تفسير الطبري جامع البيان ت شاكر 012

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب: جامع البيان في تأويل القرآن
المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)
 
رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحزن، فأتاه جبرائيل فقال: يا محمد (وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) .
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: لبث جبرائيل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكأن النبي استبطأه، فلما أتاه قال له جبرائيل (وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ) .... الآية.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا) قال: هذا قول جبرائيل، احتبس جبرائيل في بعض الوحي، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: "ما جئْتَ حتى اشْتَقْتَ إلَيْك فقال له جبرائيل: (وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا) ".
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تبارك وتعالى (وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ) قال: قول الملائكة حين استراثهم محمد صلى الله عليه وسلم، كالتي في الضحى.
حدثنا القاسم، قال ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: لبث جبرائيل عن محمد اثنتي عشرة ليلة، ويقولون: قُلي، فلما جاءه قال: أيْ جَبْرائِيلُ لَقَدْ رِثْتَ عَلَيَّ حتى لَقَدْ ظَنَّ المُشْرِكُونَ كُلَّ ظَنّ فنزلت (وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ) احتبس عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى تكلم المشركون في ذلك، واشتدّ ذلك على نبيّ الله، فأتاه جبرائيل، فقال: اشتدّ عليك احتباسنا عنك، وتكلم في ذلك المشركون، وإنما أنا عبد الله ورسوله، إذا أمرني بأمر أطعته (وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ) يقول: بقول ربك.
(18/223)
 
 
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ) فقال بعضهم: يعني بقوله (مَا بَيْنَ أَيْدِينَا) من الدنيا، وبقوله (وَمَا خَلْفَنَا) الآخرة (وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ) النفختين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا) يعني الدنيا (وَمَا خَلْفَنَا) الآخرة (وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ) النفختين.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال (مَا بَيْنَ أَيْدِينَا) مِنَ الدُّنْيَا (وَمَا خَلْفَنَا) من أمر الآخرة (وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ) ما بين النفختين.
وقال آخرون (مَا بَيْنَ أَيْدِينَا) الآخرة (وَمَا خَلْفَنَا) الدنيا (وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ) ما بين الدنيا والآخرة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (بَيْنَ أَيْدِينَا) الآخرة (وَمَا خَلْفَنَا) من الدنيا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا) من أمر الآخرة (وَمَا خَلْفَنَا) من أمر الدنيا (وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ) ما بين الدنيا والآخرة (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) .
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا) مِنَ الآخِرَةِ (وَمَا خَلْفَنَا) مِنَ الدُّنْيَا (وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ) ما بين النفختين.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (مَا بَيْنَ أَيْدِينَا) مِنَ الآخِرَةِ (وَمَا خَلْفَنَا) من الدنيا.
وقال آخرون في ذلك بما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (مَا بَيْنَ أَيْدِينَا) قال: ما مضى أمامنا من الدنيا (وَمَا
(18/224)
 
 
خَلْفَنَا) ما يكون بعدنا من الدنيا والآخرة (وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ) قال: ما بين ما مضى أمامهم، وبين ما يكون بعدهم.
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يتأوّل ذلك له (مَا بَيْنَ أَيْدِينَا) قبل أن نخلق (وَمَا خَلْفَنَا) بعد الفناء (وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ) حين كنا.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: له ما بين أيدينا من أمر الآخرة، لأن ذلك لم يجئ وهو جاء، فهو بين أيديهم، فإن الأغلب في استعمال الناس إذا قالوا: هذا الأمر بين يديك، أنهم يعنون به ما لم يجئ، وأنه جاء، فلذلك قلنا: ذلك أولى بالصواب. وما خلفنا من أمر الدنيا، وذلك ما قد خلفوه فمضى، فصار خلفهم بتخليفهم إياه، وكذلك تقول العرب لما قد جاوزه المرء وخلفه هو خلفه، ووراءه وما بين ذلك: ما بين ما لم يمض من أمر الدنيا إلى الآخرة، لأن ذلك هو الذي بين ذَينك الوقتين.
وإنما قلنا: ذلك أولى التأويلات به، لأن ذلك هو الظاهر الأغلب، وإنما يحمل تأويل القرآن على الأغلب من معانيه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له. فتأمل الكلام إذن: فلا تستبطئنا يا محمد في تخلفنا عنك، فإنا لا نتنزل من السماء إلى الأرض إلا بأمر ربك لنا بالنزول إليها، لله ما هو حادث من أمور الآخرة التي لم تأت وهي آتية، وما قد مضى فخلفناه من أمر الدنيا، وما بين وقتنا هذا إلى قيام الساعة، بيده ذلك كله، وهو مالكه ومصرّفه، لا يملك ذلك غيره، فليس لنا أن نحدث في سلطانه أمرا إلا بأمره إيانا به (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) يقول: ولم يكن ربك ذا نسيان، فيتأخر نزولي إليك بنسيانه إياك بل هو الذي لا يعزب عنه شيء في السماء ولا في الأرض فتبارك وتعالى ولكنه أعلم بما يدبر ويقضي في خلقه. جلّ ثناؤه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) ما نسيك ربك.
(18/225)
 
 
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) }
يقول تعالى ذكره: لم يكن ربك يا محمد ربّ السماوات والأرض وما بينهما نسيا، لأنه لو كان نسيا لم يستقم ذلك، ولهلك لولا حفظه إياه، فالربّ مرفوع ردّا على قوله (رَبُّكَ) وقوله (فاعْبُدْه) يقول: فالزم طاعته، وذلّ لأمره ونهيه (وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) يقول: واصبر نفسك على النفوذ لأمره ونهيه، والعمل بطاعته، تفز برضاه عنك، فإنه الإله الذي لا مثل له ولا عدل ولا شبيه في جوده وكرمه وفضله (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) يقول: هل تعلم يا محمد لربك هذا الذي أمرناك بعبادته، والصبر على طاعته مثلا في كرمه وجوده، فتعبده رجاء فضله وطوله دونه كلا ما ذلك بموجود.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) يقول: هل تعلم للربّ مثلا أو شبيها.
حدثني سعيد بن عثمان التنوخي، قال: ثنا إبراهيم بن مهدي، عن عباد بن عوام، عن شعبة، عن الحسن بن عمارة، عن رجل، عن ابن عباس، في قوله (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) قال: شبيها.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن الأعمش، عن مجاهد في هذه الآية (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) قال: هل تعلم له شبيها، هل تعلم له مثلا تبارك وتعالى.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) لا سميّ لله ولا عَدل له، كلّ خلقه يقر له، ويعترف أنه خالقه، ويعرف ذلك، تم يقرأ هذه الآية (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) قال: يقول: لا شريك له ولا مثل.
(18/226)
 
 
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُ الإنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) }
يقول تعالى ذكره: (وَيَقُولُ الإنْسَانُ) الكافر الذي لا يصدق بالبعث بعد الموت أخرج حيا، فأُبعث بعد الممات وبعد البلاء والفناء إنكارا منه ذلك، يقول الله تعالى ذكره: (أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ) المتعجب من ذلك المنكر قدرة الله على إحيائه بعد فنائه، وإيجاده بعد عدمه في خلق نفسه، أن الله خلقه من قبل مماته، فأنشأه بشرًّا سويا من غير شيء (وَلَمْ يَكُ) من قبل إنشائه إياه (شَيْئًا) فيعتبر بذلك ويعلم أن من أنشأه من غير شيء لا يعجز عن إحيائه بعد مماته، وإيجاده بعد فنائه.
وقد اختلفت القراء في قراءة قوله: (أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ) فقرأه بعض قرّاء المدينة والكوفة (أَوَلا يَذْكُرُ) بتخفيف الذال، وقد قرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة والحجاز (أو لا يَذَّكَّرُ) بتشديد الذال والكاف، بمعنى: أو لا يتذكر، والتشديد أعجب إليّ، وإن كانت الأخرى جائزة، لأن معنى ذلك: أو لا يتفكر فيعتبر.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فوربك يا محمد لنحشرنّ هؤلاء القائلين: أئذا متنا لسوف نخرج أحياء يوم القيامة من قبورهم، مقرنين بأوليائهم من الشياطين (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) والجثي: جمع الجاثي.
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي،
(18/227)
 
 
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)
عن أبيه، عن ابن عباس قوله (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) يعني: القعود، وهو مثل قوله وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً) .
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) }
يقول تعالى ذكره: ثم لنأخذن من كلّ جماعة منهم أشدّهم على الله عتوّا، وتمرّدًا فلنبدأنّ بهم.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عليّ بن الأقمر، عن أبي ألأحوص (ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا) قال: نبدأ بالأكابر فالأكابر جرما.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا) يقول: أيهم أشدّ للرحمن معصية، وهي معصيته في الشرك.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا) يقول: عصيا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) قال: أمة. وقوله (عِتِيًّا) قال: كفرا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله، وزاد فيه ابن جريج: فلنبدأنّ بهم.
قال أبو جعفر: والشيعة هم الجماعة المتعاونون على الأمر من الأمور، يقال من ذلك: تشايع القوم: إذا تعاونوا; ومنه قولهم للرجل الشجاع: إنه لمشيع: أي معان، فمعنى الكلام: ثم لننزعن من كل جماعة تشايعت على الكفر بالله،
(18/228)
 
 
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
أشدّهم على الله عتوّا، فلنبدأنّ بإصلائه جهنم. والتشايع في غير هذا الموضع: التفرّق; ومنه قول الله عزّ ذكره: (وَكَانُوا شِيَعًا) يعني: فرقا; ومنه قول ابن مسعود أو سعد؛ إني أكره أن آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: شيَّعت بين أمتي، بمعنى: فرّقت.
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) }
يقول تعالى ذكره:
ثم لنحن أعلم من هؤلاء الذين ننزعهم من كلّ شيعة أولاهم بشدّة العذاب، وأحقهم بعظيم العقوبة.
وذكر عن ابن جريج أنه كان يقول في ذلك ما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا) قال: أولى بالخلود في جهنم.
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله ابن جريج، قول لا معنى له، لأن الله تعالى ذكره أخبر أن الذين ينزعهم من كلّ شيعة من الكفرة أشدّهم كفرا، ولا شكّ أنه لا كافر بالله إلا مخلَّد في النار، فلا وجه، وجميعهم مخلدون في جهنم، لأن يقال: ثم لنحن أعلم بالذين هم أحقّ بالخلود من هؤلاء المخلدين، ولكن المعنى في ذلك ما ذكرنا. وقد يحتمل أن يكون معناه: ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى ببعض طبقات جهنم صليا. والصلّي: مصدر صليت تصلي صليا، والصليّ: فعول، ولكن واوها انقلبت ياء فأدغمت في الياء التي بعدها التي هي لام الفعل، فصارت ياء مشدّدة.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) }
يقول تعالى ذكره: وإن منكم أيها الناس إلا وارد جهنم، كان على ربك يا محمد إيراهموها قضاء مقضيا، قد قضى ذلك وأوجبه في أمّ الكتاب.
(18/229)
 
 
واختلف أهل العلم في معنى الورود الذي ذكره الله في هذا الموضع، فقال بعضهم: الدخول.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو، قال: أخبرني من سمع ابن عباس يخاصم نافع بن الأزرق، فقال ابن عباس: الورود: الدخول، وقال نافع: لا فقرأ ابن عباس: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) أورود هو أم لا؟ وقال (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) أورود هو أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخلها، فانظر هل نخرج منها أم لا؟ وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك، قال: فضحك نافع.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، قال. قال أبو راشد الحروري: ذكروا هذا فقال الحروري: لا يسمعون حسيسها، قال ابن عباس: ويلك أمجنون أنت؟ أين قوله تعالى (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) ، وقوله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) والله إن كان دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالمًا، وأدخلني الجنة غانما.
قال ابن جريج: يقول: الورود الذي ذكره الله في القرآن: الدخول، ليردنها كل برّ وفاجر في القرآن أربعة أوراد (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) و (حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) ، وقوله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا) يعني البرّ والفاجر، ألم تسمع إلى قول الله تعالى لفرعون (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) وَقَالَ (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) فسمى الورود في النار دخولا وليس بصادر.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن بكار بن أبي مروان، عن خالد بن معدان، قال: قال أهل الجنة بعد ما دخلوا الجنة: ألم
(18/230)
 
 
يعدنا ربنا الورود على النار؟ قال: قد مررتم عليها وهي خامدة.
قال ابن عرفة، قال مروان بن معاوية، قال بكار بن أبي مروان، أو قال: جامدة.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا مرحوم بن عبد العزيز، قال: ثني أبو عمران الجوني، عن أبي خالد قال: تكون الأرض يومًا نارًا، فماذا أعددتم لها؟ قال: فذلك قول الله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) .
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلية، عن الجريري، عن أبي السليل، عن غنيم بن قيس، قال: ذكروا ورود النار، فقال كعب: تمسك النار للناس كأنها متن إهالة، حتى يستوي عليها أقدام الخلائق برّهم وفاجرهم، ثم يناديها مناد: أن أمسكي أصحابك، ودعي أصحابي، قال: فيخسف بكلّ وليّ لها، ولهي أعلم بهم من الرجل بولده، ويخرج المؤمنون ندية أبدانهم. قال: وقال كعب: ما بين منكبي الخازن من خزنتها مسيره سنة، مع كل واحد منهم عمود له شعبتان، يدفع به الدفعة، فيصرع به في النار سبعمائة ألف.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن مالك بن مغول، عن أبي إسحاق، قال: كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه، قال: يا ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل: وما يبكيك يا أبا ميسرة؟ قال: أخبرنا أنا واردوها، ولم يخبرنا أنا صادرون عنها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن إسماعيل، عن قيس، قال: بكى عبد الله بن رواحة في مرضه، فبكت امرأته، فقال: ما يبكيك، قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال ابن رواحة: إني قد علمت إنى وارد النار فما أدري أناج منها أنا أم لا؟ .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو عمرو داود بن الزبرقان، قال: سمعت السدّي يذكر عن مرّة الهمداني، عن ابن مسعود (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) قال: داخلها.
(18/231)
 
 
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) قال: يدخلها.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: كان عبد الله بن رواحة واضع رأسه في حجر امرأته، فبكى، فبكت امرأته، قال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إني ذكرت قول الله (وإن منكم إلا واروها) فلا أدري أنجو منها، أم لا؟ .
وقال آخرون: بلّ هو المرّ عليها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) يعني جهنم مرّ الناس عليها.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) قال: هو المرّ عليها.
حدثنا خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا النضر، قال: أخبرنا إسرائيل، قال: أخبرنا أبو إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) قال: الصراط على جهنم مثل حدّ السيف، فتمرّ الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرّون والملائكة يقولون: اللهمّ سلم سلم.
وقال آخرون: بل الورود: هو الدخول، ولكنه عنى الكفار دون المؤمنين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني عبد الله بن السائب، عن رجل سمع ابن عباس يقرؤها (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) يعني الكفار، قال: لا يردها مؤمن.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عمرو بن الوليد الشني، قال: سمعت عكرمة يقول (وإن منكم إلا واردها) يعني الكفار.
وقال آخرون: بل الورود عام لكلّ مؤمن وكافر، غير أن ورود المؤمن المرور، وورود الكافر الدخول.
(18/232)
 
 
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهريها وورود المشركين أن يدخلوها، قال: وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الزَّالُّونَ والزَّالاتٌ يَومَئِذٍ كَثِيرٌ، وقد أحَاطَ الجِسْرَ سِماطانِ مِنَ المَلائِكَةِ، دَعْوَاهُمْ يَوْمَئِذٍ يا اللهُ سَلِّمْ ".
وقال آخرون: ورود المؤمن ما يصيبه في الدنيا من حمَّى ومرض.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد قال: الحمى حظ كل مؤمن من النار، ثم قرأ (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) .
حدثني عمران بن بكار الكلاعي، قال: ثنا أبو المغيرة، قال: ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، قال: ثنا إسماعيل بن عبيد الله، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلا من أصحابه وبه وعك وأنا معه، ثم قال: "إنَّ اللهَ يَقُولُ: هِيَ نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي المُؤْمِنُ، لِتَكُونَ حَظَّهُ مِنَ النَّارِ فِي الآخِرَةِ".
وقال آخرون: يردها الجميع، ثم يصدر عنها المؤمنون بأعمالهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: ثني السديّ، عن مرّة، عن عبد الله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) قال: يردُونها ثم يصدون عنها بأعمالهم.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا شعبه، عن السدّي، عن مرّة، عن عبد الله، بنحوه.
حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا أسباط، عن عبد الملك، عن عبيد الله، عن مجاهد، قال: كنت عند ابن عباس، فأتاه رجل يُقال له أبو راشد، وهو نافع بن الأزرق، فقال له: يا ابن عباس أرأيت قول الله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا) قال: أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها، فانظر هل نصدر عنها أم لا؟ .
(18/233)
 
 
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن الورود، فقال: نحن يوم القيامة على كوى أو كرى، فوق الناس، فتدعى الأمم بأوثانها، وما كانت تعبد الأوّل فالأوّل، فينطلق بهم ويتبعونه، قال: ويعطى كلّ إنسان منافق ومؤمن نورا، ويغشى ظلمة ثم يتبعونه، وعلى جسر جهنم كلاليب تأخذ من شاء الله، فيطفأ نور المنافق، وينجو المؤمنون، فتنجو أوّل زمرة كالقمر ليلة البدر، وسبعون ألفًا لا حساب عليهم، ثم الذين يلونهم كأضواء نجم في السماء، ثم كذلك، ثم تحلّ الشفاعة فيشفعون، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله ممن في قلبه وزن شعيرة من خير، ثم يلقون تلقاء الجنة، ويهريق عليهم أهل الجنة الماء، فينبتون نبات الشيء في السيل، ثم يسألون فيجعل لهم الدنيا وعشرة أمثالها.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن المبارك، عن الحسن، قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك بأنك وارد النار؟ قال: نعم، قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا قال: ففيم الضحك؟ قال: فما رؤي ضاحكا حتى لحق بالله.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث أن بكيرا حدّثه أنه قال لبسر بن سعيد: إن فلانا يقول: إن ورود النار القيام عليها. قال بسر: أما أبو هريرة فسمعته يقول: "إذا كان يوم القيامة، يجتمع الناس نادى مناد: ليلحق كل أناس بما كانوا يعبدون، فيقوم هذا إلى الحجر، وهذا إلى الفرس، وهذا إلى الخشبة حتى يبقى الذين يعبدون الله، فيأتيهم الله، فإذا رأوه قاموا إليه، فيذهب بهم فيسلك بهم على الصراط، وفيه عليق، فعند ذلك يؤذن بالشفاعة، فيمرّ الناس، والنبيون يقولون: اللهمّ سلم سلم. قال بكير: فكان ابن عميرة يقول: فناج مسلم ومنكوس في جهنم ومخدوش، ثم ناج.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: يردها الجميع ثم يصدر عنها المؤمنون، فينجيهم الله، ويهوي فيها الكفار وورودهموها هو ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرورهم على الصراط المنصوب على متن جهنم، فناج مسلم ومكدس فيها.
(18/234)
 
 
* ذكر الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أمّ مبشر امرأة زيد بن حارثة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة: "لا يَدْخُلُ النَّارَ أحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا والحُدَيْبِيَةَ، قالت: فقالت حفصة: يا رسول الله، أليس الله يقول (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) ؟ فقال رسول الله: "فمَهْ (ثُمَّ يُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) ".
حدثنا الحسن بن مدرك، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: ثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أمّ مبشر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثله.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أمّ مبشر، عن حفصة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّي لأرْجُو أنْ لا يَدْخُلَ النَّارَ أحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا والحُدَيْبِيَةَ، قالت: فقلت يا رسول الله، أليس الله يقول: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) ؟ قال: فَلَمْ تَسْمَعِيهِ يَقُولُ: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) ؟ ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن عُلَية، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقب، عن سليمان بن عمرو بن عبد العِتْواري، أحد بني ليث، وكان في حجر أبي سعيد، قال: سمعت أبا سعيد الخُدريّ يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يُوضَعُ الصِّراطُ بينَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، عَلَيْهِ حَسكٌ كحَسكِ السَّعْدانِ، ثُمَّ يَسْتَجِيزُ النَّاسُ، فَناج مُسْلِمٌ ومجْرُوحٌ بِهِ، ثُمَّ ناجٍ ومُحْتَبِسٌ ومُكَدَّسٌ فيها، حتى إذَا فَرَغَ اللهُ مِنَ القضَاءِ بَينَ العِبَادِ تَفَقَّدَ المُؤْمِنُونَ رِجَالا كانُوا مَعَهُم في الدُّنْيَا يُصلُّون صلاتَهُمْ، ويُزَكُّونَ زكاتَهُمْ ويَصُومُون صِيامَهُمْ، ويَحُجُّونَ حجَّهُمْ، وَيغْزُونَ غَزْوَهُمْ، فَيَقُولُونَ: أيْ ربَّنا عبادٌ مِنْ عِبادِكَ كانُوا مَعَنا في الدُّنْيا، يُصلُّون صلاتَنَا، ويُزَكُّونَ زكاتَنا، ويَصُومُونَ صِيامَنَا، ويحُجُّونَ حَجَّنا، وَيغْزُونَ غَزْونا، لا نَراهُمْ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا إلى النَّار، فَمَنْ وجَدْتُمْ فِيها مِنْهُمْ فأخْرِجُوهُ، فَيَجِدُونَهُمْ قَدْ أخَذَتْهُم النَّار على قَدْرِ أعمالِهِمْ، فَمِنْهمْ مَنْ أخَذَتْهُ النَّارُ إلى قَدَمَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ أخَذَتْهُ إلى نِصْفِ ساقِيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ أخَذَتْهُ إلى رُكْبَتَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ أخَذَتْهُ إلى
(18/235)
 
 
ثَدْيَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ أخَذَتهُ إلى عُنُقِهِ ولمْ تَغْشَ الوُجُوهَ، فَيَسْتَخْرِجُونَهُمْ مِنْها، فَيَطْرَحُونَهُمْ في ماءِ الحَياةِ؛ قِيلَ: وما ماءُ الحَياةِ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ غُسْلُ أهْلِ الجَنَّةِ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الزَّرْعَةُ فِي غُثاءِ السَّيْلِ، ثُمَّ تَشْفَعُ الأنْبِياءُ فِي كُلّ مَنْ كانَ يَشْهَدُ أن لا إله إلا اللهُ مُخْلِصًا، فَيَسْتَخْرِجُونَهُمْ مِنْها، ثُمَّ يَتَحننُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ عَلى مَنْ فِيها، فَما يَتْرُكُ فيها عَبْدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقال ذَرَّةٍ مِنَ الإيمَانِ إلا أخْرَجَهُ مِنْها".
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا أبي وشعيب بن الليث، عن الليث بن خالد، عن يزيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخُدريّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُؤْتَي بالجِسْرِ - يعني يوم القيامة - فَيُجْعَلُ بينَ ظَهْرِيْ جَهَنَّمَ، قلنا: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: مَدحَضَةٌ مزَلَّةٌ، عَلَيْهِ خَطاطِيفُ وكَلالِيبُ وحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفاء تكُونُ بِنَجْدٍ، يُقالُ لَهَا السَّعْدانُ، يَمُرُّ المُؤْمِنُونَ عَلَيْها كالطَّرفِ والبَرْقِ وكالرِّيحِ، وكأجاوِدِ الخَيْلِ والرِّكاب، فَناجٍ مُسْلِمٌ، ومَخْدُوشٌ مُسْلِمٌ، ومَكْدُوسٌ في جَهَنَّم، ثُمَّ يَمُرُّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبا، فَمَا أنْتُمْ بأشدّ مُناشَدَةً لي في الحَقِّ قَد تَبَيَّنَ لَكْمْ، مِنَ المُؤْمِنِينَ يَومَئذٍ للجبَّارِ تَبارَك وَتَعالى، إذَا رأوْهُمْ قَدْ نَجَوْا وَبَقي إخْوانُهُم".
حدثني أحمد بن عيسى، قال: ثنا سعيد بن كثير بن عفير، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، قال: سألت جابر بن عبد الله عن الورود، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هُوَ الدُّخولُ، يَرِدُونَ النَّارَ حتى يَخْرُجُوا مِنْها، فآخِرُ مَنْ يَبْقَى رَجُلٌ عَلى الصِّراطِ يَزْحَف، فَيرْفَعُ اللهُ لَهُ شَجَرَةً، قالَ: فَيَقُولُ: أيْ رَبّ أدْنِنِي مِنْها، قالَ: فَيُدْنيهِ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعالى مِنْها، قالَ: ثُمَّ يَقُولُ: أيْ رَبّ أدْخِلْنِي الجَنَّةَ، قالَ: فَيَقُولُ: سَلْ، قالَ: فَيَسألُ، قال: فَيَقُولُ: ذلكَ لَكَ وَعَشْرَةُ أضعافِهِ أوْ نَحْوَها; قال: فَيَقُولُ: يا ربّ تَسْتهزِئُ بِي؟ قالَ: فَيَضْحَكُ حتى تَبْدُوَ لَهْوَاتُهُ وأضْرَاسُهُ".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن أيوب "ح "; وحدثنا أبو كريب، قال: ثنا محمد بن زيد، عن رشدين، جميعا عن
(18/236)
 
 
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
زياد بن فائد، عن سهل بن معاذ، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ حَرَسَ وَرَاءَ المُسْلِمِينَ في سَبِيلِ اللهِ مُتَطَوّعا، لا يأخُذُهُ سُلْطانٌ بحرَسٍ، لَمْ يَرَ النَّارَ بعَيْنِه إلا تَحلَّةَ القَسَمِ، فإنَّ اللهَ تَعالى يقُولُ (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) ".
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، أخبرني الزهري، عن ابن المسيب عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلاثَةٌ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ إلا تَحِلَّةِ القَسَمِ" يعني: الورود.
وأما قوله (كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم معناه: كان على ربك قضاء مقضيا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (حَتْما) قال: قضاء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (حَتْمًا مَقْضِيًّا) قال قضاء.
وقال آخرون: بل معناه: كان على ربك قسَما واجبا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو عمرو داود بن الزّبرقان، قال: سمعت السديّ يذكر عن مرّة الهمداني، عن ابن مسعود (كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا) قال: قسما واجبا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا) يقول: قسما واجبا.
قال أبو جعفر: وقد بيَّنت القول في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) }
يقول تعالى ذكره: (ثُمَّ نُنَجِّي) من النار بعد ورود جميعهم إياها، (الَّذِينَ
(18/237)
 
 
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
اتَّقَوْا) فخافوه، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) يقول جل ثناؤه: وندع الذين ظلموا أنفسهم، فعبدوا غير الله، وعصوا ربهم، وخالفوا أمره ونهيه في النار جثيا، يقول: بروكا على ركبهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) على ركبهم.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) على ركبهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) قال: الجثيّ: شرّ الجلوس، لا يجلس الرجل جاثيا إلا عند كرب ينزل به.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) إن الناس وردوا جهنم وهي سوداء مظلمة، فأما المؤمنون فأضاءت لهم حسناتهم، فأنجوا منها. وأما الكفار فأوبقتهم أعمالهم، واحتبسوا بذنوبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) }
يقول تعالى ذكره: (وإذَا تُتْلَى) على الناس (آياتُنا) التي أنزلناها على رسولنا محمد (بَيِّنَات) ، يعني واضحات لمن تأمَّلها وفكَّر فيها أنها أدلة على ما جعلها الله أدلة عليه لعباده، (قال الذين كفروا بالله) وبكتابه وآياته، وهم قريش، (لِلَّذِينَ آمَنُوا) فصدّقوا به، وهم أصحاب محمد (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا) يَعْني بالمقام: موضع إقامتهم، وهي مساكنهم ومنازلهم (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) وهو المجلس، يقال منه: ندوت القوم أندوهم ندوا: إذا جمعتهم في مجلس، ويقال: هو في نديّ قومه وفي ناديهم: بمعنى واحد، ومن النديّ قول حاتم:
(18/238)
 
 
ودُعِيتُ في أُولي النَّدِيّ ولَمْ ... يُنْظَرْ إليَّ بأعْيُنٍ خُزْرِ (1)
وتأويل الكلام: وإذا تتلى عليهم آياتنا بيِّنات، قال الذين كفروا للذين آمنوا: أيّ الفريقين منا ومنكم أوسع عيشا، وأنعم بالا وأفضل مسكنا، وأحسن مجلسا، وأجمع عددا وغاشية في المجلس، نحن أم أنتم؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قوله (خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) قال: المقام: المنزل، والنديّ: المجلس.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ عن شعبة، عن سليمان، عن أبى ظَبيان، عن ابن عباس بمثله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) قال: المقام: المسكن، والنديّ، المجلس والنعمة والبهجة التي كانوا فيها، وهو كما قال الله لقوم فرعون، حين أهلكهم وقصّ شأنهم في القرآن فقال (كم تركوا من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين) فالمقام: المسكن والنعيم، والنديّ: المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه، وقال الله فيما قصّ على رسوله في أمر لوط إذ قال (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) ، والعرب تسمي المجلس: النادي.
__________
(1) البيت لحاتم الطائي، من شعره في كتاب (شعراء النصرانية: القسم الأول ص 115) وفي (اللسان: ندى) : والندى: المجالسة وناديته: جالسته، وتنادوا: تجالسوا في النادي، والندي: المجلس ما داموا مجتمعين فيه، فإذا تفرقوا عنه فليس بندي. وقيل: الندي: مجلس القوم نهارا عن كراع. والنادي: كالندي. التهذيب: النادي المجلس، يندو إليه من حواليه، ولا يسمى ناديا حتى يكون فيه أهله، وإذا تفرقوا لم يكن ناديا، وهو الندي، والجمع الأندية. أه. الخزر: جمع خزراء من الخزر، وهو كما في (اللسان: خزر) كسر العين بصرها خلقة. وقيل: هو ضيق العين وصغرها. وقيل هو النظر الذي كأنه في أحد الشقين، ثم استشهد ببيت حاتم، وقد استشهد المؤلف به، على أن معنى الندي: مجلس القوم.
(18/239)
 
 
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) يقول: مجلسا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) قال: قريش تقولها لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) قال: مجالسهم، يقولونه أيضا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين قال: ثنِي حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عيشهم خشونة، وفيهم قشافة، فعرّض أهل الشرك بما تسمعون. قوله (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) يقول: مجلسا.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) قال: النديّ، المجلس، وقرأ قول الله تعالى (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ) قال: مجلسه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) }
يقول تعالى ذكره: وكم أهلكنا يا محمد قبل هؤلاء القائلين من أهل الكفر للمومنين، إذا تُتلى عليهم آيات الرحمن، أيّ الفريقين خير مقاما، وأحسن نديا، مجالس من قرن هم أكثر متاع منازل من هؤلاء، وأحسن منهم منظرا وأجمل صورا، فأهلكنا أموالهم، وغيرنا صورهم; ومن ذلك قول علقمة بن عبدة:
كُمَيْتٌ كَلَوْنِ الأرْجُوَانِ نَشَرْتهُ ... لبَيْعِ الرّئِي في الصّوَانِ المُكَعَّبِ (1)
__________
(1) البيت لعلقمة بن عبدة وهو الثاني والعشرون من قصيدته التي مطلعها: *ذهبت من الهجران في غير مذهب *
(مختار الشعر الجاهلي طبعة الحلبي بشرح مصطفى السقا، ص 436) وفيه " الرداء " في موضع الرئي. قال شارحه: الكميت: الفرس الذي لونه بين السواد والحمرة. والأرجوان: صبغ أحمر مشبع. والمراد هنا: ثوب أحمر. . والصوان: ثوب تصان فيه الثياب، ويقال له التخت. والمكعب هنا الموشى من الثياب، وهو من صفة الرداء. ويقال: المكعب: المطوي المشدود، وكل ما ربعته فقد كعبته، ومنه الفتاة الكاعب: التي تكعب ثدييها وبرز. وفي (اللسان: رأي) : الرئي (على فعيل) والرئي (على فعل بكسر أوله) الثوب ينشر للبيع عن علي. التهذيب: الرئي، بهمزة مسكنة: الثوب الفاخر الذي ينشر ليرى حسنه.
(18/240)
 
 
يعني بالصوان: التخت الذي تصان فيه الثياب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس (أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) قال: الرئي: المنظر، والأثاث: المتاع.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ عن شعبة عن سليمان عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: الرئي المنظر.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ عن ابن عباس، قوله (أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) يقول: منظرا.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) الأثاث: المال، والرئي: المنظر.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله (أَثَاثًا وَرِئْيًا) قال: الأثاث: أحسن المتاع، والرِّئي: قال: المال.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، يقول الله تبارك وتعالى (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) : أي أكثر متاعا وأحسن منزلة ومستقرا، فأهلك الله أموالهم، وأفسد صورهم عليهم تبارك وتعالى.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله (أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) قال: أحسن صورا، وأكثر أموالا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني
(18/241)
 
 
الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (أثاثا) قال: المتاع (وَرِئْيا) قال: فيما يرى الناس.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.
حدثنا ابن حميد وبشر بن معاذ، قالا ثنا جرير بن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: الأثاث: المال، والرِّئي: المنظر الحسن.
حدثنا القاسم، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس (وَرِئْيا) : منظرا في اللون والحسن.
حدثنا القاسم، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس (وَرِئْيا) منظرا في اللون والحسن.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) قال: الرئي: المنظر، والأثاث: المتاع، أحسن متاعا، وأحسن منظرا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول في قوله: (أحْسَنُ أثَاثًا) يعني المال (وَرِئْيا) يعني: المنظر الحسن.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة: "وَرِيًّا" غير مهموز، وذلك إذا قرئ كذلك يتوجه لوجهين: أحدهما: أن يكون قارئه أراد الهمزة، فأبدل منها ياء، فاجتمعت الياء المُبدلة من الهمز والياء التي هي لام الفعل، فأدغمتا، فجعلتا ياء واحدة مشددة ليُلْحِقُوا ذلك، إذ كان رأس آية، بنظائره من سائر رءوس الآيات قبله وبعده; والآخر أن يكون من رويت أروى روية وريًّا، وإذا أريد به ذلك كان معنى الكلام: وكم أهلكنا قبلهم من قرن، هم أحسن متاعا، وأحسن نظرا لماله، ومعرفة لتدبيره، وذلك أن العرب تقول: ما أحسن رؤية فلان في هذا الأمر إذا كان حسن النظر فيه والمعرفة به. وقرأ ذلك عامة قرّاء العراق والكوفة والبصرة (وَرِئْيا) بهمزها، بمعنى: رؤية العين، كأنه أراد: أحسن متاعا ومَرآة. وحُكي عن بعضهم أنه قرأ: أحسن أثاثا وزيا، بالزاي، كأنه أراد أحسن متاعا وهيئة ومنظرا، وذلك أن الزيّ هو الهيئة والمنظر من قولهم: زيَّيت الجارية، بمعنى: زينتها وهيأتها.
(18/242)
 
 
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك بالصواب، قراءه من قرأ (أثاثا وَرِئْيا) بالراء والهمز، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن معناه: المنظر، وذلك هو من رؤية العين، لا من الرؤية، فلذلك كان المهموز أولى به، فإن قرأ قارئ ذلك بترك للهمز، وهو يريد هذا المعنى، فغير مخطئ في قراءته. وأما قراءته بالزاي فقراءة خارجة، عن قراءه القرّاء، فلا أستجيز القراءة بها لخلافها قراءتهم، وإن كان لهم في التأويل وجه صحيح.
واختلف أهل العربية في الأثاث أجمع هو أم واحد، فكان الأحمر فيما ذُكر لي عنه يقول: هو جمع، واحدتها أثاثة، كما الحمام جمع واحدتها حمامة، والسحاب جمع واحدتها سحابة، وأما الفراء فإنه كان يقول: لا واحد له، كما أن المتاع لا واحد له. قال: والعرب تجمع المتاع: أمتعة، وأماتيع، ومتع. قال: ولو جمعت الأثاث لقلت: ثلاثة آثَّةٍ وأثث. وأما الرئي فإن جمعه: آراء.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم، القائلين: إذا تتلى عليهم آياتنا، أيّ الفريقين منا ومنكم خير مقاما وأحسن نديا، من كان منا ومنكم في الضلالة جائرا عن طريق الحقّ، سالكا غير سبيل الهدى، فليمدد له الرحمن مدّا: يقول: فليطوَّل له الله في ضلالته، وليمله فيها إملاء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) فليَدعْه الله في طغيانه.
(18/243)
 
 
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وقوله (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) يقول تعالى ذكره: قل لهم: من كان منا ومنكم في الضلالة، فليمدد له الرحمن في ضلالته إلى أن يأتيهم أمر الله، إما عذاب عاجل، أو يلقوا ربهم عند قيام الساعة التي وعد الله خلقه أن يجمعهم لها، فإنهم إذا أتاهم وعد الله بأحدِ هذين الأمرين (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا) ومسكنا منكم ومنهم (وَأَضْعَفُ جُنْدًا) أهم أم انتم؟ ويتبينون حينئذ أيّ الفريقين خير مقاما، وأحسن نديا.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) }
يقول تعالى ذكره: ويزيد الله من سلك قصد المحجة، واهتدى لسبيل الرشد، فآمن بربه، وصدّق بآياته، فعمل بما أمره به، وانتهى عما نهاه عنه هدى بما يتجدّد له من الإيمان بالفرائض التي يفرضها عليه، ويقرّ بلزوم فرضها إياه، ويعمل بها، فذلك زيادة من الله في اهتدائه بآياته هدى على هداه، وذلك نظير قوله (وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) . وقد كان بعضهم يتأول ذلك: ويزيد الله الذين اهتدوا هدى بناسخ القرآن ومنسوخه، فيؤمن بالناسخ، كما آمن من قبل بالمنسوخ، فذلك زيادة هدى من الله له على هُدَاه من قبل (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا) يقول تعالى ذكره: والأعمال التي أمر الله بها عباده ورضيها منهم، الباقيات لهم غير الفانيات الصالحات، خير عند ربك جزاء لأهلها (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) عليهم من مقامات هؤلاء المشركين بالله، وأنديتهم التي يفتخرون بها على أهل الإيمان في الدنيا.
(18/244)
 
 
وقد بيَّنا معنى الباقيات الصالحات، وذكرنا اختلاف المختلفين في ذلك، ودللنا على الصواب من القول فيه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمر بن راشد، عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال: " جلس النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فأخذ عودا يابسا، فحطّ ورقه ثم قال: إنَّ قَوْلَ لا إله إلا اللهُ، واللهُ أكْبَرُ، والحَمْدُ للهِ وسُبْحَانَ اللهِ، تَحطُّ الخَطايا، كمَا تَحُطُّ وَرَقَ هذِهِ الشَّجَرَةِ الرِّيحُ، خُذْهُنَّ يا أبا الدَّرْدَاءِ قَبْلَ أنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُنَّ، هُنَّ البَاقِيَاتُ الصَّالِحاتُ، وَهُنَّ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ"، قال أبو سلمة: فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال: لأهللنّ الله، ولأكبرنّ الله، ولأسبحنّ الله، حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون.
(18/245)
 
 
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (أفَرَأيْتَ) يا محمد (الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا) حججنا فلم يصدّق بها، وأنكر وعيدنا من أهل الكفر (وَقَالَ) وهو بالله كافر وبرسوله (لأُوتَينَّ) في الآخرة (مالا وَوَلَدًا) .
وذُكر أن هذه الآيات أنزلت في العاص بن وائل السهمي أبي عمرو بن العاص.
* ذكر الرواية بذلك: حدثنا أبو السائب وسعيد بن يحيى، قالا ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن خباب، قال: كنت رجلا قينا، وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال: والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال: فقال: فإذا أنا متّ ثم بُعثت كما تقول، جئتني ولي مال وولد، قال: فأنزل الله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا) .... إلى قوله: (وَيَأْتِينَا فَرْدًا) .
حدثني به أبو السائب، وقرأ في الحديث: وولدا.
(18/245)
 
 
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون العاص بن وائل السهمي بدين، فأتوه يتقاضونه، فقال: ألستم تزعمون أن في الجنة فضة وذهبا وحريرا، ومن كلّ الثمرات؟ قالوا: بلى، قال: فإن موعدكم الآخرة، فوالله لأُوتينّ مالا وولدا، ولأُوتينّ مثل كتابكم الذي جئتم به، فضرب الله مثله في القران، فقال: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا) .... إلى قوله (وَيَأْتِينَا فَرْدًا) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله (لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا) قال: العاص بن وائل يقوله.
حدثنا القاسم، قال. ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا) فذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتوا رجلا من المشركين يتقاضونه دينا، فقال: أليس يزعم صاحبكم أن في الجنة حريرا وذهبا؟ قالوا: بلى، قال فميعادكم الجنة، فوالله لا أومن بكتابكم الذي جئتم به، استهزاء بكتاب الله، ولأُوتينّ مالا وولدا، يقول الله (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا) ؟.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: قال خباب بن الأرت: كنت قينا بمكة، فكنت أعمل للعاص بن وائل، فاجتمعت لي عليه دراهم، فجئت لأتقاضاه، فقال لي: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، قال: قلت: لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال: فإذا بُعثت كان لي مال وولد، قال: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تبارك وتعالى (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا إِلَى وَيَأْتِينَا فَرْدًا) .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (وَوَلدًا) فقرأته قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: (وَوَلَدًا) بفتح الواو من الولد في كلّ القرآن، غير أن أبا عمرو بن
(18/246)
 
 
العلاء خص التي في سورة نوح بالضمّ، فقرأها (مالُهُ وَوُلْدُهُ) وأما عامَّةُ قرّاء الكوفة غير عاصم، فإنهم قرءوا من هذه السورة من قوله (مَالا وَوَلَدًا) إلى آخر السورة. واللتين في الزخرف، والتي في نوح، بالضمِّ وسكون اللام.
وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك إذا ضمت واوه، فقال بعضهم: ضمها وفتحها واحد، وإنما هما لغتان، مثل قولهم العُدم والعَدم، والحزن والحَزَن. واستشهدوا لقيلهم ذلك بقول الشاعر:
فَلَيْتَ فُلانا كانَ في بَطْنِ أُمِّهِ ... وَلَيْتَ فُلانا كانَ وُلْدَ حِمارِ (1)
ويقول الحارث بن حِلِّزة:
وَلَقَدْ رأيْتُ مَعاشِرًا ... قَدْ ثَمَّرُوا مالا وَوُلْدًا (2)
وقول رُؤْبة:
الحَمْدُ للهِ العَزِيزِ فَرْدَا ... لَمْ يَتَّخِذْ مِنْ وُلْدِ شَيْءٍ وُلْدَا (3)
وتقول العرب في مثلها: وُلْدُكِ مِنْ دَمَّى عَقِبَيْكِ، قال: وهذا كله واحد، بمعنى الولد.
وقد ذُكر لي أن قيسا تجعل الوُلْد جمعا، والوَلد واحدا.
ولعلّ الذين قرءوا ذلك بالضمّ فيما اختاروا فيه الضمّ، إنما قرءوه كذلك ليفرقوا بين الجمع والواحد.
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك عندي أن الفتح في الواو من الوَلد والضمّ فيها بمعنى واحد، وهما لغتان، فبأيتهما قرأ
__________
(1) البيت في (اللسان: ولد) ولم ينسبه. قال: الولد والولد واحد، مثل العرب والعرب، والعجم، والعجم ونحو ذلك. وأنشد الفراء: " فليت فلانا. . . " البيت. فهذا واحد. قال: وقيس تجعل الولد جمعا، والولد (بالتحريك) واحدا. ابن السكيت يقال في الولد: الولد (بكسر أوله) ولا ولد (بضم أوله) . قال: ويكون الولد (بضم أوله) واحدا وجمعا قال: وقد يكون الولد (بالضم) جمع الولد، مثل أسد وأسد. (وهذا قريب مما نقله المؤلف عن الفراء في معاني القرآن) .
(2) البيت للحارث بن حلزة اليشكري، وهو من شواهد (لسان العرب: ولد) مثل الشاهد الذي قبله. واستشهد به الفراء أيضًا في معاني القرآن (مصورة الجامعة رقم 24059 ص 195) ثم قال: والولد والولد: لغتان مثل ما قالوا: العدم والعدم.
(3) البيتان لرؤبة بن العجاج، وهما من مشطور الرجز، والفرد: المتفرد بالربوبية، وبالأمر دون خلقه، وهو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا ثاني. والبيت ساقه المؤلف مع الشاهدين السابقين عليه. شواهد على أن الولد، بضم الواو وسكون اللام، بمعنى الولد، بالتحريك. وأنه مفرد، وقد يجيء بمعنى الجمع.
(18/247)
 
 
كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
القارئ فمصيب الصواب، غير أن الفتح أشهر اللغتين فيها، فالقراءة به أعجبُ إليّ لذلك.
وقوله (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) يقول عزّ ذكره: أعلم هذا القائل هذا القول علم الغيب، فعلم أن له في الآخرة مالا وولدا باطلاعه على علم ما غاب عنه (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا) يقول: أم آمن بالله وعمل بما أمر به، وانتهى عما نهاه عنه، فكان له بذلك عند الله عهدا أن يؤتيه ما يقول من المال والولد.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا) بعمل صالح قدّمه.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَلا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) }
يعني تعالى ذكره بقوله (كلا) : ليس الأمر كذلك، ما اطلع الغيب، فعلم صدق ما يقول، وحقيقة ما يذكر، ولا اتخذ عند الرحمن عهدا بالإيمان بالله ورسوله، والعمل بطاعته، بل كذب وكفر، ثم قال تعالى ذكره (سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ) : أي سنكتب ما يقول هذا الكافر بربه، القائل (لأُوتَيْنّ) في الآخرة (مَالا وَوَلَدًا) (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا) يقول: ونزيده من العذاب في جهنم بقيله الكذب والباطل في الدنيا، زيادة على عذابه بكفره بالله.
وقوله (وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ) يقول عزّ ذكره،
ونسلب هذا القائل: لأوتين في الآخرة مالا وولدا، ماله وولده، ويصير لنا ماله وولده دونه، ويأتينا هو يوم القيامة فردا، وحده لا مال معه ولا ولد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى "ح"; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ) ماله وولده، وذلك الذي قال العاص بن وائل.
(18/248)
 
 
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا) لا مال له ولا ولد.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ) قال: ما عنده، وهو قوله (لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا) وفي حرف ابن مسعود: ونرثه ما عنده.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ) قال: ما جمع من الدنيا وما عمل فيها (وَيَأْتِينَا فَرْدًا) قال: فردا من ذلك، لا يتبعه قليل ولا كثير.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ) : نرثه (1)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) }
يقول تعالى ذكره: واتخذ يا محمد هؤلاء المشركون من قومك آلهة يعبدونها من دون الله، لتكون هؤلاء الآلهة لهم عزًّا، يمنعونهم من عذاب الله، ويتخذون عبادتهموها عند الله زلفى، وقوله: (كلا) يقول عز ذكره: ليس الأمر كما ظنوا وأمَّلوا من هذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله، في أنها تنقذهم من عذاب الله، وتنجيهم منه، ومن سوء إن أراده بهم ربهم. وقوله: (سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ) يقول عزّ ذكره: ولكن سيكفر الآلهة في الآخرة بعبادة هؤلاء المشركين يوم القيامة إياها، وكفرهم بها قيلهم لربهم: تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون، فجحدوا أن يكونوا عبدوهم أو أمروهم بذلك، وتبرّءُوا منهم، وذلك كفرهم بعبادتهم.
__________
(1) كذا في ابن كثير أيضا. والذي في الدر عن ابن عباس: ونرثه ما يكون: ماله وولده.
(18/249)
 
 
وأما قوله (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معنى ذلك: وتكون آلهتهم عليهم عونا، وقالوا: الضدّ: العون.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) يقول: أعوانا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى "ح "; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) قال: عونا عليهم تخاصمهم وتكذّبهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) قال: أوثانهم يوم القيامة في النار.
وقال آخرون: بل عنى بالضدّ في هذا الموضع: القُرَناء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) يقول: يكونون عليهم قرناء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) قرناء في النار، يلعن بعضهم بعضا، ويتبرأ بعضهم من بعض.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (ضِدّا) قال: قرناء في النار.
وقال آخرون: معنى الضدّ هاهنا: العدوّ.
* ذكر من قال ذلك: حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا مُعاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) قال: أعداء.
وقال آخرون: معنى الضدّ في هذا الموضع: البلاء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال:
(18/250)
 
 
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
قال ابن زيد، في قوله: (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) قال: يكونون عليهم بلاء.
الضدّ: البلاء، والضدّ في كلام العرب: هو الخلاف، يقال: فلان يضادّ فلانا في كذا، إذا كان يخالفه في صنيعه، فيفسد ما أصلحه، ويصلع ما أفسده، وإذ كان ذلك معناه، وكانت آلهة هؤلاء المشركين الذين ذكرهم الله في هذا الموضع يتبرءون منهم، وينتفون يومئذ، صاروا لهم أضدادا، فوصفوا بذلك.
وقد اختلف أهل العربية في وجه توحيد الضدّ، وهو صفة لجماعة. فكان بعض نحوييِّ البصرة يقول: وحد لأنه يكون جماعة، وواحدا مثل الرصد والأرصاد. قال: ويكون الرصد أيضا لجماعة. وقال بعض نحويي الكوفة وحد، لأن معناه عونا، وذكر أن أبا نهيك كان يقرأ ذلك.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد المؤمن، قال: سمعت أبا نهيك الأزدي يقرأ (كَلا سَيَكْفُرُونَ) يعني الآلهة كلها أنهم سيكفرون بعبادتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تر يا محمد أنا أرسلنا الشياطين على أهل الكفر بالله (تَؤُزُّهُمْ) يقول: تحرّكهم بالإغواء والإضلال، فتزعجهم إلى معاصي الله، وتغريهم بها حتى يواقعوها (أزّا) إزعاجا وإغواء.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (أزّا) يقول: تغريهم إغراء.
(18/251)
 
 
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريح، قال: قال ابن عباس: تؤزّ الكافرين إغراء في الشرك: امض امض في هذا الأمر، حتى توقعهم في النار، امضوا في الغيّ امضوا.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو إدريس، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) قال: تغريهم إغراء.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (تؤزهم أزا) قال: تزعجهم إزعاجا في معصية الله.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن عثمة، قال: ثنا سعيد بن بشير، عن قتادة في قول الله (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) قال: تزعجهم إلى معاصي الله إزعاجا.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) قال تزعجهم إزعاجا في معاصي الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) فقرأ (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) قال: تؤزّهم أزّا، قال: تشليهم إشلاء على معاصي الله تبارك وتعالى، وتغريهم عليها، كما يغري الإنسان الآخر على الشيء، يقال منه: أزَزْت فلانا بكذا، إذا أغريته به أؤزُّه أزّا وأزيزا، وسمعت أزيز القدر: وهو صوت غليانها على النار; ومنه حديث مطرف عن أبيه، أنه انتهى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل.
وقوله (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) يقول عزّ ذكره: فلا تعجل على هؤلاء الكافرين بطلب العذاب لهم والهلاك، يا محمد إنما نعدّ لهم عدّا، يقول: فإنما نؤخر إهلاكهم ليزدادوا إثما، ونحن نعدّ أعمالهم كلها ونحصيها حتى أنفاسهم لنجازيهم على جميعها، ولم نترك تعجيل هلاكهم لخير أردناه بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(18/252)
 
 
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله، (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) يقول: أنفاسهم التي يتنفسون في الدنيا، فهي معدودة كسنهم وآجالهم.
(18/253)
 
 
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) }
يقول تعالى ذكره: يوم نجمع الذين اتقوا في الدنيا فخافوا عقابه، فاجتنبوا لذلك معاصيه، وأدوا فرائضه إلى ربهم (وَفْدًا) يعني بالوفد: الركبان، يقال: وفدت على فلان: إذا قدمت عليه، وأوفد القوم وفدا على أميرهم، إذا بعثوا قبلهم بعثا. والوفد في هذا الموضع بمعنى الجمع، ولكنه واحد، لأنه مصدر واحدهم وافد، وقد يجمع الوفد: الوفود، كما قال بعض بني حنيفة:
إنّي لَمُمْتَدِح فَمَا هُوَ صَانِعٌ ... رأسُ الوُفُودِ مُزاحِمُ بن جِساسِ (1)
وقد يكون الوفود في هذا الموضع جمع وافد، كما الجلوس جمع جالس.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا ابن فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن عليّ، في قوله (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا) قال: أما والله ما يحشر الوفد على أرجلهم، ولا يساقون سوقا، ولكنهم يؤتون بنوق لم ير الخلائق مثلها، عليها رحال الذهب، وأزمتها الزبرجد، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن إسماعيل، عن رجل، عن أبي هريرة (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا) قال: على الإبل.
__________
(1) البيت لبعض بني حنيفة، كما قال المؤلف. وفي (تاج العروس: جثث: جساس بوزن كتاب ابن نشبة بن ربيع التيمي، ابن عمرو بن عبد الله بن لؤى بن عمرو بن الحارث بن تيم بن عبد مناة بن أد: أبو قبيلة، من ولده مزاحم بن زفر بن علاج بن الحارث بن عامرو بن جساس عن شعبة عنه أبو الربيع الزهراني، وأخوه عثمان بن زفر، حدث عن يوسف بن موسى القطان وغيره. وفي خلاصة تذهيب تهذيب الكمال للخزرجي: مزاحم بن زفر بن الحارث الكوفي، عن عمر بن عبد العزيز؛ وعنه شعبة وسفيان، وثقه ابن معين. وفي اللسان: وفد) قال الله تعالى: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) : قيل الوفد: الركبان المكرمون. . . وهم الوفد والوفود. فأما الوفد فاسم للجمع، وقيل جمع. وأما الوفود فجمع وافد. . . . وجمع الوفد: أوفاد ووفود.
(18/254)
 
 
لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنا معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا) يقول: ركبانا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو بن قيس الملائي، قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن صورة، وأطيبها ريحا، فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله طيب ريحك وحسن صورتك، فيقول: كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا، فاركبني أنت اليوم، وتلا (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا) .
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة (إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا) قال: وفدا إلى الجنة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا) قال: على النجائب.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: سمعت سفيان الثوري يقول (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا) قال: على الإبل النوق.
وقوله (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) يقول تعالى ذكره: ونسوق الكافرين بالله الذين أجرموا إلى جهنم عطاشا، والوِرد: مصدر من قول القائل: وردت كذا أرِده وِردا، ولذلك لم يجمع، وقد وصف به الجمع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثني عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) يقول: عطاشا.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن إسماعيل، عن رجل، عن أبي هريرة (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) قال: عطاشا.
حدثني يعقوب والفضل بن صباح، قالا ثنا إسماعيل بن عُلَيَّة، عن أبي رجاء، قال: سمعت الحسن يقول في قوله (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) قال: عطاشا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن يونس، عن الحسن، مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) قال: ظماء إلى النار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) سوقوا إليها وهم ظمء عطاش.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: سمعت سفيان يقول في قوله (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) قال: عطاشا.
القول في تأويل قوله تعالى: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) }
يقول تعالى ذكره: لا يملك هؤلاء الكافرون بربهم يا محمد، يوم يحشر الله المتقين إليه وفدا الشفاعة، حين يشفع أهل الإيمان بعضهم لبعض عند الله، فيشفع بعضهم لبعض (إِلا مَنِ اتَّخَذَ مِنْهُمْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ) في الدنيا (عَهْدًا) بالإيمان به، وتصديق رسوله، والإقرار بما جاء به، والعمل بما أمر به.
كما حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا) قال: العهد: شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرأ إلى الله من الحول والقوّة ولا يرجو إلا الله.
(18/255)
 
 
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا) قال: المؤمنون يومئذ بعضهم لبعض شفعاء (إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا) قال: عملا صالحا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا) : أي بطاعته، وقال في آية أخرى (لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا) ليعلموا أن الله يوم القيامة يشفع المؤمنين بعضهم في بعض، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "إنَّ في أُمَّتِي رَجُلا لَيُدْخِلَنَّ اللهُ بِشَفاعَتِهِ الجَنَّةَ أكْثَرَ مِنْ بني تَمِيمِ"، وكنا نحدّث أن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي المليح، عن عوف بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ شَفاعَتِي لِمَنْ ماتَ مِنْ أُمَّتِي لا يُشْرِكُ باللهِ شَيئًا"، و "مَن" في قوله (إلا مَنْ) في موضع نصب على الاستثناء، ولا يكون خفضا بضمير اللام، ولكن قد يكون نصبا في الكلام في غير هذا الموضع، وذلك كقول القائل: أردت المرور اليوم إلا العدوّ، فإني لا أمر به، فيستثنى العدوّ من المعنى، وليس ذلك كذلك في قوله (لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا) لأن معنى الكلام: لا يملك هؤلاء الكفار إلا من آمن بالله، فالمؤمنون ليسوا من أعداد الكافرين، ومن نصبه على أن معناه إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهدا، فإنه ينبغي أن يجعل قوله لا يملكون الشفاعة للمتقين، فيكون معنى الكلام حينئذ يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا، لا يملكون الشفاعة، إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا، فيكون معناه عند ذلك، إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهدا. فأما إذا جعل لا يملكون الشفاعة خبرا عن المجرمين، فإن "من" تكون حينئذ نصبا على أنه استثناء منقطع، فيكون معنى الكلام: لا يملكون الشفاعة، لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا يملكه.
(18/256)
 
 
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) }
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الكافرون بالله (اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا) يقول تعالى ذكره للقائلين ذلك من خلقه: لقد جئتم أيها الناس شيئا عظيما من القول منكرا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (شَيْئًا إِدًّا) يقول: قولا عظيما.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا) يقول: لقد جئتم شيئا عظيما وهو المنكر من القول.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (شَيْئًا إِدًّا) قال: عظيما.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (شَيْئًا إِدًّا) قال: عظيما.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا) قال: جئتم شيئا كبيرا من الأمر حين دعوا للرحمن ولدا. وفي الإدّ لغات ثلاث، يقال: لقد جئت شيئا إدّا، بكسر الألف، وأدّا بفتح الألف، وآدا بفتح الألف ومدّها، على مثال مادّ فاعل. وقرأ قرّاء الأمصار، وبها نقرأ،
(18/257)
 
 
وقد ذكر عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قرأ ذلك بفتح الألف، ولا أرى قراءته كذلك لخلافها قراءة قرّاء الأمصار، والعرب تقول لكلّ أمر عظيم: إدّ، وإمر، ونكر; ومنه قوله الراجز:
قَدْ لَقِيَ الأَعْدَاءُ مِنِّي نُكْرَا ... دَاهِيَةٌ دَهْياءَ إدّا إمْرَا (1)
ومنه قول الآخر:
فِي لَهَثٍ منهُ وَحَثْلٍ إدًّا (2)
وقوله (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) يقول تعالى ذكره:
تكاد السماوات يتشققن قطعا من قيلهم (اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا) ومنه قيل: فطرنا به: إذا انشق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن من ولدا) قال: إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال، وجميع الخلائق إلا الثقلين، وكادت أن تزول منه لعظمة الله، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك، كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، فَمَنْ قَالَهَا عِنْدَ مَوْتِهِ وَجَبَتْ له الجَنَّةُ" قالوا: يا رسول الله، فمن قالها في صحته؟ قال: تلك أوْجَبُ وأَوجَبُ". ثم قال: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ
__________
(1) هذان بيتان من مشطور الرجز، وقد سبق استشهاد المؤلف بهما عند قوله تعالى في سورة الكهف (15: 184) "لقد جئت شيئا إمرا ". وقد شرحناهما ثمت.
(2) هذا بيت من مشطور الرجز لم أعرف قائله. واللهث واللهاث: حر العطش في الجوف. وفي (اللسان: لهث) ابن سيده: لهث الكلب بالفتح، ولهث يلهث فيهما لهثا: دلع لسانه من شدة العطش والحر، وكذلك الطائر إذا أخرج لسانه من حر أو عطش. ولهث الرجل ولهث (بفتح الهاء في الأول وكسرها في الثاني) يلهث (بالفتح) في اللغتين جميعا، لهثا فهو لهثان: أعيا. وأما الحثل فلم أجد في مادة (حثل) في المعاجم معنى يناسب البيت، ولعله محرف عن الخبل، وهو فساد الأعضاء. أو عن الختل، وهو التخادع عن غفلة، ولعل الراجز يصف كلب صيد أو فرسا. وأما الإد فهو العجب والأمر الفظيع؛ وهو محل الشاهد في كلام المؤلف، كالبيتين قبله.
(18/258)
 
 
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)
جِيءَ بالسَّمَاوَاتِ والأَرَضِينَ وَمَا فِيهِنَّ وما بَيْنَهُنَّ وَمَا تَحْتَهُنَّ، فَوُضِعْنَ فِي كِفَّةِ المِيزان، ووُضِعَتْ شَهَادَةُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ في الكِفَّةِ الأُخْرَى، لَرَجَحَتْ بِهِنَّ".
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) ذُكر لنا أن كعبا كان يقول: غضبت الملائكة، واستعرت جهنم، حين قالوا ما قالوا.
وقوله: (وتنشق الأرض) يقول: وتكاد الأرض تنشقّ، فتنصدع من ذلك (وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) يقول: وتكاد الجبال يسقط بعضها على بعض سقوطا. والهدّ: السقوط، وهو مصدر هددت، فأنا أهدّ هدّا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله (وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) يقول: هدما.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس (وتخر الجبال هدّا) قال: الهد: الانقضاض.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) قال: غضبا لله. قال: ولقد دعا هؤلاء الذين جعلوا لله هذا الذي غضبت السماوات والأرض والجبال من قولهم، لقد استتابهم ودعاهم إلى التوبة، فقال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ) قالوا: هو وصاحبته وابنه، جعلوهما إلهين معه (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ) .... إلى قوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
القول في تأويل قوله تعالى: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) }
(18/259)
 
 
يقول تعالى ذكره: وتكاد الجبال أن تخرّ انقضاضا، لأن دعوا للرحمن ولدا. ف "أن" في موضع نصب في قول بعض أهل العربية، لاتصالها بالفعل، وفي قول غيره في موضع خفض بضمير الخافض، وقد بينا الصواب من القول في ذلك في غير موضع من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقال (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا) يعني بقوله: (أَنْ دَعَوْا) : أن جعلوا له ولدا، كما قال الشاعر:
ألا رُبَّ مَنْ تَدْعُو نَصِيحا وَإنْ تَغِب ... تَجدْهُ بغَيْبٍ غيرَ مُنْتَصِحِ الصَّدْرِ (1)
وقال ابن أحمر:
أهْوَى لَهَا مِشْقَصًا حَشْرًا فَشَبْرَقَها ... وكنتُ أدْعُو قَذَاها الإثمدَ القَرِدَا (2)
وقوله (وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا) يقول: وما يصلح لله أن يتخذ ولدا، لأنه ليس، كالخلق الذين تغلبهم الشهوات، وتضطرّهم اللذّات إلى جماع الإناث، ولا ولد يحدث إلا من أنثى، والله يتعالى عن أن يكون كخلقه، وذلك كقول ابن أحمر:
في رأسِ خَلْقاءَ مِنْ هَنْقاءَ مُشْرِفَةٍ ... ما ينبغي دُونَها سَهْلٌ ولا جَبَلُ (3)
يعني: لا يصلح ولا يكون.
(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) يقول: ما جميع من في السماوات من الملائكة، وفي الأرض من البشر والإنس والجنّ (إِلا
__________
(1) انظر شرح هذا الشاهد مع شرح تاليه.
(2) (1) البيت في (اللسان: دعا) . ونسبه إلى ابن أحمر الباهلي. قال: ودعوته بزيد، ودعوته إياه سميته به، تعدى الفعل بعد إسقاط الحرف؛ قال ابن أحمر الباهلي: " أهوى لها. . . " البيت. أي اسميه، وأراد: أهوى لها بمشقص، فحذف الحرف وأوصل وقوله عز وجل (أن دعوا للرحمن ولدا) : أي جعلوا، وأنشد بيت ابن أحمر أيضا وقال: أي كنت أجعل وأسمي؛ ومثله قول الشاعر: " ألا رب من تدعو تصيحا. . . البيت ". والمشقص من النصال: ما كان طويلا غير عريض، فإذا كان عريضا فهو المعبلة (اللسان: شقص) . وسهم محشور وحشر: مستوى قذذ الريش، وكل لطيف دقيق حشر. وشبرقها: مزقها، يقال: ثوب مشبرق: مقطع ممزق. وفي كتاب (المعاني الكبير لابن قتيبة طبع حيدر أباد ص 988) : يقول: كنت من إشفاتي عليها أسمي ما يصلحها قذى، فكيف ما يؤذيها. وقوله " أدعو " أي أسمي؛ تقول: ما تدعون هذا فيكم؟ أي ما تسمونه؟ والحشر: السهم الخفيف الريش الذي قد شد