تفسير القاسمي محاسن التأويل 007

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: محاسن التأويل
المؤلف: محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي (المتوفى: 1332هـ)
 
أو أدنى، وهو الذي رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، رآه على صورته مرتين، مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى. انتهى.
وروى البخاريّ «1» في هذه الآيات عن ابن مسعود قال: رأى جبريل له ستمائة جناح.
وروى الترمذي «2» عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل، ولم يره في صورته إلا مرتين، مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في جياد- مكان بمكة- له ستمائة جناح، قد سدّ الأفق.
وأما ما وقع في
حديث شريك في البخاريّ «3»
من قوله: (دنا الجبّار رب العزة فتدلّى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى)
، فإن لم يكن ذلك من زيادة شريك، على ما ذهب إليه الإمام مسلم وغيره، فهو دنو وتدلّ غير ما في سورة النجم، نؤمن به. ونفوّض كيفيته إليه تعالى، كسائر أخبار الصفات.
قال ابن كثير: قد تكلّم كثير من الناس في رواية شريك، فإن صح فهو محمول على وقت آخر، وقصة أخرى، لا أنها تفسير لهذه الآية، فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض، لا ليلة الإسراء. ولهذا قال بعده وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، فهذه هي ليلة الإسراء، والأولى كانت في الأرض. انتهى.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ: وقع في حديث شريك في الإسراء زيادة على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى الله عز وجل. وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤية جبريل، أصح.
قال العماد بن كثير: وهذا الذي قاله البيهقيّ رحمه الله في هذه المسألة، هو الحق،
فإن أبا ذرّ قال: يا رسول الله! رأيت ربك؟ قال: نور أنّى أراه.
وفي رواية: رأيت نورا- أخرجه مسلم «4» -.
وقوله: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى إنما هو جبريل عليه السلام، كما ثبت ذلك في
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، سورة النجم، 1- حدثنا يحيى بن وكيع، حديث رقم 1526. [.....]
(2) أخرجه الترمذي في: التفسير، سورة النجم، 3- حدثنا ابن أبي عمر.
(3) أخرجه البخاري في: التوحيد، 37- باب قوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، حديث رقم 1684، عن أنس بن مالك.
(4) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 291 و 292.
(9/67)
 
 
الصحيحين عن عائشة «1» وعن ابن مسعود «2» . وكذلك هو في صحيح مسلم «3» عن أبي هريرة، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في تفسير هذه بهذا. انتهى.
وقال شمس الدين بن القيم في (زاد المعاد) : اختلف الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأى ربه تلك الليلة أم لا؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه، وصح عنه أنه قال: رآه بفؤاده، وصحّ عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك، وقال: إن قوله تعالى:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى إنما هو جبريل.
وصحّ عن أبي ذرّ أنه سأله: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنّى أراه.
أي حال بيني وبين رؤيته النور، كما في لفظ آخر: رأيت نورا.
وقد حكى عثمان بن سعيد الدارميّ اتفاق الصحابة على أنه لم يره.
قال الإمام ابن تيمية: وليس قول ابن عباس أنه رآه مناقضا لهذا، ولا قوله رآه بفؤاده. وقد صح عنه أنه قال: رأيت ربي تبارك وتعالى، لكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه. وعلى هذا بنى الإمام أحمد وقال: نعم رآه حقّا، فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد. وأما قول ابن عباس: رآه بفؤاده مرتين. فإن كان استناده إلى قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ثم قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى والظاهر أنه مستنده، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئيّ جبريل، رآه مرتين في صورته التي خلق عليها. انتهى.
وقال ابن كثير: أما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت ربي عز وجل»
، فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح، لكنه مختصر من حديث المنام، كما
رواه الإمام أحمد «4» أيضا عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتاني ربي الليلة في أحسن صورة (أحسبه، يعني في النوم) فقال: يا محمد! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال قلت: لا. فوضع يده بين كتفي حتى
__________
(1) أخرجه البخاري في: التفسير، سورة النجم، 1- حدثنا يحيى حدثنا وكيع، حديث رقم 1528 وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث 287.
(2) أخرجه البخاري في: التفسير، سورة النجم، 1- حدثنا يحيى حدثنا وكيع، حديث رقم 1526.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث 280.
(3) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم 283.
(4) أخرجه في المسند 1/ 368. حديث رقم 3484.
(9/68)
 
 
وجدت بردها بين ثدييّ (أو قال نحري) فعلمت ما في السموات وما في الأرض. ثم قال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال قلت: نعم! يختصمون في الكفارات والدرجات. قال: وما الكفارات؟ قال: قلت: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره! من فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير. وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه. وقال: قل يا محمد إذا صليت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة، أن تقبضني إليك غير مفتون.
قال: «والدرجات بذل الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام» .
ثم قال ابن كثير: وقوله تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى، كقوله:
لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى [طه: 23] ، أي الدالة على قدرتنا وعظمتنا، وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة، أن الرؤية تلك الليلة لم تقع. لأنه قال: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك، ولقال ذلك للناس. انتهى.
الثالث- ذهب بعضهم إلى أن هذه السورة أنزلت لإثبات المعراج النبويّ، أعني: عروجه صلى الله عليه وسلم، وصعوده وارتقاءه إلى ما فوق السموات السبع، كما ذكر في أحاديث المعراج عن سدرة المنتهى فوق السماوات، ومشاهدة جبريل على صورته.
قال القليوبيّ: لما كان الإسراء مقدما في الوجود على المعراج، لأنه كالوسيلة والبرهان، إذ يلزم من التصديق بخوارق العادة فيه، التصديق بالمعراج وما فيه. وكان ما في المعراج من الخوارق أعظم وأكثر، صدره تعالى بالقسم الدال على تأكيد ثبوته، والرد على منكريه والطاعنين فيه، واستطرد مع ذلك الرد على من نسب إليه صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز عليه، فقال وَالنَّجْمِ ... إلخ انتهى.
ومما قدمنا يظهر أن نزول السورة لتأييد الرسالة النبوية، وتحقيق الوحي، بأنه تعليم ملك كريم، مرئيّ للحضرة النبوية رؤية تدفع كل لبس، لا لإثبات المعراج.
ثم من الغرائب أيضا هنا، قول بعضهم محاولا سرّ إفراد الإسراء عن المعراج، وذكر كلّ في سورة، ما مثاله: إن الإسراء أنزل أولا وحده، حملا للمشركين على تسليم ما وضح صدقه صلى الله عليه وسلم فيه، توصلا للتصديق بما وراءه فإنه صلى الله عليه وسلم أرشد أن يخبر المشركين أولا بالإسراء إلى المسجد الأقصى، لأن قريشا تعرفه، فيسألونه عنه، فيخبرهم بما يعرفون، مع علمهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيت المقدس قط، فتقوم الحجة
(9/69)
 
 
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)
عليهم. وكذلك وقع، كما ذكر في الروايات. وعلى أثر هذا الإخبار أنزل بيان الإسراء، ثم ألهم صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بالمعراج إلى ملكوت السموات، ورؤية جبريل عليه السلام، وأنزل الله تصديقه في سورة النجم. انتهى. فكل هذا مما لا سند له، نعم! روى البيهقي وابن أبي حاتم وابن جرير في حديث مطول، أنه صلى الله عليه وسلم أصبح بمكة يخبرهم بالأعاجيب. إني أتيت البارحة بيت المقدس، وعرج بي إلى السماء ورأيت كذا وكذا، إلا أن يقال ليس هذا من مرويات الصحيحين، ولا حجة في الأخبار إلا مرويّهما. وبالجملة، فالمعوّل عليه هو أن المعراج لم يرد له ذكر في القرآن مطلقا، وما ورد في هذه السورة وسورة التكوير، فلا علاقة له بالمعراج، وإنما هي رؤية النبيّ صلوات الله عليه لجبريل من الأرض على صورته الحقيقية كما تقدم. وأما المعراج فإنما كان رؤيا منامية روحانية. لصريح حديث البخاريّ في ذلك من طرقه التي عن أنس ومالك بن أبي صعصعة. قال بعضهم ولذلك لم يذكر في حديث المعراج، بحسب رواية البخاريّ التي هي أصح الروايات بالإجماع، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سار أولا إلى بيت المقدس، بل المذكور فيه أنه سار مباشرة من مكة إلى السماء الأولى، وكذلك لم يذكر فيه أن جبريل فارقه، ثم ظهر له عند سدرة المنتهى بصورته الحقيقية، بل المذكور أنه كان مصاحبا له من أول المعراج إلى آخره على صورة واحدة، وذلك يدل على أن ما ذكر في القرآن مما وقع يقظة، هو غير ما ذكر في الحديث، مما وقع مناما في وقت آخر، وإلا لذكرا معا في سياق واحد، إما في القرآن، وإما في أصح الأحاديث، وهو الأمر الذي لم يحصل إلا في بعض روايات لا يعوّل عليها، وهي من خلط بعض الرواة الحوادث بعضها ببعض. انتهى- والله أعلم-.
ثم قال تعالى منكرا على المشركين عبادتهم الأوثان، واتخاذهم لها البيوت، مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن لعبادته تعالى وحده، بقوله:
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 20]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ قال ابن كثير: هي صخرة بيضاء منقوشة، وعليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظّم عند أهل الطائف، هم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش.
(9/70)
 
 
قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله، فقالوا اللَّاتَ يعنون مؤنثة من لفظه تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا، كما قالوا: عمرو وعمرة.
وقال الزمخشري: هي فعلة من (لوى) لأنهم كانوا يلوون عليها، ويعكفون للعبادة، أو يلتوون عليها، أي يطوفون.
وحكي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس أنهم قرءوا (اللاتّ) بتشديد التاء، وفسروه بأنه كان رجلا يلتّ للحجيج في الجاهلية السويق، فلما مات عكفوا على قبره وعبدوه. وَالْعُزَّى وهي شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف.
قال ابن جرير: اشتقوا اسمها من اسمه تعالى (العزيز) وقال الزمخشريّ: أصلها تأنيث الأعز.
وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى وهي صخرة كانت بالمشلل عند قديد، بين مكة والمدينة وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظّمونها، ويهلون منها للحج إلى الكعبة.
روى البخاريّ عن عائشة نحوه.
قال ابن جرير: وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول:
اللّات والعزّى ومناة الثالثة، أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها.
انتهى.
 
تنبيهات:
الأول- قال القاضي: (مناة) فعلة، من مناه إذا قطعه. فإنهم كانوا يذبحون عندها القرابين. ومنه سميت (منى) لأنه يمنى فيها القرابين، أي ينحر.
وقال الزمخشريّ: وكأنها سميت (مناة) لأن دماء المناسك كانت تمنى عندها، أي تراق. وقرئ (مناءة) مفعلة من (النوء) ، كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها.
فإن قيل: كونها ثالثة وأخرى مغايرة لما تقدمها، معلوم غير محتاج للبيان.
وأجيب: بأنهما صفتان للتأكيد، أو الثَّالِثَةَ للتأكيد، والْأُخْرى بيان لها، لأنها مؤخرة رتبة عندهم، عن اللات والعزى.
(9/71)
 
 
قال الناصر: (الأخرى) ما يثبت آخرا، ولا شك أنه في الأصل مشتق من التأخير الوجوديّ، إلا أن العرب عدلت به عن الاستعمال في التأخير الوجوديّ، إلى الاستعمال، حيث يتقدم ذكر معاير لا غير حتى سلبته دلالته على المعنى الأصليّ، بخلاف (آخر) و (آخرة) على وزن فاعل وفاعلة، فإن إشعارها بالتأخير الوجوديّ، ثابت لم يغير، ومن ثم عدلوا عن أن يقولوا ربيع الآخر، على وزن الأفعل، وجمادى الأخرى، إلى ربيع الآخر على وزن فاعل، وجمادى الآخرة على وزن فاعلة، لأنهم أرادوا أن يفهموا التأخير الوجوديّ، لأن (الأفعل) و (الفعلى) من هذا الاشتقاق مسلوب الدلالة على غرضهم، فعدلوا عنها إلى الآخر والآخرة والتزموا ذلك فيهما.
وهذا البحث مما كان الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله تعالى قد حرره آخر مدته، وهو الحق إن شاء الله تعالى، وحينئذ يكون المراد الإشعار بتقدم مغاير في الذكر مع ما نعتقده في الوفاء بفاصلة رأس الآية. انتهى.
الثاني- قال ابن كثير: كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة، غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها.
قال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب. ويهدى لها كما يهدى للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها، لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده. فكافت لقريش ولبني كنانة (العزّى) بنخلة، وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم. وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول:
يا عزّ كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
روى النسائي عن أبي الطفيل قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالدين الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى، فأتاها خالد، وكانت على ثلاث سمرات، فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ارجع، فإنك لم تصنع شيئا. فرجع خالد. فلما أبصر السدنة وهم حجبتها، أمعنوا في الحيل وهم يقولون: يا عزى! يا عزى! فأتاها خالد. فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها. تحفن التراب على رأسها، فغمسها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: تلك العزى!
(9/72)
 
 
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)
قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سدنتها وحجابها بني معتب، وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب فدماها، وجعلا مكانها مسجدا بالطائف.
قال ابن إسحاق: وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر، من ناحية المشلل بقديد، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أبا سفيان، صخر بن حرب فهدمها. ويقال: عليّ بن أبي طالب. انتهى.
الثالث- قال ابن جرير: اختلف أهل العربية في وجه الوقف على (اللات) و (منات) فكان بعض نحويّي البصرة يقول: إذا سكت قلت اللات، وكذلك مناة، تقول منات. وقال: قال بعضهم: اللاتّ، فجعله من اللتّ الذي يلت. ولغة العرب يسكتون على ما فيه الهاء بالتاء، يقولون: رأيت طلحت. وكل شيء مكتوب بالهاء فإنها تقف عليه بالتاء، نحو نعمة ربك، وشجرة. وكان بعض نحويّي الكوفة يقف على (اللات) بالهاء. وكان غيره منهم يقول: الاختيار في كل ما لم يضف، أن يكون بالهاء رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الكهف: 98] ، وَشَجَرَةً تَخْرُجُ [المؤمنون: 20] ، وما كان مضافا فجائز بالهاء والتاء، فالتاء للإضافة، والهاء لأنه يفرد ويوقف عليه دون الثاني. وهذا القول الثالث أفشى اللغات وأكثرها في العرب، وإن كان للأخرى وجه معروف. انتهى.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 21 الى 22]
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22)
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى قال الزمخشريّ: كانوا يقولون: إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى، مع وأدهم البنات، فقيل لهم: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ويجوز أن يراد أن اللات والعزى ومنات إناث، وقد جعلتموهن لله شركاء، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث، وتستنكفوا من أن يولدن لكم، وينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أندادا لله، وتسمونهنّ آلهة؟ انتهى.
 
لطيفة:
قال الشهاب: قد مرّ مرارا الكلام في أَرَأَيْتَ وأنها بمعنى (أخبرني) وفي كيفية دلالتها على ذلك، واختلاف النحاة في فعل الرؤية فيه، هل هو بصري؟ فتكون
(9/73)
 
 
الجملة الاستفهامية بعدها مستأنفة لبيان المستخبر عنه. وهو الذي اختاره الرضيّ.
أو علمية، فتكون في محل المفعول الثاني، فالرابط حينئذ أنها في تأويل: أهي بنات الله؟
قال السمين: وكأنّ أصل التركيب: ألكم الذكر، وله هن، أي: تلك الأصنام.
وإنما أوثر هذا الاسم الظاهر لوقوعه رأس فاصلة.
وقوله تعالى: تِلْكَ إشارة إلى القسمة المفهومة من الجملة الاستفهامية إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أي جائرة، غير مستوية، ناقصة غير تامة، لأنكم جعلتم لربكم من لولد والندّ ما تكرهون لأنفسكم، وآثرتم أنفسكم بما ترضونه.
قال ابن جرير: والعرب تقول (ضزته حقّه) بكسر الضاد، و (ضزته) بضمها، فأنا أضيزه وأضوزه، وذلك إذا نقصته حقه ومنعته.
 
تنبيه:
قال السمين: قرأ ابن كثير (ضئزى) بهمزة ساكنة، والباقون بياء مكانها. وقرأ زيد بن علي (ضيزى) بفتح الضاد والياء الساكنة. فأما قراءة العامة فتحتمل أن تكون من (ضازه يضيزه) إذا ضامه وجار عليه، فمعنى (ضيزى) جائرة. وعلى هذا فتحتمل وجهين: أحدهما- أن تكون صفة على (فعلى) بضم الفاء، وإنما كسرت الفاء لتصح الياء كبيض.
فإن قيل: وأي ضرورة إلى أن يقدر أصلها ضم الفاء، ولم لا قيل (فعلى) بالكسر؟.
فالجواب: أن سيبويه حكى أنه لم يرد في الصفات (فعلى) بكسر الفاء، وإنما ورد بضمها، نحو حبلى وأنثى وربّى وما أشبهه، إلا أن غيره حكى في الصفات ذلك.
حكى ثعلب: مشية حيكى، ورجل كيسي. وحكى غيره: امرأة عزهى وامرأة سعلى.
وهذا لا ينقض على سيبويه لأنه يقول في (حيكى وكيسي) كقوله في (ضيزى) لتصح الياء. وأما عزهى وسعلى فالمشهور فيهما عزهاة سعلاة.
والوجه الثاني- أن تكون مصدرا كذكرى. قال الكسائيّ: يقال ضاز يضيز ضيزى، كذكر يذكر ذكرى. ويحتمل أن يكون من (ضأزه) بالهمزة كقراءة ابن كثير، إلا أنه خفف همزها، وإن لم يكن من أصول القراء كلهم إبدال مثل هذه الهمزة ياء، لكنها لغة التزمت، فقرأوا بها. ومعنى ضأزه يضأزه بالهمزة، نقصه ظلما وجورا، وهو
(9/74)
 
 
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)
قريب من الأول. و (ضيزي) في قراءة ابن كثير مصدر وصف به، ولا يكون وصفا أصليّا. لما تقدم عن سيبويه.
فإن قيل: لم لا قيل في (ضئزى) بالكسر والهمز، أن أصله ضيزى بالضم فكسرت الفاء، لما قيل فيها مع الياء؟
فالجواب: أنه لا موجب هنا للتغيير، إذ الضم مع الهمز لا يستثقل استثقاله مع الياء الساكنة وسمع منهم (ضؤزى) بضم الضاد مع الواو والهمزة.
وأما قراءة زيد فيحتمل أن تكون مصدرا وصف به، كدعوى، وأن تكون صفة كسكرى وعطشى. انتهى.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 23]
إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23)
إِنْ هِيَ أي الأصنام المذكورة باعتبار الألوهية التي يدعونها لها إِلَّا أَسْماءٌ أي محضة ليس تحتها مما تنبئ هي عنه من معنى الألوهية، شيء ما أصلا.
أي ليس لها نصيب منها إلا إطلاق تلك الأسماء عليها.
قال الشهاب: والمراد لا نصيب لها أصلا، ولا وجه لتسميتها بذلك، ولو كانت الألوهية متحققة بمجرد التسمية كانت آلهة، فهو من نفي الشيء بإثباته، أو هو ادعاء محض لا طائل تحته. سَمَّيْتُمُوها أي جعلتموها أسماء مع خلوّها عن المسميات أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أي بمقتضى أهوائكم. وتقليد التابع للمتبوع ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي برهان يتعلق به إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي إلا توهم أن ما هم عليه حق وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أي تشتهيه أنفسهم.
قال ابن جرير: لأنهم لم يأخذوا ذلك عن وحي جاءهم من الله، ولا عن رسول من الله أخبرهم به، وإنما هو اختلاق من قبل أنفسهم، أو أخذوه عن آبائهم الذين كانوا من الكفر بالله على مثل ما هم عليه منه وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أي الدليل الواضح، والبيان بالوحي أن عبادتها لا تنبغي وأنه لا تصلح العبادة إلا له تعالى وحده.
قال أبو السعود: والجملة حال من فاعل يَتَّبِعُونَ أو اعتراض. وأيّا ما كان، ففيه تأكيد لبطلان اتباع الظن، وهوى النفس، وزيادة تقبيح لحالهم، فإن اتباعهما
(9/75)
 
 
أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
من أي شخص كان، قبيح. وممن هداه الله تعالى بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم وإنزال الكتب، أقبح.
 
تنبيه:
قال السيوطيّ في (الإكليل) : استدل بقوله: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ.. إلخ على أن اللغات توقيفية. ووجهه أنه تعالى ذمهم على تسمية بعض الأشياء بما سموها به، ولولا أن تسمية غيرها من الله توقيف، لما صح هذا الذم، لكون الكل اصطلاحا منهم.
واستدل بقوله تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ إلخ على إبطال التقليد في العقائد واستدل به الظاهرية على إبطاله مطلقا، أو إبطال القياس.
أخرج ابن أبي حاتم عن عمر قال: احذروا هذا الرأي على الدين، فإنما كان الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبا لأن الله كان يريه، وإنما هو منا تكلف وظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا. انتهى.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 24]
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أي ليس له ما يشتهيه من الأمور التي منها طمعه الفارغ في شفاعة الأنداد، وتعنته في دفاع اليقين بالظن، وتركه نفسه وهواها بلا شرع يقيده ولا مهيمن يزعه. فإن ذلك من المحالات في نظر العقل السليم، كقوله: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ [النساء: 123] .
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 25]
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25)
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي فمصير الأمر فيهما له تعالى، لا للإنسان حسب ما تسول له نفسه الأمارة بالسوء، كما قال: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إلخ [المؤمنون: 71] ، ولذا أرسل له الرسل، وانزل الكتب، قطعا للمعاذير.
ونبهه بالعقل على سبل السعادة التي لا تخفى على بصير.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 26]
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26)
(9/76)
 
 
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29)
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى هذا توبيخ من الله تعالى لعبدة الأوثان، بإقناطهم عما علّقوا به أطماعهم من شفاعة أوثانهم، بأن ملائكته الكرام لا يتفوهون بالشفاعة إلا من بعد إذنه ورضاه. فإنّى لهذه الطواغيت أن تفتات على هذا المقام، ولها من الذلة والصغار ما يبعدها عنه بألف منزل.
ثم أشار إلى طغيان آخر للمشركين، بقوله سبحانه:
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 27]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27)
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى أي تسمية الإناث، وذلك أنهم كانوا يقولون: هم بنات الله. فالأنثى بمعنى الإناث، لأنهم اسم جنس يتناول الكثير والقليل. وقيل: بمعنى الطائفة الأنثى. وقيل: منصوب بنزع الخافض على التشبيه، فلا تمس الحاجة إلى الجمعية. وقيل: أفرد لرعاية الفاصلة. وقيل:
الملائكة في معنى استغراق المفرد، أي ليسمون كل واحد منهم بنتا، وهي تسمية الأنثى، على وزان (كسانا الأمير حلة) أي كسا كل واحد منا حلة، والإفراد لعدم اللبس.
قال أبو السعود: وفي تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة، إشعار بأنها في الشناعة والفظاعة، واستتباع العقوبة في الآخرة، بحيث لا يجترئ عليها إلا من لا يؤمن بها رأسا.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 28 الى 29]
وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29)
وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي لا يفيد فائدته، ولا يقوم مقامه، وذلك لأن حقيقة الشيء وما هو عليه، إنما تدرك إدراكا معتدّا به، إذا كان عن يقين، لا عن ظن وتوهم فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا أي من هؤلاء الكفرة الذين يرون غاية سعادتهم التنعم بلذائذها، لقصر نظرهم على المحسوسات. والمراد من (الإعراض) هجرهم هجرا
(9/77)
 
 
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
جميلا، وترك إيذائهم. وقول الزمخشريّ: أي أعرض عن دعوة من رأيته معرضا عن ذكر الله ... إلخ- لا يصح. لأن الصدع بالحق لا تسامح فيه، لا سيما والدعوة للمعرضين، وهي تستلزم أن يحاجوا به بمنتهى الطاقة لقوله تعالى: وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الفرقان: 52] ، وإنما معنى الآية: فاصفح عنهم ودع أذاهم في مقابلة ما يجهلون به عليك، كما بين ذلك في مواضع من التنزيل، والقرآن يفسر بعضه بعضا.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 30]
ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)
ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ يعني أمر الدنيا منتهى علمهم، لا علم لهم فوقه.
ومن كان هذا أقصى معارفه، فما على داعيه إلا الصفح عنه، والصبر على جهله.
و (مبلغ) اسم مكان مجازا، كأنه محل وقف فيه علمهم ادعاء- كما حققه الشهاب- والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا، ثم علل الأمر بالإعراض بقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى أي: ولا بد أن يعاملهم بموجب علمه فيهم، فيجزي كلّا بما يقتضيه عمله، وتقديم العلم بمن ضل، لأنهم المقصودون من الخطاب، والسياق فيهم. وقوله:
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 31]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تنبيه على سعة ملكه، وعظمة قدرته، وأن ما فيهما من قبضته، فلا يعجزه جزاء هؤلاء الفجرة، كما قال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى أي بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة ثم بيّن صفات هؤلاء المحسنين، بقوله سبحانه:
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 32]
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)
(9/78)
 
 
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ يعني ما كبر الوعيد عليه من المناهي وَالْفَواحِشَ يعني ما فحش منها. والعطف إما من عطف أحد المترادفين أو الخاص على العام إِلَّا اللَّمَمَ أي الصغائر من الذنوب. ومثّله أبو هريرة بالقبلة والغمزة والنظرة- فيما رواه ابن جرير- وأصل معناه: ما قل قدره. ومنه: لمة الشّعر، لأنها دون الوفرة. وقيل: معناه الدنو من الشيء دون ارتكاب له. والاستثناء منقطع على ما ذكر. أي إلا اللمم بما دون الكبائر والفواحش، فإنه عفو. وقيل: متصل، والمراد مطلق الذنوب. وقيل: إنه لا استثناء فيه أصلا. و (إلا) صفة بمعنى غير- وتفصيله في (العناية) -.
وحكى ابن جرير عن ابن عباس وغيره أن معنى (اللمم) ما قد سلف لهم مما ألموا به من الفواحش والكبائر في الجاهلية قبل الإسلام، وغفرها لهم حين أسلموا.
وعن ابن عباس أيضا قال: هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب ولا يعود.
قال:
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن تغفر اللهم تغفر جمّا ... وأيّ عبد لك لا ألمّا
وقال الحسن: (اللمم) أن يقع الوقعة ثم ينتهي. وكل هذا ما يتناوله اللفظ الكريم والأقوى في معناه هو الأول. ولذا استدل بالآية على تكفير الصغائر باجتناب الكبائر كما قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء: 31] .
إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ قال ابن جرير: أي واسع عفوه للمذنبين الذين لم تبلغ ذنوبهم الفواحش وكبائر الإثم هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ قال ابن جرير: أي أحدثكم منها بخلق أبيكم آدم منها وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي حيثما يصوركم في الأرحام فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ أي تشهدوا لها بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصي. والمراد به الثناء تمدحا أو رياء هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى أي بمن اتقاه فعمل بطاعته، واجتنب معاصيه وأصلح. وهذا كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء: 49] .
وفي الصحيحين «1» عن أبي بكرة قال: مدح رجل رجلا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأدب، 95- باب ما جاء في قول الرجل ويلك، حديث رقم 1293.
وأخرجه مسلم في: الزهد والرقائق، حديث 65 و 66.
(9/79)
 
 
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! قطعت عنق صاحبك (مرارا) إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل: أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا
، أحسبه:
كذا وكذا إن كان يعلم ذلك.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 35]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى أي عن الذكر بعد إذ جاءه، كما قال تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة: 31- 32] . وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى أي قطع العطاء بخلا وشحّا أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى أي يراه حتى يحكم على نفسه بالتزكية والنجاة والفوز؟.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 36 الى 37]
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أي بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه، كما قال: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ. [البقرة: 124] .
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 38]
أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38)
أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تؤاخذ نفس بذنب غيرها. بل كل آثمة، فإن إثمها عليها.
قال القاشانيّ: لأن العقاب يترتب على هيئات مظلمة رسخت في النفس بتكرار الأفاعيل والأقاويل السيئة التي هي الذنوب، وكذلك الذنوب. وكذلك الثواب، إنما يترتب على أضدادها من هيئات الفضائل، كما قال تعالى:
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : آية 39]
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39)
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى أي: إلا سعيه وكسبه.
 
تنبيهات:
الأول- قال ابن جرير: إنما عنى بقوله: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى الذي
(9/80)
 
 
ضمن للوليد بن المغيرة أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة! يقول: ألم يخبر قائل هذا القول، وضامن هذا الضمان، بالذي في صحف موسى وإبراهيم مكتوب: أن لا تأثم آثمة إثم أخرى غيرها وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى أي: وأنه لا يجازى عامل إلا بعمله، خيرا: كان أو شرّا. انتهى.
وظاهر السياق يشعر بنزول الآيات ردّا على ما كانوا يتخرصونه ويتمنونه، ويتحكمون فيه على الغيب لجاجا وجهلا. ومع ذلك فمفهومها الشموليّ جليّ.
الثاني: قال السيوطيّ في (الإكليل) : استدل به على عدم دخول النيابة في العبادات عن الحيّ والميت. واستدل به الشافعيّ على أن ثواب القراءة لا يلحق الأموات. انتهى.
وقال ابن كثير: ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعيّ رحمه الله ومن تبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيرا لسبقونا إليه.
وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما.
وأما
الحديث الذي رواه مسلم «1» في صحيحه عن أبي هريرة قال «قال رسول الله إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به»
- فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكدّه وعمله، كما جاء في
الحديث «2»
«إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه. والصدقة الجارية- كالوقف ونحوه- هي من آثار عمله ووقفه»
، وقد قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [يس: 12] . والعلم الذي نشره في الناس، فاقتدى به الناس بعده، هو أيضا من سعيه وعمله.
وثبت في الصحيح «3» : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا. انتهى.
__________
(1) أخرجه مسلم في: الوصية، حديث رقم 14.
(2) أخرجه النسائي في: البيوع، 1- باب الحث على الكسب، عن عائشة.
(3) أخرجه مسلم في: العلم، حديث رقم 16.
(9/81)
 
 
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)
الثالث- قال الرازيّ: المراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة، أو بيان كل عمل. نقول: المشهور أنها لكل عمل، فالخير مثاب عليه، والشر معاقب به، والظاهر أنه لبيان الخيرات، يدل عليه اللام في قوله تعالى لِلْإِنْسانِ فإن اللام لعود المنافع، و (على) لعود المضار. تقول: هذا له، وهذا عليه، ويشهد له، ويشهد عليه، في المنافع والمضار. وللقائل الأول أن يقول بأن الأمرين إذا اجتمعا غلب الأفضل، كجموع السلامة تذكّر، إذا اجتمعت الإناث مع الذكور. وأيضا يدل عليه قوله تعالى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى والْأَوْفى لا يكون إلا في مقابلة الحسنة، وأما في السيئة فالمثل أو دونه، أو العفو بالكلية. انتهى.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 40 الى 41]
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41)
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي يراه، ويعرض عليه، ويكشف له. من (أريت الشيء) أو يرى للخلق وللملائكة. ففيه بشارة للمؤمن، وإفراح له، ونذارة للكافر، وإرهاب له، أو هو من (رأى) المجرد. أي يراه. كقوله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التوبة: 105] ، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى أي يجزى سعيه جزاء وافرا لا يبخس منه شيئا.
قال الشهاب: أصله يجزي الله الإنسان سعيه، ف (الجزاء) منصوب بنزع الخافض، و (سعيه) هو المفعول الثاني، وهو يتعدى له بنفسه. نحو: جزاك الله خيرا.
وجزاؤه سعيه بمعنى جزائه بمثله. أو هو مجاز. وقيل: المنصوب بنزع الخافض الضمير، والتقدير: بسعيه أو على سعيه- كما في (الكشاف) -.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 42 الى 49]
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46)
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49)
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي انتهاء الخلق، ورجوعهم لمجازاتهم. والمخاطب وإما عامّ، أي أيها السامع أو العاقل، ففيه وعد ووعيد أو خاص بالنبيّ صلوات الله عليه، ففيه تسلية عما كان يلاقيه من جفاء قومه وجهلهم.
(9/82)
 
 
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)
ثم أشار إلى بعض آياته الدالة على انفراده بالألوهية، بقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى أي خلق قوتي الضحك والبكاء، أو أضحك أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار، أو من شاء من أهل الدنيا، أو أعمّ.
قال الرازيّ: اختار هذين الوصفين لأنهما أمران لا يعللان، فلا يقدر أحد من الطبيعيين أن يبدي في اختصاص الإنسان بهما سببا، وإذا لم يعلل بأمر، فلا بد له من موجد، وهو الله تعالى. وأطال في ذلك وأطاب، رحمه الله تعالى.
وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا أي أمات من شاء من خلقه، وأحيى من شاء قال ابن جرير وعنى بقوله أَحْيا نفخ الروح في النطفة الميتة، فجعلها حية بتصييره الروح فيها وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى أي ابتدع إنشاءهما من نطفة إذا تدفق في الرحم. وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى أي إعادة الخلق بعد مماتهم في نشاة أخرى لا تعلم، كما قال: وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
[الواقعة: 61] ، وذلك للحساب والجزاء، المرتب على أعمال الخير والشر، بالمصير إلى الجنة أو النار وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى أي أغنى من شاء بالمال. و (أقناه) أي جعل له قنية، وهو ما يدخره من أشرف أمواله. وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى وهو نجم مضيء خلف الجوزاء، وكان بعض أهل الجاهلية يعبده.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 50 الى 56]
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56)
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى يعني قوم هود. وسميت الْأُولى لتقدمها في الزمان. وَثَمُودَ أي قوم صالح فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ أي أشد في كفرهم وَأَطْغى أي أشد طغيانا وعصيانا من الذين أهلكوا بعدهم، لتمردهم على الكفر، وردّ دعوته، في طول مدته بينهم، وهي أطول مدد الأنبياء عليهم السلام. وَالْمُؤْتَفِكَةَ أي قرى قوم لوط التي ائتفكت بأهلها، أي انقلبت.
أَهْوى أي أهواها على أهلها ودمّرها. فَغَشَّاها ما غَشَّى أي من العذاب السماويّ الذي صب عليها. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ أي نعمائه. تَتَمارى أي ترتاب وتشكّ وتجادل في أنها ليست من عنده، وهو الذي أنعم بالإغناء والإقناء وإرسال
(9/83)
 
 
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
الرسل، وقهر أعدائهم. هذا أي القرآن نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أي إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم. أو هذا الرسول نذير من جنس من تقدمه، ليس بدعا من الرسل.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 57 الى 58]
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي قربت القيامة الموصوفة بالقرب. فاللام في الْآزِفَةُ للعهد وقيل: الآزفة علم بالغلبة للساعة هنا، لئلا يلزم وصف القريب بالقريب.
قال الشهاب: وفيه نظر، لأن وصف القريب بالقرب يفيد المبالغة في قربه، كما يدل عليه الافتعال في (اقتربت) .
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ أي ليس لقيامها غير الله مبيّن لوقتها، كقوله:
لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف: 187] ، وكاشِفَةٌ صفة محذوف، أي نفس كاشفة، أو حال كاشفة. أو التاء للمبالغة. أو هو مصدر بني على التأنيث ومِنْ دُونِ اللَّهِ بمعنى غير الله، أو إلا الله. وقيل: الكشف بمعنى الإزالة. أي ليس لها نفس كاشفة إذا وقعت، إلا هو تعالى، من (كشف الغماء) .
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النجم (53) : الآيات 59 الى 62]
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن الذي قص ما تقدم، وأنذر بما أخبر تَعْجَبُونَ أي: تعجب إنكار مع أن ما حواه مما يلجئ إلى الإذعان والإقرار، بل مما يفيض لحقيته الدمع المدرار، كما قال وَتَضْحَكُونَ أي استهزاء وَلا تَبْكُونَ أي مما فيه من وعيد للعصاة، ومما فرط منكم قبل سماع ذكراه كما يفعله الموقنون به، المحدث عنهم في آية وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:
109] ، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ أي لاهون عما فيه من العبر، معرضون عن آياته كبرا.
قال مجاهد: كانوا يمرّون على النبيّ صلى الله عليه وسلم غضابا مبرطمين، أي: شامخين.
وعن ابن عباس: هو الغناء: كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا، وهي لغة أهل اليمن. يقولون: اسمد لنا: تغنّ لنا. والمآل واحد. وإن اختلفت العبارة عنه. ولا ريب
(9/84)
 
 
أن كل ذلك مما كان يصدر عن المشركين.
قال في (الإكليل) : فيه استحباب البكاء عند القراءة، وذم الضحك والغناء، واللهو واللعب والغفلة. كما فسر بالأربعة قوله: سامِدُونَ وفسره السدّي بالاستكبار.
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا أي واعبدوه دون من سواه من الأوثان، فإنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا له، فلا تجعلوا له شريكا في عبادته.
وعن عبد الله بن مسعود قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة (والنجم) فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه.. الحديث.
وتقدم في أول السورة.
وروى الإمام أحمد «1» عن المطّلب بن وداعة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم. فسجد وسجد من عنده، فرفعت رأسي فأبيت أن أسجد- ولم يكن أسلم يومئذ المطّلب- فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا قرأها إلا سجد معه- ورواه النسائيّ-
__________
(1) أخرجه في المسند 3/ 420.
(9/85)
 
 
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
 
سورة القمر
وتسمى سورة اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وهي مكية. وآيها خمس وخمسون.
قال ابن كثير: ورد في حديث أبي واقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بقاف وو اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ في الأضحى والفطر. وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار، لاشتمالهما على ذكر الوعد والوعيد، وبدء الخلق وإعادته، والتوحيد، وإثبات النبوات، وغير ذلك من المقاصد العظيمة.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي دنت الساعة التي تقوم فيها القيامة. كما قال: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] ، وقال: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 1] .
قال ابن جرير: وهذا من الله تعالى إنذاره لعباده بدنوّ القيامة، وقرب فناء الدنيا، وأمر لهم بالاستعداد لأهوال القيامة، قبل هجومها عليهم، وهم عنها في غفلة ساهون. وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 2]
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ قال ابن جرير: كان ذلك، فيما ذكر، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، قبل هجرته إلى المدينة. وذلك أن كفار
(9/86)
 
 
أهل مكة سألوه آية، فأراهم صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر حجة على صدق قوله، وحقيقة نبوته، فلما أراهم أعرضوا وكذبوا، وقالوا هذا سحر مستمر، سحرنا محمد. ثم روى ذلك عن أنس وابن مسعود وابن عباس، وغير واحد من التابعين.
وقال القاضي عياض في (الشفا) أخبر تعالى بوقوع انشقاقه بلفظ الماضي، وإعراض الكفرة عن آياته. وأجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه، ثم سرد الآثار في ذلك.
وزعم ابن كثير أن أحاديثه متواترة، إلا أن الشهاب نقل عن الإمام الخطابيّ أن معجزاته صلى الله عليه وسلم، غير القرآن، لم تتواتر. والحكمة فيه أنها لو تواترت كانت عامة، والمعجزة إذا عمت أهلك الله من كذّبها، كما جرت به العادة الإلهية. والنبيّ صلى الله عليه وسلم بعث رحمة، وأمّن الله أمته من عذاب الاستئصال.
ثم قال: وسبب تعرضهم للتواتر طعن بعض الملاحدة بأن القمر يشاهده كل أحد، فلو انقسم قطعتين تواتر وشاع في جميع الناس، ولم يخف على أحد. والطبائع حريصة على إشاعة ما لم يعهد مثله، ولا أغرب من هذا. مع أن الملازمة غير لازمة، لأنه في الليل، وزمان الغفلة. ولا يلزم امتداده. ولا أن يرى إذ ذاك في جميع الآفاق، لاختلاف المطالع. انتهى.
وقد ذكر ابن قتيبة في (تأويل مختلف الحديث) أن الذي طعن في تلك الآثار المروية عن ابن مسعود هو النظّام، إلا أنه لم ينقل تأويله للآية على رأيه، ولعله هو القول الثاني الذي حكاه الزمخشريّ والبيضاويّ، ورواه أبو السعود عن عثمان بن عطاء عن أبيه أن المعنى: وسينشق القمر، يعني يوم القيامة وإذا انكدرت النجوم وانتثرت. والمراد بالآية إما القرآن أو ما يقترحونه لو أجيبوا إلى طلبه.
ومعنى مُسْتَمِرٌّ دائم مطرد، أو محكم قويّ، من (مررت الحبل) إذا أحكمت فتله. أو مارّ ذاهب لا يبقى، تعليلا لأنفسهم بالأماني الفارغة. أو منفور عنه لشدة مرارته مجازا.
وجملة (وإن يروا) مستأنفة أو حالية.
قال الشهاب: ولو كانت هذه الجملة حالية، والمعنى. أن الساعة اقتربت، وانشق القمر فيها دنا زمانه، وظهرت آثاره، والحال أنهم مصرون على العناد- كان منتظما أتم انتظام، ولا ضير فيه سوى مخالفته للمنقول عن السلف في تفسيرها، فتأمل. انتهى.
أقول ولي هاهنا كلمة لا بد من التنبيه عليها، وهي أن الرمي بالإلحاد لمنكر
(9/87)
 
 
حديث غير مجمع على تواتره، جناية كبرى، وزلة عظمى. فإن باب التفكير والتضليل، ليس بالأمر القليل. ولأجله صنف حجة الإسلام الغزالي كتابه (فيصل التفرقة) ودمغ بحججه أولئك المتعصبين الذين سهل عليهم الرمي لمن خالفهم بالزندقة. ولعمر الحق إن هذا مما فرّق الكلمة، ونفرّ حملة العلم عن تعرف المشارب والآراء، حتى أصبح باب التوسع في العلم مرتجا، ومحيطة بعد مده منحسرا، إذ هجرت كتب الفرق الأخرى بل أحرقت، وأهين من يتأثلها، ورمى بالابتداع أو التزندق، كما يمر كثير من مثل هذا بمطالع كتب التاريخ وطبقات الرجال، فلا جرم نسيت الأقوال الباقية، وعدت من الشاذ غير المقبول. وإذا ألصق اسم الإلحاد بقائلها فماذا يكون حالها؟ وهذا، كما لا يخفاك، حيف على قواعد العلم، وغل للأفكار.
نعم! تفلت منهم علم الأصول، فلم تزل الأقوال الغريبة تتراءى على صفحاته، وإن كان مما يغمز كثير منها، إلا أنها سارت تلج آذانهم، ويحتج بها عليهم. وقد تنبه كثير من المحققين لما ذكرناه، وأشاروا له في مواضع، فقرروا في كتب العقائد أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة.
وقال العلامة الفناريّ في (فصول البدائع) : ولا يضلل جاحد الآحاد.
وقال الإمام ابن تيمية الصواب أن من رد الخبر الصحيح، كما كانت الصحابة ترده، لاعتقاد غلط الناقل أو كذبه، لاعتقاد الراد أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق، وإن لم يكن اعتقاده مطابقا. فقد رد غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث. انتهى.
وذكر الغزاليّ في (الإحياء) في كتاب آداب تلاوة القرآن في الباب الثالث في أعمال الباطن في التلاوة أن من أركانها التخلي عن موانع الفهم. قال: فإن أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم، فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن. وحجب الفهم أربعة. إلى أن قال:
وثانيها- أن يكون مقلدا لمذهب سمعه بالتقليد، وجمد عليه، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة.
فهذا شخص قيده معتقده عن أن يجاوزه، فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده، فصار نظره موقوفا على مسموعه، فإن لمع برق على بعد وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعه، حمل عليه شيطان التقليد حملة، وقال: كيف يخطر هذا ببالك، وهو خلاف معتقد آبائك؟ فيرى أن ذلك غرور الشيطان فيتباعد منه، ويحترز عن مثله. ثم قال:
(9/88)
 
 
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
رابعها- أن يكون قرأ تفسيرا ظاهر، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي، وأن من فسر القرآن برأيه فقد تبوأ مقعده من النار، فهذا أيضا من الحجب العظيمة. ثم قال:
وسنبين معنى التفسير بالرأي، وأن ذلك لا يناقض قول عليّ رضي الله عنه: إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن. وأنه لو كان المعنى هو الظاهر المنقول، لما اختلف الناس فيه.
ثم ذكر بعد، عليه الرحمة، أن النهي عن التفسير بالرأي ينزل على أحد وجهين:
أحدهما- أن يكون له في الشيء رأي، وإليه ميل من طبعه وهواه، فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه، ليحتج على تصحيح غرضه، كالمحتج على تصحيح بدعة بتأويل يخترعه تلبيسا على خصمه، وكالجاهل المتقحّم يتأول ما شاء هواه.
وثانيهما- أن يتسارع إلى التأويل بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب التنزيل. انتهى.
ويأتي مثل البحث في كثير من المواضع التي فسرها بعض السلف بشيء، أو روى فيها ما أنكره غيره لما قام لديه. ولا ملام في معترك الأفهام- وبالله التوفيق-
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 3]
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
وَكَذَّبُوا أي بآيات الله بعد ما أتتهم حقيقتها وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي ما زين لهم من دفع الحق مما وجدوا عليه آباءهم وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي كل أمر لا بد أن يصير إلى غاية يستقر عليها. تعريض بأن أمر الرسول لا بد أن يستقر إلى غاية، هي الظهور والنصرة وأمر مكذبيه إلى الخذلان والشقاوة.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 4 الى 5]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5)
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ أي عن القرون الخالية، والحقائق الكونية، مما يستحيل أن يأتي به أميّ غيره صلوات الله عليه ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي مرتدع عما هم مقيمون عليه من التكذيب والغفلة واللهو حِكْمَةٌ بالِغَةٌ أي بلغت غايتها من
(9/89)
 
 
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)
الإحكام والتنزه عن الخلل، ومن الاشتمال على البراهين القاطعة والحجج الساطعة.
وهو بدل من (ما) أو خبر محذوف، أي هو حكمة بالغة فَما تُغْنِ النُّذُرُ جمع نذير. و (ما) نافية، أو استفهامية. أي: أيّ غناء تغنى عن قوم آثروا الضلالة على الهدى، فأعرضوا عنه، وكذبوا به. وجوز أن تكون حِكْمَةٌ بالِغَةٌ جملة مستأنفة للتعجب من حالهم، مع ما جاءهم مما يقود إلى الإيمان بادئ بدء. وهو ما يفهم من تأويل ابن كثير. وعبارته: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ أي في هدايته تعالى لمن هداه، وإضلاله لمن أضله فَما تُغْنِ النُّذُرُ يعني أي شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة وختم على قلبه. فمن ذا الذي يهديه من بعد الله؟ وهذه الآية كقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل: 9] ، وكذا قوله تعالى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 101] .
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 6 الى 8]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي اصفح عن أذاهم، وانتظر ما يأتيهم من الوعيد الشديد، كما قال: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ أي داعي الله إلى موقف القيامة، وهو ملك. أو الدعاء تمثيل للإعادة كالأمر في قوله كُنْ فَيَكُونُ تمثيل للإبداء، والداعي هو الله تعالى: إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أي فظيع تنكره النفوس، وهو موقف الحساب والجزاء والبلاء خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ أي من الذل والصغار يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ أي قبورهم كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ أي في الكثرة والتموج والانتشار. الجراد مثل في الكثرة مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ أي مسرعين مادّي أعناقهم إليه. يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ أي لشدة أهواله ويَوْمَ يَدْعُ ظرف ل يَقُولُ وقيل: بمضمر، وقيل: ب يَخْرُجُونَ والأول أظهر.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 9]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ أي زجر عن الإنذار والتبليغ بشدة وقساوة، كما يدل عليه صيغة (افتعل) .
قال الناصر: وليس قوله فَكَذَّبُوا الثاني تكرارا، لأن الأول مطلق، والثاني
(9/90)
 
 
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)
مقيد. وهو كقوله في السورة فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر: 29] ، فإن تعاطيه هو نفس عقره، ولكن ذكره من جهة عمومه، ثم من ناحية خصوصه إسهابا، وهو بمثابة ذكره مرتين. وجواب آخر هنا وهو أن المكذب أولا محذوف، دل عليه ذكر نوح، فكأنه قال: كذبت قوم نوح نوحا ثم جاء بتكذيبهم ثانيا مضافا إلى قوله عَبْدَنا فوصف نوحا بخصوص العبودية. وأضافه إليه إضافة تشريف. فالتكذيب المخبر عنه ثانيا، أبشع عليهم من المذكور أولا، لتلك اللمحة. انتهى.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 10]
فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)
فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ أي غلبني قومي تمردا وعتوّا. فلم يسمعوا مني واستحكم اليأس منهم، فانتقم منهم بعذاب ترسله عليهم.
ثم أشار إلى استجابته تعالى دعاءه: بالطوفان الذي هلكوا فيه، بقوله سبحانه:
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 11 الى 16]
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16)
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أي مندفق. وفيه استعارة تمثيلية، بتشبيه تدفع المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت لها أبواب السماء، وشق لها أديم الخضراء.
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أي وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر فَالْتَقَى الْماءُ أي ماء السماء وماء الأرض عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي على حال قدّره الله وقضاه، وهو هلاك قوم نوح وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ يعني السفينة. أقيمت صفاتها مقامها، لتأديتها مؤداها. وهو من بديع الكلام- كما بسطه في (الكشاف) -.
(ودسر) جمع دسار بكسر الدال، أو دسر كسقف وسقف وهي أضلاعها، أو حبالها التي تشد فيها أو مساميرها.
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أي بمرأى منا. كناية عن حفظها بحفظه تعالى وعنايته.
(9/91)
 
 
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ أي كفر به، وهو الله تعالى، أو نوح وما جاء به، فهو من (الكفر) ضد الإيمان. أو هو نوح عليه السلام لأنه نعمة كفروها، فهو متعد بنفسه، استعير لنوح النعمة بطريق الكناية، ونسب الكفران تخييلا أو حقيقة. وَلَقَدْ تَرَكْناها أي قصة نوح آيَةً أي جعلناها عبرة يعتبر بها فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ أي معتبر ومتعظ. وأصله (مذتكر) . فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي عذابي لهؤلاء الكفرة، قوم نوح، وإنذاراتي بما أحللت بهم، ليحذر أمثالهم وينتهوا عما يقترفونه.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 17]
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي سهلناه للادّكار والاتعاظ، لكثرة ما ضرب فيه من الأمثال الكافية الشافية فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ أي فيعتبر بما فيه، ويثوب إلى رشده.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 18 الى 22]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
كَذَّبَتْ عادٌ أي نبيّهم هودا عليه السلام، بمثل ما كذّبت به قوم نوح فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أي شديد الهبوب، لها صرير، أو باردة، فِي يَوْمِ نَحْسٍ أي شر وشؤم عليهم مُسْتَمِرٍّ أي استمر عليهم ودام حتى أهلكهم، أو شديد المرارة لعظم بلائه، تَنْزِعُ النَّاسَ أي تقلعهم عن أماكنهم. كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أي أصول نخل منقلع من مغارسه. وأصل (مّنقعر) ما أخرج من القعر فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ كرّره للتهويل وللتنبيه على فرط عتوّهم. أي فكيف كان عذابي لقومه. وإنذاري لهم على لسانه؟ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 23 الى 32]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
(9/92)
 
 
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ أي بما أنذرهم به نبيهم صالح عليه السلام. فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أي جنون، أو عناء. فهو اسم مفرد. وقيل:
جمع سعير، كأنهم عكسوا عليه، فرتبوا على اتباعهم إياه ما رتبه على اتباعهم له.
قال الزمخشريّ قالوا: أَبَشَراً إنكارا لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية، وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر، وهم الملائكة. وقالوا مِنَّا لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى. وقالوا واحِداً إنكارا لأن تتبع الأمة رجلا واحدا، أو أرادوا واحدا من أفنائهم ليس بأشرفهم وأفضلهم. ويدل عليه قولهم أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا يعنون: الوحي والنبوة. أي وفينا من هو أحق بها على زعمهم، لكونه أعز مالا ونفرا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي متكبر، حمله كبره على استتباعنا له.
سَيَعْلَمُونَ غَداً أي عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ أي المتكبر عن الحق، البطر له إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ أي آية وحجة لصالح على قومه امتحانا لهم وابتلاء فَارْتَقِبْهُمْ أي انتظرهم وتبصر ما هم صانعوه بها وَاصْطَبِرْ أي على دعوتهم وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ أي الذي يردونه لشرب مواشيهم قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أي مقسوم بينهم، لها شرب يوم، ولهم شرب يوم كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ أي يحضره صاحبه في نوبته و (الشرب) النصيب من الماء.
ثم أشار تعالى إلى عتوهم عن أمر ربهم بقوله فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فتناول الناقة بيده فَعَقَرَ أي فعقرها وقتلها فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ أي كالشجر اليابس المتكسّر، الذي يتخذه من يعمل الحظيرة للغنم ونحوها. أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء. وقرئ بفتح الظاء، اسم مكان. أي كهشيم الحظيرة، أو الشجر المتخذ لها. وهو تشبيه لإهلاكهم وإفنائهم، وأنهم بادوا عن آخرهم، لم تبق منهم باقية، وخمدوا وهمدوا، كما يهمد وييبس الزرع والنبات بعد خضرة ورقه، وحسن نباته.
قال ابن زيد: كانت العرب يجعلون حظارا على الإبل والمواشي من يبس الشوك.
وعن سفيان: الهشيم، إذا ضربت الحظيرة بالعصا، تهشم ذاك الورق فيسقط،
(9/93)
 
 
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
والعرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس، هشيما وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 33 الى 40]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً أي ملكا يرميهم بالحصباء والحجارة. أو ريحا تحصبهم بالحجارة، أي ترميهم إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ أي في سحر. أو (الباء) للملابسة، أو المصاحبة. وذلك أنه تعالى أوحى إليهم أن يخرجوا من آخر الليل، فنجوا مما أصاب قومهم. ولم يؤمن بلوط من قومه أحد، ولا رجل واحد، حتى ولا امرأته، وقد أصابها ما أصابهم. وخرج نبيّ الله لوط عليه السلام وبنات له، من بين أظهرهم سالمين لم يمسسهم سوء نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي إنعاما منها، وهو علة ل (نجينا) كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ أي فأطاع ربه، وانتهى إلى أمره ونهيه. و (الشكر) صرف العبد جميع ما أنعم عليه، إلى ما خلق لأجله وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ أي لوط بَطْشَتَنا أي أخذتنا بالعذاب فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أي بإنذاراته، تكذيبا له وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ أي طالبوه بإتيان الفاحشة معهم، وهم الملائكة الذين وردوا عليه في صورة شباب مرد حسان، محنة من الله بهم، فأضافهم لوط عليه السلام، وبعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها تعلمهم بأضيافه عليه السلام، فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان، فتلقاهم يناشدهم الله أن لا يخزوه في ضيفه، فأبوا عليه، وجاءوا ليدخلوا عليه، فأعمى الله أبصارهم، فلم يروهم، كما قال فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ أي يدوم بهم إلى النار. فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قال الزمخشريّ: فإن قلت: ما فائدة تكرير قوله فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ... إلخ؟ قلت: فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادّكارا واتعاظا، وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا، إذا سمعوا الحث على ذلك، والبعث عليه، وأن يقرع لهم العصا مرات، ويقعقع لهم الشن تارات، لئلا يغلبهم السهو، ولا تستولي عليهم الغفلة. وهكذا حكم التكرير كقوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: 13] ، عند كل نعمة عدها في سورة
(9/94)
 
 
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
(الرحمن) . وقوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 15] ، عند كل آية أوردها في سورة (والمرسلات) . وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها، لتكون العبر حاضرة للقلوب، مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية في كل أوان. انتهى.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 41 الى 42]
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ يعني موسى وهارون، وجمعها للتعظيم، أو هو جمع نذير بمعنى الإنذار كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها يعني الآيات التسع، أو الأدلة والحجج التي أتتهم ناطقة بوحدانيته تعالى. فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ أي عاقبناهم عقوبة شديد لا يغالب مُقْتَدِرٍ أي عظيم القدرة لا يعجزه شيء.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 44]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)
أَكُفَّارُكُمْ يا معشر قريش خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أي الكفار المعدودين الذين حلت النقمة حتى يأمنوا جانبها أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ أي براءة من عقابه تعالى، وأمان منه، مع أنكم على شاكلة من مضى نبؤهم أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ أي ممتنع لا يرام. أو منتصر ممن أراد حربنا، وتفريق كلمتنا. أو متناصر، ينصر بعضنا بعضا. فالافتعال. بمعنى التفاعل، كالاختصام بمعنى التخاصم. وإفراد مُنْتَصِرٌ مراعاة للفظ جَمِيعٌ لخفة الإفراد، ولرعاية الفاصلة.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 45 الى 46]
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ يعني جمع كفار قريش وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي يولّون أدبارهم المؤمنين بالله، عند انهزامهم. وإفراد الدُّبُرَ لإرادة الجنس، أو رعاية الفواصل، ومشاكلة قرائنه. وقد وقع ذلك يوم بدر. وهو من دلائل النبوّة، لأن الآية مكية، ففيها إخبار عن الغيب، وهو من معجزات القرآن. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ قال ابن جرير: ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من أنهم لا يبعثون بعد مماتهم، بل الساعة موعدهم للبعث والعقاب. وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ أي أعظم داهية، وهي الأمر المنكر الذي لا يهتدى لدوائه. وأمرّ مذاقا، أو أشد عليهم من الهزيمة التي سيهزمونها، إذا التقوا مع المؤمنين للقتال.
(9/95)
 
 
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 47 الى 48]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ أي عن الحق في الدنيا وَسُعُرٍ أي نيران في الآخرة.
وقال القاشانيّ: أي في ضلال عن طريق الحق، لعمى قلوبهم بظلمة صفات نفوسهم. وسُعُرٍ أي جنون ووله، لاحتجاب عقولهم عن نور الحق بشوائب الوهم، وحيرتها في الباطل.
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ أي يجرّون عليها. ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أي حرّها وألمها. والاستعارة في المس تحقيقية. أو في سَقَرَ مكنية، وفي (المسّ) تخييلية. أو المس مجاز مرسل بعلاقة السببيّة للألم. واستعارة الذوق مشهورة، واستعمال الذوق في المصائب بمنزلة الحقيقة. وسَقَرَ من أسماء جهنم- أعاذنا الله منها-.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 49]
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أي بمقدار استوفى فيه مقتضى الحكمة، وترتب الأسباب على مسبّباتها. ومنه خلق دار العذاب، لما كسبت الأيدي، وإذاقة ألمها جزاء الزيغ عن الهدى. وهذه الآية كآية وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان: 2] وآية، سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى: 1- 3] ، أي قدّر قدرا، وهدى الخلائق إليه. ولا مانع أن تكون هذه الآية وما بعدها إلفاتا لعظمته تعالى، وكبير قدرته، وأن من كانت له تلك النعوت المثلى لجدير أن يعبد وحده، ويرهب بأسه، ويتّقى بطشه، لا سيما وقد صدع الداعي بإنذاره، ومن أنذر فقد أعذر.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 50]
وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
وَما أَمْرُنا أي الذي به الإيجاد إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أي كلمة واحدة يكون بها كل شيء، بمقتضى استعداده، كلمح بالبصر في السرعة.
(9/96)
 
 
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
قال القاشاني: إِلَّا واحِدَةٌ أي تعلّق المشيئة الأزلية الموجبة لوجود كل شيء في زمان معيّن، على وجه معلوم، ثابت في لوح القدرة، المسمّى في الشرع ب كن، فيجب وجوده في ذلك الزمان، على ذلك الوجه دفعة. انتهى.
وقيل: معنى الآية، معنى قوله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ [النحل: 77] .
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 51]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي أشباهكم في الكفر من الأمم السالفة.
قال الشهاب: أصل معنى (الأشياع) جمع شيعة، وهم من يتقوّى بهم المرء من الأتباع. ولما كانوا في الغالب من جنس واحد، أريد به ما ذكر، إما باستعماله في لازمه، أو بطريق الاستعارة.
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي متّعظ بذلك ينزجر به.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 52]
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ أي الكتب التي أحصتها الحفظة عليهم.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : آية 53]
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أي من الأعمال مُسْتَطَرٌ أي مسطور لا يمحى ولا ينسى، كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف: 49] ، وقوله سبحانه وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: 13- 14] .
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: يا عائشة! إيّاك ومحقّرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا. «1»
__________
(1) أخرجه في المسند 6/ 70.
(9/97)
 
 
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
قال ابن كثير: ورواه النسائيّ وابن ماجة من طريق سعيد بن مسلم بن ماهك المدنيّ، وثّقه أحمد وابن معين وأبو حاتم وغيرهم. وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا، من وجه آخر. ثم قال سعيد: فحدّثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي: ويحك يا سعيد! لقد حدّثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنبا فاستصغره، فأتاه آت في منامه، فقال له: يا سليمان!
لا تحقرنّ من الذّنوب صغيرا ... إنّ الصغير غدا يعود كبيرا
إنّ الصغير، ولو تقادم عهده، ... عند الإله مسطّر تسطيرا
فازجر هواك عن البطالة، لا تكن ... صعب القياد وشمّرن تشميرا
إنّ المحبّ إذا أحبّ إلهه ... طار الفؤاد وألهم التفكيرا
فأسأل هدايتك الإله، فتتّئد ... فكفى بربّك هاديا ونصيرا
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة القمر (54) : الآيات 54 الى 55]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا عقاب الله بطاعته، وأداء فرائضه، واجتناب نواهيه، فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ أي أنهار. واكتفى باسم الجنس المفرد لرعاية الفواصل.
وقرئ بسكون الهاء، وضم النون، وقرئ بضمهما. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ قال ابن جرير:
أي في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم.
وقال الزمخشريّ: في مكان مرضىّ. قال شراحه: فالصدق مجاز مرسل في لازمه، أو استعارة. وقيل: المراد صدق المبشّر به، وهو الله ورسوله. أو المراد أنه ناله من ناله بصدقه وتصديقه للرسل، فالإضافة لأدنى ملابسة.
عِنْدَ مَلِيكٍ بمعنى ملك. قال الشهاب: وليس إشباعا، بل هي صيغة مبالغة.
كالمقتدر مُقْتَدِرٍ قال القاشانيّ: أي يقدر على تصريف جميع ما في ملكه على حكم مشيئته، وتسخيره على مقتضى إرادته لا يمتنع عليه شيء.
وقال الشهاب: في تنكير الأسمين الكريمين إشارة إلى أن ملكه وقدرته لا تدري الأفهام كنههما، وأن قربهم منه بمنزلة من السعادة والكرامة، بحيث لا عين رأت، ولا أذن سمعت، مما يجل عن البيان، وتكلّ دونه الأذهان.
(9/98)
 
 
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
 
سورة الرحمن
قال المهايميّ: سميت به لأنها مملوءة بذكر الآلاء الجليلة، وهي راجعة إلى هذا الاسم.
وهي مكية، على قول ابن عباس. وآيها ثمان وسبعون.
وقد روى الإمام أحمد أن أول مفصل ابن مسعود، كان الرحمن.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ أي بصّر به ما فيه رضاه، وما فيه سخطه، برحمته ليطاع باتباع ما يرضيه، وعمل ما أمر به، وباجتناب ما نهى عنه، وأوعد عليه، فينال جزيل ثوابه، وينجى من أليم عقابه.
قال القاضي: لما كانت السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية، صدّرها ب الرَّحْمنُ وقدم ما هو أصل النعم الدينية وأجلّها، وهو إنعامه بالقرآن، وتنزيله وتعليمه، فإنه أساس الدين، ومنشأ الشرع، وأعظم الوحي، وأعز الكتب، إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها، مصدق لنفسه، ومصداق لها.
ثم أتبعه بقوله:
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الرحمن (55) : الآيات 3 الى 4]
خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
خَلَقَ