تفسير القاسمي محاسن التأويل 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: محاسن التأويل
المؤلف: محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي (المتوفى: 1332هـ)
 
المجلد الأول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
قال الإمام ابن جرير: إن الله، تعالى ذكره، وتقدست أسماؤه، أدّب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلّم: بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته، وجعل- ما أدّبه به من ذلك، وعلّمه إياه- منه لجميع خلقه: سنّة يستنّون بها، وسبيلا يتبعونه عليها، فبه افتتاح أوائل منطقهم، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم، حتى أغنت دلالة ما ظهر، من قول القائل: بسم الله، على ما بطن من مراده الذي هو محذوف. وذلك أن الباء مقتضية فعلا يكون لها جالبا، فإذا كان محذوفا يقدّر بما جعلت التسمية مبدأ له. والاسم هنا بمعنى التسمية- كالكلام بمعنى التكليم، والعطاء بمعنى الإعطاء- والمعنى: أقرأ بتسمية الله وذكره، وأفتتح القراءة بتسمية الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى. واللَّهِ علم على ذاته، تعالى وتقدس. قال ابن عباس: هو الذي يألهه كلّ شيء ويعبده وأصله «إلاه» بمعني مألوه أي معبود، فلما أدخلت عليه الألف واللام حذفت الهمزة تخفيفا لكثرته في الكلام، وبعد الإدغام فخّمت تعظيما- هذا تحقيق اللغويين.
(1/224)
 
 
والرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال الجوهريّ: هما اسمان مشتقان من الرحمة. ونظيرهما في اللغة «نديم وندمان» وهما بمعنى. ويجوز تكرير الاسمين إذا اختلف اشتقاقهما على جهة التوكيد، كما يقال: جادّ مجدّ إلّا أن الرَّحْمنِ اسم مخصص بالله لا يجوز أن يسمى به غيره. ألا ترى أنه قال: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: 110] فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره.
وقد ناقش في كون الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بمعنى واحد، العلّامة الشيخ محمد عبده المصريّ في مباحثه التفسيرية قائلا: إن ذلك غفلة نسأل الله أن يسامح صاحبها- ثم قال: - وأنا لا أجير لمسلم أن يقول، في نفسه أو بلسانه: إن في القرآن كلمة جاءت لتأكيد غيرها ولا معنى لها في نفسها، بل ليس في القرآن حرف جاء لغير معنى مقصود. والجمهور: على أن معنى الرحمن المنعم بجلائل النعم، ومعنى الرحيم المنعم بدقائقها. وبعضهم يقول: إن الرحمن هو المنعم بنعم عامة تشمل الكافرين مع غيرهم، والرحيم المنعم بالنعم الخاصة بالمؤمنين. وكل هذا تحكم باللغة مبنيّ على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. ولكن الزيادة تدل على الوصف مطلقا، فصيغة الرَّحْمنِ تدل على كثرة الإحسان الذي يعطيه، سواء كان جليلا أو دقيقا.
وأما كون أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأكثر حروفا أعظم من أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفا، فهو غير معنيّ ولا مراد، وقد قارب من قال: إن معنى الرَّحْمنِ المحسن بالإحسان العام. ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول الرحيم بالمؤمنين، ولعل الذي حمل من قال: إن الثاني مؤكد للأول- على قوله هذا- هو عدم الاقتناع بما قالوه من التفرقة، مع عدم التفطّن لما هو أحسن منه، ثم قال: والذي أقول: إن لفظ «رحمن» وصف فعليّ فيه معنى المبالغة- كفعّال- ويدل في استعمال اللغة على الصفات العارضة- كعطشان وغرثان وغضبان- وأما لفظ «رحيم» فإنه يدل في الاستعمال على المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا في الناس- كعليم وحكيم وحليم وجميل- والقرآن لا يخرج عن الأسلوب العربيّ البليغ في الحكاية عن صفات الله عز وجل التي تعلو عن مماثله صفات المخلوقين، فلفظ الرَّحْمنِ يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل وهي إفاضة النعم والإحسان، ولفظ الرَّحِيمِ يدل على منشأ هذه الرحمة والإحسان، وعلى أنها من الصفات الثابتة الواجبة، وبهذا المعنى لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر، ولا يكون الثاني مؤكّدا للأول. فإذا سمع العربيّ وصف الله جلّ ثناؤه ب الرَّحْمنِ، وفهم منه أنه المفيض للنعم فعلا، لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما- لأن الفعل قد
(1/225)
 
 
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
ينقطع إذا كان عارضا لم ينشأ عن صفة لازمة ثابتة- فعند ما يسمع لفظ الرَّحِيمِ يكمل اعتقاده على الوجه الذي يليق بالله تعالى ويرضيه سبحانه. انتهى.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1) : آية 2]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)
الْحَمْدُ لِلَّهِ أي الثناء بالجميل، والمدح بالكمال ثابت لله دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه. واللام في الْحَمْدُ للاستغراق أي استغراق جميع أجناس الحمد وثبوتها لله تعالى تعظيما وتمجيدا- كما
في الحديث: «اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله» .
قال الإمام ابن القيّم في «طريق الهجرتين» : الملك والحمد في حقه تعالى متلازمان. فكل ما شمله ملكه وقدرته شمله حمده، فهو محمود في ملكه، وله الملك والقدرة مع حمده. فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته، يستحيل خروجها عن حمده وحكمته. ولهذا يحمد سبحانه نفسه عند خلقه وأمره لينبّه عباده على أن مصدر خلقه وأمره عن حمده. فهو محمود على كل ما خلقه وأمر به حمد شكر وعبودية وحمد ثناء ومدح، ويجمعهما التبارك، فَتَبارَكَ اللَّهُ يشمل ذلك كله. ولهذا ذكر هذه الكلمة عقيب قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف: 54] . فالحمد أوسع الصفات وأعم المدائح. والطرق إلى العلم به في غاية الكثرة، والسبيل إلى اعتباره في ذرات العالم وجزئياته، وتفاصيل الأمر والنهي واسعة جدا، لأن جميع أسمائه، تبارك وتعالى، حمد، وصفاته حمد، وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أعدائه حمد، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد، والخلق والأمر إنما قام بحمده، ووجد بحمده، وظهر بحمده، وكان الغاية هي حمده، فحمده سبب ذلك وغايته ومظهره وحامله. فحمده روح كل شيء، وقيام كل شيء بحمده، وسريان حمده في الموجودات، وظهور آثاره فيه أمر مشهود بالأبصار والبصائر. - ثم قال-: وبالجملة فكل صفة علياء، واسم حسن، وثناء جميل، وكل حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عزّ وجلّ على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، وجميع ما يوصف به، ويذكر به، ويخبر عنه به فهو محامد له وثناء وتسبيح وتقديس، فسبحانه وبحمده لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه.
رَبِّ الْعالَمِينَ الرب يطلق على السيد المطاع وعلى المصلح وعلى المالك. -
(1/226)
 
 
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
تقول: ربّه يربّه فهو ربّ كما تقول: نمّ عليه ينمّ فهو نمّ- فهو صفة مشبهة، ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى التربية وهي: تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا. وصف به الفاعل مبالغة كما وصف بالعدل. والرب- باللام- لا يقال إلا لله عزّ وجلّ. وهو في غيره على التقييد بالإضافة- كربّ الدار- ومنه قوله تعالى: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ [يوسف: 50] إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يوسف: 23] .
والْعالَمِينَ جمع عالم وهو: الخلق كله وكل صنف منه. وإيثار صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع الأجناس. والتعريف لاستغراق أفراد كل منها بأسرها.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1) : آية 3]
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3)
إيرادهما عقد وصف الربوبية من باب قرن الترغيب بالترهيب الذي هو أسلوب التنزيل الحكيم.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1) : آية 4]
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
قرأ عاصم والكسائيّ بإثبات ألف مالِكِ والباقون بحذفها. قال الزمخشريّ:
ورجحت قراءة (ملك) لأنه قراءة أهل الحرمين، وهم أولى الناس بأن يقرءوا القرآن غضا طريا كما أنزل، وقراؤهم الأعلون رواية وفصاحة. ولقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] فقد وصف ذاته بأنه الملك يوم القيامة. والقرآن يتعاضد بعضه ببعض، وتتناسب معانيه في المواد. وثمة مرجحات أخرى.
وقال بعضهم: إن قراءة مالِكِ أبلغ، لأن الملك هو الذي يدبر أعمال رعيته العامة، ولا تصرّف له بشيء من شؤونهم الخاصة. وتظهر التفرقة في عبد مملوك في مملكة لها سلطان، فلا ريب أن مالكه هو الذي يتولى جميع شؤونه دون سلطانه.
ومن وجوه تفضيلها: إنها تزيد بحرف، ولقارئ القرآن بكل «1» حرف عشر حسنات
__________
(1)
أخرج الترمذي في ثواب القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر. عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» .
(1/227)
 
 
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
- كما رواه الترمذيّ عن ابن مسعود بإسناد صحيح- وكلاهما صحيح متواتر في السبع.
والدِّينِ الحساب والمجازاة بالأعمال. ومنه: «كما تدين تدان» أي: مالك أمور العالمين كلها في يوم الدين. وتخصيصه بالإضافة إمّا لتعظيمه وتهويله، أو لبيان تفرده تعالى بإجراء الأمر وفصل القضاء فيه.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1) : آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
قال الطبريّ: أي لك، اللهم، نخشع ونذلّ ونستكين. إقرارا لك بالربوبية لا لغيرك- قال- والعبودية عند جميع العرب أصلها الذلة، وأنها تسمّي الطريق المذلل الذي قد وطئته الأقدام، وذلّلته السابلة «معبّدا» ومنه قيل للبعير المذلل بالركوب في الحوائج «معبّد» ومنه سمي العبد «عبدا» لذلّته لمولاه انتهى.
وفيه إعلام بما صدع به الإسلام من تحرير الأنفس لله تعالى وتخليصها لعبادته وحده. أعني: أن لا يشرك شيئا ما معه، لا في محبته كمحبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب، فإن كل ذلك إنما يستحقه فاطر الأرض والسموات وحده. وذلك أن لفظ العبادة يتضمن كمال الذّل بكمال الحب. فلا بد أن يكون العابد محبّا للإله المعبود كمال الحب، ولا بد أن يكون ذليلا له كمال الذل، وهما لا يصلحان إلا لله وحده. فهو الإله المستحق للعبادة، الذي لا يستحقها إلّا هو، وهي كمال الحب والذل والإجلال والتوكل والدعاء بما لا يقدر عليه إلّا هو، تعالى. وقد أشار لذلك تقديم المفعول، فإن فيه تنبيها على ما يجب للعبد من تخصيصه ربّه بالعبادة، وإسلامه وجهه لله وحده، لا كما كان عليه المشركون الذين ظهر النبي صلى الله عليه وسلّم عليهم، فقد كانوا متفرقين في عبادتهم، متشاكسين في وجهتهم:
منهم من يعبد الشمس والقمر، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الأحبار والرهبان، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار ... إلى غير ذلك، كما بينه القرآن الكريم في قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ [فصلت: 37] الآية. وفي قوله تعالى:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا
(1/228)
 
 
سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ
[سبأ: 40- 41] . وفي قوله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ [المائدة: 116] الآية.
وقوله تعالى: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً [آل عمران: 80] الآية. وفي قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 19- 20] .
وحديث «1» أبي واقد الليثيّ قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها «ذات أنواط» فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الله أكبر، إنها السنن، قلتم- والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ- إلى قوله: وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الأعراف: 138- 140] رواه الترمذيّ وصححه.
وأما عبادتهم للأحبار والرهبان ففي قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31] ،
فروى الإمام أحمد والترمذي «2» عن عديّ بن حاتم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلّم يقرأ هذه الآية اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، قال: «أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمون، ويحلّون ما حرّم الله فتحلّونه؟» فقلت: بلى قال: «فتلك عبادتهم» .
فالعبادة أنواع وأصناف، ولا يتم الإيمان إلّا بتوحيدها كلها لله سبحانه. وقد بينت السنة أن الدعاء هو العبادة. أي ركنها المهم الأعظم. وأصله من التنزيل الكريم قوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي
__________
(1)
أخرجه الترمذي في: الفتن، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم. وهذا نصه: عن أبي واقد الليثيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم. فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم:
«سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ. والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم»
. (2)
أخرج الترمذيّ في: التفسير، سورة التوبة، حدثنا الحسين بن مرثد. عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم وفي عنقي صليب من ذهب. فقال: «يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن» . وسمعته يقرأ في سورة براءة: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، قال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم. ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه» .
(1/229)
 
 
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
[غافر: 60] ، فسماه عبادة.
وفي الخبر: «الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل» «1» .
قال شمس الدين بن القيم: ولهذا كان العبد مأمورا في كل صلاة أن يقول:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ والشيطان يأمر بالشرك، والنفس تطيعه في ذلك، فلا تزال النفس تلتفت إلى غير الله، إما خوفا منه، أو رجاء له، فلا يزال العبد مفتقرا إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك، ولذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه، وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلا وندا يحبه، ويخافه، ويرجوه، يذل ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويؤثر مرضاته، والمؤثر لا يرضى بإيثاره انتهى.
(فائدة) قال بعض السلف: الفاتحة سرّ القرآن، وسرّها هذه الكلمة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: فالأول تبرّؤ من الشرك، والثاني تبرّؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله عزّ وجلّ. وهذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123] ، قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا [الملك: 29] ، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 9] .
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1) : آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
أي ألهمنا الطريق الهادي، وأرشدنا إليه، ووفقنا له.
قال الإمام الراغب في تفسيره: «الهداية دلالة بلطف. ومنه الهدية، وهوادي الوحش وهي متقدّماتها لكونها هادية لسائرها. وخص ما كان دلالة بفعلت نحو:
هديته الطريق، وما كان من الإعطاء بأفعلت نحو أهديت الهدية، ولما يصور العروس على وجهين: قيل فيه: هديت وأهديت. فإن قيل: كيف جعلت الهدى دلالة بلطف وقد قال تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 23] وقال تعالى:
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ [الحج: 4] قيل:
__________
(1)
أخرج الإمام أحمد في المسند، 4/ 403. عن أبي موسى الأشعري قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات ليلة فقال: «أيها الناس. اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل» فقال له من شاء أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: «قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم» .
(1/230)
 
 
إن ذلك حسب استعمالهم اللفظ على التهكم كما قال:
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحيّة بينهم ضرب وجيع!
والهداية هي الإرشاد إلى الخيرات قولا وفعلا، وهي من الله تعالى على منازل بعضها يترتب على بعض، لا يصح حصول الثاني إلّا بعد الأول، ولا الثالث إلّا بعد الثاني. فأول المنازل إعطاؤه العبد القوى التي بها يهتدي إلى مصالحه إما تسخيرا وإما طوعا- كالمشاعر الخمسة والقوة الفكرية، وبعض ذلك قد أعطاه الحيوانات، وبعض خصّ به الإنسان، وعلى ذلك دلّ قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] ، وقوله تعالى: الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى: 3] ، وهذه الهداية إما تسخير وإما تعليم، وإلى نحوه أشار بقوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68] ، وقوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: 5] ، وقال في الإنسان، بما أعطاه من العقل، وعرفه من الرشد: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ [الإنسان: 3] وقال:
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] ، وقال في ثمود: فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: 17] ، وثانيهما الهداية بالدعاء وبعثه الأنبياء عليهم السلام.
وإياها عنى بقوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [السجدة: 24] .
وبقوله: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: 7] ، وهذه الهداية تنسب تارة إلى الله عز وجل، وتارة إلى النبيّ عليه السّلام، وتارة إلى القرآن. قال الله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] .
وثالثها هداية يوليها صالحي عباده بما اكتسبوه من الخيرات، وهي الهداية المذكورة في قوله عز وجل: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ، وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ [الحج: 24] . وقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] وقوله: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: 69] .
وهذه الهداية هي المعنيّة بقوله: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ [الحديد: 28] .
ويصح أن ننسب هذه الهداية إلى الله عز وجل فيقال: هو آثرهم بها من حيث إنه هو السبب في وصولهم إليها. ويصح أن يقال: اكتسبوها من حيث أنهم توصلوا إليها باجتهادهم. فمن قصد سلطانا مسترفدا فأعطاه، يصح أن يقال: إن السلطان خوّله.
ويصح أن يقال: فلان اكتسب بسعيه، ولانطواء ذلك على الأمرين، قال تعالى:
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد: 17] ، وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ [يونس: 9] . فنبه أن ذلك بجهدهم وبفضله جميعا.
(1/231)
 
 
وهذه الهداية يصح أن يقال: هي مباحة للعقلاء كلهم، ويصح أن يقال: هي محظورة إلّا على أوليائه، لما كان في إمكان جميع العقلاء أن يترشحوا لتناولها. ومن ذلك قيل: إنها لا يسهل تناولها قبل أن يتشكل الإنسان بشكل مخصوص، بتقديم عبادات. وقد قال بعض المحققين: الهدى من الله كثير، ولا يبصره إلّا البصير، ولا يعمل به إلّا اليسير. ألا ترى إلى نجوم السماء ما أكثرها ولا يهتدي بها إلا العلماء.
وقال بعض الأولياء: إن مثل هداية الله مع الناس كمثل سيل مرّ على قلات وغدران، فيتناول كلّ قلت منها بقدر سعته- ثم تلا قوله- أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرعد: 17] وقال بعضهم: هي كمطر أتى على أرضين فينتفع كل أرض بقدر ترشيحها للانتفاع به.
(والمنزلة الرابعة) من الهداية التمكين من مجاورته في دار الخلد، وإياها عنى الله بقوله وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف: 43] . فإذا ثبت ذلك فمن الهداية ما لا ينفى عن أحد بوجه. ومنها ما ينفى عن بعض ويثبت لبعض، ومن هذا الوجه قال تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلّم:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] . وقال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة: 272] ، وقال: وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ [الروم: 53] . فإنّه عنى الهداية- التي هي التوفيق وإدخال الجنة- دون التي هي الدعاء لقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] . وقال في الأنبياء: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [الأنبياء: 73] . فقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فسّر على وجوه بحسب أنظار مختلفة إلى الوجوه المذكورة: (الأول) أنه عنى الهداية العامة، وأمر أن ندعو بذلك- وإن كان هو قد فعله لا محالة- ليزيدنا ثوابا بالدعاء، كما أمرنا أن نقول: اللهم صلّ على محمد. (الثاني) قيل: وفقنا لطريقة الشرع. (الثالث) احرسنا عن استغواء الغواة واستهواء الشهوات، واعصمنا من الشبهات. (الرابع) زدنا هدى استنجاحا لما وعدت بقولك: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: 11] . وقولك: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: 17] .
(الخامس) قيل: علمنا العلم الحقيقيّ فذلك سبب الخلاص، وهو المعبّر عنه بالنور في قوله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ [النور: 35] (السادس) قيل: هو سؤال الجنة، لقوله تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ [محمد: 4- 5] . وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ [يونس: 9] الآية. فهذه الأقاويل اختلفت
(1/232)
 
 
باختلاف أنظارهم إلى أبعاض الهداية وجزئياتها، والجميع يصح أن يكون مرادا بالآية- إذ لا تنافي بينها- وبالله التوفيق» كلام الراغب. وبه يعلم تحقيق معنى الهداية في سائر مواقعها في التنزيل الكريم، وأن الوجوه المأثورة في آية ما- إذا لم تتناف- صح إرادتها كلها، ومثل هذا يسمى: اختلاف تنوّع لا اختلاف تضادّ.
كما أشار لذلك شيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مبحث له مهم، نأثره عنه هنا، لما فيه من الفوائد الجليلة. قال رحمه الله:
ينبغي أن يعلم أن الاختلاف الواقع من المفسرين وغيرهم على وجهين:
أحدهما ليس فيه تضادّ وتناقض، بل يمكن أن يكون كل منهما حقا، وإنما هو اختلاف تنوع أو اختلاف في الصفات أو العبارات. وعامة الاختلاف الثابت عن مفسري السلف من الصحابة والتابعين هو من هذا الباب. فإن الله سبحانه إذا ذكر في القرآن اسما مثل قوله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فكل من المفسرين يعبّر عن الصراط المستقيم بعبارة تدلّ بها على بعض صفاته، وكل ذلك حق بمنزلة ما يسمى الله ورسوله وكتابه بأسماء، كل اسم منها يدل على صفة من صفاته. فيقول بعضهم:
الصراط المستقيم كتاب الله أو اتباع كتاب الله. ويقول الآخر: الصراط المستقيم هو الإسلام أو دين الإسلام. ويقول الآخر: الصراط المستقيم هو السنّة والجماعة. ويقول الآخر: الصراط المستقيم طريق العبودية، أو طريق الخوف والرضا والحب، وامتثال المأمور، واجتناب المحظور، أو متابعة الكتاب والسنّة، أو العمل بطاعة الله، أو نحو هذه الأسماء والعبارات. ومعلوم أن المسمى هو واحد، وإن تنوعت صفاته وتعددت أسماؤه وعباراته، وكثير من التفسير والترجمة تكون من هذا الوجه. ومنه قسم آخر وهو أن يذكر المفسر والمترجم معنى اللفظ على سبيل التمثيل لا على سبيل الحدّ والحصر- مثل أن يقول قائل من العجم: ما معنى الخبز؟ فيشار له إلى رغيف- وليس المقصود مجرد عينه، وإنما الإشارة إلى تعيين هذا الشخص تمثيلا. وهذا كما إذا سئلوا عن قوله: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: 32] . أو عن قوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128] . أو عن الصالحين أو الظالمين، ونحو ذلك من الأسماء العامة الجامعة التي قد يتعسّر أو يتعذّر على المستمع أو المتكلم ضبط مجموع معناه، إذ لا يكون محتاجا إلى ذلك فيذكر له من أنواعه وأشخاصه ما يحصل به غرضه، وقد يستدلّ به على نظائره. فإن الظالم لنفسه هو تارك المأمور فاعل المحظور. والمقتصد هو فاعل الواجب وتارك المحرّم. والسابق هو فاعل الواجب والمستحب وتارك المحرم والمكروه. فيقول المجيب بحسب حاجة السائل: الظالم الذي يفوّت الصلاة، أو
(1/233)
 
 
الذي لا يسبغ الوضوء، أو الذي لا يتمّ الأركان ونحو ذلك. والمقتصد الذي يصلي في الوقت- كما أمر- والسابق بالخيرات الذي يصلي الصلاة بواجباتها ومستحباتها ويأتي بالنوافل المستحبة معها. وكذلك يقول مثل هذا في الزكاة والصوم والحج وسائر الواجبات. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلّا الله، فمن ادعى علمه فهو كاذب. والصحابة أخذوا عن الرسول لفظ القرآن ومعناه كما أخذوا عنه السنة، وإن كان من الناس من غيّر السنة، فمن الناس من غير بعض معاني القرآن- إذ لم يتمكن من تغيير لفظه. وأيضا فقد يخفى على بعض العلماء بعض معاني القرآن، كما خفي عليه بعض السنة، فيقع خطأ المجتهدين من هذا الباب والله أعلم.
وتقدم في مقدمة الكتاب بسط لهذا البحث فارجع إليه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضا في تحقيق هذه الآية:
«كل عبد مضطر دائما إلى مقصود هذا الدعاء وهو هداية الصراط المستقيم.
فإنه لا نجاة من العذاب إلّا بهذه الهداية، ولا وصول إلى السعادة إلّا به، فمن فاته هذا الهدى فهو: إما من المغضوب عليهم، وإما من الضالين، وهذا الاهتداء لا يحصل إلّا بهدى الله مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف: 17] . فإن الصراط المستقيم: أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل، ولا تفعل ما نهيت عنه. وهذا يحتاج في كل وقت إلى أن تعلم: ما أمر به في ذلك الوقت، وما نهى عنه، وإلى أن يحصل لك إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة لترك المحظور. والصراط المستقيم قد فسّر بالقرآن والإسلام وطريق العبودية، وكل هذا حق، فهو موصوف بهذا وبغيره، فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته، بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر، فإن الله يرزقه، وإن انقطع رزقه مات- والموت لا بدّ منه- فإن كان من أهل الهداية، كان سعيدا بعد الموت، وكان الموت موصلا له إلى السعادة الدائمة الأبدية، فيكون رحمة في حقه. وكذلك النصر- إذا قدّر أنه قهر وغلب حتى قتل- فإذا كان من أهل الهداية إلى الاستقامة مات شهيدا، وكان القتل من تمام نعمة الله عليه. فتبين أن حاجة العباد إلى الهدى أعظم من حاجتهم إلى الرزق والنصر، بل لا نسبة بينهما، فلهذا كان هذا الدعاء مفروضا عليهم في الصلاة- فرضها ونفلها- وأيضا فإن هذا الدعاء يتضمن الرزق والنصر:
(1/234)
 
 
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2- 3] وكان من المتوكلين وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ [الطلاق: 3] ، وكان ممن ينصره الله ورسوله ومن ينصر الله ينصره وكان من جند الله، وجند الله هم الغالبون. فالهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر. فتبين أن هذا الدعاء هو الجامع لكل مطلوب تحصل به كل منفعة، وتندفع به كل مضرة.
(فائدة) الصراط المستقيم أصله الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ويستعار لكل قول أو عمل يبلغ به صاحبه الغاية الحميدة. فالطريق الواضح للحسّ، كالحق للعقل، في أنه: إذا سير بهما أبلغا السالك النهاية الحسنى.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (1) : آية 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
أي: بطاعتك وعبادتك، وهم المذكورون في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء: 69] .
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قال الأصفهانيّ: وإنما ذكر تعالى هذه الجملة لأن الكفار قد شاركوا المؤمنين في إنعام كثير عليهم، فبين بالوصف أن المراد بالدعاء ليس هو النعم العامة، بل ذلك نعمة خاصة. ثم إن المراد بالمغضوب عليهم والضالين: كلّ من حاد عن جادة الإسلام من أيّ فرقة ونحلة. وتعيين بعض المفسرين فرقة منهم من باب تمثيل العام بأوضح أفراده وأشهرها، وهذا هو المراد بقول ابن أبي حاتم: لا أعلم بين المفسرين اختلافا في أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى.
(فوائد) الأولى: يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: «آمين» ومعناه:
اللهم استجب، أو كذلك فليكن، أو كذلك فافعل. وليس من القرآن. بدليل أنه لم يثبت في المصاحف. والدليل على استحباب التأمين ما
رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ «1» عن وائل بن حجر قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ غير المغضوب عليهم
__________
(1) أخرجه الترمذيّ في: الصلاة، باب ما جاء في التأمين. وأبو داود في: الصلاة، باب التأمين وراء الإمام، حديث 932. والإمام أحمد في مسنده.
(1/235)
 
 
ولا الضالين فقال: «آمين» مدّ بها صوته» . ولأبي داود: رفع بها صوته. قال الترمذيّ:
هذا حديث حسن، وفي الباب عن عليّ وأبي هريرة، وروي عن عليّ وابن مسعود وغيرهم.
وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا تلا غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قال «آمين» حتى يسمع من يليه من الصف الأول» «1» . رواه أبو داود.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه» «2» .
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعا: «إذا قال- يعني الإمام- ولا الضالين فقولوا: آمين، يجبكم الله» «3» .
الثانية: في ذكر ما اشتملت عليه هذه السورة من العلوم:
اعلم أن هذه السورة الكريمة قد اشتملت- وهي سبع آيات- على حمد الله تعالى، وتمجيده، والثناء عليه: بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرّع إليه والتبرؤ من حولهم وقوتهم، وإلى إخلاص العبادة له، وتوحيده بالألوهية، تبارك وتعالى، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم- وهو الدين القويم- وتثبيتهم عليه حتى يفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين.
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم والضالون.
قال العلامة الشيخ محمد عبده في تفسيره:
__________
(1) أخرجه أبو داود في: الصلاة، باب التأمين وراء الإمام، حديث 934.
(2) أخرجه البخاري في: الأذان، باب جهر الإمام بالتأمين. ومسلم في: الصلاة، حديث، 72.
(3)
أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث 62 ونصه: عن أبي موسى الأشعريّ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطبنا فبيّن لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا، فقال «إذا صليتم فأقيموا صفوفكم. ثم ليؤمكم أحدكم.
فإذا كبر فكبروا. وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين. يجبكم الله. فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم»
.
(1/236)
 
 
الفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن. وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها. ولست أعني بهذا ما يعبرون عنه بالإشارة ودلالة الحروف كقولهم: إن أسرار القرآن في الفاتحة، وأسرار الفاتحة في البسملة، وأسرار البسملة في الباء، وأسرار الباء في نقطتها! فإن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه عليهم الرضوان، ولا هو معقول في نفسه. وإنما هو من مخترعات الغلاة الذين ذهب بهم الغلوّ إلى إعدام القرآن خاصته، وهي البيان. - قال-: وبيان ما أريد: أن ما نزل القرآن لأجله أمور:
أحدها التوحيد: لأن الناس كانوا كلهم وثنيين- وإن كان بعضهم يدّعى التوحيد- ثانيها وعد من أخذ به، وتبشيره بحسن المثوبة، ووعيد من لم يأخذ به، وإنذاره بسوء العقوبة. والوعد يشمل ما للأمة وما للأفراد، فيعم نعم الدنيا والآخرة وسعادتهما. والوعيد- كذلك- يشمل نقمهما وشقاءهما. فقد وعد الله المؤمنين:
بالاستخلاف في الأرض، والعزّة، والسلطان، والسيادة. وأوعد المخالفين، بالخزي والشقاء في الدنيا. كما وعد في الآخرة بالجنة والنعيم وأوعد بنار الجحيم.
ثالثها العبادة التي تحيي التوحيد في القلوب وتثبته في النفوس.
رابعها بيان سبيل السعادة وكيفية السير فيه الموصل إلى نعم الدنيا والآخرة.
خامسها قصص من وقف عند حدود الله تعالى وأخذ بأحكام دينه، وأخبار الذين تعدوا حدوده ونبذوا أحكام دينه ظهريا لأجل الاعتبار، واختيار طريق المحسنين.
هذه هي الأمور التي احتوى عليها القرآن، وفيها حياة الناس وسعادتهم الدنيوية والأخروية، والفاتحة مشتملة عليها إجمالا بغير ما شك ولا ريب.
فأمّا التوحيد ففي قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لأنه ناطق بأن كل حمد وثناء يصدر عن نعمة ما فهو له تعالى، ولا يصح ذلك إلّا إذا كان سبحانه مصدر كلّ نعمة في الكون تستوجب الحمد، ومنها نعمة الخلق والإيجاد والتربية والتنمية. ولم يكتف باستلزام العبارة لهذا المعنى فصرّح به بقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ. ولفظ «رب» ليس معناه المالك والسيد فقط، بل فيه معنى التربية والإنماء. وهو صريح بأن كل نعمة يراها الإنسان في نفسه وفي الآفاق منه عزّ وجلّ. فليس في الكون متصرف
(1/237)
 
 
بالإيجاد، والإشقاء، والإسعاد سواه. ثم إن التوحيد أهم ما جاء لأجله الدين. ولذلك لم يكتف في الفاتحة بمجرد الإشارة إليه، بل استكمله وبقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فاجتث بذلك جذور الشرك والوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم، وهي اتخاذ أولياء من دون الله تعتقد لهم السلطة الغيبية، يدعون لذلك من دون الله، ويستعان بهم على قضاء الحوائج في الدنيا، ويتقرب بهم إلى الله زلفى. وجميع ما في القرآن من آيات التوحيد ومقارعة المشركين هو تفصيل لهذا الإجمال.
«وأما الوعد والوعيد: فالأول منهما مطويّ في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فذكر الرحمة في أول الكتاب، وهي التي وسعت كل شيء. وعد بالإحسان- لا سيما وقد كررها مرة ثانية- تنبيها لنا على أن أمره إيانا بتوحيده وعبادته رحمة منه سبحانه بنا، لأنه لمصلحتنا ومنفعتنا. وقوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يتضمن الوعد والوعيد معا، لأن معنى الدين الخضوع، أي: إن له تعالى في ذلك اليوم السلطان المطلق والسيادة التي لا نزاع فيها، لا حقيقة ولا ادعاء، وإن العالم كله يكون فيه خاضعا لعظمته- ظاهرا وباطنا- يرجو رحمته، ويخشى عذابه، وهذا يتضمن الوعد والوعيد. أو معنى الدين الجزاء وهو: إما ثواب للمحسن، وإما عقاب للمسيء، وذلك وعد ووعيد. وزد على ذلك أنه ذكر بعد ذلك الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وهو الذي من سلكه فاز، ومن تنكبه هلك. وذلك يستلزم الوعد والوعيد.
وأما العبادة، فبعد أن ذكرت في مقام التوحيد بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، أوضح معناها بعض الإيضاح بقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي: إنه قد وضع لنا صراطا سيبيّنه ويحدده. ويكون مناط السعادة في الاستقامة عليه، والشقاء في الانحراف عنه. وهذه الاستقامة عليه هي روح العبادة. ويشبه هذا قوله تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1- 3] . فالتواصي بالحق والصبر هو كمال العبادة بعد التوحيد. والفاتحة بجملتها تنفخ روح العبادة في المتدبر لها. وروح العبادة هي إشراب القلوب خشية الله، وهيبته، والرجاء لفضله، لا الأعمال المعروفة من فعل وكفّ وحركات اللسان والأعضاء. فقد ذكرت العبادة في الفاتحة قبل ذكر الصلاة وأحكامها، والصيام وأيامه، وكانت هذه الروح في المسلمين قبل أن يكلفوا بهذه الأعمال البدنية، وقبل نزول أحكامها التي فصلت في القرآن تفصيلا ما، وإنما الحركات والأعمال مما يتوسل به إلى حقيقة العبادة. ومخ العبادة الفكر والعبرة، وأما الأخبار والقصص ففي قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ تصريح بأن هنالك قوما تقدموا وقد شرع الله شرائع لهدايتهم، وصائح يصيح: ألا فانظروا في الشؤون
(1/238)
 
 
العامة التي كانوا عليها واعتبروا بها، كما قال تعالى لنبيه يدعوه إلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] حيث بيّن أن القصص إنما هو للعظة والاعتبار. وفي قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ تصريح بأن من دون المنعم عليهم فريقان: فريق ضل عن صراط الله، وفريق جاحده، وعاند من يدعو إليه، فكان محفوفا بالغضب الإلهيّ، والخزي في هذه الحياة الدنيا. وباقي القرآن يفصل لنا في أخبار الأمم هذا الإجمال على الوجه الذي يفيد العبرة، فيشرح حال الظالمين الذين قاوموا الحق، وحال الذين حافظوا عليه وصبروا على ما أصابهم في سبيله.
فتبين من مجموع ما تقدم: أن الفاتحة قد اشتملت إجمالا على الأصول التي يفصلها القرآن تفصيلا. فكان إنزالها أولا موافقا لسنة الله تعالى في الإبداع، وعلى هذا تكون الفاتحة جديرة بأن تسمى «أم الكتاب» .
الثالثة: مما صح في فضلها من الأخبار: ما
رواه البخاريّ في صحيحه عن أبي سعيد بن المعلّى رضي الله عنه قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلّم فلم أجبه. فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي. فقال: ألم يقل الله اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ؟ - ثم قال لي: «لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟» ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن نخرج، قلت: يا رسول الله ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن. قال:
«الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» «1» .
وروى الإمام أحمد والترمذيّ بإسناد حسن صحيح عن أبي هريرة، نحوه، غير أن القصة مع أبيّ بن كعب، وفي آخره: «والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، إنها السبع المثاني» «2»
. واستدل بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض، كما هو المحكي عن كثير من العلماء منهم: إسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن العربيّ وابن الحضار من المالكية، وذلك بيّن واضح.
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: التفسير، باب ما جاء في فاتحة الكتاب.
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده. والترمذي في: ثواب القرآن، باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب.
(1/239)
 
 
وروى البخاريّ عن أبي سعيد الخدريّ قال: كنا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحيّ سليم، وإن نفرنا غيب، فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية. فرقاه، فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبنا، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية، أو كنت ترقى؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب. قلنا: لا تحدثوا شيئا حتى نأتي، أو نسأل، النبي صلى الله عليه وسلّم. فلما قدمنا المدينة، ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلّم فقال: «وما كان يدريه أنها رقية؟ اقسموا واضربوا لي بسهم» «1» . وهكذا رواه مسلم وأبو داود.
وفي بعض روايات مسلم: أن أبا سعيد الخدريّ هو الذي رقى ذلك السليم- يعني اللديغ، يسمونه بذلك تفاؤلا-.
وروى مسلم والنسائيّ عن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلّم سمع نقيضا من فوقه، فرفع فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم. فنزل منه ملك. فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم. فسلّم وقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبيّ قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته «2» .
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (ثلاثا) غير تمام» «3» فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام. فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول:
«قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله، حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال مجدني عبدي- وقال مرّة فوّض إليّ عبدي- فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل»
. ويكفي من شرح الفاتحة هذا المقدار الجليل، والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.
__________
(1) أخرجه البخاريّ في: فضائل القرآن، باب فاتحة الكتاب. [.....]
(2) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث 254.
(3) أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث 38.
(1/240)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
سورة البقرة
جميعها مدنيّ بلا خلاف. وآيها مائتان وست وثمانون. وقد صح في فضلها عدة أخبار:
منها ما
في مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذيّ والنسائيّ عن أبي هريرة رضى الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» «1»
. وقال الترمذيّ: حسن صحيح.
وروى ابن حبان في صحيحه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم. «إن لكل شيء سناما، وإن سنام القرآن البقرة، وإن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام» .
وروى مسلم عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صوافّ تحاجّان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة» «2» .
(وقوله الزهراوين: أي المنيرتين- في الإعجاز أو في وفرة الأحكام- والغياية:
ما أظلك من فوقك. والفرق: القطعة من الشيء. والصواف: المصطفة. والبطلة:
السحرة. ومعنى لا تستطيعها: لا تستطيع النفوذ في قارئها، أو لا يمكنهم حفظها.
والله أعلم) .
__________
(1) أخرجه الترمذيّ في: ثواب القرآن، باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسيّ.
(2) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث 252.
(1/241)
 
 
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1)
أعلم أن للناس في هذا وما يجرى مجراه من الفواتح مذهبين:
الأول أن هذا علم مستور، وسرّ محجوب، أستأثر الله تبارك وتعالى به فهو من المتشابه. ولم يرتض هذا كثير من المحققين وقالوا: لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوما للخلق. واحتجوا بأدله عقلية ونقلية، بسطها العلامة الفخر.
(المذهب الثاني) مذهب من فسرها، وتكلم فيما يصح أن يكون مرادا منها، وهو ما للجمهور. وفيه وجهان: (الأول) وعليه الأكثر: أنها أسماء للسور.
(الثاني) أن يكون ورود الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد: كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدّى بالقرآن وبغرابة نظمه، وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلوّ عليهم- وقد عجزوا عنه عن آخرهم- كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم، ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه، ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله- بعد المراجعات المتطاولة- وهم أمراء الكلام، وزعماء الحوار، وهم الحراص على التساجل في اقتضاب الخطب، والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز، ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة كلّ ناطق، وشقت غبار كلّ سابق، ولم يتجاوز الحدّ الخارج من قوى الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء إلّا لأنه ليس بكلام البشر، وإنه كلام خالق القوى والقدر. قاله الزمخشريّ.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 2]
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
أي: هذا القرآن لا شك أنه من عند الله تعالى كما قال تعالى في السجدة الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [السجدة: 1- 2] . قال بعض المحققين: اختصاص ذلك بالإشارة للبعيد حكم عرفيّ لا وضعيّ، فإن العرب تعارض بين اسمي الإشارة. فيستعملون كلا منهما مكان الآخر، وهذا معروف في كلامهم.
وفي التنزيل من ذلك آيات كثيرة. ومن جرى على أن ذلك إشارة للبعيد يقول: إنما
(1/242)
 
 
صحت الإشارة بذلك، هنا إلى ما ليس ببعيد، لتعظيم المشار إليه، ذهابا إلى بعد درجته وعلوّ مرتبته ومنزلته في الهداية والشرف.
والريب في الأصل: مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة. وحقيقتها: قلق النفس واضطرابها. ثم استعمل في معنى الشك مطلقا، أو مع تهمة. لأنه يقلق لنفس ويزيل الطمأنينة.
وفي الحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» «1» .
ومعنى نفيه عن الكتاب. أنه في علوّ الشأن، وسطوع البرهان، بحيث ليس فيه مظنة أن يرتاب في حقيقته، وكونه وحيا منزلا من عند الله تعالى. والأمر كذلك، لأن العرب، مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية، عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن. وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه، لا أنه لا يرتاب فيه أحد أصلا.
هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي: هاد لهم ودالّ على الدين القويم المفضي إلى سعادتي الدارين.
قال الناصر في الانتصاف: الهدى يطلق في القرآن على معنيين (أحدهما) الإرشاد وإيضاح سبيل الحق. ومنه قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: 17] . وعلى هذا يكون الهدى للضالّ باعتبار أنه رشد إلى الحق، سواء حصل له الاهتداء أو لا. و (الآخر) خلق الله تعالى الاهتداء في قلب العبد، ومنه أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] . فإذا ثبت وروده على المعنيين فهو في هذه الآية يحتمل أن يراد به المعنيان جميعا.
وعلى الأول، فتخصيص الهدى بالمتقين للتنويه بمدحهم حتى يتبيّن أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به، كما قال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45] .
وقال إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: 11] . وقد كان، صلى الله عليه وآله وسلّم، منذرا لكل الناس، فذكر هؤلاء لأجل أنهم هم الذين انتفعوا بإنذاره. وهذه الآية نظير آية: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] ، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: 82] . وكقوله
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك.
(1/243)
 
 
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57] . إلى غير ذلك، مما دلّ على أن النفع به لا يناله إلا الإبرار. والمراد بالمتقين- هنا- من نعتهم الله تعالى بقوله
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 3]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ، أي يصدقون بِالْغَيْبِ، الغيب في الأصل مصدر غاب.
بمعنى استتر واحتجب وخفي. وهو بمعنى الفاعل- كالزور للزائر- أطلق عليه مبالغة، والمراد به ما لا يقع تحت الحواس، ولا تقتضيه بداية العقول، وإنما يعلم بخبر الأنبياء عليهم السلام. والمعنى يؤمنون بما لا يتناوله حسّهم. كذاته تعالى، وملائكته، والجنّة، والنار، والعرش والكرسيّ، واللوح ونحوها.
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، أي يؤدونها بحدودها وفروضها الظاهرة والباطنة. كالخشوع والمراقبة وتدبر المتلوّ والمقروء.
قال الراغب: إقامة الصلاة توفية حدودها، وإدامتها. وتخصيص الإقامة تنبيه على أنه لم يرد إيقاعها فقط. لهذا، لم يأمر بالصلاة ولم يمدح بها إلا بلفظ الإقامة نحو أَقِمِ الصَّلاةَ [هود: 114] ، وقوله وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [الإسراء: 78] ، والَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [المائدة: 55] . ولم يقل: المصلي، إلا في المنافقين:
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [الماعون: 4- 5] ، وذلك تنبيه على أن المصلين كثير والمقيمين لها قليل- كما قال عمر رضي الله عنه: الحاجّ قليل والركب كثير- ولهذا
قال عليه السلام «من صلى ركعتين مقبلا بقلبه على ربه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه»
. فذكر مع قوله «صلّى» الإقبال بقلبه على الله تنبيها على معنى الإقامة، وبذلك عظم ثوابه. وكثير من الأفعال التي حث تعالى على توفية حقه، ذكره بلفظ الإقامة، نحو وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [المائدة: 66] ، ونحو وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ [الرحمن: 9] تنبيها على المحافظة على تعديله.
انتهى.
فالإقامة من أقام العود إذا قوّمه. و «الصلاة» فعلة من صلّى إذا دعا، ك «الزكاة» من زكى- وإنما كتبتا بالواو مراعاة للفظ المفخّم- وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء.
(1/244)
 
 
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي يؤتون مما رزقناهم من الأموال من شرع لهم إيتاؤه والإنفاق عليه من الفقراء والمساكين وذوي القربى واليتامى وأمثالهم، على ما بيّن في آيات كثيرة.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 4]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ والمراد بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الكتاب المنزل كله، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي- وإن كان بعضه مترقبا- تغليبا للموجود على ما لم يوجد. كما أن المراد من قوله وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ الكتب الإلهية السالفة كلها. وهذا كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء: 136] الآية.
والإنزال النقل من الأعلى إلى الأسفل. فنزول الكتب الإلهية إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام بأن يتلقاها جبريل من جنابه عزّ وجلّ فينزل بها إلى الرسل عليهم السلام.
ولهذا يقال: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، منه بدأ. أي تكلم به حقيقة لا مجازا.
قال الإمام أحمد وغيره: وإليه يعود أي لا يبقى له أثر في الوجود أي هو المتكلم به قال تعالى وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام: 114] . وقال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل: 102] .
وقال تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر: 1] .
وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ الآخرة في الأصل: تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول وهي صفة الدار، بدليل قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ [القصص: 83] . سميت بذلك لأنها متأخرة عن الدنيا. وقيل للدنيا: دنيا، لأنها أدنى من الآخرة. وهما من الصفات الغالبة. ومع ذلك فقد جريا مجرى الأسماء. إذ قد غلب ترك ذكر اسم موصوفهما معهما، كأنهما ليسا من الصفات.
والإيقان إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. وفي تقديم الآخرة وبناء يُوقِنُونَ على هُمْ تعريض بأهل الكتاب، وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته. كزعمهم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، وأن النار لن تمسّهم إلا أياما معدودة، واختلافهم في أن نعيم الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا أو لا؟ وهل هو دائم أو لا؟ فاعتقادهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة، فضلا عن الوصول إلى مرتبة اليقين!.
(1/245)
 
 
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 5]
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
أُولئِكَ أي: المتصفون بما تقدّم. عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أي على نور من ربّهم، وبرهان، واستقامة، وسداد- بتسديده إياهم وتوفيقه لهم-. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي المنجحون، المدركون ما طلبوا عند الله- بإيمانهم- من الفوز بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعدّ الله لأعدائه من العقاب.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 6]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6)
لمّا بيّن تعالى نعوت المؤمنين قبل، شرح أحوال مقابليهم وهم الكفرة المردة بأنهم: تناهوا في الغواية والضلال إلى حيث لا يجديهم الإنذار والتذكير، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ [يونس: 96- 97] . وكقوله سبحانه في المعاندين الكتابيين وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [البقرة: 145] الآية.
وسَواءٌ اسم بمعنى: الاستواء، وصف به، كما يوصف بالمصادر، مبالغة، ومنه قوله تعالى: تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ بمعنى: مستوية.
و (الإنذار) الإعلام مع تخويف. والمراد هنا: التخويف من عذابه تعالى، وانتقامه، والاقتصار عليه لما أنهم ليسوا أهلا للبشارة، ولأن الإنذار أوقع في القلوب، ومن لم يتأثر به فلأن لا يرفع للبشارة رأسا- أولى.
وقوله لا يُؤْمِنُونَ جملة مستقلّة، مؤكّدة لما قبلها، مبيّنة لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 7]
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)
استئناف معلّل لما سبق من الحكم، أو بيان وتأكيد له. والختم على الشيء:
الاستيثاق منه بضرب الخاتم عليه. والمراد: إحداث حالة تجعلها- بسبب تماديهم
(1/246)
 
 
في الغيّ، وانهماكهم في التقليد، وإعراضهم عن منهاج النظر الصحيح- بحيث لا يؤثر فيها الإنذار، ولا ينفذ فيها الحق أصلا.
قال أبو السعود: وإسناد إحداث تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى، لاستناد جميع الحوادث عندنا- من حيث الخلق- إليه سبحانه. وورود الآية الكريمة ناعية عليهم سوء صنيعهم، ووخامة عاقبتهم، لكون أفعالهم- من حيث الكسب- مستندة إليهم. فإنّ خلقها منه سبحانه ليس بطريق الجبر، بل بطريق الترتيب- على ما اقترفوه من القبائح- كما يعرب عنه قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] ونحو ذلك، يعني كقوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وقوله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 110] .
وأما المعتزلة فقد سلكوا مسلك التأويل، وذكروا في ذلك عدة من الأقاويل.
منها: أنّ القوم لما أعرضوا عن الحق، وتمكّن ذلك في قلوبهم، حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقيّ المجبول عليه.
ومنها: أن المراد به تمثيل قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن، أو بقلوب قدّر ختم الله تعالى عليها. كما في: سال به الوادي- إذا هلك- وطارت به العنقاء- إذا طالت غيبته-.
ومنها: أن أعراقهم لما رسخت في الكفر، واستحكمت، بحيث لم يبق إلى تحصيل إيمانهم طريق سوى الإلجاء والقسر، ثم لم يفعل ذلك محافظة على حكمة التكليف، عبرّ عن ذلك بالختم، لأنه سدّ لطريق إيمانهم بالكلية. وفيه إشعار بترامي أمرهم في الغيّ والعناد.
ومنها: أن ذلك حكاية لما كانت الكفرة يقولونه. مثل قولهم: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: 5] .
تهكّما بهم.
ومنها: أن ذلك في الآخرة، وإنما أخبر عنه بالماضي لتحقّق وقوعه. ويعضده قوله تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً [الإسراء: 97] .
انتهى ملخصا.
(فائدة) قال الراغب: المراد بالقلب في كثير من الآيات: العقل والمعرفة.
(1/247)
 
 
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 8]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
أصل ناس أناس، حذفت همزته تخفيفا، وحذفها مع لام التعريف كاللازم.
ويشهد لأصله إنسان، وأناس، وأناسيّ، وإنس. وسموا لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون- كما سمي الجن لاجتنانهم- ولذلك سموا بشرا. وقيل: اشتقاقه من الأنس- ضدّ الوحشة- لأن الإنسان مدنيّ بالطبع. والأوّل أظهر.
واعلم أن صفات المنافقين إنما نزلت في السور المدنية. لأن مكّة لم يكن فيها نفاق، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب. وبها اليهود- من أهل الكتاب- وهم ثلاث قبائل: بنو قينقاع- حلفاء الخزرج- وبنو النّضير وبنو قريظة- حلفاء الأوس- فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقلّ من أسلم من اليهود- إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه- ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا، لأنه لم يكن للمسلمين، بعد، شوكة تخاف، بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرة- من أحياء العرب حوالي المدينة-. فلما كانت وقعة بدر العظمى، وأظهر الله كلمته، وأعزّ الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبيّ بن سلول- وكان رأسا في المدينة، وهو من الخزرج، وكان ابن سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم، فجاءهم الخبر، وأسلموا، واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله. فلما كانت وقعة بدر، قال: هذا أمر قد توجّه. فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف- ممن هو على طريقته ونحلته- وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثمّ وجد النفاق في أهل المدينة، ومن حولها من الأعراب.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 9]
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9)
قال القاشانيّ: المخادعة استعمال الخدع من الجانبين، وهو إظهار الخير، واستبطان الشر. ومخادعة الله مخادعة رسوله، لقوله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] . فخداعهم لله وللمؤمنين إظهار الإيمان والمحبة، واستبطان
(1/248)
 
 
الكفر والعداوة. وخداع الله والمؤمنين إياهم مسالمتهم، وإجراء أحكام الإسلام عليهم. بحقن الدماء وحصن الأمول وغير ذلك. وادّخار العذاب الأليم، والمآل الوخيم، وسوء المغبّة لهم، وخزيهم في الدنيا لافتضاحهم بإخباره تعالى وبالوحي عن حالهم. لكن الفرق بين الخداعين: أن خداعهم لا ينجح إلّا في أنفسهم. بإهلاكها، وتحسيرها، وإيراثها الوبال والنكال- بازدياد الظلمة، والكفر، والنفاق، واجتماع أسباب الهلكة، والبعد والشقاء، عليها- وخداع الله يؤثر فيهم أبلغ تأثير، ويوبقهم أشد إيباق، كقوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمران: 54] ، وهم- من غاية تعمّقهم في جهلهم- لا يحسون بذلك الأمر الظاهر.
وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو (وما يخادعون) بالألف.
قال ابن كثير: نبه الله سبحانه على صفات المنافقين، لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض- من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم، وهم كفّار في نفس الأمر- وهذا من المحذورات: أن يظنّ بأهل الفجور خير. ثم إن قول من قال: كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين- إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان «1» في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقا- في غزوة تبوك- الذين همّوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلّم في ظلماء الليل عند عقبة هناك، عزموا على أن ينفّروا به الناقة، ليسقط عنها، فأوحى الله إليه أمرهم، فأطلع على ذلك حذيفة.
فأما غير هؤلاء، فقد قال الله تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ [التوبة: 101] الآية. وقال تعالى:
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا ففيها دليل على أنه لم يغربهم ولم يدرك على أعيانهم، وإنما كان تذكر له صفاتهم، فيتوسمها في بعضهم، كما قال تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ [محمد: 30] . وقد كان من أشهرهم بالنفاق، عبد الله بن أبيّ بن سلول.
واستند- غير واحد من الأئمة- في الحكمة عن كفّه صلى الله عليه وسلّم عن قتل المنافقين، بما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلّم قال لعمر رضي الله عنه «أكره أن يتحدّث العرب أنّ
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث 9 و 10 و 11.
(1/249)
 
 
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
محمدا يقتل أصحابه» «1» .
ومعناه خشية أن يقع بسبب ذلك تنفير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام، ولا يعلمون حكمة قتلهم- بأنّه لأجل كفرهم- فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم، فيقولون: إن محمدا يقتل أصحابه.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 10]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)
المرض: السقم، وهو نقيض الصحة، بسبب ما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتدال اللائق به، ويوجب الخلل في أفاعيله، استعير هاهنا لعدم صحة يقينهم، وضعف دينهم- وكذا توصف قلوب المؤمنين بالسلامة التي هي صحة اليقين، وعدم ضعفه، كما قال تعالى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 89] أي:
غير مريض بما ذكرنا- أو استعير لشكّهم، لأن الشك تردّد بين الأمرين، والمنافق متردّد، كما
في الحديث «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين» «2»
والمريض متردّد بين الحياة والموت.
فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً بأن طبع على قلوبهم، لعلمه تعالى بأنّه لا يؤثر فيها التذكير والإنذار.
وقال القاشانيّ: أي مرضا آخر- حقدا وحسدا وغلا- بإعلاء كلمة الدين، ونصرة الرسول والمؤمنين- ثم قال: والرذائل كلها أمراض القلوب، لأنها أسباب ضعفها وآفتها في أفعالها الخاصة، وهلاكها في العاقبة.
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: مؤلم- بكسر اللام- فعيل بمعنى فاعل- كسميع- وبصير- قال في المحكم: الأليم من العذاب الذي يبلغ إيجاعه غاية البلوغ. ومنه. يعلم
__________
(1) يشير إلى
الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه في: الزكاة، حديث 142 ونصه: عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالجعرانة، منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يقبض منها. يعطي الناس. فقال: يا محمد، اعدل. قال «ويلك، ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت، إن لم أكن أعدل» فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني، يا رسول الله، فأقتل، هذا المنافق. فقال «معاذ الله، أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي. إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم. يمرقون منه كما يمرق السهم من الرميّة» .
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث 17 ونصه: عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين. تعير إلى هذا مرة، وإلى هذا مرة» .
(1/250)
 
 
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
وجه إيثاره في عذاب المنافقين- على «العظم» المتقدم في وصف عذاب الكافرين- ويؤيده: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [النساء: 145] .
بِما كانُوا يَكْذِبُونَ الباء للسببيّة أو للمقابلة- أي بسبب كذبهم أو بمقابلته- وهو قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم غير مؤمنين. وفيه رمز إلى قبح الكذب، وسماجته، وتخييل أن العذاب الأليم لا حق بهم من أجل كذبهم- مع إحاطة علم السامع بأنّ لحوق العذاب بهم من جهات شتى- ونحوه قوله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا [نوح: 25]- والقوم كفرة- وإنما خصّت الخطيئات استعظاما لها، وتنفيرا عن ارتكابها.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 12]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)
شروع في تعديد بعض من مساوئهم المتفرّعة- على ما حكى عنهم من الكفر والنفاق- و «الفساد» خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعا به. ونقيضه «الصلاح» وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة. والفساد في الأرض: تهييج الحروب والفتن، لأن في ذلك فساد ما في الأرض، وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس، والزروع، والمنافع الدينية والدنيوية. قال الله تعالى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ [البقرة: 205] .
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30]- ومنه قيل لحرب كانت بين طيء: حرب الفساد-.
وكان إفساد المنافقين في الأرض أنهم كانوا يمالئون الكفار على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم، وإغرائهم عليهم، واتخاذهم أولياء، مع ما يدعون في السرّ إلى: تكذيب النبي صلى الله عليه وسلّم وجحد الإسلام، وإلقاء الشبه، وذلك مما يجرئ الكفرة على إظهار عداوة النبي صلى الله عليه وسلّم، ونصب الحرب له، وطمعهم في الغلبة، فلما كان ذلك من صنيعهم مؤدّيا إلى الفساد- بتهييج الفتن بينهم- قيل لهم: لا تفسدوا- كما تقول للرجل: لا تقتل نفسك بيدك ولا تلق نفسك في النار، إذا أقدم على ما هذه عاقبته- وقد قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ
(1/251)
 
 
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
وَفَسادٌ كَبِيرٌ
[الأنفال: 73] ، فأخبر أن موالاة الكافرين تؤدّي إلى الفتنة والفساد، لما تقدّم.
وقولهم: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أي: بين المؤمنين وأهل الكتاب. نداري الفريقين ونريد الإصلاح بينهما كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً [النساء: 62] . أو معناه: إنما نحن مصلحون في الأرض بالطاعة والانقياد.
قال الراغب: تصوّروا إفسادهم بصورة الإصلاح- لما في قلوبهم من المرض- كما قال أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً [فاطر: 8] وقوله: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 43] وقوله: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف: 104] .
وقال القاشانيّ كانوا يرون الصلاح في تحصيل المعاش، وتيسير أسبابه، وتنظيم أمور الدنيا- لأنفسهم خاصة- لتوغّلهم في محبّة الدنيا، وانهماكهم في اللذات البدنية، واحتجابهم- بالمنافع الجزئية، والملاذّ الحسية- عن المصالح العامة الكلّية، واللذات العقلية، وبذلك يتيسر مرادهم، ويتسهل مطلوبهم، وهم لا يحسون بإفسادهم المدرك بالحسّ.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 13]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ بطريق الأمر بالمعروف، إثر نهيهم عن المنكر- إتماما للنّصح، وإكمالا للإرشاد- آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ أي: الكاملون في الإنسانية، فإنّ المؤمنين هم الناس في الحقيقة لجمعهم ما يعدّ من خواصّ الإنسان وفضائله- قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ استفهام في معنى الإنكار. و (السفه) خفّة وسخافة رأي يورثهما: قصور العقل، وقلّة المعرفة بمواضع المصالح والمضار. ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء: 5] .
وإنما سفّهوهم- مع أنهم العقلاء المراجيح- لأنهم: لجهلهم، وإخلالهم بالنظر وإنصاف أنفسهم، اعتقدوا أنّ ما هم فيه هو الحقّ، وأنّ ما عداه باطل- ومن
(1/252)
 
 
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
ركب متن الباطل كان سفيها- ولأنهم كانوا في رئاسة في قومهم، ويسار، وكان أكثر المؤمنين فقراء، ومنهم موال- كصهيب، وبلال، وخبّاب- فدعوهم سفهاء تحقيرا لشأنهم! أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 14]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14)
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا أي: أظهروا لهم الإيمان، والموالاة، والمصافاة- نفاقا، ومصانعة، وتقيّة وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم-.
واعلم أنّ مساق هذه الآية بخلاف ما سيقت له أوّل قصة المنافقين، فليس بتكرير. لأنّ تلك في بيان مذهبهم، والترجمة عن نفاقهم، وهذه لبيان تباين أحوالهم، وتناقض أقوالهم- في أثناء المعاملة والمخاطبة- حسب تباين المخاطبين! وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ يقال: خلوت بفلان وإليه أي: انفردت معه، ويجوز أن يكون من خلا بمعنى: مضى، ومنه: القرون الخالية. والمراد ب شَياطِينِهِمْ: أصحابهم أولو التمرّد والعناد، والشيطان يكون من الإنس والجنّ، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام: 112] . وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر. واشتقاق شيطان من شطن، إذا بعد، لبعده من الصلاح والخير.
ومعنى إِنَّا مَعَكُمْ أي في الاعتقاد على مثل ما أنتم عليه، إنّما نحن في إظهار الإيمان عند المؤمنين مستهزئون ساخرون بهم. والاستهزاء بالشيء السخرية منه.
يقال: هزأت واستهزأت بمعنى.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 15]
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ يسخر بهم للنقمة منهم- هكذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه الضحّاك- وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يزيدهم على وجه
(1/253)
 
 
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
الإملاء، والترك لهم في عتوّهم وتمرّدهم، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] .
و (الطغيان) المراد به هنا: الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتوّ. وأصل المادة هو المجاوزة في الشيء، كما قال تعالى إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: 11] .
(والعمه) مثل العمى- إلّا أنّ العمى عامّ في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة- وهو التحيّر والتردد، لا يدري أين يتوجه.
أي في ضلالهم وكفرهم- الذي غمرهم دنسه، وعلاهم رجسه- يتردّدون حيارى، ضلالا، لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا.
والمشهور فتح الياء من «يمدّهم» ، وقرئ- شاذا- بضمها، وهما بمعنى واحد. يقال: مدّ الجيش وأمده- إذا زاده، وألحق به ما يقوّيه ويكثره- وكذلك مدّ الدواة وأمدها زادها ما يصلحها.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 16]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات الشنيعة المميّزة لهم عمن عداهم أكمل تمييز، بحيث صاروا كأنّهم حضّار مشاهدون على ما هم عليه. وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشرّ وسوء الحال، ومحلّه الرفع على الابتداء، خبره قوله تعالى: الَّذِينَ اشْتَرَوُا إلخ. والجملة مسوقة لتقرير ما قبلها، وبيان لكمال جهالتهم- فيما حكي عنهم من الأقوال والأفعال- بإظهار غاية سماجتها، وتصويرها بصورة ما لا يكاد يتعاطاه من له أدنى تمييز- فضلا عن العقلاء-. والضَّلالَةَ الجور عن القصد، وبِالْهُدى التوجّه إليه. وقد استعير الأول: للعدول عن الصواب في الدين، والثاني:
للاستقامة عليه. و «الاشتراء» استبدال السلعة بالثمن- أي أخذها به- فاشتراء الضلالة بالهدى مستعار لأخذها بدلا منه أخذا منوطا بالرغبة فيها والإعراض عنه.
فإن قيل: كيف اشتروا الضلالة بالهدى، وما كانوا على هدى؟
قلت: جعلوا لتمكّنهم منه- بتيسير أسبابه- كأنه في أيديهم، فإذا تركوه إلى
(1/254)
 
 
الضلالة قد عطّلوه، واستبدلوها به، فاستعير ثبوته لتمكّنهم بجامع المشاركة في استتباع الجدوى ولا مرية في أنّ هذه المرتبة- من التمكّن- كانت حاصلة لهم بما شاهدوه- من الآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة- من جهة النبي صلى الله عليه وسلّم.
فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ عطف على الصلة داخل في حيزها. والفاء للدلالة على ترتّب مضمونه عليها. والتجارة صناعة التجار، وهو التصدّي للبيع والشراء، لتحصيل الربح وهو الفضل على رأس المال، وإسناد عدمه- الذي هو عبارة عن الخسران- إليها، وهو لأصحابها، من الإسناد المجازيّ وهو: أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له- كما تلبست التجارة بالمشترين- وفائدته: المبالغة في تخسيرهم، لما فيه من الإشعار بكثرة الخسار، وعمومه المستتبع، لسرايته إلى ما يلابسهم.
فإن قلت: هب أنّ شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا في معنى الاستبدال، فما معنى ذكر الربح، والتجارة كأنّ ثمّ مبايعة على الحقيقة؟
قلت: هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز، ثم تقفّى بأشكال لها، وأخوات- إذا تلاحقن- لم تر كلاما أحسن منه ديباجة، وأكثر ماء ورونقا، وهو المجاز المرشّح، فإيرادهما- إثر الاشتراء- تصوير لما فاتهم من فوائد الهدى بصورة خسار التجارة- الذي يتحاشى عنه كل أحد- للإشباع في التخسير والتحسير. وهذا النوع قريب من التتميم الذي يمثله أهل صناعة البديع بقول الخنساء:
وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار..!
لمّا شبّهته- في الاهتداء به- بالعلم المرتفع، أتبعت ذلك ما يناسبه ويحقّقه، فلم تقنع بظهور الارتفاع حتى أضافت إلى ذلك ظهورا آخر، باشتعال النار في رأسه.
وقوله: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أي: لزوال استعدادهم، وتكدير قلوبهم بالرّين الموجب للحجاب والحرمان الأبديّ.
قال الزمخشريّ: فإن قيل: لم عطف بالواو عدم اهتدائهم على انتفاء ربح تجارتهم، ورتّبا معا بالفاء على اشتراء الضلالة بالهدى؟ وما وجه الجمع بينهما- مع ذلك الترتيب- على أن عدم الاهتداء قد فهم من استبدال الضلالة بالهدى، فيكون تكرارا لما مضى؟
(1/255)
 
 
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
فالجواب: أن رأس مالهم هو الهدى، فلمّا استبدلوا به ما يضادّه- ولا يجامعه أصلا- انتفى رأس المال بالكلية، وحين لم يبق في أيديهم إلا ذلك الضد- أعنى الضلالة- وصفوا بانتفاء الربح والخسارة. لأنّ الضالّ في دينه خاسر هالك- وإن أصاب فوائد دنيوية- ولأنّ من لم يسلم له رأس ماله لم يوصف بالريح، بل بانتفائه، فقد أضاعوا سلامة رأس المال بالاستبدال، وترتّب على ذلك إضاعة الربح.
وأما قوله: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ فليس معناه عدم اهتدائهم في الدين- فيكون تكرارا لما سبق- بل لما وصفوا بالخسارة في هذه التجارة أشير إلى عدم اهتدائهم لطرق التجارة- كما يهتدي إليه التجار البصراء بالأمور التي يربح فيها ويخسر- فهذا راجع إلى الترشيح.
 
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة البقرة (2) : آية 17]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)
ولما جاء بحقيقة صفتهم، عقّبها بضرب المثل- زيادة في الكشف، وتتميما للبيان- فقال تعالى: مَثَلُهُمْ أي: مثالهم في نفاقهم، وحالهم فيه كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ أي أوقد ناراً في ظلمة- والتنكير للتعظيم- فَلَمَّا أَضاءَتْ أي:
أنارت النار ما حَوْلَهُ فأبصر، واستدفأ، وأمن مما يخافه ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي:
أطفأ الله نارهم- التي هي مدار نورهم- فبقوا في ظلمة وخوف- وجمع الضمير مراعاة لمعنى الذي كقوله وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة: 69] . وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ ما حولهم- متحيّرين عن الطريق، خائفين- فكذلك هؤلاء استضاءوا قليلا بالانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، حيث أمنوا على أنفسهم وما يتبعها. ثم وراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة- ظلمة النفاق- التي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله، وظلمة العقاب السرمد، ومحصوله: أنهم انتفعوا بهذه الكلمة مدّة حياتهم القليلة، ثم قطعه الله تعالى بالموت.
ونقل- عن كثير من السلف- تفسير آخر، وهو: تمثيل إيمانهم أوّلا، ثم كفرهم ثانيا. فيكون إذهاب النور في الدنيا، كما قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [المنافقون: 3] الآية، فلم