تفسير العثيمين جزء عم

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: تفسير جزء عم
المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421هـ)
 
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الفاتحة
سورة الفاتحة سميت بذلك؛ لأنه افتتح بها القرآن الكريم؛ وقد قيل: إنها أول سورة نزلت كاملة.
 
هذه السورة قال العلماء: إنها تشتمل على مجمل معاني القرآن في التوحيد، والأحكام، والجزاء، وطرق بني آدم، وغير ذلك؛ ولذلك سميت «أم القرآن» (1) ، والمرجع للشيء يسمى «أُمًّا» .
 
وهذه السورة لها مميزات تتميز بها عن غيرها؛ منها أنها ركن في الصلوات التي هي أفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين: فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب؛ ومنها أنها رقية: إذا قرىء بها على المريض شُفي بإذن الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال للذي قرأ على اللديغ، فبرىء: «وما يدريك أنها رقية» (2) .
وقد ابتدع بعض الناس اليوم في هذه السورة بدعة، فصاروا يختمون بها الدعاء، ويبتدئون بها الُخطب ويقرؤونها عند بعض المناسبات، وهذا غلط: تجده مثلاً إذا دعا، ثم دعا قال لمن حوله: «الفاتحة» : يعني اقرؤوا الفاتحة؛ وبعض الناس يبتدىء بها في خطبه، أو في أحواله ـ وهذا أيضاً غلط؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف، والاتِّباع.
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الآذان، باب القراءة في الفجر (772) ومسلم كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، حديث} 38 { (395) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الإجارة باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب، (2276) ومسلم كتاب السلام، باب: جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار (65) (2201) .
(1/9)
 
 
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
 
قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم} : الجار والمجرور متعلق بمحذوف؛ وهذا المحذوف يقدَّر فعلاً متأخراً مناسباً؛ فإذا قلت: «باسم الله» وأنت تريد أن تأكل؛ تقدر الفعل: «باسم الله آكل» .
 
قلنا: إنه يجب أن يكون متعلقاً بمحذوف؛ لأن الجار والمجرور معمولان؛ ولابد لكل معمول من عامل.
 
وقدرناه متأخراً لفائدتين:
 
الفائدة الأولى: التبرك بتقديم اسم الله عز وجل.
 
والفائدة الثانية: الحصر؛ لأن تأخير العامل يفيد الحصر، كأنك تقول: لا آكل باسم أحد متبركاً به، ومستعيناً به إلا باسم الله عز وجل.
 
وقدرناه فعلاً؛ لأن الأصل في العمل الأفعال، وهذه يعرفها أهل النحو؛ ولهذا لا تعمل الأسماء إلا بشروط.
 
وقدرناه مناسباً؛ لأنه أدلّ على المقصود؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلّم: «ومن كان لم يذبح فليذبح باسم الله» (1) ، أو قال صلى الله عليه وسلّم: «على اسم الله» . فخص الفعل. (2)
 
و {الله} : اسم الله رب العالمين لا يسمى به غيره؛ وهو أصل الأسماء؛ ولهذا تأتي الأسماء تابعة له.
و {الرحمن} أي ذو الرحمة الواسعة؛ ولهذا جاء على وزن «فَعْلان» الذي يدل على السعة.
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب العيدين، باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد، (985) ومسلم كتاب الأضاحي، باب وقتها (1) (1960) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الذبائح والصيد باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليذبح على اسم الله) (5500) ومسلم كتاب الأضاحي باب وقتها (2) (1960) .
(1/10)
 
 
و {الرحيم} أي الموصل للرحمة من يشاء من عباده؛ ولهذا جاءت على وزن «فعيل» الدال على وقوع الفعل. فهنا رحمة هي صفته ـ هذه دل عليها {الرحمن} ، ورحمة هي فعله ـ أي إيصال الرحمة إلى المرحوم ـ دلّ عليها {الرحيم} . و {الرحمن الرحيم} : اسمان من أسماء الله يدلان على الذات، وعلى صفة الرحمة، وعلى الأثر: أي الحكم الذي تقتضيه هذه الصفة.
 
والرحمة التي أثبتها الله لنفسه رحمة حقيقية دل عليها السمع، والعقل؛ أما السمع فهو ما جاء في الكتاب، والسنة من إثبات الرحمة لله ـ وهو كثير جداً؛ وأما العقل: فكل ما حصل من نعمة، أو اندفع من نقمة فهو من آثار رحمة الله.
 
هذا وقد أنكر قوم وصف الله تعالى بالرحمة الحقيقية، وحرّفوها إلى الإنعام، أو إرادة الإنعام، زعماً منهم أن العقل يحيل وصف الله بذلك؛ قالوا: «لأن الرحمة انعطاف، ولين، وخضوع، ورقة؛ وهذا لا يليق بالله عز وجل» ، والرد عليهم من وجهين:
 
الوجه الأول: منع أن يكون في الرحمة خضوع، وانكسار، ورقة؛ لأننا نجد من الملوك الأقوياء رحمة دون أن يكون منهم خضوع، ورقة، وانكسار.
 
الوجه الثاني: أنه لو كان هذا من لوازم الرحمة، ومقتضياتها فإنما هي رحمة المخلوق؛ أما رحمة الخالق سبحانه وتعالى فهي تليق بعظمته، وجلاله، وسلطانه؛ ولا تقتضي نقصاً بوجه من الوجوه.
 
ثم نقول: إن العقل يدل على ثبوت الرحمة الحقيقية لله عز وجل: فإن ما نشاهده في المخلوقات من الرحمة بَيْنها يدل على رحمة الله عز وجل؛ ولأن الرحمة كمال؛ والله أحق بالكمال؛ ثم إن ما نشاهده من
(1/11)
 
 
الرحمة التي يختص الله بها ـ كإنزال المطر، وإزالة الجدب، وما أشبه ذلك ـ يدل على رحمة الله.
والعجب أن منكري وصف الله بالرحمة الحقيقية بحجة أن العقل لا يدل عليها، أو أنه يحيلها، قد أثبتوا لله إرادة حقيقية بحجة عقلية أخفى من الحجة العقلية على رحمة الله، حيث قالوا: إن تخصيص بعض المخلوقات بما تتميز به يدل عقلاً على الإرادة؛ ولا شك أن هذا صحيح؛ ولكنه بالنسبة لدلالة آثار الرحمة عليها أخفى بكثير؛ لأنه لا يتفطن له إلا أهل النباهة؛ وأما آثار الرحمة فيعرفه حتى العوام: فإنك لو سألت عاميّاً صباح ليلة المطر: «بِمَ مطرنا؟» لقال: «بفضل الله، ورحمته» .
 
مسألة: هل البسملة آية من الفاتحة؛ أو لا؟
 
في هذا خلاف بين العلماء؛ فمنهم من يقول: إنها آية من الفاتحة، ويقرأ بها جهراً في الصلاة الجهرية، ويرى أنها لا تصح إلا بقراءة البسملة؛ لأنها من الفاتحة. ومنهم من يقول: إنها ليست من الفاتحة؛ ولكنها آية مستقلة من كتاب الله، وهذا القول هو الحق؛ ودليل هذا النص، وسياق السورة.
أما النص: فقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: فإذا قال: {الحمد لله رب العالمين} قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} ، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي؛ فإذا قال: {مالك يوم الدين} ، قال الله تعالى: مَّجدني عبدي، فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} ، قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي نصفين؛ وإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم} قال الله تعالى: هذا لعبدي؛ ولعبدي ما
(1/12)
 
 
سأل» (1) ، وهذا كالنص على أن البسملة ليست من الفاتحة؛ وفي الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلّم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان؛ فكانوا يستفتحون بـ {الحمد لله رب العالمين} لا يذكرون {بسم الله الرحمن الرحيم} في أول قراءة، ولا في آخرها» (2) . والمراد لا يجهرون؛ والتمييز بينها وبين الفاتحة في الجهر، وعدمه يدل على أنها ليست منها.
أما من جهة السياق من حيث المعنى: فالفاتحة سبع آيات بالاتفاق؛ وإذا أردت أن توزع سبع الايات على موضوع السورة وجدت أن نصفها هو قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} وهي الآية التي قال الله فيها: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» ؛ لأن {الحمد لله رب العالمين} : واحدة؛ {الرحمن الرحيم} : الثانية؛ {مالك يوم الدين} : الثالثة؛ وكلها حق لله عز وجل: {إياك نعبد وإياك نستعين} : الرابعة ـ يعني الوسط ـ وهي قسمان: قسم منها حق لله؛ وقسم حق للعبد؛ {اهدنا الصراط المستقيم} للعبد؛ {صراط الذين أنعمت عليهم} للعبد؛ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} للعبد.
 
فتكون ثلاث آيات لله عز وجل وهي الثلاث الأولى؛ وثلاث آيات للعبد وهي الثلاث الأخيرة؛ وواحدة بين العبد وربه وهي الرابعة الوسطى.
 
ثم من جهة السياق من حيث اللفظ فإذا قلنا: إن البسملة آية من الفاتحة لزم أن تكون الآية السابعة طويلة على قدر آيتين؛ ومن المعلوم أن
_________
(1) أخرجه مسلم كتاب الصلاة، باب: قراءة الفاتحة في كل ركعة (38) (395) .
(2) أخرجه مسلم كتاب الصلاة باب: حجة من قال: لا يجهر بالبسملة، حديث رقم (52) 399.
(1/13)
 
 
تقارب الايات في الطول والقصر هو الأصل.
 
فالصواب الذي لا شك فيه أن البسملة ليست من الفاتحة كما أن البسملة ليست من بقية السور.
 
{الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ}
قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين} : {الحمد} وصف المحمود بالكمال مع المحبة، والتعظيم؛ الكمال الذاتي، والوصفي، والفعلي؛ فهو كامل في ذاته، وصفاته، وأفعاله؛ ولابد من قيد وهو «المحبة، والتعظيم» ؛ قال أهل العلم: «لأن مجرد وصفه بالكمال بدون محبة، ولا تعظيم: لا يسمى حمداً؛ وإنما يسمى مدحاً» ؛ ولهذا يقع من إنسان لا يحب الممدوح؛ لكنه يريد أن ينال منه شيئاً؛ تجد بعض الشعراء يقف أمام الأمراء، ثم يأتي لهم بأوصاف عظيمة لا محبة فيهم؛ ولكن محبة في المال الذي يعطونه، أو خوفاً منهم؛ ولكن حمدنا لربنا عز وجل حمد محبة، وتعظيم؛ فلذلك صار لابد من القيد في الحمد أنه وصف المحمود بالكمال مع المحبة، والتعظيم؛ و «أل» في {الحمد} للاستغراق: أي استغراق جميع المحامد.
 
وقوله تعالى: {لله} اللام للاختصاص، والاستحقاق؛ و «الله» اسم ربنا عز وجل؛ لا يسمى به غيره؛ ومعناه: المألوه ـ أي المعبود حبّاً، وتعظيماً.
 
وقوله تعالى: {رب العالمين} ؛ «الرب» : هو من اجتمع فيه ثلاثة أوصاف: الخلق، والملك، والتدبير؛ فهو الخالق، المالك لكل شيء، المدبر لجميع الأمور؛ و {العالمين} : قال العلماء: كل ما سوى الله فهو من العالَم؛ وصفوا بذلك؛ لأنهم علم على خالقهم سبحانه وتعالى؛ ففي كل شيء من المخلوقات آية تدل على الخالق: على قدرته،
(1/14)
 
 
وحكمته، ورحمته، وعزته، وغير ذلك من معاني ربوبيته.
 
الفوائد:
 
1 ـ من فوائد الآية: إثبات الحمد الكامل لله عز وجل، وذلك من «أل» في قوله تعالى: {الحمد} ؛ لأنها دالة على الاستغراق.
2 ـ ومنها: أن الله تعالى مستحق مختص بالحمد الكامل من جميع الوجوه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أصابه ما يسره قال: «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات» ؛ وإذا أصابه خلاف ذلك قال: «الحمد لله على كل حال» (1) .
 
3 ـ ومنها: تقديم وصف الله بالألوهية على وصفه بالربوبية؛ وهذا إما لأن «الله» هو الاسم العلَم الخاص به، والذي تتبعه جميع الأسماء؛ وإما لأن الذين جاءتهم الرسل ينكرون الألوهية فقط.
 
4 ـ ومنها: عموم ربوبية الله تعالى لجميع العالم؛ لقوله تعالى: {العالمين} .
 
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
 
قوله تعالى: {الرحمن الرحيم} : {الرحمن} صفة للفظ الجلالة؛ و {الرحيم} صفة أخرى؛ و {الرحمن} هو ذو الرحمة الواسعة؛ و {الرحيم} هو ذو الرحمة الواصلة؛ فـ {الرحمن} وصفه؛ و {الرحيم} فعله؛ ولو أنه جيء بـ «الرحمن» وحده، أو بـ «الرحيم» وحده لشمل الوصف، والفعل؛ لكن إذا اقترنا فُسر {الرحمن} بالوصف؛ و {الرحيم} بالفعل.
_________
(1) أخرجه ابن ماجه في أبواب الأدب، باب: فضل الحامدين (3803) ، والحاكم في المستدرك 1/449 كتاب الدعاء وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وأقره الذهبي.
(1/15)
 
 
الفوائد:
 
1 ـ من فوائد الآية: إثبات هذين الاسمين الكريمين {الرحمن الرحيم} لله عز وجل؛ وإثبات ما تضمناه من الرحمة التي هي الوصف، ومن الرحمة التي هي الفعل.
 
2 ـ ومنها: أن ربوبية الله عز وجل مبنية على الرحمة الواسعة للخلق الواصلة؛ لأنه تعالى لما قال: {رب العالمين} كأن سائلاً يسأل: «ما نوع هذه الربوبية؟ هل هي ربوبية أخذ، وانتقام؟ أو ربوبية رحمة، وإنعام؟» قال تعالى: {الرحمن الرحيم} .
 
{مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .
قوله تعالى: {مالك يوم الدين} صفة لـ {الله} ؛ و {يوم الدين} هو يوم القيامة؛ و {الدين} هنا بمعنى الجزاء؛ يعني أنه سبحانه وتعالى مالك لذلك اليوم الذي يجازى فيه الخلائق؛ فلا مالك غيره في ذلك اليوم؛ و «الدين» تارة يراد به الجزاء، كما في هذه الآية؛ وتارة يراد به العمل، كما في قوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 6] ، ويقال: «كما تدين تُدان» أي كما تعمل تُجازى.
 
وفي قوله تعالى: {مالك} قراءة سبعية: {مَلِك} ، و «الملك» أخص من «المالك» .
 
وفي الجمع بين القراءتين فائدة عظيمة؛ وهو أن ملكه جل وعلا ملك حقيقي؛ لأن من الخلق من يكون ملكاً، ولكن ليس بمالك: يسمى ملكاً اسماً وليس له من التدبير شيء؛ ومن الناس من يكون مالكاً، ولا يكون ملكاً: كعامة الناس؛ ولكن الرب عز وجل مالك ملك.
(1/16)
 
 
الفوائد:
 
1 ـ من فوائد الآية: إثبات ملك الله عز وجل، وملكوته يوم الدين؛ لأن في ذلك اليوم تتلاشى جميع الملكيات، والملوك.
 
فإن قال قائل: أليس مالك يوم الدين، والدنيا؟
 
فالجواب: بلى؛ لكن ظهور ملكوته، وملكه، وسلطانه إنما يكون في ذلك اليوم؛ لأن الله تعالى ينادي: {لمن الملك اليوم} [غافر: 16] فلا يجيب أحد؛ فيقول تعالى: {لله الواحد القهار} [غافر: 16] ؛ في الدنيا يظهر ملوك؛ بل يظهر ملوك يعتقد شعوبهم أنه لا مالك إلا هم؛ فالشيوعيون مثلاً لا يرون أن هناك ربًّا للسموات والأرض؛ يرون أن الحياة: أرحام تدفع، وأرض تبلع؛ وأن ربهم هو رئيسهم.
 
2 ـ ومن فوائد الآية: إثبات البعث، والجزاء؛ لقوله تعالى: {مالك يوم الدين} .
 
3 ـ ومنها: حث الإنسان على أن يعمل لذلك اليوم الذي يُدان فيه العاملون.
 
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
قوله تعالى: {إياك نعبد} ؛ {إياك} : مفعول به مقدم؛ وعامله: {نعبد} ؛ وقُدِّم على عامله لإفادة الحصر؛ فمعناه: لا نعبد إلا إياك؛ وكان منفصلاً لتعذر الوصل حينئذ؛ و {نعبد} أي نتذلل لك أكمل ذلّ؛ ولهذا تجد المؤمنين يضعون أشرف ما في أجسامهم في موطىء الأقدام ذلاًّ لله عز وجل: يسجد على التراب؛ تمتلىء جبهته من التراب ـ كل هذا ذلاً لله؛ ولو أن إنساناً قال: «أنا أعطيك الدنيا كلها واسجد لي» ما وافق المؤمن أبداً؛ لأن هذا الذل لله عز وجل وحده.
(1/17)
 
 
و «العبادة» تتضمن فعل كل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى الله عنه؛ لأن من لم يكن كذلك فليس بعابد: لو لم يفعل المأمور به لم يكن عابداً حقًّا؛ ولو لم يترك المنهي عنه لم يكن عابداً حقًّا؛ العبد: هو الذي يوافق المعبود في مراده الشرعي؛ فـ «العبادة» تستلزم أن يقوم الإنسان بكل ما أُمر به، وأن يترك كل ما نُهي عنه؛ ولا يمكن أن يكون قيامه هذا بغير معونة الله؛ ولهذا قال تعالى: {وإياك نستعين} أي لا نستعين إلا إياك على العبادة، وغيرها؛ و «الاستعانة» طلب العون؛ والله سبحانه وتعالى يجمع بين العبادة، والاستعانة، أو التوكل في مواطن عدة في القرآن الكريم؛ لأنه لا قيام بالعبادة على الوجه الأكمل إلا بمعونة الله، والتفويض إليه، والتوكل عليه.
 
الفوائد:
 
1 ـ من فوائد الآية: إخلاص العبادة لله؛ لقوله تعالى: {إياك نعبد} ؛ ووجه الإخلاص: تقديم المعمول.
 
2 ـ ومنها: إخلاص الاستعانة بالله عز وجل، لقوله تعالى: {وإياك نستعين} حيث قدم المفعول.
فإن قال قائل: كيف يقال: إخلاص الاستعانة بالله وقد جاء في قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2] إثبات المعونة من غير الله عز وجل، وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «تعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة» (1) .
 
فالجواب: أن الاستعانة نوعان: استعانة تفويض؛ بمعنى أنك تعتمد على الله عز وجل، وتتبرأ من حولك، وقوتك؛ وهذا خاص بالله
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد باب: فضل من حمل متاع صاحبه في السفر (2891) ومسلم كتاب الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، (56) . (1009) .
(1/18)
 
 
عز وجل؛ واستعانة بمعنى المشاركة فيما تريد أن تقوم به: فهذه جائزة إذا كان المستعان به حيًّا قادراً على الإعانة؛ لأنه ليس عبادة؛ ولهذا قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2] .
 
فإن قال قائل: وهل الاستعانة بالمخلوق جائزة في جميع الأحوال؟
 
فالجواب: لا؛ الاستعانة بالمخلوق إنما تجوز حيث كان المستعان به قادراً عليها؛ وأما إذا لم يكن قادراً فإنه لا يجوز أن تستعين به: كما لو استعان بصاحب قبر فهذا حرام؛ بل شرك أكبر؛ لأن صاحب القبر لا يغني عن نفسه شيئاً؛ فكيف يعينه! وكما لو استعان بغائب في أمر لا يقدر عليه، مثل أن يعتقد أن الولّي الذي في شرق الدنيا يعينه على مهمته في بلده: فهذا أيضاً شرك أكبر؛ لأنه لا يقدر أن يعينه وهو هناك.
 
فإن قال قائل: هل يجوز أن يستعين المخلوق فيما تجوز استعانته به؟
 
فالجواب: الأولى أن لا يستعين بأحد إلا عند الحاجة، أو إذا علم أن صاحبه يُسر بذلك، فيستعين به من أجل إدخال السرور عليه؛ وينبغي لمن طلبت منه الإعانة على غير الإثم والعدوان أن يستجيب لذلك.
 
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} .
قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} : {الصراط} فيه قراءتان: بالسين: {السراط} ، وبالصاد الخالصة: {الصراط} ؛ والمراد بـ {الصراط} الطريق؛ والمراد بـ «الهداية» هداية الإرشاد، وهداية التوفيق؛ فأنت بقولك: {اهدنا الصراط المستقيم} تسأل الله
(1/19)
 
 
تعالى علماً نافعاً، وعملاً صالحاً؛ و {المستقيم} أي الذي لا اعوجاج فيه.
 
الفوائد:
 
1 ـ من فوائد الآية: لجوء الإنسان إلى الله عز وجل بعد استعانته به على العبادة أن يهديه الصراط المستقيم؛ لأنه لابد في العبادة من إخلاص؛ يدل عليه قوله تعالى: {إياك نعبد} ؛ ومن استعانة يتقوى بها على العبادة؛ يدل عليه قوله تعالى: {وإياك نستعين} ؛ ومن اتباع للشريعة؛ يدل عليه قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} ؛ لأن {الصراط المستقيم} هو الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلّم.
 
2 ـ ومن فوائد الآية: بلاغة القرآن، حيث حذف حرف الجر من {اهدنا} ؛ والفائدة من ذلك: لأجل أن تتضمن طلب الهداية: التي هي هداية العلم، وهداية التوفيق؛ لأن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية علم وإرشاد؛ وهداية توفيق، وعمل؛ فالأولى ليس فيها إلا مجرد الدلالة؛ والله عز وجل قد هدى بهذا المعنى جميع الناس، كما في قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس} [البقرة: 185] ؛ والثانية فيها التوفيق للهدى، واتباع الشريعة، كما في قوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} [البقرة: 2] ؛ وهذه قد يحرمها بعض الناس، كما قال تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17] {فهديناهم} أي بيّنا لهم الحق، ودَلَلْناهم عليه؛ ولكنهم لم يوفقوا.
3 ـ ومن فوائد الآية: أن الصراط ينقسم إلى قسمين: مستقيم، ومعوج؛ فما كان موافقاً للحق فهو مستقيم، كما قال الله تعالى: {وأن
(1/20)
 
 
هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} [الأنعام: 153] ؛ وما كان مخالفاً فهو معوج.
 
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ} .
 
قوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم} عطف بيان لقوله تعالى: {الصراط المستقيم} ؛ والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في قوله تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً} . [النساء: 69] .
 
قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم} : هم اليهود، وكل من علم بالحق ولم يعمل به.
 
قوله تعالى: {ولا الضالين} : هم النصارى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلّم، وكل من عمل بغير الحق جاهلاً به.
 
وفي قوله تعالى: {عليهم} قراءتان سبعيتان: إحداهما ضم الهاء؛ والثانية كسرها.
 
واعلم أن القراءة التي ليست في المصحف الذي بين أيدي الناس لا تنبغي القراءة بها عند العامة لوجوه ثلاثة:
 
الوجه الأول: أن العامة إذا رأوا هذا القرآن العظيم الذي قد ملأ قلوبهم تعظيمه، واحترامه إذا رأوه مرة كذا، ومرة كذا تنزل منزلته عندهم؛ لأنهم عوام لا يُفرقون.
 
الوجه الثاني: أن القارىء يتهم بأنه لا يعرف؛ لأنه قرأ عند العامة بما لا يعرفونه؛ فيبقى هذا القارىء حديث العوام في مجالسهم.
 
الوجه الثالث: أنه إذا أحسن العامي الظن بهذا القارىء، وأن
(1/21)
 
 
عنده علماً بما قرأ، فذهب يقلده، فربما يخطىء، ثم يقرأ القرآن لا على قراءة المصحف، ولا على قراءة التالي الذي قرأها، وهذه مفسدة.
ولهذا قال علّي: «حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله» (1) ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «إنك لا تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» (2) ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمع هشام بن حكيم يقرأ آية لم يسمعها عمر على الوجه الذي قرأها هشام خاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم لهشام: «اقرأ» ، فلما قرأ قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «هكذا أنزلت» ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلّم لعمر: «اقرأ» ، فلما قرأ قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «هكذا أُنزلت» (3) ؛ لأن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فكان الناس يقرؤون بها حتى جمعها عثمان رضي الله عنه على حرف واحد حين تنازع الناس في هذه الأحرف، فخاف رضي الله عنه أن يشتد الخلاف، فجمعها في حرف واحد ـ وهو حرف قريش؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم الذي نزل عليه القرآن بُعث منهم؛ ونُسيت الأحرف الأخرى؛ فإذا كان عمر رضي الله عنه فعل ما فعل بصحابي، فما بالك بعامي يسمعك تقرأ غير قراءة المصحف المعروف عنده! والحمد لله: مادام العلماء متفقين على أنه لا يجب أن يقرأ الإنسان بكل قراءة، وأنه لو اقتصر على واحدة من القراءات فلا بأس؛ فدع الفتنة، وأسبابها.
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب: من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا (127) معلقاً
(2) أخرجه مسلم مقدمة الكتاب باب النهي عن الحديث بكل ما سمع (14) .
(3) أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف (4992) ومسلم كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف وبيان معناها (270) (818) .
(1/22)
 
 
الفوائد:
1 ـ من فوائد الايتين: ذكر التفصيل بعد الإجمال؛ لقوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} : وهذا مجمل؛ {صراط الذين أنعمت عليهم} : وهذا مفصل؛ لأن الإجمال، ثم التفصيل فيه فائدة: فإن النفس إذا جاء المجمل تترقب، وتتشوف للتفصيل، والبيان، فإذا جاء التفصيل ورد على نفس مستعدة لقبوله متشوفة إليه؛ ثم فيه فائدة ثانية هنا: وهي بيان أن الذين أنعم الله عليهم على الصراط المستقيم.
 
2 ـ ومنها: إسناد النعمة إلى الله تعالى وحده في هداية الذين أنعم عليهم؛ لأنها فضل محض من الله.
 
3 ـ ومنها: انقسام الناس إلى ثلاثة أقسام؛ قسم أنعم الله عليهم؛ وقسم مغضوب عليهم؛ وقسم ضالون؛ وقد سبق بيان هذه الأقسام.
 
وأسباب الخروج عن الصراط المستقيم: إما الجهل؛ أو العناد؛ والذين سبب خروجهم العناد هم المغضوب عليهم، وعلى رأسهم اليهود؛ والآخرون الذين سبب خروجهم الجهل كل من لا يعلم الحق، وعلى رأسهم النصارى؛ وهذا بالنسبة لحالهم قبل البعثة ـ أعني النصارى؛ أما بعد البعثة فقد علموا الحق، وخالفوه؛ فصاروا هم، واليهود سواءً ـ كلهم مغضوب عليهم.
 
4 ـ ومن فوائد الايتين: بلاغة القرآن، حيث جاء التعبير عن المغضوب عليهم باسم المفعول الدال على أن الغضب عليهم حاصل من الله تعالى، ومن أوليائه.
 
5 ـ ومنها: أنه يقدم الأشد، فالأشد؛ لأنه تعالى قدم المغضوب عليهم على الضالين؛ لأنهم أشد مخالفة للحق من الضالين؛ فإن المخالف عن علم يصعب رجوعه بخلاف المخالف عن جهل.
(1/23)
 
 
وعلى كل حال السورة هذه عظيمة؛ ولا يمكن لا لي، ولا لغيري أن يحيط بمعانيها العظيمة؛ لكن هذا قطرة من بحر؛ ومن أراد التوسع في ذلك فعليه بكتاب «مدارج السالكين» لابن القيم رحمه الله.
(1/24)
 
 
تفسير سورة النبأ
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الاَْرْضَ مِهَداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَكُمْ أَزْوَجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً * لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّتٍ أَلْفَافاً} .
 
البسملة تقدم الكلام عليها.
 
{عم يتساءلون} يعني عم يتساءل هؤلاء، ثم أجاب الله عز وجل عن هذا السؤال فقال: {عن النبأ العظيم. الذي هم فيه مختلفون} وهذا النبأ هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من البينات والهدى، ولاسيما ما جاء به من الأخبار عن اليوم الآخر والبعث والجزاء، وقد اختلف الناس في هذا النبأ الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فمنهم من آمن به وصدق، ومنهم من كفر به وكذب، ومنهم من شك فيه وتردد فبين الله أن هؤلاء الذين كذبوا سيعلمون ما كذبوا به علم اليقين، وذلك إذا رأوا يوم القيامة يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق، ولهذا قال سبحانه هنا: {كلا سيعلمون. ثم كلا سيعلمون} والجملة الثانية توكيدٌ للأولى من حيث المعنى، وإن كانت ليست توكيداً باعتبار اصطلاح النحويين؛ لأنه فُصل بينها وبين التي قبلها بحرف العطف، والتوكيد لا يُفصل بينه وبين مؤكدة بشيء من
(1/25)
 
 
الحروف. والمراد بالعلم الذي توعدهم الله به هو علم اليقين الذي يشاهدونه على حسب ما أخبروا به.
ثم بين الله تعالى نعمه على عباده ليقرر هذه النعم فيلزمهم شكرها فقال: {ألم نجعل الأرض مهاداً} أي جعل الله الأرض مهاداً ممهدة للخلق ليست بالصلبة التي لا يستطيعون حرثها، ولا المشي عليها إلا بصعوبة، وليست باللينة الرخوة التي لا ينتفعون بها، ولا يستقرون فيها، ولكنها ممهدة لهم على حسب مصالحهم وعلى حسب ما ينتفعون به. {والجبال أوتاداً} أي جعلها الله تعالى أوتاداً للأرض بمنزلة الوتد للخيمة حيث يثبتها فتثبت به، وهي أيضاً ثابتة كما قال تعالى: {وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها} [فصلت: 10] . وهذه الأوتاد قال علماء الأرض: إن هذه الجبال لها جذور راسخة في الأرض كما يرسخ جذر الوتد بالجدار، أو وتد الخيمة في الأرض ولذلك تجدها صلبة قوية لا تزعزعها الرياح وهذا من تمام قدرته ونعمته. {وخلقناكم أزواجاً} أي أصنافاً ما بين ذكر وأنثى، وصغير وكبير، وأسود وأحمر، وشقي وسعيد إلى غير ذلك مما يختلف الناس فيه، فهم أزواج مختلفون على حسب ما أراده الله عز وجل واقتضته حكمته ليعتبر الناس بقدرة الله تعالى، وأنه قادر على أن يجعل هذا البشر الذين خلقوا من مادة واحدة ومن أب واحد على هذه الأصناف المتنوعة المتباينة. {وجعلنا نومكم سباتاً} أي قاطعاً للتعب، فالنوم يقطع ما سبقه من التعب، ويستجد به الإنسان نشاطاً للمستقبل، ولذلك تجد الرجل إذا تعب ثم نام استراح وتجدد نشاطه، وهذا من النعمة وهو أيضاً من آيات الله كما قال الله تعالى: {ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله} . [الروم: 23] .
{وجعلنا الليل لباساً} أي جعل الله هذا الليل على الأرض بمنزلة اللباس كأن الأرض تلبسه ويكون جلباباً لها،
(1/26)
 
 
وهذا لا يعرفه تمام المعرفة إلا من صعد فوق ظل الأرض، وقد رأينا ذلك من الايات العجيبة إذا صعدت في الطائرة وارتفعت وقد غابت الشمس عن سطح الأرض ثم تبينت لك الشمس بعد أن ترتفع تجد الأرض وكأنما كسيت بلباس أسود. لا ترى شيئاً من الأرض كله سواد من تحتك فتبين من هذا معنى قوله تعالى: {وجعلنا الليل لباسا} {وجعلنا النهار معاشاً} أي معاشاً يعيش الناس فيه في طلب الرزق على حسب درجاتهم وعلى حسب أحوالهم، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على العباد. {وبنينا فوقكم سبعاً شداداً} وهي السماوات السبع، وصفها الله تعالى بالشداد لأنها قوية كما قال تعالى: {والسماء بنيناها بأيدٍ وإنا لموسعون} [الذاريات: 47] . أي بنيناها بقوة. {وجعلنا سراجاً وهَّاجاً} يعني بذلك الشمس فهي سراج مضيء، وهي أيضاً ذات حرارة عظيمة. {وهاجاً} أي وقَّادة، وحرارتها في أيام الصيف حرارة شديدة مع بعدها الساحق عن الأرض، فما ظنك بما يقرب منها، ثم إنها تكون في أيام الحر في شدة حرها من فيح جهنم، (1) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم» . وقال عليه الصلاة والسلام: «اشتكت النار إلى الله فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم، وأشد ما يكون من الحر من فيح جهنم» (2) .
ومع ذلك فإن فيها مصلحة عظيمة للخلق فهي توفر على الخلق أموالاً عظيمة في وقت النهار حيث يستغني الناس بها عن إيقاد الأنوار، وكذلك الطاقة التي تستخرج منها تكون فيها فوائد كثيرة،
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر (536) . ومسلم كتاب المساجد، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر (615) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة (3620) . ومسلم كتاب المساجد،..باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر (617) .
(1/27)
 
 
وكذلك إنضاج الثمار وغير هذا من الفوائد العديدة من هذا السراج الذي جعله الله عز وجل لعباده.
 
ولما ذكر السراج الوهاج الذي به الحرارة واليبوسة ذكر ما يقابل ذلك فقال: {وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجَّاجاً} والماء فيه رطوبة وفيه برودة، وهذا الماء أيضاً تنبت به الأرض وتحيا به، فإذا انضاف ماء السماء إلى حرارة الشمس حصل في هذا إنضاج للثمار ونمو لها على أكمل ما يكون. {وأنزلنا من المعصرات} يعني من السحاب، ووصفها الله بأنها معصرات كأنما تعصر هذا المطر عند نزوله عصراً، كما يعصر الثوب، فإن هذا الماء يتخلل هذا السحاب ويخرج منه كما يخرج الماء من الثوب المعصور، وقوله: {ماء ثجَّاجاً} أي كثير لثج يعني الإنهمار والتدفق وذلك لغزارته وقوته حتى يروي الأرض. {لنخرج به} أي لنخرج بهذا الماء الذي أنزل من السماء إلى الأرض {حبًّا ونباتاً} فتنبت الأرض ويخرج الله به من الحب بجميع أصنافه وأنواعه البر والشعير والذرة وغيرها. والنبات من الثمار كالتين والعنب وما أشبه ذلك {وجنات ألفافا} أي بساتين ملتفاً بعضها إلى بعض، من كثرتها وحسنها وبهائها حتى إنها لتستر من فيها لكثرتها، والتفاف بعضها إلى بعض، وهي الأشجار التي لها ساق، فيخرج من هذا الماء الثجاج الزروع والنخيل والأعناب وغيرها سواء خرج منه مباشرة أو خرج منه بواسطة استخراج الماء من باطن الأرض؛ لأن الماء الذي في باطن الأرض هو من المطر كما قال تعالى: {فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين} [الحجر: 22] . وقال تعالى في آية أخرى: {فسلكه ينابيع في الأرض} . [الزمر: 21] .
ولما ذكر الله تعالى ما أنعم به على العباد ذكر حال اليوم الآخر وأنه ميقات يجمع الله به الأولين والآخرين فقال تعالى:
(1/28)
 
 
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَتاً * يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً * وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَباً * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِّلطَّغِينَ مََاباً * لَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً * لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَآءً وِفَقاً * إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُواْ بَِايَتِنَا كِذَّاباً * وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَهُ كِتَباً * فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} .
قال تعالى: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً} وهو يوم القيامة، وسمي يوم فصل لأن الله يفصل فيه بين العباد فيما شجر بينهم، وفيما كانوا يختلفون فيه، فيفصل بين أهل الحق وأهل الباطل، وأهل الكفر وأهل الإيمان، وأهل العدوان وأهل الاعتدال، ويفصل فيه أيضاً بين أهل الجنة والنار، فريق في الجنة وفريق في السعير. {كان ميقاتاً} يعني ميقاتاً للجزاء موقوتاً لأجل معدود كما قال تعالى: {وما نؤخره إلا لأجل معدود} [هود: 104] . وما ظنك بشيء له أجل معدود وأنت ترى الأجل كيف يذهب سريعاً يوماً بعد يوم حتى ينتهي الإنسان إلى آخر مرحلة، فكذلك الدنيا كلها تسير يوماً بعد يوم حتى تنتهي إلى آخر مرحلة، ولهذا قال تعالى: {وما نؤخره إلا لأجل معدود} كل شيء معدود فإنه ينتهي. {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً} والنافخ الموكل فيها إسرافيل، ينفخ فيها نفختين: الأولى: يفزع الناس ثم يصعقون فيموتون، والثانية: يبعثون من قبورهم وتعود إليهم أرواحهم، ولهذا قال هنا: {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً} وفي الآية إيجاز بالحذف أي فتحيون فتأتون أفواجاً؛ فوجاً مع فوج أو يتلو فوجاً، وهذه الأفواج ـ
(1/29)
 
 
والله أعلم ـ بحسب الأمم كل أمة تدعى إلى كتابها لتحاسب عليه، فيأتي الناس أفواجاً في هذا الموقف العظيم الذي تسوى فيه الأرض فيذرها الله عز وجل قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وفي هذا اليوم يقول الله عز وجل: {وفتحت السماء فكانت أبواباً} فتحت وانفرجت فتكون أبواباً يشاهدها الناس بعد أن كانت سقفاً محفوظاً تكون في ذلك اليوم أبواباً مفتوحة، وفي هذا دليل على كمال قدرة الله عز وجل أن هذه السبع الشداد يجعلها الله تعالى يوم القيامة كأن لم تكن، تكون أبواباً {يوم تكون السماء كالمهل. وتكون الجبال كالعهن. [المعارج: 8 ـ 9] .
وثم صفة أخرى ذكرها الله في قوله: {وسيرت الجبال فكانت سراباً} أي أن الجبال العظيمة الصماء تُدك فتكون كالرمل ثم تكون كالسراب تسير {وسيرت الجبال فكانت سراباً} . قوله تعالى: {إن جهنم كانت مرصاداً أي مرصدة ومعدة للطاغين وجهنم أسم من أسماء كثيرة وسميت بهذا الأسملأنها ذات جهمة وظلمة بسوادها وقعرها أعاذنا الله وإياكم منها وهي مرصاد للطاغين قد اعدها الله عز وجل لهم من الآن فهي موجودة كما قال تعالى: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} [البقرة: 24] حين عرضت عليه وهو يصلي صلاة الكسوف (1) . ورأي فيها إمرأة تعذب في قطة لها حبستها لا هي أطعمتها ولا أرسلتها تاكل من خشاش الأرض (2) ؛ ورأي فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار (3) يعني امعائه لأنه كان أول من أدخل الشرك على العرب؛ هذه النار يقول الله عز وجل أنها: {للطاغين مآبا} والطاغون جمع طاغ وهو الذي تجاوز الحد كما قال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11] . أي زاد وتجاوز حده وحد النسان مذكور في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} . [الذاريات: 56] .
 
وتجاوز الحد يكون في حقوق الله ويكون في حقوق العباد، أما في حقوق الله _ عز وجل _ فإنه التفريط في الواجب أو التعدي في المحرم، وأما الطغيان في حقوق الآدميين فهو العدوان عليهم في أموالهم ودمائهم وأعراضهم. وهذه الثلاثة التي حرمها رسول الله صلى الله وآله وسلم، وأعلن تحريمها في حجة الوداع في أكثر من موضع فقال: ((إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)) (4) .
فالطغاة في حقوق الله وفي حقوق العباد هم أهل النار والعياذ بالله؛ ولهذا قال: {للطاغين مآبا} . أي مكان أواب، والأوب في الأصل الرجوع، كما قال تعالى: {نعم العبد إنه أواب} [ص: 30] . أي رجاع إلى الله _ عز وجل _ {لابثين فيها أحقابا} أي باقين فيها، {أحقابا} أي مدداً طويلة؛ وقد دل القرآن الكريم على أن هذه المدد لا نهاية لها وأنها مدد أبدية كما جاء ذلك مصرحاً به في ثلاث آيات من كتاب الله في سورة النساء في قوله تعالى: {إن الذين ظلموا وكفروا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا} [النساء: 168 - 169] . وفي سورة الأحزاب {إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً خالدين فيها أبدا لا يجدون ولياً ولا نصيرا} [الأحزاب: 64 - 65] . وفي سورة الجن في قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} [الجن: 23] .
فإذا كان الله تعالى صرح في ثلاث آيات من كتابه بأن أصحاب النار مخلدون فيها أبداً، فإنه يلزم أن تكون النار باقيةً أبد الآبدين وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، إن النار والجنة مخلوقتان ولا تفنيان أبداً ووجد خلاف يسير من بعض أهل السنة في أبدية النار، وزعموا انها غير مؤبدة، واستدلوا بحجج هي في الحقيقة شبه لا دلالة فيها لما ذهبوا إليه، وإذا قورنت بالأدلة الأخرى، تبين أنه لا معول على المخالف فيه ولا على قوله، والواجب على المؤمن أن يعتقد ما دل عليه كتاب الله دلالة صريحة لا تحتمل التأويل، والآيات الثلاث التي ذكرناها كلها آيات محكمة لا يتطرق إليها النسخ، ولا يتطرق إليها الاحتمال، أما عدم تطرق النسخ إليها فلأنها خبر، واخبار الله _ عز وجل _ لا تنسخ وكذلك أخبار رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن نسخ أحد الخبرين بالآخر يستلزم كذب أحد الخبرين، إما تعمداً من المخبر أو جهلاً بالحال، وكل ذلك ممتنع في خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، المبني على الوحي، وأما عدم تطرق الأحتمال فللتصريح بالأبدية في الآيات الثلاث، والمهم أنه يجب علينا أن نعتقد شيئين:
 
الشيء الأول: وجود الجنة والنار الآن وأدلة ذلك من القرأن والسنة كثيرة منها قوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} [آل عمران: 133] . والإعداد التهيئة وهذا الفعل (أعدت) فعل ماضي يدل علي أن الإعداد قد وقع وكذلك قال الله تعالى في النار: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} [آل عمران: 131] . والإعداد تهيئة الشيء، والفعل هنا ماض يدل على الوقوع وقد جاءت السنة صريحة في ذلك في أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، رأي الجنة ورأي النار.
الشيء الثاني: أعتقاد أنهما داران أبديتان من دخلهما وهو من أهلهما فإنه يكون فيهما أبداً، أما الجنة فمن دخلها لا يخرج منها كما قال تعالى: {وما هم منها بمخرجين} [الحجر: 48] . واما النار فإن عصاة المؤمنين يدخلون فيها ما شاء الله أن يبقوا فيها، ثم يكون مآلهم الجنة كما شهدت بذلك الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقوله تعالى {لا بثين فيها أحقابا} . لا تدل بأي حال من الأحوال على أن هذه الأحقاب مؤمدة يعني إلى أمد ثم تنتهي، بل المعنى أحقاباً كثيرة لا نهاية لها. {لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً} نفى الله سبحانه وتعالى عنهم البرد الذي تبرد به ظواهر أبدانهم، والشراب الذي تبرد به أجوافهم. ذلك لأنهم والعياذ بالله إذا عطشوا واستغاثوا كانو كما قال الله تعالى: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً} [الكهف: 29] . وهل الماء الذي كالمهل وإذا قرب من الوجه شوى الوجه هل ينتفع به صاحبه؟ الجواب استمع قول اله تعالى: {وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم} [محمد: 15] . أما في ظاهر الجسم فقد قال الله تعالى: {خذوه فأعتلوه في سواء الجحيم. ثم في صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم} [الخان: 47 - 48] . وقال تعالى: {يصب من فوق رؤوسهم الحميم. يُصهر به ما في بطونهم والجلود} [الحج: 19 - 20] . ما في بطونهم الأمعاء وهي باطن الجسم، فمن كان كذلك فإنهم لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً يطفئ حرارة بطونهم ومن تدبر ما في القرأن والسنة من الوعيد الشديد لأهل النار فإنه كما قال السلف: (عجبت للنار كيف ينام هاربها، وعجبت للجنة كيف ينام طالبها) .
إننا لو قال لنا قائل: أن لكم في أقصى الدنيا قصوراً وأنهاراً وزوجات وفاكهة لا تنقطع عنا، ولا ننقطع دونها بل هي إلى أبد الآبدين، لكنا نسير على أهداب أعيننا ليلاً ونهاراً لنصل إلى هذه الجنة التي بها هذا النعيم العظيم، والتي نعيمها دائم لا يقطع، وشباب ساكنها دائم لا يهرم، وصحته دائمة ليس فيها سقم، وأنظروا إلى الناس اليوم يذهبون إلى مشارق الأرض ومغاربها لينالوا درهماً او ديناراً قد يتمتعون بذلك وقد لا يتمتعون به، فما بالنا نقف هذا الموقف من طلب الجنة، وهذا الموقف من الهرب من النار، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من النار، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة.
{إلا حميماً وغساقاً} الاستثناء هنا منقطع عند النحويين لأن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، والمعنى ليس لهم إلا هذا الحميم وهو الماء الحار المنتهي في الحرارة. {يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه} [الكهف: 29] . {وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم} . [محمد: 15] . {وغساقاً} قال المفسرون: إن الغساق هو شراب منتن الرائحة شديد البرودة، فيجمع لهم ـ والعياذ بالله ـ بين الماء الحار الشديد الحرارة، والماء البارد الشديد
_________
(1) أخرجه البخاري، رقم (431) كتاب الصلاة.
(2) أخرجه مسلم رقم (904) كتاب الكسوف.
(3) أخرجه البخاري رقم (2623) كتاب التفسير، ومسلم رقم (2856) كتاب الجنة.
(4) أخرجه مسلم رقم (147) كتاب الحج
(1/30)
 
 
البرودة ليذوقوا العذاب من الناحيتين: من ناحية الحرارة، ومن ناحية البرودة، بل إن بعض أهل التفسير قالوا: إن المراد بالغساق صديد أهل النار، وما يخرج من أجوافهم من النتن والعرق وغير ذلك. وعلى كل حال فالآية الكريمة تدل على أنهم لا يذوقون إلا هذا الشراب الذي يقطع أمعاءهم من حرارته، ويفطّر أكبادهم من برودته، نسأل الله العافية. وإذا اجتمعت هذه الأنواع من العذاب كان ذلك زيادة في مضاعفة العذاب عليهم. {جزاء وفاقاً} أي يجزون بذلك جزاء موافقاً لأعمالهم من غير أن يظلموا، قال الله تبارك وتعالى: {إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون} [يونس: 44] . فهذا الجزاء موافق مطابق لأعمالهم. ثم بين وجه الموافقة، موافقة هذا العذاب للأعمال فقال: {إنهم كانوا لا يرجون حساباً.
وكذبوا بآياتنا كِذَّاباً} فذكر انحرافهم في العقيدة وانحرافهم في القول، {إنهم كانوا لا يرجون حساباً} أي لا يؤملون أن يحاسبوا بل ينكرون الحساب، ينكرون البعث يقولون: {ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} فلا يرجون حساباً يحاسبون به لأنهم ينكرون ذلك، هذه عقيدة قلوبهم، أما ألسنتهم فيكذبون يقولون هذا كذب، هذا سحر، هذا جنون، وما أشبه ذلك كما جاء في كتاب الله ما يصف به هؤلاء المكذبون رسل الله، كما قال عز وجل: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} [الذاريات: 52] . وقال الله تعالى عن المكذبين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: {وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} [ص: 4] . وقالوا إنه شاعر {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} [الطور: 30] . {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لوما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين} [الحجر: 7] . ولولا أن الله ثبت أقدام
(1/31)
 
 
الرسل وصبرهم على قومهم ما صبروا على هذا الأمر، ثم إن قومهم المكذبين لهم لم يقتصروا على هذا بل آذوهم بالفعل كما فعلوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام من الأذية العظيمة بل آذوهم بحمل السلاح عليهم، فمن كانت هذه حاله فجزاؤه جهنم جزاءً موافقاً مطابقاً لعمله كما في هذه الآية الكريمة: {جزاء وفاقاً. إنهم كانوا لا يرجون حساباً. وكذبوا بآياتنا كذاباً} . قوله تعالى: {وكل شيء أحصيناه كتاباً} {كل شيء} يشمل ما يفعله الله عز وجل من الخلق والتدبير في الكون، ويشمل ما يعمله العباد من أقوال وأفعال، ويشمل كل صغير وكبير {أحصيناه} أي ضبطناه بالإحصاء الدقيق الذي لا يختلف.
{كتاباً} يعني كتباً، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله تعالى كتب مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، (1) ومن جملة ذلك أعمال بني آدم فإنها مكتوبة، بل كل قول يكتب، قال الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18] . رقيب يعني مراقب، والعتيد يعني الحاضر. ودخل رجل على الإمام أحمد رحمه الله وهو مريض يئن من مرضه فقال له: يا أبا عبد الله إن طاووساً وهو أحد التابعين المشهورين يقول: إن أنين المريض يكتب، فتوقف رحمه الله عن الأنين خوفاً من أن يكتب عليه أنين مرضه. فكيف بأقوال لا حدّ لها ولا ممسك لها، ألفاظ تترى طوال الليل والنهار ولا يحسب لها الحساب، فكل شيء يكتب حتى الهم يكتب إما لك وإما عليك، من همّ بالسيئة فلم يعملها عاجزاً عنها فإنها تكتب عليه، وإن هم بها وتركها لله فإنها تكتب له، (2) فلا يضيع شيء كل شيء أحصيناه كتاباً.
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى صلى الله عليهما وسلم (2653) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة (6491) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب (203) (128) .
(1/32)
 
 
{فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} هذا الأمر للإهانة والتوبيخ، يعني يقال لأهل النار: ذوقوا العذاب إهانة وتوبيخاً فلن نرفعه عنكم ولن نخففه عنكم، بل ولا نبقيكم على ما أنتم عليه لا نزيدكم إلا عذاباً في قوته ومدته ونوعه، وفي آية أخرى أنهم يقولون لخزنة جهنم: {ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} [غافر: 49] . تأمل هذه الكلمة من عدة أوجه:
أولاً: أنهم لم يسألوا الله سبحانه وتعالى وإنما طلبوا من خزنة جهنم أن يدعوا لهم. لأن الله قال لهم: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} . [المؤمنون: 108] . فرأوا أنفسهم أنهم ليسوا أهلاً لأن يسألوا الله ويدعوه بأنفسهم بل لا يدعونه إلا بواسطة.
 
ثانياً: أنهم قالوا: {ادعوا ربكم} ولم يقولوا: ادعوا ربنا، لأن وجوههم وقلوبهم لا تستطيع أن تتحدث أو أن تتكلم بإضافة ربوبية الله لهم أي بأن يقولوا ربنا، عندهم من العار والخزي ما يرون أنهم ليسوا أهلاً لأن تضاف ربوبية الله إليهم بل قالوا {ربكم} .
 
ثالثاً: لم يقولوا يرفع عنا العذاب بل قالوا: {يخفف} لأنهم آيسون نعوذ بالله، آيسون من أن يرفع عنهم.
 
رابعاً: أنهم لم يقولوا يخفف عنا العذاب دائماً، بل قالوا {يوماً من العذاب} يوماً واحداً، بهذا يتبين ما هم عليه من العذاب والهوان والذل {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي} [الشورى: 45] . أعاذنا الله منها.
(1/33)
 
 
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَآئِقَ وَأَعْنَباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لاَّيَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَباً * جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً} .
ذكر الله عز وجل ما للمتقين من النعيم بعد قوله: {إن جهنم كانت مرصاداً. للطاغين مآباً} . لأن القرآن مثاني إذا ذكر فيه العقاب ذكر فيه الثواب، وإذا ذكر الثواب ذكر العقاب، وإذا ذكر أهل الخير ذكر أهل الشر، وإذا ذكر الحق ذكر الباطل، مثاني حتى يكون سير الإنسان إلى ربه بين الخوف والرجاء؛ لأنه إن غلب عليه الرجاء وقع في الأمن من مكر الله، وإن غلب عليه الخوف وقع في القنوط من رحمة الله، وكلاهما من كبائر الذنوب، كلاهما شر، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «ينبغي أن يكون الإنسان في عبادته لربه بين الخوف والرجاء، فأيهما غلب هلك صاحبه» . لذلك تجد القرآن الكريم يأتي بهذا وبهذا، ولئلا تمل النفوس من ذكر حال واحدة والإسهاب فيها دون ما يقابلها. وهكذا، لأجل أن يكون الإنسان حين يقرأ القرآن راغباً راهباً، وهذا من بلاغة القرآن الكريم.
{إن للمتقين مفازاً} المتقون هم الذين اتقوا عقاب الله، وذلك بفعل أوامر الله واجتناب نواهيه، وأحياناً يأمر الله بتقواه، وأحياناً يأمر بتقوى يوم الحساب، وأحياناً يأمر بتقوى النار، قال الله تعالى: {واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار} [آل عمران: 131] . فجمع بين الأمر بتقواه والأمر بتقوى النار، وقال تعالى: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} [البقرة: 281] . فأمر بتقوى يوم الحساب، وكل هذا يدور على معنى واحد وهو: أن يتقي الإنسان محارم ربه فيقوم بطاعته وينتهي عن معصيته، فالمتقون هم الذين قاموا بأوامر الله واجتنبوا نواهي الله،
(1/34)
 
 
هؤلاء لهم {مفازاً} ، والمفاز هو مكان الفوز وزمان الفوز أيضاً، فهم فائزون في أمكنتهم، وفائزون في أيامهم. {حدائق وأعنابا} هذا نوع المفاز، {حدائق} جمع حديقة أي بساتين أشجارها عظيمة وكثيرة ومنوعة. {وأعناباً} الأعناب جمع عنب وهي من جملة الحدائق لكنه خصها بالذكرلشرفها. {وكواعب أترابا} الكواعب جمع كاعب وهي التي تبين ثديها ولم يتدل، بل برز وظهر كالكعب، وهذا أكمل ما يكون في جمال الصدر. {وأتراباً} أي على سن واحدة لا تختلف إحداهن عن الأخرى كبراً كما في نساء الدنيا، لأنها لو اختلفت إحداهن عن الأخرى كبراً فربما تختل الموازنة بينهما، وربما تكون إحداهما محزونة إذا لم تساوي الأخرى، لكنهن أتراب. {وكأساً دهاقاً} أي كأساً ممتلئة، والمراد بالكأس هنا كأس الخمر. وربما يكون للخمر وغيره، لأن الجنة فيها {أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} [محمد: 15] . ولكن يرجح أنها الخمر وحدها. قوله: {لا يسمعون فيها لغواً} لا يسمعون في الجنة لغواً أي كلاماً باطلاً لا خير فيه.
{ولا كذاباً} أي ولا كذباً فلا يكذبون، ولا يكذب بعضهم بعضاً، لأنهم على سرر متقابلين قد نزع الله ما في صدورهم من غل وجعلهم أخواناً. {جزاء من ربك عطاء} أي أنهم يجزون بهذا جزاء من الله سبحانه وتعالى على أعمالهم الحسنة التي عملوها في الدنيا واتقوا بها محارم الله. {حساباً} أي كافياً، مأخوذة من الحسب وهو الكفاية أي أن هذا الكأس كأس كافٍ لا يحتاجون معه إلى غيره لكمال لذته وتمام منفعته.
(1/35)
 
 
{رَّبِّ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً * يَوْمَ يَقُومُالرُّوحُ وَالْمَلَئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مََاباً * إِنَّآ أَنذَرْنَكُمْ عَذَاباًقَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَلَيْتَنِى كُنتُ تُرَباً} .
{رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن} فالله سبحانه وتعالى هو رب كل شيء، قال الله تعالى: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء} [النمل: 91] . فهو رب السماوات السبع الطباق، ورب الأرض وهي سبع كما ثبت ذلك في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. (1) {وما بينهما} أي ما بين السماوات والأرض من المخلوقات العظيمة كالغيوم والسحب والأفلاك وغيرها مما نعلمه، ومما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. وقوله: {لا يملكون منه خطاباً} يعني أن الناس لا يملكون الخطاب من الله، ولا يستطيع أحد أن يتكلم إلا بإذن الله، وذلك {يوم يقوم الروح} وهو جبريل {والملائكة صفًّا} أي صفوفاً. صفًّا بعد صف، لأنه كما جاء في الحديث: «تنزل ملائكة السماء الدنيا فتحيط بالخلق، ثم ملائكة السماء الثانية من وراءهم، ثم الثالثة والرابعة والخامسة» (2) وهكذا.. صفوفاً لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم سبحانه وتعالى.
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين (3195) (3196) . ومسلم كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1610) (1611) (1612) .
(2) البداية والنهاية لابن كثير (فصل في مجئ الرب سبحانه وتعالى) 473 / 19. والحاكم (4/614) وقال الذهبي قوي.
(1/36)
 
 
{لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً} أي لا يتكلمون ملائكة ولا غيرهم كما قال تعالى: {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً} [طه: 108] . {إلا من أذن له الرحمن} بالكلام فإنه يتكلم كما أُذن له. {وقال صواباً} أي قال قولاً صواباً موافقاً لمرضات الله سبحانه وتعالى وذلك بالشفاعة إذا أذن الله لأحد أن يشفع شفع فيما أذن له فيه على حسب ما أُذن له.
{ذلك اليوم الحق} أي ذلك الذي أخبرناكم عنه هو اليوم الحق، والحق ضد الباطل أي الثابت الذي يقوم فيه الحق، ويقوم فيه العدل يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. {فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً} أي من شاء عمل عملاً يؤوب به إلى الله ويرجع به إلى الله، وذلك العمل الصالح الموافق لمرضاة الله تعالى. وقوله: {فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً} قيدتها آية أخرى وهي قوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [التكوير: 28، 29] . يعني أننا لنا الخيار فيما نذهب إليه لا أحد يكرهنا على شيء؛ لكن مع ذلك خيارنا وإرادتنا ومشيئتنا راجعة إلى الله {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} وإنما بين الله ذلك في كتابه من أجل أن لا يعتمد الإنسان على نفسه وعلى مشيئته بل يعلم أنها مرتبطة بمشيئة الله، حتى يلجأ إلى الله في سؤال الهداية لما يحب ويرضى. لا يقول الإنسان أنا حر أريد ما شئت وأتصرف كما شئت، نقول الأمر كذلك لكنك مربوط بإرادة الله عز وجل. {إنا أنذرناكم عذاباً قريباً} أي خوفناكم من عذاب قريب وهو يوم القيامة. ويوم القيامة قريب، ولو بقيت الدنيا ملايين السنين فإنه قريب {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} [النازعات: 46] . فهذا العذاب الذي أنذرنا الله قريب، ليس بين الإنسان وبينه إلا أن يموت، والإنسان لا يدري متى يموت قد
(1/37)
 
 
يصبح ولا يمسي، أو يمسي ولا يصبح، ولهذا كان علينا أن نحزم في أعمالنا، وأن نستغل الفرصة قبل فوات الأوان. {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} المرء: أي كل امرىء ينظر ما قدمت يداه ويكون بين يديه ويعطى كتابه، ويقال: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 14] .
ويقول الكافر من شدة ما يرى من الهول وما يشاهده من العذاب: {يا ليتني كنت تراباً} أي ليتني لم أخلق، أو ليتني لم أبعث، أو إذا رأى البهائم التي يقضي الله بينها ثم يقول كوني تراباً فتكون تراباً يتمنى أن يكون مثل البهائم فقوله: {كنت تراباً} تحتمل ثلاثة معانٍ:
 
المعنى الأول: يا ليتني كنت تراباً فلم أُخلق، لأن الإنسان خُلق من تراب.
 
المعنى الثاني: ياليتني كنت ترابًا فلم أُبعث، يعني كنت ترابًا في أجواف القبور.
 
المعنى الثالث: أنه إذا رأى البهائم التي قضى الله بينها وقال لها كوني تراباً فكانت تراباً قال: ليتني كنت تراباً أي كما كانت هذه البهائم ـ والله أعلم ـ وإلى هنا تنتهي سورة النبأ، وفيها من المواعظ والحكم وآيات الله عز وجل ما يكون موجباً للإيقان والإيمان، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بكتابه، وأن يجعله موعظة لقلوبنا، وشفاء لما في صدورنا، إنه جواد كريم.
(1/38)
 
 
تفسير سورة النازعات
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
 
{وَالنَّزِعَتِ غَرْقاً * وَالنَّشِطَتِ نَشْطاً * وَالسَّبِحَتِ سَبْحاً * فَالسَّبِقَتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَرُهَا خَشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَفِرَةِ * أَءِذَا كُنَّا عِظَماً نَّخِرَةً * قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَسِرَةٌ * فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} .
 
البسملة تقدم الكلام عليها.
{والنازعات} يعني الملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار تنزعها {غرقا} أي نزعاً بشدة. {والناشطات نشطا} يعني الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين، تنشطها نشطاً: أي تسلها برفق كالأنشوطة، والأنشوطة: الربط الذي يسمونه عندنا (التكة) أو ما أشبه ذلك من الكلمات، يعني يكون ربطاً بحيث إذا سللت أحد الطرفين انفكت العقدة وهذا ينحل بسرعة وبسهولة، فهؤلاء الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين تنشطها نشطاً أي: تسلها برفق، وسبب ذلك أن الملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار إذا دعت الروح إلى الخروج تناديها بأقبح الأوصاف تقول الملائكة لروح الكافر: اخرجي أيتها النفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث، اخرجي إلى غضب الله، فتنفر الروح لا تريد أن تخرج إلى هذا، وتتفرق في الجسد حتى يقبضوها بشدة، وينزعوها نزعاً يكاد يتمزق الجسد منها من شدة النزع. أما
(1/39)
 
 
أرواح المؤمنين ـ جعلني الله وإياكم منهم ـ فإن الملائكة إذا نزلت لقبضها تبشرها: أخرجي يا أيتها النفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب أخرجي إلى رضوان الله، فيهون عليها أن تفارق جسدها الذي ألفته فتخرج بسهولة، (1) ولهذا لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» . قالت عائشة: يا رسول الله: إنَّا لنكره الموت، فقال: «ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه» ، (2)
لأنه في تلك اللحظة يرى أنه سينتقل إلى دار أحسن من الدار التي فارقها فيفرح كما يفرح أحدنا إذا قيل له أخرج من بيت الطين إلى بيت المسلح القصر المشيد الطيب، فيفرح فيحب لقاء الله، والكافر ـ والعياذ بالله ـ بالعكس إذا بشر بالغضب والعذاب فإنه يكره أن يموت، يكره لقاء الله فيكره الله لقاءه. {والسابحات سبحا} هي الملائكة تسبح بأمر الله، أي تسرع فيه كما يسرع السابح في الماء، وكما قال تعالى عن الشمس والقمر والليل والنهار {كل في فلك يسبحون} [يس: 40] . فالمعنى أنها تسبح بأمر الله عز وجل على حسب ما أراد الله سبحانه وتعالى، وهم أي الملائكة أقوى من الجن، والجن أقوى من البشر، انظر إلى قوله تعالى عن سليمان: {يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين. قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (287/4) . وأبو داؤود كتاب السنة، باب المسألة في القبر (4753) ، والحاكم (37/1) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه (6507) ..
(1/40)
 
 
به قبل أن يرتد إليك طرفك} [النمل: 38 ـ 40] . يعني إذا مددت طرفك ثم رجعته فقبل أن يرجع إليك آتيك به {فلما رآه مستقرّاً عنده} في الحال رآه مستقراً عنده {قال هذا من فضل ربي ليبلونيءَأَشكر أم أكفر} قال العلماء: إنه حملته الملائكة حتى جاءت به إلى سليمان من اليمن، وسليمان بالشام بلحظة فدل هذا على أن قوة الملائكة أشد بكثير من قوة الجن، وقوة الجن أشد من بني آدم؛ لأنه لا يستطيع أحد من بني آدم أن يأتي بعرش ملكة سبأ من اليمن إلى الشام إلا مدة طويلة، فالحاصل أن الملائكة تسبح بأمر الله عز وجل بما يأمرها به. {فالسابقات سبقاً} أيضاً هي الملائكة تسبق إلى أمر الله عز وجل، ولهذا كانت الملائكة أسبق إلى أمر الله وأقوم بأمر الله من بني آدم، قال الله تعالى في وصف ملائكة النار: {عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} .
[التحريم: 6] . وقال عز وجل: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون. يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 19، 20] . فهم سباقون إلى أمر الله عز وجل بما يأمرهم لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لقوتهم وقدرتهم على فعل أوامر الله عز وجل. {فالمدبرات أمراً} أيضاً وصف للملائكة تدبر الأمر، وهو واحد الأمور يعني أمور الله عز وجل لها ملائكة تدبرها، حسب أمره فجبرائيل موكل بالوحي يتلقاه من الله وينزل به على الرسل، وإسرافيل موكل بنفخ الصور الذي يكون عند يوم القيامة ينفخ في الصور فيفزع الناس ويموتون، ثم ينفخ فيه أخرى فيبعثون، وميكائيل موكل بالقطر وبالمطر والنبات، وملك الموت موكل بالأرواح، ومالك موكل بالنار، ورضوان موكل بالجنة، وعن اليمين وعن الشمال قعيد موكل بالأعمال، وملائكة موكلون بحفظ أعمال بني آدم كلٌّ يدبر ما أمره الله عز وجل به.
(1/41)
 
 
فهذه الأوصاف كلها أوصاف للملائكة على حسب أعمالهم، وأقسم الله سبحانه وتعالى بالملائكة لأنهم من خير المخلوقات، ولا يقسم الله سبحانه وتعالى بشيء إلا وله شأن عظيم إما في ذاته، وإما لكونه من آيات الله عز وجل. ثم قال تعالى: {يوم ترجف الراجفة. تتبعها الرادفة} هذه {يوم ترجف} متعلقة بمحذوف والتقدير أذكر يا محمد وذكّر الناس بهذا اليوم العظيم: {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة} ، وهما النفختان في الصور، النفخة الأولى ترجف الناس ويفزعون ثم يموتون عن آخرهم إلا من شاءالله، والنفخة الثانية يبعثون من قبورهم فيقوم الناس من قبورهم مرة واحدة، قال الله تعالى: {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} [النازعات:: 13، 14] . إذا رجفت الراجفة وتبعتها الرادفة انقسم الناس إلى قسمين: {قلوب يومئذ واجفة. أبصارها خاشعة. يقولون إنا لمردودون في الحافرة.
أإذا كنا عظاماً نخرة قالوا تلك إذاً كرة خاسرة} وهذه قلوب الكفار {واجفة} أي: خائفة خوفاً شديداً. {أبصارها خاشعة} يعني ذليلة لا تكاد تحدق أو تنظر بقوة ولكنه قد غضت أبصارهم ـ والعياذ بالله ـ لذلهم قال الله تعالى: {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي} [الشورى: 45] . وأما القسم الثاني فقلوبهم على عكس قلوب هؤلاء ويدل لهذا التقسيم قوله: {قلوب يومئذ} بصيغة النكرة، فيكون المعنى: وقلوب على عكس ذلك، {فإنما هي زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة} زجرة من الله عز وجل يزجرون ويصاح بهم فيقومون من قبورهم قيام رجل واحد على ظهر الأرض بعد أن كانوا في بطنها قال الله تبارك وتعالى: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} [يس: 53] . كل الخلق في هذه الكلمة الواحدة يخرجون من قبورهم أحياء، ثم يحضرون إلى الله عز وجل ليجازيهم، ولهذا قال: {فإنما هي زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة} وهذا كقوله تعالى: {وما أمرنا إلا
(1/42)
 
 
واحدة كلمح بالبصر} [القمر: 50] . يعني أنَّ الله إذا أراد شيئاً إنما يقول له: (كن) مرة واحدة فقط فيكون ولا يتأخر هذا عن قول الله لحظة {كلمح بالبصر} والله عز وجل لا يعجزه شيء، فإذا كان الخلق كلهم يقومون من قبورهم لله عز وجل بكلمة واحدة فهذا أدل دليل على أن الله تعالى على كل شيء قدير، وأن الله لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض كما قال تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً} {فاطر: 44} .
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الآية الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاَْعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاَْخِرَةِ وَالاُْوْلَى * إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى} .
ثم قال تعالى مبيناً ما جرى للأمم قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، (1) فقال الله تعالى: {هل أتاك حديث موسى} والخطاب في
_________
(1) قصص القرءان أصدق القصص لقوله تعالى (ومن أصدق من الله حديثاً) وذلك لتمام مطابقتها للواقع.
(1/43)
 
 
قوله: {هل أتاك} للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يتأتى خطابه ويصح توجيه الخطاب إليه، ويكون على المعنى الأول (هل أتاك يا محمد) ، وعلى المعنى الثاني: (هل أتاك أيها الإنسان) {حديث موسى} وهو ابن عمران عليه الصلاة والسلام أفضل أنبياء بني إسرائيل، وهو أحد أولي العزم الخمسة الذين هم: محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح عليهم الصلاة والسلام، وقد ذكر هؤلاء الخمسة في القرآن في موضعين، أحدهما في الأحزاب في قوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم} [الأحزاب: 7] . والثاني في قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصَّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى} [الشورى: 13] . وحديث موسى عليه الصلاة والسلام ذكر في القرآن أكثر من غيره؛ لأن موسى هو نبي اليهود وهم كثيرون في المدينة وحولها في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت قصص موسى أكثر ما قص علينا من نبأ الأنبياء وأشملها وأوسعها وفي قوله: {هل أتاك حديث موسى} تشويق للسامع ليستمع إلى ما جرى في هذه القصة. {إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى} ناداه الله عز وجل نداءً سمعه بصوت الله عز وجل، قال تعالى: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيًّا} [مريم: 52] . وقوله:
(1/45)
 
 
{بالواد المقدس} هو الطور، والوادي هو مجرى الماء، وسماه الله مقدساً لأنه كان فيه الوحي إلى موسى عليه الصلاة والسلام. وقوله: {طوى} اسم للوادي.
{اذهب إلى فرعون إنه طغى} فرعون كان ملك مصر، وكان يقول لقومه إنه ربهم الأعلى، وأنه لا إله غيره {وقال فرعون يا أيها الملا ما علمت لكم من إله غيري} فادعى ما ليس له، وأنكر حق غيره وهو الله عز وجل، وأمر الله نبيه موسى عليه الصلاة والسلام أن يذهب إلى فرعون وهذه هي الرسالة، وبين سبب ذلك وهو طغيان هذا الرجل ـ أعني فرعون ـ وفي سورة طه قال: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى} [طه: 43] . ولا منافاة بين الايتين وذلك أن الله تعالى أرسل موسى أولاً ثم طلب موسى صلى الله عليه وآله وسلم من ربه أن يشد أزره بأخيه هارون فأرسل هارون عليه الصلاة والسلام مع موسى فصار موسى وهارون كلاهما مرسل إلى فرعون. وقوله تعالى: {إنه طغى} أي: زاد على حده؛ لأن الطغيان هو الزيادة، ومنه قوله تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11] . ومنه الطاغوت: لأن فيه مجاوزة الحد. {فقل هل لك إلى أن تزكى} الاستفهام هنا للتشويق، تشويق فرعون أن يتزكى مما هو عليه من الشر والفساد، وأصل الزكاة النمو والزيادة، وتطلق بمعنى الإسلام والتوحيد، ومنه قوله تعالى: {وويل للمشركين. الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون} [فصلت: 6، 7] . ومنه قوله تعالى: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} [الشمس: 9 ـ 10] . {وأهديك إلى ربك} أي أدلك إلى ربك أي إلى دين الله عز وجل الموصل إلى الله. {فتخشى} أي فتخاف الله عز وجل على علم منك؛ لأن الخشية هي الخوف المقرون بالعلم، فإن لم يكن علم فهو خوف مجرد، وهذا هو الفرق بين الخشية والخوف. الفرق
(1/46)
 
 
بينهما أن الخشية عن علم قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر:: 28] .
وأما الخوف فهو خوف مجرد ذعر يحصل للإنسان ولو بلا علم، ولهذا قد يخاف الإنسان من شيء يتوهمه لا حقيقة له، قد يرى في الليلة الظلماء شبحاً لا حقيقة له فيخاف منه، فهذا ذعر مبني على وهم، لكن الخشية تكون عن علم. فذهب موسى عليه الصلاة والسلام وقال لفرعون ما أمره الله به {هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى} ولما كان البشر لا يؤمنون ولا يقبلون دعوى شخص أنه رسول إلا بآية كما أنه لا يقبل من أحد دعوى إلا ببينة جعل الله سبحانه وتعالى مع كل رسول آية تدل على صدقه، وهنا قال: {فأراه الآية الكبرى} يعني أرى موسى فرعون الآية الكبرى، فما هي هذه الآية؟ الآية أن معه عصاً من خشب من فروع الشجر كما هو معروف، فكان إذا وضعها في الأرض صارت حية تسعى ثم يحملها فتعود عصا، وهذا من آيات الله أن شيئاً جماداً إذا وضع على الأرض صار حية تسعى، وإذا حمل من الأرض عاد في الحال فوراً إلى حاله الأولى عصا من جملة العصي، وإنما بعثه عليه الصلاة والسلام بهذه الآية، وبكونه يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء أي من غير عيب، أي: بيضاء بياضاً ليس بياض البرص ولكنه بياض جعله الله آية، إنما بعثه الله بالعصا واليد؛ لأنه كان في زمن موسى السحر منتشراً شائعاً فأرسله الله عز وجل بشيء يغلب السحرة الذين تصدوا لموسى عليه الصلاة والسلام.
قال أهل العلم: وفي عهد عيسى صلى الله عليه وآله وسلم انتشر الطب انتشاراً عظيماً، فجاء عيسى بأمر يعجز الأطباء، وهو أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برىء، إذا جيء إليه بشخص فيه عاهة أي عاهة تكون مسحه بيده ثم برىء بإذن الله {يبرىء
(1/47)
 
 
الأكمه والأبرص} مع أن البرص لا دواء له لكن هو يبرىء الأبرص بإذن الله عز وجل، ويبرىء الأكمه الذي خلق بلا عيون، وأشد من هذا وأعظم أنه يحيي الموتى بإذن الله، يؤتى إليه بالميت فيتكلم معه ثم تعود إليه الحياة، وأشد من ذلك وأبلغ أنه يخرج الموتى بإذن الله من قبورهم، يقف على القبر وينادي صاحب القبر فيخرج من القبر حيًّا، وهذا شيء لا يمكن لأي طب أن يبلغه، ولهذا كانت آية عيسى في هذا الوقت مناسبة تماماً لما كان عليه الناس. قال أهل العلم: أما رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد أتى إلى العرب وهم يتفاخرون في الفصاحة، ويرون أن الفصاحة أعظم منقبة للإنسان فجاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بهذا القرآن العظيم الذي أعجز أمراء الفصاحة، وعجزوا عن أن يأتوا بمثله، قال الله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} [الإسراء: 88] . يعني لو كان بعضهم يعاون بعضاً فإنهم لن يأتوا بمثله. حينئذ نقول إن موسى عليه الصلاة والسلام أرى فرعون الآية الكبرى ولكن لم ينتفع بالآيات {وما تغني الايات والنذر عن قوم لا يؤمنون} [يونس: 101] . {إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب} [يس: 11] فالذين ليس في قلوبهم استعداد للهداية لا يهتدون ولو جاءتهم كل آية ـ والعياذ بالله ـ ولهذا قال: {فكذب وعصى} كذب الخبر، وعصى الأمر، يعني قال لموسى إنك لست رسولاً بل قال {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} [الشعراء: 27] .
وعصى الأمر فلم يمتثل أمر موسى ولم ينقد لشرعه. {ثم أدبر يسعى} أي تولى مدبراً يسعى حثيثاً. {فحشر فنادى} حشر الناس أي جمعهم ونادى فيهم بصوت مرتفع ليكون ذلك أبلغ في نهيهم عما يريد منهم موسى عليه الصلاة والسلام. {فقال أنا
(1/48)
 
 
ربكم الأعلى} يعني لا أحد فوقي لأن {الأعلى} اسم تفضيل من العلو، فانظر كيف استكبر هذا الرجل وادعى لنفسه ما ليس له في قوله: {أنا ربكم الأعلى} وكان يفتخر بالأنهار والُملك الواسع يقول لقومه في ما قال لهم {يا قومِ أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} [الزخرف:: 51، 52] . فما الذي حصل؟ أغرقه الله عز وجل بالماء الذي كان يفتخر به، وأورث الله ملك مصر بني إسرائيل الذين كان يستضعفهم. {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، {نكال الآخرة والأولى} يعني أنه نكّل به في الآخرة وفي الأولى، فكان عبرة في زمنه، وعبرة فيما بعد زمنه إلى يوم القيامة، كل من قرأ كتاب الله وما صنع الله بفرعون فإنه يتخذ ذلك عبرة يعتبر به، وكيف أهلكه الله مع هذا الملك العظيم وهذا الجبروت وهذا الطغيان فصار أهون على الله تعالى من كل هين.
{إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} {إن في ذلك} أي فيما جرى من إرسال موسى إلى فرعون ومحاورته إياه واستهتار فرعون به واستكباره عن الانقياد له عبرة، {لمن يخشى} أي يخشى الله عز وجل، فمن كان عنده خشية من الله وتدبر ما حصل لموسى مع فرعون والنتيجة التي كانت لهذا ولهذا فإنه يعتبر ويأخذ من ذلك عبرة، والعبر في قصة موسى كثيرة ولو أن أحداً انتدب لجمع القصة من الايات في كل سورة ثم يستنتج ما حصل في هذه القصة من العبر لكان جيداً، وذلك بأن يأتي بالقصة كلها في كل الايات، لأن السور في بعضها شيء ليس في البعض الآخر، فإذا جمعها وقال مثلاً يؤخذ من هذه القصة العظيمة العبر التالية ثم يسردها، كيف أرسله الله عز وجل إلى فرعون؟ كيف قال لهما {فقولا له قولاً ليناً} [طه: 44] . مع أنه
(1/49)
 
 
مستكبر خبيث؟ وكيف كانت النتيجة؟ وكيف كان موسى عليه الصلاة والسلام، خرج من مصر خائفاً على نفسه يترقب كما خرج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة يترقب، وصارت العاقبة للرسول عليه الصلاة والسلام ولموسى عليه الصلاة والسلام، لكن العاقبة للرسول صلى الله عليه وسلّم بفعله وأصحابه، عذب الله أعداءهم بأيديهم، وعاقبة موسى بفعل الله عز وجل، فهي عبر يعتبر بها الإنسان يصلح بها نفسه وقلبه حتى يتبين الأمر.
 
{أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَهَا * وَالاَْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَهَا * مَتَعاً لَّكُمْ وَلاَِنْعَمِكُمْ} .
{ءأنتم أشد خلقاً أم السماء} هذا الاستفهام لتقرير إمكان البعث؛ لأن المشركين كذبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبعث وقالوا: {من يحيي العظام وهي رميم} [يس: 78] . فيقول الله عز وجل: {ءأنتم أشد خلقاً أم السماء} الجواب معلوم لكل أحد أنه السماء كما قال تعالى: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [غافر: 57] . {بناها} هذه الجملة لا تتعلق بالتي قبلها، ولهذا ينبغي للقارىء إذا قرأ أن يقف على قوله {أم السماء} ثم يستأنف فيقول: {بناها} فالجملة استئنافية لبيان عظمة السماء، {بناها} أي بناها الله عز وجل وقد بين الله سبحانه وتعالى في آية أخرى في سورة الذاريات أنه بناها بقوة فقال: {والسماء بنيناها بأيد} أي
(1/50)
 
 
بقوة وقد يظن ظان أن الأيد هنا جمع يد، وليس كذلك لأن أيد مصدر (آد) يئيد اي قوي. {رفع سمكها فسواها} رفعه يعني عن الأرض ورفعه عز وجل بغير عمد كما قال الله تعالى: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها} [الرعد: 2] . {فسواها} أي جعلها مستوية تامة كاملة كما قال تعالى في خلق الإنسان: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك} [الانفطار: 6، 7] . فسواك: أي جعلك سويًّا تام الخلقة، فالسماء كذلك سواها الله عز وجل. {وأغطش ليلها} أغطشه أي أظلمه، فالليل مظلم، قال الله تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} [الإسراء: 12] . {وأخرج ضحاها} بينه بالشمس التي تخرج كل يوم من مطلعها وتغيب من مغربها. {والأرض بعد ذلك} أي بعد خلق السماوات والأرض {دحاها} بين سبحانه هذا الدحو بقوله: {أخرج منها ماءها ومرعاها} وكانت الأرض مخلوقة قبل السماء كما قال الله تعالى: {قل أئِنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين.
وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدَّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين. ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين. فقضاهن سبع سماوات في يومين} [فصلت: 9 ـ 12] . فالأرض مخلوقة من قبل السماء لكن دحوها وإخراج الماء والمرعى منها كان بعد خلق السماوات. {والجبال أرساها} أي جعلها راسية في الأرض فلا تنسفها الرياح مهما قويت، وهي أيضاً تمسك الأرض لئلا تضطرب بالخلق كما قال تعالى: {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} . {متاعاً لكم ولأنعامكم} أي جعل الله تعالى ذلك متاعاً لنا نتمتع به فيما نأكل ونشرب، ولأنعامنا أي مواشينا من الإبل والبقر والغنم وغيرها. التي تدر علينا وتنمو بها أموالنا.
(1/51)
 
 
ولما ذكَّر الله عز وجل عباده بهذه النعم الدالة على كمال قدرته ورحمته ذكرهم بمآلهم الحتمي الذي لابد منه، فقال عز وجل:
 
{فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَنُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى * فَأَمَّا مَن طَغَى * وَءاثَرَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى} .
{فإذا جاءت الطامة الكبرى} وذلك قيام الساعة، وسماها طامة لأنها داهية عظيمة تطم كل شيء سبقها. {الكبرى} يعني أكبر من كل طامة. {يوم يتذكر الإنسان ما سعى} لهذا اليوم الذي تكون فيه الطامة الكبرى وهو اليوم الذي يتذكر فيه الإنسان ما سعى، أي ما يعمله في الدنيا يتذكره مكتوباً بكتاب، عنده يقرأه هو بنفسه قال الله تعالى: {ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 13، 14] . فإذا قرأه تذكر ما سعى أي ما عمل، أما اليوم فإننا قد نسينا ما عملنا، عملنا أعمالاً كثيرة منها الصالح، ومنها اللغو، ومنها السيىء، لكن كل هذا ننساه، وفي يوم القيامة يعرض علينا هذا في كتاب ويقال اقرأ كتابك أنت بنفسك {كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 14] . فحينئذ يتذكر ما سعى {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} [النبأ: 40] . {وبُرِّزت الجحيم لمن يرى} {برزت} أظهرت تجيء تقاد بسبعين ألف زمام كل زمام فيه سبعون ألف ملك يجرونها (1) ، إذا ألقي منها الظالمون مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً،
_________
(1) أخرجه مسلم كتاب الجنة، باب جهنم (2842) (29) .
(1/52)
 
 
فتنخلع القلوب ويشيب المولود ولهذا قال: {فأما من طغى. وآثر الحياة الدنيا} هذان وصفان هما وصفا أهل النار، الطغيان وهو مجاوزة الحد، وإيثار الدنيا على الآخرة بتقديمها على الآخرة وهما متلازمتان فكل من طغى فقد آثر الحياة الدنيا وكذلك العكس، والطغيان مجاوزة الحد، وحد الإنسان مذكور في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] .
فمن جاوز حده ولم يعبد الله فهذا هو الطاغي لأنه تجاوز الحد، فأنت مخلوق لا لتأكل وتتنعم وتتمتع كما تتمتع الأنعام، بل أنت مخلوق لعبادة الله فاعبد الله عز وجل، فإن لم تفعل فقد طغيت فهذا هو الطغيان ألا يقوم الإنسان بعبادة الله. {وآثر الحياة الدنيا} أي قدمها على طاعة الله عز وجل مثاله: إذا أذن الفجر آثر النوم على الصلاة، وإذا قيل له أذكر الله آثر اللغو على ذكر الله وهكذا ... {فإن الجحيم هي المأوى} أي هي مأواه، والمأوى هو المرجع والمقر وبئس المقر مقر جهنم ـ أعاذنا الله منها ـ {وأما من خاف مقام ربه} يعني خاف القيام بين يديه؛ لأن الإنسان يوم القيامة سوف يقرره الله عز وجل بذنوبه حين يخلو به ويقول عملت كذا، عملت كذا، عملت كذا كما جاء في الصحيح، فإذا أقر قال الله له: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم» (1) ، فهذا الذي خاف هذا المقام، {ونهى النفس عن الهوى} أي عن هواها، المخالف لأمر الله ورسوله، والنفس أمَّارة بالسوء لا تأمر إلا بالشر. ولكن هناك نفس أخرى تقابلها وهي النفس المطمئنة؛ وللإنسان ثلاث نفوس: مطمئنة، وأمارة، ولوامة، وكلها في القرآن، أما المطمئنة ففي قوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب المظالم، باب قول الله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين) (2441) ومسلم كتاب التوبة، باب سعة رحمة الله على المؤمنين (2768) (52) .
(1/53)
 
 
راضية مرضية. فادخلي في عبادي. وادخلي جنتي} [الفجر: 27 ـ 30] . وأما الأمَّارة بالسوء ففي قوله تعالى: {وما أبرىء نفسي إن النفس لأمَّارة بالسوء إلا ما رحم ربي} [يوسف: 53] . وأما اللوامة ففي قوله تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة. ولا أقسم بالنفس اللوامة} [القيامة: 1، 2] .
والإنسان يحس بنفسه بهذه الأنفس؛ يرى في نفسه أحياناً نزعة خير يحب الخير ويفعله وهذه هي النفس المطمئنة، ويرى أحياناً في نفسه نزعة شر فيفعله وهذه النفس الأمارة بالسوء، وتأتي بعد ذلك النفس اللوامة التي تلومه على ما فعل فتجده يندم على ما فعل من المعصية، أو لوامة أخرى تلومه على ما فعل من الخير، فإن من الناس من قد يلوم نفسه على فعل الخير وعلى مصاحبة أهل الخير ويقول: كيف أصاحب هؤلاء الذين صدوني عن حياتي.. عن شهواتي.. عن لهوي، وما أشبه ذلك. فاللوامة نفس تلوم الأمارة بالسوء مرة، وتلوم المطمئنة مرة أخرى، فهي في الحقيقة نفس بين نفسين تلوم النفس الأمارة بالسوء إذا فعلت السوء، وتندم الإنسان، وقد تلوم النفس المطمئنة إذا فعلت الخير. {فإن الجنة هي المأوى} الجنة هي دار النعيم التي أعدها الله عز وجل لأوليائه فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17] . هكذا جاء في القرآن، وجاء في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» (1) ، هذه الجنة يدركها الإنسان قبل أن يموت، إذا حضر الأجل ودعت الملائكة النفس للخروج قالت: أخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى رضوان الله (2) ،
_________
(1) أخرجه البخاؤي كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة (3244) ، ومسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب صفة الجنة (2824) (2) .
(2) تقدم تخريجه ص (40) .
(1/54)
 
 
وتبشر النفس بالجنة، قال الله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم} [النحل: 32] .
يقولونه حين التوفي {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} فيبشر بالجنة فتخرج روحه راضية متيسرة سهلة، ولهذا لما حدث النبي عليه الصلاة والسلام فقال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» (1) قالت عائشة: يا رسول الله: كلنا يكره الموت، فذكر لها أنه ليس الأمر ذلك ـ ولكن المؤمن إذا بشر بما يبشر به عند الموت أحب لقاء الله أحب الموت وسهل عليه» ، وإن الكافر إذا بشر ـ والعياذ بالله ـ بما يسوؤه عند الموت كره لقاء الله وهربت نفسه وتفرقت في جسده حتى ينتزعوها منه كما ينتز