تفسير العثيمين الفاتحة والبقرة 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: تفسير الفاتحة والبقرة
المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421هـ)
 
2 - ومنها: أن القرآن على غاية ما يكون من البلاغة، والفصاحة، لأن الفصاحة هي الإفصاح بالمعنى، وبيانه؛ وضرب الأمثال من أشد ما يكون إفصاحاً، وبياناً: قال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43] .
3 - ومنها: فضيلة الإنفاق في سبيل الله؛ لأنه ينمو للمنفق حتى تكون الحبة سبعمائة حبة.
 
4 - ومنها: الإشارة إلى الإخلاص لله في العمل؛ لقوله تعالى: {في سبيل الله} بأن يقصدوا بذلك وجه الله عز وجل.
 
5 - ومنها: الإشارة إلى موافقة الشرع؛ لقوله تعالى: {في سبيل الله} ؛ لأن {في} للظرفية؛ والسبيل بمعنى الطريق؛ وطريق الله: شرعه؛ والمعنى: أن هذا الإنفاق لا يخرج عن شريعة الله؛ والإنفاق الذي يكون موافقاً للشرع هو ما ذكره بقوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} [الفرقان: 67] .
 
ومعنى إنفاقهم في شرع الله أن يكون ذلك إخلاصاً لله، واتباعاً لشرعه؛ فمن نوى بإنفاقه غير الله فليس في سبيل الله؛ مثل «المرائي» : رجل أنفق في الجهاد، أو أنفق في الصدقة على المساكين؛ لكنه أنفق ليقال: إن فلاناً جواد؛ أو أنه كريم؛ هذا ليس في سبيل الله، لأنه مراء؛ لم يقصد وجه الله عز وجل؛ إذاً لم يرد السبيل الذي يوصل إلى الله؛ ولا يهمه أن يقبل الله منه، أو لا يقبل؛ المهم عنده أنه يقال عند الناس: إنه رجل كريم، أو جواد.
 
وأما أن يكون على حسب شريعة الله: فإن أنفق في وجه
(3/310)
 
 
لا يرضى به الله فليس في سبيل الله - وإن أخلص لله - كرجل ينفق على البدع يريد بذلك وجه الله - وهذا كثير: كبناء الربط للصوفية المنحرفة، وبناء البيوت للأعياد الميلادية، وبناء القصور للمآتم، وطبع الكتب المشتملة على بدع؛ هذا قد يريد الإنسان بذلك وجه الله لكنه خلاف شريعة الله؛ فلا يكون في سبيل الله.
 
6 - ومن فوائد الآية: إثبات الملكية للإنسان؛ لقوله تعالى: {أموالهم} ؛ فإن الإضافة هنا تفيد الملكية.
7 - ومنها: وجه الشبه في قوله تعالى: {كمثل حبة أنبتت سبع سنابل} ؛ فإن هذه الحبة أنبتت سبع سنابل؛ وشبهها الله بذلك؛ لأن السنابل غذاء للجسم، والبدن؛ كذلك الإنفاق في سبيل الله غذاء للقلب، والروح.
 
8 - ومنها: أن ثواب الله، وفضله أكثر من عمل العامل؛ لأنه لو عومل العامل بالعدل لكانت الحسنة بمثلها؛ لكن الله يعامله بالفضل، والزيادة؛ فتكون الحبة الواحدة سبعمائة حبة؛ بل أزيد؛ لقوله تعالى: {والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} .
 
9 - ومنها: إثبات الصفات الفعلية - التي تتعلق بمشيئة الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {يضاعف} ؛ و «المضاعفة» فعل.
 
10 - ومنها: إثبات مشيئة الله؛ لقوله تعالى: {لمن يشاء} ؛ ولكن هل هذه المشيئة مشيئة مجردة؛ أي أن الترجيح يكون فيها بدون سبب؛ أو هي مشيئة مقيدة بما تقتضيه المصلحة، والحكمة؟ الجواب أنها مشيئة مقيدة بما تقتضيه المصلحة، والحكمة؛ وعليه
(3/311)
 
 
فخذ هذا مقياساً: كل شيء علقه الله على المشيئة فإنه مقيد بالحكمة؛ ودليله قوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30] .
 
11 - ومنها: أن الله له السلطان المطلق في خلقه؛ ولا أحد يعترض عليه؛ لقوله تعالى: {يضاعف لمن يشاء} ؛ ولهذا لما تناظر رجل من المعتزلة، وآخر من أهل السنة قال له المعتزلي: أرأيت إن منعني الهدى، وقضى علي بالردى أحسن إلي، أم أساء؟ - يريد أن يبين أن أفعال العباد لا تدخل في إرادة الله؛ لأنه إذا دخلت في إرادة الله فإن هذا الذي قضى عليه بالشقاء، ومنع الهدى يكون إساءة من الله إليه، فقال له السني: إن منعك ما هو لك فقد أساء؛ وإن منعك فضله فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ فغُلب المعتزلي؛ لأنه ليس لك حق على الله واجب؛ والله سبحانه وتعالى يؤتي فضله من يشاء.
12 - ومن فوائد الآية: إثبات هذين الاسمين من أسماء الله: «الواسع» ، و «العليم» ؛ لقوله تعالى: {واسع عليم} ؛ وإثبات ما تضمناه من صفة؛ وهما السعة، والعلم.
 
13 - ومنها: الحث، والترغيب في الإنفاق في سبيل الله؛ يؤخذ هذا من ذكر فضيلة الإنفاق في سبيل الله، فإن الله لم يذكر هذا إلا من أجل هذا الثواب؛ فلا بد أن يعمل له.
 
القرآن
 
) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 262)
(3/312)
 
 
التفسير:
 
{262} قوله تعالى: {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} ذكره مرة أخرى ليبني عليها ما بعدها؛ وهي قوله تعالى: {ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى} .
 
قوله تعالى: {ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا} أي لا يحصل منهم بعد الصدقة مَنٌّ بأن يظهر المنفِق مظهر المترفع على المنفَق عليه؛ {ولا أذى} أي أذى المنفَق عليه بأن يقول المنفِق: «لقد أنفقت على فلان كذا، وكذا» أمام الناس؛ فإن هذا يؤذي المنفق عليه.
 
قوله تعالى: {لهم أجرهم} ؛ «الأجر» ما يعطاه العامل في مقابلة عمله؛ ومنه أجرة الأجير؛ وسمى الله سبحانه وتعالى الثواب أجراً؛ لأنه عز وجل تكفل للعامل بأن يجزيه على هذا العمل؛ فصار كأجر الأجير.
قوله تعالى: {عند ربهم} : أصل العندية تكون في المكان؛ وقد يراد بها ما يعم المكان، والالتزام، كما تقول: عندي لفلان كذا، وكذا؛ أي في عهدي، وفي ذمتي له كذا، وكذا - حتى وإن لم يكن ذلك عنده في مكانه - فالعندية قد يراد بها المكان؛ وقد يراد بها ما يلتزم به الإنسان في ذمته، وعهده؛ وهنا {عند ربهم} يحتمل المعنيين؛ يحتمل أنه عند الله سبحانه وتعالى ملتزم به، ولا بد أن يوفيه؛ ويحتمل معنى آخر - وكلاهما صحيح - أن الثواب هذا يكون في الجنة التي سقفها عرش الرحمن؛ وهذه عندية مكان - ولا ينافي ما سبق من عندية العهد، والالتزام بالوفاء؛ فتكون الآية شاملة للمعنيين.
 
قوله تعالى: {ولا خوف عليهم} أي مما يستقبل {ولا هم
(3/313)
 
 
يحزنون} أي على ما مضى - لكمال نعيمهم - لأن المنعَّم لو أصابه الحزن، أو الخوف لتنغص نعيمه.
 
الفوائد:
 
1 - من فوائد الآية: الحث على الإنفاق في سبيل الله؛ لقوله تعالى: {لهم أجرهم عند ربهم} .
 
2 - ومنها: الإشارة إلى الإخلاص لله، ومتابعة الشرع؛ لقوله تعالى: {في سبيل الله} .
 
3 - ومنها: أن من أتبع نفقته منًّا، أو أذى، فإنه لا أجر له؛ لقوله تعالى: {ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم} ؛ فإذا أتبع منًّا، أو أذًى بطل أجره، كما هو صريح قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264] .
 
4 - ومنها: أن المن والأذى يبطل الصدقة؛ وعليه فيكون لقبول الصدقة شروط سابقة، ومبطلات لاحقة؛ أما الشروط السابقة فالإخلاص لله، والمتابعة؛ وأما المبطلات اللاحقة فالمن، والأذى.
 
مسألة:
هل مجرد إخبار المنفِق بأنه أعطى فلاناً دون منّ منه بذلك يعتبر من الأذى؟ الجواب: نعم؛ لأن المعطى تنزل قيمته عند من علم به؛ لكن لو أراد بالخبر أن يقتدي الناس به فيعطوه فليس في هذا أذًى؛ بل هو لمصلحة المعطى؛ أما إن ذكر أنه أعطى، ولم يعيِّن المعطى فهذا ليس فيه أذى؛ ولكن يخشى عليه الإعجاب، أو المراءاة.
(3/314)
 
 
مسألة أخرى:
 
هل المنفق عليه إذا أحس بأن المنفق منّ عليه، أو ربما أذاه هل الأفضل أن يبقى قابلاً للإنفاق أو يرده؟ الجواب الأفضل أن يرده لئلا يكون لأحد عليه منة؛ ولكن إذا رده بعد القبض فهل يلزم المنفِق قبوله؟ الجواب: لا يلزمه قبوله؛ لأنه خرج عن ملكه إلى ملك المنفق عليه؛ فيكون رده إياه ابتداء عطية.
 
5 - ومن فوائد الآية: إثبات العندية لله عز وجل؛ لقوله تعالى: {عند ربهم} ؛ والعندية تفيد القرب؛ فيكون الله عز وجل في مكان، وبعض الأشياء عنده، وبعض الأشياء بعيدة عنه؛ ولكن كلها قد أحاط الله بها؛ كلها بالنسبة إليه - إلى علمه، وقدرته، وسلطانه، وربوبيته - كلها سواء - لكن لا شك أن من كان حول العرش ليس كمن حول الفرش؛ ولكن يجب أن نعلم أن المكان ليس محيطاً به، كما قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه} [الزمر: 67] ؛ لأنه سبحانه وتعالى فوق كل شيء؛ لا يحيط به شيء من مخلوقاته.
 
6 - ومن فوائد الآية: أن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ويَسْلَمون من المحبطات لا ينالهم خوف في المستقبل، ولا حزن على الماضي؛ لقوله تعالى: {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} .
 
القرآن
 
) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) (البقرة: 263)
(3/315)
 
 
التفسير:
{263} قوله تعالى: {قول} مبتدأ؛ و {خير} خبره؛ وساغ الابتداء به هنا وهو نكرة؛ لأنه وصف؛ وإن شئت فقل: لأنه أفاد؛ وطريق إفادته الوصف؛ وإذا عللت بأنه أفاد صار أحسن؛ لأنه أعم.
 
قوله تعالى: {قول معروف} أي ما نطق به اللسان معروفاً في الشرع، ومعروفاً في العرف.
 
قوله تعالى: {ومغفرة} أي: مغفرة الإنسان لمن أساء إليه؛ قال تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى: 43] ؛ القول المعروف إحسان؛ والمغفرة إحسان؛ ولكن الفرق بينهما أن «القول المعروف» إسداء المعروف القولي إلى الغير؛ و «المغفرة» تسامح الإنسان عن حقه في جانب غيره.
 
قوله تعالى: {خير من صدقة يتبعها أذى} ؛ «الصدقة» بذل الإحسان المالي؛ الإنسان قد ينتفع بالمال أكثر مما ينتفع بالكلمة؛ وقد ينتفع بالكلمة أكثر مما ينتفع بالمال؛ لكن لا شك أن القول المعروف خير من الصدقة التي يتبعها أذى - وإن نفعت؛ لأنك لو تعطي هذا الرجل ما تعطيه من المال صدقة لله عز وجل، ثم تتبعها الأذى؛ فإن هذا الإحسان صار في الحقيقة إساءة - وإن كان هذا قد ينتفع به في حاجاته - لكن هو في الحقيقة إساءة له.
 
قوله تعالى: {والله غني} أي عن غيره؛ فهو سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد؛ وكل من في السموات والأرض فإنه محتاج إلى الله تعالى؛ هو غني بذاته عن جميع مخلوقاته؛ فله الغنى المطلق من جميع الوجوه.
(3/316)
 
 
قوله تعالى: {حليم} ؛ «الحلم» تأخير العقوبة عن مستحقها؛ قال ابن القيم في النونية:
(وهو الحليم فلا يعاجل عبده بعقوبة ليتوب من عصيان) وجمع الله في هذه الآية بين «الغِنى» و «الحِلم» ؛ لأن الآية في سياق الصدقة، فبين عز وجل أن الصدقات لا تنفع الله؛ وإنما تنفع من يتصدق؛ والآية أيضاً في سياق من أتبع الصدقة أذى ومِنّة؛ وهذا حري بأن يعاجَل بالعقوبة، حيث آذى هذا الرجل الذي أعطاه المال لله؛ ولكن الله حليم يحلم على عبده لعله يتوب من المعصية.
 
الفوائد:
 
1 - من فوائد الآية: فضيلة القول المعروف؛ لقوله تعالى: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة ... } ؛ و «القول المعروف» كل ما عرفه الشرع، والعادة؛ مثال ذلك: أن يأتي رجل يسأل مالاً بحاله، أو قاله؛ فكلمه المسؤول، وقال: ليس عندي شيء، وسيرزق الله، وإذا جاء شيء فإننا نجعلك على البال، وما أشبه ذلك؛ فهذا قول معروف ليِّن، وهيِّن.
 
2 - ومنها: الحث على المغفرة لمن أساء إليك؛ لكن هذا الحث مقيد بما إذا كانت المغفرة إصلاحاً؛ لقوله تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40] ؛ أما إذا لم تكن المغفرة إصلاحاً، مثل أن أغفر لهذا الجاني، ثم يذهب، ويسيء إلى الآخرين، أو يكرر الإساءة إليَّ، فإن الغفر هنا غير مطلوب.
 
3 - ومنها: أن الأعمال الصالحة تتفاضل، ويلزم من
(3/317)
 
 
تفاضلها تفاضل العامل، وزيادة الإيمان، أو نقصانه.
 
4 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «الغني» و «الحليم» ؛ وإثبات ما دلا عليه من الصفات.
5 - ومنها: المناسبة في ختم هذه الآية الكريمة بهذين الاسمين؛ لأن في الآية إنفاقاً؛ وإذا كان الله عز وجل هو الذي يخلِف هذا الإنفاق فإنه لكمال غناه؛ كذلك المغفرة عمن أساء إليك: فإن المغفرة تتضمن الحلم، وزيادة؛ فختم الله الآية بالحلم؛ وقد يقال: إن فيه مناسبة أخرى؛ وهي أن المن بالصدقة كبيرة من كبائر الذنوب؛ والله سبحانه وتعالى حليم على أهل الكبائر؛ إذ لو يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، والله أعلم.
 
القرآن
 
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (البقرة: 264)
 
التفسير:
 
{264} قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} : تصدير الخطاب بالنداء يدل على الاهتمام به؛ لأن النداء يحصل به تنبيه المخاطب؛ فيدل على العناية بموضوع الخطاب؛ ولهذا قال ابن مسعود: «إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا}
(3/318)
 
 
فأرعها سمعك: فإنه خير تأمر به؛ أو شر ينهى عنه» (1) ؛ وصدق رضي الله عنه.
 
ثم في توجيه النداء للمؤمنين بوصف الإيمان فيه فوائد؛ الفائدة الأولى: الحث على قبول ما يلقى إليهم، وامتثاله؛ وجه ذلك: أنه إذا علق الحكم بوصف كان ذلك الوصف علة للتأثر به؛ كأنه يقول: يا أيها الذين آمنوا لإيمانكم افعلوا كذا، وكذا؛ أو لا تفعلوا كذا؛ الفائدة الثانية: أن ما ذكر يكون من مكملات الإيمان، ومقتضياته؛ الفائدة الثالثة: أن مخالفة ما ذكر نقص في الإيمان.
قوله تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم} : الإبطال للشيء يكون بعد وجوده؛ فالبطلان لا يكون غالباً إلا فيما تم؛ و «الصدقات» جمع صدقة؛ وهي ما يبذله الإنسان تقرباً إلى الله.
 
قوله تعالى: {بالمن والأذى} ؛ الباء للسببية؛ و «المن» إظهار أنك مانّ عليه، وأنك فوقه بإعطائك إياه؛ و «الأذى» أن تذكر ما تصدقت به عند الناس فيتأذى به.
 
قوله تعالى: {كالذي ينفق ماله رئاء الناس} ؛ الكاف هنا للتشبيه؛ وهي خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: مثلكم كالذي ينفق ماله رئاء الناس؛ و {رئاء} مفعول لأجله؛ وهي مصدر راءى يرائي رئاءً ومراءاة، كقاتل يقاتل قتالاً ومقاتلة؛ وجاهد يجاهد جهاداً ومجاهدة؛ و «الرياء» فِعل العبادة ليراه الناس، فيمدحوه عليها.
 
قوله تعالى: {ولا يؤمن بالله وباليوم الآخر} معطوف على
_________
(1) سبق تخريجه 1/337.
(3/319)
 
 
قوله تعالى: {ينفق} ؛ وسبق معنى الإيمان بالله، واليوم الآخر؛ وهذا الوصف ينطبق على المنافق؛ فالمنافق - والعياذ بالله - لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر؛ ولا ينفق إلا مراءاةً للناس؛ ومع ذلك لا ينفق إلا وهو كاره، كما قال تعالى: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس} [النساء: 142] ، وقال في سورة «التوبة» : {ولا ينفقون إلا وهم كارهون} [التوبة: 54] ؛ هؤلاء لا ينفقون إلا وهم كارهون؛ لأنهم لا يرجون من هذا الإنفاق ثواباً؛ إذ إنه لا إيمان عندهم، و {اليوم الآخر} هو يوم القيامة؛ وسمي «اليوم الآخر» ؛ لأنه لا يوم بعده؛ كل يذهب إلى مستقره: أهل الجنة إلى مستقرهم؛ وأهل نار إلى مستقرهم؛ فهو يوم آخر لا يوم بعده؛ ولذلك فهو مؤبد: إما في جنة؛ وإما في نار.
قوله تعالى {كمثل صفوان} أي كشِبْه صفوان؛ وهو الحجر الأملس {عليه تراب} ؛ والتراب معروف؛ {فأصابه وابل} أي مطر شديد الوقع سريع التتابع؛ فإذا أصاب المطر تراباً على صفوان فسوف يزول التراب؛ ولهذا يقول تعالى: {فتركه صلداً} أي ترك الوابلُ هذا الصفوانَ أملس ليس عليه تراب؛ وجه الشبه بين المرائي والصفوان الذي عليه تراب، أن من رأى المنافق في ظاهر حاله ظن أن عمله نافع له؛ وكذلك من رأى الصفوان الذي عليه تراب ظنه أرضاً خصبة طينية تنبت العشب؛ فإذا أصابها الوابل الذي ينبت العشب سحق التراب الذي عليه، فزال الأمل في نبات العشب عليه من الوابل؛ ولهذا قال تعالى: {لا يقدرون على شيء مما كسبوا} ؛ وصح عود واو الجماعة في {يقدرون} على {الذي} في قوله تعالى: {كالذي ينفق ماله} ؛ لأن {الذي} اسم موصول يفيد العموم؛ فهو بصيغته اللفظية مفرد، وبدلالته
(3/320)
 
 
المعنوية جمع؛ لأنه عام؛ وسمى الله عز وجل ما أنفقوا كسباً باعتبار ظنهم أنهم سينتفعون به.
 
قوله تعالى: {والله لا يهدي القوم الكافرين} أي لا يهدي سبحانه الكافرين هداية توفيق؛ أما هداية الدلالة فإنه سبحانه لم يَدَع أمة إلا بعث فيها نبياً؛ لكن الكافر لا يوفقه الله لقبول الحق؛ و {الكافرين} أي الذين حقت عليهم كلمة الله، كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97] .
 
الفوائد:
 
1 - من فوائد الآية: تحريم المن، والأذى في الصدقة؛ لقوله تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} .
 
2 - ومنها: بلاغة القرآن، حيث جاء النهي عن المنّ، والأذى بالصدقة بهذه الصيغة التي توجب النفور؛ وهي: {لا تبطلوا صدقاتكم} ؛ فإنها أشد وقعاً من «لا تَمُنّوا، ولا تؤذوا بالصدقة» .
3 - ومنها: أن المن والأذى بالصدقة يبطل ثوابها؛ لقوله تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} .
 
4 - ومنها: أن المن والأذى بالصدقة كبيرة من كبائر الذنوب؛ وجه ذلك: ترتيب العقوبة على الذنب يجعله من كبائر الذنوب؛ وقد قال شيخ الإسلام في حد الكبيرة: «كل ذنب رُتب عليه عقوبة خاصة، كالبراءة منه، ونفي الإيمان، واللعنة، والغضب، والحد، وما أشبه ذلك» ؛ وهذا فيه عقوبة خاصة؛ وهي إبطال العمل؛ ويؤيد ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث
(3/321)
 
 
أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» (1) .
 
5 - ومنها: أن المنّ والأذى بالصدقة مناف لكمال الإيمان؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} ؛ كأنه يقول: «إن مقتضى إيمانكم ألا تفعلوا ذلك؛ وإذا فعلتموه صار منافياً لهذا الوصف، ومنافياً لكماله» .
 
6 - ومنها: تشبيه المعقول بالمحسوس ليقربه إلى الذهن؛ لقوله تعالى: {فمثله كمثل صفوان ... } إلخ.
 
7 - ومنها: تحريم مراءاة الناس بالعمل الصالح؛ لقوله تعالى: {كالذي ينفق ماله رئاء الناس} ؛ والتسميع كالمراءاة؛ والفرق بينهما أن المراءاة فيما يُرى - كالأفعال - والتسميع بما يقال.
8 - ومنها: أن من راءى الناس بإنفاقه ففي إيمانه بالله، وباليوم الآخر نقص؛ لقوله تعالى: {ولا يؤمن بالله وباليوم الآخر} ؛ لأن الذي يرائي لو كان مؤمناً بالله حق الإيمان لجعل عمله لله خالصاً لله؛ ولو كان يؤمن باليوم الآخر حق الإيمان لم يجعل عمل الآخرة للدنيا؛ لأن مراءاة الناس قد يكسب بها الإنسان جاهاً في الدنيا فقط؛ مع أنه لا بد أن يتبين أمره؛ وإذا تبين أنه مراءٍ نزلت قيمته في أعين الناس؛ يقول الشاعر:
 
(ثوب الرياء يشف عما تحته فإذا اكتسيت به فإنك عاري)
_________
(1) أخرجه مسلم ص696، كتاب الإيمان، باب 46: بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية ... ، حديث رقم 293 [171] 106.
(3/322)
 
 
أنت لا تظن أنك إذا راءيت الناس أنك ستبقى مخادعاً لهم؛ بل إن الله سبحانه وتعالى سيظهر ذلك؛ ما أسر إنسان سريرة إلا أظهرها الله سبحانه على صفحات وجهه، وفلتات لسانه.
 
9 - ومن فوائد الآية: إثبات اليوم الآخر؛ وهو يوم القيامة.
 
10 - ومنها: بلاغة القرآن في التشبيه؛ لأنك إذا طابقت بين المشبه، والمشبه به، وجدت بينهما مطابقة تامة.
 
11 - ومنها: إثبات كون القياس دليلاً صحيحاً؛ وجه ذلك: التمثيل، والتشبيه؛ فكل تمثيل في القرآن فإنه دليل على القياس؛ لأن المقصود به نقل حكم هذا المشبه به إلى المشبه.
12 - ومنها: أن الرياء مبطل للعمل؛ وهو نوع من الشرك؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (1) ؛ فإن قصد بعمله إذا رآه الناس أن يتأسى الناس به، ويسارعوا فيه فهي نية حسنة لا تنافي الإخلاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على المنبر، وقال: «إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلَّموا صلاتي» (2) ؛ وفي الحج كان صلى الله عليه وسلم يقول: «لتأخذوا مناسككم» (3) ؛ وهو داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» (4) .
_________
(1) سبق تخريجه 1/90.
(2) سبق تخريجه 2/127.
(3) أخرجه مسلم ص893، كتاب الحج، باب 51: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً حديث رقم 3137 [310] 1297.
(4) سبق تخريجه 2/42.
(3/323)
 
 
13 - ومن فوائد الآية: الإشارة إلى تحسر هؤلاء عند احتياجهم إلى العمل، وعجزهم عنه؛ لقوله تعالى: {لا يقدرون على شيء مما كسبوا} ؛ وعجز الإنسان عن الشيء بعد محاولة القدرة عليه أشد حسرة من عدمه بالكلية؛ ألم تر إلى قوله تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشاء لجعلناه حطاماً} [الواقعة: 63 - 65] ؛ وكونه حطاماً ينظرون إليه أشد حسرة من كونه لم ينبت أصلاً؛ وقوله تعالى: {أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجاً} [الواقعة: 68 - 70] ؛ وكونه بين أيديهم أجاجاً لا يستسيغون شربه أشد مما لو لم يوجد أصلاً؛ والإنسان العاقل يجعل العمل لله: لله؛ والعمل للناس: للناس؛ أنا قد أحب أن أخرج للناس في ثوب جميل: لا بأس أن أتجمل ليراني الناس على هذه الحال؛ لكن أصلي ليراني الناس أصلي: لا يصح؛ لأن العمل لله يجب أن يكون لله لا يشاركه فيه أحد.
14 - ومن فوائد الآية: أن من قضى الله عليه بالكفر لا تمكن هدايته؛ لقوله تعالى: {والله لا يهدي القوم الكافرين} ؛ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا وبين الواقع من أن الله سبحانه وتعالى هدى قوماً كافرين كثيرين؟ فالجواب أن من هدى الله لم تكن حقت عليهم كلمة الله؛ فأما من حقت عليه كلمة الله فلن يُهْدى، كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97] .
15 - ومنها: أن المنافق كافر؛ لقوله تعالى: {والله لا يهدي القوم الكافرين} بعد أن ذكر ما يتعلق بصفة المنافق؛ وهو الذي
(3/324)
 
 
ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله، واليوم الآخر؛ وهذا ينطبق تماماً على المنافقين؛ ولا ريب أن المنافقين كفار - وإن تظاهروا بالإسلام - ولكن هل نعاملهم معاملة الكفار؟ الجواب: لا نعاملهم معاملة الكفار؛ لأن أحكام الدنيا تجري على الظاهر؛ وأحكام الآخرة تجري على الباطن والسرائر، كما قال تعالى: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصِّل ما في الصدور} [العاديات: 9، 10] ، وقال تعالى: {يوم تبلى السرائر} [الطارق: 9] ؛ ولأنه لو عومل الناس في الدنيا على السرائر لكان في ذلك تكليف ما لا يطاق من وجه؛ وكان في ذلك الفوضى التي لا نهاية لها من وجه آخر؛ أما تكليف ما لا يطاق فلأننا لا نعلم ما في صدور الناس؛ فلا يمكن أن نحكم عليه؛ وأما الفوضى فلأنه يستطيع كل ظالم له ولاية أن يعاقب هذا الرجل، أو يعدم هذا الرجل بحجة أنه مبطن للكفر؛ ولما استؤذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل المنافقين قال: «لا أقتلهم؛ لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» (1) .
 
القرآن
 
) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة: 265)
_________
(1) أخرجه البخاري ص420، كتاب التفسير، باب 5: قوله تعالى: (سواء عليهم استغفرت لهم) الآية، حديث رقم 4905، وأخرجه مسلم ص1130، كتاب البر والصلة، باب 16: نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، حديث رقم 6583 [63] 2584.
(3/325)
 
 
التفسير:
{265} قوله تعالى: {مثل} : مبتدأ؛ وخبره قوله تعالى: {كمثل جنة} ؛ وقوله تعالى: {ينفقون} أي يبذلون؛ وقوله تعالى: {ابتغاء مرضات الله} أي طلب رضوان الله.
 
قوله تعالى: {وتثبيتاً} معطوفة على {ابتغاء} ؛ وقوله تعالى: {من أنفسهم} ؛ {من} ابتدائية؛ يعني: تثبيتاً كائناً في أنفسهم لم يحملهم عليه أحد؛ ومعنى يثبتونها: يجعلونها تثبت، وتطمئن؛ أي لا تتردد في الإنفاق، ولا تشك في الثواب؛ وهذا يدل على أنهم ينفقون طيبة نفوسهم بالنفقة.
 
قوله تعالى: {كمثل جنة بربوة} ؛ «الجنة» البستان الكثير الأشجار؛ وسميت بذلك؛ لأنها تجن من فيها، وفي قوله تعالى: {بربوة} بفتح الراء قراءة أخرى بضم الراء؛ و «الربوة» المكان المرتفع؛ من ربا الشيء إذا زاد، وارتفع، كما في قوله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} [الحج: 5] .
 
قوله تعالى: {أصابها وابل} أي نزل عليها وابل؛ و «الوابل» المطر الشديد.
 
هذه جنة بربوة مرتفعة للهواء بائنة ظاهرة للشمس؛ أصابها وابل؛ ماذا تكون هذه الجنة! ستثمر ثمراً عظيماً؛ ولهذا قال تعالى: {فآتت أكلها ضعفين} ؛ «الأكل» بمعنى الثمر الذي يؤكل: قال الله تعالى: {أكلها دائم وظلها} [الرعد: 35] يعني ثمرها الذي يؤكل؛ و {ضعفين} أي مضاعفاً، وزائداً.
 
قوله تعالى: {فإن لم يصبها وابل فطل} : الجملة شرطية؛ الشرط: «إن» ؛ وفعل الشرط: {لم يصبها} ؛ و {طل} أي فهو
(3/326)
 
 
طل - والجملة جواب الشرط؛ والمعنى: فإن لم يصبها المطر الشديد أصابها طل - وهو المطر الخفيف، ويكفيها عن المطر الكثير؛ لأنها في أرض خصبة مرتفعة بينة للشمس، والهواء؛ والمثل منطبق: فقد شبه هذا الذي ينفق ماله ابتغاء مرضات الله، وتثبيتاً من نفسه بهذه الجنة.
وهل المشبه نفس الرجل أو النفقة؟ الجواب: المشبه هو النفقة؛ ولهذا قال بعضهم: إن التقدير: «مَثَل إنفاق الذين ينفقون أموالهم كمثل جنة» ؛ ويحتمل أن التقدير: «كمثل صاحب جنة» ؛ فيكون المشبه «المنفِق» لا «الإنفاق» ؛ وقال بعضهم: لا حاجة إلى التقدير للعلم به من السياق، وأن هذا من بلاغة القرآن، حيث طوى ذكر الشيء لدلالة السياق عليه.
 
قوله تعالى: {والله بما تعملون بصير} : قدم الجار والمجرور - وهو متعلق بـ {بصير} - لإفادة الحصر، ومراعاة الفواصل؛ والحصر هنا إضافي للتهديد؛ لأن الله بصير بما نعمل، وبغيره.
 
وهل {بصير} هنا من البصر بالعين؛ أو من العلم؟ الجواب: كونه من العلم أحسن ليشمل ما نعمله من الأقوال؛ فإن الأقوال تسمع، ولا تُرى؛ وليشمل ما في قلوبنا؛ فإن ما في قلوبنا لا يُسمع، ولا يُرى؛ وإنما يعلم عند الله عز وجل، كما قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} [ق~: 16] .
 
الفوائد:
 
1 - من فوائد الآية: أنه لا إنفاق نافع إلا ما كان مملوكاً للإنسان؛ لقوله تعالى: {أموالهم} ؛ فلو أنفق مال غيره لم يقبل منه إلا أن يكون بإذن من الشارع، أو المالك.
(3/327)
 
 
فإن قال قائل: عندي مال محرم لكسبه، وأريد أن أتصدق به فهل ينفعني ذلك؟
 
فالجواب: إن أنفقه للتقرب إلى الله به: لم ينفعه، ولم يسلم من وزر الكسب الخبيث؛ والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً» (1) ؛ وإن أراد بالصدقة به التخلص منه، والبراءة من إثمه: نفعه بالسلامة من إثمه، وصار له أجر التوبة منه - لا أجر الصدقة.
 
ولو قال قائل: عندي مال اكتسبته من ربا فهل يصح أن أبني به مسجداً، وتصح الصلاة فيه؟
فالجواب: بالنسبة لصحة الصلاة في هذا المسجد هي صحيحة بكل حال؛ وبالنسبة لثواب بناء المسجد: إن قصد التقرب إلى الله بذلك لم يقبل منه، ولم يسلم من إثمه؛ وإن قصد التخلص سلم من الإثم، وأثيب - لا ثواب باني المسجد - ولكن ثواب التائب.
 
2 - ومن فوائد الآية: بيان ما للنية من تأثير في قبول الأعمال؛ لقوله تعالى: {ابتغاء مرضات الله} .
 
3 - ومنها: اشتراط الإخلاص لقبول الأعمال؛ لقوله تعالى: {ابتغاء مرضات الله} .
 
4 - ومنها: أن الإنفاق لا يفيد إلا إذا كان على وفق الشريعة؛ لقوله تعالى: {ابتغاء مرضات الله} ؛ وجه ذلك أن من ابتغى شيئاً فإنه لا بد أن يسلك الطريق الموصل إليه؛ ولا طريق يوصل إلى مرضات الله إلا ما كان على وفق شريعته في الكم، والنوع، والصفة؛ كما قال تعالى في الكم: {والذين إذا أنفقوا
_________
(1) سبق تخريجه 2/247.
(3/328)
 
 
لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} [الفرقان: 67] ؛ وقال تعالى في النوع: {ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 34] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله إلا الطيب» (1) ؛ وفي الصفة قال الله تعالى: {كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ... } إلخ [البقرة: 264] .
 
5 - ومن فوائد الآية: إثبات رضا الله؛ لقوله تعالى: {مرضات الله} ؛ وهو من الصفات الفعلية.
 
6 - ومنها: بيان أن تثبيت الإنسان لعمله، واطمئنانه به من أسباب قبوله؛ لقوله تعالى: {وتثبيتاً من أنفسهم} ؛ لأن الإنسان الذي لا يعمل إلا كارهاً فيه خصلة من خصال المنافقين؛ كما قال تعالى: {ولا ينفقون إلا وهم كارهون} [التوبة: 54] .
 
7 - ومنها: فضل الإنفاق على وجه التثبيت من النفس؛ لأنه يندفع بدافع نفسي؛ لا بتوصية من غيره، أو نصيحة.
8 - ومنها: إثبات القياس؛ لقوله تعالى: {مثل ... كمثل ... } ؛ وقد ذكرنا قاعدة فيما سبق أن كل مثال في القرآن سواء كان تمثيلياً، أو إفرادياً، فهو دليل على ثبوت القياس.
 
9 - ومنها: أنه يحسن في التعليم أن يبين المعقول بالمحسوس؛ لقوله تعالى: {كمثل جنة بربوة} ؛ وهذا من البلاغة؛ لأنه يقرب المعقول إلى أذهان الناس.
 
10 - ومنها: اختيار المكان الأنفع لمن أراد أن ينشئ بستاناً؛ لقوله تعالى: {كمثل جنة بربوة} .
_________
(1) سبق تخريجه 2/247.
(3/329)
 
 
11 - ومنها: بركة آثار المطر؛ لقوله تعالى: {فآتت أكلها ضعفين} ؛ ولهذا وصف الله المطر بأنه مبارك في قوله تعالى: {ونزلنا من السماء ماءً مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد} [ق~: 9] الآيتين.
 
12 - ومنها: أنه إذا كان مكان البستان طيباً فإنه يكفي فيه الماء القليل؛ لقوله تعالى: {فإن لم يصبها وابل فطل} .
 
13 - ومنها: إثبات علم الله، وعمومه؛ لقوله تعالى: {بما تعملون بصير} .
 
14 - ومنها: التحذير من مخالفة الله عز وجل؛ لكونه عالماً بما نعمل.
 
القرآن
 
) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة: 266)
 
التفسير:
 
{266} قوله تعالى: {أيود أحدكم} الاستفهام هنا بمعنى النفي، كما سيتبين من آخر الآية؛ و «يود» أي يحب؛ و «الود» خالص المحبة.
قوله تعالى: {أن تكون له جنة} أي بستان {من نخيل وأعناب} ؛ وهذه من أفضل المأكولات؛ فالتمر حلوى، وقوت،
(3/330)
 
 
وفاكهة؛ والعنب كذلك: حلوى، وقوت، وفاكهة؛ وظاهر كلمة «أنهار» أن الماء عذب؛ وجمع {الأنهار} باعتبار تفرقها في الجنة، وانتشارها في نواحيها؛ إذاً يعتبر هذا البستان كاملاً من كل النواحي: نخيل، وأعناب، ومياه، وثمرات؛ وهو أيضاً جنة كثيرة الأشجار، والأغصان، والزروع، وغير ذلك - هذا هو المشهد الأول من الآية.
 
والمشهد الثاني قوله تعالى: {وأصابه الكبر} أي أصاب صاحب الجنة الكِبَر، فعجز عن تصريفها، والقيام عليها؛ {وله ذرية ضعفاء} يعني صغاراً، أو عاجزين؛ فالأب كبير؛ والذرية ضعفاء - إما لصغرهم، أو عجزهم.
 
قوله تعالى: {فأصابها} أي أصاب هذه الجنة {إعصار} أي ريح شديدة؛ وقيل: ريح منطوية التي ينطوي بعضها على بعض؛ وهذا الإعصار {فيه نار} أي حرارة شديدة؛ مر الإعصار على هذه الجنة {فاحترقت} حتى تساقطت أوراقها، وثمراتها، ويبست أغصانها، وعروقها؛ فماذا يكون حال هذا الرجل؟! يكون في غاية ما يكون من البؤس؛ لأنه فقد هذه الجنة في حال الكبر، والذرية الضعفاء؛ فهو في نفسه لا يكتسب، وذريته لا يكتسبون له ولا لأنفسهم؛ فتكون عليه الدنيا أضيق ما يكون، ويتحسر على هذه الجنة أشد ما يكون من التحسر.
 
هذا الأمر الذي بينه الله هنا ضربه الله مثلاً للمنفق المانّ بنفقته؛ انظر كيف يبدئ الله ويعيد في القرآن العظيم للتنفير من المن بالصدقة؛ والذي يشبه الإعصار نفس المنّ؛ فهذا الرجل
(3/331)
 
 
تصدق بألف درهم، فهذه الصدقة تنمو له: الألف يكون بسبعمائة ألف إلى أضعاف كثيرة؛ لكنه - والعياذ بالله - منّ بهذه الصدقة، فصار هذا المنّ بمنزلة الإعصار الذي أصاب تلك الجنة الفيحاء؛ ولا يمكن أن تنزل هذه الصورة على المرائي؛ لأن المرائي لم يغرس شيئاً أصلاً.
قوله تعالى: {كذلك يبين الله لكم الآيات} أي مِثل ذلك البيان؛ وهذا التعبير يرد كثيراً في القرآن، وتقديره كما سبق؛ وإذا كان هذا التقدير فإننا نقول: الكاف اسم بمعنى مثل؛ وهي منصوبة على أنها مفعول مطلق؛ وعاملها {يبين} ؛ و {الآيات} يشمل الآيات الكونية، والشرعية - يبينها الله، ويوضحها.
 
قوله تعالى: {لعلكم تتفكرون} : «لعل» هنا للتعليل؛ و «التفكر» إعمال الفكر فيما يراد.
 
الفوائد:
 
1 - من فوائد الآية: بيان تثبيت المعاني المعقولة بالأمور المحسوسة؛ لأنه أقرب إلى الفهم؛ وجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى ضرب مثلاً للمانّ بالصدقة بصاحب هذه الجنة؛ ووجه الشبه سبقت الإشارة إليه.
 
2 - ومنها: جواز ضرب المثل بالقول؛ فهل يجوز ضرب المثل بالفعل - وهو ما يسمى بالتمثيل؟
 
الجواب: نعم، يجوز لكن بشرط ألا يشتمل على شيء محرم؛ ولنضرب لذلك أمثلة للأشياء المحرمة في التمثيل:
 
أولاً: أن يكون فيه قيام رجل بدور امرأة، أو قيام امرأة بدور رجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء،
(3/332)
 
 
والمتشبهات من النساء بالرجال (1) .
 
ثانياً: أن يتضمن ازدراء ذوي الفضل من الصحابة، وأئمة المسلمين؛ لأن ازدراءهم واحتقارهم محرم؛ والقيام بتمثيلهم يحط من قدرهم - لا سيما إذا عُلم من حال الممثِّل أنه فاسق؛ لأن الغالب إذا كان فاسقاً وقد تقمص شخصية هذا الرجل التَّقي الذي له قدره، وفضله في الأمة، فإن هذا قد يحط من قدره بهذا الذي قام بدور في التمثيلية.
ثالثاً: أن يكون فيه تقليد لأصوات الحيوانات، مثل أن يقوم بدور تمثيل الكلب، أو الحمار؛ لأن الله لم يذكر التشبيه بالحيوانات إلا في مقام الذم، كقوله تعالى: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار} [الجمعة: 5] ، وقوله: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ... } [الأعراف: 175، 176] الآيتين؛ وكذلك السنة لم تأت بالتشبيه بالحيوان إلا في مقام الذم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذي يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة كمثل الحمار يحمل أسفاراً» (2) ، وقوله: «العائد
_________
(1) أخرجه البخاري ص501، كتاب اللباس، باب 61: المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال، حديث رقم 5886.
(2) أخرجه أحمد 1/230، حديث رقم 2033، قال الحافظ في البلوغ: [رواه أحمد بإسناد لا بأس؛ وهو يفسر حديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاً: "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت"] ، وقال الهيثمي: (رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير؛ وفيه مجالد بن سعيد وقد ضعفه الناس ووثقه النسائي في رواية) (مجمع الزوائد 2/187) ، وقال أحمد شاكر، في تخريج المسند 3/326: إسناده حسن.
(3/333)
 
 
في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» (1) .
رابعاً: أن يتضمن تمثيل دَور الكافر، أو الفاسق؛ بمعنى أن يكون أحد القائمين بأدوار هذه التمثيلية يمثل دَور الكافر، أو دَور الفاسق؛ لأنه يخشى أن يؤثر ذلك على قلبه: أن يتذكر يوماً من الدهر أنه قام بدور الكافر، فيؤثر على قلبه، ويدخل عليه الشيطان من هذه الناحية؛ لكن لو فعل هل يكون كافراً؟
 
الجواب: لا يكون كافراً؛ لأن هذا الرجل لا ينسب الكفر إلى نفسه؛ بل صور نفسه صورة من ينسبه إلى نفسه، كمن قام بتمثيل رجل طلق زوجته؛ فإن زوجة الممثل لا تطلق؛ لأنه لم ينسب الطلاق إلى نفسه؛ بل إلى غيره.
وقد ظن بعض الناس أنه إذا قام بدور الكافر فإنه يكفر، ويخرج من الإسلام، ويجب عليه أن يجدد إسلامه، واستدل بالقرآن، وكلام أهل العلم؛ أما القرآن فاستدل بقوله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 65، 66] : وهؤلاء القوم يدعون أنهم يخوضون، ويلعبون؛ يعني: على سبيل التسلية ليقطعوا بها عناء الطريق؛ ويقول أهل العلم: إن من أتى بكلمة الكفر - ولو مازحاً - فإنه يكفر؛ قالوا:
_________
(1) أخرجه البخاري ص204، كتاب الهبة، باب 14: هبة الرجل لامرأته، والمرأة لزوجها، حديث رقم 2589، وأخرجه مسلم ص960، كتاب الهبات، باب 2: تحريم الرجوع في الصدقة بعد القبض ... ، حديث رقم 4170 [5] 1622.
(3/334)
 
 
وهذا الرجل مازح ليس جادّاً؛ فالجواب أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث جِدّهن جِدّ وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة» (1) :
فلو قال الرجل لزوجته: أنت طالق يمزح عليها فإنها تطلق؛ فهل تقولون: إذا قام الممثل بدور رجل طلق امرأته فإنها تطلق امرأته؟ سيقولون: لا؛ وكلنا يقول: لا؛ والفرق ظاهر؛ لأن المازح يضيف الفعل إلى نفسه، والممثل يضيفه إلى غيره؛ ولهذا لا تطلق زوجته لو قام بدور تمثيل المطلِّق؛ ولا يكفر لو قام بدوره تمثيل الكافر؛ لكن أرى أنه لا يجوز من ناحية أخرى؛ وهي أنه لعله يتأثر قلبه في المستقبل، حيث يتذكر أنه كان يوماً من الدهر يمثل دور الكافر؛ ثم إنه ربما يعَيَّر به فيقال مثلاً: أين أبو جهل؟! إذا قام بدوره.
 
ويمكن أن نأتي بدليل على جواز التمثيل؛ وذلك في قصة الثلاثة من بني إسرائيل: الأقرع، والأعمى، والأبرص؛ فالملك أتى الأبرص، والأقرع، والأعمى، وسألهم ماذا يريدون؛ كل ذكر أمنيته؛ فأعطاه الله سبحانه وتعالى أمنيته؛ ثم عاد إليهم المَلَك مرة
_________
(1) أخرجه أبو داود ص1384، كتاب الطلاق، باب 9: في الطلاق على الهزل، حديث رقم 2194؛ وأخرجه الترمذي ص1769، كتاب الطلاق واللعان، باب 9: ما جاء في الجد والهزل في الطلاق، حديث رقم 1184، وأخرجه ابن ماجة ص2599، كتاب الطلاق، باب 13: من طلق أو نكح أو راجع لاعباً، = =حديث رقم 2039، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/198، كتاب الطلاق، وقال: [حديث صحيح الإسناد وعبد الرحمن بن حبيب هذا هو ابن أردك من ثقات المدنيين] ، وعقب الذهبي: [قلت: فيه لين] : وقال الحافظ: [مختلف فيه، قال النسائي: منكر الحديث ووثقه غيره فهو على هذا أحسن ا. هـ التلخيص الحبير 3/236) ، وقال الألباني: حسن (صحيح أبي داود 2/9) ..
(3/335)
 
 
أخرى؛ عاد إلى الأبرص بصورته، وهيئته - يعني أبرص فقيراً - وقال له: «إني رجل فقير، وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري؛ فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك» (1) ؛ فالملَك يمثل دور رجل فقير - وهو ليس بفقير - وأبرص - وليس بأبرص - وكذلك بالنسبة للأقرع، والأعمى؛ فبعض العلماء استدل بهذا الحديث على جواز التمثيل.
فعليه نقول إذا كان التمثيل لا يشتمل على شيء محرم من الأمثلة التي ذكرناها، أو غيرها، فإنه لا بأس به، وليس من الكذب في شيء؛ لأن الكذب يضيف الإنسان الأمر إلى نفسه، فيأتي إليك يقرع الباب؛ تقول: مَن؟ يقول: أنا زيد - وليس هو بزيد؛ فهذا كاذب؛ لكن يأتي إنسان يقول: أنا أمثل دور فلان، ويعرف الناس أنه ليس فلاناً؛ فليس بكذب؛ لكنه إذا نسب القول إلى شخص معيَّن فهذا يحتاج إلى ثبوت هذا القول عن هذا الشخص المعين؛ أما إذا حكى قصة رجل بوصفه - لا بعينه - فليس بكذب.
 
3 - ومن فوائد الآية: أن الله سبحانه وتعالى يبين لعباده الآيات الشرعية، والكونية؛ كلها مبينة في كتابه سبحانه وتعالى أتم بيان.
4 - ومنها: الحث على التفكر، وأنه غاية مقصودة؛ لقوله تعالى: {لعلكم تتفكرون} ؛ فالإنسان مأمور بالتفكر في الآيات الكونية، والشرعية؛ لأن التفكر يؤدي إلى نتائج طيبة؛ لكن هذا فيما يمكن الوصول إليه بالتفكر فيه؛ أما ما لا يمكن الوصول إليه
_________
(1) سبق تخريجه 2/427 حاشية (2) .
(3/336)
 
 
بالتفكر فيه فإن التفكر فيه ضياع وقت، وربما يوصل إلى محظور، مثل التفكر في كيفية صفات الله عز وجل: هذا لا يجوز؛ لأنك لن تصل إلى نتيجة؛ ولهذا جاء في الأثر: «تفكروا في آيات الله ولا تفكروا في ذات الله» (1) ؛ لأن هذا أمر لا يمكن الوصول إليه؛ وغاية لا تمكن الإحاطة بها، كما قال تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103] ؛ فلا يجوز لأحد أن يتفكر في كيفية استواء الله عز وجل على العرش؛ بل يجب الكف عنه؛ لأنه سيؤدي إلى نتيجة سيئة؛ إما إلى التكييف، أو التمثيل، أو التعطيل - ولا بد؛ وأما التفكر في معاني أسماء الله فمطلوب؛ لأن المعنى كما قال الإمام مالك - رحمه الله - لما سئل: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] : كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
 
القرآن
)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (البقرة: 267)
_________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر 6/250 حديث رقم 6319؛ وفي سنده الوازع بن نافع عن سالم عن ابن عمر، وقال: لم يروه عن سالم إلا الوازع بن نافع. أهـ. وقال العراقي في الوازع بن نافع: متروك [تخريج إحياء علوم الدين 4/424، حاشية (1) ] ، وقال: أخرجه أبو نعيم من حديث ابن عباس في الحلية بالمرفوع منه بإسناد ضعيف، ورواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب من وجه آخر أصح منه. أهـ. المرجع السابق.
(3/337)
 
 
التفسير:
 
{267} قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} : سبق مراراً وتكراراً أن تصدير الخطاب بالنداء يدل على أهميته، والعناية به؛ لأن النداء يتضمن التنبيه؛ والتنبيه على الشيء دليل على الاهتمام به، وأن تصديره بـ {يا أيها الذين آمنوا} يفيد عدة فوائد:
 
أولاً: الإغراء؛ و «الإغراء» معناه الحث على قبول ما تخاطَب به؛ ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إذا قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} فأرعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه» (1) ؛ ولهذا لو ناديتك بوصفك، وقلت: يا رجل، يا ذكي، يا كريم. معناه: يا من توصف بهذا اجعل آثار هذا الشيء بادياً عليك.
 
ثانياً: أن امتثال ما جاء في هذا الخطاب من مقتضيات الإيمان؛ كأنه تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا} إن إيمانكم يدعوكم إلى كذا وكذا.
 
ثالثاً: أن مخالفته نقص في الإيمان؛ لأنه لو حقق هذا الوصف لامتثل ما جاء في الخطاب.
 
قوله تعالى: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم} : بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى فيما سبق فضيلة الإنفاق ابتغاء وجهه، وسوء العاقبة لمن منَّ بصدقته، أو أنفق رياءً، حثَّ على الإنفاق؛ لكن الفرق بين ما هنا، وما سبق: أن ما هنا بيان للذي ينفَق منه؛ وهناك بيان للذي ينَفق عليه.
 
وقوله تعالى: {من طيبات ما كسبتم} أي مما كسبتموه
_________
(1) سبق تخريجه 1/337.
(3/338)
 
 
بطريق حلال؛ و {كسبتم} أي ما حصلتموه بالكسب، كالذي يحصل بالبيع والشراء، والتأجير، وغيرها؛ وكل شيء حصل بعمل منك فهو من كسبك.
قوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} : قال بعضهم: إنه معطوف على {ما} في قوله تعالى: {ما كسبتم} ؛ يعني: «ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض» ؛ ولكن الصحيح الذي يظهر أنه معطوف على قوله تعالى: {طيبات} ؛ يعني: «أنفقوا من طيبات ما كسبتم، وأنفقوا مما أخرجنا لكم من الأرض» ؛ لأن ما أخرج الله لنا من الأرض كله طيب ملك لنا، كما قال تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة: 29] .
 
وقوله: {مما} : لو قلنا: إن «مِن» للتبعيض يكون المعنى: أنفقوا بعض طيبات ما كسبتم، وبعض ما أخرجنا لكم من الأرض؛ وهناك احتمال أن «مِن» لبيان الجنس؛ فيشمل ما لو أنفق الإنسان كل ماله؛ وهذا عندي أحسن؛ لأن التي للجنس تعم القليل والكثير.
 
قوله تعالى: {أخرجنا لكم من الأرض} يشمل ما أخرج من ثمرات النخيل، والأعناب، والزروع، والفاكهة، والمعادن، وغير ذلك مما يجب أن ننفق منه.
 
قوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} أي لا تقصدوا الخبيث منه فتنفقونه؛ لأن «التيمم» في اللغة: القصد؛ ومنه قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة: 6] ؛ والمراد بـ {الخبيث} هنا الرديء؛ يعني: لا تقصدوا الرديء تخرجونه، وتبقون لأنفسكم الطيب؛ فإن
(3/339)
 
 
هذا ليس من العدل؛ ولهذا قال تعالى: {ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} .
وقوله تعالى: {منه تنفقون} يحتمل في {منه} وجهان؛ أحدهما: أنها متعلقة بـ {الخبيث} على أنها حال؛ أي الخبيث حال كونه مما أخرجنا لكم من الأرض؛ وعلى هذا يكون في {تنفقون} ضمير محذوف؛ والتقدير: تنفقونه؛ الوجه الثاني: أنها متعلقة بقوله تعالى: {تنفقون} ؛ يعني: ولا تقصدوا الخبيث تنفقون منه؛ وقدمت على عاملها للحصر؛ والوجهان من حيث المعنى لا يختلفان؛ فإن معناها أن الله ينهانا أن نقصد الخبيث - وهو الرديء - لننفق منه.
 
قوله تعالى: {ولستم بآخذيه} : أي لستم بآخذي الرديء عن الجيد لو كان الحق لكم {إلا أن تغمضوا فيه} أي تأخذوه عن إغماض؛ و «الإغماض» أخذ الشيء على كراهيته - كأنه أغمض عينيه كراهية أن يراه.
 
قوله تعالى: {واعلموا أن الله غني حميد} ؛ فهو لم يطلب منكم الإنفاق لفقره واحتياجه؛ {حميد} : يحتمل أن تكون بمعنى حامد؛ وبمعنى محمود؛ وكلاهما صحيح؛ لأن «فعيلاً» تأتي بمعنى فاعل؛ وبمعنى مفعول؛ إتيانها بمعنى فاعل مثل: «رحيم» بمعنى راحم؛ و «سميع» بمعنى سامع؛ وإتيانها بمعنى مفعول مثل: «قتيل» ، و «جريح» ، و «ذبيح» ، وما أشبه ذلك؛ وهنا {حميد} تصح أن تكون بمعنى حامد، وبمعنى محمود؛ أما كون الله محموداً فظاهر؛ وأما كونه حامداً فلأنه سبحانه وتعالى يَحمَد من يستحق الحمد من عباده؛ ولهذا أثنى على أنبيائه، ورسله،
(3/340)
 
 
والصالحين من عباده؛ وهذا يدل على أنه عز وجل حامد لمن يستحق الحمد.
 
ووجه المناسبة في ذكر «الحميد» بعد «الغني» أن غناه عز وجل غِنًى يحمد عليه؛ بخلاف غنى المخلوق؛ فقد يحمد عليه، وقد لا يحمد؛ فلا يحمد المخلوق على غناه إذا كان بخيلاً؛ وإنما يحمد إذا بذله؛ والله عز وجل غني حميد؛ فهو لم يسألكم هذا لحاجته إليه؛ ولكن لمصلحتكم أنتم.
 
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: فضيلة الإيمان؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} ؛ فإن هذا وصف يقتضي امتثال أمر الله؛ وهذا يدل على فضيلة الإيمان.
 
2 - ومنها: أن من مقتضى الإيمان امتثال أمر الله، واجتناب نهيه؛ ووجهه أن الله تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا} ؛ فلولا أن للإيمان تأثيراً لكان تصدير الأمر بهذا الوصف لغواً لا فائدة منه.
 
3 - ومنها: وجوب الإنفاق من طيبات ما كسبنا؛ لقوله تعالى: {أنفقوا} ؛ والأصل في الأمر الوجوب حتى يقوم دليل صارف عن الوجوب.
 
4 - ومنها: وجوب الزكاة في عروض التجارة؛ لقوله تعالى: {ما كسبتم} ؛ ولا شك أن عروض التجارة كسب؛ فإنها كسب بالمعاملة.
 
5 - ومنها: أن المال الحرام لا يؤمر بالإنفاق منه؛ لأنه خبيث؛ والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً.
(3/341)
 
 
فإذا قال قائل: ماذا أصنع به إذا تبت؟
 
فالجواب أنه يرده على صاحبه إن أخذه بغير اختياره؛ فإن كان قد مات رده على ورثته؛ فإن لم يكن له ورثة فعلى بيت المال؛ فإن تعذر ذلك تصدق به عمن هو له؛ أما إذا أخذه باختيار صاحبه كالربا، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، فإنه لا يرده عليه؛ ولكن يتصدق به (1) ؛ هذا إذا كان حين اكتسابه إياه عالماً بالتحريم؛ أما إن كان جاهلاً فإنه لا يجب عليه أن يتصدق به؛ لقوله تعالى: {فله ما سلف وأمره إلى الله} [البقرة: 275] .
6 - ومن فوائد الآية: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم} ؛ ووجه الدلالة: أنه لو كان الإنسان مجبراً على عمله لم يصح أن يوجه إليه الأمر بالإنفاق؛ لأنه لا يقدر على زعم هؤلاء الجبرية؛ ولأن الله أضاف الكسب إلى المخاطَب في قوله تعالى: {ما كسبتم} ؛ ولو كان مجبراً عليه لم يصح أن يكون من كسبه؛ وليعلم أن مثل هذا الدليل في الرد على الجبرية كثير في القرآن، وإنما نذكره عند كل آية لينتفع بذلك من يريد إحصاء الأدلة على هؤلاء؛ وإلا فالدليل الواحد كافٍ لمن أراد الحق.
 
7 - ومنها: وجوب الزكاة في الخارج من الأرض؛ لقوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} ؛ وظاهر الآية وجوب الزكاة في الخارج من الأرض مطلقاً سواء كان قليلاً، أم كثيراً؛ وسواء كان مما يوسَّق، ويكال، أم لا؛ وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم؛ وهو أن الزكاة تجب في الخارج من الأرض مطلقاً لعموم الآية؛ ولكن الصواب ما دلت عليه السنة من أن الزكاة لا
_________
(1) انظر 3/328.
(3/342)
 
 
تجب إلا في شيء معين جنساً، وقدراً؛ فلا تجب الزكاة في القليل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (1) ؛ و «الوسق» هو الحِمل؛ ومقدار خمسة أوسق: ثلاثمائة صاع بالصاع النبوي.
 
ولا تجب الزكاة إلا فيما يكال؛ وذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق» ؛ و «الوسق» كما ذكرت هو الحمل؛ وهو ستون صاعاً؛ وعليه فلا تجب الزكاة في الخضراوات مثل: التفاح، والبرتقال، والأترج، وشبهها، لأن السنة بينت أنه لا بد من أن يكون ذلك الشيء مما يوسق.
 
تنبيه:
لم يبين في الآية مقدار الواجب إنفاقه من الكسب، والخارج من الأرض؛ ولكن السنة بينت أن مقدار الواجب فيما حصل من الكسب ربع العشر؛ ومقدار الواجب في الخارج من الأرض العشر فيما يسقى بلا مؤونة؛ ونصفه فيما يسقى بمؤونة.
 
8 - ومن فوائد الآية: ما يتبين من اختلاف التعبير في قوله تعالى: {من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} ؛ فلماذا عبر في الأول تعبيراً يدل على أن ذلك من فعل العبد؛ وفي الثاني عبر تعبيراً يدل على أنه ليس من فعل العبد؟ الأمر في ذلك واضح؛ لأن نمو التجارة بالكسب، وغالبه من فعل العبد: يبيع، ويشتري، ويكسب؛ أما ما خرج من الأرض فليس من فعل العبد
_________
(1) أخرجه البخاري ص114، كتاب الزكاة، باب 32، زكاة الورق، حديث رقم 1447؛ وأخرجه مسلم ص831، كتاب الزكاة، باب 1: ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، حديث رقم 2263 [1] 979.
(3/343)
 
 
في الواقع، كما قال تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} [الواقعة: 63، 64] .
 
9 - من فوائد الآية: وجوب الزكاة في المعادن؛ لدخولها في عموم قوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} لكن العلماء يقولون: إن كان المعدن ذهباً أو فضة وجبت فيه الزكاة بكل حال؛ وإن كان غير ذهب، ولا فضة، كالنحاس، والرصاص، وما أشبههما ففيه الزكاة إن أعده للتجارة؛ لأن هذه المعادن لا تجب الزكاة فيها بعينها؛ إنما تجب الزكاة فيها إذا نواها للتجارة.
وهل يستفاد من الآية وجوب الزكاة في الركاز - والركاز هو ما وجد من دفن الجاهلية - أي مدفون الجاهلية؛ يعني ما وجد من النقود القديمة، أو غيرها التي تنسب إلى زمن بعيد بحيث يغلب على الظن أنه ليس لها أهل وقتَ وجودها؟ لا يستفاد؛ لكن السنة دلت على أن الواجب فيه الخمس (1) ؛ ثم اختلف العلماء ما المراد بالخمس: هل هو الجزء المشاع - وهو واحد من خمسة؛ أو هو الخمس الذي مصرفه الفيء؟ على قولين؛ وبسط ذلك مذكور في كتب الفقه.
 
10 - ومن فوائد الآية: تحريم قصد الرديء في إخراج الزكاة؛ لقوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} .
 
11 - ومنها: إذا ضمت هذه الآية إلى حديث ابن عباس حين بعث النبي معاذاً إلى اليمن، وقال: «إياك وكرائم أموالهم» (2) ،
_________
(1) راجع البخاري ص118، كتاب الزكاة، باب 66: في الركاز الخمس، حديث رقم 1499؛ ومسلماً ص981، كتاب الحدود، باب 11: جرح العجماء والمعدن والبئر جبار، حديث رقم 4465 [45] 1710.
(2) راجع 1/148.
(3/344)
 
 
تبين لك العدل في الشريعة الإسلامية؛ لأن العامل على الزكاة لو قصد الكرائم من الأموال صار في هذا إجحاف على أهل الأموال؛ ولو قصد الرديء صار فيه إجحاف على أهل الزكاة؛ فصار الواجب وسطاً؛ لا نلزم صاحب المال بإخراج الأجود؛ ولا نمكنه من إخراج الأردأ؛ بل يخرج الوسط.
12 - ومنها: الإشارة إلى قاعدة إيمانية عامة؛ وهي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (1) ؛ ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى قال: {ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} ؛ فالإنسان لا يرضى بهذا لنفسه فلماذا يرضاه لغيره؟!! فإذا كنت أنت لو أُعطيت الرديء من مال مشترك بينك وبين غيرك ما أخذته إلا على إغماض، وإغضاء عن بعض الشيء؛ فلماذا تختاره لغيرك، ولا تختاره لنفسك؟!! وهذا ينبغي للإنسان أن يتخذه قاعدة فيما يعامل به غيره؛ وهو أن يعامله بما يحب أن يعامله به؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر؛ وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» (2) ، هذه قاعدة في المعاملة مع الناس؛ ومع الأسف الشديد أن كثيراً من الناس اليوم لا يتعاملون فيما بينهم على هذا الوجه؛ كثير من الناس يرى أن المكر غنيمة، وأن الكذب غنيمة.
 
13 - ومن فوائد الآية: إثبات القياس؛ وذلك لقوله تعالى:
_________
(1) أخرجه البخاري ص3، كتاب الإيمان، باب 7: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، حديث رقم 13.
(2) أخرجه مسلم ص1009، كتاب الإمارة، باب 10: وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول، حديث رقم 4773 [44] 1842.
(3/345)
 
 
{ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} ؛ يعني إذا كنت لا ترضاه لنفسك فلا ترضاه لغيرك؛ أي قس هذا بهذا.
 
14 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله، وما تضمناه من صفة؛ وهما «غني» و «حميد» .
 
القرآن
 
) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 268)
 
التفسير:
{268} قوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} ؛ {الشيطان} مبتدأ؛ وخبره جملة: {يعدكم} ؛ و {يأمركم} فيها قراءتان: الضم، والسكون؛ فأما الضم فواضح؛ لأنه فعل مضارع لم يدخل عليه ناصب، ولا جازم؛ وأما السكون فللتخفيف سماعاً لا قياساً.
 
قوله تعالى: {والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً} : هذه الجملة مقابلة لما سبقها: الفضل ضد الفقر؛ والمغفرة ضد الفحشاء؛ لأن الفحشاء تُكسب الذنوب؛ والمغفرة تمحو الذنوب؛ ففرق بين هذا، وهذا؛ والجملة مكونة من مبتدأ، وخبر؛ المبتدأ: لفظ الجلالة: {الله} ؛ والخبر: جملة: {يعدكم} .
 
قوله تعالى: {والله واسع عليم} جملة خبرية مكونة من مبتدأ، وخبر؛ المبتدأ: لفظ الجلالة: {الله} ؛ والخبر: {واسع} ؛ و {عليم} خبر ثانٍ.
(3/346)
 
 
قوله تعالى: {الشيطان} اسم من أسماء إبليس؛ قيل: إنه مشتق من «شطن» إذا بعُد - وعلى هذا فالنون أصلية؛ وقيل: إنه مشتق من «شاط» إذا تغيظ، وغضب؛ لأن صفته هو التغيظ، والغضب، والحمق، والجهل؛ ولكن الأول أقرب: أنه من «شطن» إذا بعد؛ بدليل أنه مصروف؛ و «أل» فيه للجنس؛ فليس خاصاً بشيطان واحد.
 
قوله تعالى: {يعدكم الفقر} أي يهددكم الفقر إذا تصدقتم؛ وقوله تعالى: {بالفحشاء} أي البخل؛ وإنما فُسِّر بالبخل؛ لأن فحش كل شيء بحسب القرينة، والسياق؛ فقد يراد به الزنى، كقوله تعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة} [الإسراء: 32] ؛ وقد يراد به اللواط، كما في قوله تعالى عن لوط إذا قال لقومه: {أتأتون الفاحشة} [الأعراف: 80] ؛ وقد يراد به ما يستفحش من الذنوب عموماً، كقوله تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش} [الشورى: 37] .
قوله تعالى: {والله يعدكم مغفرة} أي لذنوبكم إن تصدقتم؛ {وفضلًا} أي زيادة؛ فالصدقة تزيد المال؛ لقوله تعالى: {وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} [الروم: 39] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال» (1) .
 
الفوائد:
 
1 - من فوائد الآية: إثبات إغواء الشياطين لبني آدم؛ لقوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} .
_________
(1) سبق تخريجه 2/278.
(3/347)
 
 
2 - ومنها: أن للشيطان تأثيراً على بني آدم إقداماً، أو إحجاماً؛ أما الإقدام: فيأمره بالزنى مثلاً، ويزين له حتى يُقْدم عليه؛ وأما الإحجام: فيأمره بالبخل، ويعده الفقر لو أنفق؛ وحينئذٍ يحجم عن الإنفاق.
 
3 - ومنها: أن أبواب التشاؤم لا يفتحها إلا الشياطين؛ لقوله تعالى: {يعدكم الفقر} ؛ فالشيطان هو الذي يفتح لك باب التشاؤم يقول: «إذا أنفقت اليوم أصبحت غداً فقيراً؛ لا تنفق» ؛ والإنسان بشر: ربما لا ينفق؛ ربما ينسى قول الله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ: 39] ، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال» .
 
4 - ومنها: بيان عداوة الشيطان للإنسان؛ لأنه في الواقع عدو له في الخبر، وعدو له في الطلب؛ في الخبر: يعده الفقر؛ في الطلب: يأمره بالفحشاء؛ فهو عدو مخبراً، وطالباً - والعياذ بالله.
 
5 - ومنها: أن البخل من الفواحش؛ لأن المقام مقام إنفاق؛ فيكون المراد بالفاحشة: البخل، وعدم الإنفاق.
 
6 - ومنها: أن من أمر شخصاً بالإمساك عن الإنفاق المشروع؛ فهو شبيه بالشيطان؛ وكذلك من أمر غيره بالإسراف فالظاهر أنه شيطان؛ لقوله تعالى: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً} [الإسراء: 27] .
7 - ومنها: البشرى لمن أنفق بالمغفرة، والزيادة؛ لقوله تعالى: {والله يعدكم مغفرة منه وفضلًا} ؛ شتان ما بين الوعدين: {الشيطان يعدكم الفقر} ؛ {والله يعدكم مغفرة منه وفضلًا} ؛ فالله
(3/348)
 
 
يعدنا بشيئين: المغفرة، والفضل؛ المغفرة للذنوب؛ والفضل لزيادة المال في بركته، ونمائه.
 
فإن قال قائل: كيف يزيد الله تعالى المنفِق فضلاً ونحن نشاهد أن الإنفاق ينقص المال حساً؛ فإذا أنفق الإنسان من العشرة درهماً صارت تسعة؛ فما وجه الزيادة؟
 
فالجواب: أما بالنسبة لزيادة الأجر في الآخرة فالأمر ظاهر؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة؛ ومن تصدق بما يعادل تمرة من طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يربيها له حتى تكون مثل الجبل؛ وأما بالنسبة للزيادة الحسية في الدنيا فمن عدة أوجه:
 
الوجه الأول: أن الله قد يفتح للإنسان باب رزق لم يخطر له على بال؛ فيزداد ماله.
 
الوجه الثاني: أن هذا المال ربما يقيه الله سبحانه وتعالى آفات لولا الصدقة لوقعت فيه؛ وهذا مشاهد؛ فالإنفاق يقي المال الآفات.
 
الوجه الثالث: البركة في الإنفاق بحيث ينفق القليل، وتكون ثمرته أكثر من الكثير؛ وإذا نُزعت البركة من الإنفاق فقد ينفق الإنسان شيئاً كثيراً في أمور لا تنفعه؛ أو تضره؛ وهذا شيء مشاهد.
 
8 - ومنها: أن هذه المغفرة التي يعدنا الله بها مغفرة عظيمة؛ لقوله تعالى: {منه} ؛ لأن عظم العطاء من عظم المعطي؛ ولهذا جاء في الحديث الذي وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر: «فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني» (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري ص834، كتاب الأذان، باب 149: الدعاء قبل السلام، حديث رقم 834؛ وأخرجه مسلم 1148، كتاب الذكر والدعاء، باب 14: الدعوات والتعوذ، حديث رقم 6869 [48] 2705.
(3/349)
 
 
9 - ومنها: أنه ينبغي للمنفق أن يتفاءل بما وعد الله؛ لقوله تعالى: {والله يعدكم مغفرة منه وفضلًا} ؛ فإذا أنفق الإنسان وهو يحسن الظن بالله عز وجل أن الله يغفر له الذنوب، ويزيده من فضله كان هذا من خير ما تنطوي عليه السريرة.
 
10 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما: {واسع} ، و {عليم} ؛ وما تضمناه من صفة؛ ويستفاد من الاسمين، والصفتين إثبات صفة ثالثة باجتماعهما؛ لأن الاسم من أسماء الله إذا قرن بغيره تضمن معنًى زائداً على ما إذا كان منفرداً مثل قوله تعالى: {فإن الله كان عفواً قديراً} [النساء: 149] ؛ فالجمع بين العفْوِ والقدرة لها ميزة: أن عفوه غير مشوب بعجز إطلاقاً؛ لأن بعض الناس قد يعفو لعجز؛ فقوله تعالى: {واسع عليم} : فالصفة الثالثة التي تحصل باجتماعهما: أن علمه واسع.
 
وكل صفاته واسعة؛ وهذا مأخوذ من اسمه «الواسع» ؛ فعلمه، وسمعه، وبصره، وقدرته، وكل صفاته واسعة.
 
القرآن
 
) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة: 269)
 
التفسير:
 
{269} قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء} ؛ {يؤتي}
(3/350)
 
 
بمعنى يعطي؛ وهي تنصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ، والخبر؛ فالمفعول الأول هنا: {الحكمة} ؛ والمفعول الثاني: {مَن} في قوله تعالى: {من يشاء} ؛ والمعنى: أن الله يعطي الحكمة من يشاء؛ و {الحكمة} مِن أحكم بمعنى أتقن؛ وهي وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، وتستلزم علماً، ورشداً، فالجاهل لا تأتي منه الحكمة إلا مصادفة؛ والسفيه لا تأتي منه الحكمة إلا مصادفة.
 
قوله تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} ، أي من يعطه الله سبحانه وتعالى الحكمة فقد أعطاه خيراً كثيراً.
فإن قال قائل: ما وجه اختلاف التعبير بين قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء} ، وقوله تعالى: {ومن يؤت الحكمة} ؟
 
فالجواب: - والله أعلم - أن الحكمة قد تكون غريزة؛ وقد تكون مكتسبة؛ بمعنى أن الإنسان قد يحصل له مع المران ومخالطة الناس من الحكمة وحسن التصرف ما لا يحصل له لو كان منعزلاً عن الناس؛ ولهذا أتى بالفعل المضارع المبني للمفعول ليعم كل طرق الحكمة التي تأتي - سواء أوتي الحكمة من قبل الله عز وجل، أو من قِبل الممارسة والتجارب؛ على أن ما يحصل من الحكمة بالممارسة والتجارب فهو من الله عز وجل؛ هو الذي قيض لك من يفتح لك أبواب الحكمة، وأبواب الخير.
 
قوله تعالى: {وما يذكر إلا أولو الألباب} ، أي ما يتعظ بآيات الله إلا أصحاب العقول الذين يتصرفون تصرفاً رشيداً.
(3/351)
 
 
الفوائد:
 
1 - من فوائد الآية: إثبات أفعال الله المتعلقة بمشيئته؛ لقوله تعالى: {يؤتي الحكمة} ؛ وهذه من الصفات الفعلية.
 
2 - ومنها: أن ما في الإنسان من العلم والرشد فهو فضل من الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء} ؛ فإذا منّ الله سبحانه وتعالى على العبد بعلم، ورشد، وقوة، وقدرة، وسمع، وبصر فلا يترفع؛ لأن هذه الصفات من الله عز وجل؛ ولو شاء الله لحرمه إياها، أو لسلبه إياها بعد أن أعطاه إياها؛ فقد يسلب الله العلم من الإنسان بعد أن أعطاه إياه؛ وربما يسلب منه الحكمة؛ فتكون كل تصرفاته طيشاً، وضلالاً، وهدراً.
 
3 - ومنها: إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: {من يشاء} ؛ واعلم أن كل شيء علقه الله سبحانه وتعالى بمشيئته فإنه تابع لحكمته البالغة؛ وليس لمجرد المشيئة؛ لكن قد نعلم الحكمة؛ وقد لا نعلمها؛ قال الله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30] .
4 - ومنها: إثبات الحكمة لله عز وجل؛ لأن الحكمة كمال؛ ومعطي الكمال أولى به؛ فنأخذ من الآية إثبات الحكمة لله بهذا الطريق.
 
5 - ومنها: الفخر العظيم لمن آتاه الله الحكمة؛ لقوله تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} .
 
6 - ومنها: وجوب الشكر على من آتاه الله الحكمة؛ لأن هذا الخير الكثير يستوجب الشكر.
(3/352)
 
 
7 - ومنها: أن بلوغ الحكمة متعدد الطرق؛ فقد يكون غريزياً جبل الله العبد عليه؛ وقد يكون كسبياً يحصل بالمران، ومصاحبة الحكماء.
 
8 - ومنها: منّة الله سبحانه وتعالى على من يشاء من عباده بإيتائه الحكمة؛ لقوله تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} .
 
9 - ومنها: فضيلة العقل؛ لقوله تعالى: {وما يذكر إلا أولو الألباب} ؛ لأن التذكر بلا شك يحمد عليه الإنسان؛ فإذا كان لا يقع إلا من صاحب العقل دل ذلك على فضيلة العقل؛ والعقل ليس هو الذكاء لأن العقل نتيجته حسن التصرف - وإن لم يكن الإنسان ذكياً؛ والذكاء؛ قوة الفطنة - وإن لم يكن الإنسان عاقلاً؛ ولهذا نقول: ليس كل ذكي عاقلاً، ولا كل عاقل ذكياً؛ لكن قد يجتمعان؛ وقد يرتفعان؛ وهناك عقل يسمى عقل إدراك؛ وهو الذي يتعلق به التكليف، وهذا لا يلحقه مدح، ولا ذم؛ لأنه ليس من كسب الإنسان.
 
10 - ومن فوائد الآية: أن عدم التذكر نقص في العقل - أي عقل الرشد؛ لقوله تعالى: {وما يذَّكر إلا أولو الألباب} ؛ فإن الحكم إذا علق بوصف ازداد قوة بقوة ذلك الوصف، ونقص بنقص ذلك الوصف.
 
11 - ومنها: أنه لا يتعظ بالمواعظ الكونية أو الشرعية إلا أصحاب العقول الذين يتدبرون ما حصل من الآيات سابقاً، ولاحقاً؛ فيعتبرون بها؛ وأما الغافل فلا تنفعه.
(3/353)
 
 
القرآن
 
)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (البقرة: 270)
 
التفسير:
 
{270} قوله تعالى: {وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر} ؛ {ما} هنا شرطية؛ والدليل على أنها شرطية أنها مركبة من شرط، وجواب؛ والشرط هو: {أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر} ؛ والجواب: {فإن الله يعلمه} ؛ و {مِن} زائدة زائدة؛ أي زائدة إعراباً زائدة معنًى؛ لأنها تفيد النص على العموم؛ وهي حرف جر زائد من حيث الإعراب؛ ولهذا نعرب: {نفقةٍ} على أنها مفعول به - أي: ما أنفقتم نفقةً أو نذرتم نذراً فإن الله يعلمه؛ ويجوز أن تكون بياناً لاسم الشرط {ما} في قوله تعالى: {ما أنفقتم} ؛ لأن «ما» الشرطية مبهمة؛ والمبهم يحتاج إلى بيان.
 
قوله تعالى: {فإن الله يعلمه} هذه جملة جواب الشرط؛ والفاء هنا واقعة في جواب الشرط وجوباً؛ لأنه جملة اسمية؛ وإذا وقع جواب الشرط جملة اسمية وجب اقترانه بالفاء؛ وفي ذلك يقول الناظم فيما يجب اقترانه بالفاء:
 
(اسمية طلبية وبجامدٍ وبما وقد وبلن وبالتنفيس) قوله تعالى: {وما للظالمين من أنصار} جملة منفية؛ والمبتدأ فيها قوله تعالى: {من أنصار} ؛ و {من} فيها زائدة إعراباً زائدة معنًى؛ يعنى تزيد المعنى - وهو النص على العموم - وإن كانت في الإعراب زائدة؛ ولهذا نعرب {أنصار} على أنها مبتدأ مؤخر مرفوع بالابتداء؛ وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره
(3/354)
 
 
منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
 
وقوله تعالى: {وما أنفقتم من نفقة} ، أي أيّ شيء تنفقونه من قليل أو كثير فإن الله يعلمه.
وقوله تعالى: {أو نذرتم من نذر} ، أي أوجبتم على أنفسكم من طاعة، مثل أن يقول القائل: «لله عليّ نذر أن أتصدق بكذا» ؛ أو «أن أصوم كذا» ؛ {فإن الله يعلمه} ؛ وذِكر العلم يستلزم أن الله يجازيهم، فلا يضيع عند الله عز وجل.
 
قوله تعالى: {وما للظالمين} أي للمانعين ما يجب إنفاقه، أو الوفاء به من النذور {من أنصار} أي مانعين للعذاب عنهم.
 
الفوائد:
 
1 - من فوائد الآية: أن الإنفاق قليله وكثيره يثاب عليه المرء؛ وذلك لقوله تعالى: {وما أنفقتم من نفقة} ، وكلمة {نفقة} نكرة في سياق الشرط؛ فهي تعم؛ وعلى ذلك تشمل القليل، والكثير؛ لكن الثواب عليها مشروط بأمرين: الإخلاص لله؛ وأن تكون على وفق الشرع.
 
2 - ومنها: أنه ينبغي للإنسان إذا أنفق نفقة أن يحتسب الأجر على الله؛ لقوله تعالى: {فإن الله يعلمه} ؛ لأنك إذا أنفقت وأنت تشعر أن الله يعلم هذا الإنفاق فسوف تحتسب الأجر على الله.
 
3 - ومنها: أن ما نذره الإنسان من طاعة فهو معلوم عند الله.
 
4 - هل تدل الآية على جواز النذر؟
 
الجواب: الآية لا تدل على الجواز، كما لو قال قائل مثلاً: «إن سرَقتَ فإن الله يعلم سرقتك» ؛ فإن هذا لا يعني أن السرقة
(3/355)
 
 
جائزة؛ وعلى هذا فالآية لا تعارض نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر (1) ؛ لأن النهي عن النذر يعني إنشاءه ابتداءً؛ فأما الوفاء به فواجب إذا كان طاعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (2) .
5 - ومنها: عموم علم الله بكل ما ينفقه الإنسان، أو ينذره من قليل، أو كثير.
 
6 - ومنها: الرد على القدرية الذين يقولون: إن الإنسان مستقل بعمله، وليس لله فيه تدخل إطلاقاً؛ وجه ذلك: أنه إذا كان الله يعلمه فلا بد أن يقع على حسب علمه؛ وإلا لزم أن يكون الله غير عالم؛ ولهذا قال بعض السلف: جادلوهم بالعلم؛ فإن أقروا به خُصِموا؛ وإن أنكروه كفروا.
 
7 - ومنها: أن الله سبحانه وتعالى لا ينصر الظالم؛ لقوله تعالى: {وما للظالمين من أنصار} ؛ ولا يرد على هذا ما وقع في أُحد من انتصار الكافرين لوجهين:
 
الوجه الأول: أنه نوع عقوبة، حيث حصل من بعض المسلمين عصيانهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون} [آل عمران: 152] .
 
الوجه الثاني: أن هذا الانتصار من أجل أن يمحق الله الكافرين؛ لأن انتصارهم يغريهم بمقاتلة المسلمين؛ حتى تكون
_________
(1) راجع البخاري ص553، كتاب القدر، باب 6: إلقاء العبد النذر إلى القدر، حديث رقم 6608؛ ومسلماً ص964، كتاب النذر، باب 2: النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئاً، رقم 4237 [2] 1639.
(2) أخرجه البخاري ص559، كتاب الأيمان والنذور، باب 28: النذر في الطاعة (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر) ، حديث رقم 6696.
(3/356)
 
 
العاقبة للمسلمين، كما قال تعالى: {وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} [آل عمران: 141] .
 
8 - ومن فوائد الآية: أن من دعا على أخيه وهو ظالم له فإن الله لا يجيب دعاءه؛ لأنه لو أجيب لكان نصراً له؛ وقد قال تعالى: {إنه لا يفلح الظالمون} [الأنعام: 21] .
 
9 - ومنها: الثواب على القليل، والكثير؛ وفي القرآن ما يشهد لذلك، مثل قوله تعالى: {ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} [التوبة: 121] ، وقوله تعالى في آخر سورة الزلزلة: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} [الزلزلة: 7، 8] .
 
القرآن
 
)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة: 271)
 
التفسير:
 
{271} قوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات} أي تظهروها {فنعمَّا هي} : جملة إنشائية للمدح؛ وقُرنت بالفاء وهي جواب الشرط لكونها فعلاً جامداً {وإن تخفوها} أي تصدَّقوا سراً {وتؤتوها الفقراء} أي تعطوها المعدمين؛ وذكر {الفقراء} هنا على سبيل المثال؛ {فهو خير لكم} أي من إظهارها؛ والجملة: جواب الشرط؛ وقرنت بالفاء لكونها اسمية.
 
قوله تعالى: {ويكفر عنكم من سيئاتكم} الجملة استئنافية؛
(3/357)
 
 
ولذلك كان الفعل مرفوعاً؛ و «التكفير» بمعنى السَّتر؛ {سيئاتكم} جمع سيئة؛ وهي ما يسوء المرء عمله، أو ثوابه.
 
قوله تعالى: {والله بما تعملون خبير} ، أي عليم ببواطن الأمور كظواهرها.
 
الفوائد:
 
1 - من فوائد الآية: الحث على الصدقة، والترغيب فيها سواء أبداها، أو أخفاها.
 
2 - ومنها: أن إخفاء الصدقة أفضل من إبدائها؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص؛ وأستر للمتصدق عليه؛ لكن إذا كان في إبدائها مصلحة ترجح على إخفائها - مثل أن يكون إبداؤها سبباً لاقتداء الناس بعضهم ببعض، أو يكون في إبدائها دفع ملامة عن المتصدق، أو غير ذلك من المصالح - فإبداؤها أفضل.
 
3 - ومنها: أن الصدقة لا تعتبر حتى يوصلها إلى الفقير؛ لقوله تعالى: {وتؤتوها الفقراء} .
 
ويتفرع على هذا فرعان:
 
أحدهما: أن مؤونة إيصالها على المتصدق.
 
الثاني: أنه لو نوى أن يتصدق بماله، ثم بدا له ألا يتصدق فله ذلك؛ لأنه لم يصل إلى الفقير.
 
4 - ومنها: تفاضل الأعمال - أي أن بعض الأعمال أفضل من بعض؛ لقوله تعالى: {فهو خير لكم} ؛ وتفاضل الأعمال يكون بأسباب:
أ - منها التفاضل في الجنس، كالصلاة - مثلاً - أفضل من الزكاة، وما دونها.
(3/358)
 
 
ب - ومنها التفاضل في النوع؛ فالواجب من الجنس أفضل من التطوع؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه» (1) .
 
ج - ومنها التفاضل باعتبار العامل لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» (2) .
 
د - ومنها التفاضل باعتبار الزمان، كقوله صلى الله عليه وسلم في العشر الأول من ذي الحجة: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر» (3) ، وكقوله تعالى: {ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 3] .
 
هـ - ومنها التفاضل بحسب المكان، كفضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره.
 
وومنها التفاضل بحسب جودة العمل وإتقانه، كقوله صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة؛ والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران» (4) .
 
ز - ومنها التفاضل بحسب الكيفية، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... » ، وذكر منهم: «ورجل
_________
(1) سبق تخريجه 3/268، حاشية (2) .
(2) سبق تخريجه 3/269، حاشية (1) .
(3) سبق تخريجه 3/269، حاشية (2) .
(4) أخرجه البخاري ص425، كتاب تفسير القرآن، باب 80: سورة عبس، حديث رقم 4937؛ وأخرجه مسلم ص803، كتاب صلاة المسافرين، باب 38، فضل الماهر بالقرآن ... ، حديث رقم 1862 [244] 798 واللفظ له.
(3/359)
 
 
تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» (1) .
وتفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل؛ لأن الإنسان يشرف، ويفضل بعمله؛ وتفاضل الأعمال يستلزم زيادة الإيمان؛ لأن الإيمان قول، وعمل؛ فإذا تفاضلت الأعمال تفاضل الإيمان - أعني زيادة الإيمان، ونقصانه - وهو مذهب أهل السنة، والجماعة.
 
5 - ومن فوائد الآية: أن الصدقة سبب لتكفير السيئات؛ لقوله تعالى: {ويكفر عنكم من سيئاتكم} ؛ ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل» ، ثم تلا صلى الله عليه وسلم: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع ... } (2) [السجدة: 16] .
 
6 - ومنها: إثبات أفعال الله الاختيارية - كما هو مذهب أهل السنة، والجماعة؛ لقوله تعالى: {ويكفر عنكم
_________
(1) أخرجه البخاري ص53، كتاب الأذان، باب 36: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة ... ، حديث رقم 660؛ وأخرجه مسلم ص840، كتاب الزكاة، باب 30: فضل إخفاء الصدقة، حديث رقم 2380 [91] 1031.
(2) أخرجه أحمد 5/231، حديث رقم 22366، وأخرجه الترمذي ص1915، كتاب الإيمان، باب 8: ما جاء في حرمة الصلاة، حديث رقم 2616، وأخرجه ابن ماجة ص2715، كتاب الفتن، باب 12، كف اللسان في الفتنة، حديث رقم 3973، وفيه عاصم بن أبي النجود قال الذهبي فيه في الحديث دون الثبت صدوق يهم (ميزان الاعتدال 2/357) ، لكن أخرج الحاكم من طويق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت والحكم بن عتبة عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ ... مثله (2/412 - 413) وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، وقال الألباني في صحيح ابن ماجة 2/359: صحيح، وقال شعيب في تخريج جامع العلوم والحكم 2/134 حاشية (1) : حديث صحيح بطرقه.
(3/360)
 
 
من سيئاتكم} ؛ فإن تكفير السيئات حاصل بعد العمل الذي يحصل به التكفير.
 
7 - ومنها: بيان آثار الذنوب، وأنها تسوء العبد؛ لقوله تعالى: {من سيئاتكم} .
 
8 - ومنها: إثبات اسم الله عز وجل «الخبير» ؛ وإثبات ما دل عليه من صفة.
9 - ومنها: تحذير العبد من المخالفة؛ لقوله تعالى: {والله بما تعملون خبير} ؛ فإن إخباره إيانا بذلك يستلزم أن نخشى من خبرته عز وجل فلا يفقدنا حيث أمرنا، ولا يرانا حيث نهانا.
 
القرآن
 
) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (البقرة: 272)
 
التفسير:
 
{272} قوله تعالى: {ليس عليك هداهم} ؛ الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم؛ و {هداهم} : الضمير يعود على بني آدم؛ والهدى المنفي هنا هدى التوفيق؛ وأما هدى البيان فهو على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67] ؛ ولقوله تعالى: {إن عليك إلا البلاغ} [الشورى: 48] ، وقوله تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم
(3/361)
 
 
بمسيطر} [الغاشية: 21، 22] ، وقوله تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} [الرعد: 40] ... إلى آيات كثيرة تدل أن على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهدي الناس هداية الدلالة، والإرشاد؛ أما هداية التوفيق فليست على الرسول، ولا إلى الرسول؛ لا يجب عليه أن يهديهم؛ وليس بقدرته ولا استطاعته أن يهديهم؛ ولو كان بقدرته أن يهديهم لهدى عمه أبا طالب؛ ولكنه لا يستطيع ذلك؛ لأن هذا إلى الله سبحانه وتعالى وحده.
 
قوله تعالى: {ولكن الله يهدي من يشاء} ؛ وهذا كالاستدراك لما سبق؛ أي لمّا نفى كون هدايتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن ذلك إلى الله عز وجل وحده؛ فيهدي من يشاء ممن اقتضت حكمته هدايته.
قوله تعالى: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} أي: وليس لله عز وجل؛ فالله سبحانه وتعالى لا ينتفع به؛ بل لأنفسكم تقدمونه؛ وما لا تنفقونه فقد حرمتم أنفسكم؛ و {ما} هذه شرطية بدليل اقتران الجواب بالفاء في قوله تعالى: {فلأنفسكم} ؛ وقوله تعالى: {من خير} بيان لـ {ما} الشرطية؛ لأن {ما} الشرطية مبهمة تحتاج إلى بيان؛ يعني: أيَّ خير تنفقونه فلأنفسكم؛ والمراد بـ «الخير» كل ما بذل لوجه الله عز وجل من عين، أو منفعة؛ وأغلب ما يكون في الأعيان.
 
وقوله تعالى: {فلأنفسكم} : الفاء رابطة للجواب؛ والجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف؛ والتقدير: فهو لأنفسكم؛ يعني: وليس لغيركم.
 
قوله تعالى: {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} يعني: لا
(3/362)
 
 
تنفقون إنفاقاً ينفعكم إلا ما ابتغيتم به وجه الله؛ فأما ما ابتغي به سوى الله فلا ينفع صاحبه؛ بل هو خسارة عليه.
 
وقوله تعالى: {إلا ابتغاء} أي إلا طلب؛ و {وجه الله} : المراد به الوجه الحقيقي؛ لأن من دخل الجنة نظر إلى وجه الله.
 
قوله تعالى: {وما تنفقوا من خير يوف إليكم} ؛ {ما} هذه أيضاً شرطية بدليل جزم الجواب: {يوف} ؛ فإنه مجزوم بحذف حرف العلة؛ وهو الألف؛ يعني: أيَّ خير تنفقونه من الأعيان، والمنافع قليلاً كان أو كثيراً يوف إليكم؛ أي: تعطَونه وافياً من غير نقص؛ بل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
 
قوله تعالى: {وأنتم لا تظلمون} ، أي: لا تنقصون شيئاً منه.
 
الفوائد:
 
1 - من فوائد الآية: أن هداية الخلق لا تلزم الرسل؛ ونعنى بذلك هداية التوفيق؛ أما هداية الدلالة فهي لازمة عليهم؛ لقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة: 67] .
2 - ومنها: أن الإنسان إذا بلغ شريعة الله برئت ذمته؛ لقوله تعالى: {ليس عليك هداهم} ؛ ولو كانت ذمته لا تبرأ لكان ملزماً بأن يهتدوا.
 
3 - ومنها: إثبات أن جميع الأمور دقيقها، وجليلها بيد الله؛ لقوله تعالى: {ولكن الله يهدي من يشاء} .
 
4 - ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: {ولكن الله يهدي من يشاء} ؛ لأنهم يقولون: «إن العبد مستقل بعمله، ولا تعلق لمشيئة الله سبحانه وتعالى فيه» .
(3/363)
 
 
5 - ومنها: إثبات المشيئة لله تعالى؛ لقوله تعالى: {من يشاء} .
 
6 - ومنها: أن هداية الخلق بمشيئة الله؛ ولكن هذه المشيئة تابعة للحكمة؛ فمن كان أهلاً لها هداه الله؛ لقوله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124] ؛ ومن لم يكن أهلاً للهداية لم يهده؛ لقوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] ، ولقوله تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97] .
7 - ومنها: أن أعمال الإنسان لا تنصرف إلى غيره؛ لقوله تعالى: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} ؛ وليس في الآية دليل على منع أن يتصدق الإنسان بعمله على غيره؛ ولكنها تبين أن ما عمله الإنسان فهو حق له؛ ولهذا جاءت السنة صريحة بجواز الصدقة عن الميت، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري في قصة الرجل الذي قال: «يا رسول الله، إن أمي أفتلتت نفسها وأُراها لو تكلمت تصدقت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم تصدق عنها» (1) ؛ وكذلك حديث سعد بن عبادة حين تصدق ببستانه لأمه (2) ؛ إذاً فالآية لا تدل على منع الصدقة عن الغير؛ وإنما تدل على أن ما عمله الإنسان لا يصرف إلى غيره.
_________
(1) أخرجه البخاري ص222، كتاب الوصايا، باب 19: ما يستحب لمن توفي فجاءة أن يتصدقوا عنه، حديث رقم 2760؛ وأخرجه مسلم ص836، كتاب الزكاة، باب 15: وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه، حديث رقم 2326 [51] 1004؛ واللفظ للبخاري.
(2) أخرجه البخاري ص221، كتاب الوصايا، باب 16: إذا قال: أرضي وبستاني صدقة الله، حديث رقم 2756.
(3/364)
 
 
8 - و