تفسير الطبري جامع البيان ط هجر 014

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: تفسير الطبري = جامع البيان عن تأويل آي القرآن
المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)
 
مَا حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج: 78] قَالَ: «هُوَ هَدَاكُمْ»
(16/640)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ رَبُّكُمْ فِي الدِّينِ الَّذِي تَعَبَّدَكُمْ بِهِ مِنْ ضِيقٍ، لَا مَخْرَجَ لَكُمْ مِمَّا ابْتُلِيتُمْ بِهِ فِيهِ؛ بَلْ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ، فَجَعَلَ التَّوْبَةَ مِنْ بَعْضٍ مَخْرَجًا، وَالْكَفَّارَةَ مِنْ بَعْضٍ، وَالْقِصَاصَ مِنْ بَعْضٍ، فَلَا ذَنْبَ يُذْنِبُ الْمُؤْمِنُ إِلَّا وَلَهُ مِنْهُ فِي دَيْنِ الْإِسْلَامِ مَخْرَجٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(16/640)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي [ص:641] ابْنُ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: " سَأَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْحَرَجُ: الضِّيقُ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْكَفَّارَاتِ مَخْرَجًا مِنْ ذَلِكَ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ ذَلِكَ "
(16/640)
 
 
قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثني سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يُسْأَلُ عَنْ: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] قَالَ: " مَا هَا هُنَا مِنْ هُذَيْلٍ أحَدٌ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ قَالَ: مَا تَعُدُّونَ الْحَرَجَةَ فِيكُمْ؟ قَالَ: الشَّيْءُ الضَّيِّقُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَهُوَ كَذَلِكَ "
(16/641)
 
 
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " أَهَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ هُذَيْلٍ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، فَقَالَ أَيْضًا: مَا تَعُدُّونَ الْحَرَجَ؟ وَسَائِرُ الْحَدِيثِ مِثْلُهُ
(16/641)
 
 
حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْكَلَاعِيُّ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يُحَدِّثُ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ [ص:642] حَرَجٍ} [الحج: 78] قَالَ: «هُوَ الضِّيقُ»
(16/641)
 
 
حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: ثنا أَبُو خَلْدَةَ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو الْعَالِيَةِ: " أَتَدْرِي مَا الْحَرَجُ؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي. قَالَ: الضِّيقُ. وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] "
(16/642)
 
 
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] قَالَ: «مِنْ ضِيقٍ»
(16/642)
 
 
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ بُنْدُقٍ قَالَ: ثنا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي خَلْدَةَ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو الْعَالِيَةِ: " هَلْ تَدْرِي مَا الْحَرَجُ؟ قُلْتُ لَا , قَالَ: الضِّيقُ، إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُضَيِّقْ عَلَيْكُمْ، لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ "
(16/642)
 
 
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] قَالَ: " تَدْرُونَ مَا الْحَرَجُ؟ قَالَ: الضِّيقُ "
(16/642)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " إِذَا تَعَاجَمَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ، فَانْظُرُوا فِي الشِّعْرِ، فَإِنَّ الشِّعْرَ عَرَبِيُّ. ثُمَّ دَعَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْرَابِيًّا، فَقَالَ: مَا الْحَرَجُ؟ قَالَ: الضِّيقُ. قَالَ: صَدَقْتَ "
(16/642)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] قَالَ: «مِنْ ضِيقٍ» [ص:643] حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] مِنْ ضِيقٍ فِي أَوْقَاتِ فُرُوضِكُمْ إِذَا التَبَسَتْ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّهُ قَدْ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَيَقَّنُوا مَحِلَّهَا
(16/642)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ بَشَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] قَالَ: " هَذَا فِي هِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ إِذَا شَكَّ فِيهِ النَّاسُ، وَفِي الْحَجِّ إِذَا شَكُّوا فِي الْهِلَالِ، وَفِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إِذَا الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ، وَأَشْبَاهِهِ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: مَا جَعَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ ضِيقٍ، بَلْ وَسَّعَهُ
(16/643)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] يَقُولُ: " مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ ضِيقٍ، هُوَ وَاسِعٌ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ: {فَمَنْ يُرِدِ [ص:644] اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] يَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضِلَّهُ يُضَيِّقْ عَلَيْهِ صَدْرَهُ، حَتَّى يَجْعَلَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ ضَيِّقًا، وَالْإِسْلَامُ وَاسِعٌ "
(16/643)
 
 
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {" وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] يَقُولُ: مِنْ ضِيقٍ، يَقُولُ: جَعَلَ الدِّينَ وَاسِعًا , وَلَمْ يَجْعَلْهُ ضَيِّقًا "
(16/644)
 
 
وَقَوْلُهُ: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] نَصَبَ مِلَّةَ بِمَعْنَى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، بَلْ وَسَّعَهُ، كَمِلَّةِ أَبِيكُمْ , فَلَمَّا لَمْ يَجْعَلْ فِيهَا الْكَافَ اتَّصَلَتْ بِالْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا فَنُصِبَتْ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ نَصْبُهَا , أَنْ تَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ بِهَا، لِأَنَّ الْكَلَامَ قَبْلَهُ أَمْرٌ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَالْزَمُوا مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ
(16/644)
 
 
وَقَوْلُهُ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج: 78] . يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: سَمَّاكُمْ يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(16/644)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] يَقُولُ: «اللَّهُ سَمَّاكُمْ»
(16/644)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «اللَّهُ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ»
(16/645)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ جَمِيعًا عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] قَالَ: «اللَّهُ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ»
(16/645)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] قَالَ: «اللَّهُ سَمَّاكُمْ» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
(16/645)
 
 
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] يَقُولُ: «اللَّهُ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعَنَاهُ: إِبْرَاهِيمُ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ؛ وَقَالُوا هُوَ كِنَايَةٌ مِنْ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(16/645)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] قَالَ: " أَلَا تَرَى قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مَسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] قَالَ: هَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ؛ {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، ذُكِرَتْ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ جَمِيعًا، وَلَمْ نَسْمَعْ بِأُمَّةٍ ذُكِرَتْ إِلَّا بِالْإِيمَانِ " وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يُسَمِّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مُسْلِمِينَ فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِهِ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج: 78] وَلَكِنَّ الَّذِي سَمَّانَا مُسْلِمَينَ مِنْ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ , وَفِي الْقُرْآنِ , اللَّهُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: مِنْ قَبْلِ نُزُولِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي الْكُتُبِ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَهُ. {وَفِي هَذَا} [الحج: 78] يَقُولُ: وَفِي هَذَا الْكِتَابِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(16/646)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ. ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، [ص:647] قَوْلُهُ: " {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] وَفِي هَذَا "
(16/646)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ مُجَاهِدٌ: " {مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] قَالَ: فِي الْكُتُبِ كُلِّهَا. وَالذِّكْرُ {وَفِي هَذَا} [الحج: 78] يَعْنِي الْقُرْآنَ "
(16/647)
 
 
وَقَوْلُهُ: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: اجْتَبَاكُمُ اللَّهُ وَسَمَّاكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ، مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمَينَ، لِيَكُونَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنَّهُ قَدْ بَلَّغَكُمْ مَا أُرْسِلَ بِهِ إِلَيْكُمْ، وَتَكُونُوا أَنْتُمْ شُهَدَاءَ حِينَئِذٍ عَلَى الرُّسُلِ أَجْمَعِينَ أَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوا أُمَمَهُمْ مَا أَرْسِلُوا بِهِ إِلَيْهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(16/647)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] قَالَ: " اللَّهُ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ. {وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} [الحج: 78] بِأَنَّهُ بَلَّغَكُمْ. {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] أَنَّ رُسُلَهُمْ قَدْ بَلَّغَتْهُمْ "
(16/647)
 
 
وَبِهِ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: " أُعْطَيَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ مَا لَمْ يُعْطَهُ إِلَّا نَبِيُّ، كَانَ يُقَالُ لِلنَّبِيِّ: [ص:648] اذْهَبْ فَلَيْسَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَقَالَ اللَّهُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وَكَانَ يُقَالُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ شَهِيدٌ عَلَى قَوْمِكَ وَقَالَ اللَّهُ {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وَكَانَ يُقَالُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَلْ تُعْطَهْ وَقَالَ اللَّهُ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] "
(16/647)
 
 
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: " أُعْطِيَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ ثَلَاثًا لَمْ يُعْطِهَا إِلَّا نَبِيُّ، كَانَ يُقَالُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبْ فَلَيْسَ عَلَيْكَ حَرَجٌ فَقَالَ اللَّهُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] قَالَ: وَكَانَ يُقَالُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ شَهِيدٌ عَلَى قَوْمِكَ وَقَالَ اللَّهُ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وَكَانَ يُقَالُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَلْ تُعْطَهْ وَقَالَ اللَّهُ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] "
(16/648)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الحج: 78] يَقُولُ: فَأَدُّوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ بِحُدُودِهَا، وَآتُوا الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْكُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ. {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} [النساء: 146] يَقُولُ: وَثِقُوا بِاللَّهِ، وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ فِي أُمُورِكُمْ. {فَنِعْمَ الْمَوْلَى} [الحج: 78] يَقُولُ: فَنِعْمَ الْوَلِيُّ اللَّهُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُمْ، فَأَقَامَ الصَّلَاةَ , وَآتَى الزَّكَاةَ , وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ , وَاعْتَصَمَ بِهِ. يَقُولُ: وَنِعْمَ النَّاصِرُ هُوَ لَهُ عَلَى مَنْ بَغَاهُ بِسُوءٍ
(16/648)
 
 
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ مَكِّيَّةُُ وَآيَاتُهَا ثَمِانِيَ عَشْرَةَ وَمِائَةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(17/5)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 2] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] قَدْ أَدْرَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقَرُّوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَعَمِلُوا بِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِمَّا سُمِّيَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، الْخُلُودَ فِي جَنَّاتِ رَبِّهِمْ وَفَازُوا بِطِلَبَتِهِمْ لَدَيْهِ
(17/5)
 
 
كَمَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] قَالَ: قَالَ كَعْبٌ: " لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ بِيَدِهِ إِلَّا ثَلَاثَةً: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي فَقَالَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] لِمَا عَلِمَتْ فِيهَا مِنَ الْكَرَامَةِ "
(17/5)
 
 
حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ الضُّرَيْسِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: " لَمَّا غَرَسَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْجَنَّةَ، نَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] "
(17/6)
 
 
قَالَ: ثنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي خَلْدَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] فَأَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ قُرْآنًا "
(17/6)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا جُبَيْرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ، قَالَ: " لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ شَيْئًا بِيَدِهِ غَيْرَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ الْأَلْوَاحَ بِيَدِهِ، وَالتَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ عَدْنًا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] "
(17/6)
 
 
وَقَوْلُهُ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ إِذَا قَامُوا فِيهَا خَاشِعُونَ؛ وَخُشُوعُهُمْ فِيهَا تَذَلُّلُهُمْ لِلَّهِ فِيهَا بِطَاعَتِهِ، وَقِيَامُهُمْ فِيهَا بِمَا أَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ بِهِ فِيهَا. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ فِيهَا إِلَى السَّمَاءِ قَبْلَ نُزُولِهَا، فَنُهُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ ذَلِكَ
(17/6)
 
 
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدًا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] قَالَ: فَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَجْهَهُ حَيْثُ يَسْجُدُ "
(17/7)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا هَارُونُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ الصَّوَّافِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: " كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ فِي الصَّلَاةِ إِلَى السَّمَاءِ؛ حَتَّى نَزَلَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] فَقَالُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِرُءُوسِهِمْ هَكَذَا "
(17/7)
 
 
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كَانَ إِذَا صَلَّى رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَزَلَتْ آيَةٌ إِنْ لَمْ تَكُنْ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] فَلَا أَدْرِي أَيَّةُ آيَةِ هِيَ؟ قَالَ: فَطَأْطَأَ. قَالَ: وَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَا يُجَاوِزُ بَصَرُهُ مُصَلَّاهُ، فَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَعَادَ النَّظَرَ فَلْيُغْمِضْ " حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ نَحْوَهُ [ص:8] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِي عُنِيَ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الْخُشُوعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِ سُكُونُ الْأَطْرَافِ فِي الصَّلَاةِ
(17/7)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] قَالَ: «السُّكُونُ فِيهَا»
(17/8)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] قَالَ: سُكُونُ الْمَرْءِ فِي صَلَاتِهِ " حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، مِثْلَهُ
(17/8)
 
 
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: " سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] قَالَ: لَا تَلْتَفِتْ فِي صَلَاتِكَ "
(17/8)
 
 
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ يَحْيَى الرَّمْلِيُّ، قَالَ: قَالَ ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِي شَوْذَبٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: " {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] قَالَ: «كَانَ [ص:9] خُشُوعُهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ، فَغَضُّوا بِذَلِكَ الْبَصَرَ , وَخَفَضُوا بِهِ الْجَنَاحَ»
(17/8)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ: {خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] قَالَ: " الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ، وَقَالَ: سَاكِنُونَ "
(17/9)
 
 
قَالَ: ثنا الْحَسَنُ قَالَ: ثني خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ، وَأَنْ تُلِينَ لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ كَنَفَكَ، وَلَا تَلْتَفِتْ»
(17/9)
 
 
قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] قَالَ: «التَّخَشُّعُ فِي الصَّلَاةِ»
(17/9)
 
 
وَقَالَ لِي غَيْرُ عَطَاءٍ: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَوِجَاهِهِ، حَتَّى نَزَلَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] فَمَا رُؤِيَ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ إِلَّا إِلَى الْأَرْضِ " وَقَالَ آخَرُونَ: عُنِيَ بِهِ الْخَوْفُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
(17/9)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ: " {الَّذِينَ هُمْ [ص:10] فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] قَالَ: «خَائِفُونَ»
(17/9)
 
 
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] قَالَ الْحَسَنُ: خَائِفُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ "
(17/10)
 
 
حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: " {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] يَقُولُ: «خَائِفُونَ سَاكِنُونَ» وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ مِنْ كِتَابِنَا أَنَّ الْخُشُوعَ التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ , بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى دُونَ مَعْنًى فِي عَقْلٍ وَلَا خَبَرٍ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ مَعْنَى مُرَادِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومُ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ مَا وَصَفْتُ مِنْ قَبْلُ مِنْ أَنَّهُ: وَالَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ مُتَذَلِّلُونُ لِلَّهِ بِإِدَامَةِ مَا أَلْزَمُهُمْ مِنْ فَرْضِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَإِذَا تَذَلَّلَ لِلَّهِ فِيهَا الْعَبْدُ رُؤِيَتْ ذِلَّةُ خُضُوعِهِ فِي سُكُونِ أَطْرَافِهِ , وَشُغْلِهِ بِفَرْضِهِ , وَتَرْكِهِ مَا أُمِرَ بِتَرْكِهِ فِيهَا
(17/10)
 
 
وَقَوْلُهُ {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ الْبَاطِلِ وَمَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ مُعْرِضُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(17/10)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ، مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] يَقُولُ: الْبَاطِلُ "
(17/11)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ: " {عَنِ اللَّغْوِ، مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] قَالَ: عَنِ الْمَعَاصِي " حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، مِثْلَهُ
(17/11)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ، مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] قَالَ: «النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ صَحَابَتِهِ، مِمَّنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ، كَانُوا عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضِينَ»
(17/11)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ لِزَكَاةِ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهَا مُؤَدُّونَ، وَفِعْلُهُمُ الَّذِي وُصِفُوا بِهِ هُوَ أَدَاؤُهُمُوهَا
(17/11)
 
 
قَوْلُهُ {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 6] يَقُولُ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِ أَنْفُسِهِمْ. وَعَنِيَ بِالْفُرُوجِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: فَرُوجَ الرِّجَالِ، وَذَلِكَ أَقْبَالُهُمْ. {حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] يَحْفَظُونَهَا مِنْ أَعْمَالِهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْفُرُوجِ. {إِلَّا عَلَى [ص:12] أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 6] يَقُولُ: إِلَّا مِنْ أَزْوَاجِهِمُ اللَّاتِي أَحَلَّهُنَّ اللَّهُ لِلرِّجَالِ بِالنِّكَاحِ. {أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] يَعْنِي بِذَلِكَ: إِمَاءَهُمْ. وَ (مَا) الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] فِي مَحِلِّ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى الْأَزْوَاجِ. {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] يَقُولُ: فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ فَرْجَهُ عَنْ زَوْجِهِ وَمِلْكِ يَمِينِهِ , وَحَفِظَهُ عَنْ غُيْرِهِ مِنَ الْخَلْقِ , فَإِنَّهُ غَيْرُ مُوَبَّخٍ عَلَى ذَلِكَ وَلَا مَذْمُومٍ , وَلَا هُوَ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ رَاكِبٌ ذنبًا يُلَامُ عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(17/11)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] يَقُولُ: رَضِيَ اللَّهُ لَهُمْ إِتْيَانَهُمْ أَزْوَاجَهُمْ , وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ " وَقَوْلُهُ: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون: 7] يَقُولُ: فَمَنِ الْتَمَسَ لِفَرْجِهِ مَنْكَحًا سِوَى زَوْجَتِهِ وَمِلْكِ يَمِينِهِ، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] يَقُولُ: فَهُمُ الْعَادُونَ حُدُودَ اللَّهِ، الْمُجَاوِزُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ إِلَى مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(17/12)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " نَهَاهُمُ اللَّهُ نَهْيًا شَدِيدًا، فَقَالَ: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ [ص:13] فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] فَسَمَّى الزَّانِيَ مِنَ الْعَادِينَ "
(17/12)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] قَالَ: «الَّذِينَ يَتَعَدُّونَ الْحَلَالَ إِلَى الْحَرَامِ»
(17/13)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي قَوْلِهِ: " {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] قَالَ: مَنْ زَنَى فَهُوَ عَادٍ "
(17/13)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لَأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 9] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لَأَمَانَاتِهِمْ} [المؤمنون: 8] الَّتِي ائْتُمِنُوا عَلَيْهَا , وَعَهْدِهِمْ، وَهُوَ عُقُودُهُمُ الَّتِي عَاقَدُوا النَّاسَ {رَاعُونَ} [المؤمنون: 8] يَقُولُ: حَافِظُونَ لَا يُضَيِّعُونَ، وَلَكِنَّهُمْ يُوفُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ إِلَّا ابْنَ كَثِيرٍ: {وَالَّذِينَ هُمْ لَأَمَانَاتِهِمْ} [المؤمنون: 8] عَلَى الْجَمْعِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ ابْنُ كَثِيرٍ: (لَأَمَانَتِهِمْ) عَلَى الْوَاحِدَةِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: {لِأَمَانَاتِهِمْ} [المؤمنون: 8] لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا
(17/13)
 
 
قَوْلُهُ {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9] يَقُولُ: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى أَوْقَاتِ [ص:14] صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، فَلَا يُضَيِّعُونَهَا وَلَا يَشْتَغِلُونَ عَنْهَا حَتَّى تَفُوتَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يُرَاعُونَهَا حَتَّى يُؤَدُّوهَا فِيهَا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(17/13)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ: " {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9] قَالَ: عَلَى وَقْتِهَا "
(17/14)
 
 
حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ: " {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9] عَلَى مِيقَاتِهَا "
(17/14)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ زَحْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، قَالَ: " {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9] قَالَ: إِقَامُ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: عَلَى صَلَوَاتِهِمْ دَائِمُونَ
(17/14)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: " {عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9] قَالَ: دَائِمُونَ. قَالَ: يَعْنِي بِهَا الْمَكْتُوبَةَ "
(17/14)
 
 
قَوْلُهُ {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 10] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا، هُمُ الْوَارِثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الْجَنَّةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، رُوِيَ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَأَوَّلَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(17/15)
 
 
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَانِ: مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، وَإِنْ مَاتَ وَدَخَلَ النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ " فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 10]
(17/15)
 
 
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي قَوْلِهِ، " {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 10] قَالَ: يَرِثُونَ مَسَاكِنَهُمْ وَمَسَاكِنَ إِخْوَانِهِمُ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُمْ لَوْ أَطَاعُوا اللَّهَ "
(17/15)
 
 
حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ , عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ "} [المؤمنون: 10] قَالَ: يَرِثُونَ مَسَاكِنَهُمْ وَمَسَاكِنَ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ أُعِدَّتْ لَهُمْ لَوْ أَطَاعُوا اللَّهَ "
(17/15)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: «الْوَارِثُونَ الْجَنَّةَ أُورِثْتُمُوهَا، وَالْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا، هُنَّ سَوَاءٌ» [ص:16] قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ مُجَاهِدٌ: " يَرِثُ الَّذِي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَهُ وَأَهْلَ غَيْرِهِ، وَمَنْزِلُ الَّذِينَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ هُمْ يَرِثُونَ أَهْلَ النَّارِ، فَلَهُمْ مَنْزِلَانِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلَانِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ , وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَبْنِي مَنْزِلَهُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ , وَيَهْدِمُ مَنْزِلَهُ الَّذِي فِي النَّارِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَهْدِمُ مَنْزِلَهُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ , وَيَبْنِي مَنْزِلَهُ الَّذِي فِي النَّارِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ
(17/15)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 11] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {الَّذِينَ يَرِثُونَ} [المؤمنون: 11] الْبُسْتَانَ ذَا الْكَرْمِ، وَهُوَ الْفِرْدَوْسُ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ: هُوَ بِالرُّومِيَّةِ
(17/16)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 11] قَالَ: " الْفِرْدَوْسُ: بُسْتَانٌ بِالرُّومِيَّةِ "
(17/16)
 
 
قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: " عَدْنٌ حَدِيقَةٌ فِي الْجَنَّةِ , قَصْرُهَا فِيهَا عَدَنُهَا , خَلَقَهَا بِيَدِهِ، تُفْتَحُ كُلَّ فَجْرٍ فَيَنْظُرُ فِيهَا ثُمَّ يَقُولُ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] قَالَ: هِيَ الْفِرْدَوْسُ أَيْضًا تِلْكَ الْحَدِيقَةُ , قَالَ مُجَاهِدٌ: غَرَسَهَا اللَّهُ بِيَدِهِ؛ فَلَمَّا بَلَغَتْ قَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] ثُمَّ أَمَرَ بِهَا تُغْلَقُ، فَلَا يَنْظُرُ فِيهَا خَلْقٌ وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ثُمَّ تُفْتَحَ كُلَّ سَحَرٍ , فَيَنْظُرُ فِيهَا فَيَقُولُ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] ثُمَّ تُغْلَقُ إِلَى مِثْلِهَا "
(17/16)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: " قُتِلَ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَ ابْنِي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بَالَغْتُ فِي الْبُكَاءِ. قَالَ: «يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جَنَّتَانِ فِي جَنَّةٍ، وَإِنَّ ابْنَكِ قَدْ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ
(17/17)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ بِيَدِهِ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ، غَرَسَهَا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: تَكَلَّمِي قَالَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] " قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ حُسَامِ بْنِ مِصَكٍّ، عَنْ قَتَادَةَ، أَيْضًا، مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: " تَكَلَّمِي , قَالَتْ: طُوبَى لِلْمُتَّقِينَ "
(17/17)
 
 
قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ نُفَيْعٍ قَالَ: " لَمَّا خَلَقَهَا اللَّهُ قَالَ لَهَا: تَزَيَّنِي فَتَزَيَّنَتْ؛ ثُمَّ قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي فَقَالَتْ: طُوبَى لِمَنْ رَضِيتَ عَنْهُ "
(17/17)
 
 
وَقَوْلُهُ: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39] يَعْنِي مَاكِثُونَ فِيهَا، يَقُولُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ خَالِدُونَ، يَعْنِي مَاكِثُونَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَتَحَوَّلُونَ عَنْهَا
(17/18)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] أَسْلَلْنَاهُ مِنْهُ، فَالسُّلَالَةُ هِيَ الْمُسْتَلَّةُ مِنْ كُلِّ تُرْبَةٍ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ آدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرْبَةٍ أُخِذَتْ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي الْمَعْنِيِّ بِالْإِنْسَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِ آدَمُ
(17/18)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {مِنْ طِينٍ} [الأنعام: 2] قَالَ: اسْتُلَّ آدَمُ مِنَ الطِّينِ "
(17/18)
 
 
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: " {مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] قَالَ: اسْتُلَّ آدَمُ مِنْ طِينٍ، وَخُلِقَتْ ذُرِّيَّتُهُ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا وَلَدَ آدَمَ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، مِنْ سُلَالَةٍ، وَهِيَ النُّطْفَةُ الَّتِي اسْتُلَّتْ مِنْ ظَهْرِ الْفَحْلِ مِنْ طِينٍ، وَهُوَ آدَمُ الَّذِي خُلِقَ مِنْ طِينٍ
(17/18)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] قَالَ: صَفْوَةُ الْمَاءِ "
(17/19)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {مِنْ سُلَالَةٍ} [المؤمنون: 12] مِنْ مَنِيِّ آدَمَ " حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ. قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ. قَالَ: ثني حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ابْنَ آدَمَ مِنْ سُلَالَةِ آدَمَ، وَهِيَ صِفَةُ مَائِهِ , وَآدَمُ هُوَ الطِّينُ، لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْهُ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ، لِدَلَالَةِ قَوْلُهُ: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13] عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَّا بَعْدَ خَلْقِهِ فِي صُلْبِ الْفَحْلِ، وَمِنْ بَعْدِ تَحَوُّلِهِ مِنْ صُلْبِهِ صَارَ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ؛ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي وَلَدَ الرَّجُلِ وَنُطْفَتَهُ: سَلِيلَهُ وَسُلَالَتَهُ. لِأَنَّهُمَا مَسْلُولَانِ مِنْهُ؛ وَمِنَ السُّلَالَةِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ:
[البحر الطويل]
(17/19)
 
 
حَمَلَتْ بِهِ عَضْبَ الْأَدِيمِ غَضَنْفَرًا ... سُلَالَةَ فَرْجٍ كَانَ غَيْرَ حَصِينِ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
[البحر الطويل]
وَهَلْ كُنْتُ إِلَّا مُهْرَةً عَرَبِيَّةً ... سُلَالَةَ أَفْرَاسٍ تَجَلَّلَهَا بَغْلُ
فَمَنْ قَالَ: سُلَالَةٌ جَمْعُهَا سُلَالَاتٌ، وَرُبَّمَا جَمَعُوهَا سَلَائِلَ , وَلَيْسَ بِالْكَثِيرِ. لِأَنَّ السَّلَائِلَ جَمْعٌ لِلسَّلِيلِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ:
[البحر الطويل]
إِذَا أُنْتِجَتْ مِنْهَا الْمَهَارَى تَشَابَهَتْ ... عَلَى الْقَوْدِ إِلَّا بِالْأُنُوفِ سَلَائِلُهْ
وَقَوْلُ الرَّاجِزِ:
[البحر الرجز]
يَقْذِفْنَ فِي أَسْلَابِهَا بِالسَّلَائِلْ
(17/20)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةٍ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13] ثُمَّ جَعَلْنَا الْإِنْسَانَ الَّذِي جَعَلْنَاهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، وَهُوَ حَيْثُ اسْتَقَرَّتْ فِيهِ نُطْفَةُ الرَّجُلِ مِنْ رَحِمِ الْمَرْأَةِ. وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مَكِينٍ، لِأَنَّهُ مُكِّنَ لِذَلِكَ وَهُيِّئَ لَهُ لِيَسْتَقِرَّ فِيهِ إِلَى بُلُوغِ أَمْرِهِ الَّذِي جَعَلَهُ لَهُ قَرَارًا
(17/20)
 
 
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون: 14] يَقُولُ: ثُمَّ صَيَّرْنَا النُّطْفَةَ الَّتِي جَعَلْنَاهَا فِي قَرَارٍ مَكِينٍ عَلَقَةً، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الدَّم ِ {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} [المؤمنون: 14] يَقُولُ: فَجَعَلْنَا ذَلِكَ الدَّمَ مُضْغَةً، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ
(17/21)
 
 
وَقَوْلُهُ: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [المؤمنون: 14] يَقُولُ: فَجَعَلْنَا تِلْكَ الْمُضْغَةَ اللَّحْمَ عِظَامًا وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ سِوَى عَاصِمٍ: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [المؤمنون: 14] عَلَى الْجِمَاعِ، وَكَانَ عَاصِمٌ وَعَبْدُ اللَّهِ يَقْرَآنِ ذَلِكَ: (عَظْمًا) فِي الْحَرْفَيْنِ عَلَى التَّوْحِيدِ جَمِيعًا. وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي نَخْتَارُ فِي ذَلِكَ الْجِمَاعُ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ
(17/21)
 
 
وَقَوْلُهُ: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون: 14] يَقُولُ: فَأَلْبَسْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَظْمًا وَعَصَبًا فَكَسَوْنَاهُ لَحْمًا) . وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] يَقُولُ: ثُمَّ أَنْشَأْنَا هَذَا الْإِنْسَانَ خَلْقًا آخَرَ. وَهَذِهِ الْهَاءُ الَّتِي فِي: {أَنْشَأْنَاهُ} [المؤمنون: 14] عَائِدَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} [الحجر: 26] قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ ذِكْرِ الْعَظْمِ وَالنُّطْفَةِ وَالْمُضْغَةِ، جُعِلَ ذَلِكَ كُلُّهُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَقِيلَ: ثُمَّ أَنْشَأْنَا ذَلِكَ خَلْقًا آخَرَ. [ص:22] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْشَاؤُهُ إِيَّاهُ خَلْقًا آخَرَ: نَفْخُهُ الرُّوحَ فِيهِ، فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ إِنْسَانًا، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ صُورَةً
(17/21)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: " {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] قَالَ: نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ " حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ , عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ , عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِمِثْلِهِ
(17/22)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] قَالَ: الرُّوحُ "
(17/22)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: " {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] قَالَ: نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ "
(17/22)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، وَابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: " {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] قَالَ: نُفِخُ فِيهِ الرُّوحُ " قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِمِثْلِهِ
(17/22)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فِي قَوْلِهِ: " {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] قَالَ: نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ، فَهُوَ الْخَلْقُ الْآخَرُ الَّذِي ذَكَرَ "
(17/23)
 
 
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ: " {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا} [المؤمنون: 14] يَعْنِي الرُّوحَ , تُنْفَخُ فِيهِ بَعْدَ الْخَلْقِ "
(17/23)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] قَالَ: «الرُّوحُ الَّذِي جَعَلَهُ فِيهِ» وَقَالَ آخَرُونَ: إِنْشَاؤُهُ خَلْقًا آخَرَ: تَصْرِيفُهُ إِيَّاهُ فِي الْأَحْوَالِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ: فِي الطُّفُولَةِ، وَالْكُهُولَةِ، وَالِاغْتِذَاءُ، وَنَبَاتُ الشَّعْرِ، وَالسِّنِّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْأَحْيَاءِ فِي الدُّنْيَا
(17/23)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] يَقُولُ: " خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ بَعْدَ مَا خُلِقَ، فَكَانَ مِنْ بَدْءِ خَلْقِهِ الْآخَرِ أَنِ اسْتَهَلَّ، ثُمَّ كَانَ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ دُلَّ عَلَى ثَدْيِ أُمِّهِ، ثُمَّ كَانَ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ عُلِّمَ كَيْفَ يَبْسُطُ رِجْلَيْهِ، إِلَى أَنْ قَعَدَ، إِلَى أَنْ حَبَا، إِلَى أَنْ قَامَ عَلَى رِجْلَيْهِ، إِلَى أَنْ مَشَى، إِلَى أَنْ فُطِمَ، فَعُلِّمَ كَيْفَ [ص:24] يَشْرَبُ وَيَأْكُلُ مِنَ الطَّعَامِ، إِلَى أَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ، إِلَى أَنْ بَلَغَ أَنْ يَتَقَلَّبَ فِي الْبِلَادِ
(17/23)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] قَالَ: يَقُولُ بَعْضُهُمْ: هُوَ نَبَاتُ الشَّعْرِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ نَفْخُ الرُّوحِ " حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ , عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ
(17/24)
 
 
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] قَالَ: «يُقَالُ الْخَلْقُ الْآخَرُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ بِسِنِّهِ وَشَعْرِهِ» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِإِنْشَائِهِ خَلْقًا آخَرَ: سَوَّى شَبَابَهُ
(17/24)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] قَالَ: «حِينَ اسْتَوَى شَبَابُهُ»
(17/24)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: «حِينَ اسْتَوَى بِهِ الشَّبَابُ» وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِذَلِكَ نَفْخَ الرُّوحِ فِيهِ؛ [ص:25] وَذَلِكَ أَنَّهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ يَتَحَوَّلُ خَلْقًا آخَرَ إِنْسَانًا، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْأَحْوَالِ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ بِهَا، مِنْ نُطْفَةٍ وَعَلَقَةٍ وَمُضْغَةٍ وَعَظْمٍ , وَبِنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، يَتَحَوَّلُ عَنْ تِلْكِ الْمَعَانِي كُلِّهَا إِلَى مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ، كَمَا تَحَوَّلَ أَبُوهُ آدَمُ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِي الطِّينَةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا إِنْسَانًا وَخَلْقًا آخَرَ , غَيْرَ الطِّينِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ
(17/24)
 
 
وَقَوْلُهُ: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الصَّانِعِينَ
(17/25)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] قَالَ: «يَصْنَعُونَ وَيَصْنَعُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الصَّانِعِينَ» وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا قِيلَ: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] لِأَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَانَ يَخْلُقُ، فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَخْلُقُ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ يَخْلُقُ
(17/25)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] قَالَ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَخْلُقُ " وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُلَّ صَانِعٍ خَالِقًا؛ وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
[البحر الكامل]
[ص:26] وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْـ ... ـضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
وَيُرْوَى:
وَلَأَنْتَ تَخْلُقُ مَا فَرَيْتَ وَبَعْـ ... ــضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
(17/25)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 16] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ بَعْدِ إِنْشَائِكُمْ خَلْقًا آخَرَ وَتَصْيِيرِنَاكُمْ إِنْسَانًا سَوِيًّا مَيِّتُونَ وَعَائِدُونَ تُرَابًا كَمَا كُنْتُمْ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ وَعَوْدِكُمْ رُفَاتًا بَالِيًا مَبْعُوثُونَ مِنَ التُّرَابِ خَلْقًا جَدِيدًا كَمَا بَدَأْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَإِنَّمَا قِيلَ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون: 15] لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ حَالٍ لَهُمْ يَحْدُثُ لَمْ يَكُنْ. وَكَذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ لَمْ يَمُتْ: هُوَ مَائِتٌ وَمَيِّتٌ عَنْ قَلِيلٍ، وَلَا يَقُولُونَ لِمَنْ قَدْ مَاتَ مَائِتٌ، وَكَذَلِكَ هُوَ طَمِعٌ فِيمَا عِنْدَكَ إِذَا وُصِفَ بِالطَّمَعِ، فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ وَلَمْ يَفْعَلْ قِيلَ هُوَ طَامِعٌ فِيمَا عِنْدَكَ غَدًا، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا كَانَ نَظِيرًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ
(17/26)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقِكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون: 17] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ بَعْضُهُنَّ فَوْقَ بَعْضٍ؛ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ فَوْقَ شَيْءٍ طَرِيقَةً. وَإِنَّمَا قِيلَ لِلسَّمَاوَاتِ السَّبْعِ سَبْعَ طَرَائِقَ، لِأَنَّ بَعْضَهُنَّ فَوْقَ بَعْضٍ، فَكُلُّ سَمَاءٍ مِنْهُنَّ طَرِيقَةٌ [ص:27] وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(17/26)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} [المؤمنون: 17] قَالَ: " الطَّرَائِقُ: السَّمَاوَاتُ "
(17/27)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون: 17] يَقُولُ: وَمَا كُنَّا فِي خَلْقِنَا السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ فَوْقَكُمْ عَنْ خَلْقِنَا الَّذِي تَحْتَهَا غَافِلِينَ، بَلْ كُنَّا لَهُمْ حَافِظَيْنَ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ عَلَيْهِمْ فَتُهْلِكَهُمْ
(17/27)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ مَاءٍ، فَأَسْكَنَّاهُ فِيهَا
(17/27)
 
 
كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} [المؤمنون: 18] «مَاءٌ هُوَ مِنَ السَّمَاءِ»
(17/27)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِنَّا عَلَى الْمَاءِ الَّذِي أَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ لَقَادِرُونَ أَنْ نَذْهَبَ بِهِ فَتَهْلَكُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَطَشًا , وَتَخْرَبَ أَرَضُوكُمْ، فَلَا تُنْبِتُ زَرْعًا وَلَا غَرْسًا، وَتَهْلَكَ مَوَاشِيكُمْ، يَقُولُ: فَمِنْ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ تَرْكِي ذَلِكَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ جَارِيًا
(17/27)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلِ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون: 19] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَحْدَثْنَا لَكُمْ بِالْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ، بَسَاتِينَ مِنْ نَخِيلِ
(17/27)
 
 
وَأَعْنَابٍ {لَكُمْ فِيهَا} [الأعراف: 10] يَقُولُ: لَكُمْ فِي الْجَنَّاتِ فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ. {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] يَقُولُ: وَمِنَ الْفَوَاكِهِ تَأْكُلُونَ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ وَالْأَلِفُ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ ذِكْرِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَخَصَّ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْجَنَّاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا مِنْ نَخِيلِ وَأَعْنَابٍ دُونَ وَصْفِهَا بِسَائِرِ ثِمَارِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الثِّمَارِ كَانَا هُمَا أَعْظَمَ ثِمَارِ الْحِجَازِ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا، فَكَانَتِ النَّخِيلُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْأَعْنَابُ لِأَهْلِ الطَّائِفِ، فَذَكَّرَ الْقَوْمَ بِمَا يَعْرِفُونَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ ثِمَارِهَا
(17/28)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} [المؤمنون: 20] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَنْشَأْنَا لَكُمْ أَيْضًا شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ وَ {شَجَرَةً} [طه: 120] مَنْصُوبَةٌ عَطْفًا عَلَى {الْجَنَّاتِ} [الشورى: 22] ، وَيَعْنِي بِهَا: شَجَرَةَ الزَّيْتُونِ
(17/28)
 
 
وَقَوْلُهُ: {تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} [المؤمنون: 20] يَقُولُ: تَخْرُجُ مِنْ جَبَلٍ يُنْبِتُ الْأَشْجَارَ. وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى الطُّورِ فِيمَا مَضَى بِشَوَاهِدِهِ، وَاخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {سَيْنَاءَ} [المؤمنون: 20] فَإِنَّ الْقُرَّاءَ اخْتَلَفَتْ فِي قِرَاءَتِهِ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: (سِينَاءَ) بِكَسْرِ السِّينِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: {سَيْنَاءَ} [المؤمنون: 20] بِفَتْحِ السِّينِ، وَهُمَا جَمِيعًا مُجْمِعُونَ عَلَى مَدِّهَا، [ص:29] وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: الْمُبَارَكُ، كَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ: وَشَجَرَةٌ تَخْرُجُ مِنْ جَبَلٍ مُبَارَكٍ
(17/28)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {طُورِ سَيْنَاءَ} [المؤمنون: 20] قَالَ: «الْمُبَارَكُ» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
(17/29)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} [المؤمنون: 20] قَالَ: «هُوَ جَبَلٌ بِالشَّامِ مُبَارَكٌ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: حَسَنٌ
(17/29)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {[ص:30] طُورِ سَيْنَاءَ} [المؤمنون: 20] قَالَ: «هُوَ جَبَلٌ حَسَنٌ»
(17/29)
 
 
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} [المؤمنون: 20] " الطُّورُ: الْجَبَلُ بِالنَّبَطِيَّةِ، وَسَيْنَاءُ: حَسَنَةٌ بِالنَّبَطِيَّةِ وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ اسْمُ جَبَلٍ مَعْرُوفٍ
(17/30)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} [المؤمنون: 20] قَالَ: «الْجَبَلُ الَّذِي نُودِيَ مِنْهُ مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
(17/30)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {طُورِ سَيْنَاءَ} [المؤمنون: 20] قَالَ: «هُوَ جَبَلُ الطُّورِ الَّذِي بِالشَّامِ، جَبَلٌ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ» قَالَ: «مَمْدُودٌ، هُوَ بَيْنَ مِصْرَ وَبَيْنَ أَيْلَةَ» وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُ جَبَلٌ ذُو شَجَرٍ.
(17/30)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَمَّنْ قَالَهُ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ سَيْنَاءَ اسْمٌ أُضِيفَ إِلَيْهِ الطُّورُ يُعْرَفُ بِهِ، كَمَا قِيلَ جَبَلَا طَيِّئٍ، فَأُضِيفَا إِلَى طَيِّئٍ، وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ جَبَلٌ مُبَارَكٌ، أَوْ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ حَسَنٌ، لَكَانَ الطُّورُ مُنَوَّنًا، وَكَانَ قَوْلُهُ {سَيْنَاءَ} [المؤمنون: 20] مِنْ نَعْتِهِ. عَلَى أَنَّ سَيْنَاءَ بِمَعْنَى: مُبَارَكٌ وَحَسَنٌ، غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ نَعْتِ الْجَبَلِ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، مِنْ أَنَّهُ جَبَلٌ عُرِفَ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ الْجَبَلُ الَّذِي نُودِيَ مِنْهُ مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُبَارَكٌ، لَا أَنَّ مَعْنَى سَيْنَاءَ مَعْنَى مُبَارَكٍ
(17/31)
 
 
وَقَوْلُهُ: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {تَنْبُتُ} [البقرة: 61] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: {تَنْبُتُ} [البقرة: 61] بِفَتْحِ التَّاءِ، بِمَعْنَى: تَنْبُتُ هَذِهِ الشَّجَرَةُ بِثَمَرِ الدُّهْنِ، وَقَرَأَهُ يَعَضُّ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ: (تُنْبِتُ) بِضَمِّ التَّاءِ، بِمَعْنَى: تُنْبِتُ الدُّهْنَ: تُخْرِجُهُ. وَذُكِرَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (تُخْرِجُ الدُّهْنَ) وَقَالُوا: الْبَاءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ زَائِدَةٌ، كَمَا قِيلَ: أَخَذْتُ ثَوْبَهُ وَأَخَذْتُ بِثَوْبِهِ؛ وَكَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:
[البحر الرجز]
(17/31)
 
 
نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَرْبَابُ الْفَلَجْ ... نَضْرِبُ بِالْبِيضِ وَنَرْجُو بِالْفَرَجْ
بِمَعْنَى: وَنَرْجُو الْفَرَجَ. وَالْقَوْلُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ: نَبَتَ، وَأَنْبَتَ؛ وَمِنْ أَنْبَتَ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
[البحر الطويل]
رَأَيْتَ ذَوِي الْحَاجَاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ ... قَطِينًا لَهُمْ حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ الْبَقْلُ
وَيُرْوَى: نَبَتَ، وَهُو كَقَوْلِهِ: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} [هود: 81] , وَ (فَاسْرِ) . غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ الَّتِي لَا أَخْتَارُ غَيْرَهَا فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {تَنْبُتُ} [البقرة: 61] بِفَتْحِ التَّاءِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا. وَمَعْنَى ذَلِكَ: تَنْبُتُ هَذِهِ الشَّجَرَةُ بِثَمَرِ الدُّهْنِ
(17/32)
 
 
كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] قَالَ: «بِثَمِرِهِ» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ [ص:33] وَالدُّهْنُ الَّذِي هُوَ مِنْ ثَمَرِهِ الزَّيْتُ
(17/32)
 
 
كَمَا: حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] يَقُولُ: «هُوَ الزَّيْتُ يُؤْكَلُ وَيُدْهَنُ بِهِ»
(17/33)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} [المؤمنون: 20] يَقُولُ: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَبِصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ، يَصْطَبِغُ بِالزَّيْتِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَهُ
(17/33)
 
 
كَمَا: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} [المؤمنون: 20] قَالَ: «هَذَا الزَّيْتُونُ صِبْغٌ لِلْآكِلِينَ، يَأْتُدِمُونَ بِهِ وَيَصْطَبِغُونَ بِهِ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَالصِّبْغُ عَطْفٌ عَلَى الدُّهْنِ
(17/33)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 22] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَإِنَّ لَكُمْ} [النحل: 66] أَيُّهَا النَّاسُ , {فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} [النحل: 66] تَعْتَبِرُونَ بِهَا، فَتَعْرِفُونَ بِهَا أَيَادِيَ اللَّهِ عِنْدَكُمْ , وَقُدْرَتَهُ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَأَنَّهُ الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ وَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ شَاءَهُ {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21] مِنَ اللَّبَنِ الْخَارِجِ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ. {وَلَكُمْ} [البقرة: 36] مَعَ ذَلِكَ {فِيهَا} [البقرة: 25] يَعْنِي: فِي الْأَنْعَامِ، {مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} [المؤمنون: 21] وَذَلِكَ كَالْإِبِلِ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا , وَيُرْكَبُ ظَهْرُهَا , وَيُشْرَبُ دَرُّهَا. {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] يَعْنِي: مِنْ لُحُومِهَا تَأْكُلُونَ
(17/33)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 22] يَقُولُ: وَعَلَى الْأَنْعَامِ وَعَلَى السُّفُنِ [ص:34] تُحْمَلُونَ، عَلَى هَذِهِ فِي الْبَرِّ , وَعَلَى هَذِهِ فِي الْبَحْرِ
(17/33)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 23] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [هود: 25] دَاعِيهِمْ إِلَى طَاعَتِنَا وَتَوْحِيدِنَا وَالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَانَا {فَقَالَ} [البقرة: 31] لَهُمْ نُوحٌ: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [الأعراف: 59] يَقُولُ: قَالَ لَهُمْ: ذِلُّوا يَا قَوْمِ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ. {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] يَقُولُ: مَا لَكُمْ مِنْ مَعْبُودٍ يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ غَيْرُهُ. {أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65] يَقُولُ: أَفَلَا تَخْشَوْنَ بِعِبَادَتِكُمْ غَيْرَهُ عِقَابَهُ أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ
(17/34)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَقَالَتْ جَمَاعَةُ أَشْرَافِ قَوْمِ نُوحٍ، الَّذِينَ جَحَدُوا تَوْحِيدَ اللَّهِ وَكَذَّبُوهُ، لِقَوْمِهِمْ: مَا نُوحُ أَيُّهَا الْقَوْمُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، إِنَّمَا هُوَ إِنْسَانٌ مِثْلُكُمْ وَكَبَعْضِكُمْ، {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 24] يَقُولُ: يُرِيدُ أَنْ يَصِيرَ لَهُ الْفَضْلُ عَلَيْكُمْ، فَيَكُونَ مَتْبُوعًا وَأَنْتُمْ لَهُ تَبَعٌ. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً} [المؤمنون: 24] يَقُولُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا نَعْبُدَ شَيْئًا سِوَاهُ لِأَنْزِلَ مَلَائِكَةً، يَقُولُ: لَأَرْسَلَ بِالدُّعَاءِ إِلَى مَا يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ نُوحٌ مَلَائِكَةً تُؤَدِّي إِلَيْكُمْ رِسَالَتَهُ.
(17/34)
 
 
وَقَوْلُهُ: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} [المؤمنون: 24] الَّذِي يَدْعُونَا إِلَيْهٌِ نُوحٌ مِنْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ لَنَا [ص:35] غَيْرُ اللَّهِ فِي الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، وَهِيَ آبَاؤُهُمُ الْأَوَّلُونَ
(17/34)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون: 26] يَعْنِي ذَكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ الْمَلَأِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِ نُوحٍ {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} [المؤمنون: 25] مَا نُوحٌ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جُنُونٌ. وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا لِلْجِنِّ جِنَّةٌ، فَيَتَّفِقُ الِاسْمُ وَالْمَصْدَرُ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنْ هُوَ} [الأنعام: 90] كِنَايَةُ اسْمِ نُوحٍ
(17/35)
 
 
وَقَوْلُهُ: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 25] يَقُولُ: فَتَلَبَّثُوا بِهِ، وَتَنَظَّرُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ؛ يَقُولُ: إِلَى وَقْتٍ مَا. وَلَمْ يَعْنُوا بِذَلِكَ وَقْتًا مَعْلُومًا، إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: دَعْهُ إِلَى يَوْمٍ مَا، أَوْ إِلَى وَقْتٍ مَا
(17/35)
 
 
وَقَوْلُهُ: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون: 26] يَقُولُ: قَالَ نُوحٌ دَاعِيًا رَبَّهُ مُسْتَنْصِرًا بِهِ عَلَى قَوْمِهِ، لَمَّا طَالَ أَمْرُهُ وَأَمْرُهُمْ , وَتَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ: {رَبِّ انْصُرْنِي} [المؤمنون: 26] عَلَى قَوْمِي {بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون: 26] يَعْنِي بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ، فِيمَا بَلَّغْتُهُمْ مِنْ رِسَالَتِكَ , وَدَعَوْتُهُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِكَ
(17/35)
 
 
وَقَوْلُهُ: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} [المؤمنون: 27] يَقُولُ: فَقُلْنَا لَهُ حِينَ اسْتَنْصَرَنَا عَلَى كَفَرَةِ قَوْمِهِ: اصْنَعِ الْفُلْكَ، وَهِيَ السَّفِينَةُ {بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] يَقُولُ: بِمَرْأًى مِنَّا وَمَنْظَرٍ، {وَوَحْيِنَا} [هود: 37] يَقُولُ: وَبِتَعْلِيمِنَا إِيَّاكَ صَنْعَتَهَا. {فَإِذَا
(17/35)
 
 
جَاءَ أَمْرُنَا} [المؤمنون: 27] يَقُولُ: فَإِذَا جَاءَ قَضَاؤُنَا فِي قَوْمِكَ، بِعَذَابِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ؛ وَقَوْلُهُ: {وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود: 40] وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي صِفَةِ التَّنُّورِ وَالصَّوَابَ عِنْدَنَا مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ بِشَوَاهِدِهِ , بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [المؤمنون: 27] يَقُولُ: فَأَدْخِلْ فِي الْفُلْكِ وَاحْمِلْ. وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ فِي قَوْلِهِ {فِيهَا} [البقرة: 25] مِنْ ذِكْرِ الْفُلْكِ {مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود: 40] . يُقَالُ: سَلَكْتُهُ فِي كَذَا , وَأَسْلَكْتُهُ فِيهِ؛ وَمِنْ سَلَكْتُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الوافر]
وَكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أُعَرِّدْ ... وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيبِ
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَسْلَكْتُ بِالْأَلْفِ؛ وَمِنْهُ قُولُ الْهُذَلِيِّ.
[البحر البسيط]
حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قَتَائِدَةٍ شَلًّا ... كَمَا تَطْرُدِ الْجَمَّالَةُ الشُّرُدَا
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(17/36)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [المؤمنون: 27] يَقُولُ لِنُوحٍ: اجْعَلْ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [ص:37]. {وَأَهْلَكَ} [المؤمنون: 27] وَهُمْ وَلَدُهُ وَنِسَاؤُهُمْ. {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] مِنَ اللَّهِ بِأَنَّهُ هَالِكٌ فِيمَنْ يَهْلِكُ مِنْ قَوْمِكَ , فَلَا تَحْمِلْهُ مَعَكَ، وَهُوَ يَامُ الَّذِي غَرِقَ " ويعني بِقَوْلِهِ: {مِنْهُمْ} [المؤمنون: 27] مِنْ أَهْلِكَ، وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي قَوْلِهِ {مِنْهُمْ} [المؤمنون: 27] مِنْ ذِكْرِ الْأَهْلِ
(17/36)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُخَاطِبْنِي} [هود: 37] الْآيَةُ، يَقُولُ: وَلَا تَسْأَلْنِي فِي الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أَنْ أُنَجِّيَهُمْ. {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37] يَقُولُ: فَإِنِّي قَدْ حَتَّمْتُ عَلَيْهِمْ أَنْ أُغْرِقَ جَمِيعَهُمْ
(17/37)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 28] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] فَإِذَا اعْتَدَلَتْ فِي السَّفِينَةِ أَنْتَ وَمَعَكَ مِمَّنْ حَمَلْتَهُ مَعَكَ مِنْ أَهْلِكَ، رَاكِبًا فِيهَا عَالِيًا فَوْقَهَا؛ {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 28] يَعْنِي مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(17/37)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزَلَنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} [المؤمنون: 30] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَقُلْ إِذَا سَلَّمَكَ اللَّهُ وَأَخْرَجَكَ مِنَ الْفُلْكِ فَنَزَلَتْ عَنْهَا: {رَبِّ أَنْزَلَنِي مُنْزَلًا} [المؤمنون: 29] مِنَ الْأَرْضِ {مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ} [المؤمنون: 29] مَنْ أَنْزَلَ عِبَادَهُ الْمَنَازِلَوَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(17/37)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {مُنْزَلًا مُبَارَكًا} [المؤمنون: 29] قَالَ: «لِنُوحٍ حِينَ نَزَلَ مِنَ السَّفِينَةِ» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: {رَبِّ أَنْزَلَنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا} [المؤمنون: 29] بِضَمِّ الْمِيمِ , وَفَتْحِ الزَّايِ. بِمَعْنَى: أَنْزِلْنِي إِنْزَالًا مُبَارَكًا. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ: (مَنْزِلًا) بِفَتْحِ الْمِيمِ , وَكَسْرِ الزَّايِ. بِمَعْنَى: أَنْزَلَنِي مَكَانًا مُبَارَكًا وَمَوْضِعًا
(17/38)
 
 
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} [يونس: 67] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ فِيمَا فَعَلْنَا بِقَوْمِ نُوحٍ يَا مُحَمَّدُ مِنْ إِهْلَاكِنَاهُمْ إِذْ كَذَّبُوا رُسُلَنَا , وَجَحَدُوا وَحْدَانِيَّتَنَا , وعَبَدُوا الْآلِهَةَ وَالْأَصْنَامَ، لِعِبَرًا لِقَوْمِكَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَعِظَاتٍ , وَحُجَجًا لَنَا، يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى سُنَّتِنَا فِي أَمْثَالِهِمْ، فَيَنْزَجِرُوا عَنْ كُفْرِهِمْ , وَيَرْتَدِعُوا عَنْ تَكْذِيبِكَ، حَذَرًا أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ الَّذِي أَصَابَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. [ص:39] وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} [المؤمنون: 30] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكُنَّا مُخْتَبِرِيهِمْ بِتَذْكِيرِنَا إِيَّاهُمْ بِآيَاتِنَا، لَنَنْظُرَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ نُزُولِ عُقُوبَتِنَا بِهِمْ
(17/38)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 32] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ أَحْدَثْنَا مِنْ بَعْدِ مَهْلِكِ قَوْمِ نُوحٍ قَرْنًا آخَرِينَ فَأَوْجَدْنَاهُمْ. {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [المؤمنون: 32] دَاعِيًا لَهُمْ، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [المائدة: 117] يَا قَوْمِ، وَأَطِيعُوهُ دُونَ الْآلِهَةِ وَالْأَصْنَامِ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ. {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] يَقُولُ: مَا لَكُمْ مِنْ مَعْبُودٍ يَصْلُحُ أَنْ تَعْبُدُوا سِوَاهُ. {أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65] أَفَلَا تَخَافُونَ عِقَابَ اللَّهِ بِعِبَادَتِكُمْ شَيْئًا دُونَهُ، وَهُوَ الْإِلَهُ الَّذِي لَا إِلَهَ لَكُمْ سِو