تفسير القاسمي محاسن التأويل 004

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: محاسن التأويل
المؤلف: محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي (المتوفى: 1332هـ)
 
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
وقوله تعالى:
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 73]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)
وَإِلى ثَمُودَ أي: وأرسلنا إلى ثمود. وهي قبيلة أخرى من العرب سموا باسم جدهم ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح، وهو أخو جديس بن عابر. وكذلك قبيلة طسم، كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة، قبل إبراهيم الخليل عليه السلام. وكانت ثمود بعد عاد، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله. وقد مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ديارهم وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع- نقله ابن كثير-.
وثمود كصبور، وتضم ثاؤه، وقرئ به أيضا، وقرئ بصرفه ومنعه. أما الثاني فلأنه اسم القبيلة، ففيه العلمية والتأنيث. وأما الأول فلأنه اسم للحيّ، أو لأنه لما كان اسمها الجد، أو القليل من الماء كان مصروفا، لأنه علم مذكر، أو اسم جنس، فبعد النقل حكي أصله. كذا في (العناية) .
أَخاهُمْ صالِحاً هو- على ما قاله علماء التفسير والنسب-: ابن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ دعاهم عليه الصلاة والسلام بما يدعو به الرسل أجمعون، وهو عبادة الله وحده لا شريك له. كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] . وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] ، قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي حجة ظاهرة للدلالة على صحة نبوتي هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً أي خلقها حجة وعلامة على رسالتي. وأضافها إليه تفضيلا وتخصيصا. ك (بيت الله) ، أو لأنه لا مالك لها غيره تعالى، أو لأنها حجته عليهم في أنهم، إن حفظوها وأطلقوا لها رعيها وسقياها حفظوا، وإن غدروا بها أهلكوا، ولذا قال: فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ أي التي لا يملكها غيره، العشب وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي لا تضربوها ولا تطردوها ولا تريبوها بشيء من الأذى، ولو تأذت منها دوابّكم، إكراما لآية الله فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ
(5/125)
 
 
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
أَلِيمٌ
أي: في الدارين لجرأتكم على آيات الله.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 74]
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ قال الشهاب: لم يقل: خلفاء عاد، إشارة إلى أن بينهما زمانا طويلا وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي: أنزلكم في أرض الحجر.
والمباءة المنزل. تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي: تبنون في سهولها قصورا لتسكنوها أيام الصيف. ف (من) بمعنى (في) ، كقوله تعالى: نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: 9] . أو هي ابتدائية، أو تبعيضية، أي: تعملون القصور من مادة مأخوذة من السهل وهي الطين. والسهل خلاف الحزن، وهو موضع الحجارة والجبال وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً أي: لتسكنوها أيام الشتاء. والجبال إما مفعول ثان بتضمين (نحت) معنى (اتخذ) ، أو منصوب بنزع الخافض، على ما جاء في الآية الأخرى: والنحت معروف في كل صلب. ومضارعه مكسور الحاء. وقرأ الحسن بالفتح لحرف الحلق: وقرئ تنحاتون بالإشباع، ك (ينباع) ، أفاده الشهاب.
 
بحث الإشباع في وسط الكلمة:
أقول: بهذه القراءة يستدل على ثبوت الإشباع في وسط الكلمة لغة. ومثله (ينباع) المذكورة، وهي من قول عنترة:
ينباع من ذفرى غضوب جسرة
أي ينبع العرق من خلف أذن ناقة غضوب، فأشبع الفتحة لإقامة الوزن، فتولّدت من إشباعها ألف. ومثله قولنا (آمين) ، والأصل (أمين) فأشبعت الفتحة، فتولدت من إشباعها ألف- قاله الزوزني-.
ومثله (استكان) على القول بأنه افتعل من (السكون) فزيدت الألف لإشباع الفتحة كما في (شرح الشافية) .
ومنه (عقراب) - قال في (تاج العروس) : سمع العقراب في اسم الجنس.
قال:
(5/126)
 
 
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)
أعوذ بالله من العقراب ... الشائلات عقد الأذناب
قال: وعند أهل الصرف ألف (عقراب) للإشباع، لفقدان (فعلال) بالفتح- انتهى-.
وقوله تعالى: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعمه عليكم لتصرفوها إلى ما خلقها لأجله وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بالمعاصي وعبادة غيره تعالى.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 75]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أي عن الإيمان بعد ظهور آية الناقة والكلمات الناصحة مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم، إذ لم يكن لهم استكبار يمنعهم من الانقياد لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من (الّذين استضعفوا) بإعادة الجار، بدل الكل، إن كان الضمير لقومه، فيدل على أن استضعافهم كان مقصورا على المؤمنين. وبدل البعض إن كان الضمير لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فيدل على أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين. قال أبو السعود:
والأول هو الوجه، إذ لا داعي إلى توجيه الخطاب أولا إلى جميع المستضعفين، مع أن المجاوبة مع المؤمنين منهم. على أن الاستضعاف مختص بالمؤمنين، أي قالوا للمؤمنين الذين استضعفوهم واسترذلوهم أَتَعْلَمُونَ أي من آية الناقة ومن الكلمات الناصحة أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ إليكم لعبادته تعالى وحده لا شريك له.
وهذا قالوه على سبيل السخرية والاستهزاء، لأنهم يعلمون بأنهم عالمون بذلك، ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر، بل عدلوا منه، كما قال تعالى:
قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ عدلوا عن الجواب الموافق لسؤالهم بأن يقولوا (نعم) أو (إنه مرسل منه تعالى) ، مسارعة إلى تحقيق الحق، وإظهار ما لهم من الإيمان الثابت المستمر الذي تنبئ عنه الجملة الاسمية، وتنبيها على أن أمر إرساله من الظهور بحيث لا ينبغي أن يسأل عنه، وإنما الحقيق بالسؤال عنه هو الإيمان به. أفاده أبو السعود.
فهذا من الأسلوب الحكيم، وهو تلقّي السائل والمخاطب بخلاف ما يترقب،
(5/127)
 
 
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
تنبيها على أنه هو الذي ينبغي أن يسأل عنه.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 76]
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76)
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ وإنما لم يقولوا: إنا بما أرسل به كافرون، إظهارا لمخالفتهم إياهم، وردّا لمقالتهم.
قال في (الانتصاف) : ولو طابقوا بين الكلامين لكان مقتضى المطابقة أن يقولوا: إنا بما أرسل به كافرون، ولكن أبوا ذلك حذرا مما في ظاهره من إثباتهم لرسالته، وهم يجحدونها، وقد يصدر مثل ذلك على سبيل التهكم، كما قال فرعون:
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27] ، فأثبت إرساله تهكما، وليس هذا موضع التهكم، فإن الغرض إخبار كل واحد من الفريقين، والمكذبين، عن حاله، فلهذا خلص الكافرون قولهم عن إشعار الإيمان بالرسالة، احتياطا للكفر، وغلوّا في الإصرار- انتهى- ولذلك أنكروا آية الناقة وكذبوه في إصابة العذاب عن مسها بالسوء. كما قال تعالى:
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 77]
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ أي نحروها. والعقر: الجرح، وأثر كالخزّ في قوائم الفرس والإبل. يقال: عقره بالسيف يعقره بالكسر، وعقّره تعقيرا، قطع قوائمه بالسيف وهو قائم.
قال الأزهري: العقر عند العرب كشف عرقوب البعير، ثم يجعل النحر عقرا، لأن ناحر الإبل يعقرها: ثم ينحرها.
وفي اللسان: عقر الناقة وعقّرها، إذا فعل بها ذلك حتى تسقط، فينحرها مستمكنا منها، أي: لئلا تشرد عند النحر.
وفي الحديث «1» : لا عقر في الإسلام.
قال ابن الأثير: كانوا يعقرون الإبل على قبور الموتى، أي ينحرونها ويقولون إن
__________
(1) أخرجه أبو داود في: الجنائز، 70- باب كراهية الذبح عند القبر، حديث رقم 3222.
(5/128)
 
 
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته، فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته. كذا في (تاج العروس) -.
وأسند العقر إلى جميعهم، لأنه كان برضاهم، وإن لم يباشره إلا بعضهم. ويقال للقبيلة الضخمة: أنتم فعلتم كذا وما فعله إلا واحد منهم. كذا في (الكشاف) .
قال أبو السعود: وفيه من تهويل الأمر وتفظيعه، بحيث أصابت غائلته الكل، ما لا يخفى.
وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي استكبروا عن امتثاله، وهو عبادته وحده، أو الحذر من مسّ الناقة بسوء. وزادوا في الاستهزاء وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا أي: من العذاب على عقر الناقة. والأمر للاستعجال لأنهم يعتقدون أنه لا يتأتى ذلك، ولذا قالوا: إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي فإن الله ينصر رسله على أعدائه.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 78]
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي: الصيحة التي يحصل منها الزلزلة الشديدة بدل صوت الناقة عند عقرها، وبدل حركتها عند نزع الروح فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ في بلادهم أو مساكنهم جاثِمِينَ أي: ساقطين على وجوههم، هامدين لا يتحركون، ميتين بدل موت الناقة وسقوطها. والصيحة والزلزلة من آثار الريح المرسلة التي كانت رحمة فانقلبت عذابا.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 79]
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
فَتَوَلَّى أي فأعرض صالح عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي المتضمنة لتخويف العذاب عنه وَنَصَحْتُ لَكُمْ فأمرتكم بكل خير، ونهيتكم عن كل شر وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ أي من الرسل والأنبياء والعلماء لمخالفتهم أهويتكم. والظاهر أن صالحا عليه السلام كان مشاهدا لما جرى عليهم، وأنه تولى عنهم، بعد ما أبصرهم جاثمين، تولّي مغتمّ متحسر على ما فاته من إيمانهم، يتحزن لهم بقوله يا قَوْمِ ... إلخ كذا في (الكشاف) . أو خاطبهم خطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم
(5/129)
 
 
أهل قليب بدر حيث
قال «1» : إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقّا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقّا. - كما رواه البخاري
- لا تحزنا، ولكن إعلاما بنصر الله له، وتحقيق رسالته، زيادة في حزنهم وتوبيخهم، فإن الأحياء ليسوا بأسمع منهم، ولكن لا يتكلمون.
كما في (الصحيح) . ويجوز عطف قوله فَتَوَلَّى على قوله فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فيكون الخطاب لهم حين أشرفوا على الهلاك، لا بعده. فيكون عليه السلام تولى عنهم تولي ذاهب عنهم، منكر لإصرارهم حين رأى علامات نزول العذاب. والمتبادر الأول لظهور الفاء في التعقيب- والله أعلم-.
 
تنبيهات:
الأول: نأثر هنا ما رواه علماء التاريخ والنسب في بسط قصة ثمود، لمكان العظة والاعتبار مفصلا. وإلا، فجلي أن ما أجمله التنزيل الكريم لا غاية وراءه في ذلك، وما سكت عن بيانه من تلك القصص، فلا حاجة إلى السعي وراءه لفقد القطع به، اللهم إلا لزيادة الاتعاظ، وتقوية العبرة، ولذا
صح عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «2» : «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» .
وخلاصة ما رووه عن ثمود أن عادا لما هلكت، عمرت ثمود بلادها، وخلفوهم في الأرض، وكانوا في سعة ورخاء من العيش، فعتوا على الله، وأفسدوا في الأرض، وعبدوا الأوثان، فبعث الله تعالى إليهم صالحا عليه السلام، وكانوا قوما عربا، وصالح من أوسطهم نسبا، فدعاهم إلى عبادته تعالى وحده، فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون، فحذرهم وأنذرهم، فسألوه آية، واقترحوا عليه بأن يخرج لهم ناقة عشراء، تمخض من صخرة صماء، عينوها بأنفسهم، وكانت صخرة منفردة في ناحية الجبل، يقال لها (الكائبة) ، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق: لئن أجابهم الله إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه. فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح عليه السلام إلى صلاته، ودعا الله عز وجل، فتحركت تلك الصخرة، ثم انصدعت
__________
(1)
أخرجه البخاري في: الجنائز، 87- باب ما جاء في عذاب القبر، حديث 726 ونصه: عن ابن عمر قال: اطلع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أهل القليب فقال «هل وجدتم ما وعد ربكم حقّا» ؟
فقيل له: تدعو أمواتا؟
فقال: «ما أنتم بأسمع منهم. ولكن لا يجيبون»
. (2)
أخرجه البخاري في: الأنبياء، 50- باب ما ذكر عن بني إسرائيل حديث 1624 ونصه: عن عبد الله بن عمرو أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: بلّغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
. [.....]
(5/130)
 
 
عن ناقة جوفاء وبراء، يتحرك جنينها بين جنبيها، كما سألوا. فعند ذلك آمن رئيسهم جندع بن عمرو ومن كان معه على أمره، وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا، فصدهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد، والخباب صاحب أوثانهم، ورباب بن صعمر بن جلمس.
وكان لجندع بن عمرو ابن عم له، شهاب بن خليفة بن محلاة بن لبيد بن جواس، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فأراد أن يسلم أيضا فنهاه أولئك الرهط فأطاعهم، فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود يقال له مهوش بن عنمة بن الزميل، رحمه الله:
وكانت عصبة من آل عمرو ... إلى دين النبيّ دعوا شهابا
عزيز ثمود كلّهم جميعا ... فهمّ بأن يجيب ولو أجابا
لأصبح صالح فينا عزيزا ... وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا
ولكن الغواة من آل حجر ... تولوا بعد رشدهم ذبابا
وأقامت الناقة وفصيلها، بعد ما وضعته، بين أظهرهم مدة، تشرب من بئرها يوما، وتدعه لهم يوما، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبونها فيملئون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم، كما قال في الآية الأخرى وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ، كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [القمر: 28] وقال تعالى: هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء: 155] . وكانت تسرح في بعض تلك الأودية، ترد من فج، وتصدر من غيره، ليسعها. لأنها كانت تتضلع من الماء، وكانت- على ما ذكر- خلقا هائلا، ومنظرا رائعا، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها. فما طال عليهم ذلك، واشتد تكذيبهم لصالح النبيّ عليه السلام، عزموا على قتلها ليستأثروا بالماء كل يوم. فيقال إنهم اتفقوا كلهم على قتلها. قال قتادة: بلغني أن الذي قتلها طاف عليهم كلهم أنهم راضون لقتلها، حتى على النساء في خدورهن. قال ابن كثير:
قلت وهذا هو الظاهر لقوله تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها [الشمس: 14] ، وقال وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها [الإسراء:
59] ، وقال فَعَقَرُوا النَّاقَةَ [الأعراف: 77] . فأسند ذلك إلى مجموع القبيلة، فدل على رضى جميعهم بذلك- والله أعلم-.
وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير، وغيره من علماء التفسير، أن سبب قتلها، أن امرأة من ثمود يقال لها (عنيزة بنت غنم بن مجلز، تكنى بأم غنم، وهي من بني عبيد بن المهل، أخي رميل بن المهل، وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو، وكانت عجوزا مسنة، وكانت ذات بنات حسان، وكانت ذات مال من إبل وبقر وغنم.
(5/131)
 
 
وامرأة أخرى يقال لها (صدوف بنت المحيّا بن دهر بن المحيّا) سيّد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول. وكان الوادي يقال له (وادي المحيّا) وهو المحيّا الأكبر، جدّ المحيّا الأصغر أبي صدوف.
وكانت صدوف من أحسن الناس، وكانت غنية ذات مال من إبل وغنم وبقر.
وكانتا من أشد امرأتين في ثمود عداوة لصالح، وأعظمه به كفرا.
وكانتا تحتالان أن تعقر الناقة مع كفرهما به، لما أضرّت به من مواشيهما.
وكانت صدوف عند ابن خال لها يقال له (صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف) من بني هلس، فأسلم وحسن إسلامه.
وكانت صدوف قد فوّضت إليه مالها، فأنفقه على من أسلم معه من أصحاب صالح، حتى رقّ المال.
فاطلعت على ذلك من إسلامه صدوف، فعاتبته على ذلك، فأظهر لها دينه، ودعاها إلى الله وإلى الإسلام فأبت عليه وبيّتت له. فأخذت بنيه وبناته منه فغيّبتهم في بني عبيد، بطنها الذي هي منه.
وكان صنتم زوجها من بني هليل، وكان ابن خالها. فقال لها: ردّي عليّ ولدي. فقالت: حتى أنافرك إلى بني صنعان بن عبيد أو إلى بني جندع بن عبيد.
فقال لهم صنتم: بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد. وذلك أن بني مرداس بن عبيد كانوا قد سارعوا في الإسلام وأبطأ عنه الآخرون.
فقالت لا أنافرك إلا إلى من دعوتك إليه.
فقال بنو مرداس: والله لتعطينّه ولده طائعة أو كارهة.
فلما رأت ذلك أعطته إياهم.
ثم إن صدوف وعنيزة محلتا في عقر الناقة للشقاء الذي نزل. فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له (الحباب) لعقر الناقة، وعرضت عليه نفسها بذلك إن هو فعل فأبى عليها. فدعت ابن عم لها يقال له (مصدع بن مهرج بن المحيا) وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة. وكانت من أحسن الناس، وكانت غنية كثيرة المال، فأجابها إلى ذلك.
ودعت عنيزة بنت غنم (قدار بن سالف بن جندع) رجلا من أهل قرح.
(5/132)
 
 
وكان قدار رجلا أحمر أزرق قصيرا. يزعمون أنه كان لزنية، من رجل يقال له (صهياد) ولم يكن لأبيه (سالف) الذي يدعى إليه. ولكنه قد ولد على فراش (سالف) وكان يدعى له وينسب إليه.
فقالت: أعطيتك أيّ بناتي شئت، على أن تعقر الناقة.
وكانت عنيزة شريفة من نساء ثمود، وكان زوجها ذؤاب بن عمرو، من أشراف رجال ثمود. وكان قدار عزيزا منيعا في قومه.
فانطلق قدار بن سالف، وصدع بن مهرج، فاستنفرا غواة من ثمود. فاتبعهما سبعة نفر. فكانوا تسعة نفر. أحد النفر الذين اتبعوهما رجل يقال له، (هويل بن مبلغ) خال قدار بن سالف، أخو أمه لأبيها وأمها، وكان عزيزا في أهل حجر. و (دعير ابن غنم بن داعر) وهو من بني خلاوة بن المهل.
و (دأب بن مهرج) أخو مصدع بن مهرج.
وخمسة لم تحفظ لنا أسماؤهم.
فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن لها قدار في أصل شجرة على طريقها، وكمن لها مصدع في أصل أخرى. فمرت على مصدع فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها.
وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها، وكانت من أحسن الناس وجها، فأسفرت لقدار وأرته إياه. ثم ذمّرت فشدّ على الناقة بالسيف فخشف عرقوبها. فخرّت ورغت رغاة واحدة تحذّر سقبها. ثم طعن في لبتها فنحرها.
انطلق سقبها حتى أتى جبلا منيفا. ثم أتى صخرة في رأس الجبل فزعا ولاذ بها. واسم الجبل فيما يزعمون (صنو) - فأتاهم صالح، فلما رأى الناقة قد عقرت، قال انتهكتم حرمة الله، فأبشروا بعذاب الله تبارك وتعالى ونقمته. فاتّبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة، وفيهم (مصدع بن مهرج) فرماه مصدع بسهم، فانتظم قلبه، ثم جرّ برجله فأنزله، ثم ألقوا لحمه مع لحم أمه.
فلما قال لهم صالح: أبشروا بعذاب الله ونقمته، قالوا له وهم يهزءون به: ومتى ذلك يا صالح؟ وما آية ذلك؟ - وكانوا يسمون الأيام فيهم: الأحد (أول) والاثنين (أهون) والثلاثاء (وبار) والأربعاء (جبار) والخميس (مؤمن) والجمعة (العروبة) والسبت (شيار) وكانوا عقورا الناقة يوم الأربعاء- فقال لهم صالح حين قالوا له
(5/133)
 
 
ذلك: تصبحون غداة يوم مؤمن، يعني يوم الخميس، ووجوهكم مصفرّة، ثم تصبحون يوم العروبة، يعني يوم الجمعة ووجوهكم محمرّة، ثم تصبحون يوم شيار، يعني يوم السبت، ووجوهكم مسودّة. ثم يصبحكم العذاب يوم الأول، يعني يوم الأحد.
فلما قال لهم صالح ذلك، قال التسعة الذين عقروا الناقة: هلم فلنقتل صالحا.
إن كان صادقا عجّلناه، قبلنا، وإن كان كاذبا يكون قد ألحقناه بناقته.
فأتوه ليلا ليبيّتوه في أهله، فدمغتهم الملائكة بالحجارة. فلما أبطئوا على أصحابهم، أتوا منزل صالح فوجدوهم مشدّخين قد رضخوا بالحجارة. فقالوا لصالح: أنت قتلتهم! ثم هموا به. فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح وقالوا لهم:
والله لا تقتلونه أبدا، فقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث، فإن كان صادقا لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا، وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون! فانصرفو عنهم ليلتهم تلك. والنفر الذين رضخهم الملائكة بالحجارة، التسعة الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن بقوله تعالى وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ. إلى قوله: لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النمل: 48- 52] .
فأصبحوا من تلك الليلة التي انصرفوا فيها عن صالح، وجوههم مصفرّة، فأيقنوا بالعذاب. وعرفوا أن صالحا قد صدقهم فطلبوه ليقتلوه. وخرج صالح هاربا منهم حتى لجأ إلى بطن من ثمود يقال لهم (بنو غنم) فنزل على سيدهم رجل منهم يقال له (نفيل) يكنى بأبي هدب، وهو مشرك، فغيّبه، فلم يقدروا عليه.
فغدوا على أصحاب صالح فعذّبوهم ليدلّوهم عليه، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له (ميدع بن هرم) : يا نبيّ الله، إنهم يعذبوننا لندلّهم عليك، أفندلّهم عليك؟ قال: نعم. فدلهم عليه (ميدع بن هرم) .
فلما علموا بمكان صالح، أتوا أبا هدب فكلموه فقال لهم: عندي صالح، وليس لكم إليه سبيل. فأعرضوا عنه وتركوه. وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم من عذابه.
فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون في وجوههم حين أصبحوا من يوم الخميس، وذلك أن وجوههم أصبحت مصفرّة، ثم أصبحوا يوم الجمعة ووجوههم
(5/134)
 
 
محمرّة، ثم أصبحوا يوم السبت ووجوههم مسودّة. حتى إذا كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام. فنزل رملة فلسطين. وتخلف رجل من أصحابه يقال له (ميدع بن هرم) فنزل قرح- وهي وادي القرى، وبين القرح وبين الحجر ثمانية عشر ميلا- فنزل على سيدهم رجل يقال له (عمرو بن غنم) وقد كان أكل من لحم الناقة ولم يشرك في قتلها. فقال له ميدع بن هرم: يا عمرو بن غنم، اخرج من هذا البلد، فإن صالحا قال: من أقام فيه هلك، ومن خرج منه نجا.
فقال عمرو: ما شركت في عقرها، وما رضيت ما صنع بها.
فلما كانت صبيحة الأحد، أخذتهم الصيحة، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك. إلا جارية مقعدة يقال لها (الزّريعة) وهي الكلبة ابنة السّلق. كانت كافرة شديدة العداوة لصالح، فأطلق الله لها رجليها بعد ما عاينت العذاب أجمع. فخرجت كأسرع ما يرى شيء قط. حتى أتت أهل قرح فأخبرتهم بما عاينت من العذاب وما أصاب ثمود منه، ثم استسقت من الماء فسقيت، فلما شربت ماتت.
الثاني- قال الرازي: زعم بعض الملحدين أن ألفاظ التنزيل في حكاية هذه الواقعة اختلفت، وهي الرجفة والطاغية والصيحة. والجواب ما قاله أبو مسلم: إن الطاغية اسم لكل ما تجاوز حده، سواء كان حيوانا أو غير حيوان، وألحق الهاء به للمبالغة. فالمسلمون يسمون الملك العاتي بالطاغية والطاغوت. وقال تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6- 7] . ويقال طغى طغيانا، وهو طاغ وطاغية. وقال تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها [الشمس: 11] . وقال في غير الحيوان: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الحاقة: 11] ، أي: غلب وتجاوز عن الحد. وأما الرجفة فهي الزلزلة في الأرض، وهي حركة خارجة عن المعتاد، فلم يبعد إطلاق اسم الطاغية عليها. وأما الصيحة، فالغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة. وأما الصاعقة، فالغالب أنها الزلزلة، وكذلك الزجرة، قال تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: 13- 14] . فبطل ما زعمه ذلك البعض.
الثالث- قال علماء التفسير: ولم يبق من ذرية ثمود أحد، سوى صالح عليه السلام، ومن تبعه رضي الله عنهم. إلا أن رجلا يقال له أبو رغال. كان، لما وقعت النقمة بقومه، مقيما إذ ذاك في الحرم، فلم يصبه شيء، فلما خرج في بعض الأيام إلى الحلّ، جاءه حجر من السماء فقتله.
(5/135)
 
 
روى الإمام أحمد «1» عن جابر قال: لما مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح، فكانت- يعني الناقة- ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما فعقروها، فأخذتهم صيحة أحمد الله من تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله فقالوا: من هو يا رسول الله؟ قال أبو رغال.
فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه» . قال ابن كثير: وهذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة، وهو على شرط مسلم.
وروى عبد الرزاق عن معمر: أخبرني إسماعيل بن أمية أن النبيّ صلى الله عليه وسلّم مرّ بقبر أبي رغال فقال: أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا قبر أبي رغال، رجل من ثمود، كان في حرم الله، فمنعه حرم الله عذاب الله فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن هاهنا، ودفن معه غصن من ذهب، فنزل القوم، فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عنه، فاستخرجوا الغصن.
وأبو رغال هو أبو ثقيف الذين كانوا يسكنون الطائف، كما روي مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم- أخرجه أبو داود وغيره «2» .
الرابع- ذكرنا قبل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ على ديار ثمود المعروفة الآن بمدائن صالح، وهو ذاهب إلى غزوة تبوك، سنة تسع، وأمر أصحابه أن يدخلوا خاشعين وجلين أن يصيبهم ما أصاب أهلها، ونهاهم أن يشربوا من مائها.
فروى الإمام أحمد «3» عن ابن عمر قال: نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالناس عام تبوك، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها، ونصبوا القدور باللحم. فأمرهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأهراقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذّبوا، وقال: إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم.
وروى أحمد «4» والبخاري «5» ومسلم «6» عن ابن عمر قال: لما مرّ رسول الله
__________
(1) أخرجه في المسند 3/ 296.
(2) أخرجه أبو داود في: الخراج والإمارة والفيء، 41- باب نبش القبور، حديث رقم 3088.
(3) أخرجه في المسند 2/ 117. والحديث رقم 5984.
(4) أخرجه في المسند 2/ 137. والحديث رقم 6211.
(5) أخرجه البخاري في: المغازي، 80- باب نزول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الحجر، حديث رقم 284.
(6) أخرجه مسلم في: الزهد والرقائق، حديث 38 و 39.
(5/136)
 
 
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
صلى الله عليه وسلّم بالحجر قال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم. ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي.
وللبخاري «1»
أن الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من آبارها ولا يستقوا منها. فقالوا قد عجنّا منها، واستقينا. فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلّم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء.
الخامس- قال ابن كثير: ذكر بعض المفسرين أن كل نبيّ هلكت أمته، كان يذهب فيقيم في الحرم، حرم مكة، والله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد «2» : حدثنا وكيع، حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوادي عسفان حين حج قال: يا أبا بكر! أيّ واد هذا؟ قال: هذا وادي عسفان. قال: لقد مر به هود وصالح على بكرات حمر خطمها الليف، أزرهم العباء، وأرديتهم النّمار، يلبّون، يحجون البيت العتيق.
قال ابن كثير: هذا حديث غريب من هذا الوجه، لم يخرجه أحد منهم.
وقوله تعالى:
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 80]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80)
وَلُوطاً منصوب بفعل مضمر معطوف على ما سبق، أي وأرسلنا لوطا.
ولفظه أعجميّ معناه في العربية (ملفوف) أو (مرّ) ، كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل- وهو فيما قاله علماء النسب والتفسير- ابن هاران بن تارح (ويقال آزر) وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما السلام. وكان قد آمن مع إبراهيم عليهما السلام، وهاجر معه إلى الشام، وتوطنا بلد الكنعانيين من فلسطين، وهي الأرض المقدسة، ثم حدثت مشاجرة بين رعاتهما فنزح لوط إلى وادي الأردنّ، وسكن مدينة سدوم فبعثه الله إلى أهلها، وإلى ما جاورها من القرى. فصار يدعوهم إلى الله
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأنبياء، 17- باب قوله تعالى: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً، حديث رقم 1595.
ومسلم في: الزهد والرقائق، حديث 40.
(2) أخرجه في المسند 1/ 232، والحديث رقم 2067.
(5/137)
 
 
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
تعالى، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والفواحش التي اخترعوها، ولم يسبقهم بها أحد من العالمين، من بني آدم، ولا غيرهم، وهو إتيان الذكور.
قال ابن كثير: وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه، ولا يخطر ببالهم، حتى صنعه أهل سدوم، عليهم لعائن الله.
قال عمرو بن دينار: ما زنا ذكر على ذكر، حتى كان قوم لوط. وقال الوليد بن عبد الملك الخليفة الأمويّ، باني جامع دمشق: لولا أن الله عز وجل قصّ علينا خبر قوم لوط، ما ظننت أن ذكرا يعلو ذكرا.
ثم بيّن تعالى إنكار لوط عليهم بقوله سبحانه: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي الفعلة المتناهية في القبح. وقوله تعالى: ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أي ما عملها أحد قبلكم، والباء للتعدية، من قولك (سبقته بالكرة) إذا ضربتها قبله، ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلّم «1» : (سبقك بها عكّاشة) . كذا في (الكشاف) .
قال أبو السعود: والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد النكير، وتشديد التوبيخ والتقريع. فإن مباشرة القبح قبيح، واختراعه أقبح، فأنكر تعالى عليهم أولا إتيان الفاحشة، ثم وبخهم بأنهم أول من عملها، ثم استأنف بيان تلك الفاحشة تأكيدا للإنكار السابق وتشديدا للتوبيخ بقوله سبحانه:
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 81]
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ أي: الذين خلقهم الله ليأتوا النساء، لا ليأتيهم الرجال. وقرئ بهمزتين صريحتين، وبتليين الثانية، بغير مدّ وبمد أيضا. وفي زيادة (إن) و (اللام) مزيد توبيخ وتقريع، كأن ذلك أمر لا يتحقق صدوره عن أحد. وفي إيراد لفظ (الرجال) دون الغلمان والمردان ونحوهما، مبالغة في التوبيخ وتأتون، من (أتى المرأة) إذا غشيها. قاله الزمخشري.
وفي (تاج العروس) : أتى الفاحشة: تلبّس بها، ويكنى بالإتيان عن الوطء وهو من أحسن الكنايات، ورجل مأتي أتي فيه، ومنه قول بعض المولدين:
__________
(1) أخرجه البخاري في: الرقاق، 50- باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب، حديث 1605.
(5/138)
 
 
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
يأتي ويؤتى ليس ينكر ذا، ولا ... هذا، كذلك إبرة الخيّاط
انتهى.
وقوله تعالى شَهْوَةً مفعول له، أي للاشتهاء، أي لا حامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة من غير داع آخر. ولا ذمّ أعظم منه، لأنه وصف لهم بالبهيمية، وأنه لا داعي لهم من جهة العقل البتة كطلب النسل لو نحوه. أو حال، بمعنى مشتهين تابعين للشهوة، غير ملتفتين إلى السماجة. كذا في (الكشاف) مِنْ دُونِ النِّساءِ أي: مجاوزين عن مواتاه النساء اللاتي خلقن لذلك. قال أبو السعود: ويجوز أن يكون المراد من قوله شَهْوَةً الإنكار عليهم، وتقريعهم على اشتهائهم تلك الفعلة الخبيثة المكروهة، كما ينبئ عنه قوله تعالى مِنْ دُونِ النِّساءِ أي متجاوزين النساء اللاتي هنّ محال الاشتهاء كما ينبئ عنه قوله تعالى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود: 78] . بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح، وتدعو إلى اتباع الشهوات. وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف، وتجاوز الحدود في كل شيء. فمن ثمّ أسرفوا في باب قضاء الشهوة، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد. ونحوه بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ [الشعراء: 166] .
كذا في (الكشاف) .
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 82]
وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أي: المستكبرين في مقابلة نصحة إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ أي: لوطا والمؤمنين معه مِنْ قَرْيَتِكُمْ أي: بلدكم. قال الزمخشري:
يعني ما أجابوه بما يكون جوابا عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة، وتعظيم أمرها، ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله. ولكنهم جاءوا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته، من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم، ضجرا بهم، وبما يسمعونه من وعظهم ونصحهم. وقولهم إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ سخرية بهم، وبتطهرهم من الفواحش، وافتخار بما كانوا فيه من القذارة.
كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم (أبعدوا عنا هذا المتقشف، وأريحونا من هذا المتزهد) .
قال ابن كثير: قال مجاهد: يتطهرون من أدبار الرجال وأدبار النساء. وروي مثله عن ابن عباس.
(5/139)
 
 
قال السيوطي في (الإكليل) : فيستدل به على تحريم أدبار النساء، أي بناء على أن تفسير الصحابي له حكم المرفوع.
ورجح ابن القيم أنه في حكم الموقوف.
والمسألة تقدمت مستوفاة في قوله تعالى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة: 223] . فتذكر.
 
تنبيه:
قال الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله في كتابه (إغاثة اللهفان) :
قد وسم الله سبحانه الشرك والزنى واللواطة بالنجاسة والخبث في كتابه، دون سائر الذنوب، وإن كان مشتملا على ذلك. لكن الذي وقع في القرآن قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28] ، وقوله تعالى في حق اللوطية: وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ [الأنبياء: 74] ، وقالت اللوطية: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل: 56] فأقروا، مع شركهم وكفرهم، أنهم هم الأخابث الأنجاس، وأن لوطا وآله مطهرون من ذلك، باجتنابهم له. وقال تعالى في حق الزناة: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ [النور: 26] ، وأما نجاسة الشرك فهي نوعان نجاسة مغلظة، ونجاسة مخففة. فالمغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عز وجل، فإن الله عز وجل لا يغفر أن يشرك به، والمخففة: الشرك الأصغر، كيسير الرياء، والتصنع للمخلوقات والحلف به، وخوفه ورجائه.
ثم قال: ونجاسة الزنى واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات، من جهة أنها تفسد القلب، وتضعف توحيده جدّا. ولهذا، أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركا، فكلما كان الشرك في العبد أغلب، كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر.
وكلما كان أعظم إخلاصا، كان منها أبعد. كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24] فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبّد لها بل هو من أعلى أنواع التعبد، ولا سيما إذا استولى على القلب، وتمكن منه، صار تتّيما، والتتيم: التعبد، فيصير العاشق عابدا لمعشوقه، وكثيرا ما يغلب حبه وذكره، والشوق إليه، والسعي في مرضاته، وإيثار محابّه، على حب الله وذكره، والسعي في مرضاته. بل كثيرا ما
(5/140)
 
 
يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية، ويصير متعلقا بمعشوقة من الصور- كما هو مشاهد- فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عز وجل، يقدم رضاه وحبه على رضا الله وحبه، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله، وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله، ويتجنب سخطه، ما لا يتجنب من سخط الله تعالى، فيصير آثر عنده من ربه، حبا وخضوعا وذلّا وسمعا وطاعة. ولهذا كان العشق والشرك متلازمين، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط، وعن امرأة العزيز، وكانت إذ ذاك مشركة، فكلما قوي شرك العبد، بلي بعشق الصور، وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه. والزاني واللواطة، كمال لذته إنما يكون مع العشق، ولا يخلو صاحبهما منه، وإنما لتنقله من محل إلى محل، لا يبقى عشقه مقصورا على محل واحد، ينقسم على سهام كثيرة، لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبّده فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله، فإنهما من أعظم الخبائث، فإذا انصبغ القلب بهما بعد ممن هو طيّب، لا يصعد إليه إلا طيّب. وكلما ازداد خبثا، ازداد من الله بعدا. ولهذا قال المسيح- فيما رواه الإمام أحمد، في كتاب (الزهد) - لا يكون الباطلون من الحكماء، ولا يلج الزناة ملكوت السماء. ولما كانت هذه حال الزنى، كان قرينا للشرك في كتاب الله تعالى. قال الله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور: 3] .
ثم قال رحمه الله: والمقصود أن الله سبحانه وتعالى سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات، وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة، وإن كان حلالا، وسمى فاعله جنبا، لبعده عن قراءة القرآن، وعن الصلاة، وعن المساجد، فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء. فكذلك إذا كان حراما، يبعد القلب عن الله تعالى، وعن الدار الآخرة، بل يحول بينه وبين الإيمان، حتى يحدث طهرا كاملا بالتوبة، وطهرا لبدنه بالماء. وقول اللوطية: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ من جنس قوله سبحانه في أصحاب الأخدود: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج: 8] ، وقوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ [المائدة: 59] ، وهكذا المشرك، إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد، وأنه لا يشوبه بالإشراك. وهكذا المبتدع إنما ينقم على السنيّ تجريده متابعة الرسول، وأنه لم يشبها بآراء الرجال، ولا بشيء مما خالفها.
(5/141)
 
 
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
فصير الموحد المتبع للرسول على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة، خير له وأنفع، وأسهل عليه من صبره على ما ينقمه الله ورسوله من موافقة أهل الشرك والبدعة:
إذا لم يكن بدّ من الصبر فاصطبر ... على الحق ذاك الصبر تحمد عقباه
- انتهى-.
ولما همّ قوم لوط بإخراجه ونفيه ومن معه من بين أظهرهم، أخرجه الله تعالى سالما، وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين، كما أشار لذلك بقوله سبحانه:
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 83]
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83)
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ أي ومن يختص به من ذويه، أو من المؤمنين لطيبهم. قال ابن كثير: ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط، كما قال تعالى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:
35- 36] ، إِلَّا امْرَأَتَهُ أي فإنا لم ننجها لخبثها. قال ابن كثير: إنها لم تؤمن به، بل كانت على دين قومها، تمالئهم عليه، وتعلمهم بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم. ولهذا، لما أمر لوط عليه السلام ليسري بأهله، أمر أن لا يعلمها ولا يخرجها من البلد. ومنهم من يقول بل اتبعتهم، فلما جاء العذاب التفتت هي فأصابها ما أصابهم. والأظهر أنها لم تخرج من البلد، ولا أعلمها لوط، بل بقيت معهم. ولهذا قال هاهنا إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي من الذين غبروا في ديارهم، أي بقوا فهلكوا. وقيل: من الهالكين. وهو تفسير باللازم، والتذكير للتغليب، ولبيان استحقاقها لما يستحقه المباشرون للفاحشة.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 84]
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا غير متعارف، وهو مبين بقوله تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر: 74] ، أي طين متحجر.
قال المهايمي: ولكفرهم بمطر الشرائع المحيي بإبقاء النسل وغيره، انقلب عليهم في صورة العقاب.
(5/142)
 
 
وقرأت في التوراة المعربة أن الملكين اللذين جاءا لوطا، عليه السلام، يخبرانه ويبشرانه بهلاك قومه، قالا له: أخرج من هذا الموضع، من لك هاهنا من أصهارك وبنيك وبناتك وجميع من لك، فإنّا بعثنا الرّب لنهلك هذه المدينة، ولما كان عند طلوع الفجر ألحّ الملكان على لوط بأخذ امرأته وابنتيه، ثم أمسكا بأيديهم جميعا وصيّراهم خارج المدينة وقالا: لا يلتفت أحد منكم إلى ورائه، وتخلصا إلى الجبل.
ولما أشرقت أمطر الرب من السماء على سدوم وعمورة كبريتا ونارا، وقلب تلك المدن، وكل البقعة، وجميع سكان المدن ونبت الأرض، والتفتت امرأته إلى ورائها صارت نصب ملح، وقدم إبراهيم غدوة من أرضه، فتطلع إلى جهة سدوم وعمورة، فإذا دخان الأرض صاعد كدخان الأتون- انتهى-.
وقرأت في نبوة حزقيال عليه السلام، في الفصل السادس عشر: في بيان إثم سدوم ما نصه:
إن الاستكبار والشبع من الخبز، وطمأنينه الفراغ، كانت في سدوم وتوابعها، ولم تعضد يد البائس والمسكين، وتشامخن وصنعن الرجس أمامي، فنزعتهن كما رأيت- انتهى-.
وقد صار موضع تلك المدن بحر ماء أجاج، لم يزل إلى يومنا هذا، ويعرف بالبحر الميت، أو بحيرة لوط. والأرض التي تليها قاحلة لا تنبت شيئا.
قال في (مرشد الطالبين) بحر لوط، هو بحر سدوم، ويدعى أيضا البحر الميت، وهو بركة مالحة في فلسطين، طولها خمسون ميلا، وعرضها عشرة أميال، وهي أوطأ من بحر الروم بنحو 1250 قدما، وموقعها في الموضع الذي كانت عليه سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم- انتهى-.
وقوله: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي هؤلاء أجرموا بالكفر وعمل الفواحش، كيف أهلكناهم. والنظر تعجيبا من حالهم، وتحذيرا من أعمالهم، فإن من تستولي عليه رذيلة الدعارة، تكبحه عن التوفيق نفسا وجسدا، وتورده موارد الهلكة والبوار، جزاء ما جنى لهم اتباع الأهواء.
 
تنبيه في حد اللوطي:
اعلم أنه وردت السنة بقتل من لاط بذكر، ولو كان بكرا، وكذلك المفعول
(5/143)
 
 
به، إذا كان مختارا،
لحديث ابن عباس، عند أحمد «1» وأبي داود «2» وابن ماجة «3» والترمذي «4» والحاكم والبيهقي، قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به»
. قال ابن حجر: رجاله موثقون، إلا أن فيه اختلافا.
وأخرج ابن ماجة «5» والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعا: اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا- وإسناده ضعيف-.
قال ابن الطلاع في (أحكامه) : لم يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه رجم في اللواط، ولا أنه حكم فيه. وثبت عنه أنه قال: اقتلوا الفاعل والمفعول به- رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة- انتهى.
وأخرج البيهقي عن عليّ أنه رجم لوطيّا.
وأخرج البيهقي أيضا عن أبي بكر، أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما تنكح النساء، فسأل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فكان من أشدهم يومئذ قولا، عليّ بن أبي طالب قال: هذا ذنب لم تعص به أمّة من الأمم إلا أمة واحدة، صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن نحرقه بالنار. فاجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن يحرقه بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار.
وأخرج أبو داود «6» عن سعيد بن جبير ومجاهد، عن ابن عباس: في البكر يؤخذ على اللوطية، يرجم.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس أيضا، أنه سئل عن حد اللوطيّ فقال: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منكسا، ثم يتبع بالحجارة.
وقال المنذري: حرق اللوطية بالنار أبو بكر وعليّ وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك.
__________
(1) أخرجه في المسند 1/ 300 والحديث رقم 2723.
(2) أخرجه أبو داود في: الحدود، 28- باب فيمن عمل عمل قوم لوط، الحديث رقم 4462.
(3) أخرجه ابن ماجة في: الحدود، 12- باب عمل عمل قوم لوط، حديث رقم 2561
(4) أخرجه الترمذي في: الحدود، 24- باب ما جاء في حد اللوطيّ.
(5) الذي وقفت عليه هو
حديث للترمذي أخرجه في: الحدود، 24- باب ما جاء في حدّ اللوطيّ ونصه: عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «اقتلوا الفاعل والمفعول به» وليس فيه «أحصنا أو لم يحصنا»
. [.....] (6) أخرجه أبو داود في: الحدود، 28- باب فيمن عمل عمل قوم لوط، حديث رقم 4463.
(5/144)
 
 
وبالجملة: فلما ثبت أن حده القتل بقي الاجتهاد في هيئته حرقا أو تردية أو غيرهما.
وقال بعض المحققين: إن كان اللواط مما يصح اندراجه تحت عموم أدلة الزنى فهو مخصص بما ورد فيه من القتل لكل فاعل، محصنا أو غيره. وإن كان غير داخل تحت أدلة الزنى، ففي أدلته الخاصة له ما يشفي ويكفي- انتهى-.
وقال الإمام الجشمي اليمني: لو كان في اللواط حد معلوم لما خفي على الصحابة، حتى شاورهم في ذلك أبو بكر رضي الله عنه، لمّا كتب إليه خالد بن الوليد.
وقال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) : لم يثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قضى في اللواط بشيء، لأن هذا لم تكن تعرفه العرب، ولم يرفع إليه صلّى الله عليه وسلّم، ولكن ثبت عنه أنه قال:
اقتلوا الفاعل والمفعول به- رواه أهل السنن الأربعة وإسناده صحيح- وقال الترمذي: حديث حسن، وحكم به أبو بكر الصديق، وكتب به إلى خالد، بعد مشاورة الصحابة، وكان علي كرم الله وجهه أشدهم في ذلك.
وقال ابن القصار وشيخنا: أجمعت الصحابة على قتله، وإنما اختلفوا في كيفية قتله. فقال أبو بكر الصديق: يرمى من شاهق.
وقال عليّ كرم الله وجه: يهدم عليه حائط
. وقال ابن عباس: يقتلان بالحجارة. فهذا اتفاق منهم على قتله، وإن اختلفوا في كيفيته. وهذا موافق لحكمه صلّى الله عليه وسلّم فيمن وطئ ذات محرم، لأن الوطء في الموضعين لا يباح للواطئ بحال. ولهذا جمع بينهما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه
روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه.
وروي أيضا عنه: من وقع على ذات رحم فاقتلوه.
وفي حديثه «1» أيضا بالإسناد: من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه.
وهذا الحكم على وفق حكم الشارع، فإن المحرمات كلما تغلظت، تغلظت عقوبتها. ووطء من لا يباح بحال أعظم جرما من وطء من يباح في بعض الأحوال، فيكون حده أغلظ. وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه، أن حكم من أتى بهيمة حكم اللواط سواء، فيقتل بكل حال، أو يكون حدّه حدّ الزاني. واختلف السلف في ذلك، فقال الحسن: حدّه حد الزاني. وقال أبو سلمة: يقتل بكل حال. وقال الشعبي والنخعي: يعزّر، وبه أخذ الشافعي
__________
(1) أخرجه الترمذي في: الحدود، 23- باب ما جاء فيمن يقع على بهيمة.
(5/145)
 
 
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
ومالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية، فإن ابن عباس أفتى بذلك، وهو راوي الحديث.
انتهى.
وقد طعن الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث (الهداية) في دعوى إجماع الصحابة على قتل اللوطيّ في رواية البيهقي: أن أبا بكر جمع الصحابة فسألهم، فكان أشدهم في ذلك قولا عليّ، فقال: نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع رأيهم على ذلك. قال ابن حجر: قلت: وهو ضعيف جدّا. ولو صح لكان قاطعا للحجة. انتهى.
وجليّ أن عقوبات القتل أعظم الحدود، فلا يؤخذ فيها إلا بالقواطع من كتاب أو سنة متواترة أو إجماع أو حديث صحيح السند والمتن، قطعيّ الدلالة. ولذا كان على الحاكم بذل جهده في ذلك استبراء لدينه- والله أعلم-.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 85]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً أي وأرسلنا إليهم. قال ابن إسحاق، هم من سلالة مدين بن إبراهيم. وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين.
قال ابن كثير: مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة التي بقرب معان من طريق الحجاز وهم أصحاب الأيكة.
قالَ يا قَوْمِ أي: الذين أحب كمالهم دينا ودنيا اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وهذه دعوة الرسل كلهم كما قدمنا قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي ما تبيّن به الحق من الباطل. يعني دعوته وإرشاده. ومن هنا قال بعضهم: عني بالبينة مجيء شعيب، وأنه لم تكن له آية إلا النبوة. ومن فسر البينة بالحجة والبرهان والمعجزة المحسوسة ذهابا إلى أن النبيّ لما كان يدعو إلى شرع يوجب قبوله، فلا بد من دليل يعلم صدقه به، وما ذاك إلا المعجزة- قال: إن معجزة شعيب لم تذكر في القرآن، وليست كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن. ولا يخفى أن البينة أعم من المعجزة بعرفهم، فكل من أبطلت شبهة ضلاله، وأظهرت له حجة الحق الذي يدعى إليه فقد جاءته البينة. لأن حقيقة البينة كل ما يبين الحق. فاحفظه.
(5/146)
 
 
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
قال الجشمي: واختلفوا، فقيل: لا يجوز أن يبعث إلا ومعه شرع- عن أبي هاشم-. وقيل: يجوز أن يدعو إلى ما في العقل- عن أبي علي- انتهى.
وقد دلت الآيات هذه على أن شعيبا، عليه السلام، دعاهم إلى التوحيد والشرائع، على ما جرت به عادة الرسل، فمنها قوله: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ أي فأتّموهما للناس بإعطائهم حقوقهم وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي: لا تنقصوهم حقوقهم فلا تخونوا الناس في أموالهم، وتأخذوها على وجه البخس، وهو نقص المكيال والميزان خفية وتدليسا كما قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ... إلى قوله:
لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: 1- 6] .
يقال: بخسه حقه أي نقصه إياه، وظلمه فيه.
قال الزمخشري: كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم، أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوة. قال زهير:
أفي كلّ أسواق العراق إتاوة ... وفي كلّ ما باع امرؤ مكس درهم
قال القاضي: وإنما قال أَشْياءَهُمْ للتعميم، تنبيها على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير- انتهى-.
والنهي عن النقص يوجب الأمر بالإيفاء. فقيل في فائدة التصريح بالمنهي عنه، بيان لقبحه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله تعالى: وَلا تَبْخَسُوا ... الآية- قال: أي لا تسمّوا لهم شيئا، وتعطوا لهم غير ذلك. ودلت الآية على أن إيفاء الكيل والميزان واجب على حسب ما يعتاد في صفة الكيل والوزن وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي: بالكفر والظلم: بَعْدَ إِصْلاحِها أي: بعد ما أصلح أمرها وأهلها الأنبياء وأتباعهم الصالحون العاملون بشرائعهم من وضع الكيل والوزن والحدود والأحكام ذلِكُمْ إشارة إلى العمل بما أمروا به ونهوا عنه خَيْرٌ لَكُمْ في الحال لتوجه الناس إليكم بسبب حسن الأحدوثة، وفي المآل إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: مصدقين قولي.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 86]
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ نهي عن قطع الطريق الحسي. أي: لا
(5/147)
 
 
وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)
تجلسوا على كل طريق فيه ممر الناس الغرباء، تضربونهم وتخوفونهم، وتأخذون ثيابهم، وتتوعدونهم بالقتل، إن لم يعطوكم أموالهم.
قال مجاهد: كانوا عشارين- أخرجه أبو الشيخ: وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ مثله. وعن ابن عباس وغير واحد أي تتوعدون المؤمنين الآتين إلى شعيب ليتبعوه قال ابن كثير: والأول أظهر، لأنه قال بِكُلِّ صِراطٍ وهو الطريق. وهذا الثاني هو قوله وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً أي: تصرفون عن دين الله وطاعته من آمن بشعيب، وتطلبون لها عوجا بإلقاء الشبه، ووصفها بما ينقّصها لتغييرها وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ بالعدد والعدد، فاشكروا نعمة الله عليكم في ذلك وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي: من الأمم الخالية، والقرون الماضية، وما حلّ بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 87]
وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)
وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا يعني وإن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مؤمنة وكافرة فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا أي: بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين، فهو وعد للمؤمنين، ووعيد للكافرين.
قال الشهاب: وخطاب (اصبروا) للمؤمنين، ويجوز أن يكون للفريقين، أي ليصبر المؤمنون على أذى الكفار، والكفار على ما يسوؤهم من إيمانهم. أو للكافرين. أي تربصوا لتروا حكم الله بيننا وبينكم وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لأنه منزّه عن الجور في حكمه، فسيجعل العاقبة للمتقين، والدمار على الكافرين.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 88]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88)
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي عن الإيمان لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ
(5/148)
 
 
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَ
أي إلى ترك دعوى الرسالة، والإقرار بها، داخلين فِي مِلَّتِنا أي ملة المشركين.
قال الجشمي: الملة الديانة التي يجمع على العمل بها فرقة عظيمة. والأصل فيه تكرر الأمر، من قولهم: طريق ممل ومليل، إذا تكرر سلوكه حتى صار معلما.
ومنه الملل: تكرار الشيء على النفس حتى تضجر منه- انتهى.
قالَ أي شعيب أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ أي: أتجبروننا على ذلك، وإن كنا كارهين له؟ مع أنه لا فائدة في الإكراه، لأن دينكم إن كان حقّا، لم نكن بالإكراه منقادين له، وإن كان باطلا، لم نكن بالإكراه متصفين به، لأنه بالحقيقة صفة القلب، ولا يسري إكراهكم إليه. وكيف لا نكرهه وهو يستلزم غاية القبح والظلم.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 89]
قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)
قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي اختلفنا عليه باطلا بأن له شريكا إِنْ عُدْنا إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها، لندخل فِي مِلَّتِكُمْ القائلة بأن له شريكا بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها فأرانا أنه كالإنجاء من النار وَما يَكُونُ أي ينبغي لَنا أَنْ نَعُودَ أي عن دعوى الرسالة والإقرار بها فنصير فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا أي الذي يربّينا بما علم من استعدادنا، لأنه وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي فعلم استعداد كل واحد في كل وقت، لكن عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا أي ليحفظنا عن المصير إليها رَبُّنا إن قصدوا إكراهنا عليها أو إخراجنا من قريتهم افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ فغلبنا عليهم وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ أي خير الحاكمين، فلا تغلّب الظالمين وإن كثروا، على المظلومين إذا استفتحوك.
 
تنبيهات:
الأول- اعلم أن ظاهر قوله تعالى أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا وقوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها يدل على أن شعيبا عليه السلام كان على ملتهم قبل بعثته. ومعلوم عصمة الأنبياء عن الكبائر، فضلا عن الشرك.
(5/149)
 
 
وفي (المواقف وشرحها) : أن الأمة أجمعت على عصمة الأنبياء من الكفر قبل النبوة وبعدها، غير أن الأزارقة من الخوارج جوّزوا عليهم الذنب، وكل ذنب عندهم كفر، فلزمهم تجويز الكفر. وجوّز الشيعة إظهار الكفر تقية عند خوف الهلاك، واحترازا عن إلقاء النفس في التهلكة. ومثله في (شرح التجريد) .
ولما تقرر إجماع الأمة على ما ذكر، كان للعلماء في هذه الآية وجوه:
منها: أن العود المقابل للخروج، هو العود إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها.
والجار والمجرور حال. أي ليكن منكم الخروج من قريتنا، أو العود إلى ترك دعوى الرسالة والإقرار بها، داخلين في ملتنا. وهذا الوجه اقتصر عليه المهايمي، وسايرناه فيه مع تفسير تتمة الآية.
ومنها: أن العود المذكور إلى ما خرج منه، وهو القرية. والمجرور حال كالسابق. أي ليكن منكم الخروج من قريتنا، أو العود إليها، كائنين في ملتنا. وعدّي (عاد) ب (في) كأن الملة لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم.
ومنها: أن هذا القول جار على ظنهم أنه كان في ملتهم، لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم ومنها: أنه صدر عن رؤسائهم تلبيسا على الناس، وإيهاما لأنه كان على دينهم. وما صدر عن شعيب عليه السلام كان على طريق المشاكلة.
ومنها: أن لَتَعُودُنَّ بمعنى لتصيرن. إذ كثيرا ما يرد (عاد) بمعنى (صار) ، فيعمل عمل (كان) . ولا يستدعي الرجوع إلى حالة سابقة، بل عكس ذلك، وهو الانتقال من حال سابقة، إلى حال مؤتنفة مثل (صار) . وكأنهم قالوا- والله أعلم- لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا، أو لتصيرن كفارا مثلنا.
قال الرازي: تقول العرب. قد عاد إليّ من فلان مكروه، يريدون: قد صار إليّ منه المكروه ابتداء. قال الشاعر:
فإن تكن الأيام أحسن مدة ... إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
أراد: فقد صارت لهن ذنوب، ولم يرد أن ذنوبا كانت لهن قبل الإحسان- انتهى-.
ومنه
حديث معاذ. قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: (أعدت فتّانا يا معاذ؟) أي صرت.
ومنه
حديث خزيمة: عاد لها النّقاد مجرنثما. أي صار
.
(5/150)
 
 
وفي حديث كعب: وددت أن هذا اللبن يعود قطرانا، أي يصير. فقيل له: لم ذلك؟ قال: تتّبعت قريش أذناب الإبل، وتركوا الجماعات.
قال الشهاب: إلا أنه قيل إنه لا يلائم قوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها إلا أن يقال بالتغليب فيه، أو يقال: التنجية لا يلزم أن تكون بعد الوقوع في المكروه. ألا ترى إلى قوله فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ [الأعراف: 83] و [النمل: 57] وأمثاله؟
ومنها: أن العود يطلق، ويراد به الابتداء. حققه الراغب والجار بردي وغير واحد.
وأنشدوا قول الشاعر:
وعاد الرأس منّي كالثّغام
ومعنى الآية: لتدخلنّ في ملتنا، وقوله تعالى: إِنْ عُدْنا أي دخلنا- كذا في تاج العروس-.
ومنها: إبقاء صيغة العود على ظاهرها، من استدعائها رجوع العائد، إلى حال كان عليها قبل. كما يقال: عاد له، بعد ما كان أعرض عنه، إلا أن الكلام من باب التغليب. قال الزمخشري: لما قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ فعطفوا على ضميره، الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم- قالوا لَتَعُودُنَّ فغلبوا الجماعة على الواحد. فجعلوهم عائدين جميعا، إجراء للكلام على حكم التغليب. وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه فقال: إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وهو يريد عود قومه، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم، وإن كان بريئا من ذلك، إجراء لكلامه على حكم التغليب- انتهى.
ومنها: ما قاله الناصر في (الانتصاف) : إنه يسلم استعمال (العود) بمعنى (الرجوع إلى أمر سابق) ، ويجاب عن ذلك بمثل الجواب عن قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [الظلمات: 257] والإخراج يستدعي دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه، ونحن نعلم أن المؤمن الناشئ في الإيمان لم يدخل قط في ظلمة الكفر، ولا كان فيها. وكذلك الكافر الأصلي لم يدخل قط في نور الإيمان، ولا كان فيه. ولكن لما كان الإيمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله العبد متيسرا لكل واحد منهما متمكنا منه لو أراده، فعبر عن تمكن المؤمن من الكفر،
(5/151)
 
 
ثم عدوله عنه إلى الإيمان، إخبارا بالإخراج من الظلمات إلى النور، توفيقا من الله له، ولطفا به، بل وبالعكس في حق الكافر. وقد مضى نظير هذا النظر عند قوله تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة: 16] وهو من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب: وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والاختيار، لإقامة حجة الله على عباده- والله أعلم- انتهى.
الثاني: في قوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا ردّ إلى الله تعالى مستقيم.
قال الواحدي والذي عليه أهل العلم والسنة في هذه الآية، أن شعيبا وأصحابه قالوا: ما كنا لنرجع إلى ملتكم، بعد أن وقفنا على أنها ضلالة تكسب دخول النار، إلا أن يريد إهلاكنا. فأمورنا راجعة إلى الله، غير خارجة عن قبضته، يسعد من يشاء بالطاعة، ويشقي من يشاء بالمعصية. وهذا من شعيب وقومه استسلام لمشيئة الله.
ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة، وانقلاب الأمر. ألا ترى إلى قول الخليل عليه الصلاة والسلام: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إبراهيم: 35] ؟ وكان نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما
يقول «1» : «يا مقلّب القلوب! ثبّت قلبي على دينك» .
وقال الزجاج: المعنى: وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها. وتصديق ذلك قوله وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً، يعني أنه تعالى يعلم ما يكون، من قبل أن يكون، وما سيكون. وأنه تعالى كان عالما في الأزل بجميع الأشياء. فالسعيد من سعد في علم الله تعالى. والشقي من شقي في علم الله تعالى.
وقال الناصر في (الانتصاف) : موقع قوله وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة، والاطلاع على الأمور الغائبة. فإن العود إلى الكفر جائز في قدرة الله أن يقع من العبد. ولو وقع. فبقدرة الله ومشيئته المغيّبة عن خلقه. فالحذر قائم، والخوف لازم. ونظيره قول إبراهيم عليه السلام وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً، أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام: 80] لما ردّ الأمر إلى المشيئة، وهي مغيّبة، مجّد الله تعالى بالانفراد بعلم الغائبات- والله أعلم.
وقال أبو السعود: معنى وَما يَكُونُ لَنا ... الآية- أي ما يصح لنا أن نعود فيها في حال من الأحوال، أو في وقت من الأوقات، إلا أن يشاء الله. أي إلا حال
__________
(1) أخرجه الترمذي في: القدر، 7- باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن.
(5/152)
 
 
مشيئة الله تعالى، أو وقت مشيئته تعالى. لعودنا فيها. وذلك مما لا يكاد يكون، كما ينبئ عنه قوله تعالى: رَبُّنا ... فإن التعرض لعنوان ربوبيته تعالى لهم، مما ينبئ عن استحالة مشيئته تعالى لارتدادهم قطعا، وكذا قوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها فإن تنجيته تعالى لهم منها، من دلائل عدم مشيئته لعودهم فيها. وقيل معناه: إلا أن يشاء الله خذلاننا. فيه دليل على أن الكفر بمشيئته تعالى. وأيّا ما كان، فليس المراد بذلك بيان أن العود فيها في حيّز الإمكان، وخطر الوقوع، بناء على كون مشيئته تعالى كذلك، بل بيان استحالة وقوعها. كأنه قيل: وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا، وهيهات ذلك. بدليل ما ذكر من موجبات عدم مشيئته تعالى له- انتهى-.
ولا يخفى أن إفهام ذلك الاستحالة، هو باعتبار الواقع، وما يقتضيه منصب النبوة. وأما إذا لوحظ مقام الخوف والخشية، الذي هو من أعلى مقامات الخواصّ، فيكون ما ذكرناه أولا أدقّ، وبالقبول أحق.
قال الإمام ابن القيم في (طريق الهجرتين) : قد أثنى الله سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه، فقال عن أنبيائه، بعد أن أثنى عليهم ومدحهم إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء: 90] فالرغب الرجاء، والرهب الخوف والخشية. وقال عن ملائكته الذين قد آمنهم من عذابه يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النحل: 50]
وفي الصحيح «1» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنّي أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية» .
وفي لفظ آخر: إنّي أخوفكم لله وأعلمكم بما أتقي
. وكان صلّى الله عليه وسلّم «2» يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وقد قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] ، فكلما كان العبد بالله أعلم، كان له أخوف.
الثالث: قال الفرّاء: أهل عمان يسمون (القاضي) الفاتح والفتاح. لأنه يفتح مواضع الحق، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما كنت أدري ما قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي أحاكمك.
وقال الشهاب: الفتح، بمعنى الحكم، وهي لغة لحمير، أو لمراد، والفتاحة
__________
(1) أخرجه البخاري في: الأدب، 72- باب من لم يواجه الناس بالعتاب، حديث 2343.
(2) أخرجه النسائي في: السهو، 18- باب البكاء في الصلاة.
(5/153)
 
 
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
(بالضم) عندهم الحكومة. أو هو مجاز بمعنى: أظهر وبيّن أمرنا، حتى ينكشف ما بيننا وبينهم، ويتميز المحق من المبطل. ومنه فتح المشكل لبيانه وحلّه، تشبيها له بفتح الباب وإزالة الأغلاق، حتى يوصل إلى ما خلفها.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 90]
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90)
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً أي فيما يأمركم به وينهاكم عنه إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أي لجاهلون مغبونون، لاستبدالكم ضلالته بهداكم، أو لفوات ما يحصل لكم من بخس الكيل والميزان.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 91]
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة الشديدة.
قال ابن كثير: أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة، كما أرجفوا شعيبا وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء، كما أخبر عنهم في سورة هود، فقال: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هود: 94] ، والمناسبة هناك- والله أعلم- أنهم لما تهكموا به في قولهم أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ ... [هود: 87]- الآية فجاءت الصيحة فأسكتتهم. وقال تعالى في الشعراء فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء: 189] ، وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ ...
[الشعراء: 187] ، الآية فأخبر أنه أصابهم عذاب يوم الظلة. وقد اجتمع عليهم ذلك كله. أصابهم عذاب يوم الظلة، وهي سحابة أظلتهم، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم. ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم، فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي مدينتهم جاثِمِينَ أي ساقطين ميتين، لا ينتفعون برءوس أموالهم ولا بزوائدها.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 92]
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92)
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم:
(5/154)
 
 
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا وعقوبتهم بمقابلته.
والموصول مبتدأ، وخبره جملة كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي استؤصلوا بالمرة، وصاروا كأنهم، لما أصابتهم النقمة، لم يقيموا بديارهم، التي أرادوا إجلاء الرسول وصحبه منها.
ثم قال تعالى مقابلا لقيلهم السابق: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ دينا ودنيا، لا الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا.
قال ابن السعود: استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير. وإعادة الموصول والصلة كما هي، لزيادة التقرير، والإيذان بأن ما ذكر في حيّز الصلة، هو الذي استوجب العقوبتين. أي الذين كذبوه عليه السلام، عوقبوا بمقالتهم الأخيرة، فصاروا هم الخاسرين، لا المتبعون له، وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بإنجائه عليه الصلاة والسلام، كما وقع في سورة هود من قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ.
وقال الزمخشري: في هذا الاستئناف والابتداء، وهذا التكرير، مبالغة في ردّ مقالة الملأ لأشياعهم، وتسفيه لرأيهم، واستهزاء بنصحهم لقومهم، واستعظام لما جرى عليهم.
وفي (العناية) : أن من عادة العرب الاستئناف من غير عطف، في الذّم والتوبيخ. فيقولون: أخوك الذي نهب مالنا، أخوك الذي هتك سترنا. - انتهى-.
وقوله تعالى:
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 93]
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي: أعرض عن شفاعتهم والحزن عليهم وَقالَ أي: في الاعتذار يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي أي بالأمر والنهي وَنَصَحْتُ لَكُمْ أي:
حذرتكم من عذاب الله، ودعوتكم إلى التوبة والإيمان بما يفيد ربح الدارين، ويمنعكم خسرانهما، لكنكم كفرتم فَكَيْفَ آسى أي: أحزن حزنا شديدا عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ أي بالله إن هلكوا، فضلا عن أن أشتغل بشفاعتهم. يعني أنه لا يأسى عليهم، لأنهم ليسوا أحقاء بالأسى.
(5/155)
 
 
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
تنبيه:
قال الجشمي: من أحكام الآية أنها تدل على أن قوم شعيب أهلكوا بعذاب الاستئصال لما لم يقبلوا نصيحة نبيّهم. فتدل على وجوب قبول النصيحة في الدين.
وتدل على أنه لا يجوز الحزن على هلاك الكفرة والظّلمة. بل يجب أن يحمد الله ويشكر. كما قال تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام: 45] .
 
لطيفة:
ذكروا أن شعيبا، عليه السلام، يقال له خطيب الأنبياء لفصاحة عبارته، وجزالة موعظته وأصله ما
أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ذكر شعيبا يقول: ذاك خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه.
والمراجعة (مفاعلة) من الرجوع، وهي مجاز عن المحاورة. يقال: راجعه القول. وإنما عنى النبي صلّى الله عليه وسلّم ما ذكر في هذه السورة، كما يعلم بالتأمل فيه. كذا في (العناية) .
ثم أشار تعالى إلى أحوال سائر الأمم مع أنبيائهم إجمالا، إثر بيان الأمم المذكورة تفصيلا فقال سبحانه:
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 94]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ أي كذبه أهلها إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها أي قبل الإهلاك الكليّ بِالْبَأْساءِ أي شدة الفقر وَالضَّرَّاءِ أي المرض، لاستكبارهم عن اتباع نبيهم، وتعززهم عليه لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ليتضرعوا ويتذللوا، ويحطّوا أردية الكبر والعزة، فيؤمنوا.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 95]
ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)
ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أي أعطيناهم- بدل ما كانوا فيه من البلاء،
(5/156)
 
 
كالشدة والمرض- السعة والصحة حَتَّى عَفَوْا أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم. من قولهم: عفا النبات، وعفا الشحم والوبر، إذا كثرت. ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلّم «1»
(وأعفوا اللحى)
وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ يعني وأبطرتهم النعمة وأشروا، فقالوا كفرانا لها: هذه عادة الدهر. يعاقب في الناس بين الضراء والسراء، وقد مس آباءنا نحو ذلك فصبروا على دينهم، فنحن مثلهم، نقتدي بهم، وما هو بابتلاء من الله لعباده، تصديقا لوعد الرسل، فازدادوا كفرا بعد الإعلام القوليّ والفعليّ.
والمعنى: أن الله تعالى ابتلاهم بالسيئة لينيبوا إليه، فما فعلوا. ثم بالحسنة ليشكروا، فما فعلوا. وإذا لم ينجع فيهم هذا ولا ذاك، فلم يبق إلا أن يأخذهم بالعذاب، وقد فعل. كما قال سبحانه فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي فأخذناهم أشد الأخذ وأفظعه، وهو أخذهم فجأة، من غير شعور منهم، ولا خطور شيء من المكاره ببالهم، كقوله تعالى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا ... [الأنعام: 44] الآية-
وفي الحديث «2»
«موت الفجأة راحة للمؤمن وأخذة أسف للفاجر» رواه الإمام أحمد والبيهقي عن عائشة. مرفوعا.
 
تنبيه:
اعتقاد أن مناوبة الضراء والسراء عادة الدهر، من غير أن يكون هناك داعية تؤدي إليها، ولا حكمة فيهما، هو من اعتقاد الكافرين.
قال ابن كثير: المؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من الضراء والسراء، فيشكر الله على السراء، ويصبر على الضراء. ولهذا جاء
في الحديث: «لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيّا من ذنوبه. والمنافق مثله كمثل الحمار لا يدري فيم ربطه أهله، ولا فيما أرسلوه»
- أو كما قال-.
وفي الصحيحين «3» : «عجبا لأمر المؤمن. إن أمره كله خير. وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراء يشكر، فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» .
__________
(1) أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث رقم 52.
والبخاري في: اللباس، 65- باب إعفاء اللحى، حديث رمق 2292.
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند ص 136 ج 6.
(3) أخرجه مسلم في: الزهد والرقائق، حديث 64.
ولم يخرجه البخاري.
(5/157)
 
 
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأعراف (7) : آية 96]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى أي القرى المهلكة آمَنُوا أي بالله ورسلهم وَاتَّقَوْا أي الكفر والمعاصي لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي لوسعنا عليهم الخير، ويسرناه لهم من كل جانب، مكان ما أصابهم من فنون العقوبات، التي بعضها من السماء، وبعضها من الأرض. ف (فتحنا) استعارة تبعية، لأنه شبه تيسير البركات عليهم بفتح الأبواب في سهولة التناول. أو مجاز مرسل في لازمه، وهو التيسير. أو أريد ب (بركات السماء) المطر و (بركات الأرض) النبات والثمار وَلكِنْ كَذَّبُوا أي الرسل فَأَخَذْناهُمْ أي عاقبناهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكف