تفسير الطبري جامع البيان ط هجر 010

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: تفسير الطبري = جامع البيان عن تأويل آي القرآن
المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} [التوبة: 57] الْمَلْجَأُ: الْحِرْزُ فِي الْجِبَالِ، وَالْمَغَارَاتُ: الْغِيرَانُ فِي الْجِبَالِ. وَقَوْلُهُ: {أَوْ مُدَّخَلًا} [التوبة: 57] وَالْمُدَّخَلُ: السَّرَبُ "
(11/504)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة: 57] مَلْجَأً، يَقُولُ: حِرْزًا {أَوْ مَغَارَاتٍ} [التوبة: 57] يَعْنِي الْغِيرَانَ. {أَوْ مُدَّخَلًا} [التوبة: 57] يَقُولُ: ذَهَابًا فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ النَّفَقُ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ السَّرَبُ "
(11/504)
 
 
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا} [التوبة: 57] قَالَ: حِرْزًا لَهُمْ يَفِرُّونَ إِلَيْهِ مِنْكُمْ "
(11/504)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: " {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا} [التوبة: 57] قَالَ: مَحْرِزًا لَهُمْ، لَفَرَّوْا إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} [التوبة: 57] حِرْزًا أَوْ مَغَارَاتٍ، قَالَ: الْغِيرَانُ. {أَوْ مُدَّخَلًا} [التوبة: 57] قَالَ: نَفَقًا فِي الْأَرْضِ "
(11/504)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا: يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ [ص:505] مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا} [التوبة: 57] يَقُولُ: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً: حُصُونًا {أَوْ مَغَارَاتٍ} [التوبة: 57] غِيرَانًا. {أَوْ مُدَّخَلًا} [التوبة: 57] أَسْرَابًا. {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة: 57] "
(11/504)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ {مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] يَقُولُ: يَعِيبُكَ فِي أَمْرِهَا وَيَطْعَنُ عَلَيْكَ فِيهَا، يُقَالُ مِنْهُ: لَمَزَ فُلَانًا يَلْمِزُهُ، وَيَلْمُزُهُ: إِذَا عَابَهُ وَقَرَصَهُ، وَكَذَلِكَ هَمَزَهُ. وَمِنْهُ قِيلَ: فُلَانٌ هُمَزَةٌ لُمَزَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ:
[البحر الرجز]
قَارَبْتُ بَيْنَ عَنَقِي وَجَمْزِي ... فِي ظِلِّ عَصْرَيْ بَاطِلِي وَلَمْزِي
وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
[البحر البسيط]
إِذَا لَقِيتُكَ تُبْدِي لِي مُكَاشَرَةً ... وَأَنْ أَغِيبَ فَأَنْتَ الْعَائِبُ اللُّمَزَهْ
(11/505)
 
 
{فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} [التوبة: 58] يَقُولُ: لَيْسَ بِهِمْ فِي عَيْبِهِمْ إِيَّاكَ فِيهَا وَطَعْنِهِمْ عَلَيْكَ بِسَبَبِهَا الدِّينُ، وَلَكِنِ الْغَضَبُ لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ أَنْتَ أَعْطَيْتَهُمْ مِنْهَا مَا يُرْضِيهِمْ رَضُوا عَنْكَ، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تُعْطِهِمْ مِنْهُمْ سَخِطُوا عَلَيْكَ وَعَابُوكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/506)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: " {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] قَالَ: يَرُوزُكَ "
(11/506)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: " {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] يَرُوزُكَ وَيَسْأَلُكَ "
(11/506)
 
 
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، قَالَ: قَالَ " أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَةٍ، فَقَسَمَهَا هَاهُنَا وَهَاهُنَا حَتَّى ذَهَبَتْ، قَالَ: وَرَآهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: مَا هَذَا بِالْعَدْلِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ "
(11/506)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] يَقُولُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْعَنُ عَلَيْكَ فِي الصَّدَقَاتِ. وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَدِيثَ عَهْدٍ بِأَعْرَابِيَّةٍ، أَتَى نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ ذَهَبًا وَفِضَّةً، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَعْدِلَ مَا عَدَلْتَ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «[ص:507] وَيْلَكَ فَمَنْ ذَا يَعْدِلُ عَلَيْكَ بَعْدِي؟» ثُمَّ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْذَرُوا هَذَا وَأَشْبَاهَهُ، فَإِنَّ فِي أُمَّتِي أَشْبَاهَ هَذَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، فَإِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ» . وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُعْطِيكُمْ شَيْئًا وَلَا أَمْنَعُكُمُوهُ إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ»
(11/506)
 
 
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] قَالَ: يَطْعَنُ "
(11/507)
 
 
قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ قَسْمًا؛ إِذْ جَاءَهُ ابْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ، فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ؟» فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ: " دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَيَنْظُرُ فِي قُذَذِهِ فَلَا يَنْظُرُ شَيْئًا، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي نَصْلِهِ فَلَا يَجِدُ شَيْئًا، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي رَصَافِهِ فَلَا يَجِدُ شَيْئًا، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى يَدَيْهِ أَوْ قَالَ: يَدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ النَّاسِ ". قَالَ: فَنَزَلَتْ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا مِنْ [ص:508] رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيًّا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ قَتَلَهُمْ جِيءَ بِالرَّجُلِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(11/507)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا يُعْطِيهَا مُحَمَّدٌ إِلَّا مَنْ أَحَبَّ وَلَا يُؤْثِرُ بِهَا إِلَّا هَوَاهُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَتْ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ لَيْسَ مِنْ مُحَمَّدٍ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الْآيَةَ "
(11/508)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ أَنَّ هَؤُلَاءَ الَّذِينَ يَلْمِزُونَكَ يَا مُحَمَّدُ فِي الصَّدَقَاتِ رَضُوا مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ عَطَاءٍ وَقَسْمٍ لَهُمْ مَنْ قَسَمَ {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [آل عمران: 173] يَقُولُ: وَقَالُوا: كَافِينَا اللَّهُ {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 59] يَقُولُ: سَيُعْطِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِ خَزَائِنِهِ وَرَسُولُهُ مِنَ الصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] يَقُولُ: وَقَالُوا: إِنَّا إِلَى اللَّهِ نَرْغَبُ فِي أَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلِهِ، فَيُغْنِيَنَا [ص:509] عَنِ الصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ صِلَاتِ النَّاسِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِمْ
(11/508)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَا تُنَالُ الصَّدَقَاتُ إِلَّا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمَنْ سَمَّاهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي صِفَةِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْفَقِيرُ: الْمُحْتَاجُ الْمُتَعَفِّفُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ. وَالْمِسْكِينُ: الْمُحْتَاجُ السَّائِلُ
(11/509)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] قَالَ: الْفَقِيرُ: الْجَالِسُ فِي بَيْتِهِ، وَالْمِسْكِينُ: الَّذِي يَسْعَى "
(11/509)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثنا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] قَالَ: الْمَسَاكِينُ: الطَّوَّافُونَ، وَالْفُقَرَاءُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ "
(11/509)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: ثني رَجُلٌ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْفُقَرَاءِ، قَالَ: " الْفُقَرَاءُ: الْمُتَعَفِّفُونَ، وَالْمَسَاكِينُ: الَّذِينَ يَسْأَلُونَ "
(11/510)
 
 
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] قَالَ: الَّذِينَ فِي بُيُوتِهِمْ لَا يَسْأَلُونَ، وَالْمَسَاكِينُ: الَّذِينَ يَخْرُجُونَ فَيَسْأَلُونَ "
(11/510)
 
 
حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: " الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَالْمِسْكِينُ: الَّذِي يَسْأَلُ "
(11/510)
 
 
قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] قَالَ: الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ وَهُمْ أَهْلُ حَاجَةٍ، وَالْمَسَاكِينُ: الَّذِينَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ "
(11/510)
 
 
حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: ثني عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: " الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ لَا يَسْأَلُونَ، وَالْمَسَاكِينُ: الَّذِينَ يَسْأَلُونَ " [ص:511] وَقَالَ آخَرُونَ: الْفَقِيرُ هُوَ ذُو الزَّمَانَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ. وَالْمِسْكِينُ: هُوَ الصَّحِيحُ الْجِسْمِ
(11/510)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] قَالَ: الْفَقِيرُ مَنْ بِهِ زَمَانَةٌ، وَالْمِسْكِينُ: الصَّحِيحُ الْمُحْتَاجُ "
(11/511)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] أَمَّا الْفَقِيرُ: فَالزِّمِنُ الَّذِي بِهِ زَمَانَةٌ، وَأَمَّا الْمِسْكِينُ: فَهُوَ الَّذِي لَيْسَتْ بِهِ زَمَانَةٌ " وَقَالَ آخَرُونَ: الْفُقَرَاءُ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ. وَالْمَسَاكِينُ: مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ
(11/511)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] قَالَ: فُقَرَاءُ [ص:512] الْمُهَاجِرِينَ، وَالْمَسَاكِينُ: الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا "
(11/511)
 
 
قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الْمُهَاجِرِينَ، قَالَ: سُفْيَانُ: يَعْنِي: وَلَا يُعْطِي الْأَعْرَابَ مِنْهَا شَيْئًا "
(11/512)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: كَانَ يُقَالُ: «إِنَّمَا الصَّدَقَةُ لِفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ»
(11/512)
 
 
قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: «كَانَتْ تُجْعَلُ الصَّدَقَةُ فِي فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى»
(11/512)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، قَالَا: «كَانَ نَاسٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لِأَحَدِهِمُ الدَّارُ وَالزَّوْجَةُ وَالْعَبْدُ وَالنَّاقَةُ يَحُجُّ عَلَيْهَا وَيَغْزُو، فَنَسَبَهُمُ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُمْ فُقَرَاءُ، وَجَعَلَ لَهُمْ سَهْمًا فِي الزَّكَاةِ»
(11/512)
 
 
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، [ص:513] عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: " كَانَ يُقَالُ: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ فِي فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ " وَقَالَ آخَرُونَ: الْمِسْكِينُ: الضَّعِيفُ الْكَسْبِ
(11/512)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: " لَيْسَ الْفَقِيرُ بِالَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَلَكِنَّ الْفَقِيرَ الْأَخْلَقُ الْكَسْبِ. قَالَ يَعْقُوبُ، قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: الْأَخْلَقُ: الْمُحَارَفُ عِنْدَنَا "
(11/513)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَحِمَهُ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الْأَخْلَقُ الْكَسْبِ» وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْفَقِيرُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمِسْكِينُ أَهْلُ الْكِتَابِ
(11/513)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ [ص:514] عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] قَالَ: لَا تَقُولُوا لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَسَاكِينُ، إِنَّمَا الْمَسَاكِينُ مَسَاكِينُ أَهْلِ الْكِتَابِ " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْفَقِيرُ: هُوَ ذُو الْفَقْرِ أَوِ الْحَاجَةِ وَمَعَ حَاجَتِهِ يَتَعَفَّفُ عَنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ وَالتَّذَلُّلِ لَهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْمِسْكِينُ: هُوَ الْمُحْتَاجُ الْمُتَذَلِّلُ لِلنَّاسِ بِمَسْأَلَتِهِمْ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْفَرِيقَانِ لَمْ يُعْطَيَا إِلَّا بِالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ دُونَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ؛ لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمِسْكِينَ إِنَّمَا يُعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ بِالْفَقْرِ، وَأَنَّ مَعْنَى الْمَسْكَنَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ: الذِّلَّةُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61] يَعْنِي بِذَلِكَ الْهُونَ وَالذِّلَّةَ لَا الْفَقْرَ. فَإِذَا كَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ صَنَّفَ مَنْ قَسَمَ لَهُ مِنَ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ قَسْمًا بِالْفَقْرِ فَجَعَلَهُمْ صِنْفَيْنِ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ غَيْرُ الْآخَرِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْسُومَ لَهُ بِاسْمِ الْفَقِيرِ غَيْرُ [ص:515] الْمَقْسُومِ لَهُ بِاسْمِ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَالْفَقِيرُ الْمُعْطَى ذَلِكَ بِاسْمِ الْفَقِيرِ الْمُطْلَقِ هُوَ الَّذِي لَا مَسْكَنَةَ فِيهِ، وَالْمُعْطَى بِاسْمِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ هُوَ الْجَامِعُ إِلَى فَقْرِهِ الْمَسْكَنَةَ، وَهِيَ الذُّلُّ بِالطَّلَبِ وَالْمَسْأَلَةِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ الْمُتَعَفِّفِ مِنْهُمُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَالْمُتَذَلِّلِ مِنْهُمُ الَّذِي يَسْأَلُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ خَبَرٌ
(11/513)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] " وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ» عَلَى نَحْوِ مَا قَدْ جَرَى بِهِ اسْتِعْمَالُ النَّاسِ مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ أَهْلَ الْفَقْرِ مَسَاكِينَ، لَا عَلَى تَفْصِيلِ الْمِسْكِينِ مِنَ الْفَقِيرِ. [ص:516] وَمِمَّا يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، انْتِزَاعُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ اللَّهِ: " اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] وَذَلِكَ فِي صِفَةِ مَنِ ابْتَدَأَ اللَّهُ ذِكْرَهُ وَوَصَفَهُ بِالْفَقْرِ، فَقَالَ {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]
(11/515)
 
 
وَقَوْلُهُ: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] وَهُمُ السُّعَاةُ فِي قَبْضِهَا مِنْ أَهْلِهَا، وَوَضْعِهَا فِي مُسْتَحِقِّيهَا يُعْطُونَ ذَلِكَ بِالسَّعَايَةِ، أَغْنِيَاءَ كَانُوا أَوْ فُقَرَاءَ. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/516)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنِ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا فَقَالَ: «السُّعَاةُ»
(11/516)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] قَالَ: جُبَاتُهَا الَّذِينَ يَجْمَعُونَهَا، وَيَسْعَوْنَ فِيهَا "
(11/516)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: " {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] الَّذِي يَعْمَلُ عَلَيْهَا " [ص:517] ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَدْرِ مَا يُعْطَى الْعَامِلُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْطَى مِنْهُ الثُّمُنَ
(11/516)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: «لِلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا الثُّمُنُ مِنَ الصَّدَقَةِ»
(11/517)
 
 
حُدِّثْتُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] قَالَ: يَأْكُلُ الْعُمَّالُ مِنَ السَّهْمِ الثَّامِنِ " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يُعْطَى عَلَى قَدْرِ عُمَالَتِهِ
(11/517)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنِ الْأَخْضَرِ بْنِ عَجْلَانَ، قَالَ: ثنا عَطَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ الْعَامِرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ لَقِيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَسَأَلَهُ عَنِ الصَّدَقَةِ: أَيُّ مَالٍ هِيَ؟ فَقَالَ: " مَالُ الْعُرْجَانِ وَالْعُورَانِ وَالْعُمْيَانِ وَكُلِّ مُنْقَطِعٍ بِهِ. فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِلْعَامِلِينَ حَقًّا وَالْمُجَاهِدِينَ. قَالَ: إِنَّ [ص:518] الْمُجَاهِدِينَ قَوْمٌ أُحِلَّ لَهُمْ وَلِلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا عَلَى قَدْرِ عُمَالَتِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ "
(11/517)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: «يَكُونُ لِلْعَامِلِ عَلَيْهَا إِنْ عَمِلَ بِالْحَقِّ. وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا أُولَئِكَ يُعْطُونَ الْعَامِلَ الثُّمُنَ، إِنَّمَا يَفْرِضُونَ لَهُ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ»
(11/518)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ: " {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] قَالَ: كَانَ يُعْطَى الْعَامِلُونَ " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: يُعْطَى الْعَامِلُ عَلَيْهَا عَلَى قَدْرِ عُمَالَتِهِ أَجْرَ مِثْلِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَقْسِمْ صَدَقَةَ الْأَمْوَالِ بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ، وَإِنَّمَا عَرَّفَ خَلْقَهُ أَنَّ الصَّدَقَاتِ لَنْ تُجَاوِزَ
(11/518)
 
 
هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ بِمَا سَنُوَضِّحُ بَعْدُ وَبِمَا قَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ مَنْ أُعْطِيَ مِنْهَا حَقًّا، فَإِنَّمَا يُعْطَى عَلَى قَدْرِ اجْتِهَادِ الْمُعْطِي فِيهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْعَامِلُ عَلَيْهَا إِنَّمَا يُعْطَى عَلَى عَمَلِهِ لَا عَلَى الْحَاجَةِ الَّتِي تَزُولُ بِالْعَطِيَّةِ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الَّذِي أَعْطَاهُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عُوَضٌ مِنْ سَعْيِهِ وَعَمَلِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ قَدْرٌ يَسْتَحِقُّهُ عِوَضًا مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي لَا يَزُولُ بِالْعَطِيَّةِ وَإِنَّمَا يَزُولُ بِالْعَزْلِ. وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ كَانُوا يُتَأَلَّفُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِمَّنْ لَمْ تَصِحَّ نُصْرَتُهُ اسْتِصْلَاحًا بِهِ نَفْسَهُ وَعَشِيرَتَهُ، كَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَنُظَرَائِهِمْ مِنْ رُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/519)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] وَهُمْ قَوْمٌ كَانُوا يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ أَسْلَمُوا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْضَخُ لَهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَإِذَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ فَأَصَابُوا مِنْهَا خَيْرًا قَالُوا: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ، عَابُوهُ وَتَرَكُوهُ "
(11/519)
 
 
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: " أَنَّ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَرْبُوعٍ، وَمَنْ بَنِي جُمَحٍ: صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ: سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى: حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَمِنْ بَنِي هَاشِمٍ: سُفْيَانُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَمِنْ بَنِي فَزَارَةَ: عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ بَدْرٍ، وَمِنْ بَنِي تَمِيمٍ: الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَمِنْ بَنِي نَصْرٍ: مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، وَمِنْ بَنِي سُلَيْمٍ: الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ، وَمِنْ ثَقِيفٍ: الْعَلَاءُ بْنُ حَارِثَةَ. أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مِائَةَ نَاقَةٍ، إِلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَرْبُوعٍ وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى، فَإِنَّهُ أَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ خَمْسِينَ "
(11/520)
 
 
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: «لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ»
(11/520)
 
 
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «نَاسٌ كَانَ يَتَأَلَّفُهُمْ بِالْعَطِيَّةِ، عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ وَمَنْ كَانَ [ص:521] مَعَهُ»
(11/520)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ: " {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] الَّذِينَ يُؤَلَّفُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ "
(11/521)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: «وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، فَأُنَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَلَّفُهُمْ بِالْعَطِيَّةِ كَيْمَا يُؤْمِنُوا»
(11/521)
 
 
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ: " {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] فَقَالَ: مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ. قُلْتُ: وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا "
(11/521)
 
 
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَرَّانِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: " {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] قَالَ: مَنْ هُوَ يَهُودِيُّ أَوْ نَصْرَانِيُّ " ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي وُجُودِ الْمُؤَلَّفَةِ الْيَوْمَ وَعَدَمِهَا، وَهَلْ يُعْطَى الْيَوْمَ أُحُدٌ عَلَى التَّأَلُّفِ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنَ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ بَطُلَتِ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمُ الْيَوْمَ، وَلَا [ص:522] سَهْمَ لِأَحَدٍ فِي الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ إِلَّا لِذِي حَاجَةٍ إِلَيْهَا وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا
(11/521)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ: " {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] قَالَ: أَمَا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَلَيْسَ الْيَوْمَ "
(11/522)
 
 
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: «لَمْ يَبْقَ فِي النَّاسِ الْيَوْمَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، إِنَّمَا كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
(11/522)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى، عَنْ حِبَّانَ بْنِ أَبِي جَبَلَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، " وَأَتَاهُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] أَيْ لَيْسَ الْيَوْمَ مُؤَلَّفَةٌ "
(11/522)
 
 
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا مُبَارَكٌ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: «لَيْسَ الْيَوْمَ مُؤَلَّفَةٌ»
(11/522)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: «إِنَّمَا كَانَتِ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا وُلِّيَ أَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ انْقَطَعَتِ الرُّشَى» [ص:523] وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَحَقُّهُمْ فِي الصَّدَقَاتِ
(11/522)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: «فِي النَّاسِ الْيَوْمَ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ» . حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الصَّدَقَةَ فِي مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا سَدُّ خَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْآخَرُ مَعُونَةُ الْإِسْلَامِ وَتَقْوِيَتُهُ، فَمَا كَانَ فِي مَعُونَةِ الْإِسْلَامِ وَتَقْوِيَةِ أَسْبَابِهِ فَإِنَّهُ يُعْطَاهُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْطَاهُ مَنْ يُعْطَاهُ بِالْحَاجَةِ مِنْهُ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا يُعْطَاهُ مَعُونَةً لِلدِّينِ، وَذَلِكَ كَمَا يُعْطَى الَّذِي يُعْطَاهُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُعْطَى ذَلِكَ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا لِلْغَزْوِ لَا لِسَدِّ خُلَّتِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ يُعْطُونَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، اسْتِصْلَاحًا بِإِعْطَائِهِمُوهُ أَمْرَ الْإِسْلَامِ وَطَلَبَ تَقْوِيَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ. وَقَدْ أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَعْطَى مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، بَعْدَ أَنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ وَفَشَا الْإِسْلَامُ وَعَزَّ أَهْلُهُ، فَلَا حُجَّةَ لِمُحْتَجٍّ بِأَنْ يَقُولَ: لَا يُتَأَلَّفُ الْيَوْمَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَحَدٌ لِامْتِنَاعِ أَهْلِهِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ مِمَّنْ أَرَادَهُمْ وَقَدْ أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَعْطَى مِنْهُمْ فِي الْحَالِ الَّتِي وَصَفْتُ
(11/523)
 
 
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ: هُمُ الْمُكَاتَبُونَ، يُعْطَوْنَ مِنْهَا فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ
(11/523)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ: أَنَّ مُكَاتَبًا قَامَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ لَهُ: " أَيُّهَا الْأَمِيرُ حُثَّ النَّاسَ عَلَيَّ، فَحَثَّ عَلَيْهِ أَبُو مُوسَى، فَأَلْقَى النَّاسُ عَلَيْهِ عِمَامَةً وَمُلَاءَةً وَخَاتَمًا، حَتَّى أَلْقَوْا سَوَادًا كَثِيرًا. فَلَمَّا رَأَى أَبُو مُوسَى مَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ، قَالَ: اجْمَعُوهُ، فَجُمِعَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَبِيعَ، فَأَعْطَى الْمُكَاتَبَ مُكَاتَبَتَهُ، ثُمَّ أَعْطَى الْفَضْلَ فِي الرِّقَابِ وَلَمْ يَرُدَّهُ عَلَى النَّاسِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَعْطَى النَّاسُ فِي الرِّقَابِ "
(11/524)
 
 
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] قَالَ: «الْمُكَاتَبُونَ»
(11/524)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] قَالَ: الْمُكَاتَبُ "
(11/524)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الْحَسَنِ: " {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] قَالَ: هُمُ الْمُكَاتَبُونَ " وَرُوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تُعْتَقَ الرَّقَبَةُ مِنَ الزَّكَاةِ. [ص:525] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِالرِّقَابِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْمُكَاتَبُونَ؛ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الزَّكَاةَ حَقًّا وَاجِبًا عَلَى مَنْ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ يُخْرِجُهَا مِنْهُ، لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْهَا نَفْعٌ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا وَلَا عِوَضٌ، وَالْمُعْتِقُ رَقَبَةً مِنْهَا رَاجِعٌ إِلَيْهِ وَلَاءُ مَنْ أَعْتَقَهُ، وَذَلِكَ نَفْعٌ يَعُودُ إِلَيْهِ مِنْهَا. وَأَمَّا الْغَارِمُونَ: فَالَّذِينَ اسْتَدَانُوا فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا قَضَاءً فِي عَيْنٍ وَلَا عَرَضٍ. وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/524)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: " الْغَارِمُونَ: مَنِ احْتَرَقَ بَيْتُهُ، أَوْ يُصِيبُهُ السَّيْلُ فَيَذْهَبُ مَتَاعُهُ، وَيُدَانُ عَلَى عِيَالِهِ، فَهَذَا مِنَ الْغَارِمِينَ "
(11/525)
 
 
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] قَالَ: مَنِ احْتَرَقَ بَيْتُهُ، وَذَهَبَ السَّيْلُ بِمَالِهِ، وَأَدَانَ عَلَى عِيَالِهِ "
(11/525)
 
 
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: " الْغَارِمِينَ: الْمُسْتَدِينُ فِي غَيْرِ سَرَفٍ، يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْضِيَ عَنْهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ "
(11/526)
 
 
قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْنَا الزُّهْرِيَّ عَنِ الْغَارِمِينَ، قَالَ: «أَصْحَابُ الدَّيْنِ»
(11/526)
 
 
قَالَ: ثنا مَعْقِلٌ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: ثني خَادِمٌ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ خَدَمَهُ عِشْرِينَ سَنَةً، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ «أَنْ يُعْطَى الْغَارِمُونَ» قَالَ أَحْمَدُ: أَكْثَرَ ظَنِّي مِنَ الصَّدَقَاتِ
(11/526)
 
 
قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: " الْغَارِمُونَ: الْمُسْتَدِينُ فِي غَيْرِ سَرَفٍ "
(11/526)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " أَمَّا الْغَارِمُونَ: فَقَوْمٌ غَرَّقَتْهُمُ الدُّيُونُ، فِي غَيْرِ إِمْلَاقٍ وَلَا تَبْذِيرٍ وَلَا فَسَادٍ "
(11/526)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: " الْغَارِمُ: الَّذِي يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْغُرْمُ "
(11/526)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] قَالَ: هُوَ الَّذِي يَذْهَبُ السَّيْلُ وَالْحَرِيقُ بِمَالِهِ، وَيُدَانُ عَلَى عِيَالِهِ "
(11/527)
 
 
قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: «الْمُسْتَدِينُ فِي غَيْرِ فَسَادٍ»
(11/527)
 
 
قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: " الْغَارِمُونَ: الَّذِينَ يَسْتَدِينُونَ فِي غَيْرِ فَسَادٍ، يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْضِيَ عَنْهُمْ "
(11/527)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: «هُمْ قَوْمٌ رَكَبَتْهُمُ الدُّيُونُ فِي غَيْرِ فَسَادٍ وَلَا تَبْذِيرٍ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سَهْمًا»
(11/527)
 
 
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَفِي النَّفَقَةِ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ وَطَرِيقِهِ وَشَرِيعَتِهِ الَّتِي شَرَعَهَا لِعِبَادِهِ بِقِتَالِ أَعْدَائِهِ، وَذَلِكَ هُوَ غَزْوُ الْكُفَّارِ. وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/527)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَفِي [ص:528] سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] قَالَ: الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ "
(11/527)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: رَجُلٍ عَمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ ابْنِ السَّبِيلِ، أَوْ رَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَأَهْدَاهَا لَهُ "
(11/528)
 
 
قَالَ: ثنا أَبِي، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ ابْنِ السَّبِيلِ، أَوْ رَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَأَهْدَاهَا لَهُ "
(11/528)
 
 
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 177] فَالْمُسَافِرُ الَّذِي يَجْتَازُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ، وَقِيلَ لِلضَّارِبِ فِيهِ ابْنُ السَّبِيلِ لِلُزُومِهِ إِيَّاهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الوافر]
أَنَا ابْنُ الْحَرْبِ رَبَّتْنِي وَلِيدًا ... إِلَى أَنْ شِبْتُ وَاكْتَهَلَتْ لِدَاتِي
وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ، تُسَمِّي اللَّازِمَ لِلشَّيْءِ يُعْرَفُ بِابْنِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/529)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: " ابْنُ السَّبِيلِ: الْمُجْتَازُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ "
(11/529)
 
 
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا مِنْدَلٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] قَالَ: لِابْنِ السَّبِيلِ حَقٌّ مِنَ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا إِذَا كَانَ مُنْقَطِعًا بِهِ "
(11/529)
 
 
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ، عَنِ ابْنِ السَّبِيلِ، قَالَ: «يَأْتِي عَلَيَّ ابْنُ السَّبِيلِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ» قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ غَنِيًّا؟ قَالَ: «وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا»
(11/530)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] الضَّيْفُ جُعِلَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ "
(11/530)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ: «ابْنُ السَّبِيلِ الْمُسَافِرُ مَنْ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا إِذَا أُصِيبَتْ نَفَقَتُهُ، أَوْ فُقِدَتْ، أَوْ أَصَابَهَا شَيْءٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ، فَحَقُّهُ وَاجِبٌ»
(11/530)
 
 
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، أَنَّهُ قَالَ فِي " الْغَنِيِّ إِذَا سَافَرَ فَاحْتَاجَ فِي سَفَرِهِ، قَالَ: يَأْخُذُ مِنَ الزَّكَاةِ "
(11/530)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: " ابْنُ السَّبِيلِ: الْمُجْتَازُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى الْأَرْضِ "
(11/530)
 
 
وَقَوْلُهُ: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 11] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قَسَمٌ قَسَمَهُ اللَّهُ لَهُمْ، فَأَوْجَبَهُ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الْأَمْوَالِ لَهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ فِيمَا فَرَضَ لَهُمْ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. فَعَلَى عِلْمٍ مِنْهُ فَرَضَ مَا فَرَضَ مِنَ الصَّدَقَةِ وَبِمَا فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ، حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقَهُ، لَا يَدْخُلُ فِي تَدْبِيرِهِ خَلَلٌ.
(11/530)
 
 
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي كَيْفِيَّةِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَلْ يَجِبُ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فِيهَا حَقٌّ أَوْ ذَلِكَ إِلَى رَبِّ الْمَالِ، وَمَنْ يَتَوَلَّى قَسْمَهَا فِي أَنَّ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ جَمِيعَ ذَلِكَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ؟ فَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لِلْمُتَوَلِّي قَسْمُهَا وَوَضْعُهَا فِي أَيِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ، وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ فِي الْآيَةِ إِعْلَامًا مِنْهُ خَلْقَهُ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ إِلَى غَيْرِهَا، لَا إِيجَابًا لِقَسْمِهَا بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى
(11/531)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا هَارُونُ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] قَالَ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ، أَوْ صِنْفَيْنٍ، أَوْ لِثَلَاثَةٍ "
(11/531)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: «إِذَا وَضَعْتَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَ عَنْكَ»
(11/531)
 
 
قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُمَرَ: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] قَالَ: أَيُّمَا صِنْفٍ أَعْطَيْتَهُ مِنْ هَذَا أَجْزَأَكَ "
(11/532)
 
 
قَالَ: ثنا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ عَطَاءٍ: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الْآيَةَ، قَالَ: لَوْ وَضَعْتَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَجْزَأَكَ، وَلَوْ نَظَرْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فُقَرَاءَ مُتَعَفِّفِينَ فَجَبَرْتَهُمْ بِهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ "
(11/532)
 
 
قَالَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] . . . . . {وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] فَأَيُّ صِنْفٍ أَعْطَيْتَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَجْزَأَكَ ". قَالَ: ثنا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، [ص:533] مِثْلَهُ
(11/532)
 
 
قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] قَالَ: إِنَّمَا هَذَا شَيْءٌ أَعْلَمَهُ، فَأَيُّ صِنْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَعْطَيْتَهُ أَجْزَأَ عَنْكَ "
(11/533)
 
 
قَالَ: ثنا أَبِي عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] قَالَ: فِي أَيِّ هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَضَعْتَهَا أَجْزَأَكَ "
(11/533)
 
 
قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: «إِذَا وَضَعْتَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِمَّا سَمَّى اللَّهُ أَجْزَأَكَ»
(11/533)
 
 
قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: «إِذَا وَضَعْتَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِمَّا سَمَّى اللَّهُ أَجْزَأَكَ»
(11/533)
 
 
قَالَ: ثنا خَالِدُ بْنُ حَيَّانَ أَبُو يَزِيدَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] قَالَ: إِذَا جَعَلْتَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَجْزَأَ عَنْكَ "
(11/533)
 
 
قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ مَسْعُودٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الْآيَةَ، قَالَ: أَعْلَمَ أَهْلُهَا مَنْ هُمْ "
(11/534)
 
 
قَالَ: ثنا حَفْصٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُمَرَ: «أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْفَرْضَ فِي الصَّدَقَةِ، وَيَجْعَلُهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ» وَكَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُ: إِذَا تَوَلَّى رَبُّ الْمَالِ قَسَمَهَا كَانَ عَلَيْهِ وَضْعُهَا فِي سِتَّةِ أَصْنَافٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ عِنْدَهُ قَدْ ذَهَبُوا، وَأَنَّ سَهْمَ الْعَامِلِينَ يُبْطِلُ بِقَسْمِهِ إِيَّاهَا، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ. وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ تَوَلَّى قَسْمَهَا الْإِمَامُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَهَا عَلَى سَبْعَةِ أَصْنَافٍ، لَا يَجْزِي عِنْدَهُ غَيْرُ ذَلِكَ
(11/534)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُُ لِّلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ جَمَاعَةٌ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعِيبُونَهُ، وَيَقُولُونَ: هُوَ أُذُنٌ سَامِعَةٌ، يَسْمَعُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ مَا يَقُولُ فَيَقْبَلُهُ
(11/534)
 
 
وَيُصَدِّقُهُ. وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَجُلٌ أَذَنَةٌ مِثْلُ فَعَلَةٍ: إِذَا كَانَ يُسْرِعُ الِاسْتِمَاعَ وَالْقَبُولَ، كَمَا يُقَالُ: هُوَ يَقَنٌ وَيَقِنٌ: إِذَا كَانَ ذَا يَقِينٍ بِكُلِّ مَا حَدَثَ. وَأَصْلُهُ مِنْ أَذِنَ لَهُ يَأْذَنُ: إِذَا اسْتَمَعَ لَهُ، وَمِنْهُ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَأَذَنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:
[البحر الرمل]
أَيُّهَا الْقَلْبُ تَعَلَّلْ بِدَدَنْ ... إِنَّ هَمِّي فِي سَمَاعٍ وَأَذَنْ
وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي نَبْتَلِ بْنِ الْحَارِثِ
(11/535)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: " ذَكَرَ اللَّهُ عَيْبَهُمْ، يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ وَأَذَاهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61] الْآيَةَ، وَكَانَ الَّذِي يَقُولُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ فِيمَا بَلَغَنِي نَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ، مَنْ حَدَّثَهُ شَيْئًا صَدَّقَهُ، يَقُولُ اللَّهُ: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة: 61] أَيْ
(11/535)
 
 
يَسْتَمِعُ الْخَبَرَ وَيُصَدِّقُ بِهِ " وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة: 61] فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة: 61] بِإِضَافَةِ الْأُذُنِ إِلَى الْخَيْرِ، يَعْنِي: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ لَا أُذُنُ شَرٍّ. وَذُكِرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ: (قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ) بِتَنْوِينِ أُذُنٌ، وَيَصِيرُ خَيْرٌ خَبَرًا لَهُ، بِمَعْنَى: قُلْ مَنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ مَا تَقُولُونَ وَيُصَدِّقُكُمْ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ كَمَا وَصَفْتُمُوهُ مَنْ أَنْكَرَ إِذَا آذَيْتُمُوهُ فَأَنْكَرْتُمْ مَا ذُكِرَ لَهُ عَنْكُمْ مِنْ أَذَاكُمْ إِيَّاهُ وَعَيْبِكُمْ لَهُ سَمِعَ مِنْكُمْ وَصَدَّقَكُمْ، خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ يُكَذِّبَكُمْ وَلَا يَقْبَلَ مِنْكُمْ مَا تَقُولُونَ. ثُمَّ كَذَّبَهُمْ فَقَالَ: بَلْ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة: 61] بِإِضَافَةِ الْأُذُنِ إِلَى الْخَيْرِ، وَخَفْضِ الْخَيْرِ، يَعْنِي: قُلْ هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ، لَا أُذُنُ شَرٍّ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/536)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ [ص:537] ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61] يَسْمَعُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ "
(11/536)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61] قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ لَا يُحَدَّثُ عَنَّا شَيْئًا إِلَّا هُوَ أُذُنٌ يَسْمَعُ مَا يُقَالُ لَهُ "
(11/537)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61] نَقُولُ مَا شِئْنَا، وَنَحْلِفُ فَيُصَدِّقُنَا "
(11/537)
 
 
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61] قَالَ: يَقُولُونَ: نَقُولُ مَا شِئْنَا، ثُمَّ نَحْلِفُ لَهُ فَيُصَدِّقُنَا ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ
(11/537)
 
 
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [البقرة: 228] فَإِنَّهُ يَقُولُ: يُصَدِّقُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَقَوْلُهُ: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] يَقُولُ: وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ لَا الْكَافِرِينَ وَلَا الْمُنَافِقِينَ. وَهَذَا تَكْذِيبٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا: مُحَمَّدٌ أُذُنٌ، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَمِعُ خَيْرٍ، يُصَدِّقُ بِاللَّهِ وَبِمَا جَاءَهُ مِنْ عِنْدِهِ، وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ لَا أَهْلَ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ. [ص:538] وَقِيلَ: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] مَعْنَاهُ: وَيُؤْمِنُ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا عَنْهَا: آمَنْتُ لَهُ وَآمَنْتُهُ، بِمَعْنَى: صَدَّقْتُهُ، كَمَا قِيلَ: {رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل: 72] وَمَعْنَاهُ: رَدِفَكُمْ. وَكَمَا قَالَ: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] وَمَعْنَاهُ: لِلَّذِينَ هُمْ رَبَّهُمْ يَرْهَبُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/537)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثني عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثنى مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمَنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] يَعْنِي: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ "
(11/538)
 
 
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 61] فَإِنَّ الْقُرَّاءَ اخْتَلَفَتْ فِي قِرَاءَتِهِ، فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ الْأَمْصَارِ: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [التوبة: 61] بِمَعْنَى: قُلْ هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ، وَهُوَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ. فَرَفَعَ الرَّحْمَةَ عَطْفًا بِهَا عَلَى الْأُذُنِ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: (وَرَحْمَةٍ) عَطْفًا بِهَا عَلَى الْخَيْرِ، بِتَأْوِيلِ: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ، وَأُذُنُ رَحْمَةٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ {وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] بِالرَّفْعِ عَطْفًا بِهَا عَلَى الْأُذُنِ، بِمَعْنَى: وَهُوَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا [ص:539] مِنْكُمْ، وَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِمَنِ اتَّبَعَهُ وَاهْتَدَى بِهُدَاهُ وَصَدَّقَ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ اسْتَنْقَذَهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَأَوْرَثَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ جَنَّاتِهِ
(11/538)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَعِيبُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُونَ: هُوَ أُذُنٌ وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ مُكَذِّبِيهِ، وَالْقَائِلِينَ فِيهِ الْهَجْرَ وَالْبَاطِلَ، عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ مُوجِعٌ لَهُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ
(11/539)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَحْلِفُ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ بِاللَّهِ لِيُرْضُوكُمْ فِيمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُمْ مِنْ أَذَاهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ، بِالطَّعْنِ عَلَيْهِ وَالْعَيْبِ لَهُ، وَمُطَابَقَتِهِمْ سِرًّا أَهْلَ الْكُفْرِ عَلَيْكُمْ بِاللَّهِ، وَالْأَيْمَانِ الْفَاجِرَةِ أَنَّهُمْ مَا فَعَلُوا ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ لَعَلَى دِينِكُمْ وَمَعَكُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَكُمْ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ رِضَاكُمْ. يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ مِمَّا قَالُوا وَنَطَقُوا {إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62] يَقُولُ: إِنْ كَانُوا مُصَدِّقِينَ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، مُقِرِّينَ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/539)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة: 62] الْآيَةَ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَخِيَارُنَا وَأَشْرَافُنَا، وَإِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا، لَهُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، قَالَ: فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَلَأَنْتَ شَرٌّ مِنَ الْحِمَارِ، فَسَعَى بِهَا الرَّجُلُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ إِلَى الرَّجُلِ فَدَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي قُلْتَ؟» فَجَعَلَ يَلْتَعِنُ وَيَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا قَالَ ذَلِكَ، قَالَ: وَجَعَلَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ صَدِّقِ الصَّادِقَ وَكَذِّبِ الْكَاذِبَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62]
(11/540)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَلَمْ يَعْلَمْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ كَذِبًا لِلْمُؤْمِنِينَ لِيُرْضُوهُمْ وَهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى النِّفَاقِ، أَنَّهُ مِنْ يُحَارِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُخَالِفُهَمَا فَيُنَاوِئُهُمَا بِالْخِلَافِ عَلَيْهِمَا {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 63] فِي الْآخِرَةِ. {خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14] يَقُولُ: لَابِثًا فِيهَا، مُقِيمًا إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ. {ذَلِكَ الْخِزْي الْعَظِيمُ} [التوبة: 63] يَقُولُ: فَلِبِثُهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَخُلُودُهُ فِيهَا هُوَ الْهَوَانُ وَالذُّلُّ الْعَظِيمُ، وَقَرَأَتِ الْقُرَّاءُ: {فَأَنَّ} [الأنفال: 41] بِفَتْحِ الْأَلْفِ مِنْ أَنَّ بِمَعْنَى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ لِمَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ نَارَ جَهَنَّمَ، وَإِعْمَالِ يَعْلَمُوا فِيهَا، كَأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَنَّ الثَّانِيَةَ مُكَرَّرَةً عَلَى الْأُولَى، وَاعْتَمَدُوا عَلَيْهَا؛ إِذْ كَانَ الْخَبَرُ مَعَهَا دُونَ الْأُولَى.
(11/540)
 
 
وَقَدْ كَانَتْ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَخْتَارُ الْكَسْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِسَبَبِ دُخُولِ الْفَاءِ فِيهَا، وَأَنَّ دُخُولَهَا فِيهَا عِنْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا جَوَّابُ الْجَزَاءِ، وَأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ جَوَّابَ الْجَزَاءِ كَانَ الِاخْتِيَارُ فِيهَا الِابْتِدَاءَ. وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ غَيْرَهَا فَتْحُ الْأَلْفِ فِي كَلَامِ الْحَرْفَيْنِ، أَعْنِي أَنَّ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قِرَاءَةُ الْأَمْصَارِ، وَلِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْتُ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ. {ذَلِكَ الْخِزْي الْعَظِيمُ} [التوبة: 63] يَقُولُ: فَلِبِثُهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَخُلُودُهُ فِيهَا هُوَ الْهَوَانُ وَالذُّلُّ الْعَظِيمُ
(11/541)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَخْشَى الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ فِيهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، يَقُولُ: تُظْهِرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا عَابُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرُوا شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، قَالُوا: لَعَلَّ اللَّهَ لَا يُفْشِي سِرَّنَا، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَهُمْ: اسْتَهْزِئُوا، مُتَهَدِّدًا لَهُمْ مُتَوَعِّدًا {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64] . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(11/541)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، " {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} [التوبة: 64] قَالَ: يَقُولُونَ الْقَوْلَ [ص:542] بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ: عَسَى اللَّهُ أَنْ لَا يُفْشِيَ سِرَّنَا عَلَيْنَا ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: سِرَّنَا هَذَا
(11/541)
 
 
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64] فَإِنَّهُ يَعْنِي: إِنَّ اللَّهَ مُظْهِرٌ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ مَا كُنْتُمْ تَحْذَرُونَ أَنْ تُظْهِرُوهُ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَفَضَحَهُمْ، فَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ تُدْعَى الْفَاضِحَةَ
(11/542)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «كَانَتْ تُسَمَّى هَذِهِ السُّورَةُ الْفَاضِحَةَ فَاضِحَةَ الْمُنَافِقِينَ»
(11/542)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} يَقُولُ تَعَالَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ عَمَّا قَالُوا مِنَ الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ، لَيَقُولُنَّ لَكَ: إِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لَعِبًا، وَكُنَّا نَخُوضُ فِي حَدِيثِ لَعِبًا وَهُزُوًا. يَقُولُ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِ كِتَابِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. وَكَانَ ابْنُ إِسْحَاقَ يَقُولُ: الَّذِي قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ
(11/542)
 
 
كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «كَانَ الَّذِي قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِيمَا بَلَغَنِي وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، أَخُو بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ»
(11/542)
 
 
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثنا اللَّيْثٌ، قَالَ: ثني هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ لِعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: مَا لِقُرَّائِنَا هَؤُلَاءِ أَرْغَبَنَا بُطُونًا وَأَكْذَبَنَا أَلْسِنَةً وَأَجَبَنَنَا عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَقَالَ لَهُ عَوْفٌ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ، لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَهَبَ عَوْفٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَهُ، فَوَجَدَ الْقُرْآنَ قَدْ سَبَقَهُ، فَقَالَ زَيْدٌ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَنْكُبُهُ الْحِجَارَةُ، يَقُولُ: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} مَا يَزِيدُهُ»
(11/543)
 
 
قَالَ: ثني هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي مَجْلِسٍ، مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قُرَّائِنَا هَؤُلَاءِ أَرْغَبَ بُطُونًا وَلَا أَكْذَبَ أَلْسِنَةً وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ فِي الْمَجْلِسِ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ، لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَنْكُبُهُ الْحِجَارَةُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: « {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا [ص:544] تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} »
(11/543)
 
 
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ: " {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] إِلَى قَوْلِهِ: {بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 66] قَالَ: فَكَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَفَا عَنْهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْمَعُ آيَةً أَنَا أُعْنَى بِهَا، تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، وَتَجِلُ مِنْهَا الْقُلُوبُ، اللَّهُمَّ فَاجْعَلْ وَفَاتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِكَ، لَا يَقُولُ أَحَدٌ: أَنَا غُسَّلْتُ، أَنَا كَفَّنْتُ، أَنَا دَفَنْتُ، قَالَ: فَأُصِيبَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا وُجِدَ غَيْرَهُ "
(11/544)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] الْآيَةَ، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي غَزْوَتِهِ إِلَى تَبُوكَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ: أَيَرْجُو هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَفْتَحَ قُصُورَ الشَّامِ وَحُصُونَهَا؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْبِسُوا عَلَيَّ هَؤُلَاءِ الرَّكْبَ» . فَأَتَاهُمْ فَقَالَ: «قُلْتُمْ كَذَا؟ قُلْتُمْ كَذَا؟» قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهَا مَا تَسْمَعُونَ
(11/544)
 
 
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَرَكْبٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالُوا: يَظُنُّ هَذَا أَنْ يَفْتَحَ قُصُورَ الرُّومِ وَحُصُونَهَا، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَالُوا، فَقَالَ: «عَلَيَّ بِهَؤُلَاءِ النَّفَرِ» فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: «قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟» فَحَلَفُوا: مَا كُنَّا إِلَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ
(11/545)
 
 
حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَغَيْرِهِ قَالُوا: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: مَا أَرَى قُرَّاءَنَا هَؤُلَاءِ إِلَّا أَرْغَبَنَا بُطُونًا، وَأَكْذَبَنَا أَلْسِنَةً، وَأَجْبَنَنَا عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدِ ارْتَحَلَ وَرَكِبَ نَاقَتَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَقَالَ: " {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {مُجْرِمِينَ} [التوبة: 66] " وَإِنَّ رِجْلَيْهِ لَتُسْفَعَانِ بِالْحِجَارَةِ، وَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِنِسْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(11/545)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] قَالَ: " قَالَ رَجُلٌ مِنَ [ص:546] الْمُنَافِقِينَ: يُحَدِّثُنَا مُحَمَّدٌ أَنَّ نَاقَةَ فُلَانٍ بِوَادِي كَذَا وَكَذَا فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا، وَمَا يُدْرِيهِ مَا الْغَيْبُ ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ
(11/545)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 66] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ صِفَتَهُمْ: {لَا تَعْتَذِرُوا} [التوبة: 66] بِالْبَاطِلِ، فَتَقُولُوا: كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. {قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة: 66] يَقُولُ: قَدْ جَحَدْتُمُ الْحَقَّ بِقَوْلِكُمْ مَا قُلْتُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [البقرة: 109] يَقُولُ: بَعْدَ تَصْدِيقِكُمْ بِهِ وَإِقْرَارِكُمْ بِهِ. {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة: 66] وَذُكِرَ أَنَّهُ عُنِيَ بِالطَّائِفَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ رَجُلٌ وَاحِدٌ
(11/546)
 
 
وَكَانَ ابْنُ إِسْحَاقَ يَقُولُ فِيمَا: حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «كَانَ الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ فِيمَا بَلَغَنِي مَخْشِيُّ بْنُ حِمْيَرٍ الْأَشْجَعِيُّ [ص:547] حَلِيفُ بَنِي سَلِمَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْكَرَ مِنْهُمْ بَعْضَ مَا سَمِعَ»
(11/546)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا زَيْدُ بْنُ حِبَّانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: " {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ، مِنْكُمْ} [التوبة: 66] قَالَ: طَائِفَةٌ: رَجُلٌ " وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ بِإِنْكَارِهِ مَا أَنْكَرَ عَلَيْكُمْ مِنْ قَبْلِ الْكُفْرِ، نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِكُفْرِهِ وَاسْتِهْزَائِهِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
(11/547)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: " قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ رَجُلٌ مِنْهُمْ لَمْ يُمَالِئْهُمْ فِي الْحَدِيثِ، فَيَسِيرُ مُجَانِبًا لَهُمْ، فَنَزَلَتْ: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة: 66] فَسُمِّيَ طَائِفَةً وَهُوَ وَاحِدٌ " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: إِنْ تَتُبْ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ فَيَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ، يُعَذَّبِ اللَّهُ طَائِفَةً مِنْكُمْ بِتَرْكِ التَّوْبَةِ
(11/547)
 
 
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان: 37] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: نُعَذِّبُ طَائِفَةً مِنْهُمْ [ص:548] بِاكْتِسَابِهِمُ الْجُرْمَ، وَهُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ، وَطَعْنِهِمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(11/547)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} [التوبة: 67] وَهُمُ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيُسِرُّونَ الْكُفْرَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] يَقُولُ: هُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَأَمْرُهُمْ وَاحِدٌ، فِي إِعْلَانِهِمُ الْإِيمَانَ وَاسْتِبْطَانِهِمُ الْكُفْرَ، يَأْمُرُونَ مَنْ قَبِلَ مِنْهُمْ بِالْمُنْكَرِ، وَهُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَتَكْذِيبِهِ. {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67] يَقُولُ: وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة: 67] يَقُولُ: وَيُمْسِكُونَ أَيْدِيَهُمْ عَنِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَكُفُّونَهَا عَنِ الصَّدَقَةِ، فَيَمْنَعُونَ الَّذِينَ فَرَضَ اللَّهُ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ مَا فَرَضَ مِنَ الزَّكَاةِ حُقُوقَهُمْ
(11/548)
 
 
كَمَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة: 67] قَالَ: لَا يُبْسِطُونَهَا بِنَفَقَةٍ فِي حَقٍّ ". حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ [ص:549] مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ
(11/548)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة: 67] لَا يُبْسِطُونَهَا بِخَيْرٍ "
(11/549)
 
 
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة: 67] قَالَ: يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ "
(11/549)
 
 
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] فَإِنَّ مَعْنَاهُ: تَرَكُوا اللَّهَ أَنْ يُطِيعُوهُ وَيَتَّبِعُوا أَمْرَهُ، فَتَرَكَهُمُ اللَّهُ مِنْ تَوْفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَقَدْ دَلَلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ مَعْنَى النِّسْيَانِ التَّرْكُ بِشَوَاهِدِهِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا
(11/549)
 
 
وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] نَسُوا مِنَ الْخَيْرِ، وَلَمْ يَنْسُوا مِنَ الشَّرِّ " قَوْلُهُ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] يَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ يُخَادِعُونَ [ص:550] الْمُؤْمِنِينَ بِإِظْهَارِهِمْ لَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ، وَهُمْ لِلْكُفْرِ مُسْتَبْطِنُونَ، هُمُ الْمُفَارِقُونَ طَاعَةَ اللَّهِ الْخَارِجُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ
(11/549)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [التوبة: 68] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ} [التوبة: 68] بِاللَّهِ {نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 35] أَنْ يُصْلِيهِمُوهَا جَمِيعًا. {خَالِد