تفسير الطبري جامع البيان ط هجر 012

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: تفسير الطبري = جامع البيان عن تأويل آي القرآن
المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9] " أَيْ مِنَ السُّبُلِ، سُبُلُ الشَّيْطَانِ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: (وَمِنْكُمْ جَائِرٌ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) "
(14/179)
 
 
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9] قَالَ: " فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (وَمِنْكُمْ جَائِرٌ) "
(14/179)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9] يَعْنِي: السُّبُلَ الْمُتَفَرِّقَةَ "
(14/179)
 
 
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ [ص:180] ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9] يَقُولُ: الْأَهْوَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ "
(14/179)
 
 
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يُقَالُ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9] يَعْنِي السُّبُلَ الَّتِي تَفَرَّقَتْ عَنْ سَبِيلِهِ "
(14/180)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: " {وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9] السُّبُلُ الْمُتَفَرِّقَةُ عَنْ سَبِيلِهِ "
(14/180)
 
 
حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9] قَالَ: " مِنَ السُّبُلِ جَائِرٌ عَنِ الْحَقِّ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] "
(14/180)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9] يَقُولُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَلَطَفَ بِجَمِيعِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِتَوْفِيقِهِ، فَكُنْتُمْ تَهْتَدُونَ وَتَلْزَمُونَ قَصْدَ السَّبِيلِ، وَلَا تَجُورُونَ عَنْهُ فَتَتَفَرَّقُونَ فِي سُبُلٍ عَنِ الْحَقِّ جَائِرَةٍ، كَمَا:
(14/180)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9] قَالَ: " لَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ لِقَصْدِ السَّبِيلِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ، وَقَرَأَ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99] الْآيَةَ، وَقَرَأَ: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] الْآيَةَ "
(14/180)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10]
(14/180)
 
 
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ هَذِهِ النِّعَمِ وَخَلَقَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ وَالْخَيْلَ وَسَائِرَ الْبَهَائِمِ لِمَنَافِعِكُمْ وَمَصَالِحِكُمْ، هُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، يَعْنِي: مَطَرًا لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ شَرَابٌ تَشْرَبُونَهُ وَمِنْهُ شَرَابُ أَشْجَارِكُمْ وَحَيَاةُ غُرُوسِكُمْ وَنَبَاتِهَا {فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] يَقُولُ: فِي الشَّجَرِ الَّذِي يَنْبُتُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ تُسِيمُونَ، تَرْعَوْنَ، يُقَالُ مِنْهُ: أَسَامَ فُلَانٌ إِبِلَهُ يُسِيمُهَا إِسَامَةً إِذَا أَرْعَاهَا، وَسَوَّمَهَا أَيْضًا يُسَوِّمُهَا، وَسَامَتْ هِيَ: إِذْ رَعَتْ، فَهِيَ تَسُومُ، وَهِيَ إِبِلٌ سَائِمَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلْمَوَاشِي الْمُطْلَقَةِ فِي الْفَلَاةِ وَغَيْرِهَا لِلرَّعْيِ، سَائِمَةٌ وَقَدْ وَجَّهَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى السَّوْمِ فِي الْبَيْعِ إِلَى أَنَّهُ مِنْ هَذَا، وَأَنَّهُ ذَهَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِيمَا يَنْبَغِي لَهُ مِنْ زِيَادَةِ ثَمَنٍ وَنُقْصَانِهِ، كَمَا تَذْهَبُ سَوَائِمُ الْمَوَاشِي حَيْثُ شَاءَتْ مِنْ مَرَاعِيهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
[البحر الخفيف]
وَمَشَى الْقَوْمُ بِالْعِمَادِ إِلَى الْمَرْعَى ... وَأَعْيَا الْمُسِيمَ أَيْنَ الْمَسَاقُ
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(14/181)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنِ النَّضْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] قَالَ: «تَرْعَوْنَ»
(14/181)
 
 
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُهَيْلٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: ثنا قُرَّةُ بْنُ عِيسَى، عَنِ النَّضْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، [ص:182] عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: {فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] قَالَ: «تَرْعَوْنَ»
(14/181)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «تَرْعَوْنَ» . حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ
(14/182)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] يَقُولُ: شَجَرٌ يَرْعَوْنَ فِيهِ أَنْعَامَهُمْ وَشَاءَهُمْ "
(14/182)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] قَالَ: «تَرْعَوْنَ»
(14/182)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَأَبُو خَالِدٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: «فِيهِ تَرْعَوْنَ»
(14/182)
 
 
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: ثنا عُبَيْدٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: " {تُسِيمُونَ} [النحل: 10] يَقُولُ: تَرْعَوْنَ أَنْعَامَكُمْ "
(14/182)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْقَنَّادُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، قَالَ: «فِيهِ تَرْعَوْنَ»
(14/182)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] يَقُولُ: تَرْعَوْنَ "
(14/182)
 
 
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «تَرْعَوْنَ»
(14/183)
 
 
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: ثنا سُلَيْمَانُ قَالَ: ثنا أَبُو هِلَالٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] قَالَ: «تَرْعَوْنَ»
(14/183)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] قَالَ: " تَرْعَوْنَ، قَالَ: الْإِسَامَةُ: الرَّعِيَّةُ " وَقَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الكامل]
مِثْلَ ابْنِ بَزْعَةَ أَوْ كَآخَرَ مِثْلِهِ ... أَوْلَى لَكَ ابْنَ مُسِيمَةِ الْأَجْمَالِ
قَالَ: يَا ابْنَ رَاعِيَةِ الْأَجْمَالِ
(14/183)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ، وَالزَّيْتُونَ، وَالنَّخِيلَ، وَالْأَعْنَابَ، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 11] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يُنْبِتُ لَكُمْ رَبُّكُمْ بِالْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ زَرْعَكُمْ، وَزَيْتُونَكُمْ، وَنَخِيلَكُمْ، وَأَعْنَابَكُمْ. {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الرعد: 3] يَعْنِي مِنْ كُلِّ الْفَوَاكِهِ غَيْرِ ذَلِكَ أَرْزَاقًا لَكُمْ وَأَقْوَاتًا وَإِدَامًا وَفَاكِهَةً، نِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ وَتَفَضُّلًا، وَحُجَّةً عَلَى مَنْ كَفَرَ بِهِ مِنْكُمْ. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [البقرة: 248] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّ فِي إِخْرَاجِ اللَّهِ بِمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ مَا وَصَفَ لَكُمْ {لَآيَةً} [البقرة: 248] يَقُولُ: لَدَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ وَعَلَامَةٌ بَيِّنَةٌ. {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] يَقُولُ: لِقَوْمٍ يَعْتَبِرُونَ مَوَاعِظَ اللَّهِ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي حُجَجِهِ، فَيَتَذَكَّرُونَ وَيُنِيبُونَ
(14/183)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ، وَالنَّهَارَ، وَالشَّمْسَ، وَالْقَمَرَ، وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 12] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مَعَ الَّتِي ذَكَرَهَا قَبْلُ أَنْ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَتَعَاقَبَانِ عَلَيْكُمْ، هَذَا لِتَصَرُّفِكُمْ فِي مَعَاشِكُمْ وَهَذَا لِسَكَنِكُمْ فِيهِ {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الأنعام: 96] لِمَعْرِفَةِ أَوْقَاتِ أَزْمِنَتِكُمْ، وَشُهُورِكُمْ، وَسِنِينِكُمْ، وَصَلَاحِ مَعَايِشِكُمْ. {وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ} [الأعراف: 54] لَكُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَجْرِي فِي فَلَكِهَا لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ فِي تَسْخِيرِ اللَّهِ ذَلِكَ عَلَى مَا سَخَّرَهُ لَدَلَالَاتٌ وَاضِحَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ حُجَجَ اللَّهِ وَيَفْهَمُونَ عَنْهُ تَنْبِيهَهُ إِيَّاهُمْ
(14/184)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [النحل: 13] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ} [النحل: 13] وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا ذَرَأَ: أَيْ مَا خَلَقَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالثِّمَارِ، كَمَا:
(14/184)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ} [النحل: 13] يَقُولُ: «وَمَا خَلَقَ لَكُمْ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَمِنَ الشَّجَرِ وَالثِّمَارِ، نِعَمٌ مِنَ اللَّهِ مُتَظَاهِرَةٌ فَاشْكُرُوهَا للَّهِ»
(14/184)
 
 
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ [ص:185] قَتَادَةَ، قَالَ: «مِنَ الدَّوَابِّ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ» وَنَصَبَ قَوْلَهُ: «مُخْتَلِفًا» لِأَنَّ قَوْلَهُ: «وَمَا» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْتُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ «مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ» حَالًا مِنْ «مَا» ، وَالْخَبَرُ دُونَهُ تَامٌّ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ «مَا» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَكَانَ الْكَلَامُ مُبْتَدَأً مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ} [النحل: 13] لَمْ يَكُنْ فِي مُخْتَلِفٍ إِلَّا الرَّفْعُ، لِأَنَّهُ كَانَ يَصِيرُ مُرَافِعَ «مَا» حِينَئِذٍ
(14/184)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا، وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا، وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِي فَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ بِكُمْ وَأَنْعَمَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ هَذِهِ النِّعَمَ، الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ، وَهُوَ كُلُّ نَهْرٍ مِلْحًا مَاؤُهُ أَوْ عَذْبًا {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] وَهُوَ السَّمَكُ الَّذِي يُصْطَادُ مِنْهُ {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] وَهُوَ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ، كَمَا:
(14/185)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] قَالَ: " مِنْهُمَا جَمِيعًا {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] قَالَ: «هَذَا اللُّؤْلُؤُ»
(14/185)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] يَعْنِي حِيتَانَ الْبَحْرِ "
(14/186)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا حَمَّادٌ، عَنْ يَحْيَى، قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ، فَقَالَ: «هَلْ فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ صَدَقَةٌ؟» قَالَ: " لَا، هِيَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ} [النحل: 14] يَعْنِي السُّفُنَ، {مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14] وَهِيَ جَمْعُ مَاخِرَةٍ ". وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مَوَاخِرَ} [النحل: 14] ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَوَاخِرَ: الْمَوَاقِرَ
(14/186)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُوسَى الْقَزَّازُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: ثنا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14] قَالَ: «الْمَوَاقِرَ»
(14/186)
 
 
وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14] قَالَ: «مَا أُخِذَ عَنْ يَمِينِ السَّفِينَةِ وَعَنْ يَسَارِهَا مِنَ الْمَاءِ، فَهُوَ الْمَوَاخِرُ»
(14/186)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ أَبِي مَكِينٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14] قَالَ: «هِيَ السَّفِينَةُ تَقُولُ بِالْمَاءِ هَكَذَا، يَعْنِي [ص:187] تَشُقُّهُ»
(14/186)
 
 
وَقَالَ آخَرُونَ فِيهِ مَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14] قَالَ: «تَجْرِي فِيهِ مُتَعَرِّضَةً»
(14/187)
 
 
وَقَالَ آخَرُونَ فِيهِ بِمَا: حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14] قَالَ: «تَمْخُرُ السَّفِينَةُ الرِّيَاحَ، وَلَا تَمْخُرُ الرِّيحَ مِنَ السُّفُنِ إِلَّا الْفُلْكُ الْعِظَامُ» . حَدَّثَنِي الْحَرْثُ قَالَ: ثنا الْحَسَنُ قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّ الْحَرْثَ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: وَلَا تُمْخَرُ الرِّيَاحُ مِنَ السُّفُنِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ
(14/187)
 
 
حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {مَوَاخِرَ} [النحل: 14] قَالَ: «تَمْخُرُ الرِّيحُ»
(14/187)
 
 
وَقَالَ آخَرُونَ فِيهِ مَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ [ص:188]: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14] «تَجْرِي بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ، مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً»
(14/187)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «تَجْرِي مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ»
(14/188)
 
 
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14] قَالَ: «مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ» وَالْمَخْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: صَوْتُ هُبُوبِ الرِّيحِ إِذَا اشْتَدَّ هُبُوبُهَا، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: صَوْتُ جَرْيِ السَّفِينَةِ بِالرِّيحِ إِذَا عَصَفَتْ وَشَقَّهَا الْمَاءُ حِينَئِذٍ بِصَدْرِهَا، يُقَالُ مِنْهُ: مَخْرَتِ السَّفِينَةُ تَمْخُرُ مَخْرًا وَمُخُورًا، وَهِيَ مَاخِرَةٌ، وَيُقَالُ: امْتَخَرْتَ الرِّيحَ وَتَمَخَّرْتَهَا: إِذَا نَظَرْتَ مِنْ أَيْنَ هُبُوبُهَا وَتَسَمَّعْتَ صَوْتَ هُبُوبِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ وَاصِلٍ مَوْلَى ابْنِ عُيَيْنَةَ: كَانَ يُقَالُ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمُ الْبَوْلَ فَلْيَتَمَخَّرِ الرِّيحَ، يُرِيدُ بِذَلِكَ: لَيَنْظُرُ مِنْ أَيْنَ مَجْرَاهَا وَهُبُوبُهَا لِيَسْتَدْبِرَهَا فَلَا تُرْجِعُ عَلَيْهِ الْبَوْلَ وَتَرُدُّهُ عَلَيْهِ
(14/188)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [النحل: 14] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلْتَتَصَرَّفُوا فِي طَلَبِ مَعَايشِكُمْ بِالتِّجَارَةِ سَخَّرَ لَكُمْ كَمَا:
(14/188)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [النحل: 14] قَالَ: «تِجَارَةُ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ»
(14/188)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] يَقُولُ: وَلِتَشْكُرُوا رَبَّكُمْ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ ذَلِكَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا سَخَّرَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي عَدَّدَهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ
(14/189)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [النحل: 15] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَيْضًا، أَنْ أَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ، وَهِيَ جَمْعُ رَاسِيَةٍ، وَهِيَ الثَّوَابِتُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِبَالِ وَقَوْلُهُ: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] يَعْنِي: أَنْ لَا تَمِيدَ بِكُمْ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] وَالْمَعْنَى: أَنْ لَا تَضِلُّوا وَذَلِكَ أَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَرْسَى الْأَرْضَ بِالْجِبَالِ لِئَلَّا يَمِيدَ خَلْقُهُ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهَا، بَلْ وَقَدْ كَانَتْ مَائِدَةً قَبْلَ أَنْ تُرْسَى بِهَا، كَمَا:
(14/189)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ: " أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمُورُ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: مَا هَذِهِ بِمُقِرَّةٍ عَلَى ظَهْرِهَا أَحَدًا فَأَصْبَحَتْ صُبْحًا وَفِيهَا رَوَاسِيهَا "
(14/189)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: ثنا حَمَّادٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ قَمَصَتْ، وَقَالَتْ: أَيْ رَبِّ أَتَجْعَلُ عَلَيَّ بَنِي آدَمَ يَعْمَلُونَ عَلَيَّ الْخَطَايَا، وَيَجْعَلُونَ [ص:190] عَلَيَّ الْخَبَثَ؟ قَالَ: فَأَرْسَى اللَّهُ عَلَيْهَا مِنَ الْجِبَالِ مَا تَرَوْنَ وَمَا لَا تَرَوْنَ، فَكَانَ قَرَارُهَا كَاللَّحْمِ يَتَرَجَرَجُ ". وَالْمَيْدُ: هُوَ الِاضْطِرَابُ وَالتَّكَفُّؤُ، يُقَالُ: مَادَتِ السَّفِينَةُ تَمِيدُ مَيْدًا: إِذَا تَكَفَّأَتْ بِأَهْلِهَا وَمَالَتْ، وَمِنْهُ الْمَيْدُ الَّذِي يَعْتَرِي رَاكِبَ الْبَحْرِ، وَهُوَ الدُّوَارُ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(14/189)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] أَنْ تَكَفَّأَ بِكُمْ ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
(14/190)
 
 
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] قَالَ: «الْجِبَالُ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ»
(14/190)
 
 
قَالَ قَتَادَةُ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: " لَمَّا خُلِقَتِ الْأَرْضُ كَادَتْ تَمِيدُ، فَقَالُوا: مَا هَذِهِ بِمُقِرَّةٍ عَلَى ظَهْرِهَا أَحَدًا فَأَصْبَحُوا وَقَدْ خُلِقَتِ الْجِبَالُ، فَلَمْ تَدْرِ الْمَلَائِكَةُ مِمَّ خُلِقَتِ الْجِبَالُ "
(14/190)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَأَنْهَارًا} [الرعد: 3] يَقُولُ: وَجَعَلَ فِيهَا أَنْهَارًا، فَعَطَفَ بِالْأَنْهَارِ عَلَى الرَّوَاسِي، وَأَعْمَلَ فِيهَا مَا أَعْمَلَ فِي الرَّوَاسِي، إِذْ كَانَ مَفْهُومًا مَعْنَى الْكَلَامِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ الرَّاجِزِ:
[البحر الرجز]
تَسْمَعُ فِي أَجْوَافِهِنَّ صَوْرَا ... وَفِي الْيَدَيْنِ حَشَّةً وَبَوْرَا
وَالْحَشَّةُ: الْيُبْسُ، فَعَطَفَ بِالْحَشَّةِ عَلَى الصَّوْتِ، وَالْحَشَّةُ لَا تُسْمَعُ، إِذْ كَانَ مَفْهُومًا الْمُرَادُ مِنْهُ وَأَنَّ مَعْنَاهُ وَتَرَى فِي الْيَدَيْنِ حَشَّةً
(14/191)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَسُبُلًا} [النحل: 15] وَهِيَ جَمْعُ سَبِيلٍ، كَمَا الطُّرُقُ جَمْعُ طَرِيقٍ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَجَعَلَ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِي الْأَرْضِ سُبُلًا وَفِجَاجًا تَسْلُكُونَهَا وَتَسِيرُونَ فِيهَا فِي حَوَائِجِكُمْ وَطَلَبِ مَعَايِشِكُمْ رَحْمَةً بِكُمْ، وَنِعْمَةً مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ عَمَّاهَا عَلَيْكُمْ لَهَلَكْتُمْ ضَلَالًا وَحِيرَةً. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(14/191)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {سُبُلًا} [طه: 53] أَيْ طُرُقًا "
(14/191)
 
 
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {سُبُلًا} [طه: 53] قَالَ: «طُرُقًا»
(14/191)
 
 
وَقَوْلُهُ {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 53] يَقُولُ: لِكَيْ تَهْتَدُوا بِهَذِهِ السُّبُلِ الَّتِي جَعَلَهَا [ص:192] لَكُمْ فِي الْأَرْضِ إِلَى الْأَمَاكِنِ الَّتِي تَقْصِدُونَ، وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي تُرِيدُونَ، فَلَا تَضِلُّوا وَتَتَحَيَّرُوا
(14/191)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَامَاتٍ، وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِالْعَلَامَاتِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهَا مَعَالِمُ الطُّرُقِ بِالنَّهَارِ
(14/192)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَعَلَامَاتٍ، وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] " يَعْنِي بِالْعَلَامَاتِ: مَعَالِمَ الطُّرُقِ بِالنَّهَارِ، وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ بِاللَّيْلِ ". وَقَالَ آخَرُونَ: عُنِيَ بِهَا النُّجُومُ
(14/192)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] قَالَ: «مِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَامَاتٍ، وَمِنْهَا مَا يَهْتَدُونَ بِهِ»
(14/192)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] قَالَ: «مِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَامَةً، وَمِنْهَا مَا يُهْتَدَى بِهِ» . [ص:193] حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: ثنا قَبِيصَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، مِثْلَهُ. قَالَ الْمُثَنَّى: قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، خَالَفَ قَبِيصَةُ وَكِيعًا فِي الْإِسْنَادِ
(14/192)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] " وَالْعَلَامَاتُ: النُّجُومُ، وَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثِ خَصْلَاتٍ: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءٍ، وَجَعَلَهَا يَهْتَدِي بِهَا، وَجَعَلَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، فَمَنْ تَعَاطَى فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ، فَقَدَ رَأْيَهُ، وَأَخْطَأَ حَظَّهُ، وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ "
(14/193)
 
 
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَعَلَامَاتٍ} [النحل: 16] قَالَ: «النُّجُومُ» . وَقَالَ آخَرُونَ: عُنِيَ بِهَا الْجِبَالُ
(14/193)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْكَلْبِيِّ: {وَعَلَامَاتٍ} [النحل: 16] قَالَ: «الْجِبَالُ» .
(14/193)
 
 
وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَدَّدَ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ نِعَمِهِ، إِنْعَامَهُ عَلَيْهِمْ بِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْعَلَامَاتِ الَّتِي يَهْتَدُونَ بِهَا فِي مَسَالِكِهِمْ وَطُرُقِهِمُ الَّتِي يَسِيرُونَهَا، وَلَمْ يُخَصِّصْ بِذَلِكَ بَعْضَ الْعَلَامَاتِ دُونَ بَعْضٍ، فَكُلُّ عَلَامَةٍ اسْتَدَلَّ بِهَا النَّاسُ عَلَى طُرُقِهِمْ وَفِجَاجِ سُبُلِهِمْ فَدَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَامَاتٍ} [النحل: 16] وَالطَّرْقُ الْمَسْبُولَةِ: الْمَوْطُوءَةِ، عَلَامَةٌ لِلنَّاحِيَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَالْجِبَالُ عَلَامَاتٍ يَهْتَدِي بِهِنَّ إِلَى قَصْدِ السَّبِيلِ، وَكَذَلِكَ النُّجُومُ بِاللَّيْلِ غَيْرَ أَنَّ الَّذِيَ هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنْ تَكُونَ الْعَلَامَاتُ مِنْ أَدِلَّةِ النَّهَارِ، إِذْ كَانَ اللَّهُ قَدْ فَصَلَ مِنْهَا أَدِلَّةَ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ أَشْبَهُ وَأَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْخَبَرِ الَّذِي رُوِّينَاهُ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْعَلَامَاتِ مَعَالِمُ الطُّرُقِ وَأَمَارَاتُهَا الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا إِلَى الْمُسْتَقِيمِ مِنْهَا نَهَارًا، وَأَنْ يَكُونَ النَّجْمُ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ لَيْلًا هُوَ الْجَدْيُ وَالْفَرْقَدَانِ، لِأَنَّ بِهَا اهْتَدَاءَ السَّفَرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ النُّجُومِ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: وَجَعَلَ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَامَاتٍ تَسْتَدِلُّونَ بِهَا نَهَارًا عَلَى طُرُقِكُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ، وَنُجُومًا تَهْتَدُونَ بِهَا لَيْلًا فِي سُبُلِكُمْ
(14/194)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ، أَفَلَا تَذَكَّرُونَ. وإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ هَذِهِ الْخَلَائِقَ الْعَجِيبَةَ الَّتِي عَدَدْنَاهَا عَلَيْكُمْ وَيُنْعِمَ عَلَيْكُمْ هَذِهِ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ، كَمَنْ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَلَا يُنْعِمُ عَلَيْكُمْ نِعْمَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً؟ يَقُولُ: أَتُشْرِكُونَ هَذَا فِي عِبَادَةِ هَذَا؟ يُعَرِّفُهُمْ بِذَلِكَ عِظَمِ جَهْلِهِمْ، وَسُوءِ نَظَرِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَقِلَّةِ شُكْرِهِمْ لِمَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ الَّتِي عَدَّدَهَا عَلَيْهِمُ، الَّتِي لَا يُحْصِيهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ، قَالَ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُوَبِّخُهُمْ
(14/194)
 
 
: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3] أَيُّهَا النَّاسُ، يَقُولُ: أَفَلَا تَذْكُرُونَ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَعَظِيمَ سُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى مَا شَاءَ، وَعَجْزِ أَوْثَانِكُمْ، وَضَعْفِهَا، وَمَهَانَتِهَا، وَأَنَّهَا لَا تَجْلِبُ إِلَى نَفْسِهَا نَفْعًا، وَلَا تَدْفَعُ عَنْهَا ضَرًّا، فَتَعْرِفُوا بِذَلِكَ خَطَأَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ عِبَادَتِكُمُوهَا، وَإِقْرَارِكُمْ لَهَا بِالْأُلُوهَةِ؟ كَمَا:
(14/195)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] وَاللَّهُ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ، وَهَذِهِ الْأَوْثَانُ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تُخْلَقُ وَلَا تَخْلُقُ شَيْئًا، وَلَا تَمْلِكُ لِأَهْلِهَا ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، قَالَ اللَّهُ: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] " وَقِيلَ: {كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النحل: 17] هُوَ الْوَثَنُ وَالصَّنَمُ، وَ «مَنْ» لِذَوِي التَّمْيِيزِ خَاصَّةً، فَجَعَلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِغَيْرِهِمْ لِلتَّمْيِيزِ، إِذْ وَقَعَ تَفْصِيلًا بَيْنَ مَنْ يَخْلُقُ وَمَنْ لَا يَخْلُقُ، وَمَحْكِيٌّ عَنِ الْعَرَبِ: اشْتَبَهَ عَلَيَّ الرَّاكِبُ وَجَمَلُهُ، فَمَا أَدْرِي مَنْ ذَا وَمَنْ ذَا، حَيْثُ جُمِعَا، وَأَحَدُهُمَا إِنْسَانٌ حَسُنَتْ «مَنْ» فِيهِمَا جَمِيعًا، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45]
(14/195)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] لَا تُطِيقُوا أَدَاءَ شُكْرِهَا. {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ لِمَا كَانَ مِنْكُمْ مِنْ تَقْصِيرٍ فِي شُكْرِ بَعْضِ ذَلِكَ إِذَا تُبْتُمْ وَأَنَبْتُمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَرْضَاتِهِ، [ص:196] رَحِيمٌ بِكُمْ أَنْ يُعَذِّبَكُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ وَالتَّوْبَةِ
(14/195)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ الَّذِي هُوَ إِلَهُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ ضَمَائِرِكُمْ، فَتُخْفُونَهُ عَنْ غَيْرِكُمْ، فَمَا تُبْدُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَجَوَارِحِكُمْ، وَمَا تُعْلِنُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَجَوَارِحِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ، وَهُوَ مَحْضُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَيْكُمْ، حَتَّى يُجَازِيَكُمْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمُحْسِنُ مِنْكُمْ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءُ مِنْكُمْ بِإِسَاءَتِهِ، وَمُسَائِلِكُمْ عَمَّا كَانَ مِنْكُمْ مِنَ الشُّكْرِ فِي الدُّنْيَا عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْكُمْ، فَمَا الَّتِي أَحْصَيْتُمْ وَالَّتِي لَمْ تُحْصُوا
(14/196)
 
 
وَقَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَوْثَانُكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيُّهَا النَّاسُ آلِهَةٌ لَا تَخْلُقُ شَيْئًا وَهِيَ تُخْلَقُ، فَكَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا مَا كَانَ مَصْنُوعًا مُدَبَّرًا لَا تَمْلِكُ لِأَنْفُسِهَا نَفْعًا وَلَا ضَرًّا؟
(14/196)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيُّهَا النَّاسُ {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل: 21] وَجَعَلَهَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ [ص:197] أَمْوَاتًا غَيْرَ أَحْيَاءٍ، إِذْ كَانَتْ لَا أَرْوَاحَ فِيهَا، كَمَا:
(14/196)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21] «وَهِيَ هَذِهِ الْأَوْثَانُ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ لَا أَرْوَاحَ فِيهَا، وَلَا تَمْلِكُ لِأَهْلِهَا ضَرًّا وَلَا نَفْعًا» . وَفِي رَفْعِ الْأَمْوَاتِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِلَّذِينَ، وَالْآخَرُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ
(14/197)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] يَقُولُ: وَمَا تَدْرِي أَصْنَامُكُمُ الَّتِي تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَتَى تُبْعَثُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ الْكُفَّارَ، أَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَتَى يُبْعَثُونَ
(14/197)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ، وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 22] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَعْبُودُكُمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْكُمُ الْعِبَادَةَ وَإِفْرَادَ الطَّاعَةِ لَهُ دُونَ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ مَعْبُودٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، فَأَفْرِدُوا لَهُ الطَّاعَةَ، وَأَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، وَلَا تَجْعَلُوا مَعَهُ شَرِيكًا سِوَاهُ {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} [النحل: 22] . يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَالَّذِينَ لَا يُصَدِّقُونَ بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ وَلَا يُقِرُّونَ بِالْمَعَادِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْمَمَاتِ {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} [النحل: 22] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مُسْتَنْكِرَةٌ لِمَا نَقُصُّ عَلَيْهِمْ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ وَجَمِيلِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ، وَالْأُلُوهَةُ لَيْسَتْ لِشَيْءٍ غَيْرِهِ، يَقُولُ: وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عَنْ إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْأُلُوهَةِ، وَالْإِقْرَارِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، اتِّبَاعًا مِنْهُمْ لِمَا مَضَى عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ أَسْلَافُهُمْ، كَمَا:
(14/197)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} [النحل: 22] لِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي مَضَى، وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عَنْهُ "
(14/197)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ. إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23] يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: لَا جَرَمَ حَقًّا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ إِنْكَارِهِمْ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَنْبَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَاعْتِقَادِهِمْ نَكِيرَ قَوْلِنَا لَهُمْ: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل: 22] ، وَاسْتِكْبَارُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَمَا يُعْلِنُونَ مِنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَفِرْيَتِهِمْ عَلَيْهِ {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23] يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَحِّدُوهُ، وَيَخْلَعُوا مَا دُونَهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ، كَمَا:
(14/198)
 
 
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: ثنا مِسْعَرٌ، عَنْ رَجُلٍ: أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ كَانَ يَجْلِسُ إِلَى الْمَسَاكِينِ، ثُمَّ يَقُولُ: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23] "
(14/198)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل: 24] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} [النحل: 24] أَيُّ شَيْءٍ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الَّذِي أَنْزَلَ مَا سَطَّرَهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ قَبْلِنَا مِنَ الْأَبَاطِيلِ. [ص:199] وَكَانَ ذَلِكَ كَمَا:
(14/198)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ، قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل: 24] يَقُولُ: " أَحَادِيثُ الْأَوَّلِينَ وَبَاطِلُهُمْ، قَالَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، كَانُوا يَقْعُدُونَ بِطَرِيقِ مَنْ أَتَى نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا مَرَّ بِهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا لَهُمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، يُرِيدُ: أَحَادِيثَ الْأَوَّلِينَ وَبَاطِلَهُمْ "
(14/199)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل: 24] يَقُولُ: أَحَادِيثُ الْأَوَّلِينَ "
(14/199)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ لِمَنْ سَأَلَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمُ: الَّذِي أَنْزَلَ رَبُّنَا فِيمَا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، لِتَكُونَ لَهُمْ ذُنُوبُهُمُ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا مُقِيمُونَ مِنْ تَكْذِيبِهِمُ اللَّهَ، وَكُفْرِهِمْ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ ذُنُوبِ الَّذِينَ يَصُدُّونَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ يَضِلُّونَ يُفْتَنُونَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَقَوْلُهُ: {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام: 31] يَقُولُ: أَلَا سَاءَ الْإِثْمُ الَّذِي يَأْثَمُونَ، وَالثِّقَلُ الَّذِي يَتَحَمَّلُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(14/199)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: " {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النحل: 25] وَمِنْ أَوْزَارِ مَنْ أَضَلُّوا احْتِمَالُهُمْ ذُنُوبَ أَنْفُسِهِمْ وَذُنُوبَ مَنْ أَطَاعَهُمْ، وَلَا يُخَفِّفُ ذَلِكَ عَمَّنْ أَطَاعَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ شَيْئًا ". حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثنا الْحَسَنُ قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ، قَالَ: وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ حَمْلُهُمْ ذُنُوبَ أَنْفُسِهِمْ، وَسَائِرَ الْحَدِيثِ مِثْلَهُ
(14/200)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ} [النحل: 25] كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ قَالَ: «حَمْلُهُمْ ذُنُوبَ أَنْفُسِهِمْ وَذُنُوبَ مَنْ أَطَاعَهُمْ، وَلَا يُخَفِّفُ ذَلِكَ عَمَّنْ أَطَاعَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ شَيْئًا» . حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ
(14/200)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النحل: 25] أَيْ ذُنُوبَهُمْ وَذُنُوبَ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام: 31] "
(14/201)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] يَقُولُ: " يَحْمِلُونَ ذُنُوبَهُمْ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] يَقُولُ: يَحْمِلُونَ مَعَ ذُنُوبِهِمُ ذُنُوبَ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ "
(14/201)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ أَوْزَارَ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ فَاتُّبِعَ، فَإِنَّ عَلَيْهِ مِثْلَ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ، وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ، فَلَهُ مِثْلَ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ»
(14/201)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ رَجُلٍ، قَالَ: قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ يَتَمَثَّلُ لِلْكَافِرِ عَمَلُهُ فِي صُورَةٍ أَقْبَحُ مَا خَلَقَ اللَّهُ وَجْهًا وَأَنْتَنُهُ رِيحًا، فَيَجْلِسُ إِلَى جَنْبِهِ، كُلَّمَا أَفْزَعَهُ شَيْءٌ زَادَهُ فَزَعًا، وَكُلَّمَا تَخَوَّفَ شَيْئًا زَادَهُ [ص:202] خَوْفًا، فَيَقُولُ: بِئْسَ الصَّاحِبُ أَنْتَ وَمَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: وَمَا تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ كَانَ قَبِيحًا فَلِذَلِكَ تَرَانِي قَبِيحًا، وَكَانَ مُنْتِنًا فَلِذَلِكَ تَرَانِي مُنْتِنًا، طَأْطِئْ إِلَيَّ أَرْكَبُكَ فَطَالَمَا رَكِبْتَنِي فِي الدُّنْيَا فَيَرْكَبُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النحل: 25] "
(14/201)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل: 26] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ أَرَادَ اتِّبَاعَ دِينِ اللَّهِ، فَرَامُوا مُغَالَبَةَ اللَّهِ بِبِنَاءٍ بَنَوْهُ، يُرِيدُونَ بِزَعْمِهِمُ الِارْتِفَاعُ إِلَى السَّمَاءِ لِحَرْبِ مَنْ فِيهَا وَكَانَ الَّذِي رَامَ ذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا جَبَّارٌ مِنْ جَبَابِرَةِ النِّبْطِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ نَمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ بُخْتُنْصُرُ، وَقَدْ ذُكِرَتُ بَعْضُ أَخْبَارِهِمَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ
(14/202)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: " أَمَرَ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ بِإِبْرَاهِيمَ فَأُخُرِجَ، يَعْنِي مِنْ مَدِينَتِهِ، قَالَ:
(14/202)
 
 
فَلَقِيَ لُوطًا عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ ابْنُ أَخِيهِ، فَدَعَاهُ فَآمَنَ بِهِ، وَقَالَ: إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي، وَحَلَفَ نَمْرُودُ أَنْ يَطْلُبَ إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ، فَأَخَذَ أَرْبَعَةَ أَفْرَاخٍ مِنْ فِرَاخِ النُّسُورِ، فَرَبَّاهُنَّ بِاللَّحْمِ وَالْخُبْزِ حَتَّى كَبِرْنَ وَغَلُظْنَ وَاسْتَعْلَجْنَ، فَرَبَطَهُنَّ فِي تَابُوتٍ، وَقَعَدَ فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ ثُمَّ رَفَعَ لَهُنَّ رِجْلًا مِنْ لَحْمٍ، فَطِرْنَ، حَتَّى إِذَا ذَهَبْنَ فِي السَّمَاءِ أَشْرَفَ يَنْظُرُ إِلَى الْأَرْضِ، فَرَأَى الْجِبَالَ تَدِبُّ كَدَبِيبِ النَّمْلِ ثُمَّ رَفَعَ لَهُنَّ اللَّحْمَ، ثُمَّ نَظَرَ فَرَأَى الْأَرْضَ مُحِيطًا بِهَا بَحْرٌ كَأَنَّهَا فَلْكَةٌ فِي مَاءٍ، ثُمَّ رُفِعَ طَوِيلًا فَوَقَعَ فِي ظُلْمَةٍ، فَلَمْ يَرَ مَا فَوْقَهُ وَمَا تَحْتَهُ، فَفَزِعَ، فَأَلْقَى اللَّحْمَ، فَاتَّبَعَتْهُ مُنْقَضَّاتٍ، فَلَمَّا نَظَرَتِ الْجِبَالُ إِلَيْهِنَّ، وَقَدْ أَقْبَلْنَ مُنْقَضَّاتٍ وَسَمِعَتْ حَفِيفَهُنَّ، فَزِعَتِ الْجِبَالُ، وَكَادَتْ أَنْ تَزُولَ مِنْ أَمْكِنَتِهَا وَلَمْ يَفْعَلْنَ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46] ، وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (وَإِنْ
(14/203)
 
 
كَادَ مَكْرُهُمْ) فَكَانَ طَيْرُورَتِهِنَّ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَوُقُوعِهِنَّ بِهِ فِي جَبَلِ الدُّخَانِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يُطِيقُ شَيْئًا أَخَذَ فِي بُنْيَانِ الصَّرْحِ، فَبَنَى حَتَّى إِذَا شَيَّدَهُ إِلَى السَّمَاءِ ارْتَقَى فَوْقَهُ يَنْظُرُ، يَزْعُمُ إِلَى إِلَهِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَحْدَثَ، وَلَمْ يَكُنْ يُحْدِثُ، وَأَخَذَ اللَّهُ بُنْيَانَهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل: 26] يَقُولُ: مِنْ مَأْمَنِهِمْ، وَأَخَذَهُمْ مِنْ أَسَاسِ الصَّرْحِ، فَتَنَقَّضَ بِهِمْ فَسَقَطَ فَتَبَلْبَلَتْ أَلْسُنُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْفَزَعِ، فَتَكَلَّمُوا بِثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ لِسَانًا، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بَابِلَ، وَإِنَّمَا كَانَ لِسَانُ النَّاسِ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ "
(14/204)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26] قَالَ: «هُوَ نَمْرُودُ حِينَ بَنَى الصَّرْحَ»
(14/204)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: " إِنَّ أَوَّلَ جَبَّارٍ كَانَ فِي الْأَرْضِ نَمْرُودُ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعُوضَةً فَدَخَلَتْ فِي مَنْخَرِهِ، فَمَكَثَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ يُضْرَبُ رَأْسُهُ بِالْمَطَارِقِ، أَرْحَمُ النَّاسِ بِهِ مَنْ جَمَعَ يَدَيْهِ [ص:205] فَضَرَبَ رَأْسَهُ بِهِمَا، وَكَانَ جَبَّارًا أَرْبَعَ مِائَةِ سَنَةٍ، فَعَذَّبَهُ اللَّهُ أَرْبَعَ مِائَةِ سَنَةٍ كَمُلْكِهِ، ثُمَّ أَمَاتَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بَنَى صَرْحًا إِلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ، فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] " وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: هَدَمَ اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنْ أَصْلِهِ وَالْقَوَاعِدُ: جَمْعُ قَاعِدَةٍ، وَهِيَ الْأَسَاسُ وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: هَذَا مَثَلٌ لِلِاسْتِئْصَالِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: إِنَّ اللَّهَ اسْتَأْصَلَهُمْ، وَقَالَ: الْعَرَبُ تَقُولُ ذَلِكَ إِذَا اسْتُؤْصِلَ الشَّيْءُ
(14/204)
 
 
وَقَوْلُهُ: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقَهُمْ} [النحل: 26] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ، أَعَالِي بُيُوتِهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ
(14/205)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26] إِيِ وَاللَّهِ، لَأَتَاهَا أَمْرُ اللَّهِ مِنْ أَصْلِهَا {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] وَالسَّقْفُ: أَعَالِي الْبُيُوتِ، فَائْتَفَكَتْ بِهِمْ بُيُوتُهُمْ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ وَدَمَّرَهُمْ، {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل: 26] "
(14/205)
 
 
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] قَالَ: «أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنْ أُصُولِهِ، فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ»
(14/206)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26] قَالَ: «مَكْرُ نَمْرُودُ بْنُ كَنْعَانَ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ» . حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ ". وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِقَوْلِهِ: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] أَنَّ الْعَذَابَ أَتَاهُمْ مِنَ السَّمَاءِ
(14/206)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] يَقُولُ: «عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ، لِمَا رَأَوْهُ اسْتَسْلَمُوا وَذَلُّوا» وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: تَسَاقَطَتْ عَلَيْهِمْ سُقُوفُ [ص:207] بُيُوتِهِمْ، إِذْ أَتَى أُصُولَهَا وَقَوَاعِدَهَا أَمْرُ اللَّهِ، فَائْتَفَكَتْ بِهِمْ مَنَازِلُهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْكَلَامُ الْمَعْرُوفُ مِنْ قَوَاعِدِ الْبُنْيَانِ وَخَرِّ السَّقْفِ، وَتَوْجِيهُ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ إِلَى الْأَشْهَرِ الْأَعْرَفِ مِنْهَا أَوْلَى مِنْ تَوْجِيهِهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَا وَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلٌ. {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل: 26] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَتَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَكَرُوا مِنْ قَبْلِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، عَذَابَ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرُونَ أَنَّهُ أَتَاهُمْ مِنْهُ
(14/206)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [النحل: 27] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَكَرُوا الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمْرَهُمْ مَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ لَهُمْ وَالِانْتِقَامِ بِكُفْرِهِمْ وَجُحُودِهِمْ وَحْدَانِيَّتَهُ، ثُمَّ هُوَ مَعَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُخْزِيهِمْ فَمُذِلُّهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، وَقَائِلٌ لَهُمْ عِنْدَ وَرُودِهِمْ عَلَيْهِ: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: 27] أَصْلُهُ: مِنْ شَاقَقْتُ فُلَانًا فَهُوَ يُشَاقُّنِي، وَذَلِكَ إِذَا فَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَقْرِيعًا لِلْمُشْرِكِينَ بِعِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ: أَيْنَ شُرَكَائِيَ؟ يَقُولُ: أَيْنَ الَّذِينَ كُنْتُمْ
(14/207)
 
 
تَزْعُمُونَ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ شُرَكَائِيَ الْيَوْمَ؟ مَا لَهُمْ لَا يَحْضُرُونَكُمْ فَيَدْفَعُوا عَنْكُمْ مَا أَنَا مُحِلُّ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَقَدْ كُنْتُمْ تعْبُدُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَتَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَالْوَلِيُّ يَنْصُرُ وَلِيَّهُ؟ وَكَانَتْ مَشَاقَّتُهُمُ اللَّهَ فِي أَوْثَانِهِمْ مُخَالَفَتُهُمْ إِيَّاهُ فِي عِبَادَتِهِمْ، كَمَا:
(14/208)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: 27] يَقُولُ: تُخَالِفُونِي " وَقَوْلُهُ: {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [النحل: 27] يَعْنِي: الذِّلَّةَ وَالْهَوَانَ، {وَالسَّوْءَ} [النحل: 27] يَعْنِي: عَذَابَ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ
(14/208)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 28] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسَّوْءَ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ فَجَحَدَ وَحْدَانِيَّتَهُ، {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [النحل: 28] يَقُولُ: الَّذِينَ تَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] يَعْنِي: وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ بِاللَّهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ مَنْ قُتِلَ مِنْ قُرَيْشٍ بِبَدْرٍ وَقَدْ أُخْرِجَ إِلَيْهَا كَرْهًا
(14/208)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: ثني سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: " كَانَ نَاسٌ بِمَكَّةَ أَقَرُّوا بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، فَأُخْرِجَ بِهِمْ كَرْهًا إِلَى بَدْرٍ، فَقُتِلَ بَعْضُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ [ص:209] فِيهِمْ: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 28] "
(14/208)
 
 
وَقَوْلُهُ: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} [النحل: 28] يَقُولُ: فَاسْتَسْلَمُوا لِأَمْرِهِ، وَانْقَادُوا لَهُ حِينَ عَايَنُوا الْمَوْتَ قَدْ نَزَلَ بِهِمْ {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} [النحل: 28] وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ اسْتُغْنِيَ بِفَهْمِ سَامِعِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَهُوَ: قَالُوا مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ يُخْبِرُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا وَقَالُوا: مَا كُنَّا نَعْصِيَ اللَّهَ اعْتِصَامًا مِنْهُمْ بِالْبَاطِلِ رَجَاءَ أَنْ يَنْجُوا بِذَلِكَ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ فَقَالَ: بَلْ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ السُّوءَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 28] يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ ذُو عِلْمٍ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَعَاصِيهِ، وَتَأْتُونَ فِيهَا مَا يُسْخِطُهُ
(14/209)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [النحل: 29] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، يَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الظَّلَمَةِ أَنْفُسِهِمْ حِينَ يَقُولُونَ لِرَبِّهِمْ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ، يَعْنِي: طَبَقَاتِ جَهَنَّمَ، {خَالِدِينَ فِيهَا} [البقرة: 162] يَعْنِي: مَاكِثِينَ فِيهَا، {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [النحل: 29] يَقُولُ: فَلَبِئْسَ مَنْزِلُ مَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ، وَلَمْ يُقِرَّ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَيُصَدِّقْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ {جَهَنَّمُ} [البقرة: 206]
(14/209)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ
(14/209)
 
 
الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقِيلَ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ إِيمَانٍ وَتَقْوَى للَّهِ: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ، قَالُوا خَيْرًا} [النحل: 30] يَقُولُ: قَالُوا: أَنْزَلَ خَيْرًا، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ يَقُولُ: إِنَّمَا اخْتَلَفَ الْإِعْرَابُ فِي قَوْلِهِ: {قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل: 24] وَقَوْلُهُ: {خَيْرًا} [البقرة: 158] وَالْمَسْأَلَةُ قَبْلَ الْجَوَابَيْنِ كِلَيْهِمَا وَاحِدَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} [النحل: 24] لِأَنَّ الْكُفَّارَ جَحَدُوا التَّنْزِيلَ، فَقَالُوا حِينَ سَمِعُوهُ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَلَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَصَدَّقُوا التَّنْزِيلَ، فَقَالُوا: خَيْرًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَنْزَلَ خَيْرًا، فَانْتَصَبَ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْخَيْرِ، فَلِهَذَا افْتَرَقَا، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخَبَرُ، فَقَالَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} [النحل: 30] وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ
(14/210)
 
 
وَقَوْلُهُ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} [النحل: 30] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَرَسُولِهِ، وَأَطَاعُوهُ فِيهَا، وَدَعَوْا عِبَادَ اللَّهِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ {حَسَنَةً} [البقرة: 201] يَقُولُ: كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ، {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} [يوسف: 109] يَقُولُ: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا، وَكَرَامَةُ اللَّهِ الَّتِي أَعَدَّهَا لَهُمْ فِيهَا أَعْظَمُ مِنْ كَرَامَتِهِ الَّتِي عَجَّلَهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30] يَقُولُ: وَلَنِعْمَ دَارُ الَّذِينَ خَافُوا اللَّهَ فِي الدُّنْيَا فَاتَّقَوْا عِقَابَهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَتَجَنُّبِ مَعَاصِيهِ، دَارُ الْآخِرَةِ. [ص:211] وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(14/210)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ، قَالُوا خَيْرًا، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} [النحل: 30] وَهَؤُلَاءِ مُؤْمِنُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} [النحل: 24] فَيَقُولُونَ {خَيْرًا، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} [النحل: 30] أَيْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَأَمَرُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَحَثُّوا أَهْلَ طَاعَةِ اللَّهِ عَلَى الْخَيْرِ وَدَعَوْهُمْ إِلَيْهِ "
(14/211)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} [التوبة: 72] بَسَاتِينُ لِلْمَقَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى عَدْنٍ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ {يَدْخُلُونَهَا} [الرعد: 23] يَقُولُ: يَدْخُلُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ وَفِي رَفْعِ «جَنَّاتُ» أَوْجُهٍ ثَلَاثٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْآخَرُ: بِالْعَائِدِ مِنَ الذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: «يَدْخُلُونَهَا» ، وَالثَّالِثُ: عَلَى أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِنِعْمَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِذَا جُعِلَتْ خَبَرًا لِنِعْمَ: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ، وَيَكُونُ «يَدْخُلُونَهَا» فِي مَوْضِعِ حَالٍ، كَمَا يُقَالُ: نِعْمَ الدَّارُ دَارٌ تَسْكُنُهَا أَنْتَ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ بِهَذَا [ص:212] التَّأْوِيلِ «يَدْخُلُونَهَا» مِنْ صِلَةِ «جَنَّاتُ عَدْنٍ»
(14/211)
 
 
وَقَوْلُهُ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25] يَقُولُ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} يَقُولُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ مَا يَشَاءُونَ مِمَّا تَشْتَهِي أَنْفُسُهُمْ وَتَلَذُّ أَعْيُنُهُمْ. {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 31] يَقُولُ: كَمَا يَجْزِي اللَّهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِمَا وَصَفَ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّهُ جَزَاهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَذَلِكَ يَجْزِي الَّذِينَ اتَّقَوْهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ
(14/212)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ، وَهُمْ طَيِّبُونَ بِتَطْيِيبِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِنَظَافَةِ الْإِيمَانِ، وَطُهْرِ الْإِسْلَامِ، فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ وَحَالِ مَمَاتِهِمْ، كَمَا:
(14/212)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثني عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32] قَالَ: «أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، قَدَّرَ [ص:213] اللَّهُ ذَلِكَ لَهُمْ» . حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
(14/212)
 
 
وَقَوْلُهُ: {يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [النحل: 32] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقْبِضُ أَرْوَاحَ هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ، وَهِيَ تَقُولُ لَهُمْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، صِيرُوا إِلَى الْجَنَّةِ، بِشَارَةً مِنَ اللَّهِ تُبَشِّرُهُمْ بِهَا الْمَلَائِكَةُ، كَمَا:
(14/213)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ، يَقُولُ: " إِذَا اسْتَنْقَعَتْ نَفْسُ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ جَاءَهُ مَلَكٌ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَلِيَّ اللَّهِ، اللَّهُ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، ثُمَّ نَزَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ "
(14/213)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 91] ، [ص:214] قَالَ: «الْمَلَائِكَةُ يَأْتُونَهُ بِالسَّلَامِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، وَتُخْبِرُهُ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ»
(14/213)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا الْأَشَبُّ أَبُو عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: قَوْلُهُ: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] ، قَالَ: «يُسَلِّمُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَوْتِ»
(14/214)
 
 
وَقَوْلُهُ: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105] يَقُولُ: بِمَا كُنْتُمْ تُصِيبُونَ فِي الدُّنْيَا أَيَّامَ حَيَاتِكُمْ فِيهَا طَاعَةَ اللَّهِ طَلَبَ مَرْضَاتِهِ
(14/214)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، أَوْ يَأْتِي أَمْرُ رَبِّكَ، كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 33] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لَقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ بِحَشْرِهِمْ لِمَوْقِفِ الْقِيَامَةِ {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل: 33] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: كَمَا يَفْعَلُ هَؤُلَاءِ مِنِ انْتِظَارِهِمْ مَلَائِكَةَ اللَّهِ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، أَوْ إِتْيَانِ أَمْرِ اللَّهِ فِعْلَ أَسْلَافِهِمْ مِنَ الْكَفَرَةِ بِاللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي كُلِّ مُشْرِكٍ بِاللَّهِ {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 117] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بِإِحْلَالِ سَخَطِهِ، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] بِمَعْصِيَتِهِمْ رَبَّهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِهِ، حَتَّى اسْتَحَقُّوا عِقَابَهُ، فَعَجَّلَ لَهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(14/214)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [الأنعام: 158] قَالَ: «بِالْمَوْتِ» ، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} [الأنفال: 50] ، وَهُوَ مَلَكُ الْمَوْتِ وَلَهُ رُسُلٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل: 33] ذَاكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "
(14/215)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [الأنعام: 158] يَقُولُ: «عِنْدَ الْمَوْتِ حِينَ تَتَوَفَّاهُمْ، أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(14/215)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا، وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَصَابَ هَؤلَاءِ الَّذِينَ فَعَلُوا مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فِعْلُ هَؤُلِاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا، يَعْنِي عُقُوبَاتِ ذُنُوبِهِمْ، وَنِقَمِ مَعَاصِيهِ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا، {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزمر: 48] يَقُولُ: وَحَلَّ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ مِنْهُ وَيَسْخَرُونَ عِنْدَ إِنْذَارِهِمْ ذَلِكَ رُسُلُ اللَّهِ، وَنَزَلَ ذَلِكَ بِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ
(14/215)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
(14/215)
 
 
عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [سورة: النحل، آية رقم: 35] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ فعَبَدُوا الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ مِنْ دُونِ اللَّهِ: مَا نَعْبُدُ هَذِهِ الْأَصْنَامَ إِلَّا لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ رَضِيَ عِبَادَتَنَا هَؤُلَاءِ، وَلَا نُحَرِّمُ مَا حَرَّمْنَا مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ شَاءَ مِنَّا وَمِنْ آبَائِنَا تَحْرِيمِنَاهَا وَرَضِيَهُ، لَوْلَا ذَلِكَ لَقَدْ غَيَّرَ ذَلِكَ بِبَعْضِ عُقُوبَاتِهِ، أَوْ بِهِدَايَتِهِ إِيَّانَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُشْرِكَةِ الَّذِينَ اسْتَنَّ هَؤُلَاءِ سُنَّتَهُمْ، فَقَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ، وَسَلَكُوا سَبِيلَهُمْ فِي تَكْذِيبِ رُسُلِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعِ أَفْعَالِ آبَائِهِمُ الضُّلَّالِ
(14/216)
 
 
وَقَوْلُهُ: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَهَلْ أَيُّهَا الْقَائِلُونَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا عَلَى رُسُلِنَا الَّذِينَ نُرْسِلُهُمْ بِإِنْذَارِكُمْ عُقُوبَتَنَا عَلَى كُفْرِكُمْ، إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، يَقُولُ: إِلَّا أَنْ تُبَلِّغَكُمْ مَا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الرِّسَالَةِ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ {الْمُبِينُ} [المائدة: 92] الَّذِي يُبِينُ عَنْ مَعْنَاهُ لِمَنْ أُبْلِغَهُ، وَيَفْهَمُهُ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ
(14/216)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثَنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ بَعَثَنَا أَيُّهَا النَّاسُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ سَلَفَتْ قَبْلَكُمْ رَسُولًا كَمَا بَعَثَنَا فِيكُمْ بِأَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَفْرِدُوا لَهُ الطَّاعَةَ وَأَخْلِصُوا لَهُ
(14/216)
 
 
الْعِبَادَةَ، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] يَقُولُ: وَابْعِدُوا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَاحْذَرُوا أَنْ يُغْوِيَكُمْ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَتَضِلُّوا {فَمِنْهُمْ مَنْ هُدَى اللَّهُ} [النحل: 36] يَقُولُ: فَمِمَّنْ بَعَثَنَا فِيهِمْ رُسُلَنَا مَنْ هَدَى اللَّهُ، فَوَفَّقَهُ لِتَصْدِيقِ رُسُلِهِ وَالْقَبُولِ مِنْهَا وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، فَفَازَ وَأَفْلَحَ وَنَجَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36] يَقُولُ: وَمِمَّنْ بَعَثْنَا رُسُلَنَا إِلَيْهِ مِنَ الْأُمَمِ آخَرُونَ حَقَّتْ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةَ، فَجَارُوا عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، فَكَفَرُوا بِاللَّهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا الطَّاغُوتَ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ
(14/217)
 
 
{فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ: إِنْ كُنْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ غَيْرَ مُصَدِّقِي رَسُولِنَا فِيمَا يُخْبِرُكُمْ بِهِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ الَّذِينَ حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ مِنْ بَأْسِنَا بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ الَّتِي كَانُوا يَسْكُنُونَهَا وَالْبِلَادِ الَّتِي كَانُوا يَعْمُرُونَهَا فَانْظُرُوا إِلَى آثَارِ اللَّهِ فِيهِمْ وَآثَارِ سَخَطِهِ النَّازِلِ بِهِمْ، كَيْفَ أَعْقَبَهُمْ تَكْذِيبَهُمْ رُسُلَ اللَّهِ مَا أَعْقَبَهُمْ فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ حَقِيقَةَ ذَلِكَ وَتَعْلَمُونَ بِهِ صِحَّةَ الْخَبَرِ الَّذِي يُخْبِرُكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(14/217)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ، وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [النحل: 37] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ تَحْرِصْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هُدَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
(14/217)
 
 
مَنْ يَضِلُّ} [النحل: 37] بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ «يَهْدِي» ، وَضَمِّهَا مِنْ «يُضِلُّ» ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ قَارِئُوهُ كَذَلِكَ، فَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَزْعُمُ أَنَّ مَعْنَاهُ: فَإِنَّ اللَّهَ مَنْ أَضَلَّهُ لَا يَهْتَدِي، وَقَالَ: الْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ هُدِيَ الرَّجُلُ يُرِيدُونَ قَدِ اهْتَدَى، وَهُدِيَ وَاهْتَدَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَكَانَ آخَرُونَ مِنْهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَعْنَاهُ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ أَضَلَّهُ، بِمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِيهِ وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ: (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُهْدَى) بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ «يُهْدَى» وَمِنْ «يُضِلُّ» وَفَتْحُ الدَّالِ مِنْ «يُهْدَى» بِمَعْنَى: مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ يَهْدِي بِمَعْنَى يُهْتَدَى قَلِيلٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ غَيْرُ مُسْتَفِيضٍ، وَأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِ قَائِلٍ: مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَلَا يَهْدِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجْهَلْهُ أَحَدٌ وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالْقِرَاءَةُ بِمَا كَانَ مُسْتَفِيضًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ اللُّغَةِ بِمَا فِيهِ الْفَائِدَةُ الْعَظِيمَةُ أَوْلَى وَأَحْرَى، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا: إِنْ تَحْرِصْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هُدَاهُمْ، فَإِنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، فَلَا تُجْهِدْ نَفْسَكَ فِي أَمْرِهِ، وَبَلِّغْهُ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ، لِتَتِمَّ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ
(14/218)
 
 
{وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 22] يَقُولُ: وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُهُمْ مِنَ اللَّهِ إِذَا أَرَادَ عُقُوبَتَهُمْ، فَيَحُولُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ مَا أَرَادَ مِنْ عُقُوبَتِهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ: {إِنْ تَحْرِصْ} [النحل: 37] لُغَتَانِ: فَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: حَرَصَ، يَحْرِصُ بِفَتْحِ الرَّاءِ فِي فَعَلَ وَكَسْرِهَا فِي يَفْعِلُ، وَحَرِصَ يَحْرِصُ بِكَسْرِ الرَّاءِ فِي فَعِلَ وَفَتْحِهَا فِي يَفْعَلُ، وَالْقِرَاءَةُ عَلَى الْفَتْحِ فِي الْمَاضِي وَالْكَسْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ
(14/219)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 38] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَحَلَفَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ حَلِفُهُمْ، لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَكَذَبُوا وَأَبْطَلُوا فِي أَيْمَانِهِمُ الَّتِي حَلَفُوا بِهَا كَذَلِكَ، بَلْ سَيَبْعَثُهُ اللَّهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَعْدًا عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَهُمْ وَعَدَ عِبَادَهُ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187] يَقُولُ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ قُرَيْشٍ لَا يَعْلَمُونَ وَعْدَ اللَّهِ عِبَادَهُ أَنَّهُ بَاعِثُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ أَحْيَاءً. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(14/219)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ [ص:220]: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ