِي: النُّبُوَّةَ {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أَنَّهُ سَيُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ الرِّسَالَةَ.
(3/150)
 
 
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)
{مَا هَذِه التماثيل} يَعْنِي: الْأَصْنَامَ {الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عاكفون} (ل 216) مقيمون على عبادتها.
(3/150)
 
 
قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)
{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ من اللاعبين} يَعْنِي: الْمُسْتَهْزِئِينَ.
(3/150)
 
 
قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
{الَّذِي فطرهن} خَلَقَهُنَّ {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدين} أَنه ربكُم
(3/150)
 
 
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
{وتالله لأكيدن أصنامكم} الْآيَةُ.
قَالَ قَتَادَةُ: [نَرَى] أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ حَيْثُ لَا يَسْمَعُونَ اسْتَدْعَاهُ قَوْمُهُ إِلَى عِيدٍ لَهُمْ؛ فَأبى وَقَالَ: {إِنِّي سقيم} اعْتَلَّ لَهُمْ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لما ولوا: {تالله لأكيدن أصنامكم} الْآيَة.
(3/150)
 
 
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 58 آيَة 68).
(3/151)
 
 
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
{فجعلهم جذاذا} أَيْ: قِطَعًا؛ قَطَعَ أَيْدِيَهَا وَأَرْجُلَهَا، وَفَقَأَ أَعْيُنَهَا، وَنَجَرَ وُجُوْهَهَا {إِلا كَبِيرا لَهُم} لِلْآلِهَةِ؛ يَعْنِي: أَعْظَمَهَا فِي أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ أَوْثَقَ الْفَأْسَ فِي [يَدِ] كَبِيرِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ؛ كَادَهُمْ بِذَلِكَ {لَعَلَّهُم إِلَيْهِ يرجعُونَ} أَي: يبصرون فيؤمنون.
(3/151)
 
 
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)
فَلَمَّا رَجَعُوا رَأُوا مَا صُنِعَ بِأَصْنَامِهِمْ {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا}
(3/151)
 
 
قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)
{قَالُوا سمعنَا فَتى يذكرهم} أَيْ: يَعِيبُهُمْ {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}.
قَالَ مُحَمَّد: (إِبْرَاهِيم) رُفِعَ بِمَعْنَى يُقَالُ لَهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَوِ الْمَعْرُوفُ بِهِ إِبْرَاهِيمُ.
(3/151)
 
 
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاس لَعَلَّهُم يشْهدُونَ} أَنَّهُ كَسَرَهَا، قَالَ قَتَادَةُ:
(3/151)
 
 
كَرِهُوا أَنْ يَأْخُذُوهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَجَاءُوا بِهِ فَقَالُوا: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ}.
(3/152)
 
 
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فاسألوهم إِن كَانُوا ينطقون} قَالَ قَتَادَةُ: وَهِيَ هَذِهِ الْمَكِيدَةُ
(3/152)
 
 
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
{ثمَّ نكثوا على رُءُوسهم} أَيْ: خَزَايَا قَدْ حَجَّهُمْ؛ فَقَالُوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ}.
(3/152)
 
 
أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
{أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دون الله}.
قَالَ مُحَمَّد: (أُفٍّ) مَعْنَاهُ: التَّغْلِيظُ فِي الْقَوْلُ وَالتَبَرُّمُ، وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَهَا النَّتَنُ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: نَتنًا لكم.
(3/152)
 
 
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)
{قَالُوا حرقوه} الْآيَةُ، قَالَ الْحَسَنُ: فَجَمَعُوا الْحَطَبَ زَمَانًا، ثُمَّ جَاءُوا بِإِبْرَاهِيمَ، فَأَلْقَوْهُ فِي تِلْكَ النَّارِ.
قَالَ يَحْيَى: بلعني أَنَّهُمْ رَمُوا بِهِ فِي الْمَنْجَنِيقِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا صُنِعَ المنجنيق.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 69 73).
(3/152)
 
 
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسلَامًا} تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ: سَلَامَةً مِنْ حَرِّ النَّارِ، وَمِنْ بَرْدِهَا. قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ كَعْبًا قَالَ: مَا انْتَفَعَ بِهَا يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَمَا
(3/152)
 
 
أحرقت مِنْهُ إِلَّا وثَاقه.
(3/153)
 
 
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
{وَأَرَادُوا بِهِ كيدا} يَعْنِي: حَرْقُهُمْ إِيَّاهُ {فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} فِي النَّارِ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَخَسِرُوا الْجنَّة
(3/153)
 
 
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي باركنا فِيهَا} يَعْنِي: الأَرْض المقدسة {للْعَالمين} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: جَمِيعَ الْعَالَمِينَ
(3/153)
 
 
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} قَالَ الْحسن: أَي: عَطِيَّة.
(3/153)
 
 
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
{وجعلناهم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا} قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ يُهْتَدَى بِهِمْ فِي أَمر الله.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 74 آيَة 77).
(3/153)
 
 
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)
{ولوطا آتيناه حكما وعلما} يَعْنِي: النُّبُوَّةَ {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تعْمل الْخَبَائِث} يَعْنِي: أَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الْخَبَائِثَ {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسقين} مُشْرِكين.
(3/153)
 
 
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} وَهَذَا حِينَ أُمِرَ بِالدُّعَاءِ عَلَى قَوْمِهِ {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} قَالَ قَتَادَةُ: نُجِّيَ مَعَ نَوْحٍ: امْرَأَته وَثَلَاثَة بَنِينَ لَهُ ونساءهم؛ وَجَمِيعُهُمْ ثَمَانِيَةٌ {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} يَعْنِي: الْغَرق.
قَالَ مُحَمَّد: (نوحًا) مَنْصُوبٌ عَلَى مَعْنَى: اذْكُرْ نُوحًا، وَكَذَلِكَ دَاوُد وَسليمَان.
(3/153)
 
 
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
{ونصرناه} يَعْنِي: نوحًا {من الْقَوْم} يَعْنِي: عَلَى الْقَوْمِ؛ فِي تَفْسِيرِ السّديّ.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 78 آيَة 82).
(3/154)
 
 
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْث إِذْ نفشت فِيهِ} أَيْ: وَقَعَتْ فِيهِ {غَنَمُ الْقَوْمِ} النَّفْشُ بِاللَّيْلِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ أَصْحَابَ الْحَرْثِ اسْتَعَدَوْا عَلَى أَصْحَابِ الْغَنَمِ، فَنَظَرَ دَاوُدُ ثَمَنَ الْحَرْثِ، فَإِذَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْ ثَمَنِ الْغَنَمِ، فَقَضَى بِالْغَنَمِ لِأَهْلِ الْحَرْثِ فَمَرُّوا بِسُلَيْمَانَ فَقَالَ: كَيْفَ قَضَى فِيكُمْ (نَبِيُّ اللَّهِ)؟ فَأَخْبَرُوهُ، قَالَ لَهُمْ: [نِعْمَ] مَا قَضَى، وَغَيْرُهُ كَانَ أَرْفَقُ بِالْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَدَخَلَ أَصْحَابُ الْغَنَمِ عَلَى دَاوُدَ؛ فَأَخْبَرُوهُ فَأَرْسَلَ إِلَى سُلَيْمَانَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ لَمَا حَدَّثْتَنِي كَيْفَ رَأَيْتَ فِيمَا قَضَيْتُ؟ قَالَ: تَدْفَعُ الْغَنَمَ إِلَى أَهْلِ الْحَرْثِ، فَيَنْتَفِعُونَ بِلَبَنِهَا وَسَمْنِهَا وَأَصْوَافِهَا عَامَهُمْ هَذَا، وَعَلَى أَهْلِ الْغَنَمِ أَنْ يَزْرَعُوا لِأَهْلِ الْحَرْثِ مِثْلَ الَّذِي أَفْسَدَتْ غَنَمُهُمْ فَإِذَا
(3/154)
 
 
(بَلَغَ) مِثْلَهُ حِينَ أُفْسِدَ قَبَضُوا غَنَمَهُمْ؛ فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: نِعْمَ الرَّأْي رَأَيْت.
(ل 217) {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطير} كَانَتْ جَمِيعُ الْجِبَالِ وَجَمِيعُ الطَّيْرِ تُسَبِّحُ مَعَ دَاوُدَ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، ويفقه تسبيحها {وَكُنَّا فاعلين} أَيْ: قَدْ فَعَلْنَا ذَلِكَ.
قَالَ مُحَمَّد: يجوز نصب (الطير) مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا عَلَى مَعْنَى: وَسَخَّرْنَا الطَّيْرَ، وَالْأُخْرَى عَلَى مَعْنَى: يسبحْنَ مَعَ الطير.
(3/155)
 
 
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
{وعلمناه صَنْعَة لبوس لكم} يَعْنِي: دُرُوعَ الْحَرْبِ {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بأسكم} يَعْنِي: الْقِتَالَ.
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ قَبْلَ دَاوُدَ صَفَائِحَ، وَأَوَّلُ مَنْ صَنَعَ هَذِهِ الْحِلَقَ وَسَمَّرَهَا: دَاوُدُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: تُقْرَأُ {لِيُحَصِنَكُمْ} بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ؛ فَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَالْمَعْنَى: لِيُحَصِنَكُمُ اللَّبُوسُ، وَمِنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَكَأَنَّهُ عَلَى الصَّنْعَةِ؛ لِأَنَّهَا أُنْثَى.
(3/155)
 
 
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
{ولسليمان الرّيح} أَي: وسخرنا لِسُلَيْمَان الرّيح {عَاصِفَة} لَا تُؤْذِيهِ {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْض الَّتِي باركنا فِيهَا} يَعْنِي: أَرض الشَّام.
(3/155)
 
 
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ ويعملون عملا دون ذَلِك} (سِوَى ذَلِكَ) الْغَوْصِ، وَكَانُوا يَغُوصُونَ فِي الْبَحْرِ فَيُخْرِجُونَ لَهُ اللُّؤْلُؤَ، وَقَالَ فِي
(3/155)
 
 
آيَةٍ أُخْرَى: {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}. {وَكُنَّا لَهُم حافظين} حَفِظَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَلَّا يَذْهَبُوا ويتركوه.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 83 آيَة 86).
(3/156)
 
 
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مسني الضّر} الْمَرَض {وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ} قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ أَيُّوبَ لَمْ يَبْلُغْهُ شَيْءٌ يَقُولُهُ النَّاسُ كَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا ابْتُلِيَ بِالَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ، فَدَعَا اللَّهَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَعْمَلْ حَسَنَةً فِي الْعَلَانِيَةِ إِلَّا عَمِلْتُ فِي السِّرِّ مَثْلَهَا؛ فَاكْشِفْ مَا بِي مِنْ ضُرٍّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، فَوَقَعَ سَاجِدًا، وَأَمْطَرَ عَلَيْهِ فَرَاشَ الذَّهَبِ، فَجَعَلَ يَلْتَقِطُهُ وَيَجْمَعُهُ {وَآتَيْنَاهُ أَهله وَمثلهمْ مَعَهم} هَذَا مُفَسَّرٌ فِي سُورَةِ " ص " {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} أَيْ: أَنَّ الَّذِي كَانَ مِمَّنِ ابْتُلِي بِهِ أَيُوبُ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَوَانِهِ عَلَى اللَّهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ كَرَامَتَهُ بِذَلِكَ، وَجَعَلَ ذَلِك عزاء للعابدين بعده.
(3/156)
 
 
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
{وَإِسْمَاعِيل وَإِدْرِيس وَذَا الكفل} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: أَنَّ ذَا الْكِفْلِ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا تَكَفَّلَ بِعَمَلِ رَجُلٍ صَالِحٍ عِنْدَ مَوْتِهِ كَانَ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ
(3/156)
 
 
يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ؛ فَأَحْسَنَ اللَّهُ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ.
وَتَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ تَكَفَّلَ لنَبِيٍّ أَنَّ يَقُومَ فِي قومه بعده بِالْعَدْلِ.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 87 آيَة 91).
(3/157)
 
 
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
{وَذَا النُّون} يَعْنِي: يُونُسَ، قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: النُّونُ: الْحُوتُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {وَإِسْمَاعِيل وَإِدْرِيس وَذَا الكفل} مَنْصُوبٌ عَلَى مَعْنَى: وَاذْكُرْ، وَكَذَلِكَ قَوْله: {وَذَا النُّونِ}. {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [لِقَوْمِهِ]: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: أَنْ لَنْ نُعَاقِبَهُ بِمَا صَنَعَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَصْلُ الْكَلِمَةِ: الضِّيقُ؛ كَقَوْلِهِ: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رزقه} أَيْ: ضَيَّقَ، وَمِنْ هَذَا قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِ وَمُقَتَّرٌ.
(3/157)
 
 
{فَنَادَى فِي الظُّلُمَات} يَعْنِي: فِي ظُلْمَةِ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةِ بَطْنِ الْحُوتِ {أَنْ لَا إِلَه إِلَّا أَنْت} الْآيَةُ.
يَحْيَى: عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ سَعْدٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " دَعْوةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: {لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمين} فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ رَبَّهُ قَطٌّ فِي شَيْءٍ إِلَّا اسْتَجَابَ لَهُ ".
(3/158)
 
 
وَتَفْسِيرُ قِصَّةِ يُونُسَ (مَذْكُورٌ) فِي سُورَة الصافات.
(3/159)
 
 
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
{وأصلحنا لَهُ زوجه} قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ عَاقِرًا؛ فَجَعَلَهَا الله ولودا {وَوَهَبْنَا لَهُ} مِنْهَا {يحيي}. {ويدعوننا رغبا} أَي: طَمَعا {ورهبا} أَي: خوفًا.
(3/159)
 
 
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
{وَالَّتِي أحصنت فرجهَا} جَيْبَ دِرْعِهَا عَنِ الْفَوَاحِشِ {فَنَفَخْنَا فِيهَا من رُوحنَا} تَنَاوَلَ جِبْرِيلُ بِأُصْبَعِهِ جَيْبَهَا فَنَفَخَ فِيهِ؛ فَسَارَ إِلَى بَطْنِهَا فَحَمَلَتْ {وجعلناها وَابْنهَا آيَة للْعَالمين} يَعْنِي: أَنَّهَا وَلَدَتْهُ مِنْ غَيْرِ رجل.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 92 آيَة 95).
(3/159)
 
 
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ: دِينَكُمْ دِينًا وَاحِدًا.
(3/159)
 
 
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ {أُمَّتُكُمْ} بِالرَّفْع، وَنصب (أمة وَاحِدَة) فأمتكم رفع خبر (هَذِه)، وَنصب (أمة) لِمَجِيءِ النَّكِرَةِ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ؛ هَذَا قَول أبي عُبَيْدَة.
(3/160)
 
 
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
{وتقطعوا أَمرهم بَينهم} يَعْنِي: أَهْلَ الْكِتَابِ؛ أَيْ: فَرَّقُوا دِينَهُمُ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ، يَعْنِي: الْإِسْلَام [فَدَخَلُوا فِي] غَيره.
(3/160)
 
 
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
{فَلَا كفران لسعيه} لعمله {وَإِنَّا لَهُ كاتبون} نحسب حَسَنَاته (ل 218) حَتَّى يجزى بهَا الْجَنَّةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: تَقُولُ الْعَرَبُ: غُفْرَانَكَ لَاكُفْرَانَكَ؛ الْمَعْنَى: لَا نَجْحَدُ.
(3/160)
 
 
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)
{وَحرَام على قَرْيَة أهلكناها} أَيْ: وَاجِبٌ عَلَيْهَا {أَنَّهُمْ لَا يرجعُونَ} قَالَ الْحَسَنُ: [الْمَعْنَى] أَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ، وَلَا يَرْجِعُونَ عَنْ كُفْرِهِمْ.
وتقرأ أَيْضا {وَحرم عَلَى قَرْيَةٍ}.
قَالَ مُحَمَّدٌ: حِرُمَ وَحَرَامٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ أَيْ: وَاجِبٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
(3/160)
 
 
(فَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا ... عَلَى شَجْوَةٍ إِلَّا بَكَيْتُ على عَمْرو)
 
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 96 آيَة 100).
(3/161)
 
 
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
قَوْله: {حَتَّى إِذا فتحت} أَيْ: أُرْسِلَتْ {يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ من كل حدب يَنْسلونَ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: مِنْ كُلِّ أَكَمَةٍ يَخْرُجُونَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: النَّسَلَانِ فِي اللُّغَةِ: مُقَارَبَةُ الْخَطْوِ مَعَ الْإِسْرَاع.
(3/161)
 
 
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
{واقترب الْوَعْد الْحق} يَعْنِي: النَّفْخَةَ الْآخِرَةَ {فَإِذَا هِيَ شاخصة أبصار الَّذين كفرُوا} إِلَى إِجَابَةِ الدَّاعِي. {يَا وَيْلَنَا} يَقُولُونَ: يَا وَيْلَنَا {قَدْ كُنَّا فِي غَفلَة من هَذَا} يَعْنُونَ: تَكْذِيبَهُمْ بِالسَّاعَةِ {بَلْ كُنَّا ظالمين} لأنفسنا
(3/161)
 
 
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ؛ لِأَنَّهُمْ بِعِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ عَابِدُونَ لِلشَّيَاطِينِ {حَصَبُ جَهَنَّم} أَيْ: يُرْمَى بِهِمْ فِيهَا.
(3/161)
 
 
قَالَ مُحَمَّد: {حصب جَهَنَّم} مَا أُلْقِي فِيهَا؛ تَقُولُ: حَصَبْتُ فُلَانًا حَصْبًا بِتَسْكِينِ الصَّادِ؛ أَيْ: رَمَيْتُهُ، وَمَا رَمَيْتَ فَهُوَ حَصَبٌ. {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَة مَا وردوها} (يَعْنِي: الشَّيَاطِينَ) {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} العابدون والمعبودون
(3/162)
 
 
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
{لَهُم فِيهَا زفير} قَدْ مَضَى تَفْسِيرُ الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ {وهم فِيهَا لَا يسمعُونَ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا بَقَى فِي النَّارِ مَنْ يَخْلُدُ فِيهَا جُعِلُوا فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ فِيهَا مَسَامِيرٌ مِنْ نَارٍ، ثُمَّ جُعِلَتِ التَّوَابِيتُ فِي تَوَابِيتَ أُخَرَ، ثُمَّ جُعِلَتْ تِلْكَ التَّوَابِيتُ فِي تَوَابِيتَ أُخَرَ؛ فَلا يَرَوْنَ أَنَّ أَحَدًا يُعَذَّبُ فِي النَّارِ غَيْرَهَمْ. ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يسمعُونَ}.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 101 آيَة 104).
(3/162)
 
 
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحسنى} يَعْنِي: الْجنَّة {أُولَئِكَ عَنْهَا} (يَعْنِي: النَّار) {مبعدون} قَالَ الْكَلْبِيُّ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَام مُقَابِلَ بَابِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} فَوَجِدَ مِنْهَا
(3/162)
 
 
أَهْلُ مَكَّةَ وَجْدًا شَدِيدًا، فَقَالَ ابْنُ الزِّبْعَرَى: يَا مُحَمَّدُ؛ أَرَأَيْتَ الْآيَةَ الَّتِي قَرَأْتَ آنِفًا أَفِينَا وَهِي آلِهَتِنَا خَاصَّةً، أَمْ فِي الْأُمَمِ وَآلِهَتِهِمْ؟ قَالَ: لَا؛ بَلْ فِيكُمْ وَفِي آلِهَتِكُمْ وَفِي الْأُمَمِ وَآلِهَتِهِمْ. فَقَالَ: خَصَمْتُكَ وَالْكَعْبَةِ؛ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ النَّصَارَى يَعْبُدُونَ عِيسَى وَأُمِّهِ، وَإِنَّ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةِ، أَفَلَيْسَ هَؤُلَاءِ مَعَ أَلِهَتِنَا فِي النَّارِ؟! فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَضَحِكَتْ قُرَيْشٌ وَلَجُّوا؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَوَابَ قَوْلِهِمْ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} يَعْنِي: عُزَيْرًا وَعِيسَى وَالْمَلَائِكَة
(3/163)
 
 
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
{لَا يسمعُونَ حَسِيسهَا} يَعْنِي: صَوْتَهَا إِلَى قَوْلِهِ: {الْفَزَعُ الْأَكْبَر} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: النَّفْخَةَ الْآخِرَةَ {وتتلقاهم الْمَلَائِكَة} قَالَ الْحَسَنُ: تَتَلَقَّاهُمُ بِالْبِشَارَةِ حِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَتَقُولُ: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}.
(3/163)
 
 
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: كَطَيِّ الصَّحِيفَةِ فِيهَا الْكِتَابُ {كَمَا بَدَأْنَا أول خلق نعيده} قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبْعَثَ الْمُوْتَى، عَادَ النَّاسُ كُلُّهُمْ نُطَفًا ثُمَّ عِلَقًا ثُمَّ مُضَغًا ثُمَّ عِظَامًا ثُمَّ لَحْمًا، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِمُ الرُّوحَ، فَكَذَلِكَ بَدَأَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُرْسِلُ اللَّهَ مَاءً مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مَنِيًا كَمَنِيِّ الرِّجَالِ فَتَنْبُتُ بِهِ جُسْمَانُهُمْ وَلُحْمَانُهُمْ؛ كَمَا تَنْبُتُ الْأَرْضُ مِنَ الثرى.
(3/163)
 
 
{وَعدا علينا} (يَعْنِي: الْبِدْءَ) {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أَيْ: نَحْنُ فَاعِلُونَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: {وَعدا} مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ؛ بِمَعْنَى: وَعَدْنَاهُمْ [هَذَا] وَعدا.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 105 آيَة 112).
(3/164)
 
 
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
{وَلَقَد كتبنَا فِي الزبُور} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: الْكُتُبَ: التَّوْرَاةَ والْإِنْجِيلَ وَالْقُرْآنَ {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} يَعْنِي: اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ {أَنَّ الأَرْضَ} يَعْنِي: أَرْضَ الْجَنَّةِ {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون}
(3/164)
 
 
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)
{إِن فِي هَذَا} يَعْنِي: الْقُرْآن {لبلاغا} إِلَى الْجنَّة {لقوم عابدين} الَّذين يصلونَ [الصَّلَوَات الْخمس]
(3/164)
 
 
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (ل 219) تَفْسِير سَعِيد بْن جُبَيْر قَالَ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ تَمَّتْ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ عُوفِيَ مِمَّا عُذِّبَتْ بِهِ الْأُمَمُ؛ وَلَهُ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ.
(3/164)
 
 
قَالَ يَحْيَى: [إِلَّا أَنَّ] تَفْسِيرَ النَّاسِ أَنَّ اللَّهَ أَخَّرَ عَذَابَ كُفَّارِ آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالِاسْتِئْصَالِ إِلَى النَّفْخَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يَكُونُ هلاكهم بعد هَذَا.
(3/165)
 
 
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
{فَقل آذنتكم على سَوَاء} قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: مَنْ كَذَّبَ بِي فَهُوَ عِنْدِي سَوَاءٌ؛ أَيْ: جِهَادُكُمْ كُلُّكُمْ عِنْدِي سَوَاءٌ.
قَالَ مُحَمَّد: وَمعنى (آذنتكم): أَعْلَمْتُكُمْ. {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بعيد مَا توعدون} يَعْنِي: السَّاعَة
(3/165)
 
 
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)
{وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} تَفْسِير الْحسن يَقُول: وَإِن أَدْرِي لَعَلَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ السَّعَةِ وَالرَّخَاءِ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ زائل {فتْنَة} بلية لكم {ومتاع} تَسْتَمْتِعُونَ بِهِ؛ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {إِلَى حِين} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: إِلَى الْمَوْتِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَعْنَى (وَإِنْ أَدْرِي): وَمَا أَدْرِي.
(3/165)
 
 
قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
{قل رب احكم بِالْحَقِّ} قَالَ الْحَسَنُ: أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ أَنْ يَنْصَرَ أَوْلِيَاءَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، فَنَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أَيْ: تَكْذِبُونَ.
(3/165)
 
 
تَفْسِيرَ سُورَةِ الْحَجِّ
 
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ مَكِّيَّاتٍ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} إِلَى قَوْلِهِ: {عَذَابُ يَوْم عقيم}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
سُورَةٌ الْحَج من (آيَة 1 آيَة 2).
(3/166)
 
 
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
قَوْله: {يَا أَيهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَة شَيْء عَظِيم} يَعْنِي: النفخة الْآخِرَة
(3/166)
 
 
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
{يَوْم ترونها تذهل} أَيْ: تُعْرِضُ {كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أرضعت} الْآيَة.
يَحْيَى: عَنْ أَبِي الأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: " بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فِي مَسِيرٍ لَهُ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ السَّيْرُ؛ إِذْ رفع صَوته فَقَالَ: {يَا أَيهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلُهُ: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد} فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَ نَبِيِّهِمُ اعْصَوْصَبُوا بِهِ. فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ ذَاكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ذَاكُمْ يَوْمٌ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ: يَا آدَمُ، قُمِ ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: من كل ألف تِسْعمائَة وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِنْسَانًا إِلَى النَّارِ وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ. فَلَمَّا سَمِعُوا مَا قَالَ نَبِيُّهُمْ أُبْلِسُوا حَتَّى مَا يُجْلِي رَجُلٌ مِنْهُمْ عَنْ وَاضِحَةٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ فِي
(3/166)
 
 
وُجُوهِهِمْ، قَالَ: اعْمَلُوا وَأَبْشِرُوا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ، أَوْ كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ، وَإِنَّكُمْ مَعَ خَلِيقَتَيْنِ مَا كَانَتَا مَعَ شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا كَثُرَتَاهُ: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَمَنْ هَلَكَ يَعْنِي: وَمَنْ كَفَرَ مِنْ بَنِي إِبْلِيسَ، وَتُكْمَلُ الْعِدَّةُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ ".
(3/167)
 
 
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {وَتَرَى النَّاس سكارى} أَيْ: تَرَى أَنْتَ أَيُّهَا
(3/168)
 
 
الْإِنْسَانُ النَّاسَ سُكَارَى مِنَ الْعَذَابِ وَالْخَوْف {وَمَا هم بسكارى} من الشَّرَاب.
سُورَة الْحَج من (آيَة 3 آيَة 4).
(3/169)
 
 
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْر علم} يَعْنِي: الْمُشْرِكَ يُلْحِدُ فِي اللَّهِ، فَيَجْعَلُ مَعَهُ إِلَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ أَتَاهُ مِنَ اللَّهِ {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَان مُرِيد} أَيْ: جَرِيءٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَالشَّيَاطِينُ هِيَ الَّتِي أَمرتهم.
(3/169)
 
 
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
{كتب عَلَيْهِ} أَيْ: قُضِيَ عَلَى الشَّيْطَانِ {أَنَّهُ من تولاه} اتبعهُ {فَأَنَّهُ يضله}.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ) (أَنَّهُ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، (فَأَنَّهُ يضله) عَطْفٌ عَلَيْهِ، وَمَوْضِعُهُ رَفْعٌ أَيْضًا، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهَا مِكَرَّرَةٌ عَلَى جِهَةِ الْتَوْكِيدِ؛ الْمَعْنَى: كُتُبِ عَلَيْهِ أَنَّهُ من تولاه أضلّهُ.
سُورَة الْحَج (آيَة 5).
(3/169)
 
 
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
{يَا أَيهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} أَيْ: فِي شَكٍّ (مِنَ الْبَعْثِ فَإنَّا خَلَقْنَاكُمْ
(3/169)
 
 
من تُرَاب} وَهَذَا خَلْقُ آدَمَ {ثُمَّ مِنْ نُطْفَة} يَعْنِي: نَسْلَ آدَمَ {ثُمَّ مِنْ علقَة ثمَّ من مضعة مخلقة وَغير مخلقة} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: هُمَا جَمِيعًا: السَّقْطُ مُخَلَّقٌ وَغَيْرُ مُخَلَّقٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمعنى {مخلقة وَغير مخلقة} أَيْ: مِنَ الْخَلْقِ مَنْ تَتِمُّ مُضْغَتُهُ بِخَلْقِ الْأَعْضَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُتِمُّ اللَّهُ خَلْقَهُ. {لِنُبَيِّنَ لكم} أَيْ: خَلْقَكُمْ {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ} أَرْحَامَ النِّسَاءِ {مَا نَشَاءُ إِلَى أجل مُسَمّى} {ل 220} يَعْنِي: مُنْتَهَى الْوِلَادَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: تُقْرَأُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ [مِمَّا قَبْلَهُ].
يَحْيَى: عَنْ صَاحِبٍ لَهُ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ [أَبِي وَائِلٍ] عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَام: " إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يُؤْمَرُ الْمَلَكُ أَوْ قَالَ: يَأْتِي الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ أَنْ يَكْتُبَ أَرْبَعًا: رِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَأَثَرَهُ وَشَقِيًا أَوْ سَعِيدًا ".
(3/170)
 
 
{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشدّكُم} يَعْنِي: الِاحْتِلَامِ. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} وَفِيهَا إِضْمَارٌ؛ أَيْ: يُتَوفَّى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْلُغَ أَرَذْلَ الْعُمُرِ {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمر} يَعْنِي: الْهَرم {لكَي لَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} أَيْ: يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُ شَيْئًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (طفْلا) فِي مَعْنَى: أَطْفَالَ؛ كَأَنَّ الْمَعْنَى: يَخْرُجُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ طِفْلًا.
وَقَوله: (لكَي لَا) هُوَ بِمَعْنَى حَتَّى لَا. {وَتَرَى الأَرْض هامدة} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: (غَبْرَاءَ) مُتَهَشِّمَةً.
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَامِدَةٌ حَقِيقَتُهَا جَافَّةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ: هُمُودُ النَّارِ إِذَا طُفِئَتْ فَذَهَبَتْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ. {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهتزت وربت} وِفِيهَا تَقْدِيمٌ، وَرَبَتْ لِلنَّبَاتِ؛ أَيْ: انْتَفَخَتْ، وَاهْتَزَّتْ بِالنَّبَاتِ؛ إِذَا أَنْبَتَتْ {وأنبتت من كل زوجٍ} أَي: من كل لون {بهيج} أَيْ: حَسَنٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (بَهِيجٍ) فِي مَعْنَى بَاهِجٌ؛ تَقُولُ الْعَرَبُ: امْرَأَة ذَات خلق باهج.
سُورَة الْحَج من (آيَة 6 آيَة 10).
(3/171)
 
 
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنه يحيي الْمَوْتَى} الْآيَةُ، يَقُولُ: إِنَّ الَّذِي أَخْرَجَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ الْهَامِدَةِ مَا أَخْرَجَ مِنَ النَّبَاتِ قَادِرٌ عَلَى أَن يحيي الْمَوْتَى.
(3/172)
 
 
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى} أَتَاهُ مِنَ اللَّهِ {وَلا كِتَابٍ مُنِير} مضيء لعبادة الْأَوْثَان
(3/172)
 
 
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
{ثَانِي عطفه} أَيْ: عُنُقُهُ. تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: يَقُولُ: هُوَ مُعْرِضٌ عَنِ اللَّهِ.
قَالَ مُحَمَّد: (ثَانِي) مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ؛ الْمَعْنَى: لَاوِيًا عُنُقَهُ؛ وَهَذَا مِمَّا يُوصَفُ بِهِ الْمُتَكَبِّرُ. {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} يَعْنِي: الْقَتْلُ، قَالَ الْكَلْبِيُ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ؛ فَقُتِلَ يَوْم بدر.
سُورَة الْحَج من (آيَة 11 آيَة 15).
(3/172)
 
 
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ على حرف} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: عَلَى شَكٍّ. {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} أَيْ: رَضِيَ {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلب على وَجهه} أَيْ: تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، هُوَ الْمُنَافِقُ؛ إِنْ رَأَى فِي الْإِسْلَامِ رَخَاءً وَطُمَأْنِينَةً طَابَتْ نَفْسُهُ بِمَا يُصِيبُ مِنْ ذَلِكَ الرَّخَاءِ، وَقَالَ: أَنَا مِنْكُمْ وَأَنَا مَعَكُمُ، وَإِذَا رَأَى فِي الْإِسْلَامِ شِدَّةً أَوْ بَلِيَّةً لَمْ يَصْبِرْ عَلَى مُصِيبَتِهَا، وَانْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ كَافِرًا، وَترك مَا كَانَ عَلَيْهِ.
(3/173)
 
 
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يضرّهُ وَلَا يَنْفَعهُ} يَعْنِي: الْوَثَنَ {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}.
(3/173)
 
 
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفعه} يَعْنِي: الْوَثَنَ أَيْضًا؛ يَعْنِي: أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَهُوَ كَلٌّ عَلَيْهِ {لبئس الْمولى} يَعْنِي: الْوَثَنَ {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}.
(3/173)
 
 
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} يَعْنِي: الْمُنَافِقَ؛ أَيْ: أَنَّهُ أَيِسَ مِنْ أَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا، لَا يُصَدِّقُ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ نَصْرِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَنَصْرُهُ فِي الْآخِرَةِ: الْجَنَّةُ {فليمدد بِسَبَب} أَي: بِحَبل {إِلَى السَّمَاء} يَقُولُ: فَلْيُعَلِّقْ حَبْلًا مِنَ السَّمَاءِ؛ يَعْنِي: سَقْفَ الْبَيْتِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ لِيَخْتَنِقَ حَتَّى يَمُوتَ {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يذْهبن كَيده} أَي: فعله {مَا يغِيظ} أَيْ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يُذْهِبُ غيظه.
سُورَة الْحَج من (آيَة 16 آيَة 18)
(3/173)
 
 
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ} يَعْنِي: الْقُرْآن {آيَات بَيِّنَات} أَي: بَين فِيهِ الْحَلَال وَالْحرَام.
(3/174)
 
 
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} تهودوا {وَالصَّابِئِينَ} وَهُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَيَقْرَءُونَ الزبُور {وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس} وَهُمْ عَبَدَةُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنِّيرَانِ {وَالَّذين أشركوا} وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} فِي الدُّنْيَا فَيُدْخِلُ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ، وَيُدْخِلُ [جَمِيعَ هُؤَلاءِ النَّارَ عَلَى مَا أَعَدَّ لِكُلِّ قوم.
(3/174)
 
 
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْض} يَعْنِي: جَمِيعَ أَهْلِ السَّمَاءِ يَسْجُدُونَ وَبَعْضُ أَهْلِ الْأَرْضِ. كَانَ الْحَسَنُ لَا يُعَوِّدُ السُّجُودَ إِلَّا مِنَ الْمُسلمين] {وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم} كلهَا {وَالْجِبَال} [كلهَا] {وَالشَّجر} [كُله] {وَالدَّوَاب} كُلُّهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى صِفَةِ الْإِنْسَانِ، فَاسْتَثْنَى فِيهِ، فَقَالَ {وَكَثِيرٌ من النَّاس} يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَاب} من لم يُؤمن.
سُورَة الْحَج من (آيَة 19 - آيَة 25).
(3/174)
 
 
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: اخْتَصَمَ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ؛ فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، وَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ كُلِّهَا، وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، فَأْفَلَجَ اللَّهُ أَهْلَ الْإِسْلَامِ؛ فَقَالَ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُم ثِيَاب من نَار} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار} الْآيَة، وَقَالَ: {خصمان}: أَهْلُ الْكِتَابِ خَصْمٌ، وَالْمُؤْمِنُونَ خَصْمٌ، ثمَّ قَالَ: (اخْتَصَمُوا) يَعْنِي: الْجَمِيع. {وَيصب من فَوق رُءُوسهم الْحَمِيم} وَهُوَ الْحَار الشَّديد الْحر.
(3/175)
 
 
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)
{يصهر بِهِ} أَيْ: يُذَابُ بِهِ {مَا فِي بطونهم والجلود} أَي: وَتحرق بِهِ الْجُلُود
(3/175)
 
 
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
{وَلَهُم مَقَامِع من حَدِيد} من نَار
(3/175)
 
 
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا من غم أعيدوا فِيهَا} قَالَ الْحَسَنُ: تَرْفَعُهُمْ بِلَهَبِهَا؛ فَإِذَا كَانُوا فِي أَعْلَاهَا قَمَعَتْهُمُ
(3/175)
 
 
الْمَلَائِكَةُ بِمَقَامِعَ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ نَارٍ فَيَهْوُونَ فِيهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا.
(3/176)
 
 
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} إِلَى قَوْلِهِ: {مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذهب ولؤلؤا}.
قَالَ مُحَمَّد: من قَرَأَ: {لؤلؤا} بِالنّصب فَالْمَعْنى: وَيحلونَ لؤلؤا.
(3/176)
 
 
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ {وهدوا} أَيْ: فِي الدُّنْيَا {إِلَى صِرَاطِ الحميد} وَهُوَ الله.
(3/176)
 
 
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيل الله وَالْمَسْجِد الْحَرَام} أَيْ: وَيَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ {الَّذِي جَعَلْنَاهُ للنَّاس} (قبْلَة) {سَوَاء العاكف فِيهِ} يَعْنِي: أهل مَكَّة {والبادي} يَعْنِي: مَنْ يَنْتَابَهُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ يَقُولُ: هُمْ سَوَاءٌ فِي حَرَمِهِ وَمَسَاكِنِهِ وَحُقُوقِهِ.
قَالَ مُحَمَّد: (سَوَاء) الْقِرَاءَةُ فِيهِ بِالرَّفْعِ؛ عَلَى الِابْتِدَاءِ. {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} أَيْ: بِشِرْكٍ، وَالْإِلْحَادُ: الْمَيْلُ، الْمَعْنَى: وَمِنْ يُرِدْ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ فِيهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: {بِإِلْحَادٍ} الْبَاء فِيهِ زَائِدَة.
(3/176)
 
 
سُورَة الْحَج من (آيَة 26 آيَة 27).
(3/177)
 
 
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} أَي: أعلمناه. {وطهر بَيْتِي} أَي: من عبَادَة الْأَوْثَان وَقَول الزُّورِ وَالْمَعَاصِي {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والقائمين} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي بِالْقَائِمِينَ: أَهْلَ مَكَّة {والركع السُّجُود} هم الَّذين يصلونَ إِلَيْهِ.
(3/177)
 
 
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رجَالًا} أَيْ: مُشَاةً {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أَيْ: وَرُكْبَانًا عَلَى ضُمُرٍ مِنْ طُولِ السَّفَرِ {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فج عميق} بعيد.
قَالَ مُحَمَّد: (رجَالًا) جَمْعُ رَاجِلٍ، مِثْلُ صَاحِبٍ وَصِحَابٍ، وَقَالَ (يَأْتِين) عَلَى مَعْنَى جَمَاعَةِ الإِبِلِ.
يَحْيَى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " قَامَ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَام عِنْدَ الْبَيْتِ؛ فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، فَسَمِعَ أَهْلُ الْمَشْرِقِ وَأَهْلُ الْمَغْرِبِ ".
وَفِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ نَادَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِن لله بَيْتا فحجوه.
سُورَة الْحَج من (آيَة 28 آيَة 33).
(3/177)
 
 
سُورَة الْحَج من (آيَة 28 - آيَة 33).
(3/178)
 
 
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
{ليشهدوا مَنَافِع لَهُم} يَعْنِي: الْأَجْرَ فِي الْآخِرَةِ، وَالتِّجَارَةَ فِي الْمَوْسِمِ {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّام مَعْلُومَات} وَهِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، آخِرُهَا يَوْمُ النَّحْرِ. [{عَلَى مَا رَزَقَهُمْ من بَهِيمَة الْأَنْعَام} يَعْنِي: إِذَا نَحَرَ وَذَبَحَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ: إِنَّ الأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ: يَوْمُ النَّحْرِ]، وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ. {وَأَطْعِمُوا البائس الْفَقِير} قَالَ الْحَسَنُ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا وَتَصَدَّقَ بِهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْبَائِسُ الَّذِي نَالَهُ بُؤْسٌ، وَهُوَ [شَدِيدُ] الْفَقْرِ يُقَالُ: قَدْ بَؤُسَ الرَّجُلُ وَبَئِسَ إِذَا صَارَ ذَا بُؤْسٍ؛ أَي: شدَّة.
(3/178)
 
 
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
{ثمَّ ليقضوا تفثهم} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: الْتَفَثُ: تَقَشُّفُ الْإِحْرَامِ، وَبِرَمْيِهِمُ
(3/178)
 
 
الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ يَحِلُّ لَهُمْ [كُلُّ شَيْءٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَعْنَى تَقَشُّفُ الْإِحْرَامِ: كُلُّ مَا لَا يجوز للْمحرمِ فعله مثل] (ل 222) قَصِّ الْشَارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ [وَنَتْفِ الْإِبِطَيْنِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ مِنَ الطّيب وَغَيره. {وليوفوا نذورهم} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: مَا نَذَرَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْحَجِّ {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: أَعْتَقَهُ اللَّهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ؛ كَمْ مِنْ جَبَّارٍ صَارَ إِلَيْهِ يُرِيدُ أَنْ يَهْدِمَهُ؛ فَحَالَ الله بَينه وَبَينه
(3/179)
 
 
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
{وَمن يعظم حرمات الله} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: الْحُرُمَاتُ: مَكَّةُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَعَاصِيهِ كُلِّهَا {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَقَدْ مَضَى تَفْسِيره. {فَاجْتَنبُوهُ الرجس من الْأَوْثَان} يَقُولُ: اجْتَنِبُوا الْأَوْثَانَ؛ فَإِنَّهَا رِجْسٌ {وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور} يَعْنِي: الشّرك {حنفَاء لله} أَي: مُخلصين.
(3/179)
 
 
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
{وَمن يُشْرك بِاللَّه} الْآيَةُ، قَالَ الْحَسَنُ: شَبَّهَ اللَّهُ أَعْمَالَ الْمُشْرِكِينَ بِالَّذِي يَخِرُّ مِنَ السَّمَاءِ؛ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ، فَلَا يَصِلُ إِلَى الْأَرْضِ {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيح فِي مَكَان سحيق} بَعِيدٍ، فَيَذْهَبُ فَلَا يُوْجَدُ لَهُ أَصْلٌ، وَلَا يُرَى لَهُ أَثَرٌ. يَقُولُ: لَيْسَتْ لِأَعْمَالِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ اللَّهِ قَرَارٌ لَهُمْ بِهِ عِنْدَهُ خير فِي الْآخِرَة.
(3/179)
 
 
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
{وَذَلِكَ وَمن يعظم شَعَائِر الله} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: يَعْنِي: اسْتِعْظَامُ الْبُدْنِ، واستسمانها.
(3/179)
 
 
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى} تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَجَلُ الْمُسَمَّى: إِلَى أَنْ تُقَلَّدَ وَتُشْعِرَ {ثمَّ محلهَا} إِذَا قَلَّدَتْ وَأُشْعِرَتْ {إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق}.
سُورَة الْحَج من (آيَة 34 آيَة 37).
(3/180)
 
 
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
{وَلكُل أمة} (وَلكُل قوم) {جعلنَا منسكا} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: حَجًا وَذَبْحًا. {وَبشر المخبتين} يَعْنِي: الْخَاشِعِينَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَاشْتِقَاقُ الْكَلِمَةِ مِنْ: الْخَبْتِ؛ وَهُوَ الْمَكَانُ المنخفض من الأَرْض.
(3/180)
 
 
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبهم} أَي: خَافت {والمقيمي الصَّلَاة} يَعْنِي: الْمَفْرُوضَةَ {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يَعْنِي: الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة.
(3/180)
 
 
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله لكم فِيهَا خير} أَيْ: أَجْرٌ فِي نَحْرِهَا، وَالصَّدَقَةُ مِنْهَا يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (الْبُدْنَ) بِالنَّصْبِ فَعَلَى فَعْلٍ مُضْمَرٍ؛ الْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا الْبُدْنَ. {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صواف} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ يَعْنِي: مُعْقَلَةً قِيَامًا. وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ (صَوَافِنَ).
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (صواف) مُشَدَّدَةً؛ فَالْمَعْنَى: صُفَّتْ قَوَائِمُهَا، وَالنَّصْبُ فِيهَا عَلَى الْحَالِ، وَلَا تُنَوَّنُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْصَرِفُ وَمَنْ قَرَأَ (صَوَافِنَ) فَالْصَافِنُ: الَّذِي يَقُومُ عَلَى ثَلَاثٍ؛ يُقَالُ: صَفَنَ الْفَرَسُ؛ إِذَا رَفَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ؛ فَقَامَ عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ، وَالْبَعِيرُ إِذَا أَرَادُوا نَحْرَهُ تُعْقَلُ إِحْدَى يَدَيْهِ فَهُوَ الْصَافِنُ وَالْجَمِيعُ: صَوَافِنُ. وَقُرِئَتْ (صَوَافِيَ) بِالْيَاءِ وَالْفَتْحِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَتَفْسِيرُهُ: خَوَالِصَ؛ أَيْ: خَالِصَةً لِلَّهِ لَا يُشْرِكْ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ فِي
(3/181)
 
 
التَّسْمِيَةِ عَلَى نَحْرِهَا أَحَدٌ. وَقَدْ ذَكَرَ يَحْيَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ وَلَمْ يُلَخِّصْهَا هَذَا التَّلْخِيصَ.
قَالَ: {فَإِذَا وَجَبت جنوبها} أَي: أسقطت لِلْمَوْتِ {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ والمعتر} قَالَ الْحَسَنُ: الْقَانِعُ: السَّائِلُ، وَالْمُعْتَرُّ: الَّذِي يَتَعَرَّضُ وَيُقْبِلُ إِنْ أُعْطِي شَيْئًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: قَنَعَ يَقْنَعُ مِنَ السُّؤَالِ، وَقَنِعَ يَقْنَعُ مِنَ الرِّضَا وَالْمُعْتَرُّ: الَّذِي يَعْتَرِيكَ؛ أَيْ: يُلِمُّ لِتُعْطِيَهُ وَلَا يَسْأَلُ.
(3/182)
 
 
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دماؤها} يَقُولُ: لَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَذْبَحُونَ لِآلِهَتِهِمْ، ثُمَّ يَنْضَحُونَ دماءها حول الْبَيْت. {لَكِن يَنَالهُ التَّقْوَى مِنْكُم} يَصْعَدُ إِلَيْهِ؛ يَعْنِي: مِمَّنْ آمَنَ. {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} السُّنَّةُ إِذَا ذَبَحَ أَوْ نَحَرَ أَنَّ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أكبر.
سُورَة الْحَج من (آيَة 38 41).
(3/182)
 
 
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمنُوا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يُدَافِعُ عَنْهُمْ، فَيَعْصِمُهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ [فِي دِينِهِمْ] {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}.
(3/183)
 
 
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} قَالَ قَتَادَة: هُم (أَصْحَاب نَبِي الله، أذن لَهُم بِالْقِتَالِ؛ بعد مَا أَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَشَدَّدُوا عَلَيْهِمْ، حَتَّى لحق طوائف مِنْهُم بالجبشة.
قَالَ مُحَمَّد: أذن) (ل 223) لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ أَنْ يُقَاتِلُوا. وَقِيلَ: إِنَّهَا أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي (الْجِهَاد).
(3/183)
 
 
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا الله} أَيْ: أَنَّهُمْ أُخْرِجُوا؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبيع وصلوات ومساجد} قَالَ قَتَادَةُ: الْصَوَامِعُ (لِلصَّابِئِينَ)، وَالْبِيَعُ لِلنَّصَارَى؛ يَعْنِي: الْكَنَائِسَ، وَالصَّلَوَاتُ لِلْيَهُودُ وَمَسَاجِدَ؛ يَعْنِي: مَسَاجِدَ الْمُسْلِمِينَ {يُذْكَرُ فِيهَا اسْم الله كثيرا} يَعْنِي: الْمَسَاجِدَ {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ ينصره} أَيْ: مَنْ يَنْصُرُ دِينَهُ. مَعْنَى (وصلوات) أَي: بيُوت صلوَات
(3/183)
 
 
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} يَعْنِي: أَصْحَاب النَّبِي (أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
(3/183)
 
 
وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ} بِعِبَادَةِ اللَّهِ {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} عَن عبَادَة الْأَوْثَان.
سُورَة الْحَج من (آيَة 42 آيَة 46).
(3/184)
 
 
وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)
{فأمليت للْكَافِرِينَ} أَيْ: لَمْ أُهْلِكْهُمْ عِنْدَ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ حَتَّى جَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي أَرَدْتُ أَنْ أُهْلِكَهُمْ فِيهِ {ثُمَّ أخذتهم} بِالْعَذَابِ حِينَ جَاءَ الْوَقْتُ {فَكَيْفَ كَانَ نكيري} أَيْ: عِقَابِي، أَيْ: كَانَ شَدِيدًا يحذر بذلك الْمُشْركين.
(3/184)
 
 
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
{فكأين من قَرْيَة} أَيْ: فَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ {أَهْلَكْنَاهَا وَهِي ظالمة} يَعْنِي: أَهْلَكْنَا أَهْلَهَا {فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عروشها} سَقْفِهَا، فَصَارَ أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا {وَبِئْرٍ معطلة} [أَيْ: قَدْ بَادَ أَهْلُهَا] {وَقَصْرٍ مشيد} قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَيْ: حَصِينٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: هُوَ مَا بُنِيُ بِالشِّيدِ، وَهُوَ الْجَصُّ. وَقِيلَ: مَعْنَى (مشيد) مطول
(3/184)
 
 
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
{أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ (فَتَكُونَ لَهُمْ
(3/184)
 
 
قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يسمعُونَ بهَا} أَيْ: لَوْ صَارُوا فَتَفَكَّرُوا فَحَذِرُوا مَا نَزَلَ بِإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، فَيَتُوبُونَ لَوْ كَانَتْ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} أَيْ: إِنَّمَا أُوتُوا مِنْ قِبَلِ قُلُوبهم.
سُورَة الْحَج من (آيَة 47 آيَة 51).
(3/185)
 
 
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
{ويستعجلونك بِالْعَذَابِ} وَذَلِكَ مِنْهُمْ تَكْذِيبٌ وَاسْتِهْزَاءٌ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ {وَلَنْ يُخْلِفَ الله وعده} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَعْنِي: هَلَاكَهُمْ بِالسَّاعَةِ قَبْلَ عَذَابِ الْآخِرَةِ. {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعدونَ} يَوْمُ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ كَأَلْفِ سنة من أَيَّام الدُّنْيَا
(3/185)
 
 
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
{وَالَّذين سعوا فِي آيَاتنَا} أَي: كذبُوا {معاجزين} أَيْ: يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَنَا فَيَسْبِقُونَنَا حَتَّى لَا نَقْدِرَ عَلَيْهِمْ فَنُعَذِّبَهُمْ؛ هَذَا تَفْسِيرُ الْحَسَنِ. وَتَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: (معاجزين): مُثَبِّطِينَ لِلنَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لَمْ يُبَيِّنْ يَحْيَى قِرَاءَةَ مُجَاهِدٍ وَالْقِرَاءَةُ عَلَى تَفْسِيرِهِ: (مُعَجِّزِينَ) مثقلة.
سُورَة الْحَج من (آيَة 52 آيَة 56).
(3/185)
 
 
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تمنى} أَيْ: تَلَا؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ. قَالَ قَتَادَةُ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ إِذْ نَعِسَ، فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ كَلِمَةً؛ فَتَكَلَّمَ بِهَا فَتَعَلَّقَهَا الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ قَرَأَ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ وَنَعِسَ: (فَإِنَّ شَفَاعَتَهَا هِيَ الْمُرْتَجَى وَإِنَّهَا لِمَنَ الْغَرَانِيقِ الْعُلَى) فَحَفِظَهَا الْمُشْرِكُونَ، وَأَخْبَرَهُمُ الشَّيْطَانُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ قَرَأَهَا فَزَلَّتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِهَا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تمنى} الْآيَة.
قَالَ مُحَمَّد: قِيلَ: إِن (تَمَنَّى) بِمَعْنَى تَلَا وَأَنْشَدَ [بَعْضُهُمْ]:
(3/186)
 
 
(تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ آخِرَ لَيْلَةٍ ... تَمَنِّيَ دَاوُدُ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ)
(3/187)
 
 
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
قَوْلُهُ: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والقاسية قُلُوبهم} يَعْنِي: الْمُشْركين {وَإِن الظَّالِمين} الْمُشْركين {لفي شقَاق} أَي: فِرَاق {بعيد} عَن الْحق
(3/187)
 
 
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
{وليعلم الَّذِي أُوتُوا الْعلم} يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ. {أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبك فيؤمنوا بِهِ} أَيْ: يُصَدِّقُوا بِهِ قَوْلُهُ: {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبهم} أَي: تخشع
(3/187)
 
 
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
{وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مرية مِنْهُ} [أَيْ: شَكٍّ؛ يَعْنِي: مِنَ الْقُرْآنِ] {حَتَّى تأتيهم السَّاعَة بَغْتَة} [يَعْنِي الَّذِينَ تَقُومُ عَلَيْهِمُ السَّاعَةُ، الدائنين] (ل 224) بدين أبي جهل و [أَصْحَابه] {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} أَيْ: عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: [أَصْلُ الْعُقْمِ] فِي الْوِلَادَةِ؛ يُقَالُ: امْرَأَةٌ عَقِيمٌ، وَرَجُلٌ عَقِيمٌ إِذَا كَانَ لَا يُولَدُ لَهُ، وَرِيحٌ عَقِيمٌ الَّتِي لَا تَأْتِي [بسحاب فتمطر].
سُورَة الْحَج من (آيَة 57 آيَة 59).
(3/187)
 
 
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثمَّ قتلوا} فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ [(أَو
(3/187)
 
 
مَاتُوا} عَلَى قُرُوحِهِمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ] {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رزقا حسنا} يَعْنِي: الْجنَّة.
سُورَة الْحَج من (آيَة 60 آيَة 68).
(3/188)
 
 
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
{وَذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثمَّ بغي عَلَيْهِ} يَعْنِي: مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَنَّهُمْ عُوقِبُوا؛ فَقَتَلَهُمُ اللَّهُ بِجُحُودِهِمُ النَّبِيَّ وَظُلْمِهِمْ إِيَّاه وَأَصْحَابه وبغيهم عَلَيْهِم {لينصرنه الله} النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا: الظُّهُورُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ.
(3/188)
 
 
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْل} وَهُوَ أَخذ كل وَاحِد مِنْهُمَا من صَاحبه
(3/189)
 
 
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مخضرة} أَيْ: بِالنَّبَاتِ إِذَا أَنْبَتَتْ، وَلَيْسَ يَعْنِي من لَيْلَتهَا
(3/189)
 
 
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
{وَإِن الله لَهو الْغَنِيّ} عَن خلقه {الحميد} اسْتَوْجَبَ عَلَى خَلْقِهِ أَنْ يَحْمَدُوهُ
(3/189)
 
 
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)
{ويمسك السَّمَاء أَن تقع} يَعْنِي: لِئَلَّا تقع
(3/189)
 
 
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
{وَهُوَ الَّذِي أحياكم} مِنَ النُّطَفِ {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} يَعْنِي: الْبَعْث
(3/189)
 
 
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
{لكل أمة جعلنَا منسكا} أَيْ: حَجًّا وَذَبْحًا {هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا ينازعنك فِي الْأَمر} أَيْ: لَا يُحَوِّلَنَّكَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ هَذَا الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ يَقُولُهُ للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام.
سُورَة الْحَج من (آيَة 69 آيَة 72).
(3/189)
 
 
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
{اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون} يَعْنِي: مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ أَنْ يُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ، وَيُدْخِلَ الْكَافِرِينَ النَّارَ.
(3/189)
 
 
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أَي: هَين حِين كتبه
(3/189)
 
 
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا} يَعْنِي: حُجَّةً لِعِبَادَتِهِمْ {وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ علم} أَنَّ الْأَوْثَانَ خَلَقَتْ مَعَ اللَّهِ شَيْئا، وَلَا رزقت شَيْئا
(3/189)
 
 
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
(يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ
(3/189)
 
 
آيَاتنَا} أَيْ: يَكَادُونَ يَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَهُمْ {قُلْ أفأنبئكم بشر من ذَلِكُم} بِشَرٍّ مِنْ قَتْلِ أَنْبِيَائِهِمْ {النَّارُ} هِيَ شَرٌّ مِمَّا صَنَعُوا (بِأَنْبِيَائِهِمْ؛ يَعْنِي: مِنْ قَتْلِهِمْ إِيَّاهُمْ.
قَالَ مُحَمَّد: من قَرَأَ (النَّار) بِالرَّفْعِ، فَعَلَى مَعْنَى: هِيَ النَّارُ.
سُورَة الْحَج من (آيَة 73 آيَة 76).
(3/190)
 
 
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
{يَا أَيهَا النَّاس ضرب مثل} أَي: وصف {فَاسْتَمعُوا لَهُ} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ من دون الله} يَعْنِي: الْأَوْثَانَ {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ}.
إِنَّ الذُّبَابَ يَقَعُ عَلَى تِلْكَ الْأَوْثَانِ فَيَنْقُرُ أَعْيُنَهَا وَوُجُوهَهَا فَيَسْلُبُهَا مَا أَخَذَ مِنْ وُجُوهِهَا وَأَعْيُنِهَا.
وَسَمِعْتُ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُونَهَا بِخَلُوقٍ. قَالَ اللَّهُ {ضَعُفَ الطَّالِب} يَعْنِي: الوثن {وَالْمَطْلُوب} يَعْنِي: الذُّبَاب
(3/190)
 
 
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أَيْ: مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ؛ بِأَنْ عَبَدُوا الْأَوْثَانَ مِنْ دُونِهِ الَّتِي إِنْ سَلَبَهَا
(3/190)
 
 
الذُّبَابُ الضَّعِيفُ لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تمْتَنع مِنْهُ
(3/191)
 
 
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
{يعلم مَا بَين أَيْديهم} مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ {وَمَا خَلْفَهُمْ} مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا إِذَا كَانُوا فِي الْآخِرَة.
سُورَة الْحَج من (آيَة 77 آيَة 78).
(3/191)
 
 
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} هِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حق تُقَاته} وَهُمَا مَنْسُوخَتَانِ؛ نَسَخَتْهُمَا الْآيَةُ الَّتِي فِي الْتَغَابُنِ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم}. {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ من حرج} أَيْ: مِنْ ضِيقٍ. {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيم هُوَ سَمَّاكُم الْمُسلمين} يَقُولُ اللَّهُ: سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ؛ أَيْ: مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي الْكُتُبِ كُلِّهَا وَفِي الذّكر، {وَفِي هَذَا} الْقُرْآنِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ) الْمَعْنَى: اتَّبِعُوا مِلَّةَ أَبِيكُمْ. {لِيَكُونَ الرَّسُول شَهِيدا عَلَيْكُم} بَأَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النَّاس}
(3/191)
 
 
بِأَن