تفسير القاسمي محاسن التأويل 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: محاسن التأويل
المؤلف: محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي (المتوفى: 1332هـ)
 
قال الأصبهانيّ: ويدل على صحة هذا التأويل قراءة أبيّ بن كعب رضي الله عنه (إلا ليؤمننّ به قبل موتهم) بضم النون وإلحاق ميم الجمع.
والأسانيد إلى ابن عباس في هذا التأويل كلهم صحيحة. كما قاله ابن كثير.
وثمة وجه آخر وهو أن الضمير الأول للنبيّ صلى الله عليه وسلم. والثاني للكتابيّ. رواه ابن جرير «1» : عن عكرمة قال: لا يموت النصرانيّ ولا اليهوديّ حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وتلا الآية. قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول. وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب، بعد نزول عيسى عليه السلام، إلا آمن به قبل موته أي: قبل موت عيسى عليه السلام.
قال ابن كثير: ولا شك أن الذي قاله ابن جرير هو الصحيح. لأنه المقصود من سياق الآي، في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك. فأخبر الله تعالى أنه لم يكن الأمر كذلك. وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه. وهم لا يتبيّنون ذلك. ثم إنه رفعه إليه. وإنه باق حيّ. وإنه سينزل قبل يوم القيامة. كما دلت عليه الأحاديث المتواترة. فيقتل مسح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية (يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف) .
فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ. ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم.
ثم قال: فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى: أن كل كتابيّ لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما السلام- فهذا هو الواقع. وذلك أن كل أحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلا به فيؤمن به. ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له، إذا كان قد شاهد الملك. كما قال تعالى: في أول هذه السورة: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ... [النساء: 18] . وقال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ... الآية وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ أي:
عيسى عليه السلام عَلَيْهِمْ أي: على أهل الكتاب شَهِيداً أي بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء.
وبعد نزوله إلى الأرض. قال قتادة: يشهد عليهم أنه قد بلّغهم الرسالة من الله، وأقرّ بعبوديته لله عز وجل. وهكذا كقوله تعالى:
__________
(1) الأثر رقم 10813 من التفسير.
(3/444)
 
 
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ... إلى قوله الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 116] .
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (4) : آية 160]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160)
فَبِظُلْمٍ أي: بسبب ظلم عظيم فالتنوين للتفخيم. وهو جامع لتفصيل نقض الميثاق وما عطف عليه مما استحلوه، بعد أن حرمته التوراة مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي تلبسوا باليهودية. وفيه تعظيم ظلمهم أيضا. إذ صدر عنهم بعد ما ادعوا أنهم من أهل التوراة والرجوع إلى الحق حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ قال ابن كثير: هذا التحريم قد يكون قدريّا. بمعنى أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم وحرفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم. فحرموها على أنفسهم تضييقا وتنطعا. ويحتمل أن يكون شرعيّا. بمعنى أنه تعالى حرّم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالا لهم قبل ذلك. كما قال تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ [آل عمران: 93] . أي: ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، من لحوم الإبل وألبانها. ثم إنه تعالى حرّم أشياء كثيرة في التوراة. كما قال في سورة الأنعام: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ [الأنعام: 146] . أي: إنما حرمنا عليهم ذلك، لطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه.
ولما ذكر ظلمهم ذكر مجامع من جزئياته بقوله تعالى وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: الذي لا أوضح منه ولا أسهل ولا أعظم كَثِيراً أي: ناسا كثيرا. أو صدّا كثيرا. فهم صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق. وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه. ولهذا كانوا أعداء الرسل وقتلوا خلقا من الأنبياء.
وكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (4) : آية 161]
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ أي: في التوراة وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ
(3/445)
 
 
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ أي: من اليهود المصرّين على الكفر. لا لمن تاب وآمن من بينهم عَذاباً أَلِيماً وجيعا يخلص إلى قلوبهم.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (4) : آية 162]
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ أي: الثابتون في العلم المستبصرون فيه.
كعبد الله بن سلام.
قال الرازيّ: الراسخون في العلم: الثابتون فيه. وهم في الحقيقة المستدلون.
لأن المقلد يكون بحيث إذا شكّك يشكّ. وأما المستدل فإنه لا يتشكك، البتة.
فالراسخون هم المستدلون وَالْمُؤْمِنُونَ أي: من الأميين اللاحقين بهم في الرسوخ، بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ على سائر الأنبياء لاطلاعهم على كمالات المنزل عليك وأنه صدق ما أنزل من قبلك.
فلا بد من الإيمان به أيضا وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ قال ابن كثير: هكذا هو في مصاحف الأئمة. وكذا هو في مصحف أبيّ بن كعب.
قال الزمخشريّ: ارتفاع (الراسخون) على الابتداء. و (يؤمنون) خبره و (المقيمين) نصب على المدح. لبيان فضل الصلاة. وهو باب واسع قد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف. وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب، ولم يعرف مذاهب العرب، وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان. وغبي عليه أن السابقين الأولين، الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل، كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام، وذب المطاعن عنه، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم. وخرقا يرفوه من يلحق بهم.
وقيل: هو عطف على (بما أنزل إليك) أي يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء. وفي مصحف عبد الله (والمقيمون) بالواو. وهي قراءة مالك بن دينار والجحدريّ وعيسى الثقفيّ. انتهى.
وجوز عطف (المقيمين) على الضمير في (منهم) وعطفه على الضمير في
(3/446)
 
 
(إليك) . والكتاب أنزل للنبيّ ولأتباعه. قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [يونس: 57] كذا في حواشي الشذور. وقد أشار الزمخشريّ بقوله (كانوا أبعد همة) إلى ردّ ما نقل، أن عثمان رضي الله عنه، لما فرغ من المصحف أتى به إليه. فقال: قد أحسنتم وأجملتم. أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها. ولو كان المملي من هذيل والكاتب من قريش، لم يوجد فيه هذا.
قال الحافظ السخاويّ: هذا الأثر ضعيف. والإسناد فيه اضطراب وانقطاع. لأن عثمان رضي الله عنه جعل للناس إماما يقتدون به. فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها؟ وقد كتب مصاحف سبعة وليس فيها اختلاف قط، إلا فيما هو من وجوه القراءات. وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع، كيف يقيمه غيرهم؟
وتأول قوم اللحن في كلامه (على تقدير صحته عنه) بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله:
منطق رائع وتلحن أحيا ... نا. وخير الكلام ما كان لحنا
أي: المراد به الرمز. بحذف بعض الحروف خطّا. كألف (الصّابرين) مما يعرفه القراء إذا رأوه. وكذا زيادة بعض الحروف. كذا في (عناية الراضي) وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ رفعه بالعطف على الرَّاسِخُونَ أو على الضمير في يُؤْمِنُونَ أو على أنه مبتدأ، والخبر أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ. والوجوه المذكورة تجري في الْمُقِيمِينَ على قراءة الرفع وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني: والمصدقون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت وبالثواب والعقاب. وإنما قدم الإيمان بالأنبياء والكتب وما يصدقه من اتباع الشرائع، لأنه المقصود في هذا المقام. لأنه لبيان حال أهل الكتاب وإرشادهم. وهم كانوا يؤمنون ببعض ذلك ويتركون بعضه. فبيّن لهم ما يلزمهم ويجب عليهم أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً يعني الجنة. لجمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح.
 
لطيفة:
في الآية وجوه من الإعراب. أحسنها ما اعتمده أبو السعود، من أن جملة أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ إلخ خبر للمبتدأ الذي هو الرَّاسِخُونَ وما عطف عليه. وأن جملة يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلخ حال من الْمُؤْمِنُونَ مبينة لكيفية إيمانهم. أو اعتراض مؤكد لما قبله. قال: وهذا أنسب بتجاوب طرفي الاستدراك حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم ووعد الآخرون بالأجر العظيم. كأنه قيل إثر قوله تعالى
(3/447)
 
 
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً لكن المؤمنون منهم سنؤتيهم أجرا عظيما.
وأما ما جنح إليه الجمهور من جعل قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلخ خبرا للمبتدأ، ففي كمال السداد، خلا أنه غير متعرض لتقابل الطرفين.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (4) : آية 163]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163)
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ اعلم أنه تعالى لما حكى أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وذكر تعالى بعده أنهم لا يسألون استرشادا، ولكن للتعنت واللجاج، وبيّن أنواعا من فضائحهم- أشار إلى رد شبهتهم. فاحتج عليهم بأنه ليس بدعا من الرسل. وأمره في الوحي كسائر الأنبياء الذين يوافقون على نبوتهم. ولم ينزل على كل واحد منهم كتاب بتمامه مثل ما أنزل على موسى. وإذ لم يكن هذا من شرط النبوة، وضح أن سؤالهم محض تعنت.
 
تنبيه:
قيل: بدأ بنوح لأنه أول نبيّ شرع الله تعالى على لسانه الأحكام، والحلال والحرام. وفي (العناية) بدأ به تهديدا لهم. لأنه أول نبيّ عوقب قومه. لا أنه أول مشرع، كما توهم. وظاهر الآية يدل على أن من قبل نوح لم يكن يوحى له كما أوحي لنبينا صلى الله عليه وسلم. لا أنه غير موحى إليه أصلا، كما قيل. انتهى. وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم أولاد يعقوب عليهم السلام وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (4) : آية 164]
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي: في السور المكية وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ أي: لم نسمهم لك في القرآن. وقد أحصى بعض المدققين أنبياء
(3/448)
 
 
اليهود والنصارى ورسلهم فوجد عددهم لا يتجاوز الخمسين. روى في عدتهم أحاديث تكلّم في أسانيدها. منها
حديث أبي ذر: إن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. والرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر
. صححه ابن حبان. وخالفه ابن الجوزيّ فذكره في (موضوعاته) واتهم به إبراهيم بن هاشم. وقد تكلم فيه غير واحد وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً يعني خاطبه مخاطبة من غير واسطة. لأن تأكيد (كلّم) بالمصدر يدلّ على تحقيق الكلام. وأن موسى عليه السلام سمع كلام الله بلا شك.
لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر. فلا يقال: أراد الحائط يسقط إرادة. وهذا رد على من يقول: إن الله خلق كلاما في محلّ. فسمع موسى ذلك الكلام. قال الفراء:
العرب تسمي كل ما يوصل إلى الإنسان كلاما، بأي طريق وصل. لكن لا تحققه بالمصدر. وإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام. فدل قوله تعالى تَكْلِيماً على أن موسى قد سمع كلام الله حقيقة من غير واسطة. قال بعضهم: كما أن الله تعالى خص موسى عليه السلام بالتكليم وشرفه به ولم يكن ذلك قادحا في نبوة غيره من الأنبياء، فكذلك إنزال التوراة عليه جملة واحدة لم يكن قادحا في نبوة من أنزل عليه كتابه منجما من الأنبياء. كذا في (اللباب) .
 
تنبيه:
يحسن في هذا المقام إيراد عقيدة السلف الكرام في مسألة الكلام. فإنها من أعظم مسائل الدين. وقد تحيرت فيها آراء أهل الأهواء من المتقدمين والمتأخرين.
واضطربت فيها الأقوال. وكثرت بسببها الأهوال. وأثارت فتنا وجلبت محنا. وكم سجنت إماما. وبكت أقواما. وتشعبت فيها المذاهب. واختلفت فيها المشارب.
ولم يثبت إلا قول أهل السنة والجماعة. المقتفين لأثر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم. فنقول: قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية عليه رحمة الرحيم السلام، في كتابه إلى جماعة العارف عدي بن مسافر ما نصه:
 
فصل
ومن ذلك الاقتصاد في السنة واتباعها كما جاءت بلا زيادة ولا نقصان. مثل الكلام في القرآن وسائر الصفات، فإن مذهب سلف الأمة وأهل السنة: أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود. هكذا قال غير واحد من السلف. روي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار وكان من التابعين الأعيان قال: ما زلت أسمع
(3/449)
 
 
الناس يقولون ذلك. القرآن الذي أنزله الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم. وهو كلام الله لا كلام غيره. وإن تلاه العباد وبلّغوه بحركاتهم وأصواتهم. فإن الكلام لمن قاله مبتدئا، لا لمن قاله مبلغا مؤديا. قال الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة: 6] . وهذا القرآن في المصاحف كما قال تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 21- 22] . وقال تعالى: يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة: 2- 3] . وقال: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:
77- 78] . والقرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه. كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله. وإعراب الحروف هو من تمام الحروف. كما
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات
. وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: حفظ إعراب القرآن أحبّ إلينا من حفظ بعض حروفه.
ثم قال رحمه الله: والتصديق بما
ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن الله يتكلم بصوت
وينادي آدم عليه السلام بصوت، إلى أمثال ذلك من الأحاديث. فهذه الجملة كان عليها سلف الأمة وأئمة السنة. وقال أئمة السنة: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، حيث تلي، وحيث كتب. فلا يقال لتلاوة العبد بالقرآن إنها مخلوقة. لأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل. ولا يقال غير مخلوقة، لأن ذلك يدخل فيه أفعال العباد. ولم يقل قط أحد من أئمة السلف: إن أصوات العباد بالقرآن قديمة. بل أنكروا على من قال (لفظ العبد بالقرآن غير مخلوق) وأما من قال: إن المداد قديم- فهذا من أجهل الناس وأبعدهم عن السنة. قال الله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً [الكهف: 109] ، فأخبر أن المداد يكتب به كلماته. وكذلك من قال (ليس القرآن في المصحف. وإنما في المصحف مداد وورق وحكاية وعبارة) فهو مبتدع ضال. بل القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو ما بين الدفتين. والكلام في المصحف على الوجه الذي يعرفه الناس، له خاصة يمتاز بها عن سائر الأشياء. وكذلك من زاد على السنة فقال: إن ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة، مبتدع ضال. كمن قال: إن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت- فإنه أيضا مبتدع منكر للسنة. وكذلك من زاد وقال: إن المداد قديم- فهو ضال. كمن قال: ليس في المصاحف كلام الله. وأما من زاد على ذلك من الجهال الذين يقولون: إن الورق والجلد والوتد وقطعة من الحائط، كلام الله- فهو بمنزلة من يقول: ما تكلم الله بالقرآن ولا هو كلامه. هذا الغلو من جانب الإثبات يقابل
(3/450)
 
 
التكذيب من جانب النفي. وكلاهما خارج عن السنة والجماعة. وكذلك إفراد الكلام في النقطة والشكلة بدعة، نفيا وإثباتا. وإنما حدثت هذه البدعة من مائة سنة أو أكثر بقليل. فإن من قال: إن المداد الذي تنقط به الحروف وتشكل به قديم، فهو ضال جاهل. ومن قال: إن إعراب حروف القرآن ليس من القرآن- فهو ضال مبتدع.
بل الواجب أن يقال. هذا القرآن العربيّ هو كلام الله. وقد دخل في ذلك حروفه بإعرابها. كما دخلت معانيه. ويقال: وما بين اللوحين جميعه كلام الله. فإن كان المصحف منقوطا مشكولا أطلق على ما بين اللوحين جميعه أنه كلام الله. وإن كان غير منقوط ولا مشكول، كالمصاحف القديمة التي كتبها الصحابة، كان أيضا ما بين اللوحين هو كلام الله. فلا يجوز أن تلقى الفتنة بين المسلمين بأمر محدث ونزاع لفظيّ لا حقيقة له. ولا يجوز أن يحدث في الدين ما ليس منه.
وسئل رحمه الله تعالى عن رجلين تباحثا فقال أحدهما: القرآن حرف وصوت.
وقال الآخر: ليس هو بحرف ولا صوت. وقال أحدهما: النقط التي في المصحف والشكل من القرآن. وقال الآخر: ليس ذلك من القرآن. فما الصواب في ذلك؟
فأجاب رضي الله عنه: الحمد لله رب العالمين. هذه المسألة يتنازع فيها كثير من الناس. ويخلطون الحق بالباطل. فالذي قال: إن القرآن حرف وصوت، إن أراد بذلك أن هذا القرآن الذي يقرأ للمسلمين هو كلام الله، الذي نزل به الروح الأمين على محمد خاتم النبيين والمرسلين، وأن جبرئيل سمعه من الله، والنبيّ صلى الله عليه وسلم سمعه من جبرئيل، والمسلمون سمعوه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل: 102] . وقال: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام: 114]- فقد أصاب في ذلك. فإن هذا مذهب من سلف الأمة وأئمتها. والدلائل على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع.
ومن قال: إن القرآن العربيّ لم يتكلم الله به وإنما هو كلام جبرئيل أو غيره، عبّر به عن المعنى القائم بذات الله، كما يقول ذلك ابن كلّاب والأشعريّ ومن وافقهما- فهو قول باطل من وجوه كثيرة. فإن هؤلاء يقولون: إنه معنى واحد قائم بالذات. وإن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد. وإنه لا يتعدد ولا يتبعض. وإنه إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وبالعبرانية كان توراة. وبالسريانية كان إنجيلا. فيجعلون معنى آية الكرسي، وآية الدّين، وقل هو الله أحد، وتبت يدا أبي لهب، والتوراة والإنجيل وغيرهما- معنى واحدا. وهذا قول فاسد بالعقل والشرع. وهو قول أحدثه ابن كلاب. لم يسبقه إليه غيره من السلف. وإن أراد قائل بالحرف والصوت، أن الأصوات
(3/451)
 
 
المسموعة من القراء، والمداد الذي في المصاحف قديم أزلي- أخطأ وابتدع، وقال ما يخالف العقل والشرع. فإن
النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «1» : زينوا القرآن بأصواتكم
. فبين أن الصوت صوت القارئ. والكلام كلام الباري. كما قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة: 6] . فالقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله لا كلام غيره. كما ذكر الله ذلك.
وفي السنن «2» عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على الناس في الموقف فقال: ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي
. قالوا لأبي بكر الصديق لما قرأ عليهم الم غُلِبَتِ الرُّومُ: هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي. ولكنه كلام الله تعالى.
والناس إذا بلّغوا كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم «3»
كقوله: إنما الأعمال بالنيات
- يعلمون أن الحديث الذي يسمعونه حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم. تكلم به بصوته وبحروفه ومعانيه.
والمحدّث بلّغه عنه بصوت نفسه لا بصوت النبيّ صلى الله عليه وسلم. فالقرآن أولى أن يكون كلام الله، إذا بلّغته الرسل عنه، وقرأه الناس بأصواتهم. والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه. ونادى موسى بصوت نفسه. كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف. وصوت العبد ليس هو صوت الرب. ولا مثل صورته. فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. وقد نص أئمة الإسلام، أحمد ومن قبله من الأئمة على ما نطق به الكتاب والسنة: من أن الله ينادي بصوت. وإن القرآن كلامه تكلم بحروف وصوت. ليس منه شيء كلاما لغيره. لا جبرئيل ولا غيره. وأن العباد يقولونه بأصوات أنفسهم وأفعالهم. فالصوت المسموع من العبد صوت
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في: التوحيد، 52- باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم «الماهر بالقرآن مع سفرة الكرام البررة وزينوا القرآن بأصواتكم» .
قال الحافظ في (الفتح) : هذا الحديث من الأحاديث التي عقلها البخاريّ ولم يصلها في موضع آخر من كتابه. وقد أخرجه في كتاب (خلق أفعال العباد) من رواية عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء، بهذا.
وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارميّ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من هذا الوجه.
(2) أخرجه أبو داود في: السنّة، 20- باب في القرآن، حديث 4734.
(3)
أخرجه البخاريّ في: الوحي، 1- باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث 1.
عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إنما الأعمال بالنيات. وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»
.
(3/452)
 
 
القارئ. والكلام كلام الباري. وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز بين صوت العبد وصوت الرب. بل يجعل هذا هو هذا. فينفيهما جميعا. ويثبتهما جميعا. فإذا نفى الحرف والصوت نفى أن يكون القرآن العربيّ كلام الله، وأن يكون مناديا لعباده بصوته، وأن يكون القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله. كما نفى أن يكون صوت العبد صفة لله. ثم جعل كلام الله المتنوع شيئا واحدا. لا فرق بين القديم والحادث. وهذا مصيب في هذا الفرق دون ذاك الثاني، الذي فيه نوع من الإلحاد والتعطيل. حيث جعل كلام الله المتنوع شيئا واحدا لا حقيقة له عند التحقيق. وإذا أثبت، جعل صوت الرب هو صوت العبد، أو سكت عن التمييز بينهما، مع قوله: إن الحروف متعاقبة في الوجود، مقترنة في الذات، قديمة أزلية الأعيان، فجعل عين صفة الرب تحل في العبد، ويتحد بصفته، فقال في نوع من الحلول والاتحاد يفضي إلى نوع من التعطيل. وقد علم أن نفي الفرق والمباينة، بين الخالق وصفاته، والمخلوق وصفاته، خطأ وضلال. لم يذهب إليه أحد من سلف الأمة وأئمتها. بل هم متفقون على التمييز بين صوت الرب وصوت العبد. ومتفقون أن الله تكلم بالقرآن الذي أنزله على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم. حروفه ومعانيه. وأنه ينادي عباده بصوته. ومتفقون على أن الأصوات المسموعة من القراء أصوات العباد. وعلى أنه ليس بشيء من أصوات العباد، ولا مداد المصاحف، قديما. بل القرآن مكتوب في مصاحف المسلمين. مقروء بألسنتهم. محفوظ بقلوبهم. وهو كلام الله.
والصحابة كتبوا المصاحف لما كتبوها بغير شكل ولا نقط. لأنهم كانوا عربا لا يلحنون. ثم لما حدث اللحن نقط الناس المصاحف وشكلوها. فإن كتبت بلا شكل ولا نقط جاز. وإن كتبت بنقط وشكل جاز. ولم يكره، في أظهر قولي العلماء. وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وحكم النقط والشكل حكم الحروف فإن الشكل يبين إعراب القرآن، كما يبين النقط الحروف. والمداد الذي يكتب به الحروف ويكتب به الشكل والنقط، مخلوق. وكلام الله العربيّ الذي أنزله وكتب في المصاحف بالشكل والنقط، وبغير شكل ونقط، ليس بمخلوق. وحكم الإعراب حكم الحروف. لكن الإعراب لا يستقل بنفسه. بل هو تابع للحروف المنقوطة. والشكل والنقط لا يستقل بنفسه. بل هو تابع للحروف المرسومة. فلهذا لا يحتاج لتجريدهما وإفرادهما بالكلام. بل القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله: معانيه وحروفه وإعرابه. والله تكلم بالقرآن العربيّ الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم. والناس يقرءونه بأفعالهم وأصواتهم، والمكتوب في مصاحف المسلمين هو كلام الله. وهو القرآن العربيّ
(3/453)
 
 
الذي أنزل على نبيه. سواء كتب بشكل ونقط، أو بغير شكل ونقط. والمداد الذي كتب به القرآن ليس بقديم بل هو مخلوق. والقرآن الذي كتب في المصحف بالمداد هو كلام الله منزل، غير مخلوق. والمصاحف يجب احترامها باتفاق المسلمين. لأن كلام الله مكتوب فيها. واحترام النقط والشكل، إذا كتب المصحف مشكلا منقوطا، كاحترام الحروف باتفاق علماء المسلمين. كما أن حرمة إعراب القرآن كحرمة حروفه المنقوطة باتفاق المسلمين. ولهذا قال أبو بكر وعمر: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه. والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه. فجميعه كلام الله. فلا يقال: بعضه كلام الله وبعضه ليس بكلام الله. وهو سبحانه نادى موسى. بصوت سمعه موسى. فإنه قد أخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن. كما قال تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [النازعات:
15- 16] .. والنداء لا يكون إلا صوتا باتفاق أهل اللغة. وقد قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ، وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: 163- 164] . فقد فرّق الله بين إيحائه إلى النبيين وبين تكليمه لموسى. فمن قال: إن موسى لم يسمع صوتا، بل ألهم معناه- لم يفرق بين موسى وغيره. وقد قال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة: 253] ، وقال تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ [الشورى: 51] .
فقد فرّق بين الإيحاء والتكلم من وراء حجاب. كما كلم الله موسى. فمن سوّى بين هذا وهذا، كان ضالًّا. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره: لم يزل الله متكلما إذا شاء. وهو يتكلم بمشيئته وقدرته. يتكلم بشيء بعد شيء. كما قال تعالى: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى [طه: 11] فناداه حين أتاها ولم يناده قبل ذلك. وقال تعالى:
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ، فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف: 22] . فهو سبحانه ناداهما حين ذاقا الشجرة. ولم ينادهما قبل ذلك. وكذلك قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراف: 11] . بعد أن خلق آدم وصوّره. ولم يأمرهم قبل ذلك. وكذا قوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ
(3/454)
 
 
كُنْ فَيَكُونُ
[آل عمران: 59] . فأخبر أنه قال له: كن فيكون. بعد أن خلقه من تراب. ومثل هذا الخبر في القرآن كثير. يخبر أنه تكلم في وقت معين. ونادى في وقت معين.
وقد ثبت في الصحيحين «1» عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لما خرج إلى الصفا قرأ قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: 158] . قال: نبدأ بما بدأ الله به.
فأخبر أن الله بدأ بالصفا قبل المروة.
والسلف اتفقوا على أن كلام الله منزل غير مخلوق. منه بدأ وإليه يعود. فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين. ثم قالت طائفة: هو معنى واحد. وهو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهيّ والخبر بكل مخبر. إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا. وهذا القول مخالف للشرع والعقل. وقالت طائفة: هو حروف وأصوات قديمة الأعيان، لازمة لذات الله، لم تزل لازمة لذاته. وأن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معا. أزلا وأبدا. لم تزل ولا تزال. لم يسبق منها شيء شيئا. وهذا أيضا مخالف للشرع والعقل. وقالت طائفة: إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته. وإنه في الأزل كان متكلما بالنداء الذي سمعه موسى. وإنما تجدد استماع موسى. لا أنه ناداه حين أتى الوادي المقدس، بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى. ولكن تلك الساعة سمع النداء.
وهؤلاء وافقوا الذين قالوا: إن القرآن مخلوق، في أصل قولهم. فإن أصل قولهم: إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية. فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته. وقالوا:
هذه حوادث. والرب لا تقوم به الحوادث. فخالفوا صحيح المنقول وصريح المعقول.
واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة ويثبتون حدوث العالم. وأخطئوا في ذلك. فلا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا. وادعوا أن الرب لم يكن قادرا في الأزل على كلام يتكلم به، ولا فعل يفعله. وأنه صار قادرا بعد أن لم يكن قادرا. بغير أمر حدث. أو يغيّرون العبارة فيقولون: لم يزل قادرا. لكن يقولون: إن المقدور كان ممتنعا. وإن الفعل صار ممكنا له، بعد أن صار ممتنعا عليه. من غير تجدد شيء.
وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا: كان قادرا في الأزل على ما يمكن، فيما لا يزال على ما لا يمكن في الأزل. فيجمعون بين النقيضين. حيث يثبتونه قادرا في حال كونه المقدور عليه ممتنعا عندهم. ولم يفرقوا بين نوع الكلام والفعل، وبين عينه كما لم يفرّق الفلاسفة بين هذا وهذا. بل الفلاسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم
__________
(1) أخرجه مسلم في: الحج، 19- باب حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم، حديث 147.
(3/455)
 
 
بقدمه. فضلّوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول. فإن الأدلة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم. بل تدل على أن ما سوى الله مخلوق حادث. بعد أن لم يكن. إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته. كما تدل على ذلك الدلائل القطعية. والفاعل بمشيئته لا يكون شيء من مفعوله لازما، بصريح العقل واتفاق عامة العقلاء. بل وكل فاعل لا يكون شيء من مفعوله لازما لذاته. ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين، له. ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة. فكيف بالفاعل بالإرادة؟ وما يذكر بأن المعلول يقارن علته، إنما يصح فيما كان من العلل يجري مجرى الشروط. فإن الشرط لا يجب أن يتقدم على المشروط. بل قد يقارنه. كما تقارن الحياة العلم. وأما ما كان فاعلا، سواء سمي علة أو لم يسم، فلا بد أن يتقدم على الفعل المعين. والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شيء من مفعولاته. ولا يعرف العقلاء فاعلا قط يلتزمه مفعول معين. وقول القائل (حركت يدي فتحرك الخاتم) هو من باب الشروط لا من باب الفاعلين. ولأنه لو كان العالم قديما لكان فاعله موجبا بذاته في الأزل. ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه. ولو كان كذلك لم يحدث شيئا من الحوادث. وهذا خلاف المشاهدة. وإن كان هو سبحانه لم يزل قادرا على الكلام والفعل. بل لم يزل متكلما إذ شاء، فاعلا لما يشاء، ولم يزل موصوفا بصفات الكمال، منعوتا بنعوت الجلال والإكرام. والعالم فيه من الإحكام والإتقان ما دل على علم الرب. وفيه من الاختصاص ما دل على مشيئته. وفيه من الإحسان ما دل على رحمته. وفيه من العواقب الحميدة ما دل على حكمته. وفيه من الحوادث ما دل على قدرة الرب تعالى. مع أن الرب مستحق لصفات الكمال لذاته، فإنه مستحق لكل كمال ممكن للوجود. لا نقص فيه. منزه عن كل نقص. وهو سبحانه ليس له كفؤ في شيء من أموره. فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفصيل. منزه فيها عن التشبيه والتمثيل. ومنزه عن النقائص مطلقا. فإن وصفه بها من أعظم الأباطيل. وكماله من لوازم ذاته المقدسة. لا يستفيده من غيره. بل هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء. وما جعله فيهم من صفات الأحياء. وخالق صفات الكمال أحق بها من لا كفؤ له فيها وأصل اضطراب الناس في مسألة كلام الله، أن الجهمية والمعتزلة، لما ناظرت الفلاسفة في مسألة حدوث العالم، اعتقدوا أن ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثا. بناء على أن ما لا يتناهى لا يمكن وجوده.
والتزموا أن الرب كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام. بل كان ذلك ممتنعا عليه. وكان معطلا عن ذلك. وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادرا في الأزل على
(3/456)
 
 
الفعل فيما لا يزال، مع امتناع الفعل عليه في الأزل. فيجمعون بين النقيضين. حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته. إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له أولا. والأزل لا أول له. والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين. ولم يهتدوا إلى الفرق بين ما يستلزم الأولية والحدوث. وهو الفعل المعين والمفعول المعين. وبين ما لا يستلزم ذلك وهو نوع الفعل والكلام. بل هذا يكون دائما. وإن كان كلّ من آحاده حادثا. كما يكون دائما في المستقبل، وإن كان كل من آحاده فانيا. بخلاف خالق يلزمه مخلوقه المعين دائما، فإن هذا هو الباطل في صريح العقل وصحيح النقل. ولهذا اتفقت فطر العقلاء على إنكار ذلك. لم ينازع فيه إلا شرذمة من المتفلسفة، كابن سينا وأمثاله الذين زعموا أن الممكن المفعول قد يكون قديما واجب الوجود بغيره. فخالفوا في ذلك جماهير العقلاء. مع مخالفتهم لسلفهم، أرسطو وأتباعه، فإنهم لم يكونوا يقولون ذلك. وإن قالوا بقدم الأفلاك. وأرسطو أول من قال بقدمها من الفلاسفة المشائين. بناء على إثبات علة غاية لحركة الفلك.
بتحرك الفلك للنسبة بها. لم يثبتوا له فاعلا مبتدعا. ولم يثبتوا ممكنا قديما واجبا بغيره. وهم، وإن كانوا أجهل بالله وأكفر من متأخريهم، فهم يسلمون لجمهور العقلاء، أن ما كان ممكنا بذاته فلا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم. فاحتاجوا أن يقولوا: كلامه مخلوق منفصل عنه. وطائفة وافقتهم على امتناع وجود ما لا نهاية له.
لكن قالوا: تقوم به الأمور الاختيارية. فقالوا: إنه في الأزل لم يكن متكلما، بل ولا كان الكلام مقدورا له. ثم صار متكلما بلا حدوث حادث، بكلام يقوم به. وهو قول الهاشمية والكرامية وغيرهم. وطائفة قالت: إذا كان القرآن غير مخلوق، فلا يكون إلا قديم العين، لازما لذات الرب. فلا يتكلم بمشيئته وقدرته. ثم منهم من قال: هو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض. ومنهم من قال: إنه حروف وأصوات مقترنة لازمة للذات. وهؤلاء أيضا وافقوا الجهمية والمعتزلة في أصل قولهم أنه متكلم بكلام لا يقوم بنفسه ومشيئته وقدرته. وأنه لا تقوم به الأمور الاختيارية. وأنه لم يستو على عرشه بعد أن خلق السموات والأرض. ولن يأتي يوم القيامة. ولم يناد موسى حين ناداه. ولا تغضبه المعاصي ولا ترضيه الطاعات. ولا تفرحه توبة التائبين. وقالوا في قوله: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 105] ، ونحو ذلك، أنه لا يراها إذا وجدت. بل إما أنه لم يزل رائيا لها. وإمّا أنه لم يتجدد شيء موجود، بل تعلق معدوم. إلي أمثال هذه المقالات التي خالفوا فيها نصوص الكتاب والسنة. مع مخالفة صريح العقل. والذي ألجأهم لذلك، موافقتهم للجهمية على
(3/457)
 
 
أصل قولهم: في أنه سبحانه لا يقدر في الأزل على الفعل والكلام. وخالفوا السلف والأئمة في قولهم: لم يزل الله متكلما إذا شاء. ثم افترقوا أحزابا أربعة كما تقدم:
الخلقية. والحدوثية. والاتحادية. والاقترانية. وشر من هؤلاء الصائبة والفلاسفة.
الذين يقولون: إن الله لم يتكلم لا بكلام قائم بذاته، ولا بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته. لا قديم النوع ولا قديم العين. ولا حادث ولا مخلوق. بل كلامه عندهم ما يفيض على نفوس الأنبياء. ويقولون: إنه كلم موسى من سماء عقله. وقد يقولون إنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات. فإنه إنما يعلمها على وجه كلّي. ويقولون، مع ذلك: إنه يعلم نفسه ويعلم ما يفعله. وقولهم (يعلم نفسه ومفعولاته) حق، كما قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] . لكن قولهم، مع ذلك (إنه لا يعلم الأعيان المعينة) جهل وتناقض. فإن نفسه المقدسة معينة.
والأفلاك معينة. وكل موجود معين. فإن لم يعلم المعينات لم يعلم شيئا من الموجودات. إذ الكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان. فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات: تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.
وهم، إنما ألجأهم إلى هذا الإلحاد فرارهم من تجدد الأحوال للباري تعالى. إن هؤلاء يقولون: إن الحوادث تقوم بالقديم. وإن الحوادث لا أول لها. لكن نفوا ذلك عن الباري. لاعتقادهم أنه لا صفة له. بل هو وجود مطلق. وقالوا: إن العلم نفس عين العالم. والقدرة نفس عين القادر. والعلم والعالم شيء واحد. والمريد والإرادة شيء واحد. فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى. وجعلوا الصفات هي الموصوف. ومنهم من يقول: بل العلم كل المعلوم. كما يقوله الطوسيّ صاحب (شرح الإشارات) فإنه أنكر على ابن سينا إثباته لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه. وابن سينا أقرب إلى الصواب.
لكنه تناقض مع ذلك حيث نفى قيام الصفات به، وجعل الصفة عين الموصوف، وكل صفة هي الأخرى. ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول:
معاني الكلام شيء واحد. لكنهم ألزموا قولهم لأولئك فقالوا: إذا جاز أن تكون المعاني المتعددة شيئا واحدا، جاز أن يكون العلم هو القدرة، والقدرة على الإرادة.
فاعترف حذاق أولئك بأن هذا الإلزام لا جواب عنه. ثم قالوا: وإذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى، جاز أن تكون الصفة هي الموصوف. فجاء ابن عربيّ وابن سبعين والقونويّ ونحوهم، فقالوا: إذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى والصفة هي الموصوف، جاز أن يكون الموجود الواجب القديم الخالق، هو الموجود الممكن المحدث المخلوق. فقالوا: إن وجود كل مخلوق هو عين وجود الخالق. وقالوا:
(3/458)
 
 
الوجود واحد. ولم يفرّقوا بين الواحد بالنوع والواحد بالعين. كما لم يفرّق أولئك بين الكلام الواحد بالعين، والكلام الواحد بالنوع. وكان منتهى أمر أهل الإلحاد في الكلام، إلى هذا التعطيل والكفر والاتحاد. الذي قاله أهل الوحدة والحلول والاتحاد في الخالق والمخلوقات. كما أن الذين لم يفرقوا بين نوع الكلام وعينه، وقالوا: هو يتكلم بحرف وصوت قديم، قالوا: أولا إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا تسبق الباء السين، بل لما نادى موسى فقال: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي. إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ، كانت الهمزة والنون وما بينهما موجودا في الأزل، يقارن بعضها بعضا، لم تزل ولا تزال لازمة لذات الله. ثم قال فريق منهم: إن ذلك القديم هو نفس الأصوات المسموعة من القرّاء. وقال بعضهم: بل المسموع صوتان: قديم ومحدث.
وقال بعضهم: أشكال المداد قديمة أزلية. وقال بعضهم: محل المداد قديم أزليّ.
وحكي عن بعضهم أنه قال: المداد قديم أزليّ وأكثرهم يتكلمون بلفظ القديم ولا يفهمون معناه. بل منهم من يظن أنه قديم في علمه. ومنهم من يظن أن معناه متقدم على غيره. ومنهم من يظن أن معنى اللفظ أنه غير مخلوق. ومنهم من لا يميز بين ما يقول. فصار هؤلاء حلولية اتحادية في الصفات. ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد في الذات والصفات. وكان منتهى أمر هؤلاء وهؤلاء إلى التعطيل. والصواب في هذا الباب وغيره، مذهب سلف الأمة وأئمتها: أنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء. وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته. وأن كلماته لا نهاية لها. وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى. وإنما ناداه حين أتى. لم يناده قبل ذلك. وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد، كما أن علمه لا يماثل علمهم. وقدرته لا تماثل قدرتهم. وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته. ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته.
ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد الذين عطلوا الذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال- باطلة. وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات والصفات- باطلة. وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع. وقد بسطناها في (الواجب الكبير) . والله أعلم بالصواب. (وقال تقي الدين أيضا في مقالة له في هذا البحث) : أول من أظهر إنكار التكليم والمخالّة الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية. وأمر علماء الإسلام، كالحسن البصريّ وغيره، بقتله. فضحّى به خالد بن عبد الله القسريّ، أمير العراق بواسط. فقال: أيها الناس ضحوا. تقبل الله ضحاياكم. فإني مضحّ بالجعد بن درهم. إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا.
ولم يكلم موسى تكليما. تعالى الله عما يقول الجعد علوّا كبيرا.
(3/459)
 
 
ثم نزل فذبحه. وأخذ ذلك عنه الجهم بن صفوان. فأنكر أن يكون الله يتكلم.
ثم نافق المسلمين فأقر بلفظ الكلام وقال: كلامه يخلق في محل كالهواء وورق الشجر. ودخل بعض أهل الكلام أو الجدل، من المنتسبين إلى الإسلام، من المعتزلة ونحوهم، في بعض مقالة الصابئة والمشركين. متعاقبة للجعد والجهم. وكان مبدأ ذلك أن الصابئة في الخلق على قولين: منهم من يقول: إن السموات مخلوقة بعد أن لم تكن. كما أخبرت بذلك الرسل وكتب الله تعالى. ومنهم من ابتدع فقال: بل هي قديمة أزلية. لم تزل موجودة بوجود الأول واجب الوجود بنفسه. ومنهم من قد ينكر الصانع بالكلية. ولهم مقالات كثيرة الاضطراب، في الخلق والبعث والمبدأ والمعاد.
لأنهم لم يكونوا معتصمين بحبل من الله تعالى يجمعهم. والظنون لا تجمع الناس في مثل هذه الأمور. التي تعجز الآراء عن درك حقائقها إلا بوحي من الله تعالى. وهم إنما يناظر بعضهم بعضا بالقياس المأخوذ مقدماته من الأمور الطبيعية السفلية. وقوى الطبائع الموجودة في التراب والماء والهواء. والحيوان والمعدن والنبات. ويريدون بهذه المقدمات السفلية أن ينالوا معرفة الله، وعلم ما فوق السموات. وأول الأمر وآخره. وهذا غلط بيّن. اعترف أساطينهم بأن هذا غير ممكن. وأنهم لا سبيل لهم إلى إدراك اليقين. وأنهم إن يتبعون إلا الظن. فلما كان حال هذه الصائبة المبتدعة الضالة ومن أضلوه من اليهود والنصارى، وكان قد اتصل كلامهم ببعض من لم يهتد بهدى الله الذي بعث به رسله، من أهل الكلام والجدل- صاروا يريدون أن يأخذوا مآخذهم. كما
أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله «1» : لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع. قالوا يا رسول الله! فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا فارس والروم؟
فاحتجوا على حدوث العالم بنحو من مسالك هذه الصابئة. وهو الكلام في الأجسام والأعراض. بأن تثبت الأعراض ثم يثبت لزومها للأجسام. ثم حدوثها. ثم يقال ما لا يسبق الحوادث فهو حادث. واعتمد كثير من أهل الجدل على هذا في إثبات حدوث العالم. فلما رأوا أن الأعراض، التي هي الصفات، تدل عندهم على حدوث الموصوف الحامل للأعراض- التزموا نفيها عن الله. لأن ثبوتها مستلزم حدوثه.
وبطلان دليل حدوث العالم الذي اعتقدوا أن لا دليل سواه بل ربما اعتقدوا أنه لا
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في: الاعتصام، 14- باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم «لتتبعن سنن من كان قبلكم، حديث 2589 ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبرا بشبر وذراعا بذراع» فقيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ قال «ومن الناس إلا أولئك» ؟
(3/460)
 
 
يصح إيمان أحد إلا به معلوم بالاضطرار من دين الإسلام. وهؤلاء يخالفون الصابئة الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم وبأن النبوة كمال يفيض على نفس النبيّ. لأن هؤلاء المتكلمين أكثر حقّا وأتبع للأدلة العقلية والسمعية، لما تنورت به قلوبهم من نور الإسلام والقرآن. وإن كانوا قد ضلوا في كثير مما جاء به الرسل. لكن هم خير من أولئك من وجوه أخرى وافقوا فيها. فوافقوا أولئك على أن الله لم يتكلم. كما وافقوهم على أنه لا علم له ولا قدرة ولا صفة من الصفات. ورأوا أن إثباته متكلما يقتضي أن يكون جسما. والجسم حادث. لأنه من الصفات الدالة على حدوث الموصوف. بل هو عندهم أدل على حدوث المتكلم من غيره. لأنه يفتقر من المخارج إلى ما لا يفتقر إليه غيره. ولأن فيه من الترتيب والتقديم والتأخير ما ليس في غيره. ولما رأوا أن الرسل اتفقت على أنه متكلم، والقرآن مملوء من إثبات ذلك- صاروا تارة يقولون: متكلم مجازا لا حقيقة. وهذا قولهم الأول لما كانوا في بدعتهم على الفطرة. قبل أن يدخلوا في المعاندة والجحود. ثم إنهم رأوا هذا شنيعا فقالوا:
بل هو متكلم حقيقة. وربما حكى بعض متكلميهم الإجماع. وليس عندهم كذلك.
بل حقيقة قولهم وأصله، عند من عرفه وابتدعه: إن الله ليس بمتكلم. وقالوا:
المتكلم من فعل الكلام، ولو في محل منفصل عنه. ففسروا المتكلم في اللغة بمعنى لا يعرف في لغة العرب ولا غيرهم، لا حقيقة ولا مجازا. وهذا قول من يقول: القرآن مخلوق. وهو أحد قولي الصابئة الذين يوافقون الرسل في حدوث العالم. وهو وإن كفر بما جاءت به الرسل، فليس هو في الكفر مثل القول الأول. لأن هؤلاء لا يقولون:
إن الله أراد أن يبعث رسولا معينا، وأن ينزل عليه هذا الكلام الذي خلقه. وأنكروا أن يكون متكلما على الوجه الذي دلت عليه الكتب الإلهية، واتفقت عليه أهل الفطرة السليمة. ونشأ بين هؤلاء الذين هم فروع الصابئة، وبينا لمؤمنين أتباع الرسل، الخلاف. فكفر هؤلاء ببعض ما جاءت به الرسل من وصف الله بالكلام والتكليم.
واختلفوا في كتاب الله فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. واتبع المؤمنون ما أنزل إليهم من ربهم من أن الله تكلم بالقرآن. وأنه كلم موسى تكليما. وأنه يتكلم. ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه كما فعل الأولون. بل ردوا تحريف أولئك ببصائر الإيمان، الذي علموا به مراد الرسل من أخبارهم برسالة الله وكلامه. وتبعوا هذا القرآن والحديث وإجماع السلف من الصحابة والتابعين وسائر أتباع الأنبياء. وعلموا أن قول هؤلاء أخبث من قول اليهود والنصارى. حتى كان ابن المبارك إمام المسلمين يقول: إنّا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وكان قد كثر
(3/461)
 
 
ظهور هؤلاء، الذين هم فروع المشركين، ومن اتبعهم، من مبدلة الصابئين ثم مبدلة اليهود والنصارى في أوائل المائة الثانية وأوائل الثالثة، في إمارة أبي العباس الملقب بالمأمون، بسبب تعريب كتب الروم المشركين الصابئين. الذين كانوا قبل النصارى، ومن أشبههم من فارس والهند. وظهرت علوم الصابئين المنجمين ونحوهم. وقد تقدم أن أهل الكلام المبتدع في الإسلام هم من فروع الصابئين. كما يقال: المعتزلة مخانيث الفلاسفة. فظهرت هذه المقالة في أهل العلم والكلام. وفي أهل السيف والإمارة. وصار في أهلها من الخلفاء والأمراء والوزراء والقضاة والفقهاء، ما امتحنوا به المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات. الذين اتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم.
ولم يبدلوا ويبتدعوا. وذلك لقصور وتفريط من أكثرهم، في معرفة حقيقة ما جاء به الرسول وأتباعه.
 
فصل
فجاء قوم من متكلمي الصفاتية الذين نصروا أن الله له علم وقدرة وبصر وحياة، بالمقاييس العقلية المطابقة للنصوص النبوية. وفرّقوا بين الصفات القائمة بالجواهر فجعلوها أعراضا وبين الصفات القائمة بالرب فلم يسموها أعراضا. لأن العرض ما لا يدوم وما لا يبقى. أو ما يقوم بمتحيز أو جسم. وصفات الرب لازمة دائمة ليست من جنس الأعراض القائمة بالأجسام. وهؤلاء أهل الكلام القياسي من الصفاتية، فارقوا أولئك المبتدعة المعطلة الصابئة في كثير من أمورهم. وأثبتوا الصفات التي قد يستدل بالقياس العقليّ عليها. كالصفات السبع. وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام. ولهم نزاع في السمع والبصر والكلام. هل هو من الصفات العقلية أو الصفات النبوية الخبرية السمعية؟ ولهم اختلاف في البقاء والقدم. وفي الإدراك الذي هو إدراك المشمومات والمذوقات والملموسات. ولهم أيضا اختلاف في الصفات السمعية القرآنية الخبرية. كالوجه واليد. فأكثر متقدميهم أو كلهم يثبتها. وكثير من متأخريهم لا يثبتها. وأما ما لا يرد إلا في الحديث فأكثرهم لا يثبتها. ثم منهم من يصرف النصوص عن دلالتها لأجل ما عارضها من القياس العقليّ عنده. ومنهم من يفوّض معناها. وليس الغرض هنا تفصيل مقالات الناس فيما يتعلق بسائر الصفات. وإنما المقصود القول في رسالة الله وكلامه الذي بلغته رسله. فكان هؤلاء، بينهم وبين أهل الوراثة النبوية، قدر مشترك بما ملكوه من الطرق الصائبة في أمر الخالق وأسمائه وصفاته. فصار في مذهبهم في
(3/462)
 
 
الرسالة تركيب من الوراثتين. لبسوا حق ورثة الأنبياء بباطل ورثة أتباع الصابئة. كما كان في مذهب أهل الكلام المحض المبتدع كالمعتزلة، تركيب. وليس بين الأثارة النبوية وبين الأثارة الصابئة. لكن أولئك أشد اتباعا للأثارة النبوية، وأقرب إلى مذاهب أهل السنة، من المعتزلة ونحوهم، من وجوه كثيرة. ولهذا وافقهم في بعض ما ابتدعوه كثير من أهل الفقه والحديث والتصوف، لوجوه: أحدها- كثرة الحق الذي يقولونه وظهور الأثارة النبوية عندهم. الثاني- لبسهم ذلك بمقاييس عقلية بعضهما موروث عن الصابئة وبعضها مما ابتدع في الإسلام. واستيلاء ما في ذلك من الشبهات عليهم. وظنهم أنه لم يكن التمسك بالأثارة النبوية من أهل العقل والعلم إلا على هذا الوجه. الثالث- ضعف الأثارة النبوية الدافعة لهذه الشبهات والموضحة لسبيل الهدى عندهم. الرابع- العجز والتفريط الواقع في المنتسبين إلى السنة والحديث. تارة يرون ما يعلمون صحته. وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور. فلما كان هذا منهاجهم، وقالوا: إن القرآن غير مخلوق، لما دل على ذلك من النصوص وإجماع السلف. ولمّا رأوا أنه مستقيم على الأصل الذي قرروه في الصفات، ورأوا أن التوفيق بين النصوص النبوية السمعية، وبين القياس العقليّ، لا يستقيم إلا أن يجعلوا القرآن معنى قائما بنفس الله تعالى كسائر الصفات. كما جعله الأوّلون من باب المصنوعات المخلوقات، لا قديما كسائر الصفات. ورأوا أنه ليس إلا مخلوقا أو قديما، فإن إثبات قسم ثالث قائم بالله يقتضي حلول الحوادث بذاته، وهو دليل على حدوث الموصوف، ويبطل لدلالة حدوث العالم، ثم رأوا أنه لا يجوز أن يكون معاني كثيرة، بل إما معنى واحدا عند طائفة، أو معاني أربعة عند طائفة، ولتزموا على هذا أن حقيقة الكلام هي المعنى القائم بالنفس، وأن الحروف والأصوات ليست من حقيقة الكلام، بل دالة عليه. فتسمى باسمه إما مجازا عند طائفة أو حقيقة بطريق الاشتراك عند طائفة. وإما مجازا في كلام الله، حقيقة في غيره عند طائفة. وخالفهم الأولون وبعض من يستنن أيضا، وقالوا: لا حقيقة للكلام إلا الحروف والأصوات، وليس وراء ذلك معنى إلا العلم ونوعه، أو الإرادة ونوعها. فصار النزاع بين الطائفتين.
وادعى هؤلاء أن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام إضافية. ليست أنواعا له وأقساما.
وأن كلام الله معنى واحد. إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن. وبالعبرية فهو توراة.
وبالسريانية فهو إنجيل. وقال لهم أكثر الناس: هذا معلوم الفساد بالضرورة. كما قال الأولون: إنه خلق الكلام في الهواء فصار متكلما به. وإن المتكلم من أحدث الكلام
(3/463)
 
 
ولو في ذات غير ذاته. وقال لهم أكثر الناس: إن هذا معلوم الفساد بالضرورة. وقال الجمهور من جميع الطوائف: إن الكلام اسم للفظ والمعنى جميعا. كما أن الإنسان المتكلم اسم للروح والجسم جميعا. وإنه إذا أطلق على أحدهما فبقرينة. وإن معاني الكلام متنوعة ليست منحصرة في العلم والإرادة، كتنوّع ألفاظه. وإن كانت المعاني أقرب إلى الاتحاد والاجتماع. والألفاظ أقرب إلى التعدد والتفرّق. والتزم هؤلاء أن حروف القرآن مخلوقة. وإن لم يكن عندهم المعنى الذي هو كلام الله مخلوقا.
وفرّقوا بين كتاب الله وكلامه. فقالوا: كتاب الله هو الحروف وهو مخلوق. وكلام الله هو معناها غير مخلوق. وهؤلاء والأولون متفقون على خلق القرآن الذي قال الأولون:
إنه مخلوق. واختلف هؤلاء أين خلقت هذه الحروف؟ هل خلقت في الهواء أو في نفس جبرئيل أو أن جبرائيل هو الذي أحدثها أو محمد؟ وأما جمهور الأمة وأهل الحديث والفقه والتصوف فعلى ما جاءت به الرسل وما جاء عنهم من الكتب والأثارة من العلم. وهم المتبعون للرسالة اتباعا محضا، لم يشوبوه بما يخالفه من مقالة الصابئين. وهو أن القرآن كله كلام الله. لا يجعلون بعضه كلام الله وبعضه ليس كلام الله. والقرآن هو القرآن الذي يعلم المسلمون أنه القرآن. حروفه ومعانيه. والأمر والنهي. هو اللفظ والمعنى جميعا. ولهذا كان الفقهاء المصنفون في أصول الفقه من جميع الطوائف: الحنفيه والمالكية والشافعية والحنبلية، إذا لم يخرجوا عن مذاهب الأئمة والفقهاء، إذا تكلموا في الأمر والنهي، ذكروا ذلك، وخالفوا من قال: إن الأمر هو المعنى المجرد. ويعلمون أهل الأثارة النبوية أهل السنة والحديث وعامة المسلمين الذين هم جماهير أهل القبلة أن قوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 1- 2] . ونحو ذلك هو كلام الله لا كلام غيره. وكلام الله هو ما تكلم به، لا ما خلقه في غيره ولم يتكلم هو به.
(وسئل تقي الدين أيضا) ما تقول السادة العلماء الجهابذة أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين، فيمن يقول: الكلام غير المتكلم والقول غير القائل. والقرآن والمقروء والقارئ كل واحد منها له معنى. بينوا لنا ذلك بيانا شافيا ليصل إلى ذهن الحاذق والبليد. أثابكم الله بمنه.
(فأجاب رحمه الله) : الحمد لله. من قال: إن الكلام غير المتكلم، والقول غير القائل، وأراد أنه مبائن له ومنفصل عنه، فهذا خطأ وضلال. وهو من يقول: إن القرآن مخلوق. فإنهم يزعمون أن الله لا تقوم به صفة من الصفات لا القرآن ولا غيره.
ويهمون الناس بقولهم: العلم غير العالم، والقدرة غير القادر، والكلام غير المتكلم.
(3/464)
 
 
ثم يقولون: وما كان غير الله فهو مخلوق. وهذا تلبيس منهم. فإن لفظ (الغير) يراد به ما يجوز مبائنته للآخر ومفارقته له. وعلى هذا فلا يجوز أن يقال: علم الله غيره ولا كلامه غيره. ولا يقال: إن الواحد من العشرة غيرها. وأمثال ذلك. وقد يقال بلفظ (الغير) ما ليس هو الآخر. وعلى هذا فتكون الصفة غير الموصوف. ولكن على هذا المعنى، لا يكون ما هو غير ذات الله الموصوفة بصفاته- مخلوقا. لأن صفاته ليست هي الذات. لكن قائمة بالذات. والله سبحانه وتعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات كماله. وليس الاسم اسما لذات لا صفات لها. بل يمتنع وجود ذات لا صفات لها. والصواب في مثل هذا أن يقال: الكلام صفة المتكلم.
والقول صفة القائل. وكلام الله ليس مبائنا منه. بل أسمعه لجبرئيل ونزّله به على محمد صلى الله عليه وسلم. كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ. ولا يجوز أن يقال: إن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره.
بل يقال كما قال السلف: إنه كلام الله غير مخلوق. منه بدا وإليه يعود.
فقولهم (منه بدا) رد على من قال (إنه مخلوق في بعض الأجسام، ومن ذلك المخلوق ابتدأ) فبينوا أنه الله هو المتكلم به. ومنه بدا، لا من بعض المخلوقات.
(وإليه يعود) أي: فلا يبقى في الصدور منه آية، ولا في المصاحف حرف. وأما القرآن فهو كلام الله. فمن قال: إن القرآن، الذي هو كلام الله، غير الله- فخطؤه وتلبيسه كخطإ من قال: إن الكلام غير المتكلم. وكذلك من قال: إن الله له مقروء غير القرآن الذي تكلم به، فخطؤه ظاهر. وكذلك: أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون غير المقروء الذي يقرؤه المسلمون- فقد أخطأ. وإن أراد بالقرآن مصدر (قرأ يقرأ قراءة وقرآنا) وقال: أردت القراءة غير المقروء، فلفظ القراءة مجمل قد يراد بالقراءة القرآن، وقد يراد بالقراءة المصدر، فمن جعل القراءة التي هي المصدر، قال: القارئ غير المقروء. كما يجعل التكلم الذي فعله غير الكلام الذي هو يقول، وأراد ب (الغير) أنه ليس هو إياه- فقد صدق. فإن الكلام الذي يتكلم به الإنسان يتضمن فعلا كالحركة، ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف والمعاني. ولهذا يجعل القول قسيما للفعل تارة، وقسيما منه أخرى. فالأول كما يقال: الإيمان قول وعمل. ومنه
قوله صلى الله عليه وسلم «1» : إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم.
ومنه قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: الأيمان والنذور، 15- باب إذا حنث ناسيا في الأيمان، حديث 1242، عن أبي هريرة.
(3/465)
 
 
[فاطر: 10] . ومنه قوله تعالى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ [يونس: 61] . وأمثال ذلك فيما يفرق فيه بين القول والعمل.
وأما دخول القول في العمل ففي مثل قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92- 93] . وقد فسروه بقوله: لا إله إلا الله.
ولما سئل «1» :
أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله.
مع
قوله «2» : الإيمان بضع وسبعون. والحياء شعبة من الإيمان. أفضلها وأعلاها قول: لا إله إلا الله. وأدناها إماطة الأذى عن الطريق
. ونظائر ذلك متعددة. وقد تنوزع فيمن حلف لا يعمل عملا، إذا قال قولا كالقراءة، هل يحنث؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره. بناء على هذا. فهذه الألفاظ التي فيها إجمال واشتباه إذا فصلت معانيها، وإلا وقع فيها نزاع واضطراب، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى. كلام تقيّ الدين رحمه الله تعالى.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب (الرد على الجهمية) : سألت أبي عن قوم يقولون (لما كلم الله موسى) : لم يتكلم بصوت. فقال أبي: بلى. تكلم جل ثناؤه بصوت. هذه الأحاديث نرويها كما جاءت. وقال أبي: حديث ابن مسعود «3» :
__________
(1)
أخرجه البخاريّ في: العتق، 2- باب أي الرقاب أفضل، حديث 1241 ونصه: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال «إيمان بالله وجهاد في سبيله» قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال «أغلاه ثمنا وأنفسها عند أهلها» قلت: فإن لم أفعل؟ قال «تعين صانعا أو تصنع لأخرق» قال: فإن لم أفعل؟ قال «تدع الناس من الشر، فإنها صدقة تصدّق بها على نفسك»
. (2) أخرجه أبو داود في: السنّة، 14- باب في ردّ الإرجاء، حديث 4676. [.....]
(3) لم أعثر على حديث في هذا الموضوع وبهذا اللفظ لعبد الله بن مسعود، وإنما وقفت على حديث لأبي هريرة.
أخرجه البخاريّ في: التفسير، 34- سورة سبأ، 1- باب حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، حديث 2015 ونصه: عن عمر قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: إن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان. إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا (للذي قال) الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.
فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع، هكذا بعضه فوق بعض ...
فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن. فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها. وربما ألقاها قبل أن يدركه. فيكذب معها مائة كذبة.
فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟
فصدّق تلك الكلمة التي سمع من السماء
.
(3/466)
 
 
إذا تكلم الله تعالى سمع له صوت كمر السلسلة على الصفوان. قال: وهذه الجهمية تنكره. وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس. ثم قال: حدثنا المحاربيّ عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبيد الله قال: إذا تكلم الله تبارك وتعالى بالوحي، سمع صوته أهل السماء فيخرون سجدا.
وقال السفارينيّ في (شرح العقيدة) : روى في إثبات الحرف والصوت أحاديث تزيد على أربعين حديثا. وأخرج الإمام أحمد غالبها، واحتج به. وأخرج الحافظ ابن حجر أيضا في (شرح البخاريّ) واحتج بها البخاريّ وغيره من أئمة الحديث. على أن الحق سبحانه يتكلم بحرف وصوت. وقد صححوا هذا الأصل واعتقدوه، واعتمدوا على ذلك، منزهين الله تعالى عما لا يليق بجلاله. من شبهات الحدوث وسمات النقص. كما قالوا في سائر الصفات، معتمدين على ما صح عندهم من صاحب الشريعة المعصوم في أقواله، الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام الواسطيّ ابن شيخ الحرمين الشافعيّ في (عقيدته) : إنني: كنت برهة من الدهر متحيرا في ثلاث مسائل: مسألة الصفات، ومسألة الفوقية، ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد. وكنت متحيرا في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك. من تأويل الصفات وتحريفها، أو إمرارها والوقوف فيها. أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل، ولا تشبيه ولا تمثيل. فأجد النصوص في كتاب الله وسنة رسوله ناطقة مبينة لحقائق هذه الصفات. وكذلك في إثبات العلوّ والفوقية، وكذلك في الحرف والصوت. ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم، منهم من تأول الاستواء بالقهر والاستيلاء. وتأول النزول بنزول الأمر. وتأول اليدين بالنعمتين والقدرتين. وتأول القدم بقدم صدق عند ربهم. وأمثال ذلك. ثم أحدهم مع ذلك يجلون كلام الله معنى قائما بالذات، بلا حرف ولا صوت ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم. ومعنى ذلك إلى هذه الأقوال أو بعضها قوم لهم في صدري منزلة. مثل بعض فقهاء الأشعرية الشافعيين. لأني على مذهب الشافعيّ رحمه الله تعالى، عرفت فرائض ديني وأحكامه. فأجد مثل هؤلاء الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال. وهم شيوخي. ولي فيهم الاعتقاد التام. لعلمهم وفضلهم. ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها. وأجد الكدر والظلمة منها. وأجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقرونا بها.
فكنت كالمتحير. المضطرب في تحيره. المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره.
وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول، مخافة الحصر
(3/467)
 
 
والتشبيه. ومع ذلك، فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله أجدها نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني. وأجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد صرح بها مخبرا عن ربه، واصفا له بها. ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص ويؤولها كما تأولها هؤلاء الفقهاء المتكلمون. ثم قال: والذين أولوا ما أولوا، هو أنهم ما فهموا في صفات الرب إلا ما يليق بالمخلوقين. فلذلك حرفوا الكلم عن مواضعه، وعطلوا ما وصفه الحق به نفسه. ولو علموا أن هذه الصفات هي كلها ثابتة له، كما يليق بجلاله وعظمته، لا على ما نعقل من صفات المخلوقين، لسلموا من التشبيه والتأويل المؤدي إلى التعطيل.
ثم قال: ومسألة الحرف والصوت تساق هذا المساق. فإن الله تعالى قد تكلم بالقرآن المجيد بجميع حروفه. فقال تعالى: المص [الأعراف: 1] . وقال: ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1] . وكذلك جاء في
الحديث «1» : فينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب
. وفي
الحديث: لا أقول (آلم) حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف.
فهؤلاء ما فهموا من كلام الله إلا ما فهموه من كلام المخلوقين. قالوا: إذا قلنا بالحرف فإن ذلك يؤدي إلى القول بالجوارح واللهوات. وكذلك إذا قلنا بالصوت أدى ذلك إلى الحلق والحنجرة. فعملوا بهذا من التخبيط كما عملوا فيما تقدم من الصفات. والتحقيق هو أن الله تعالى تكلم بالحروف كما يليق بجلاله وعظمته فإنه قادر- والقادر لا يحتاج إلى جوارح ولا إلى لهوات. وكذلك له صوت يليق به يسمع. ولا يفتقر ذلك الصوت المقدس إلى الحلق والحنجرة. فكلام الله كما يليق به، وصوته كما يليق به. ولا ننفي الحرف والصوت عن كلامه سبحانه، لافتقارهما منا إلى الجوارح واللهوات. فإنهما في جناب الحق لا يفتقران إلى ذلك. وهذا ينشرح الصدر له ويستريح الإنسان به من التعسف والتكلف بقوله: هذا عبارة عن ذلك. فإن قيل: هذا الذي يقرؤه القارئ هو عين قراءة الله وعين تكلمه هو؟ قلنا: لا. بل القارئ يؤدي كلام الله. والكلام إنما ينسب إلى من قاله مبتدئا، لا إلى من قاله مؤدّيا مبلغا. ولفظ القارئ في غير القرآن مخلوق، وفي القرآن لا يتميز اللفظ المؤدّي عن الكلام المؤدّى عنه. ولهذا منع السلف من قول
__________
(1)
أخرجه البخاري في: التوحيد، 32- باب قول الله تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
. ونصه: عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديّان
.
(3/468)
 
 
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
(لفظي بالقرآن مخلوق) لأنه لا يتميز. كما منعوا عن قول (لفظي بالقرآن غير مخلوق) فإن لفظ العبد في غير التلاوة مخلوق وفي التلاوة مسكوت عنه. كيلا يؤدي الكلام في ذلك إلى القول بخلق القرآن. وما أمر السلف بالسكوت عنه، يجب السكوت عنه. والله الموفق والمعين.
 
تنبيه:
قال في (العناية) : القراءة المشهورة في الآية رفع الجلالة الشريفة. وقرئ بنصبها في الشواذ. انتهى.
قال الحافظ ابن كثير: روى الحافظ أبو بكر بن مردويه أن رجلا جاء إلى أبي بكر بن عياش فقال: سمعت رجلا يقرأ: وكلم الله موسى تكليما. فقال أبو بكر: ما قرأ هذا إلا كافر. قرأت على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثّاب، وقرأ يحيى ابن وثّاب على أبي عبد الرحمن السلميّ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلميّ على عليّ بن أبي طالب، وقرأ عليّ بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكلّم الله موسى تكليما.
وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عيّاش، رحمه الله، على من قرأ كذلك، لأنه حرّف لفظ القرآن ومعناه. وكأن هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن الله كلم موسى عليه السلام، أو يكلم أحدا من خلقه. كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ: وكلم الله موسى تكليما. فقال له: يا ابن الخنا! كيف تصنع بقوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف: 143] يعني أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (4) : آية 165]
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)
رُسُلًا أي: كل هؤلاء النبيين أرسلناهم رسلا مُبَشِّرِينَ بالجنة لمن آمن وَمُنْذِرِينَ من النار لمن كفر لِئَلَّا لكيلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ يوم القيامة أي: معذرة يعتذرون بها قائلين: لولا أرسلت إلينا رسولا فيبيّن لنا شرائعك، ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك، لقصور القوّة البشرية عن إدراك جزئيات المصالح، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها. كما في قوله عز وجل: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ ...
(3/469)
 
 
[طه: 134] الآية. وإنما سميت حجة، مع استحالة أن يكون لأحد عليه، سبحانه، حجة في فعل من أفعاله، بل له أن يفعل ما يشاء كما يشاء- للتنبيه على أن المعذرة في القبول عنده تعالى، بمقتضى كرمه ورحمته لعباده، بمنزلة الحجة القاطعة التي لا مردّ لها. ولذلك قال تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] .
أفاده أبو السعود.
وفي الصحيحين «1» عن المغيرة: لا أحد أحبّ إليه العذر من الله. ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين. وقوله تعالى: بَعْدَ الرُّسُلِ أي: بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
متعلق ب (حجة) أو بمحذوف وقع صفة لها. وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثه الرسل. كما قال تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] . وفيه دليل لمذهب أهل السنة على أن معرفة الله تعالى، لا تثبت إلا بالسمع وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً يعني في انتقامه ممن خالف أمره وعصى رسله حَكِيماً في بعث الرسل للإنذار.
 
تنبيه:
أشارت الآية إلى بيان حاجة البشر إلى إرسال الرسل، وإلى وظيفتهم عليهم السلام. قال العلامة السيد محمد عبده، مفتى مصر في (رسالة التوحيد) في هذا المبحث: أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإنسان على قاعدة الإرشاد والتعليم، الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، علمه الكلام للتفاهم والكتاب
__________
(1)
أخرجه مسلم في: التوبة، حديث 35 ونصه: عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس أحد أحبّ إليه المدح من الله عز وجل. من أجل ذلك مدح نفسه. وليس أحد أغير من الله. من أجل ذلك حرم الفواحش. وليس أحد أحبّ إليه العذر من الله. من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل» .
وأخرجه البخاريّ في: التفسير، 6- سورة الأنعام، 7- باب لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ.
وفي: التفسير، 7- سورة الأعراف، 1- باب إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وفي: النكاح، 107- باب الغيرة.
وفي التوحيد، 15- باب قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ.
الحديث 2003
وكل طريق من هذه الطرق تنقص القطعة التي أوردها المؤلف وأخرجها مسلم، ضمن الحديث.
(3/470)
 
 
للتراسل- أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يعدّ لها، بمحض فضله، بعض من يصطفيه من خلقه؟ وهو أعلم حيث يجعل رسالته. يميزهم بالفطر السليمة ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه. والأمانة على مكنون سره. مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم، لفاضت له نفسه أو ذهبت بعقله جلالته وعظمه. فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العاملين. نهاية الشاهد وبداية الغائب.
فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها ثم يتلقون من أمره أن يحدّثوا عن جلاله، وما خفي على العقول من شؤون حضرته الرفيعة، بما يشاء أن يعتقده العباد فيه، وما قدّر أن يكون له مدخل في سعادتهم الأخروية، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه. معبرين عنه بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم. وأن يبلغوا عنه شرائع عامة.
تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم، في ذلك الكون المغيّب عن مشاعرهم بتفصيله، اللاصق علمه بأعماق ضمائرهم في إجماله. ويدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة وباطنة. ثم يؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات. حتى تقوم بهم الحجة ويتم الإقناع بصدق الرسالة. فيكونون بذلك رسلا من لدنه إلى خلقه، مبشرين ومنذرين.
لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه، وأبدع في كل كائن صنعه، وجاد على كل حيّ بما إليه حاجته، ولم يحرم من رحمته حقيرا ولا جليلا من خلقه- يكون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام المواهب التي اختص بها غيره- أن ينقذه من حيرته، ويخلصه من التخبط في أهم حياتيه والضلال في أفضل حاليه.
يقول قائل: ولم لم يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم، ولم يضع فيها الانقياد إلى العمل، وسلوك الطريق المؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة؟ وما هذا النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل، والغفلة عن موضوع البحث وهو النوع الإنسانيّ. ذلك النوع، على ما به، وما دخل في تقويم جوهره من الروح المفكر، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب الاستعداد باختلاف أفراده، وأن لا يكون كل فرد منه مستعدا لكل حال بطبعه، وأن يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال. فلو ألهم حاجاته كما تلهم الحيوانات، لم
(3/471)
 
 
يكن هو ذلك النوع، بل كان إمّا حيوانا آخر، كالنحل والنمل، أو ملكا من الملائكة.
ليس من سكان هذه الأرض.
ثم قال: إن كان الإنسان قد فطر على أن يعيش في جملة، ولم يمنح مع تلك الفطرة ما منحه النحل وبعض أفراد النمل مثلا من الإلهام الهادي إلى ما يلزم ذلك، وإنما ترك إلى فكره يتصرف فيه، كما فطر على الشعور بقاهر تنساق نفسه بالرغم عنها إلى معرفته، ولم يفض عليه، مع ذلك الشعور، عرفانه بذات ذلك القاهر ولا صفاته، وإنما ألقي به في مطارح النظر تحمله الأفكار في مجاريها. وترمي به إلى حيث يدري ولا يدري. وفي كل ذلك الويل على جامعته، والخطر على وجوده. أفهل مني هذا النوع بالنقص، ورزئ بالقصور عن مثل ما بلغه أضعف الحيوانات وأحطها في منازل الوجود؟ نعم، هو كذلك. لولا ما أتاه الصانع الحكيم من ناحية ضعفه.
الإنسان عجيب في شأنه: يصعد بقوة عقله إلى أعلى مراتب الملكوت، ويطاول بفكره أرفع معالم الجبروت. ويسامي بقوته ما يعظم عن أن يسامي من قوى الكون الأعظم. ثم يصغر ويتضاءل وينحط إلى أدنى درك من الاستكانة والخضوع، متى عرض له أمر ما، لم يعرف سببه ولم يدرك منشأه. ذلك لسرّ عرفه المستبصرون. واستشعرته نفوس الناس أجمعين.
من ذلك الضعف قيد إلى هواه. ومن تلك الضعة أخذ بيده إلى شرف سعادته.
أكمل الواهب الجواد لجملته، ما اقتضته حكمته في تخصيص نوعه، بما يميزه عن غيره، أن ينقص من أفراده. وكما جاد على كل شخص بالعقل المصرّف للحواس، لينظر في طلب اللقمة، وستر العورة والتوقي من الحر والبرد- جاد على الجملة بما هو أمسّ بالحاجة في البقاء، وآثر في الوقاية من غوائل الشقاء. وأحفظ لنظام الاجتماع الذي هو عماد كونه بالإجماع. منّ عليه بالنائب الحقيقيّ عن المحبة، بل الراجع بها إلى النفوس التي أقفرت منها. لم يخالف سنته فيه، من بناء كونه على قاعدة التعليم والإرشاد. غير أنه أتاه مع ذلك من أضعف الجهات فيه، وهي جهة الخضوع والاستكانة. فأقام له من بين أفراده مرشدين هادين. وميزهم من بينها بخصائص في أنفسهم لا يشركهم فيها سواهم. وأيد ذلك، زيادة في الإقناع، بآيات باهرات تملك النفوس، وتأخذ الطريق على سوابق العقول. فيستخذي الطامح. ويذل الجامح.
ويصطدم بها عقل العاقل فيرجع إلى رشده. وينبهر لها بصر الجاهل فيرتدّ عن غيه.
يطرقون القلوب بقوارع من أمر الله. ويدهشون المدارك ببواهر من آياته. فيحيطون العقول بما لا مندوحة من الإذعان له. ويستوي في الركون لما يجيئون به المالك
(3/472)
 
 
والمملوك، والسلطان والصعلوك، والعاقل والجاهل، والمفضول والفاضل. فيكون الإذعان لهم أشبه بالاضطراريّ منه بالاختياريّ النظريّ. يعلمونهم ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم. وما أراد أن يعلموه من شؤون ذاته وكمال صفاته.
وأولئك هم الأنبياء والمرسلون. فبعثه الأنبياء، صلوات الله عليهم، من متممات كون الإنسان. ومن أهم حاجاته في بقائه. ومنزلتها من النوع منزلة العقل من الشخص.
نعمة أتمها الله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.
ثم قال، في الكلام على وظيفة الرسل عليهم السلام: تبين مما تقدم في حاجة العالم الإنسانيّ إلى الرسل، أنهم من الأمم بمنزلة العقول من الأشخاص، وأن بعثتهم حاجة من حاجات العقول البشرية، قضت رحمة المبدع الحكيم بسدادها، ونعمة من واهب الوجود ميّز بها الإنسان عن بقية الكائنات من جنسه. ولكنها حاجة روحية وكل ما لامس الحسّ منها، فالقصد فيه إلى الروح وتطهيرها من دنس الأهواء الضالة وتقديم ملكاتها. أو إيداعها ما فيه سعادتها في الحياتين. أمّا تفصيل طرق المعيشة، والحذق في وجوه الكسب، وتطاول شهوات العقل إلى درك ما أعدّ للوصول إليه، من أسرار العلم- فذلك مما لا دخل للرسالات فيه. إلا من وجه العظة العامة، والإرشاد إلى الاعتدال فيه، وتقرير أن شرط ذلك كله أن لا يحدث ريبا في الاعتقاد بأن للكون إلها واحدا قادرا عالما حكيما متصفا بما أوجب الدليل أن يتصف به، وباستواء نسبة الكائنات إليه في أنها مخلوقة له وصنع قدرته. وإنما تفاوتها فيما اختص به بعضها من الكمال. وشرطه أن لا ينال شيء من تلك الأعمال السابقة أحدا من الناس بشرّ في نفسه أو عرضه أو ماله، بغير حق يقتضيه نظام عامة الأمة، على ما حدد في شريعتها.
يرشدون العقل إلى معرفة الله وما يجب أن يعرف من صفاته. ويبيّنون الحدّ الذي يجب أن يقف عنده في طلب ذلك العرفان. على وجه لا يشق عليه الاطمئنان إليه، ولا يرفع ثقته بما آتاه الله من القوة. يجمعون كلمة الخلق على إله واحد لا فرقة معه، ويخلون السبيل بينهم وبينه وحده. وينهضون نفوسهم إلى التعلق به في جميع الأعمال والمعاملات ويذكرونهم بعظمته بفرض ضروب من العبادات، فيما اختلف من الأوقات. تذكرة لمن ينسى. وتزكية مستمرة لمن يخشى. تقوّي ما ضعف منهم. وتزيد المستيقن يقينا.
يبيّنون للناس ما اختلفت عليه عقولهم وشهواتهم وتنازعته مصالحهم ولذاتهم.
فيفصلون في تلك المخاصمات بأمر الله الصادع. ويؤيدون، بما يبلغون عنه، ما تقوم
(3/473)
 
 
به المصالح العامة. ولا تفوت به المنافع الخاصة. يعودون بالناس إلى الألفة.
ويكشفون لهم سر المحبة. ويستلفتونهم إلى أن فيها انتظام شمل الجماعة.
ويفرضون عليهم مجاهدة أنفسهم، ليستوطنوها قلوبهم، ويشعروها أفئدتهم.
يعلمونهم لذلك أن يرعى كلّ حق الآخر، وإن كان لا يغفل حقه. وأن لا يتجاوز في الطلب حدّه. وأن يعين قويّهم ضعيفهم. ويمد غنيّهم فقيرهم. ويهدي راشدهم ضالّهم. ويعلم عالمهم جاهلهم:
يضعون لهم بأمر الله حدودا عامة. يسهل عليهم أن يردّوا إليها أعمالهم.
كاحترام الدماء البشرية إلا بحق. مع بيان الحق الذي تهدر له. وحظر تناول شيء مما كسبه الغير إلا بحق. مع بيان الحق الذي يبيح تناوله. واحترام الأعراض. مع بيان ما يباح وما يحرم من الأبضاع، ويشرعون لهم مع ذلك أن يقوّموا أنفسهم بالملكات الفاضلة كالصدق والأمانة والوفاء بالعقود والمحافظة على العهود والرحمة بالضعفاء والإقدام على نصيحة الأقوياء والاعتراف لكل مخلوق بحقه بلا استثناء.
يحملونهم على تحويل أهوائهم عن اللذائذ الفانية، إلى طلب الرغائب السامية، آخذين في ذلك كله بطرف من الترغيب والترهيب والإنذار والتبشير حسبما أمرهم الله جل شأنه.
يفضّلون في جميع ذلك للناس ما يؤهلهم لرضا الله