تفسير الطبري جامع البيان ط هجر 009

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: تفسير الطبري = جامع البيان عن تأويل آي القرآن
المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " {افْتَحْ} [الأعراف: 89] : اقْضِ "
(10/321)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: ثنا مِسْعَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " لَمْ أَكُنْ أَدْرِي مَا {افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89] حَتَّى سَمِعْتُ ابْنَةَ ذِي يَزَنَ تَقُولُ لِزَوْجِهَا: انْطَلِقْ أُفَاتِحْكَ "
(10/321)
 
 
الْقَولُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [الأعراف: 90][ص:322] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَتِ الْجَمَاعَةُ مِنْ كَفَرَةِ رِجَالِ قَوْمِ شُعَيْبٍ، وَهُمُ الْمَلَأُ الَّذِينَ جَحَدُوا آيَاتِ اللَّهِ وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ وَتَمَادُوا فِي غَيِّهِمْ لِآخَرِينَ مِنْهُمْ: لَئِنْ أَنْتُمُ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا عَلَى مَا يَقُولُ وَأَجَبْتُمُوهُ إِلَى مَا يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَأَقْرَرْتُمْ بِنُبُوَّتِهِ {إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [الأعراف: 90] يَقُولُ: لَمَغْبُونُونَ فِي فِعْلِكُمْ، وَتَرْكِكُمْ مِلَّتَكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا مُقِيمُونَ إِلَى دِينِهِ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَهَالِكُونَ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِكُمْ
(10/321)
 
 
الْقَولُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78] يَقُولُ: فَأَخَذْتِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ الرَّجْفَةُ، وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى الرَّجْفَةِ قَبْلُ وَإِنَّهَا الزَّلْزَلَةُ الْمُحَرِّكَةُ لِعَذَابِ اللَّهِ. {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78] عَلَى رُكَبِهِمْ مَوْتَى هَلْكَى. وَكَانَتْ صِفَةُ الْعَذَابِ الَّذِي أَهْلَكُهُمُ اللَّهُ بِهِ
(10/322)
 
 
كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: 85] قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ شُعَيْبًا إِلَى مَدْيَنَ، وَإِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَالْأَيْكَةُ: هِيَ الْغَيْضَةُ مِنَ الشَّجَرِ , وَكَانُوا مَعَ كُفْرِهِمْ يَبْخَسُونَ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ، فَدَعَاهُمْ فَكَذَّبُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا عَتَوْا وَكَذَّبُوهُ، سَأَلُوهُ الْعَذَابَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، فَأَهْلَكَهُمُ الْحَرُّ مِنْهُ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ظِلٌّ وَلَا مَاءٌ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعَثَ سَحَابَةً فِيهَا رِيحٌ طَيِّبَةٌ، فَوَجَدُوا بَرْدَ الرِّيحِ وَطِيبَهَا، فَتَنَادَوِا: الظُّلَّةَ، عَلَيْكُمْ بِهَا فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَحْتَ السَّحَابَةِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ، انْطَبَقَتْ [ص:323] عَلَيْهِمْ، فَأَهْلَكَتْهُمْ، فَهُوَ قَوْلُهُ: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء: 189] "
(10/322)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: " كَانَ مِنْ خَبَرِ قِصَّةِ شُعَيْبٍ وَخَبَرِ قَوْمِهِ، مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، كَانُوا أَهْلَ بَخْسٍ لِلنَّاسِ فِي مَكَايِيلِهِمْ وَمَوَازِينِهِمْ، مَعَ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّهُمْ وَكَانَ يَدْعُوهُمُ إِلَى اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَتَرْكِ ظُلْمِ النَّاسِ وَبَخْسِهِمْ فِي مَكَايِيلِهِمْ وَمَوَازِينِهِمْ فَقَالَ نُصْحًا لَهُمْ وَكَانَ صَادِقًا: {مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] "
(10/323)
 
 
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا ذَكَرَ لِي يَعْقُوبُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ إِذَا ذَكَرَ شُعَيْبًا، قَالَ: «ذَاكَ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ» لِحُسْنِ مُرَاجَعَتِهِ قَوْمِهِ فِيمَا يُرَادُ بِهِمْ، فَلَمَّا كَذَّبُوهُ وَتَوَعَّدُوهُ بِالرَّجْمِ وَالنَّفْيِ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَعَتَوْا عَلَى اللَّهِ، أَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، فَبَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ يُقَالُ لَهُ عَمْرُو بْنُ جَلْهَاءَ لَمَّا رَآهَا قَالَ
[البحر البسيط]
يَا قَوْمُ إِنَّ شُعَيْبًا مُرْسَلٌ فَذَرُوا ... عَنْكُمْ سَمِيرًا وَعِمْرَانَ بْنَ شَدَّادِ
إِنِّي أَرَى غَيْمَةً يَا قَوْمِ قَدْ طَلَعَتْ ... تَدْعُو بِصَوْتٍ عَلَى صَمَّانَةِ الْوَادِي
[ص:324] وَإِنَّكُمْ إِنْ تَرَوْا فِيهَا ضُحَاةَ غَدٍ ... إِلَّا الرَّقِيمَ يُمَشِّي بَيْنَ أَنْجَادِ
وَسَمِيرٌ وَعِمْرَانُ: كَاهِنَاهُمْ، وَالرَّقِيمُ: كَلْبُهُمْ
(10/323)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: «فَبَلَغَنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْحَرَّ حَتَّى أَنْضَجَهُمْ، ثُمَّ أَنْشَأَ لَهُمُ الظُّلَّةَ كَالسَّحَابَةِ السَّوْدَاءِ، فَلَمَّا رَأَوْهَا ابْتَدَرُوهَا يَسْتَغِيثُونَ بِبَرْدِهَا مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَرِّ، حَتَّى إِذَا دَخَلُوا تَحْتَهَا أُطْبِقَتْ عَلَيْهِمْ، فَهَلَكُوا جَمِيعًا، وَنَجَّى اللَّهُ شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَتِهِ»
(10/324)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، قَالَ: " أَبُو جَادْ وَهَوَّزْ، وَحُطِّي، وَسِعفَصْ، وَقَرَشَتْ: أَسْمَاءُ مُلُوكِ مَدْيَنَ، وَكَانَ مَلِكُهُمْ يَوْمَ الظُّلَّةِ فِي زَمَانِ شُعَيْبٍ كَلَمُونْ، فَقَالَتْ أُخْتُ كَلَمُونْ تَبْكِيهِ: «
[البحر الرمل]
كَلَمُونٌ هَدَّ رُكْنِي ... هُلْكُهُ وَسَطَ الْمَحِلَّهْ
سَيِّدُ الْقَوْمِ أَتَاهُ الْ ... ـحَتْفُ نَارًا وَسَطَ ظُلَّهْ
جُعِلَتْ نَارًا عَلَيْهِمْ ... دَارُهُمْ كَالْمُضْمَحِلَّهْ
»
(10/324)
 
 
الْقَولُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 92] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَهْلَكَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، فَأَبَادَهُمْ، فَصَارَتْ قَرْيَتُهُمْ مِنْهُمْ خَاوِيَةً خَلَاءً {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف: 92] يَقُولُ: كَأَنْ لَمْ يَنْزِلُوا قَطُّ، وَلَمْ يَعِيشُوا بِهَا حِينَ هَلَكُوا، يُقَالُ: غَنِيَ فُلَانٌ بِمَكَانِ كَذَا فَهُوَ يَغْنَى بِهِ غِنًى وَغُنَيًّا: إِذَا نَزَلَ بِهِ وَكَانَ بِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الرمل]
وَلَقَدْ يَغْنَى بِهِ جِيرَانُكَ الْ ... ـمُمْسِكُو مِنْكَ بِعَهْدٍ وَوِصَالٍ
وَقَالَ رُؤْبَةُ:
[البحر الرجز]
وَعَهْدُ مَغْنَى دِمْنَةٍ بِضَلْفَعَا
إِنَّمَا هُوَ مَفْعَلٌ مِنْ غَنِيَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(10/325)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، قَالَ: ثنا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، " {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف: 92] كَأَنْ لَمْ يَعِيشُوا، كَأَنْ لَمْ يَنْعَمُوا "
(10/326)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف: 92] يَقُولُ: كَأَنْ لَمْ يَعِيشُوا فِيهَا "
(10/326)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف: 92] كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا فِيهَا قَطُّ " وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 92] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ اتَّبِعُوا شُعَيْبًا الْخَاسِرِينَ، بَلِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ الْهَالِكِينَ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا قَالُوا لِلَّذِينَ أَرَادُوا اتِّبَاعَهُ: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [الأعراف: 90] فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِمَا أَحَلَّ بِهِمْ مِنْ عَاجِلِ نَكَالِهِ، ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا خَسِرَ تُبَّاعُ شُعَيْبٍ، بَلْ كَانَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا لَمَّا جَاءَتْ عُقُوبَةُ اللَّهِ هُمُ الْخَاسِرِينَ دُونَ الَّذِينَ صَدَّقُوا وَآمَنُوا بِهِ
(10/326)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَلَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَءَاسَى عَلَى قَوْمِِ كَافِرِينَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَدْبَرَ شُعَيْبٌ عَنْهُمْ شَاخِصًا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ حِينَ أَتَاهُمْ [ص:327] عَذَابُ اللَّهِ، وَقَالَ لَمَّا أَيْقَنَ بِنُزُولِ نِقْمَةِ اللَّهِ بِقَوْمِهِ الَّذِينَ كَذَبُوهُ حُزْنًا عَلَيْهِمْ: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي} [الأعراف: 93] وَأَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ مَا بَعَثَنِي بِهِ إِلَيْكُمْ مِنْ تَحْذِيرِكُمْ غَضَبَهُ عَلَى إِقَامَتِكُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِهِ وَظُلْمِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ. {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} [الأعراف: 79] بِأَمْرِي إِيَّاكُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَنَهْيِكُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. {فَكَيْفَ آسَى} [الأعراف: 93] يَقُولُ: فَكَيْفَ أَحْزَنُ عَلَى قَوْمٍ جَحَدُوا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ وَأَتَوَجَّعُ لِهَلَاكِهِمْ؟ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(10/326)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {فَكَيْفَ آسَى} [الأعراف: 93] يَعْنِي: أَحْزَنُ "
(10/327)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {فَكَيْفَ آسَى} [الأعراف: 93] يَقُولُ: فَكَيْفَ أَحْزَنُ "
(10/327)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: " أَصَابَ شُعَيْبًا عَلَى قَوْمِهِ حُزْنٌ لِمَا يَرَى بِهِمْ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ يُعَزِّي نَفْسَهُ فِيمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُ: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف: 93] "
(10/327)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 94] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَرِّفَهُ سُنَّتَهُ فِي الْأُمَمِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِ أُمَّتِهِ، وَمُذَكِّرٌ مَنْ كَفَرَ بِهِ مِنْ قُرَيْشٍ لِيَنْزَجِرُوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مُقِيمِينَ مِنَ الشِّرْكِ
(10/327)
 
 
بِاللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} [الأعراف: 94] قَبْلَكَ {إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [الأعراف: 94] وَهُوَ الْبُؤْسُ وَشَظَفُ الْمَعِيشَةِ وَضَيْقُهَا وَالضَّرَّاءُ: وَهِيَ الضُّرُّ وَسُوءُ الْحَالِ فِي أَسْبَابِ دُنْيَاهُمْ. {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 94] يَقُولُ: فَعَلْنَا ذَلِكَ لِيَتَضَرَّعُوا إِلَى رَبِّهِمْ، وَيَسْتَكِينُوا إِلَيْهِ، وَيُنِيبُوا بِالْإِقْلَاعِ عَنْ كُفْرِهِمْ، وَالتَّوْبَةِ مِنْ تَكْذِيبِ أَنْبِيَائِهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(10/328)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [الأعراف: 94] يَقُولُ: بِالْفَقْرِ وَالْجُوعِ " وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى الشَّوَاهِدَ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِمَا قُلْنَا فِي مَعْنَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقِيلَ: يَضَّرَّعُونَ، وَالْمَعْنَى: يَتَضَرَّعُونَ، وَلَكِنْ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الضَّادِ، لِتَقَارُبِ مَخْرَجِهِمَا
(10/328)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وقالوا قد مس ءابآءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ بَدَّلْنَا أَهْلَ الْقَرْيَةِ الَّتِي أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، [ص:329] مَكَانَ السَّيِّئَةِ، وَهِيَ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ. وَإِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ سَيِّئَةً؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَسُوءُ النَّاسَ، وَلَا تَسُوءُهُمُ الْحَسَنَةُ، وَهِيَ الرَّخَاءُ وَالنِّعْمَةُ وَالسَّعَةُ فِي الْمَعِيشَةِ. {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] يَقُولُ: حَتَّى كَثُرُوا، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ كَثُرَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ فِيهِ: قَدْ عَفَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الوافر]
وَلَكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ مِنْهَا ... بِأَسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(10/328)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف: 95] قَالَ: مَكَانَ الشِّدَّةِ رَخَاءً {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] "
(10/329)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، " فِي قَوْلِ اللَّهِ: {مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف: 95] قَالَ: السَّيِّئَةُ: الشَّرُّ، وَالْحَسَنَةُ: الرَّخَاءُ وَالْمَالُ وَالْوَلَدُ "
(10/329)
 
 
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف: 95] قَالَ: السَّيِّئَةُ: الشَّرُّ، وَالْحَسَنَةُ: الْخَيْرُ "
(10/329)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف: 95] يَقُولُ: مَكَانَ الشِّدَّةِ الرَّخَاءَ "
(10/330)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] قَالَ: بَدَّلْنَا مَكَانَ مَا كَرِهُوا مَا أَحَبُّوا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى عَفَوْا مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف: 95] " وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ
(10/330)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] يَقُولُ: حَتَّى كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ "
(10/330)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] قَالَ: جَمُّوا "
(10/330)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] قَالَ: كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ " حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
(10/330)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ [ص:331]: " {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] حَتَّى كَثُرُوا "
(10/330)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: " {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] قَالَ: حَتَّى جَمُّوا وَكَثُرُوا "
(10/331)
 
 
قَالَ: ثنا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] قَالَ: حَتَّى جَمُّوا "
(10/331)
 
 
قَالَ: ثنا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: " {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] يَعْنِي جَمُّوا وَكَثُرُوا "
(10/331)
 
 
قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: " {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] قَالَ: حَتَّى كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ "
(10/331)
 
 
حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] كَثُرُوا كَمَا يَكْثُرُ النَّبَاتُ وَالرِّيشُ، ثُمَّ أَخَذَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: حَتَّى سُرُّوا
(10/331)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] يَقُولُ: حَتَّى سُرُّوا بِذَلِكَ " [ص:332] وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ فِي مَعْنَى عَفَوْا تَأْوِيلٌ لَا وَجْهَ لَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الْعَفْوُ بِمَعْنَى السُّرُورِ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ حَتَّى سُرُّوا بِكَثْرَتِهِمْ وَكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ، فَيَكُونَ ذَلِكَ وَجْهًا وَإِنْ بَعُدَ
(10/331)
 
 
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف: 95] فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَبْدَلَهُمُ الْحَسَنَةَ السَّيِّئَةَ الَّتِي كَانُوا فِيهَا اسْتِدْرَاجًا وَابْتِلَاءً أَنَّهُمْ قَالُوا إِذْ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِمْ: هَذِهِ أَحْوَالٌ قَدْ أَصَابَتْ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ آبَائِنَا وَنَالَتْ أَسْلَافَنَا، وَنَحْنُ لَا نَعْدُو أَنْ نَكُونَ أَمْثَالَهُمْ يُصِيبُنَا مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ فِي الْمَعَايِشِ وَالرَّخَاءِ فِيهَا، وَهِيَ السَّرَّاءُ؛ لِأَنَّهَا تُسِرُّ أَهْلِهَا. وَجَهَلَ الْمَسَاكِينُ شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَأَغْفَلُوا مِنْ جَهْلِهِمُ اسْتِدَامَةَ فَضْلِهِ بِالْإِنَابَةِ إِلَى طَاعَتِهِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا يَكْرَهُهُ بِالتَّوْبَةِ، حَتَّى أَتَاهُمْ أَمْرُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. يَقُولُ جَلَّ جَلَالُهُ: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 95] يَقُولُ: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ فَجْأَةً. أَتَاهُمْ عَلَى غِرَّةٍ مِنْهُمْ بِمَجِيئِهِ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَجِيئُهُمْ، بَلْ هُمْ بِأَنَّهُ آتِيهِمْ مُكَذِّبُونَ حَتَّى يُعَايِنُوهُ وَيَرْوهُ
(10/332)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ}
(10/332)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَفَأَمِنَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَجْحَدُونَ آيَاتِهِ، اسْتِدْرَاجَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ مِنْ صِحَّةِ الْأَبْدَانِ وَرَخَاءِ الْعَيْشِ، كَمَا اسْتَدْرَجَ الَّذِينَ قَصَّ عَلَيْهِمْ قَصَصَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ. فَإِنَّ مَكْرَ اللَّهِ لَا يَأْمَنُهُ، يَقُولُ: لَا يَأْمَنُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اسْتِدْرَاجًا مَعَ مَقَامِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ وَهُمُ الْهَالِكُونَ
(10/334)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يُهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوَ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100] يَقُولُ: أَوَلَمْ يُبَيَّنْ لِلَّذِينَ يُسْتَخْلَفُونَ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ هَلَاكِ آخَرِينَ قَبْلَهُمْ كَانُوا أَهْلَهَا، فَسَارُوا سِيرَتَهُمْ وَعَمِلُوا أَعْمَالَهُمْ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ {أَنْ لَوَ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأعراف: 100] يَقُولُ: أَنْ لَوَ نَشَاءُ فَعَلْنَا بِهِمْ كَمَا فَعَلْنَا بِمَنْ قَبْلَهُمْ، فَأَخَذْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ. وَعَجَّلْنَا لَهُمْ بَأْسَنَا كَمَا عَجَّلْنَاهُ لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِمَّنْ وَرِثُوا عَنْهُ الْأَرْضَ. فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ. {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الأعراف: 100] يَقُولُ: وَنَخْتِمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ {لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100] مَوْعِظَةً وَلَا تَذْكِيرًا سَمَاعَ مُنْتَفِعٍ بِهِمَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(10/334)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: [ص:335] حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {أَوَلَمْ يَهْدِ} [الأعراف: 100] قَالَ: يُبَيَّنُ " حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
(10/334)
 
 
قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {أَوَلَمْ يَهْدِ} [الأعراف: 100] أَوَلَمْ يُبَيَّنْ "
(10/335)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} [الأعراف: 100] يَقُولُ: أَوَلَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ "
(10/335)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} [الأعراف: 100] يَقُولُ: أَوَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ "
(10/335)
 
 
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} [الأعراف: 100] أَوَلَمْ نُبَيِّنْ لَهُمْ {أَنْ لَوْ [ص:336] نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأعراف: 100] قَالُوا: وَالْهُدَى: الْبَيَانُ الَّذِي بَعَثَ هَادِيًا لَهُمْ مُبَيِّنًا لَهُمْ، حَتَّى يَعْرِفُوا، وَلَوْلَا الْبَيَانُ لَمْ يَعْرِفُوا "
(10/335)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذِهِ الْقُرَى الَّتِي ذَكَرْتُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ أَمْرَهَا وَأَمْرَ أَهْلِهَا، يَعْنِي: قَوْمَ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمَ لُوطٍ وَشُعَيْبٍ {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} [الأعراف: 101] فَنُخْبِرُكَ عَنْهَا وَعَنْ أَخْبَارِ أَهْلِهَا، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَأَمْرِ رُسُلِ اللَّهِ الَّتِي أُرْسِلَتْ إِلَيْهِمْ، لِتَعْلَمَ أَنَّا نَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى أَعْدَائِنَا وَأَهْلِ الْكُفْرِ بِنَا، وَيَعْلَمَ مُكَذِّبُوكَ مِنْ قَوْمِكَ مَا عَاقِبَةُ أَمْرِ مَنْ كَذَّبَ رُسُلَ اللَّهِ، فَيَرْتَدِعُوا عَنْ تَكْذِيبِكَ، وَيُنِيبُوا إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ. {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [الأعراف: 101] يَقُولُ: وَلَقَدْ جَاءَتْ أَهْلَ الْقُرَى الَّتِي قَصَصْتُ عَلَيْكَ نَبَّأَهَا رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، يَعْنِي بِالْحُجَجِ الْبَيِّنَاتِ. {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 101] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: فَمَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى لِيُؤْمِنُوا عِنْدَ إِرْسَالِنَا إِلَيْهِمْ بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَوْمَ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ
(10/336)
 
 
آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
(10/337)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 101] قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ أَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ فَآمَنُوا كَرْهًا " وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا عِنْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ بِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِهِ يَوْمَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
(10/337)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 101] قَالَ: كَانَ فِي عِلْمِهِ يَوْمَ أَقَرُّوا لَهُ بِالْمِيثَاقِ "
(10/337)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: " يَحِقُّ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنَ الْعِلْمِ مَا أَبْدَى لَهُمْ رَبُّهُمْ وَالْأَنْبِيَاءُ وَيَدَعُوا عِلْمَ مَا أَخْفَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ عِلْمَهُ نَافِذٌ فِيمَا كَانَ وَفِيمَا يَكُونُ، وَفِي
(10/337)
 
 
ذَلِكَ قَالَ: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101] قَالَ: نَفَذَ عِلْمُهُ فِيهِمْ أَيُّهُمُ الْمُطِيعُ مِنَ الْعَاصِي حَيْثُ خَلَقَهُمْ فِي زَمَانِ آدَمَ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ لِنُوحٍ {اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48] وَقَالَ فِي ذَلِكَ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] وَفِي ذَلِكَ قَالَ {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وَفِي ذَلِكَ قَالَ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وَلَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ " وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَمَا كَانُوا لَوْ أَحْيَيْنَاهُمْ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ وَمُعَايَنَتِهِمْ مَا عَايَنُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلِ هَلَاكِهِمْ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]
(10/338)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 101] قَالَ: كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَشْبَهُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ وَأَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ، الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَالرَّبِيعِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، فَلَنْ يُؤْمِنَ أَبَدًا، وَقَدْ كَانَ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ هَلَكَ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي قَصَّ نَبَّأَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهُ لَا [ص:339] يُؤْمِنُ أَبَدًا، فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ، أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا هُمْ بِهِ مُكَذِّبُونَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ قَبْلَ مَجِيءِ الرُّسُلِ وَعِنْدَ مَجِيئِهِمْ إِلَيْهِمْ. وَلَوْ قِيلَ تَأْوِيلُهُ: فَمَا كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَرِثُوا الْأَرْضَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا الَّذِينَ كَانُوا بِهَا مِنْ عَادٍ وَثَمُودَ لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبَ بِهِ الَّذِينَ وَرِثُوهَا عَنْهُمْ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، كَانَ وَجْهًا وَمَذْهَبًا، غَيْرَ أَنِّي لَا أَعْلَمُ قَائِلًا قَالَهُ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى عِلْمِهِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَوْ رُدُّوا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا، فَتَأْوِيلٌ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ مِنْ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَلَا مِنْ خَبَرٍ عَنِ الرَّسُولِ صَحِيحٍ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَأَوْلَى مِنْهُ بِالصَّوَابِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ ظَاهَرِ التَّنْزِيلِ دَلِيلٌ
(10/338)
 
 
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101] فَإِنَّهُ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَمَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ الَّتِي قَصَصْنَا عَلَيْكَ نَبَّأَهُمْ يَا مُحَمَّدُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حَتَّى جَاءَهُمْ بَأْسُ اللَّهِ فَهَلَكُوا بِهِ، كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَبَدًا مِنْ قَوْمِكَ
(10/339)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَمْ نَجِدْ لِأَكْثَرِ أَهْلِ هَذِهِ الْقُرَى الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا وَاقْتَصَصْنَا عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ نَبَّأَهَا مِنْ عَهْدٍ، يَقُولُ: مِنْ وَفَاءٍ بِمَا وَصَّيْنَاهُمْ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِ [ص:340] اللَّهِ، وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ وَهَجْرِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ. وَالْعَهْدُ: هُوَ الْوَصِيَّةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102] يَقُولُ: وَمَا وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ إِلَّا فَسَقَةً عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ، تَارِكِينَ عَهْدَهُ وَوَصِيَّتَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْفِسْقِ قَبْلُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(10/339)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: " {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102] قَالَ: الْقُرُونُ الْمَاضِيَةُ "
(10/340)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: " {وَمَا وَجَدْنَا لِأكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 102] . . . الْآيَةَ، قَالَ: الْقُرُونُ الْمَاضِيَةُ وَعَهْدُهُ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي ظَهْرِ آدَمَ وَلَمْ يَفُوا بِهِ "
(10/340)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 102] قَالَ: فِي الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ فِي ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ "
(10/340)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102] وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَهْلَكَ الْقُرَى؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا حَفِظُوا مَا أَوْصَاهُمْ بِهِ "
(10/341)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ بَعَثَنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 103] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ بَعَثَنَا مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ ولُوطٍ وَشُعَيْبٍ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ. وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ اللَّتَانِ فِي قَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِهِمْ} [البقرة: 253] هِيَ كِنَايَةُ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الَّتِي ذُكِرَتْ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ. {بِآيَاتِنَا} [البقرة: 39] يَقُولُ: بِحُجَجِنَا وَأَدِلَّتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، يَعْنِي: إِلَى جَمَاعَةِ فِرْعَوْنَ مِنَ الرِّجَالِ. {فَظَلَمُوا بِهَا} [الأعراف: 103] يَقُولُ: فَكَفَرُوا بِهَا. وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ اللَّتَانِ فِي قَوْلِهِ {بِهَا} [البقرة: 99] عَائِدَتَانِ عَلَى الْآيَاتِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: فَظَلَمُوا بِآيَاتِنَا الَّتِي بَعَثْنَا بِهَا مُوسَى إِلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ: فَظَلَمُوا بِهَا، بِمَعْنَى: كَفَرُوا بِهَا؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَقَدْ دَلَلْتُ فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَالْكُفْرُ بِآيَاتِ اللَّهِ: وُضْعٌ لَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَصَرَفٌ لَهَا إِلَى غَيْرِ وَجْهِهَا الَّذِي عَنِيَتْ بِهِ. {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقَبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 103] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدُ بِعَيْنِ قَلْبِكَ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ؛ إِذْ ظَلَمُوا بِآيَاتِ اللَّهِ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا
(10/341)
 
 
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ عَاقِبَتُهُمْ أَنَّهُمْ أُغْرِقُوا جَمِيعًا فِي الْبَحْرِ
(10/342)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 104] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَقَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: {يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 104]
(10/342)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 106] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 105] فَقَرَأَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ الْمَكِّيِّينَ وَالْمَدَنِيِّينَ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ} [الأعراف: 105] بِإِرْسَالِ الْيَاءِ مِنْ {عَلَى} [البقرة: 5] وَتَرْكِ تَشْدِيدِهَا، بِمَعْنَى: أَنَا حَقِيقٌ بِأَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، فَوَجَّهُوا مَعْنَى عَلَى إِلَى مَعْنَى الْبَاءِ، كَمَا يُقَالُ: رَمَيْتُ بِالْقَوْسِ وَعَلَى الْقَوْسِ، وَجِئْتُ عَلَى حَالٍ حَسَنَةٍ، وَبِحَالٍ حَسَنَةٍ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ يَقُولُ: إِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْنَاهُ: حَرِيصٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ إِلَّا بِحَقٍّ. وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: (حَقِيقٌ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقُولَ) بِمَعْنَى: وَاجِبٌ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقُولَ، وَحَقٌّ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقُولَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، قَدْ قَرَأَ
(10/342)
 
 
بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَئِمَّةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ فِي قِرَاءَتِهِ الصَّوَابَ. وَقَوْلُهُ: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 105] يَقُولُ: قَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبُرْهَانٍ مِنْ رَبِّكُمْ يَشْهَدُ أَيُّهَا الْقَوْمُ عَلَى صِحَّةِ مَا أَقُولُ وَصَدْقِ مَا أَذْكُرُ لَكُمْ مِنْ إِرْسَالِ اللَّهِ إِيَّايَ إِلَيْكُمْ رَسُولًا، فَأَرْسِلْ يَا فِرْعَوْنُ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ} [الأعراف: 106] ، يَقُولُ: بِحُجَّةٍ وَعَلَامَةٍ شَاهِدَةٍ عَلَى صِدْقِ مَا تَقُولُ. {فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 106]
(10/343)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: 108] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَأَلْقَى} [الأعراف: 107] مُوسَى {عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 107] قَالَ حَيَّةٌ {مُبِينٌ} [البقرة: 168] يَقُولُ: تَتَبَيَّنُ لِمَنْ يَرَاهَا أَنَّهَا حَيَّةٌ. وَبِمَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(10/343)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 107] قَالَ: تَحَوَّلَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: مِثْلَ الْمَدِينَةِ "
(10/343)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 107] يَقُولُ: فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ كَادَتْ تَتَسَوَّرُهُ، يَعْنِي كَادَتْ تَثِبُ عَلَيْهِ "
(10/343)
 
 
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ [ص:344] السُّدِّيِّ: " {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 107] وَالثُّعْبَانُ: الذَّكَرُ مِنَ الْحَيَّاتِ، فَاتِحَةٌ فَاهَا، وَاضِعَةٌ لَحْيَهَا الْأَسْفَلَ فِي الْأَرْضِ، وَالْأَعْلَى عَلَى سُورِ الْقَصْرِ. ثُمَّ تَوَجَّهَتْ نَحْوَ فِرْعَوْنَ لِتَأْخُذَهَ، فَلَمَّا رَآهَا ذَعِرَ مِنْهَا، وَوَثَبَ فَأَحْدَثَ، وَلَمْ يَكُنْ يُحْدِثُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَصَاحَ: يَا مُوسَى خُذْهَا وَأَنَا مُؤْمِنٌ بِكَ وَأُرْسِلُ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَخَذَهَا مُوسَى فَعَادَتْ عَصًا "
(10/343)
 
 
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: ثنا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 107] قَالَ: أَلْقَى الْعَصَا فَصَارَتْ حَيَّةً، فَوَضَعَتْ فَقْمًا لَهَا أَسْفَلَ الْقُبَّةِ، وَفَقْمًا لَهَا أَعْلَى الْقُبَّةِ قَالَ عَبْدُ الْكَرِيمِ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَأَشَارَ سُفْيَانُ بِأُصْبُعِهِ الْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ هَكَذَا شِبْهُ الطَّاقِ فَلَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَهُ، قَالَ فِرْعَوْنُ: يَا مُوسَى خُذْهَا فَأَخَذَهَا مُوسَى بِيَدِهِ، فَعَادَتْ عَصًا كَمَا كَانَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ "
(10/344)
 
 
حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْأَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: ثني سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أَلْقَى عَصَاهُ، فَتَحَوَّلَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً فَاغِرَةً فَاهَا، مُسْرِعَةً إِلَى فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا رَأَى فِرْعَوْنُ أَنَّهَا قَاصِدَةٌ إِلَيْهِ، اقْتَحَمَ عَنْ سَرِيرِهِ، فَاسْتَغَاثَ بِمُوسَى أَنْ يَكُفَّهَا عَنْهُ، فَفَعَلَ»
(10/344)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 107] قَالَ: الْحَيَّةُ الذَّكَرُ "
(10/345)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: ثني عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، يَقُولُ: " لَمَّا دَخَلَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ، قَالَ لَهُ مُوسَى: أُعَرِّفُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء: 18] قَالَ: فَرَدَّ إِلَيْهِ مُوسَى الَّذِي رَدَّ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: خُذُوهُ فَبَادَرَهُ مُوسَى فَأَلْقَى عَصَاهُ، فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، فَحَمَلَتْ عَلَى النَّاسِ فَانْهَزَمُوا، فَمَاتَ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَامَ فِرْعَوْنُ مُنْهَزِمًا حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ "
(10/345)
 
 
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا أَبُو سَعْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 107] قَالَ: مَا بَيْنَ لَحْيَيْهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا "
(10/345)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: " {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 107] قَالَ: الْحَيَّةُ الذَّكَرُ "
(10/346)
 
 
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: 108] فَإِنَّهُ يَقُولُ: وَأَخْرَجَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ تَلُوحُ لِمَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ مُوسَى فِيمَا ذُكِرَ لَنَا آدَمَ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَحَوُّلَ يَدِهِ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ لَهُ آيَةً وَعَلَى صِدْقِ قَوْلِهِ {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 104] حُجَّةً. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(10/346)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا الْأَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: ثني سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " أَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ فَرَآهَا بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يَعْنِي: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ ثُمَّ أَعَادَهَا إِلَى كُمِّهِ، فَعَادَتْ إِلَى لَوْنِهَا الْأَوَّلِ "
(10/346)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبَى طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: 108] يَقُولُ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ "
(10/346)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: 108] قَالَ: نَزَعَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ [ص:347] بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ " حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
(10/346)
 
 
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَنَزَعَ يَدَهُ} [الأعراف: 108] أَخْرَجَهَا مِنْ جَيْبِهِ {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: 108] "
(10/347)
 
 
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا أَبُو سَعْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {وَنَزَعَ يَدَهُ} [الأعراف: 108] قَالَ: نَزَعَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ، {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: 108] وَكَانَ مُوسَى رَجُلًا آدَمَ، فَأَخْرَجَ يَدَهُ، فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، قَالَ: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ آيَةً لِفِرْعَوْنَ "
(10/347)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لِسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 110] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَتِ الْجَمَاعَةُ مِنْ رِجَالِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَالْأَشْرَافِ مِنْهُمْ: إِنَّ هَذَا يَعْنُونَ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، {لِسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 109] يَعْنُونَ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِأَعْيُنِ النَّاسِ بِخِدَاعِهِ إِيَّاهُمْ حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَيْهِمُ الْعَصَا حَيَّةً وَالْآدَمَ أَبْيَضَ، وَالشَّيْءَ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ. وَمِنْهُ قِيلَ: سَحَرَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ: إِذَا جَادَهَا فَقَطَعَ نَبَاتَهَا مِنْ أُصُولِهِ، وَقَلَبَ الْأَرْضَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، فَهُوَ يَسْحَرُهَا سِحْرًا، وَالْأَرْضُ مَسْحُورَةٌ إِذَا أَصَابَهَا ذَلِكَ.
(10/347)
 
 
فَشَبَّهَ سِحْرَ السَّاحِرِ بِذَلِكَ لِتَخْيِيلِهِ إِلَى مَنْ سَحَرَهُ أَنَّهُ يَرَى الشَّيْءَ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ فِي صِفَةِ السَّرَابِ:
[البحر الوافر]
وَسَاحِرَةُ الْعُيُونِ مِنَ الْمَوَامِي ... تُرَقَّصُ فِي نَوَاشِزِهَا الَأُرُومُ
وَقَوْلِهِ {عَلِيمٌ} [البقرة: 29] يَقُولُ: سَاحِرٌ عَلِيمٌ بِالسِّحْرِ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أَرْضَ مِصْرَ مَعْشَرَ الْقِبْطِ السَّحَرَةَ. وَقَالَ فِرْعَوْنُ لِلْمَلَإِ: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 110] يَقُولُ: فَأَيُّ شَيْءٍ تَأْمُرُونَ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْرِهِ، بِأَيِّ شَيْءٍ تُشِيرُونَ فِيهِ؟ . وَقِيلَ: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 110] وَالْخَبَرُ بِذَلِكَ عَنْ فِرْعَوْنَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِرْعَوْنَ، وَقَلَّمَا يَجِيءُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 51] فَقِيلَ {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 52] مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ، وَلَمْ يَذْكُرْ يُوسُفَ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: قُلْتُ لِزَيْدٍ: قُمْ فَإِنِّي قَائِمٌ، وَهُوَ يُرِيدُ:
(10/348)
 
 
فَقَالَ زَيْدٌ: إِنِّي قَائِمٌ
(10/349)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف: 111] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ لِفِرْعَوْنَ: أَرْجِئْهُ: أَيْ أَخِّرْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: احْبِسْ. وَالْإِرْجَاءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: التَّأْخِيرُ، يُقَالُ مِنْهُ: أَرْجَيْتُ هَذَا الْأَمْرَ وَأَرْجَأْتُهُ إِذَا أَخَّرْتُهُ وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] تُؤَخِّرُ، فَالْهَمْزُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ قَبَائِلِ قَيْسٍ يَقُولُونَ: أَرْجَأْتُ هَذَا الْأَمْرَ، وَتَرْكُ الْهَمْزِ مِنْ لُغَةِ تَمِيمٍ وَأَسَدٍ يَقُولُونَ: أَرْجَيْتُهُ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ: (أَرْجِهِ) بِغَيْرِ الْهَمْزِ وَبِجَرِّ الْهَاءِ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: {أَرْجِهْ} [الأعراف: 111] بِتَرْكِ الْهَمْزِ وَتَسْكِينِ الْهَاءِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقِفُ عَلَى الْهَاءِ فِي الْمُكَنِّيِ فِي الْوَصْلِ إِذَا تَحَرَّكَ مَا قَبْلَهَا، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:
[البحر الرجز]
أَنْحَى عَلَيَّ الدَّهْرُ رِجْلًا وَيَدَا ... يُقْسِمُ لَا يُصْلِحُ إِلَّا أَفْسَدَا
(10/349)
 
 
فَيُصْلِحُ الْيَوْمَ وَيُفْسِدُهْ غَدَا
وَقَدْ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا بِهَاءِ التَّأْنِيثِ فَيَقُولُونَ: هَذِهِ طَلْحَةْ قَدْ أَقْبَلَتْ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:
[البحر الرجز]
لَمَّا رَأَىْ أَنْ لَا دَعَهْ وَلَا شِبَعْ ... مَالَ إِلَى أَرْطَاةِ حِقْفٍ فَاضْطَجَعَ
وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: (أَرْجِئْهُ) بِالْهَمْزِ وَضَمِّ الْهَاءِ، عَلَى لُغَةِ مَنْ ذَكَرْتُ مِنْ قَيْسٍ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَشْهَرُهَا وَأَفْصَحُهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ تَرْكُ الْهَمْزِ وَجَرِّ الْهَاءِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى جَائِزَةً، غَيْرَ أَنَّ الَّذِيَ اخْتَرْنَا أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَكْثَرُهَا عَلَى أَلْسُنِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَرْجِهْ} [الأعراف: 111] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: أَخِّرْهُ
(10/350)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف: 111] قَالَ: أَخِّرْهُ " وَقَالَ آخَرُونَ. مَعْنَاهُ احْبِسْهُ
(10/350)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف: 111] أَيِ: احْبِسْهُ وَأَخَاهُ "
(10/351)
 
 
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف: 111] يَقُولُ: مَنْ يَحْشُرُ السَّحَرَةَ فَيَجْمَعَهُمْ إِلَيْكَ. وَقِيلَ: هُمُ الشُّرَطُ
(10/351)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: ثنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف: 111] قَالَ: الشُّرَطُ "
(10/351)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف: 111] قَالَ: الشُّرَطُ "
(10/351)
 
 
قَالَ: ثنا حُمَيْدٌ، عَنْ قَيْسٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {[ص:352] وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف: 111] قَالَ: الشُّرَطُ "
(10/351)
 
 
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: " {فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف: 111] قَالَ: الشُّرَطُ "
(10/352)
 
 
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، قَالَ: ثنا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف: 111] قَالَ: الشُّرَطُ "
(10/352)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِين} [الأعراف: 113] وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ مَشُورَةِ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ عَلَى فِرْعَوْنَ، أَنْ يُرْسِلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، يَحْشُرُونَ كُلَّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ. وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ اكْتُفِيَ بِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ مِنْ إِظْهَارِهِ، وَهُوَ: فَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَحْشُرُونَ السَّحَرَةَ، فَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ {قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} [الأعراف: 113] يَقُولُ: إِنَّ لَنَا لَثَوَابًا عَلَى غَلَبَتِنَا مُوسَى عِنْدَكَ، {إِنْ كُنَّا} [الأعراف: 113] يَا فِرْعَوْنُ {نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الأعراف: 113] وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(10/352)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْأَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: ثني سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " فَأَرْسَلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، فَحُشِرَ لَهُ كُلُّ سَاحِرٍ مُتَعَالِمٍ فَلَمَّا أَتَوْا فِرْعَوْنَ، قَالُوا: بِمَ يَعْمَلُ هَذَا السَّاحِرُ؟ قَالُوا: يَعْمَلُ بِالْحَيَّاتِ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا فِي الْأَرْضِ قَوْمٌ يَعْمَلُونَ بِالسِّحْرِ وَالْحَيَّاتِ وَالْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ أَعْلَمُ مِنَّا، فَمَا أَجْرُنَا إِنْ غَلَبْنَا؟ فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ قَرَابَتِي وَحَامَتِي، وَأَنَا صَانِعٌ إِلَيْكُمْ كُلَّ شَيْءٍ أَحْبَبْتُمْ "
(10/353)
 
 
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، قَالَ: ثنا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " قَالَ فِرْعَوْنُ: لَا نُغَالِبُهُ يَعْنِي مُوسَى إِلَّا بِمَنْ هُوَ مِنْهُ. فَأَعَدَّ عُلَمَاءَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى قَرْيَةٍ بِمِصْرَ يُقَالُ لَهَا الْفَرْمَا، يُعَلِّمُونَهُمُ السِّحْرَ، كَمَا يُعَلَّمُ الصِّبْيَانُ الْكِتَابَ فِي الْكُتَّابِ. قَالَ: فَعَلَّمُوهُمْ سِحْرًا كَثِيرًا. قَالَ: وَوَاعَدَ مُوسَى فِرْعَوْنَ مَوْعِدًا فَلَمَّا كَانَ فِي ذَلِكَ الْمَوْعِدِ بَعَثَ فِرْعَوْنُ، فَجَاءَ بِهِمْ وَجَاءَ بِمُعَلِّمِهِمْ مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: قَدْ عَلَّمْتُهُمْ مِنَ السِّحْرِ سِحْرًا لَا يُطِيقُهُ سِحْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مِنَ السَّمَاءِ، فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، فَأَمَّا سِحْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَهُمْ فَلَمَّا [ص:354] جَاءَتِ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الأعراف: 113] قَالَ: {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف: 114] "
(10/353)
 
 
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء: 53] فَحَشَرُوا عَلَيْهِ السَّحَرَةَ، فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ {قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الأعراف: 113] يَقُولُ: عَطِيَّةٌ تُعْطِينَا {إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف: 114] "
(10/354)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: " {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف: 112] أَيْ: كَاثِرْهُ بِالسَّحَرَةِ لَعَلَّكَ أَنْ تَجِدَ فِي السَّحَرَةِ مَنْ يَأْتِي بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى وَهَارُونُ خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ حِينَ أَرَاهُمْ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَبَعَثَ فِرْعَوْنُ فِي مَمْلَكَتِهِ، فَلَمْ يُتْرَكْ فِي سُلْطَانِهِ سَاحِرٌ إِلَّا أُتِيَ بِهِ. فَذُكِرَ لِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ جَمَعَ لَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ سَاحِرٍ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ أَمَرَهُمْ أَمْرَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ جَاءَنَا سَاحِرٌ مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ قَطُّ، وَإِنَّكُمْ إِنْ غَلَبْتُمُوهُ أَكْرَمْتُكُمْ وَفَضَّلْتُكُمْ، وَقَرَّبْتُكُمْ عَلَى أَهْلِ مَمْلَكَتِي، قَالُوا: وَإِنَّ لَنَا ذَلِكَ إِنْ غَلَبْنَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ "
(10/354)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «السَّحَرَةُ كَانُوا سَبْعِينَ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَحْسِبُهُ أَنَّهُ قَالَ: أَلْفًا
(10/355)
 
 
قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ، قَالَ: «كَانَ السَّحَرَةُ ثَمَانِينَ أَلْفًا»
(10/355)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي سَوْدَةَ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: «كَانَ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا»
(10/355)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف: 115] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قَالَ فِرْعَوْنُ للسَّحَرَةِ إِذْ قَالُوا لَهُ: إِنَّ لَنَا عِنْدَكَ ثَوَابًا إِنْ نَحْنُ غَلَبْنَا مُوسَى؟ قَالَ: نَعَمْ، لَكُمْ ذَلِكَ، وَإِنَّكُمْ لَمِمَّنْ أُقَرِّبُهُ وَأُدْنِيهِ مِنِّي. {قَالُوا يَا مُوسَى} [المائدة: 22] يَقُولُ: قَالَتِ السَّحَرَةُ لِمُوسَى: يَا مُوسَى اخْتَرْ أَنْ تُلْقِيَ عَصَاكَ، أَوْ نُلْقِيَ نَحْنُ عِصِيَّنَا وَلِذَلِكَ أُدْخِلَتْ «أَنْ» مَعَ «إِمَّا» فِي الْكَلَامِ لَأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ أَمْرٍ بِالِاخْتِيَارِ، فَإِنَّ «أَنْ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِمَا وَصَفْتُ مِنَ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: اخْتَرْ أَنْ
(10/355)
 
 
تُلْقِيَ أَنْتَ، أَوْ نُلْقِيَ نَحْنُ، وَالْكَلَامُ مَعَ «إِمَّا» إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ «أَنْ» كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ إِمَّا أَنْ تَمْضِيَ، وَإِمَّا أَنْ تَقْعُدَ، بِمَعْنَى الْأَمْرِ: امْضِ أَوِ اقْعُدْ، فَإِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَنْ، كَقَوْلِهِ: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106] وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمَّى التَّخْيِيرَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ، و «إِمَّا» فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَكْسُورَةٌ
(10/356)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ مُوسَى لِلسَّحَرَةِ: {أَلْقُوا} [الأعراف: 116] مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فَأَلْقَتِ السَّحَرَةُ مَا مَعَهُمْ. {فَلَمَّا أَلْقَوْا} [الأعراف: 116] ذَلِكَ {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116] خَيَّلُوا إِلَى أَعْيُنِ النَّاسِ بِمَا أَحْدَثُوا مِنَ التَّخْيِيلِ وَالْخِدَعِ أَنَّهَا تَسْعَى. {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف: 116] يَقُولُ: وَاسْتَرْهَبُوا النَّاسَ بِمَا سَحَرُوا فِي أَعْيُنِهِمْ، حَتَّى خَافُوا مِنَ الْعِصِيِّ وَالْحِبَالِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا حَيَّاتٌ. {وَجَاءُوا} [الأعراف: 116] كَمَا قَالَ اللَّهُ {بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116] بِتَخْيِيلٍ عَظِيمٍ كَثِيرٍ، مِنَ التَّخْيِيلِ وَالْخِدَاعِ
(10/356)
 
 
وَذَلِكَ كَالَّذِي حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: " قَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأُلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ رَجُلٍ، لَيْسَ مِنْهُمْ رَجُلٌ [ص:357] إِلَّا مَعَهُ حَبْلٌ وَعَصًا. {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف: 116] يَقُولُ: فَرَّقُوهُمْ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى "
(10/356)
 
 
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ، قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، قَالَ: ثنا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " أَلْقَوْا حِبَالًا غِلَاظًا وَخَشَبًا طُوَالًا، قَالَ: فَأَقْبَلَتْ تُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى "
(10/357)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: " صَفَّ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ سَاحِرٍ، مَعَ كُلِّ سَاحِرٍ حِبَالُهُ وَعِصِيُّهُ، وَخَرَجَ مُوسَى مَعَهُ أَخُوهُ يَتَّكِئُ عَلَى عَصَاهُ حَتَّى أَتَى الْجَمْعُ وَفِرْعَوْنُ فِي مَجْلِسِهِ مَعَ أَشْرَافِ مَمْلَكَتِهِ، ثُمَّ قَالَتِ السَّحَرَةُ: {يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} [طه: 66] فَكَانَ أَوَّلُ مَا اخْتَطَفُوا بِسِحْرِهِمْ بَصَرَ مُوسَى وَبَصَرَ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ أَبْصَارَ النَّاسِ بَعْدُ، ثُمَّ أَلْقَى كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْعِصِيِّ وَالْحِبَالِ، فَإِذَا هِيَ حَيَّاتٌ كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ، قَدْ مَلَأَتِ الْوَادِي يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا. {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67] وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَعِصِيًّا فِي أَيْدِيهِمْ، وَلَقَدْ عَادَتْ حَيَّاتٍ، وَمَا تَعْدُو هَذَا أَوْ كَمَا حَدَّثَ نَفْسَهُ "
(10/357)
 
 
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ، قَالَ: «جَمَعَ فِرْعَوْنُ سَبْعِينَ أَلْفَ سَاحِرٍ، وَأَلْقَوْا سَبْعِينَ أَلْفَ حَبْلٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ عَصًا، حَتَّى جَعَلَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى»
(10/358)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف: 117] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ، فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ تَلْقَمُ وَتَبْتَلِعُ مَا يَسْحَرُونَ كَذِبًا وَبَاطِلًا، يُقَالُ مِنْهُ: لَقَفْتُ الشَّيْءَ فَأَنَا أَلْقُفُهُ لَقْفًا وَلَقَفَانًا
(10/358)
 
 
وَذَلِكَ كَالَّذِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ، فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ، فَتَحَوَّلَتْ حَيَّةً، فَأَكَلَتْ سِحْرَهُمْ كُلَّهُ»
(10/358)
 
 
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، قَالَ: ثنا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ، لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنْ حِبَالِهِمْ وَخَشَبِهِمُ الَّتِي أَلْقَوْهَا إِلَّا الْتَقَمَتْهُ، فَعَرَفَتِ السَّحَرَةُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا بِسِحْرٍ، فَخَرُّوا سُجَّدًا وَقَالُوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 122] "
(10/358)
 
 
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: " أَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: لَا تَخَفْ، وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا يَأْفِكُونَ. فَأَلْقَى عَصَاهُ فَأَكَلَتْ كُلَّ حَيَّةٍ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ سَجَدُوا، وَقَالُوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 122] "
(10/359)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: " أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ، فَأَلْقَى عَصَاهُ مِنْ يَدِهِ، فَاسْتَعْرَضَتْ مَا أَلْقَوْا مِنْ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ، وَهِيَ حَيَّاتٌ، فِي عَيْنِ فِرْعَوْنَ وَأَعْيُنِ النَّاسِ تَسْعَى فَجَعَلَتْ تَلْقَفُهَا: تَبْتَلِعُهَا حَيَّةً حَيَّةً، حَتَّى مَا يُرَى بِالْوَادِي قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ مِمَّا أَلْقَوْهُ. ثُمَّ أَخَذَهَا مُوسَى فَإِذَا هِيَ عَصَاهُ فِي يَدِهِ كَمَا كَانَتْ، وَوَقَعَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا، قَالُوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالِمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 122] لَوْ كَانَ هَذَا سِحْرًا مَا غَلَبَنَا "
(10/359)
 
 
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، قَالَ: ثنا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ، قَالَ: «أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ فَاغِرٌ فَاهُ، فَابْتَلَعَ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ عِنْدَ ذَلِكَ سُجَّدًا. فَمَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ حَتَّى رَأَوْا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَثَوَابَ أَهْلِهَا»
(10/359)
 
 
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي [ص:360] نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {يَأْفِكُونَ} [الأعراف: 117] قَالَ: يَكْذِبُونَ "
(10/359)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا حُسَيْنٌ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ " {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف: 117] قَالَ: يَكْذِبُونَ "
(10/360)
 
 
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُسْتَمِرِّ، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: ثنا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ السَّدُوسِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ: " {تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف: 117] قَالَ: حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ تَسْتَرِطُهَا اسْتِرَاطًا "
(10/360)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 118] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَظَهَرَ الْحَقُّ وَتَبَيَّنَ لِمَنْ شَهِدَهُ وَحَضَرَهُ فِي أَمْرِ مُوسَى، وَأَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ {وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 118] مِنْ إِفْكِ السِّحْرِ وَكَذِبِهِ وَمَخَايِلِهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(10/360)
 
 
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {فَوَقَعَ الْحَقُّ} [الأعراف: 118] قَالَ: ظَهَرَ "
(10/360)
 
 
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ، قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 118] قَالَ: ظَهَرَ الْحَقُّ وَذَهَبَ الْإِفْكُ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ "
(10/361)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {فَوَقَعَ الْحَقُّ} [الأعراف: 118] قَالَ: ظَهَرَ الْحَقُّ "
(10/361)
 
 
حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {فَوَقَعَ الْحَقُّ} [الأعراف: 118] ظَهَرَ مُوسَى "
(10/361)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف: 119] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَغَلَبَ مُوسَى فِرْعَوْنَ وَجُمُوعَهُ {هُنَالِكَ} [آل عمران: 38] عِنْدَ ذَلِكَ. {وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف: 119] يَقُولُ: وَانْصَرَفُوا عَنْ مَوْطِنِهِمْ ذَلِكَ بِصُغْرٍ مَقْهُورِينَ، يُقَالَ مِنْهُ: صَغُرَ الرَّجُلُ يَصْغُرُ صِغْرًا وَصُغْرًا وَصَغَارًا
(10/361)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 121] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ عِنْدَمَا عَايَنُوا مِنْ عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ، سَاقِطِينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ سُجَّدًا لِرَبِّهِمْ. يَقُولُونَ: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، يَقُولُونَ: صَدَّقْنَا بِمَا جَاءَنَا بِهِ مُوسَى. وَأَنَّ الَّذِي عَلَيْنَا عِبَادَتُهُ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَجَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَيُدَبِّرُ ذَلِكَ كُلَّهُ، رَبُّ مُوسَى وَهَارُونَ، لَا فِرْعَوْنُ
(10/361)
 
 
كَالَّذِي حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ، قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، قَالَ: ثنا أَبُو سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " لَمَّا رَأَتِ السَّحَرَةُ مَا رَأَتْ، عَرَفَتْ أَنَّ ذَلِكَ أَمَرٌ مِنَ السَّمَاءِ وَلَيْسَ بِسِحْرٍ، خَرُّوا سُجَّدًا، وَقَالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ "
(10/362)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 123] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {قَالَ فِرْعَوْنُ} [الأعراف: 123] لِلسَّحَرَةِ إِذْ آمَنُوا بِاللَّهِ، يَعْنِي صَدَّقُوا رَسُولَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَايَنُوا مِنْ عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ: {آمَنْتُمْ} [البقرة: 137] يَقُولُ: أَصَدَّقْتُمْ بِمُوسَى وَأَقْرَرْتُمْ بِنُبُوَّتِهِ، {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف: 123] بِالْإِيمَانِ بِهِ. {إِنَّ هَذَا} [آل عمران: 62] يَقُولُ: تَصْدِيقُكُمْ إِيَّاهُ، وَإِقْرَارُكُمْ بِنُبُوَّتِهِ، {لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} [الأعراف: 123] يَقُولُ لَخِدْعَةٌ خَدَعْتُمْ بِهَا مَنْ فِي مَدِينَتِنَا لِتُخْرِجُوهُمْ مِنْهَا. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 135] مَا أَفْعَلُ بِكُمْ، وَتَلْقَوْنَ مِنْ عِقَابِي إِيَّاكُمْ عَلَى صَنِيعِهِمْ هَذَا. وَكَانَ مَكْرُهُمْ ذَلِكَ فِيمَا
(10/362)
 
 
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْتَقَى مُوسَى وَأَمِيرُ السَّحَرَةِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَرَأَيْتَكَ إِنْ غَلَبْتُكَ أَتُؤْمِنُ بِي وَتَشْهَدُ أَنَّ مَا جِئْتُ بِهِ حَقٌّ؟ قَالَ السَّاحِرُ: لَآتِيَنَّ غَدًا بِسِحْرٍ لَا يَغْلِبُهُ سِحْرٌ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ غَلَبْتَنِي لَأُومِنَنَّ بِكَ وَلَأَشْهَدَنَّ أَنَّكَ حَقٌّ، وَفِرْعَوْنُ يَنْظُرُ [ص:363] إِلَيْهِمْ فَهُوَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} [الأعراف: 123] إِذِ الْتَقَيْتُمَا لِتَظَاهَرَا فَتُخْرِجَا مِنْهَا أَهْلَهَا "
(10/362)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 124] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ فِرْعَوْنَ لِلسَّحَرَةِ إِذْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ مُوسَى: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} [الأعراف: 124] وَذَلِكَ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ أَحَدِهِمْ يَدَهُ الْيُمْنَى وَرِجْلَهُ الْيُسْرَى، أَوْ يَقْطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى وَرَجَلَهُ الْيُمْنَى، فَيُخَالِفَ بَيْنَ الْعُضْوَيْنِ فِي الْقَطْعِ، فَمُخَالَفَتُهُ فِي ذَلِكَ بَيْنَهُمَا هُوَ الْقَطْعُ مِنْ خِلَافٍ. وَيُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ هَذَا الْقَطْعَ فِرْعَوْنُ. {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 124] وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا فِرْعَوْنُ، لَمَّا رَأَى مِنْ خُذْلَانِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَغَلَبَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَهْرِهِ لَهُ
(10/363)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ، وَحَبُّويَهْ الرَّازِيُّ، عَنْ يَعْقُوبَ الْقُمِّيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 124] قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَلَبَ وَأَوَّلُ مَنْ قَطَعَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلَ مِنْ خِلَافٍ فِرْعَوْنُ "
(10/363)
 
 
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126]
(10/363)
 
 
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ السَّحَرَةُ مُجِيبَةٌ لِفِرْعَوْنَ، إِذْ تَوَعَّدَهُمْ بِقَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مِنْ خِلَافٍ، وَالصَّلْبِ: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الأعراف: 125] يَعْنِي بِالِانْقِلَابِ إِلَى اللَّهِ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ وَالْمَصِيرَ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأعراف: 126] يَقُولُ: مَا تُنْكِرُ مِنَّا يَا فِرْعَوْنُ وَمَا تَجِدُ عَلَيْنَا، إِلَّا مِنْ أَجْلِ أَنْ آمَنَّا: أَيْ: صَدَّقْنَا بِآيَاتِ رَبِّنَا، يَقُولُ: بِحُجَجِ رَبِّنَا وَأَعْلَامِهِ وَأَدِلَّتِهِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهَا أَنْتَ، وَلَا أَحَدٌ سِوَى اللَّهِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. ثُمَّ فَزِعُوا إِلَى اللَّهِ، بِمَسْأَلَتِهِ الصَّبْرَ عَلَى عَذَابِ فِرْعَوْنَ، وَقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} [البقرة: 250] يَعْنُونَ بِقَوْلِهِمْ: أَفْرِغْ: أَنْزِلْ عَلَيْنَا حَبْسًا يَحْبِسُنَا عَنِ الْكُفْرِ بِكَ عِنْدَ تَعْذِيبِ فِرْعَوْنَ إِيَّانَا. {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126] يَقُولُ: وَاقْبِضْنَا إِلَيْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، دَيْنِ خَلِيلِكَ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا عَلَى الشِّرْكِ بِكَ
(10/364)
 
 
فَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} [الأعراف: 124] فَقَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ حِينَ قَالُوا: " {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126] قَالَ: كَانُوا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ سَحَرَةً، وَفَى آخِرِ النَّهَارِ شُهَدَاءَ "
(10/364)
 
 
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: «كَانَتِ السَّحَرَةُ أَوَّلَ النَّهَارِ سَحَرَةً، وَآخِرَ النَّهَارِ شُهَدَاءَ»
(10/364)
 
 
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ [ص:365] سَاجِدِينَ} [الأعراف: 120] قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ سَحَرَةً، وَآخِرَهُ شُهَدَاءَ "
(10/364)
 
 
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {رَبَّنَا أَف