تفسير الطبري جامع البيان ط هجر 016

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: تفسير الطبري = جامع البيان عن تأويل آي القرآن
المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: {يس} [يس: 1] «مِفْتَاحُ كَلَامٍ، افْتَتَحَ اللَّهُ بِهِ كَلَامَهُ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ
(19/399)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {يس} [يس: 1] قَالَ: «كُلُّ هِجَاءٍ فِي الْقُرْآنِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ بَيَّنَّ‍االْقَوْلَ فِيمَا مَضَى فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ وَتَكْرِيرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
(19/399)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 2] يَقُولُ: وَالْقُرْآنِ الْمُحْكَمِ بِمَا فِيهِ مِنْ أَحْكَامِهِ، وَبَيِّنَاتِ حُجَجِهِ {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 3] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِقْسَمًا بِوَحْيِهِ وَتَنْزِيلِهِ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَمَنِ الْمُرْسَلِينَ بِوَحْيِ اللَّهِ إِلَى عِبَادِهِ
(19/399)
 
 
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 3] «قَسَمٌ كَمَا تَسْمَعُونَ» {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 3]
(19/399)
 
 
وَقَوْلُهُ: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39] يَقُولُ: عَلَى طَرِيقٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ مِنَ الْهُدَى، وَهُوَ الْإِسْلَامُ
(19/400)
 
 
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39] «أَيْ عَلَى الْإِسْلَامِ» وَفِي قَوْلِهِ: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39] وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى اسْتِقَامَةٍ مِنَ الْحَقِّ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ عَلَى مِنْ قَوْلِهِ {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39] مِنْ صِلَةِ الْإِرْسَالِ وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مُبْتَدَأً، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينِ، إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(19/400)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس: 5] اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس: 5] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: (تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ) بِرَفْعِ تَنْزِيلَ، وَالرَّفْعُ فِي ذَلِكَ يَتَّجِهُ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: بِأَنْ يُجْعَلَ خَبَرًا، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّهُ تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ وَالْآخَرُ: بِالِابْتِدَاءِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، هَذَا تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ: {تَنْزِيلَ} [السجدة: 2] نَصْبًا عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 3] لِأَنَّ الْإِرْسَالَ إِنَّمَا هُوَعَنِ التَّنْزِيلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَمُنَزَّلُ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ حَقًّا
(19/400)
 
 
وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ وَمَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ يَا مُحَمَّدُ إِرْسَالَ الرَّبِّ الْعَزِيزِ فِي انْتِقَامِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ، الرَّحِيمِ بِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ، وَأَنَابَ مِنْ كُفْرِهِ وَفُسُوقِهِ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى سَالِفِ جُرْمِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ لَهُ
(19/401)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس: 7] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس: 6] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَنْذَرَ اللَّهُ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ
(19/401)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس: 6] قَالَ: " قَدْ أُنْذِرُوا، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَنْذَرَ آبَاؤُهُمْ "
(19/401)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ
(19/401)
 
 
آبَاؤُهُمْ} [يس: 6] " قَالَ بَعْضُهُمْ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ مِنْ إِنْذَارِ النَّاسِ قَبْلَهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ: أَيْ هَذِهِ الْأُمَّةُ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ، حَتَّى جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى مَا الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس: 6] إِذَا وَجَّهَ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ آبَاءَهُمُ قَدْ كَانُوا أُنْذِرُوا، وَلَمْ يُرِدْ بِهَا الْجَحْدَ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِذَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ الْجَحْدِ لِتُنْذِرَهُمُ الَّذِي أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ {فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6] وَقَالَ: فَدُخُولُ الْفَاءِ فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ: وَهُوَ عَلَى الْجَحْدِ أَحْسَنُ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَى قَوْمٍ لَمْ يَنْذَرْ آبَاؤُهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْفَتْرَةِ وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: إِذَا لَمْ يَرِدْ بِمَا الْجَحْدِ، فَإِنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: لِتُنْذِرَهُمْ بِمَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ، فَتُلْقَى الْبَاءُ، فَتَكُونُ مَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. {فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6] يَقُولُ: فَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا اللَّهُ فَاعِلٌ بِأَعْدَائِهِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ، مِنْ إِحْلَالِ نِقْمَتِهِ، وَسَطْوَتِهِ بِهِمْ
(19/402)
 
 
وَقَوْلُهُ: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس: 7] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَقَدْ وَجَبَ الْعِقَابُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ حَتَّمَ عَلَيْهِمْ فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَا [ص:403] يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَلَا يُصَدِّقُونَ رَسُولَهُ
(19/402)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّا جَعَلْنَا أَيْمَانَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مَغْلُولَةً إِلَى أَعْنَاقِهِمْ بِالْأَغْلَالِ، فَلَا تَبْسِطُ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ؛ وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا ذُكِرَ: «إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَيْمَانِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ» وَقَوْلُهُ: {إِلَى الْأَذْقَانِ} [يس: 8] يَعْنِي: فَأَيْمَانُهُمْ مَجْمُوعَةٌ بِالْأَغْلَالِ فِي أَعْنَاقِهِمْ، فَكُنِّيَ عَنِ الْأَيْمَانِ، وَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ لِمِعْرِفَةِ السَّامِعِينَ بِمَعْنَى الْكَلَامِ، وَأَنَّ الْأَغْلَالَ إِذَا كَانَتْ فِي الْأَعْنَاقِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا وَأَيْدِي الْمَغْلُولِينَ مَجْمُوعَةٌ بِهَا أَلِيَهَا، فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ كَوْنِ الْأَغْلَالِ فِي الْأَعْنَاقِ مِنْ ذِكْرِ الْأَيْمَانِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الوافر]
وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ وَجْهًا ... أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي
آلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ ... أَمِ الشَّرُّ الَّذِي لَا يَأْتَلِينِي
فَكَنَى عَنِ الشَّرِّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْخَيْرَ وَحْدَهُ لَعِلْمِ سَامِعِ ذَلِكَ بِمَعْنَى قَائِلِهِ، إِذْ كَانَ الشَّرُّ مَعَ الْخَيْرِ يُذْكَرُ وَالْأَذْقَانُ: جَمْعُ ذَقَنٍ، وَالذَّقَنُ: مَجْمَعُ اللَّحْيَيْنِ
(19/403)
 
 
وَقَوْلُهُ: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس: 8] وَالْمُقْمَحُ: هُوَ الْمُقَنَّعُ، وَهُوَ أَنْ يَحْدِرَ الذَّقَنَ [ص:404] حَتَّى يَصِيرَ فِي الصَّدْرِ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ فِي قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَفِي قَوْلِ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ: هُوَ الْغَاضُّ بَصَرَهُ، بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(19/403)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس: 8] قَالَ: " هُوَ كَقَوْلِ اللَّهِ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ أَيْدِيَهُمْ مُوثَقَةٌ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ، لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَبْسِطُوهَا بِخَيْرٍ "
(19/404)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس: 8] قَالَ: «رَافِعُو رُءُوسِهِمْ، وَأَيْدِيهِمْ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ»
(19/404)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس: 8] «أَيْ فَهُمْ مَغْلُولُونَ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ»
(19/404)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} [يس: 9] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِي هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ سَدًّا، وَهُوَ الْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ؛ إِذَا فُتِحَ كَانَ مِنْ فِعْلِ بَنِي آدَمَ، وَإِذَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ كَانَ بِالضَّمِّ وَبِالضَّمِّ قَرَأَ ذَلِكَ قُرَّاءُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ بِفَتْحِ السِّينِ {سَدًّا} [الكهف: 94] فِي الْحَرْفَيْنِ كِلَيْهِمَا؛ وَالضَّمُّ أَعْجَبُ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى جَائِزَةً صَحِيحَةً وَعَنَى بِقَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس: 9] أَنَّهُ زَيَّنَ لَهُمْ سُوءَ أَعْمَالِهِمْ، فَهُمْ يَعْمَهُونَ، وَلَا يُبْصِرُونَ رُشْدًا، وَلَا يَتَنَبَّهُونَ حَقًّا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(19/405)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس: 9] قَالَ: «عَنِ الْحَقِّ»
(19/405)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس: 9] «عَنِ الْحَقِّ فَهُمْ يَتَرَدَّدُونَ»
(19/405)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس: 9] قَالَ: «ضَلَالَاتٌ»
(19/406)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] قَالَ: " جَعَلَ هَذَا سَدًّا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، فَهُمْ لَا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ، وَقَرَأَ: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس: 10] وَقَرَأَ: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} . . . الْآيَةَ كُلَّهَا، وَقَالَ: مَنْ مَنَعَهُ اللَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ "
(19/406)
 
 
وَقَوْلُهُ: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] يَقُولُ: فَأَغْشَيْنَا أ‍َبْصَارَ هَؤُلَاءِ: أَيْ جَعَلْنَا عَلَيْهَا غِشَاوَةً فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ هُدًى وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ
(19/406)
 
 
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] «هُدًى، وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ» وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ حِينَ حَلَفَ أَنْ يَقْتُلَهُ أَوْ يُشْدَخَ رَأْسَهُ بِصَخْرَةٍ
(19/406)
 
 
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا عُمَارَةُ بْنُ [ص:407] أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا لَأَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ، فَأُنْزِلَتْ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} [يس: 8] . . إِلَى قَوْلِهِ {فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] قَالَ: " فَكَانُوا يَقُولُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: أَيْنَ هُوَ، أَيْنَ هُوَ؟ لَا يُبْصِرُهُ " وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ: «فَأَعْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ» بِالْعَيْنِ بِمَعْنَى أَعْشَيْنَاهُمْ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَشَا هُوَ أَنْ يَمْشِيَ بِاللَّيْلِ وَلَا يُبْصِرُ
(19/406)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 11] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَسَوَاءٌ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، أَيِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ مِنْكَ إِلَيْهِمُ الْإِنْذَارُ، أَوْ تَرْكُ الْإِنْذَارِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ
(19/407)
 
 
وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس: 11] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّمَا يَنْفَعُ إِنْذَارُكَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ، وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ} [يس: 11] يَقُولُ: وَخَافَ اللَّهَ حِينَ يَغِيبَ عَنْ أَبْصَارِ النَّاظِرِينَ، لَا الْمُنَافِقَ الَّذِي يَسْتَخِفُّ بِدِينِ اللَّهِ إِذَا خَلَا، وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ فِي الْمَلَأٍ، وَلَا الْمُشْرِكَ الَّذِي قَدْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ [ص:408] وَقَوْلُهُ: {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} [يس: 11] يَقُولُ: فَبَشِّرْ يَا مُحَمَّدُ هَذَا الَّذِي اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ بِمَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ لِذُنُوبِهِ. {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 11] يَقُولُ: وَثَوَابٍ مِنْهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ كَرِيمٍ، وَذَلِكَ أَنْ يُعْطِيَهَ عَلَى عَمَلِهِ ذَلِكَ الْجَنَّةَ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(19/407)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس: 11] " وَاتِّبَاعُ الذِّكْرِ: اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ "
(19/408)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} [يس: 12] مِنْ خَلْقِنَا {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} [يس: 12] فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ وَسَيِّئِهَا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(19/408)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} [يس: 12] مِنْ عَمَلٍ "
(19/408)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ [ص:409]: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} [يس: 12] قَالَ: «مَا عَمِلُوا»
(19/408)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {مَا قَدَّمُوا} [يس: 12] قَالَ: «أَعْمَالَهُمْ»
(19/409)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] يَعْنِي: وَآثَارَ خُطَاهُمْ بِأَرْجُلِهِمْ، وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَرَادُوا أَنْ يَقْرَبُوا مِنْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَقُرَبَ عَلَيْهِمْ
(19/409)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " كَانَتْ مَنَازِلُ الْأَنْصَارِ مُتَبَاعِدَةً مِنَ الْمَسْجِدِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى الْمَسْجِدِ فَنَزَلَتْ {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] فَقَالُوا: «نَثْبُتْ فِي مَكَانِنَا»
(19/409)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " كَانَتِ الْأَنْصَارُ بَعِيدَةً مَنَازِلُهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَقِلُوا، قَالَ: فَنَزَلَتْ {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] «فَثَبَتُوا»
(19/409)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، قَالَ: ثنا الْجُرَيْرِيُّ، [ص:410] عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ قُرْبَ الْمَسْجِدِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بَنِي سَلِمَةَ» دِيَارَكُمْ، إِنَّهَا تُكْتَبُ آثَارُكُمْ "
(19/409)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ كَهْمَسًا، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، قَالَ: وَالْبِقَاعُ خَالِيَةٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «يَا بَنِي سَلِمَةَ دِيَارَكُمْ إِنَّهَا تُكْتَبُ آثَارُكُمْ» قَالَ: " فَأَقَامُوا، وَقَالُوا: مَا يُسُرُّنَا أَنَّا كُنَّا تَحَوَّلْنَا "
(19/410)
 
 
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ خَالِدٍ الرَّقِّيُّ، قَالَ: ثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ طَرِيفٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: شَكَتْ بَنُو سَلَمَةَ بُعْدَ مَنَازِلِهِمْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] فَقَالَ: «عَلَيْكُمْ مَنَازِلَكُمْ تُكْتَبُ آثَارُكُمْ»
(19/410)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا أَبُو تُمَيْلَةَ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: مَشَيْتُ مَعَ أَنَسٍ، فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَمَشَيْنَا رُوَيْدًا، فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ قَالَ أَنَسٌ: مَشَيْتُ مَعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ، فَقَالَ: «يَا [ص:411] أَنَسُ أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ الْآثَارَ تُكْتَبُ»
(19/410)
 
 
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ بَنِيَ سَلَمَةَ، كَانَتْ دُورُهُمْ قَاصِيَةً عَنِ الْمَسْجِدِ، فَهَمُّوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا، قُرْبَ الْمَسْجِدِ، فَيَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ يَا بَنِي سَلِمَةَ؟» فَمَكَثُوا فِي دِيَارِهِمْ
(19/411)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] قَالَ: «خُطَاهُمْ بِأَرْجُلِهِمْ»
(19/411)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] قَالَ: «خُطَاهُمْ»
(19/411)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: {وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] قَالَ: «خُطَاهُمْ» وَقَالَ قَتَادَةُ: لَوْ كَانَ مُغْفِلًا شَيْئًا مِنْ شَأْنِكَ يَا ابْنَ آدَمَ أَغْفَلَ مَا تُعَفِّي الرِّيَاحُ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ
(19/411)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكُلَّ شَيْءٍ كَانَ أَوْ هُوَ كَائِنٌ أَحْصَيْنَاهُ، فَأَثْبَتْنَاهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْمُبِينُ وَقِيلَ: {مُبِينٍ} [البقرة: 168] لِأَنَّهُ يَبِينُ عَنْ حَقِيقَةِ جَمِيعِ مَا أُثْبِتَ فِيهِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(19/412)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] قَالَ: «فِي أُمِّ الْكِتَابِ»
(19/412)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] «كُلَّ شَيْءٍ مُحْصًى عِنْدَ اللَّهِ فِي كِتَابٍ»
(19/412)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] قَالَ: «أُمُّ الْكِتَابِ الَّتِي عِنْدَ اللَّهِ فِيهَا الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا هِيَ الْإِمَامُ الْمُبِينُ»
(19/412)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا: إِنَّا إِلَيْكُمْ [ص:413] مُرْسَلُونَ} [يس: 14] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَثِّلْ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قَوْمِكَ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ ذُكِرَ أَنَّهَا أَنْطَاكِيَّةُ {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس: 13] اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ، وَفِيمَنْ كَانَ أَرْسَلَهُمْ إِلَى أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانُوا رُسُلَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَعِيسَى الَّذِي أَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِمْ
(19/412)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] قَالَ: «ذَكَرَ لَنَا أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ بَعَثَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ إِلَى أَنْطَاكِيَّةَ مَدِينَةِ بِالرُّومِ فَكَذَّبُوهُمَا، فَأَعَزَّهُمَا بِثَالِثٍ» {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس: 14]
(19/413)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَا: ثنا سُفْيَانُ، قَالَ: ثني السُّدِّيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس: 13] قَالَ: «أَنْطَاكِيَّةُ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانُوا رُسُلًا أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ
(19/413)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثنا ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا بَلَغَهُ، [ص:414] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: " كَانَ بِمَدِينَةِ أَنْطَاكِيَّةَ فِرْعَوْنُ مِنَ الْفَرَاعِنَةِ يُقَالُ لَهُ أبطيحسُ بْنُ أبطيحسَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، صَاحِبُ شِرْكٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ الْمُرْسَلِينَ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ: صَادِقٌ، وَمَصْدُوقٌ، وَسَلُومٌ، فَقَدِمَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَهْلِ مَدِينَتِهِ مِنْهُمُ اثْنَانِ فَكَذَّبُوهُمَا، ثُمَّ عَزَّزَ اللَّهُ بِثَالِثٍ؛ فَلَمَّا دَعَتْهُ الرُّسُلُ وَنَادَتْهُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَصَدَعَتْ بِالَّذِي أُمِرَتْ بِهِ، وَعَابَتْ دِينَهُ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، قَالَ لَهُمْ: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس: 18]
(19/413)
 
 
وَقَوْلُهُ: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: حِينَ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ يَدْعُونَهُمْ إِلَى اللَّهِ فَكَذَّبُوهُمَا فَشَدَّدْنَاهُمَا بِثَالِثٍ، وَقَوَّيْنَاهُمَا بِهِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(19/414)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] قَالَ: شَدَّدْنَا "
(19/414)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، [ص:415] عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] قَالَ: «زِدْنَا»
(19/414)
 
 
حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] قَالَ: " جَعَلْنَاهُمْ ثَلَاثَةً، قَالَ: ذَلِكَ التَّعَزُّزُ، قَالَ: وَالتَّعَزُّزُ: الْقُوَّةُ "
(19/415)
 
 
وَقَوْلُهُ: {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس: 14] يَقُولُ: فَقَالَ الْمُرْسَلُونَ الثَّلَاثَةُ لِأَصْحَابِ الْقَرْيَةِ: إِنَّا إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ مُرْسَلُونَ، بِأَنْ تُخْلِصُوا الْعِبَادَةَ لِلَّهِ وَحْدِهِ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَتَبَرَّءُوا مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَصْنَامِ وَبِالتَّشْدِيدِ فِي قَوْلِهِ: {فَعَزَّزْنَا} [يس: 14] قَرَأَتِ الْقُرَّاءُ سِوَى عَاصِمٍ، فَإِنَّهُ قَرَأَهُ بِالتَّخْفِيفِ، وَالْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا بِالتَّشْدِيدِ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ وَأَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا شَدَّدَ: فَقَوَّيْنَا، وَإِذَا خَفَّفَ: فَغَلَبْنَا، وَلَيْسَ لِغَلَبْنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَثِيرُ مَعْنًى
(19/415)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بِشْرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قَالُوا: رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [يس: 16] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ أَصْحَابُ الْقَرْيَةِ لِلثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ حِينَ أَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ بِمَا أُرْسِلُوا بِهِ: مَا أَنْتُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ إِلَّا أُنَاسٌ مِثْلُنَا، وَلَوْ كُنْتُمْ رُسُلًا كَمَا تَقُولُونَ، لَكُنْتُمْ مَلَائِكَةً {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} [يس: 15] يَقُولُ: قَالُوا: وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ إِلَيْكُمْ مِنْ رِسَالَةٍ وَلَا كِتَابٍ وَلَا
(19/415)
 
 
أَمَرَكُمْ فِينَا بِشَيْءٍ {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس: 15] فِي قِيلِكُمْ إِنَّكُمْ إِلَيْنَا مُرْسَلُونَ {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 16] يَقُولُ: قَالَ الرُّسُلُ: رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ فِيمَا دَعَوْنَاكُمْ إِلَيْهِ، وَإِنَّا لَصَادِقُونَ {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [يس: 17] يَقُولُ: وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نُبَلِّغَكُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ الَّتِي أَرْسَلَنَا بِهَا إِلَيْكُمْ بَلَاغًا يُبِينُ لَكُمْ أَنَّا أَبْلَغْنَاكُمُوهَا، فَإِنْ قَبِلْتُمُوهَا فَحَظُّ أَنْفُسِكُمْ تُصِيبُونَ، وَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوهَا فَقَدْ أَدَّيْنَا مَا عَلَيْنَا، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْحُكْمِ فِيهِ
(19/416)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس: 18] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ أَصْحَابُ الْقَرْيَةِ لِلرُّسُلِ: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18] يَعْنُونَ: إِنَّا تَشَاءَمْنَا بِكُمْ، فَإِنْ أَصَابَنَا بَلَاءٌ مِنْ أَجْلِكُمْ
(19/416)
 
 
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18] قَالُوا: «إِنْ أَصَابَنَا شَرٌّ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِكُمْ»
(19/416)
 
 
وَقَوْلُهُ: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} [يس: 18] يَقُولُ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عَمَّا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّكُمْ أُرْسِلْتُمْ إِلَيْنَا بِالْبَرَاءَةِ مِنْ آلِهَتِنَا، وَالنَّهْيِ عَنْ عِبَادَتِنَا لَنَرْجُمَنَّكُمْ، قِيلَ: عُنِيَ بِذَلِكَ لَنَرْجُمَنَّكُمْ بِالْحِجَارَةِ
(19/416)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا [ص:417] لَنَرْجُمَنَّكُمْ} [يس: 18] بِالْحِجَارَةِ {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس: 18] يَقُولُ: «وَلَيَنَالَنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ مُوجِعٌ»
(19/416)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 20] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَتِ الرُّسُلُ لِأَصْحَابِ الْقَرْيَةِ: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} [يس: 19] يَقُولُونَ: أَعْمَالُكُمْ وَأَرْزَاقُكُمْ وَحَظُّكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَعَكُمْ، ذَلِكَ كُلُّهُ فِي أَعْنَاقِكُمْ، وَمَا ذَلِكَ مِنْ شُؤْمِنَا إِنْ أَصَابَكُمْ سُوءٌ فِيمَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ، وَسُبِقَ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(19/417)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس: 19] «أَيْ أَعْمَالُكُمْ مَعَكُمْ»
(19/417)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فِيمَا بَلَغَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ كَعْبٍ، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَتْ لَهُمُ الرُّسُلُ: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس: 19] «أَيْ أَعْمَالُكُمْ مَعَكُمْ»
(19/417)
 
 
وَقَوْلُهُ: {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} [يس: 19] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ
(19/417)
 
 
الْأَمْصَارِ {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} [يس: 19] بِكَسْرِ الْأَلْفِ مِنْ إِنْ وَفَتْحِ أَلَفِ الِاسْتِفْهَامِ: بِمَعْنَى إِنْ ذَكَّرْنَاكُمْ فَمَعَكُمْ طَائِرُكُمْ، ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَى إِنْ الَّتِي هِيَ حَرْفُ جَزَاءٍ أَلِفَ اسْتِفْهَامٍ فِي قَوْلِ بَعْضِ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ، وَفِي قَوْلِ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ مَنْوِيٌّ بِهِ التَّكْرِيرُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ إِنْ ذُكِّرْتُمْ فَمَعَكُمْ طَائِرُكُمْ، فَحَذَفَ الْجَوَابَ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أَنْكَرَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، لِأَنَّ أَلِفَ الِاسْتِفْهَامِ قَدْ حَالَتْ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَبَيْنَ الشَّرْطِ، فَلَا تَكُونُ شَرْطًا لِمَا قَبْلَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ وَذُكِرَ عَنْ أَبِي رَزِينٍ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ: {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} [يس: 19] بِمَعْنَى: أَلِأَنْ ذُكِّرْتُمْ طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ؟ وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِ قَارِئِيهِ أَنَّهُ قَرَأَهُ: قَالُوا: «طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَيْنَ ذُكِرْتُمْ» بِمَعْنَى: حَيْثُ ذُكِرْتُمْ بِتَخْفِيفِ الْكَافِ مِنْ ذُكِّرْتُمْ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا نُجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِهَا الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، وَهِيَ دُخُولُ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى حَرْفِ الْجَزَاءِ، وَتَشْدِيدِ الْكَافِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ قَارِئِيهِ كَذَلِكَ، لِإِجْمَاعِ الْجُحَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(19/418)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {أَئِنْ ذَكَرْتُمْ} [يس: 19] «[ص:419] أَيْ إِنْ ذَكَّرْنَاكُمُ اللَّهَ تَطَيَّرْتُمْ بِنَا؟» {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 81]
(19/418)
 
 
وَقَوْلُهُ: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 81] يَقُولُ: قَالُوا لَهُمْ: مَا بِكُمُ التَّطَيُّرُ بِنَا، وَلَكِنَّكُمْ قَوْمٌ أَهْلُ مَعَاصٍ لِلَّهِ وَآثَامٍ، قَدْ غَلَبَتْ عَلَيْكُمُ الذُّنُوبُ وَالْآثَامُ
(19/419)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20] يَقُولُ: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى مَدِينَةِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أُرْسِلَتْ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الرُّسُلُ رَجُلٌ يَسْعَى إِلَيْهِمْ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ هَذِهِ عَزَمُوا، وَاجْتَمَعَتْ آرَاؤُهُمْ عَلَى قَتْلِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ فِيمَا ذُكِرَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ هَذَا الرَّجُلَ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مُؤْمِنًا، وَكَانَ اسْمُهُ فِيمَا ذُكِرَ حَبِيبُ بْنُ مُرِّيٍّ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ
(19/419)
 
 
ذِكْرُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، قَالَ: «كَانَ صَاحِبُ يَس حَبِيبَ بْنَ مُرِّيٍّ»
(19/419)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: كَانَ مِنْ حَدِيثِ صَاحِبِ يَس فِيمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا بَلَغَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ " أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ أَنْطَاكِيَّةَ، وَكَانَ اسْمُهُ حَبِيبًا، وَكَانَ يَعْمَلُ الْجَرِيرَ، وَكَانَ رَجُلًا سَقِيمًا، قَدْ أَسْرَعَ فِيهِ الْجُذَامُ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ [ص:420] عِنْدَ بَابٍ مِنْ أَبْوَبِ الْمَدِينَةِ قَاصِيًا، وَكَانَ مُؤْمِنًا ذَا صَدَقَةٍ، يَجْمَعُ كَسْبَهُ إِذَا أَمْسَى فِيمَا يَذْكُرُونَ، فَيَقْسِمُهُ نِصْفَيْنٍ، فَيُطْعِمُ نِصْفًا عِيَالَهُ، وَيَتَصَدَّقُ بِنِصْفٍ، فَلَمْ يُهِمَّهُ سَقَمُهُ وَلَا عَمَلُهُ وَلَا ضَعْفُهُ، عَنْ عَمَلِ رَبِّهِ، قَالَ: فَلَمَّا أَجْمَعَ قَوْمُهُ عَلَى قَتْلِ الرُّسُلِ، بَلَغَ ذَلِكَ حَبِيبًا وَهُوَ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ الْأَقْصَى، فَجَاءَ يَسْعَى إِلَيْهِمْ يُذَكِّرُهُمْ بِاللَّهِ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20] "
(19/419)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَمَّرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، قَالَ: ذُكِرَ لَهُ حَبِيبُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَخُو بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ الَّذِي كَانَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ قَطَعَهُ بِالْيَمَامَةِ حِينَ جَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ لَهُ: لَا أَسْمَعُ، فَيَقُولُ مُسَيْلِمَةُ: أَتَسْمَعُ هَذَا، وَلَا تَسْمَعُ هَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَجَعَلَ يَقْطَعُهُ عُضْوًا عُضْوًا، كُلَّمَا سَأَلَهُ لَمْ يَزِدْهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ فِي يَدَيْهِ. قَالَ كَعْبٌ حِينَ قِيلَ لَهُ: اسْمُهُ حَبِيبٌ: «وَكَانَ وَاللَّهِ صَاحِبُ يَس اسْمَهُ حَبِيبٌ»
(19/420)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ أَبِي الْقَاسِمِ، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «كَانَ اسْمُ صَاحِبِ يَس حَبِيبًا، وَكَانَ الْجُذَامُ قَدْ أَسْرَعَ فِيهِ»
(19/420)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20] قَالَ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّ اسْمَهُ حَبِيبٌ، وَكَانَ فِي غَارٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ أَقْبَلَ إِلَيْهِمْ»
(19/421)
 
 
وَقَوْلُهُ: {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ لِقَوْمِهِ: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ إِلَيْكُمْ، وَاقْبَلُوا مِنْهُمْ مَا أَتَوْكُمْ بِهِ وَذُكِرَ أَنَّهُ لَمَّا أَتَى الرُّسُلَ سَأَلَهُمْ: هَلْ تَطْلُبُونَ عَلَى مَا جِئْتُمْ بِهِ أَجْرًا؟ فَقَالَتِ الرُّسُلُ: لَا، فَقَالَ لِقَوْمِهِ حِينَئِذٍ: اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ عَلَى نَصِيحَتِهِمْ لَكُمْ أَجْرًا
(19/421)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: " لَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ، يَعْنِي إِلَى الرُّسُلِ، قَالَ: هَلْ تُسْأَلُونَ عَلَى هَذَا مِنْ أَجْرٍ؟ قَالُوا: لَا، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21]
(19/421)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فِيمَا بَلَغَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21] «أَيْ لَا يَسْأَلُونَكُمْ أَمْوَالَكُمْ عَلَى مَا جَاءُوكُمْ بِهِ مِنَ الْهُدَى، وَهُمْ لَكُمْ نَاصِحُونَ، فَاتَّبِعُوهُمْ تَهْتَدُوا بِهُدَاهُمْ»
(19/421)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] يَقُولُ: وَهُمْ عَلَى اسْتِقَامَةٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، فَاهْتَدُوا أَيُّهَا الْقَوْمُ بِهُدَاهُمْ
(19/422)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَالِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ هَذَا الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ {وَمَالِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} أَيْ وَأَيُّ شَيْءٍ لِيَ لَا أَعْبُدُ الرَّبَّ الَّذِي خَلَقَنِي {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] يَقُولُ: وَإِلَيْهِ تَصِيرُونَ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ وَتُرَدُّونَ جَمِيعًا، وَهَذَا حِينَ أَبْدَى لِقَوْمِهِ إِيمَانَهُ بِاللَّهِ وَتَوْحِيدَهُ
(19/422)
 
 
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فِيمَا بَلَغَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: «نَادَاهُمْ، يَعْنِي نَادَى قَوْمَهُ بِخِلَافِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَظْهَرَ لَهُمْ دِينَهُ وَعِبَادَةَ رَبِّهِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ نَفْعَهُ وَلَا ضُرَّهُ غَيْرُهُ» فَقَالَ: {وَمَالِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تَرْجِعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} «ثُمَّ عَابَهَا» فَقَالَ: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} [يس: 23] «وَشِدَّةٍ» {لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} [يس: 23]
(19/422)
 
 
وَقَوْلُهُ: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [يس: 23] يَقُولُ: أَأَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً، يَعْنِي مَعْبُودًا سِوَاهُ {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} [يس: 23] يَقُولُ: إِذَا مَسَّنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ وَشِدَّةٍ {لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} [يس: 23] يَقُولُ: لَا تُغْنِي عَنِّي شَيْئًا بِكَوْنِهَا إِلَيَّ شُفَعَاءَ، [ص:423] وَلَا تَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ الضُّرِّ عَنِّي {وَلَا يُنْقِذُونَ} [يس: 23] يَقُولُ: وَلَا يُخَلِّصُونِي مِنْ ذَلِكَ الضُّرِّ إِذَا مَسَّنِي
(19/422)
 
 
وَقَوْلُهُ: {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 24] يَقُولُ: {إِنِّي} [البقرة: 30] إِنِ اتَّخَذْتُ مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً هَذِهِ صِفَتُهَا {إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 24] لِمَنْ تَأَمَّلَهُ، جَوْرَهُ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ
(19/423)
 
 
وَقَوْلُهُ: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 25] فَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَالَ هَذَا الْقَوْلَ هَذَا الْمُؤْمِنُ لِقَوْمِهِ يُعْلِمُهُمْ إِيمَانَهُ بِاللَّهِ
(19/423)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فِيمَا بَلَغَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ كَعْبٍ، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 25] «إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمُ الَّذِي كَفَرْتُمْ بِهِ، فَاسْمَعُوا قُولِي» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ خَاطَبَ بِذَلِكَ الرُّسُلَ، وَقَالَ لَهُمُ: اسْمَعُوا قُولِي لِتَشْهَدُوا لِي بِمَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدَ رَبِّي، وَأَنِّي قَدْ آمَنْتُ بِكُمْ وَاتَّبَعْتُكُمْ؛ فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَنَصَحَ لِقَوْمِهِ النَّصِيحَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَثَبُوا بِهِ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي صِفَةِ قَتْلِهِمْ إِيَّاهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ
(19/423)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمَالِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} " هَذَا رَجُلٌ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللَّهِ، وَأَبْدَى لَهُمُ النَّصِيحَةَ فَقَتَلُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجِمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي، [ص:424] اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي، اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي، حَتَّى أَقْعَصُوهُ وَهُوَ كَذَلِكَ " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ وَثَبُوا عَلَيْهِ، فَوَطَئُوهُ بِأَقْدَامِهِمْ حَتَّى مَاتَ
(19/423)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فِيمَا بَلَغَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ كَعْبٍ، وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ لَهُمْ: {وَمَالِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} . . إِلَى قَوْلِهِ: {فَاسْمَعُونِ} [يس: 25] «وَثَبُوا وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَقَتَلُوهُ وَاسْتَضْعَفُوهُ لِضَعْفِهِ وَسَقَمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَدْفَعُ عَنْهُ»
(19/424)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: «وَطِئُوهُ بِأَرْجُلِهِمْ حَتَّى خَرَجَ قُصْبُهُ مِنْ دُبُرِهِ»
(19/424)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قِيلَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 27] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ اللَّهُ لَهُ إِذْ قَتَلُوهُ كَذَلِكَ فَلَقِيَهُ: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس: 26] فَلَمَّا دَخَلَهَا وَعَايَنَ مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ لِإِيمَانِهِ وَصَبْرِهِ فِيهِ {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} [يس: 26] يَقُولُ: يَا لَيْتَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي [ص:425] مِنْ أَجَلِهِ غَفَرَ لِي رَبِّي ذُنُوبِي، وَجَعَلَنِي مِنَ الَّذِينَ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِإِدْخَالِهِ إِيَّاهُ جَنَّتَهُ، كَانَ إِيمَانِي بِاللَّهِ وَصَبْرِي فِيهِ، حَتَّى قُتِلْتُ، فَيُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَيَسْتَوْجِبُوا الْجَنَّةَ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(19/424)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضٍ أَصْحَابِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: " قَالَ اللَّهُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَدَخَلَهَا حَيًّا يُرْزَقُ فِيهَا، قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ سَقَمَ الدُّنْيَا وَحُزْنَهَا وَنَصَبَهَا، فَلَمَّا أُفْضِيَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَجَنَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ " {قَالَ: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 27]
(19/425)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس: 26] «فَلَمَّا دَخَلَهَا» {قَالَ: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 27] قَالَ: «فَلَا تَلْقَى الْمُؤْمِنَ إِلَّا نَاصِحًا، وَلَا تَلْقَاهُ غَاشًّا، فَلَمَّا عَايَنَ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ» {قَالَ: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26] «تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ أَنْ يَعْلَمَ قَوْمُهُ مَا عَايَنَ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ»
(19/425)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {قِيلَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس: 26] قَالَ: " قِيلَ: قَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ؛ قَالَ ذَاكَ حِينَ رَأَى الثَّوَابَ "
(19/425)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس: 26] قَالَ: «وَجَبَتْ لَكَ الْجَنَّةُ»
(19/426)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس: 26] قَالَ: «وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ»
(19/426)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، فِي قَوْلِهِ: {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} [يس: 27] قَالَ: «إِيمَانِي بِرَبِّي، وَتَصْدِيقِي رُسُلَهُ» وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(19/426)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِ هَذَا الْمُؤْمِنِ الَّذِي قَتَلَهُ قَوْمُهُ لِدُعَائِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَنَصِيحَتِهِ لَهُمْ {مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة: 51] يَعْنِي: مِنْ بَعْدِ مَهْلَكِهِ {مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} [يس: 28] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْجُنْدِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَمْ يُنْزِلْ إِلَى قَوْمِ هَذَا الْمُؤْمِنِ بَعْدَ قَتْلِهِمُوهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ رِسَالَةً، وَلَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا
(19/426)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي [ص:427] الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} [يس: 28] قَالَ: «رِسَالَةٍ» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ
(19/426)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} [يس: 28] قَالَ: " فَلَا وَاللَّهِ مَا عَاتَبَ اللَّهُ قَوْمَهُ بَعْدَ قَتْلِهِ {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29] وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمْ يَبْعَثْ لَهُمْ جُنُودًا يُقَاتِلُهُمْ بِهَا، وَلَكِنَّهُ أَهْلَكَهُمْ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ
(19/427)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: «غَضِبَ اللَّهُ لَهُ، يَعْنِي لِهَذَا الْمُؤْمِنِ، لِاسْتِضْعَافِهِمْ إِيَّاهُ غَضْبَةً لَمْ تُبْقِ مِنَ الْقَوْمِ شَيْئًا، فَعَجَّلَ لَهُمُ النِّقْمَةَ بِمَا اسْتَحَلُّوا مِنْهُ» وَقَالَ: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزَلِينَ} [يس: 28] يَقُولُ: " مَا كَاثَرْنَاهُمْ بِالْجُمُوعِ: أَيِ الْأَمْرُ أَيْسَرُ عَلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ " {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29] " فَأَهْلَكَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَلِكَ وَأَهْلَ
(19/427)
 
 
أَنْطَاكِيَّةَ، فَبَادُوا عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، فَلَمْ تَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَةٌ " وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّسَالَةَ لَا يُقَالُ لَهَا جُنْدٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مُجَاهِدٌ بِذَلِكَ الرُّسُلَ، فَيَكُونُ وَجْهًا، وَإِنْ كَانَ أَيْضًا مِنَ الْمَفْهُومِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ بَعِيدًا، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ مِنْ بَنِي آدَمَ لَا يَنْزِلُونَ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْخَبَرُ فِي ظَاهَرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ أَنَّهُ لَمْ يُنْزِلْ مِنَ السَّمَاءِ بَعْدَ مَهْلَكِ هَذَا الْمُؤْمِنِ عَلَى قَوْمِهِ جُنْدًا وَذَلِكَ بِالْمَلَائِكَةِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِبَنِي آدَمَ
(19/428)
 
 
وَقَوْلُهُ: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29] يَقُولُ: مَا كَانَتْ هَلَكَتُهُمْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً أَنْزَلَهَا اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 29] نَصْبًا عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْتُ، وَأَنَّ فِي كَانَتْ مُضْمَرًا وَذُكِرَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ أَنَّهُ قَرَأَهُ: (إِلَّا صَيْحَةٌ وَاحِدَةً) رَفْعًا عَلَى أَنَّهَا مَرْفُوعَةٌ بِكَانَ، وَلَا مُضْمَرَ فِي كَانَ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي النَّصْبُ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى أَنَّ فِيَ كَانَتْ مُضْمَرًا
(19/428)
 
 
وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29] يَقُولُ: فَإِذَا هُمْ هَالِكُونَ
(19/428)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهُمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [ص:429] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَا حَسْرَةً مِنَ الْعِبَادِ عَلَى أَنْفُسِهَا وَتَنَدُّمًا وَتَلَهُّفًا فِي اسْتِهْزَائِهِمْ بِرُسُلِ اللَّهِ {مَا يَأْتِيهُمْ مِنْ رَسُولٍ} [يس: 30] مِنَ اللَّهِ {إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ: «يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ عَلَى أَنْفُسِهَا» وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(19/428)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30] «أَيْ يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ عَلَى أَنْفُسِهَا عَلَى مَا ضَيَّعَتْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَفَرَّطَتْ فِي جَنْبِ اللَّهِ» قَالَ: وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ: «يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ عَلَى أَنْفُسِهَا»
(19/429)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30] قَالَ: «كَانَ حَسْرَةً عَلَيْهِمُ اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِالرُّسُلِ»
(19/429)
 
 
حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، [ص:430] قَوْلُهُ: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30] يَقُولُ: «يَا وَيْلًا لِلْعِبَادِ» وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ: مَعْنَى ذَلِكَ: يَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ
(19/429)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَلَمْ يَرَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ مِنْ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَنَا وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِنَا مِنَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} [يس: 31] يَقُولُ: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(19/430)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} [يس: 31] قَالَ: «عَادٌ وَثَمُودٌ، وَقُرُونٌ بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرٌ» وكَمْ مِنْ قَوْلِهِ: {كَمْ أَهْلَكْنَا} [يس: 31] فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ إِنْ شِئْتَ بِوُقُوعِ يَرَوْا عَلَيْهَا وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَلَمْ يَرَوْا مَنْ أَهْلَكْنَا» وَإِنْ شِئْتَ بِوُقُوعِ أَهْلَكْنَا عَلَيْهَا؛ وَأَمَّا أَنَّهُمْ فَإِنَّ الْأَلِفَ مِنْهَا فُتِحَتْ بِوُقُوعِ يَرَوْا عَلَيْهَا. وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَسَرَ الْأَلِفَ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ بِهَا، وَتَرَكَ إِعْمَالَ يَرَوْا فِيهَا
(19/430)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنَّ كُلَّ هَذِهِ الْقُرُونِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا وَالَّذِينَ لَمْ نُهْلِكْهُمْ وَغَيْرَهُمْ عِنْدَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَمِيعِهِمْ مُحْضَرُونَ
(19/431)
 
 
كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] «أَيْ هُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: (وَإِنْ كُلٌّ لَمَا) بِالتَّخْفِيفِ تَوْجِيهًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَا أُدْخِلَتْ عَلَيْهَا اللَّامُ الَّتِي تَدْخُلُ جَوَابًا لِإِنْ وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِنْ كُلٌّ لِجَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ: {لَمَّا} [يس: 32] بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَلِتَشْدِيدِهِمْ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عِنْدَهُمْ كَانَ مُرَادًا بِهِ: وَإِنْ كُلٌّ لَمِمَّا جَمِيعٌ، ثُمَّ حُذِفَتْ إِحْدَى الْمِيمَاتِ لَمَّا كَثُرَتْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
غَدَاةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ ... وَعُجْنَا صُدُورَ الْخَيْلِ نَحْوَ تَمِيمِ
وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا أَنْ تَكُونَ {لَمَّا} [يس: 32] بِمَعْنَى إِلَّا، مَعَ إِنْ خَاصَّةً فَتَكُونُ نَظِيرَةَ إِنَّمَا إِذَا وُضِعَتْ مَوْضِعَ إِلَّا وَقَدْ كَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَقُولُ: كَأَنَّهَا لَمْ ضُمَّتْ إِلَيْهَا مَا، فَصَارَتَا جَمِيعًا اسْتِثْنَاءً، وَخَرَجَتَا مِنْ حَدِّ الْجَحْدِ وَكَانَ
(19/431)
 
 
بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ وَجْهَ لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ
(19/432)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنِ الْعُيُونِ} [يس: 34] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَدِلَالَةٌ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَعَلَى إِحْيَائِهِ مَنْ مَاتَ مِنْ خَلْقِهِ وَإِعَادَتِهِ بَعْدَ فَنَائِهِ، كَهَيْئَتِهِ قَبْلَ مَمَاتِهِ إِحْيَاؤُهُ الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ، الَّتِي لَا نَبْتَ فِيهَا وَلَا زَرْعَ بِالْغَيْثِ الَّذِي يُنْزِلُهُ مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ زَرَعُهَا، ثُمَّ إِخْرَاجُهُ مِنْهَا الْحَبَّ الَّذِي هُوَ قُوتٌ لَهُمْ وَغِذَاءٌ، فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ
(19/432)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [يس: 34] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَجَعَلْنَا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي أَحْيَيْنَاهَا بَعْدَ مَوْتِهَا بَسَاتِينَ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} [يس: 34] يَقُولُ: وَأَنْبَعْنَا فِيهَا مِنْ عُيُونِ الْمَاءِ
(19/432)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 35] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَنْشَأْنَا هَذِهِ الْجَنَّاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ لِيَأْكُلَ عِبَادِي مِنْ ثَمَرِهِ، وَمَا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ يَقُولُ: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِ
(19/432)
 
 
الْجَنَّاتِ الَّتِي أَنْشَأْنَا لَهُمْ، وَمَا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ مِمَّا غَرَسُوا هُمْ وَزَرَعُوا وَمَا الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس: 35] فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى الثَّمَرِ، بِمَعْنَى: وَمِنَ الَّذِي عَمِلَتْ؛ وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا ذُكِرَ: «وَمِمَّا عَمِلَتْهُ» بِالْهَاءِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ فَالْهَاءُ فِي قِرَاءَتِنَا مُضْمَرَةً، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُضْمِرُهَا أَحْيَانًا، وَتُظْهِرُهَا فِي صَلَاتِ: مِنْ، وَمَا، وَالَّذِي وَلَوْ قِيلَ: مَا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ كَانَ مَذْهَبًا، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَمِنْ عَمَلِ أَيْدِيهِمْ. وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى الْجَحْدِ وَلَا مَوْضِعَ لَهَا كَانَ أَيْضًا مَذْهَبًا، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَلَمْ تَعْمَلْهُ أَيْدِيهِمْ
(19/433)
 
 
وَقَوْلُهُ: {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 35] يَقُولُ: أَفَلَا يَشْكُرُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ رَزَقْنَاهُمْ هَذَا الرِّزْقَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ الَّتِي أَحْيَيْنَاهَا لَهُمْ مِنْ رِزْقِهِمْ ذَلِكَ وَأُنْعِمَ عَلَيْهِمْ بِهِ؟
(19/433)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس: 36] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ تَنْزِيهًا وَتَبْرِئَةً لِلَّذِي خَلَقَ الْأَلْوَانَ الْمُخْتَلِفَةَ كُلَّهَا مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ، يَقُولُ: وَخَلَقَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ أَيْضًا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يُطْلِعْهُمْ عَلَيْهَا، خَلَقَ كَذَلِكَ أَزْوَاجًا مِمَّا يُضِيفُ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، وَيَصِفُونَهُ بِهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
(19/433)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَدَلِيلٌ لَهُمْ أَيْضًا عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى فِعْلِ كُلِّ مَا شَاءَ {اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37] يَقُولُ: نَنْزِعُ عَنْهُ النَّهَارَ وَمَعْنَى مِنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: عَنْهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: نَسْلَخُ عَنْهُ النَّهَارَ، فَنَأْتِي بِالظُّلْمَةِ وَنَذْهَبُ بِالنَّهَارِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175] أَيْ خَرَجَ مِنْهَا وَتَرَكَهَا، فَكَذَلِكَ انْسِلَاخُ اللَّيْلِ مِنَ النَّهَارِ وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37] يَقُولُ: فَإِذَا هُمْ قَدْ صَارُوا فِي ظُلْمَةٍ بِمَجِيءِ اللَّيْلِ
(19/434)
 
 
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37] قَالَ: «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ، وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ» وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي مِنْ مَعْنَى سَلْخِ النَّهَارِ مِنَ اللَّيْلِ بَعِيدٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ إِيلَاجَ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ إِنَّمَا هُوَ زِيَادَةُ مَا نَقَصَ مِنْ سَاعَاتِ هَذَا فِي سَاعَاتِ الْآخَرِ، وَلَيْسَ السَّلْخُ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ، لِأَنَّ النَّهَارَ يُسْلَخُ مِنَ اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَكَذَلِكَ اللَّيْلُ مِنَ النَّهَارِ كُلِّهِ، وَلَيْسَ يُولِجُ كُلَّ اللَّيْلِ فِي كُلِّ النَّهَارِ، وَلَا كُلَّ النَّهَارِ فِي كُلِّ اللَّيْلِ
(19/434)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمَوْضِعِ قَرَارِهَا، بِمَعْنَى: إِلَى مَوْضِعِ قَرَارِهَا؛ وَبِذَلِكَ جَاءَ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(19/434)
 
 
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، قَالَ: ثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ الشَّمْسُ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْجُدُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهَا، ثُمَّ تَسْتَأْذِنُ بِالرُّجُوعِ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَكَانِهَا، وَذَلِكَ مُسْتَقَرُّهَا»
(19/435)
 
 
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] قَالَ: «وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا تَعْدُوهُ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: تَجْرِي لِمَجْرًى لَهَا إِلَى مَقَادِيرِ مَوَاضِعِهَا، بِمَعْنَى: أَنَّهَا تَجْرِي إِلَى أَبْعَدِ مَنَازِلِهَا فِي الْغُرُوبِ، ثُمَّ تَرْجِعُ وَلَا تُجَاوِزُهُ. قَالُوا: وَذَلِكَ أَنَّهَا لَا تَزَالُ تَتَقَدَّمُ كُلَّ لَيْلَةٍ حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى أَبْعَدِ مَغَارِبِهَا ثُمَّ تَرْجِعُ
(19/435)
 
 
وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96] يَقُولُ: هَذَا الَّذِي وَصَفْنَا مِنْ جَرْيِ الشَّمْسِ لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ فِي انْتِقَامِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، الْعَلِيمِ بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ
(19/435)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ
(19/435)
 
 
الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39] فَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَبَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: (وَالْقَمَرُ) رَفْعًا عَطْفًا بِهَا عَلَى الشَّمْسِ، إِذْ كَانَتِ الشَّمْسُ مَعْطُوفَةً عَلَى اللَّيْلِ، فَأَتْبَعُوا الْقَمَرَ أَيْضًا الشَّمْسَ فِي الْإِعْرَابِ، لِأَنَّهُ أَيْضًا مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ آيَتَانِ، فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْقَمَرُ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَبَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ، وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ نَصْبًا: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ} [يس: 39] بِمَعْنَى: وَقَدَّرْنَا الْقَمَرَ مَنَازِلَ، كَمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ بِالشَّمْسِ، فَرَدُّوهُ عَلَى الْهَاءِ مِنَ الشَّمْسِ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْوَاوَ الَّتِي فِيهَا لِلْفِعْلِ الْمُتَأَخِّرِ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ صَحِيحَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَآيَةٌ لَهُمْ تَقْدِيرُنَا الْقَمَرَ مَنَازِلَ لِلنُّقْصَانِ بَعْدَ تَنَاهِيهِ وَتَمَامِهِ وَاسْتِوَائِهِ، حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ؛ وَالْعُرْجُونُ: مِنَ الْعِذْقِ مِنَ الْمَوْضِعِ النَّابِتِ فِي النَّخْلَةِ إِلَى مَوْضِعِ الْشَمَارِيخِ؛ وَإِنَّمَا شَبَّهَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ وَالْقَدِيمُ هُوَ الْيَابِسُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْعِذْقِ، لَا يَكَادُ يُوجَدُ إِلَّا مُتَقَوِّسًا مُنْحَنِيًا إِذَا قَدِمَ وَيَبِسَ، وَلَا يَكَادُ أَنْ يُصَابَ مُسْتَوِيًا مُعْتَدِلًا، كَأَغْصَانِ سَائِرِ الْأَشْجَارِ وَفُرُوعِهَا، فَكَذَلِكَ الْقَمَرُ إِذَا كَانَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ قَبْلَ
(19/436)
 
 
اسْتِسْرَارِهِ، صَارَ فِي انْحِنَائِهِ وَتَقَوُّسِهِ نَظِيرَ ذَلِكَ الْعُرْجُونِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(19/437)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] يَقُولُ: «أَصْلُ الْعِذْقِ الْعَتِيقِ»
(19/437)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] " يَعْنِي بِالْعُرْجُونِ: الْعِذْقَ الْيَابِسَ "
(19/437)
 
 
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {وَالْقَمَرُ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] قَالَ: «كَعِذْقِ النَّخْلَةِ إِذَا قَدُمَ فَانْحَنَى»
(19/437)
 
 
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو يَزِيدَ الْخَرَّازُ يَعْنِي خَالِدَ بْنَ حَيَّانَ الرَّقِّيَّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] قَالَ: «عِذْقُ النَّخْلَةِ إِذَا قَدُمَ انْحَنَى»
(19/437)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] قَالَ: «النَّخْلَةُ الْقَدِيمَةُ»
(19/437)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا [ص:438] إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ مُجَاهِدٍ {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] قَالَ: «الْعِذْقُ الْيَابِسُ»
(19/437)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقَدَّمِيُّ، وَابْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ قَالَا: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، وَالْمُقَدَّمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيَّ، فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] قَالَ: الْعِذْقُ "
(19/438)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] قَالَ: «قَدَّرَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ، فَجَعَلَ يَنْقُصُ حَتَّى كَانَ مِثْلَ عِذْقِ النَّخْلَةِ، شَبَّهَّهُ بِعِذْقٍ النَّخْلَةِ»
(19/438)
 
 
وَقَوْلُهُ: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَا الشَّمْسُ يَصْلُحُ لَهَا إِدْرَاكَ الْقَمَرِ، فَيَذْهَبُ ضَوْءُهَا بِضَوْئِهِ، فَتَكُونُ الْأَوْقَاتُ كُلُّهَا نَهَارًا لَا لَيْلَ فِيهَا {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا اللَّيْلُ بِفَائِتِ النَّهَارَ حَتَّى تَذْهَبَ ظُلْمَتُهُ بِضِيَائِهِ، فَتَكُونُ الْأَوْقَاتُ كُلُّهَا لَيْلًا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي أَلْفَاظِهِمْ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ مَعَانِيَ عَامَّتِهِمُ الَّذِي قُلْنَاهُ
(19/438)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، [ص:439] عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40] قَالَ: «لَا يُشْبِهُ ضَوْءُهَا ضَوْءَ الْآخَرِ، لَا يَنْبَغِي لَهَا ذَلِكَ»
(19/438)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40] قَالَ: «لَا يُشْبِهُ ضَوْءُ أَحَدِهِمَا ضَوْءَ الْآخَرِ، وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لَهُمَا» وَفِي قَوْلِهِ: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] قَالَ: يَتَطَالَبَانِ حَثِيثَيْنِ، يَنْسَلِخَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ
(19/439)
 
 
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] قَالَ: «لَا يُدْرِكُ هَذَا ضَوْءَ هَذَا وَلَا هَذَا ضَوْءَ هَذَا»
(19/439)
 
 
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40] " وَهَذَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ وضُوءِ الشَّمْسِ، إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ لَمْ يَكُنْ لِلْقَمَرِ ضَوْءٌ، وَإِذَا طَلَعَ الْقَمَرُ بِضَوْئِهِ لَمْ يَكُنْ لِلشَّمْسِ ضَوْءٌ {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] قَالَ: فِي قَضَاءِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ أَنْ لَا يُفَوِّتَ اللَّيْلُ النَّهَارَ حَتَّى يُدْرِكَهُ، فَيُذْهِبُ ظُلْمَتَهُ، وَفِي قَضَاءِ اللَّهِ أَنْ لَا يُفَوِّتَ النَّهَارُ اللَّيْلَ حَتَّى يُدْرِكَهُ، فَيَذْهَبُ بِضَوْئِهِ "
(19/440)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] «وَلِكُلٍّ حَدٌّ وَعَلِمٌ لَا يَعْدُوهُ، وَلَا يَقْصُرُ دُونَهُ؛ إِذَا جَاءَ سُلْطَانُ هَذَا، ذَهَبَ سُلْطَانُ هَذَا، وَإِذَا جَاءَ سُلْطَانُ هَذَا ذَهَبَ سُلْطَانُ هَذَا»
(19/440)
 
 
وَرُوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] يَقُولُ: «إِذَا اجْتَمَعَا فِي السَّمَاءِ كَانَ أَحَدُهُمَا بَيْنَ يَدَيِ الْآخَرِ، فَإِذَا غَابَا غَابَ أَحَدُهُمَا بَيْنَ يَدَيِ الْآخَرِ» وَأَنْ مِنْ قَوْلِهِ: {أَنْ تُدْرِكَ} [يس: 40] فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِقَوْلِهِ: يَنْبَغِي
(19/440)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] يَقُولُ: وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي فَلَكٍ يَجْرُونَ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(19/440)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو النُّعْمَانِ الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {[ص:441] وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] قَالَ: «فِي فَلَكٍ كَفَلَكِ الْمِغْزَلِ» حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، قَالَ: ثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ
(19/440)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: " مَجْرَى كُلّ