تفسير السمعاني 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
الكتاب: تفسير القرآن
المؤلف: أبو المظفر، منصور بن محمد بن عبد الجبار ابن أحمد المروزى السمعاني التميمي الحنفي ثم الشافعي (المتوفى: 489هـ)
 
 
 
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
قَوْله تَعَالَى: {من يضلل الله} أَي: من يضلله الله {فَلَا هادي لَهُ ويذرهم فِي طغيانهم يعمهون} أَي: فِي غلوهم فِي الْبَاطِل {يعمهون} يتحيرون ويترددون.
(2/237)
 
 
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة أَيَّانَ مرْسَاها} أَي: مثبتها، يُقَال: أرسى، أَي: أثبت، وَمَعْنَاهُ: يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة مَتى قِيَامهَا {قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد رَبِّي لَا يجليها لوَقْتهَا} لَا يظهرها لوَقْتهَا ( {إِلَّا هُوَ} ثقلت فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض) أَي: خَفِي علمهَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَكَأَنَّمَا ثقلت، وكل خَفِي ثقيل، وَمَعْنَاهُ: ثقيل وصفهَا على أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض؛ بِمَا يكون فِيهَا من تكوير الشَّمْس وَالْقَمَر، وتكوير النُّجُوم، وتسيير الْجبَال، وطي السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَقيل مَعْنَاهُ: عظم وُقُوعهَا على أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض.
{لَا تَأْتيكُمْ إِلَّا بَغْتَة} أَي: فَجْأَة.
{يَسْأَلُونَك كَأَنَّك حفي عَنْهَا} أَي كَأَنَّك مسرور بسؤالهم عَنْهَا، يُقَال: تحفيت فلَانا فِي الْمَسْأَلَة إِذا سَأَلته وأظهرت السرُور فِي سؤالك، فعلى هَذَا تَقْدِير الْآيَة:
(2/237)
 
 
{قل لَا أملك لنَفْسي نفعا وَلَا ضرا إِلَّا مَا شَاءَ الله وَلَو كنت أعلم الْغَيْب لاستكثرت من الْخَيْر وَمَا مسني السوء إِن أَنا إِلَّا نَذِير وَبشير لقوم يُؤمنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة وَجعل مِنْهَا زَوجهَا ليسكن إِلَيْهَا فَلَمَّا تغشاها حملت حملا خَفِيفا فمرت بِهِ} يَسْأَلُونَك عَنْهَا كَأَنَّك حفي بسؤالهم، وَقيل مَعْنَاهُ: يَسْأَلُونَك كَأَنَّك حفي عَنْهَا أَي: عَالم بهَا، يُقَال: أحفيت فلَانا، إِذا مَا بالغت فِي الْمَسْأَلَة عَنهُ حَتَّى علمت، فعلى هَذَا معنى الْآيَة: كَأَنَّك حفي عَنْهَا، أَي: كَأَنَّك بالغت فِي السُّؤَال عَنْهَا، حَتَّى علمت {قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد الله وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} .
(2/238)
 
 
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
قَوْله تَعَالَى: {قل لَا أملك لنَفْسي نفعا وَلَا ضرا إِلَّا مَا شَاءَ الله وَلَو كنت أعلم الْغَيْب لاستكثرت من الْخَيْر وَمَا مسني السوء} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: مَعْنَاهُ: وَلَو كنت أعلم الخصب من الجدب لأعددت من الخصب للجدب وَمَا مسني الْجُوع، قَالَه ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ ابْن جريج: مَعْنَاهُ: لَو كنت أعلم مَتى أَمُوت لاستكثرت من الْخيرَات والطاعات، وَمَا مسني السوء أَي: مَا بِي جُنُون؛ لأَنهم كَانُوا نسبوه إِلَى الْجُنُون.
القَوْل الثَّالِث: مَعْنَاهُ: وَلَو كنت أعلم مَتى السَّاعَة لأخبرتكم بقيامها حَتَّى تؤمنوا، وَمَا مسني السوء يَعْنِي: بتكذيبكم {إِن أَنا إِلَّا نَذِير وَبشير لقوم يُؤمنُونَ} .
(2/238)
 
 
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة} يَعْنِي: آدم {وَجعل مِنْهَا زَوجهَا} يَعْنِي: حَوَّاء ( {ليسكن إِلَيْهَا} فَلَمَّا تغشاها) أَي: وَطئهَا، والغشيان أحسن كِنَايَة عَن الْوَطْء، يُقَال: تغشاها وتخللها، إِذا وَطئهَا.
{حملت حملا خَفِيفا} هُوَ أول مَا تحمل الْمَرْأَة من النُّطْفَة {فمرت بِهِ} وَقَرَأَ يحيى بن يعمر: " فمرت بِهِ " خَفِيفا من المرية أَي: شكت، وَقُرِئَ فِي الشواذ: " فمارت بِهِ: " أَي: تحركت بِهِ من المور، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " فاستمرت بِهِ " وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَمَعْنَاهُ: فمرت بِالْحملِ حَتَّى قَامَت وَقَعَدت وَدخلت وَخرجت، وَقيل: هُوَ مقلوب، وَتَقْدِيره فَمر الْحمل بهَا حَتَّى قَامَت وَقَعَدت {فَلَمَّا أثقلت} أَي: حَان
(2/238)
 
 
{فَلَمَّا أثقلت دعوا الله ربهما لَئِن آتيتنا صَالحا لنكونن من الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهما} وَقت الْولادَة {دعوا الله ربهما} .
وَفِي الْقِصَّة: أَن إِبْلِيس جَاءَ إِلَى حَوَّاء حِين حبلت، وَقَالَ لَهَا: أَتَدْرِينَ مَا فِي بَطْنك؟ قَالَت: لَا. فَقَالَ: لَعَلَّه بَهِيمَة، وَإِنِّي أخْشَى أَن تكون لَهَا قرنان تشق بهما بَطْنك؛ فخافت حَوَّاء، وَجَلَست حزينة، ثمَّ عَاد إِلَيْهَا اللعين، وَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَن أَدْعُو الله تَعَالَى حَتَّى يَجعله إنْسَانا متكلما؟ قَالَت: نعم. إِنِّي قد وسوست إلَيْكُمَا مرّة فأطيعاني حَتَّى أَدْعُو، فَقَالَت: مَاذَا نصْنَع؟ قَالَ اللعين: إِذا ولدت تسميه عبد الْحَارِث - وَكَانَ اسْم إِبْلِيس من قبل الْحَارِث - فَذكرت ذَلِك لآدَم، فتوافقا على ذَلِك، فَلَمَّا ولدت سمياه عبد الْحَارِث، وَقيل: إِنَّهَا ولدت مرّة فسمياه عبد الله فَمَاتَ، ثمَّ ولدت ولد آخر فسمياه عبد الله فَمَاتَ، فجَاء اللعين، وَقَالَ: أما علمتما أَن الله تَعَالَى لَا يدع عَبده عندكما، فَإِذا ولدت ولدا فَسَمِّيهِ عبد الْحَارِث، حَتَّى يحيا، فَلَمَّا ولدت الثَّالِث سمياه عبد الْحَارِث فَعَاشَ وَحيا.
وَفِي الْخَبَر: قَالَ النَّبِي: " خدعهما إِبْلِيس مرَّتَيْنِ: مرّة فِي الْجنَّة، وَمرَّة فِي الأَرْض " وَأَرَادَ بِهِ هَذَا ". قَوْله {فَلَمَّا أثقلت دعوا الله ربهما} يَعْنِي: آدم وحواء {لَئِن آتيتنا صَالحا} أَي: ولدا سوى الْخلق، إِذْ كَانَا [يدعوان] أَن يَجعله الله إنْسَانا مثلهمَا خوفًا من وَسْوَسَة إِبْلِيس ( {لنكونن من الشَّاكِرِينَ}
(2/239)
 
 
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
فَلَمَّا آتاهما صَالحا) أَي: سوى الْخلق {جعلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتاهما} يَعْنِي سمياه عبد الْحَارِث، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَقُول: {جعلا لَهُ شُرَكَاء} وآدَم كَانَ نَبيا مَعْصُوما عَن الْإِشْرَاك بِاللَّه؟
قيل: لم يكن هَذَا إشراكا فِي التَّوْحِيد، وَإِنَّمَا ذَلِك إشراك فِي الِاسْم، وَذَلِكَ لَا يقْدَح فِي التَّوْحِيد، وَهُوَ مثل تَسْمِيَة الرجل وَلَده عبد يَغُوث وَعبد زيد وَعبد عَمْرو، وَقَول الرجل لصَاحبه: أَنا عَبدك، وعَلى ذَلِك قَول يُوسُف - صلوَات الله عَلَيْهِ -: {إِنَّه رَبِّي أحسن مثواي} وَمثل هَذَا لَا يقْدَح، وَأما قَوْله: {فتعالى الله عَمَّا يشركُونَ}
(2/239)
 
 
{صَالحا جعلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتاهما فتعالى الله عَمَّا يشركُونَ (190) أيشركون مَا لَا يخلق شَيْئا وهم يخلقون (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُم نصرا وَلَا أنفسهم ينْصرُونَ (192) وَإِن تدعوهم إِلَى الْهدى لَا يتبعوكم سَوَاء عَلَيْكُم أدعوتموهم أم أَنْتُم صامتون (193) إِن الَّذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إِن كُنْتُم صَادِقين} ابْتِدَاء كَلَام بعد الأول، وَأَرَادَ بِهِ: إشراك أهل مَكَّة، وَلَئِن أَرَادَ بِهِ الْإِشْرَاك الَّذِي سبق استقام الْكَلَام؛ لِأَنَّهُ كَانَ الأولى أَلا يفعل مَا أَتَى بِهِ من الْإِشْرَاك فِي الِاسْم، وَكَانَ ذَلِك زلَّة مِنْهُ، فَلذَلِك قَالَ: {فتعالى الله عَمَّا يشركُونَ} وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن هَذَا فِي جَمِيع بني آدم. قَالَ عِكْرِمَة: وَكَأن الله يُخَاطب بِهِ كل وَاحِد من الْخلق بقوله: {هُوَ الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة} يَعْنِي: خلق كل وَاحِد من أَبِيه {وَجعل مِنْهَا زَوجهَا} أَي: جعل من جِنْسهَا زَوجهَا {ليسكن إِلَيْهَا} يَعْنِي: كل زوج إِلَى زَوجته {فَلَمَّا تغشاها} أَي: وَطئهَا {حملت حملا خَفِيفا فمرت بِهِ} وَهَذَا قَول حسن فِي الْآيَة.
وَقيل: إِنَّمَا عبر بِآدَم وحواء عَن جَمِيع أولادهما؛ لِأَنَّهُمَا أصل الْكل، وَالْأول أشهر وَأظْهر، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس، وَمُجاهد، وَسَعِيد بن جُبَير. وَجَمَاعَة الْمُفَسّرين كلهم قَالُوا: إِن الْآيَة فِي آدم وحواء كَمَا بَينا.
(2/240)
 
 
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
قَوْله تَعَالَى: {أيشركون مَا لَا يخلق شَيْئا وهم يخلقون} يَعْنِي: الْأَصْنَام لَا يخلقون شَيْئا بل هم مخلوقون
(2/240)
 
 
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)
{وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُم نصرا} أَي: منعا {وَلَا أنفسهم ينْصرُونَ} .
(2/240)
 
 
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تدعوهم إِلَى الْهدى لَا يتبعوكم} هَذَا فِي قوم مخصوصين علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ {سَوَاء عَلَيْكُم أدعوتموهم أم أَنْتُم صامتون} أَي: سَوَاء دعوتموهم أَو لم تدعوهم لَا يُؤمنُونَ)
(2/240)
 
 
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} . فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ تكون الْأَصْنَام عبادا أمثالنا؟ قيل: قَالَ مقَاتل: أَرَادَ بِهِ الْمَلَائِكَة. وَالْخطاب مَعَ قوم كَانُوا
(2/240)
 
 
( {194) ألهم أرجل يَمْشُونَ بهَا أم لَهُم أيد يبطشون بهَا أم لَهُم أعين يبصرون بهَا أم لَهُم آذان يسمعُونَ بهَا قل ادعوا شركاءكم ثمَّ كيدون فَلَا تنْظرُون (195) إِن وليي الله الَّذِي نزل الْكتاب وَهُوَ يتَوَلَّى الصَّالِحين (196) وَالَّذين تدعون من دونه لَا يَسْتَطِيعُونَ} يعْبدُونَ الْمَلَائِكَة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الشَّيَاطِين. وَالْخطاب مَعَ قوم كَانُوا يعْبدُونَ الكهنة وَالشَّيَاطِين، وَالصَّحِيح أَنه فِي الْأَصْنَام، وهم عباد أَمْثَال النَّاس فِي الْعِبَادَة، وعبادتهم التَّسْبِيح، وللجمادات تَسْبِيح كَمَا نطق بِهِ الْكتاب. {وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ} وَقَوله {أمثالكم} يَعْنِي: أَن الْأَصْنَام مذللون مسخرون لما أُرِيد مِنْهُم مثلكُمْ، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم} وَمَعْنَاهُ: أمثالكم فِي شَيْء دون شَيْء كَذَلِك هَاهُنَا وَقيل: إِنَّمَا قَالَ: {أمثالكم} لأَنهم صوروها على صُورَة الْأَحْيَاء، وطلبوا مِنْهَا مَا يطْلب من الْأَحْيَاء.
{فادعوهم فليستجيبوا لكم إِن كُنْتُم صَادِقين} وَهَذَا لبَيَان عجزهم، ثمَّ أكده فَقَالَ:
(2/241)
 
 
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
{ألهم أرجل يَمْشُونَ بهَا أم لَهُم أيد يبطشون بهَا أم لَهُم أعين يبصرون بهَا أم لَهُم آذان يسمعُونَ بهَا} وَذَلِكَ أَن قدرَة المخلوقين إِنَّمَا تكون بِهَذِهِ الْآلَات والجوارح، وَلَيْسَت لَهُم تِلْكَ الْآلَات، بل أَنْتُم أكبر قدرَة مِنْهُم لوُجُود هَذِه الْأَشْيَاء فِيكُم.
{قل ادعوا شركاءكم ثمَّ كيدون فَلَا تنْظرُون} أَي: فَلَا تمهلون.
(2/241)
 
 
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
قَوْله تَعَالَى: (إِن وليي الله الَّذِي نزل الْكتاب) يَعْنِي: ناصري ومعيني الله الَّذِي نزل الْكتاب، وَقُرِئَ فِي الشواذ: " إِن ولي الله " بِكَسْر الْهَاء، وَمَعْنَاهُ: جِبْرِيل ولي الله الَّذِي نزل الْكتاب أَي: نزل بِالْكتاب {وَهُوَ يتَوَلَّى الصَّالِحين} يَعْنِي: جِبْرِيل ولي الصَّالِحين، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فَإِن الله هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيل} .
(2/241)
 
 
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)
قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين تدعون من دونه لَا يَسْتَطِيعُونَ نصركم وَلَا أنفسهم
(2/241)
 
 
{نصركم وَلَا أنفسهم ينْصرُونَ (197) وَإِن تدعوهم إِلَى الْهدى لَا يسمعوا وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك وهم لَا يبصرون (198) خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ واعرض عَن الْجَاهِلين} ينْصرُونَ) وَهَذَا لبَيَان عجزهم أَيْضا
(2/242)
 
 
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
{وَإِن تدعوهم إِلَى الْهدى لَا يسمعوا} يَعْنِي: الْأَصْنَام {وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك وهم لَا يبصرون} فَإِن قيل: كَيفَ يتَصَوَّر النّظر من الْأَصْنَام؟ قَالَ الْكسَائي: تَقول الْعَرَب: دَاري تنظر إِلَى دَار فلَان، إِذا كَانَت مُقَابلَة لما، فَكَذَلِك قَوْله: {وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك} يَعْنِي: نظر الْمُقَابلَة.
(2/242)
 
 
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
قَوْله تَعَالَى: {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} روى: " أَن جِبْرِيل - صلوَات الله عَلَيْهِ - لما نزل بِهَذِهِ الْآيَة، قَالَ: يَا رَسُول الله، أَتَيْتُك بمكارم الْأَخْلَاق، فروى أَن النَّبِي سَأَلَ جِبْرِيل عَن معنى هَذِه الْآيَة، فَقَالَ لَهُ: حَتَّى أسأَل رَبِّي، ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ: صل من قَطعك، وَأعْطِ من حَرمك واعف عَن من ظلمك ".
ثمَّ اخْتلفُوا فِي معنى هَذَا الْعَفو، فَقَالَ عَطاء: هُوَ الْفضل من أَمْوَال النَّاس. وَكَانَ فِي الِابْتِدَاء يجب التَّصَدُّق بِمَا فضل من الْحَاجَات، ثمَّ صَار مَنْسُوخا بِآيَة الزَّكَاة، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو} وَقَالَ ابْن الزبير: الْعَفو: مَا تيَسّر من أَخْلَاق النَّاس، أَي: خُذ الميسور من أَخْلَاق النَّاس مثل: قبُول الِاعْتِذَار، وَالْعَفو والمساهلة فِي الْأُمُور، وَترك الْبَحْث عَن الْأَشْيَاء وَنَحْو ذَلِك.
وَقَوله: {وَأمر بِالْعرْفِ} هُوَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ مَا يعرفهُ الشَّرْع.
وَقَوله: {وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} يَعْنِي: إِذا سفه عَلَيْك الْجَاهِل فَلَا تكافئه وَلَا تقابله بالسفه، وَذَلِكَ مثل قَوْله: {وَإِذا خاطبهم الجاهلون قَالُوا سَلاما} وَذَلِكَ
(2/242)
 
 
( {199) وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ فاستعذ بِاللَّه إِنَّه سميع عليم (200) إِن الَّذين اتَّقوا إِذا مسهم طائف من الشَّيْطَان تَذكرُوا فَإِذا هم مبصرون (201) وإخوانهم يمدونهم فِي الغي ثمَّ لَا يقصرون (202) وَإِذا لم تأتهم بِآيَة قَالُوا لَوْلَا اجتبيتها قل إِنَّمَا} سَلام الْمُنَازعَة، قَالَ: {وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما} يَعْنِي: أكْرمُوا أنفسهم عَن الْخَوْض فِيهِ.
وروى أَن عُيَيْنَة بن حصن - وَكَانَ سيد غطفان - لما قدم الْمَدِينَة قَالَ للْحرّ بن قيس: لَك وَجه عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ؛ فَاسْتَأْذن لي عَلَيْهِ، فَاسْتَأْذن لَهُ فَدخل على عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ لَهُ: إِنَّك لَا تقضي فِينَا بِالْحَقِّ، وَلَا تقسم فِينَا بِالْعَدْلِ، فَغَضب عمر وهم أَن يُؤَدِّيه، فَقَالَ الْحر بن قيس: إِن الله تَعَالَى يَقُول: {وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} وَهَذَا من الْجَاهِلين، فَسكت عمر - رَضِي الله عَنهُ -.
(2/243)
 
 
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
قَوْله تَعَالَى {وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ} النزغ من الشَّيْطَان: الوسوسة {فاستعذ بِاللَّه} أَي: استجر بِاللَّه {إِنَّه سميع عليم} .
(2/243)
 
 
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين اتَّقوا إِذا مسهم طيف من الشَّيْطَان} وتقرأ: " طائف " ومعناهما وَاحِد.
قَالَ سعيد بن جُبَير: هُوَ الْغَضَب. وَقَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: هُوَ الوسوسة. وأصل الطيف: الْجُنُون.
{تَذكرُوا فَإِذا هم مبصرون} وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم إِذا وسوسهم الشَّيْطَان بالمعصية ذكرُوا عِقَاب الله؛ فَإِذا هم كافون عَن الْمعْصِيَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي مَعْنَاهُ: ذكرُوا الله؛ فَإِذا هم يبصرون الْحق عَن الْبَاطِل.
(2/243)
 
 
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
قَوْله تَعَالَى: {وإخوانهم} أَي: أشباههم من الشَّيَاطِين {يمدونهم} أَي: يردونهم {فِي الغي} فِي الضَّلَالَة {ثمَّ لَا يقصرون} أَي: لَا يكفون.
(2/243)
 
 
{أتبع مَا يُوحى إِلَيّ من رَبِّي هَذَا بصائر من ربكُم وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ (203) وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون (204) وَاذْكُر رَبك فِي نَفسك تضرعا}
(2/244)
 
 
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا لم تأتهم بِآيَة قَالُوا لَوْلَا اجتبتها} كَانُوا يسْأَلُون النَّبِي الْآيَات (تعنتا) ويستكثرون مِنْهَا، فَإِذا لم يقْرَأ عَلَيْهِم آيَة قَالُوا: لَوْلَا اجتبيتها، أَي: هلا اختلقتها وقلتها من تِلْقَاء نَفسك. قَالَ: {قل إِنَّمَا أتبع مَا يُوحى إِلَيّ من رَبِّي هَذَا بصائر من ربكُم} يَعْنِي: الْقُرْآن {وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ} .
(2/244)
 
 
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون} قَالَ الْحسن، وَالزهْرِيّ، وَالنَّخَعِيّ: هَذَا فِي الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة. وَقَالَ عَطاء وَمُجاهد: هُوَ فِي الْخطْبَة. وَلم يرْضوا من مُجَاهِد هَذَا القَوْل؛ لِأَن الْآيَة مَكِّيَّة، وَالْجُمُعَة إِنَّمَا وَجَبت بِالْمَدِينَةِ، وَلِأَن الِاسْتِمَاع فِي جَمِيع الْخطْبَة وَاجِب، وَلَا يخْتَص بِالْقِرَاءَةِ فِي الْخطْبَة. فَالْأول أصح.
وَلَيْسَ لمن يرى ترك الْقِرَاءَة خلف الإِمَام مستدل (فِي الْآيَة) ؛ لِأَن الْقِرَاءَة خلف الإِمَام لَا تنَافِي الِاسْتِمَاع؛ لِأَنَّهُ يتبع سكتات الإِمَام، وَلِأَن الْآيَة فِيمَا وَرَاء الْفَاتِحَة؛ بِدَلِيل حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا كُنْتُم خَلْفي فَلَا تقرءوا إِلَّا بِأم الْقُرْآن ".
وَفِي الْآيَة: قَول ثَالِث: أَن المُرَاد بِهِ النَّهْي عَن الْكَلَام فِي الصَّلَاة. قَالَه أَبُو هُرَيْرَة. وَهَذَا قَول حسن.
(2/244)
 
 
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
قَوْله تَعَالَى {وَاذْكُر رَبك فِي نَفسك تضرعا وخيفه} قيل: هَذَا فِي الدُّعَاء أَي: ادْع الله بالتضرع والخيفه. وَقيل: هُوَ فِي صَلَاة السِّرّ.
(2/244)
 
 
{وخيفة وَدون الْجَهْر من القَوْل بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال وَلَا تكن من الغافلين (205) إِن الَّذين عِنْد رَبك لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته ويسبحونه وَله يَسْجُدُونَ (206) .
{وَدون الْجَهْر من القَوْل} أَرَادَ بِهِ: فِي صَلَاة الْجَهْر لَا تجْهر جَهرا شَدِيدا {بِالْغُدُوِّ والأصال} فالغدو: أَوَائِل النَّهَار، وَالْآصَال: أَوَاخِر النَّهَار {وَلَا تكن من الغافلين} عَن ذكر الله.
(2/245)
 
 
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين عِنْد رَبك} يَعْنِي: الْمَلَائِكَة؛ ذكرهم بالتقريب والكرامة {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته ويسبحونه وَله يَسْجُدُونَ} يَعْنِي: إِن كَانَ هَؤُلَاءِ يَسْتَكْبِرُونَ عَن عبَادَة الله تَعَالَى؛ فَالَّذِينَ عِنْده لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْهَا.
وَقد ورد فِي السُّجُود أَخْبَار مِنْهَا: مَا روى أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا سجد ابْن آدم؛ اعتزل الشَّيْطَان يبكي، وَيَقُول: يَا ويلاه، أَمر ابْن آدم بِالسُّجُود فَسجدَ؛ فَلهُ الْجنَّة، وَأمرت بِالسُّجُود فأبيت؛ فلي النَّار ".
وَفِي حَدِيث ربيعَة بن كَعْب الْأَسْلَمِيّ: " أَنه أَتَى النَّبِي بوضوئه لِحَاجَتِهِ فَقَالَ: سلني. فَقلت: أُرِيد مرافقتك فِي الْجنَّة، فَقَالَ: أَو غير ذَلِك؟ فَقلت: هُوَ ذَاك، فَقَالَ: أَعنِي على نَفسك بِكَثْرَة السُّجُود " أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وروى أَبُو فَاطِمَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا من عبد يسْجد لله سَجْدَة؛ إِلَّا رَفعه الله بهَا دَرَجَة ". وَالله أعلم.
(2/245)
 
 
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول فَاتَّقُوا الله وَأَصْلحُوا ذَات بَيْنكُم وَأَطيعُوا}
تَفْسِير سُورَة الْأَنْفَال
 
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَضِي الله عَنهُ: سُورَة الْأَنْفَال مَدَنِيَّة إِلَّا سبع آيَات؛ وَذَلِكَ من قَوْله: {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا} إِلَى آخر الْآيَات السَّبع؛ فَإِنَّهَا نزلت بِمَكَّة، وَأكْثر السُّورَة فِي غَزْوَة بدر.
(2/246)
 
 
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال} وَالسُّؤَال سؤالان: سُؤال استخبار، وسؤال طلب؛ فَقَوله: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال} سُؤال استخبار؛ فَإِنَّهُم سَأَلُوهُ عَن حكم الْأَنْفَال.
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود وَسعد بن أبي وَقاص: " يَسْأَلُونَك الْأَنْفَال " وَهَذَا سُؤال طلب. روى مُصعب بن سعد، عَن أَبِيه سعد بن أبي وَقاص أَنه قَالَ: " سَأَلت رَسُول الله سَيْفا يَوْم بدر فَقلت: نفلنيه يَا رَسُول الله، فَنزل قَوْله: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال} ".
والأنفال: الْغَنَائِم. وَالنَّفْل فِي اللُّغَة: الزِّيَادَة، قَالَ لبيد بن ربيعَة العامري شعرًا:
(إِن تقوى رَبنَا خير نفل ... وبإذن الله ريثي والعجل)
وَمِنْه صَلَاة النَّافِلَة؛ لِأَنَّهَا زِيَادَة على الْفَرِيضَة. فسميت الْغَنَائِم أنفالا؛ لِأَنَّهَا زِيَادَة كَرَامَة من الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة على الْخُصُوص.
وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى " أَن أَصْحَاب النَّبِي افْتَرَقُوا يَوْم بدر فرْقَتَيْن: فرقة كَانَت تقَاتل وتأسر، وَفرْقَة تحرس رَسُول الله، ثمَّ تنازعوا، فَقَالَت الْفرْقَة الْمُقَاتلَة:
(2/246)
 
 
{الله وَرَسُوله إِن كُنْتُم مُؤمنين (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم} الْغَنَائِم لنا؛ قاتلنا وأسرنا، وَقَالَ الْآخرُونَ: كُنَّا ردْءًا لكم، ونحرس رَسُول الله، فالغنيمة بَيْننَا؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال} .
وَفِي رِوَايَة: " أَن النَّبِي قَالَ يَوْمئِذٍ: من قتل قَتِيلا فَلهُ كَذَا، وَمن أسر أَسِيرًا فَلهُ كَذَا، فَتسَارع الشبَّان وقاتلوا وأسروا، وَبَقِي الشُّيُوخ مَعَ الرَّسُول - عَلَيْهِ السَّلَام - يحرسونه ثمَّ تنازعوا فِي الْغَنِيمَة، فَقَالَ الشبَّان: الْغَنِيمَة لنا؛ لأَنا قاتلنا. وَقَالَ الشُّيُوخ: كُنَّا نحرس رَسُول الله، وَكُنَّا ردْءًا لكم. وَكَانَ الَّذِي تكلم من الشبَّان أَبُو الْيُسْر وَالَّذِي تكلم من الشُّيُوخ سعد بن معَاذ، فَنزلت الْآيَة، فقسم النَّبِي الْأَنْفَال بَين الْكل.
وَقَوله: {قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول} وَاخْتلفُوا فِيهِ قَالَ مُجَاهِد، وَعِكْرِمَة: الْآيَة مَنْسُوخَة بقول تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خَمْسَة وَلِلرَّسُولِ} فَهَذِهِ الْآيَة ردَّتْ من الْكل إِلَى الْخمس، فَكَانَت ناسخة للأولى.
وَقيل: الْآيَة غير مَنْسُوخَة، وَمعنى قَوْله: {قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول} أَي: حكمهَا لله وَالرَّسُول؛ فَتكون مُوَافقَة لتِلْك الْآيَة.
{فَاتَّقُوا الله وَأَصْلحُوا ذَات بَيْنكُم} قَالَ: ثَعْلَب: يَعْنِي: أصلحوا الْحَالة الَّتِي بَيْنكُم، وَمَعْنَاهُ: الْإِصْلَاح بترك الْمُنَازعَة وَتَسْلِيم أَمر الْغَنِيمَة إِلَى الله وَالرَّسُول {وَأَطيعُوا الله وَرَسُوله إِن كُنْتُم مُؤمنين} .
(2/247)
 
 
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم} قَالَ ابْن أبي نجيح:
(2/247)
 
 
{وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ (3) أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا لَهُم دَرَجَات عِنْد رَبهم ومغفرة ورزق كريم (4) كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ وَإِن فريقا من الْمُؤمنِينَ لكارهون} أَي: خَافت وَفرقت، قَالَ الشَّاعِر:
(لعمرك مَا أَدْرِي وَإِنِّي لأوجل ... على أَيّنَا تَغْدُو الْمنية أول)
{وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا} أَي: يَقِينا وَتَصْدِيقًا؛ وَذَلِكَ أَنه كلما نزلت آيَة فآمنوا بِهِ ازدادوا إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا، وَهَذَا دَلِيل لأهل السّنة على أَن الْإِيمَان يزِيد وَينْقص {وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ} التَّوَكُّل هُوَ الِاعْتِمَاد على الله والثقة بِهِ.
(2/248)
 
 
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
(الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ) إِقَامَة الصَّلَاة هِيَ أَدَاؤُهَا فِي أَوْقَاتهَا بشرائطها وأركانها.
(2/248)
 
 
أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
{أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} قَالَ مقَاتل: يَعْنِي: إِيمَانًا لَا شكّ فِيهِ. وَقيل: برأهم من الْكفْر والنفاق.
وَفِيه دَلِيل لأهل السّنة على انه لَا يجوز لكل أحد أَن يصف نَفسه بِكَوْنِهِ مُؤمنا حَقًا؛ لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا وصف بذلك قوما مخصوصين على أَوْصَاف مَخْصُوصَة، وكل أحد لَا يتَحَقَّق فِي نَفسه وجود تِلْكَ الْأَوْصَاف.
{لَهُم دَرَجَات عِنْد رَبهم} قَالَ الرّبيع بن أنس: الدَّرَجَات سَبْعُونَ دَرَجَة، مَا بَين كل دَرَجَتَيْنِ حضر الْفرس الْمُضمر سبعين سنة {ومغفرة ورزق كريم} أَي: كَامِل لَا نقص فِيهِ.
(2/248)
 
 
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
قَوْله تَعَالَى: {كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ} الْأَكْثَرُونَ على أَنه فِي إِخْرَاجه من الْمَدِينَة إِلَى بدر لِلْقِتَالِ مَعَ الْمُشْركين. وَقيل: هُوَ فِي إِخْرَاجه من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة.
(2/248)
 
 
( {5) يجادلونك فِي الْحق بعد مَا تبين كَأَنَّمَا يساقون إِلَى الْمَوْت وهم ينظرُونَ (6) وَإِذ يَعدكُم الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لكم وتودون أَن غير ذَات الشَّوْكَة تكون لكم}
وَاخْتلفُوا فِي أَن قَوْله: {كَمَا أخرجك} إِلَى مَاذَا ترجع كَاف التَّشْبِيه؟ قَالَ الْمبرد: تَقْدِيره: الْأَنْفَال لله وَلِلرَّسُولِ وَإِن كَرهُوا، كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك وَإِن كَرهُوا. وَقَول الْفراء قريب من هَذَا، وَهَكَذَا قَول الزّجاج؛ فَإِنَّهُمَا قَالَا: تَقْدِيره: امْضِ لأمر الله فِي الْأَنْفَال وَإِن كَرهُوا كَمَا مضيت لأمر الله عِنْد إخراجك من بَيْتك وَإِن كَرهُوا.
وَقيل: هُوَ رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَاتَّقُوا الله} وَتَقْدِيره: كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ فاتبعت أمره فَاتَّقُوا الله وَأَصْلحُوا ذَات بَيْنكُم. وَقيل: هُوَ رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَهُم دَرَجَات عِنْد رَبهم} وَتَقْدِيره: وعد الدَّرَجَات حق كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ؛ فأنجز والوعد بالنصر وَالظفر. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: " مَا " هَاهُنَا بِمَعْنى: " الَّذِي " أَي: كَالَّذي أخرجك رَبك.
{وَإِن فريقا من الْمُؤمنِينَ لكارهون يجادلونك فِي الْحق بعد مَا تبين} وَذَلِكَ أَن أَصْحَاب رَسُول الله كَرهُوا خُرُوجه إِلَى بدر، وجادلوا فِيهِ، فَقَالُوا: لَا نخرج؛ فَإنَّا لم نستعد لِلْقِتَالِ، وَلَيْسَ مَعنا أهبة الْحَرْب.
وَقَوله: {بعد مَا تبين} مَعْنَاهُ: مَا تبين لَهُم صدقه فِي الْوَعْد بِمَا وعدهم مرّة بعد أُخْرَى فَصَدَّقَهُمْ فِي وعده.
{كَأَنَّمَا يساقون إِلَى الْمَوْت وهم ينظرُونَ} فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: وَإِن فريقا من الْمُؤمنِينَ لكارهونه كَأَنَّمَا يساقون إِلَى الْمَوْت وهم ينظرُونَ، يجادلونك فِي الْحق بعد مَا تبين.
(2/249)
 
 
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ يَعدكُم الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لكم} سَبَب هَذَا: مَا رُوِيَ أَن أَبَا سُفْيَان قدم على عير من قبل الشَّام فِيهَا أَمْوَال قُرَيْش، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله وَأَصْحَابه بِالْمَدِينَةِ، فَخَرجُوا فِي طلب العير، فَبعث أَبُو سُفْيَان رجلا إِلَى مَكَّة يستنفرهم ويستغيث بهم، فَخرج أَبُو جهل ورءوس الْمُشْركين فِي سَبْعمِائة وَخمسين
(2/249)
 
 
{وَيُرِيد الله أَن يحِق الْحق بكلماته وَيقطع دابر الْكَافرين (7) ليحق الْحق وَيبْطل الْبَاطِل وَلَو كره المجرمون (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ ربكُم فَاسْتَجَاب لكم أَنِّي مُمِدكُمْ بِأَلف} رجلا، وَكَانَ الْمُسلمُونَ يَوْمئِذٍ ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر نَفرا، وَلم يكن لَهُم كثير سلَاح، وَكَانَ مَعَهم فرسَان فَحسب، أَحدهمَا لِلْمِقْدَادِ بن عَمْرو، وَالْآخر لأبي مرْثَد الغنوي، وَكَانَ مَعَهم سِتَّة أدرع، وَكَانَ أَكْثَرهم رِجَاله، وَبَعْضهمْ على الأبعرة، فَوَعَدَهُمْ الله - تَعَالَى - إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا العير (أَو) النفير، وَكَانَ أَبُو سُفْيَان صَاحب العير، وَأَبُو جهل صَاحب النفير، فَالتقى الْجَمْعَانِ، ووقعوا فِي الْقِتَال، وَأخذ العير طَرِيق السَّاحِل وذهبوا، وَكَانَ الْمُسلمُونَ يودون أَن يظفروا بالعير ويفوزوا بِالْمَالِ من غير الْقِتَال " فَهَذَا معنى قَوْله: {وتودون أَن غير ذَات الشَّوْكَة تكون لكم} والشوكة: السِّلَاح.
{وَيُرِيد الله أَن يحِق الْحق بكلماته} أَي: يظْهر الْحق ويعلى كَلمته {وَيقطع دابر الْكَافرين} أَي: أصل الْكَافرين.
(2/250)
 
 
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
{ليحق الْحق وَيبْطل الْبَاطِل} أَي: يثبت الْحق وينفي الْبَاطِل {وَلَو كره المجرمون} .
(2/250)
 
 
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {إِذْ تسغيثون ربكُم} الاستغاثة: طلب الْغَوْث {فَاسْتَجَاب لكم أَنِّي مُمِدكُمْ بِأَلف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ} سَبَب هَذَا مَا روى: " أَنه لما التقى الْجَمْعَانِ ببدر اسْتقْبل النَّبِي الْقبْلَة وَرفع يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أنجزني مَا وَعَدتنِي، اللَّهُمَّ إِن تهْلك هَذِه الْعِصَابَة فَلَنْ تعبد فِي الأَرْض، وَعلا بِهِ صَوته فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر: خفض من صَوْتك يَا رَسُول الله؛ فَإِن الله منجزك مَا وَعدك " فَنزلت الْآيَة واستجاب دعاءه، وأمدهم الله تَعَالَى بِالْمَلَائِكَةِ؛ فروى: " أَنه نزل جِبْرِيل فِي خَمْسمِائَة، وَمِيكَائِيل فِي خَمْسمِائَة، وَكَانَ على رُءُوسهم عمائم بيض قد أَرخُوا أطرافها بَين أكتافهم، وهم على صور الْبشر
(2/250)
 
 
{من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ (9) وَمَا جعله الله إِلَّا بشرى ولتطمئن بِهِ قُلُوبكُمْ وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله إِن الله عَزِيز حَكِيم (10) إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة مِنْهُ وَينزل عَلَيْكُم من} على خيل بلق " فَهَذَا معنى قَوْله: {فَاسْتَجَاب لكم أَنِّي مُمِدكُمْ بِأَلف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ} يُقَال: ردفه وأردفه إِذا (أتبعه) ، قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظَنَنْت بآل فَاطِمَة الظنونا)
فَمَعْنَى قَوْله {مُردفِينَ} أَي: مُتَتَابعين بَعضهم فِي إِثْر بعض. وَهَذَا معنى الْقِرَاءَة الثَّانِيَة بِفَتْح الدَّال. وَمِنْهُم من فرق بَينهمَا وَقَالَ: مُردفِينَ أَي: ممدين بَعضهم لبَعض. وَمن قَرَأَ بِفَتْح الدَّال فَمَعْنَاه: ممدين من قبل الله.
(2/251)
 
 
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جعله الله إِلَّا بشرى} أَي: بِشَارَة {ولتطمئن بِهِ قُلُوبكُمْ} أَي: تسكن بِهِ قُلُوبكُمْ {وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله إِن الله عَزِيز حَكِيم}
(2/251)
 
 
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة مِنْهُ} وَيقْرَأ: " إِذْ يغشاكم النعاس " وَقَرَأَ ابْن مُحَيْصِن: " أَمَنَة " سَاكِنة الْمِيم فِي الشواذ.
والقصة فِي ذَلِك: أَن الْكفَّار يَوْم بدر نزلُوا على المَاء، وَنزل الْمُسلمُونَ على غير مَاء، فأجنب بَعضهم وأحدثوا، فَلم يَجدوا مَاء يتطهرون بِهِ، وَكَانُوا فِي رمل تَسُوخ فِيهِ أَرجُلهم، فوسوس إِلَيْهِم الشَّيْطَان: إِنَّكُم تزعمذسون أَنكُمْ على الْحق وَأُولَئِكَ على الْبَاطِل وَإِذا هم على المَاء، فَلَو كُنْتُم على الْحق لكنتم أَنْتُم على المَاء، وَمَا بَقِيتُمْ مجنبين محدثين، فَوَقع فيهم خوف شَدِيد، فَألْقى الله تَعَالَى عَلَيْهِم النعاس حَتَّى أمنُوا، وَأَنْشَأَ سَحَابَة فتمطرت عَلَيْهِم حَتَّى سَالَ الْوَادي وَتطَهرُوا وَاغْتَسلُوا، وتلبدت الرمال حَتَّى ثبتَتْ عَلَيْهَا الْأَقْدَام. فَهَذَا معنى قَوْله: {إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة} .
(2/251)
 
 
{السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ وَيذْهب عَنْكُم رجز الشَّيْطَان وليربط على قُلُوبكُمْ وَيثبت بِهِ الْأَقْدَام (11) إِذْ يوحي رَبك إِلَى الْمَلَائِكَة أَنِّي مَعكُمْ فثبتوا الَّذين آمنُوا سألقي فِي قُلُوب الَّذين كفرُوا الرعب فاضربوا فَوق الْأَعْنَاق واضربوا مِنْهُم كل بنان (12) ذَلِك}
قَالَ ابْن مَسْعُود: النعاس فِي الْقِتَال من الله، وَفِي الصَّلَاة من الشَّيْطَان.
{وَينزل عَلَيْكُم من السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ} وَهُوَ مَا ذكرنَا {وَيذْهب عَنْكُم رجز الشَّيْطَان} أَي: وَسْوَسَة الشَّيْطَان {وليربط على قُلُوبكُمْ} أَي: يشدد قُلُوبكُمْ وَتثبت بِإِزَالَة الْخَوْف {وَيثبت بِهِ الْأَقْدَام} يَعْنِي: على الرمل حِين تلبد بالمطر.
(2/252)
 
 
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
{إِذْ يوحي رَبك إِلَى الْمَلَائِكَة أَنِّي مَعكُمْ} أَي: بالنصر وَالظفر {فثبتوا الَّذين آمنُوا} وروى " أَن الْملك كَانَ يمشي بَين أَيْديهم وينادي: أَيهَا الْمُسلمُونَ، أَبْشِرُوا بالظفر والنصر ". وَقيل: كَانَ يلهمهم الْملك ذَلِك؛ وللملك إلهام.
{سألقي فِي قُلُوب الَّذين كفرُوا الرعب فاضربوا فَوق الْأَعْنَاق} أَي: على الْأَعْنَاق، وَقيل: " فَوق " فِيهِ صلَة، وَمَعْنَاهُ: فاضربوا الْأَعْنَاق، وَقيل: هُوَ على مَوْضِعه، وَمَعْنَاهُ: فاضربوا على اليافوخ.
{واضربوا مِنْهُم كل بنان} قيل: البنان: مفاصل الْأَطْرَاف، وَقيل: الْأَصَابِع، كَأَنَّهُ عبر بِهِ عَن الْأَيْدِي والأرجل.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَا كَانَت الْمَلَائِكَة تعلم كَيفَ يقتل الآدميون، فعلمهم الله.
وَقيل: إِن الْمَلَائِكَة لم يقاتلوا إِلَّا فِي غَزْوَة بدر.
وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ -: أَنه لما أَرَادَ أَن يحز رَأس أبي جهل - وَكَانَ قد علاهُ ليَقْتُلهُ - فَقَالَ لَهُ أَبُو جهل: كُنَّا نسْمع الصَّوْت وَلَا نرى شخصا، ونرى الضَّرْب وَلَا نرى الضَّارِب، فَمن هم؟ قَالَ: هم الْمَلَائِكَة: فَقَالَ أَبُو جهل: أُولَئِكَ غلبونا لَا انتم.
(2/252)
 
 
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
{ذَلِك بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله} أَي: نازعوا الله وَرَسُوله.
(2/252)
 
 
{بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب (13) ذَلِكُم فذوقوه وَأَن للْكَافِرِينَ عَذَاب النَّار (14) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا لَقِيتُم الَّذين كفرُوا زحفا فَلَا تولوهم الأدبار (15) وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره إِلَّا متحرفا لقِتَال أَو متحيزا إِلَى}
{وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب ذَلِكُم فذوقوه وَأَن للْكَافِرِينَ عَابَ النَّار} إِنَّمَا قَالَ ذَلِك مُبَالغَة فِي التعذيب والانتقام، وَالْعرب تَقول لِلْعَدو إِذا أَصَابَهُ الْمَكْرُوه: ذُقْ. قَالَ الله تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} .
وَرُوِيَ أَن أَبَا سُفْيَان بن حَرْب لما مر بِحَمْزَة بن عبد الْمطلب وَهُوَ مطروح مقتول يَوْم أحد فَقَالَ لَهُ: ذُقْ يَا عُقُق، يَعْنِي: ذُقْ أَيهَا الْعَاق.
وَفِي الْقِصَّة: أَن الْمُسلمين لما فرغوا من قتال بدر وَانْهَزَمَ الْكفَّار قصدُوا طلب العير وَأَن يتبعوهم - وَكَانَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فِي وثاق الْمُسلمين وأسرهم - فَقَالَ لَهُم: لَيْسَ لكم إِلَى ذَلِك سَبِيل؛ فَإِن الله - تَعَالَى - وَعدكُم إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقد ظفرتم بالجيش؛ فَلَيْسَ لكم العير، فَسَكَتُوا.
(2/253)
 
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا لَقِيتُم الَّذين كفرُوا زحفا} أَي: متزاحفين والتزاحف: التداني من الْقِتَال، وَمَعْنَاهُ: إِذا تزاحفتم وتوافقتم {فَلَا تولوهم الأدبار} أَي: لَا تنهزموا؛ فَإِن المنهزم يولي دبره إِذا انهزم
(2/253)
 
 
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
{وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره إِلَّا متحرفا لقِتَال} التحرف لِلْقِتَالِ هُوَ أَن يرى الانهزام ويقصد بِهِ طلب الْغرَّة والغيلة، وانتهاز الفرصة {أَو متحيزا إِلَى فِئَة} أَي: مائلا إِلَى فِئَة {فقد بَاء بغضب من الله} أَي: رَجَعَ بغضب من الله {ومأواه جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير} واستدلت الْمُعْتَزلَة بِإِطْلَاق قَوْله: {ومأواه جَهَنَّم} فِي وَعِيد الْأَبَد، وَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ؛ لِأَن معنى الْآيَة: ومأواه جَهَنَّم إِلَّا أَن تُدْرِكهُ الرَّحْمَة؛ بِدَلِيل سَائِر الْآي الْمقيدَة.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْآيَة فِي أهل بدر خَاصَّة، مَا كَانَ يجوز لَهُم الانهزام بِحَال؛ لِأَن النَّبِي كَانَ مَعَهم وَلم يكن لَهُم فِئَة يتحيزون إِلَيْهَا، فَأَما فِي حق غَيرهم فالفرار من الزَّحْف لَا يكون كَبِيرَة؛ لِأَن الْمُسلمين بَعضهم فِئَة لبَعض، فَيكون الفار متحيزا إِلَى فِئَة.
(2/253)
 
 
{فِئَة فقد بَاء بغضب من الله ومأواه جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير (16) فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله}
وَهَذَا مَرْوِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - من الصَّحَابَة - وَيشْهد لذَلِك: قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: لما أصَاب الْمُسلمين يَوْم الجسر مَا أَصَابَهُم وصبروا حَتَّى قتلوا، قَالَ عمر: هلا رجعُوا إليّ وَكَانَ إِذا بعث جَيْشًا بعد ذَلِك يَقُول: أَنا فِئَة لكل مُسلم.
وَيدل عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " غزونا غَزْو فحصنا حَيْصَة، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، نَحن الْفَرَّارُونَ؟ فَقَالَ لَا؛ بل أَنْتُم الْعَكَّارُونَ، وَأَنا فِئَتكُمْ ".
وَفِي الْآيَة قَول آخر - وَهُوَ الْمَذْهَب الْيَوْم وَعَلِيهِ عَامَّة الْفُقَهَاء - أَنه إِن كَانَ الْكفَّار أَكثر من مثليهم جَازَ الْفِرَار من الزَّحْف؛ لقَوْله: {الْآن خفف الله عَنْكُم} وَلقَوْله: {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} وَلَو صَبَرُوا جَازَ، اللَّهُمَّ أَن يعلمُوا قطعا أَنه لَا يُمكنهُم مقاومتهم، فَحِينَئِذٍ لَا يجوز الصَّبْر؛ لِأَنَّهُ يكون إِلْقَاء لنَفسِهِ فِي التَّهْلُكَة، وَإِن كَانَ الْكفَّار مثلي الْمُسلمين أَو دون المثلين لَا يجوز الْفِرَار من الزَّحْف إِلَّا متحرفا لقِتَال أَو متحيزا إِلَى فِئَة - يَعْنِي: إِلَى فِئَة قريبَة من الْجَيْش مثل السَّرَايَا - والفرار من الزَّحْف إِنَّمَا يكون كَثِيره من هَذِه الصُّورَة.
(2/254)
 
 
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
قَوْله تَعَالَى: {فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله قَتلهمْ} سَبَب هَذَا: أَن الْمُسلمين لما انصرفوا من قتال بدر، كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يَقُول: أَنا قتلت فلَانا، وَيَقُول الآخر: أَنا قتلت فلَانا؛ فَلم يرض الله تَعَالَى مِنْهُم ذَلِك، وَنزلت الْآيَة: {فَلم تَقْتُلُوهُمْ} يَعْنِي: بقوتكم وعدتكم {وَلَكِن الله قَتلهمْ} (بنصره) إيَّاكُمْ ومعونته لكم. وَقيل مَعْنَاهُ: وَلَكِن الله قَتلهمْ بسوقهم إِلَيْكُم حَتَّى ظفرتم بهم.
(2/254)
 
 
{قَتلهمْ وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى وليبلي الْمُؤمنِينَ مِنْهُ بلَاء حسنا إِن الله سميع عليم (17) ذَلِكُم وَأَن الله موهن كيد الْكَافرين (18) إِن تستفتحوا فقد جَاءَكُم الْفَتْح}
وَقيل مَعْنَاهُ: وَلَكِن الله قَتلهمْ ببعث الْمَلَائِكَة لكم مدَدا، فَقَتلهُمْ الله بِالْمَلَائِكَةِ.
{وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} روى: " أَن النَّبِي أَخذ كفا من الْحَصْبَاء يَوْم بدر وَرمى بِهِ إِلَى وُجُوه الْمُشْركين وَقَالَ: شَاهَت الْوُجُوه. فَلم يبْق مِنْهُم أحد إِلَّا وَأصَاب عَيْنَيْهِ من ذَلِك، وشغل بِعَيْنيهِ ".
{وَمَا رميت إِذْ رميت} يُرِيد بِهِ ذَلِك الرَّمْي بالحصباء الَّتِي أَصَابَت عيونهم؛ إِذْ لَيْسَ هَذَا فِي قدرَة الْبشر أَن ترمي الْحَصْبَاء إِلَى وُجُوه جَيش بِحَيْثُ لَا تبقى عين إِلَّا ويصيبها مِنْهَا؛ {وَلَكِن الله رمى} بقوته وَقدرته. وَقيل مَعْنَاهُ: وَمَا بلغت إِذْ رميت؛ وَلَكِن الله بلغ، وَقيل مَعْنَاهُ: وَمَا رميت بِالرُّعْبِ فِي قُلُوبهم.
{وليبلي الْمُؤمنِينَ مِنْهُ بلَاء حسنا} أَي: نعْمَة حَسَنَة ينعم بهَا على الْمُؤمنِينَ، وَذَلِكَ نعْمَة النَّصْر وَالظفر، والشدة بلَاء، وَالنعْمَة بلَاء، وَالله تَعَالَى يَبْتَلِي عَبده تَارَة بِالنعْمَةِ وَتارَة بالشدة {إِن الله سميع عليم} .
(2/255)
 
 
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُم وَأَن الله موهن كيد الْكَافرين} يقْرَأ مخففا ومشددا وَمَعْنَاهُ: مضعف كيد الْكَافرين.
(2/255)
 
 
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
قَوْله: {إِن تستفتحوا فقد جَاءَكُم الْفَتْح} قَالَ الضَّحَّاك: سَبَب هَذَا أَن أَبَا جهل
(2/255)
 
 
{وَإِن تنتهوا فَهُوَ خير لكم وَإِن تعودوا نعد وَلنْ تغني عَنْكُم فِئَتكُمْ شَيْئا وَلَو كثرت وَأَن الله مَعَ الْمُؤمنِينَ (19) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَرَسُوله وَلَا توَلّوا عَنهُ وَأَنْتُم تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين قَالُوا سمعنَا وهم لَا يسمعُونَ (21) إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ (22) وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا} قَالَ يَوْم بدر: اللَّهُمَّ انصر أحب الفئتين إِلَيْك وَأكْرمهمْ عَلَيْك. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: اللَّهُمَّ أقطعنا للرحم، وأفسدنا للْجَمَاعَة، وأتانا بِمَا لَا نَعْرِف؛ فاخزه الْيَوْم، فَأَجَابَهُ الله تَعَالَى يَقُوله: {إِن تستفتحوا} أَي: إِن تستنصروا فقد جَاءَكُم النَّصْر.
{وَإِن تنتهوا فَهُوَ خير لكم وَإِن تعودوا نعد} أَي: إِن تعودوا إِلَى الدُّعَاء نعد إِلَى الْإِجَابَة، وَإِن تعودوا إِلَى الْقِتَال نعد إِلَى النَّصْر {وَلنْ تغني عَنْكُم فِئَتكُمْ شَيْئا وَلَو كثرت وَأَن الله مَعَ الْمُؤمنِينَ} .
(2/256)
 
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَرَسُوله} أَمر الصَّحَابَة بِطَاعَتِهِ وَطَاعَة رَسُوله {وَلَا توَلّوا عَنهُ} أَي: لَا تعرضوا عَنهُ {وَأَنْتُم تَسْمَعُونَ
(2/256)
 
 
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين قَالُوا سمعنَا وهم لَا يسمعُونَ) يَعْنِي: أَنهم لما لم ينتفعوا بِمَا سمعُوا فكأنهم لم يسمعوا، فَلَا تَكُونُوا مثلهم.
(2/256)
 
 
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)
قَوْله تَعَالَى: {إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ} سمى الْكفَّار صمًّا بكما؛ لأَنهم لما لم يسمعوا الْحق، وَلم ينطقوا بِالْحَقِّ، وَلم يعقلوا الْحق سماهم بذلك، وعدهم من جملَة الْأَنْعَام.
(2/256)
 
 
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
{وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} أَي: لأسمعهم سَماع التفهم وَالْقَبُول لَو علم أَنهم يصلحون لذَلِك.
{وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: {لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا} ؟ قيل مَعْنَاهُ: لَو علم فيهم خيرا لأسمعهم سَماع التفهم، وَلَو
(2/256)
 
 
{دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَن الله يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه وَأَنه إِلَيْهِ تحشرون (24) } أسمعهم سَماع الآذان لتولوا. وَقيل مَعْنَاهُ: وَلَو أسمعهم سَماع التفهم لتولوا؛ لما سبق لَهُم من الشقاوة، وَأَنَّهُمْ لَا يصلحون لذَلِك وَلَا خير فيهم. وَقيل: مَعْنَاهُ: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ للنَّبِي: أحيي لنا قصيا؛ فَإِنَّهُ كَانَ شَيخا مُبَارَكًا حَتَّى نشْهد لَك بِالنُّبُوَّةِ فنؤمن بك، فَقَالَ الله تَعَالَى: {وَلَو أسمعهم} كَلَام قصي {لتولوا وهم معرضون} .
(2/257)
 
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ} قَالَ السّديّ فِي قَوْله: {لما يُحْيِيكُمْ} : أَرَادَ بِهِ الْإِيمَان. وسمى السّديّ بذلك؛ لِأَنَّهُ كَانَ يجلس فِي سدة مَسْجِد الْكُوفَة.
وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ الْقُرْآن. وَقَالَ الْفراء: هُوَ الْجِهَاد. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ الشَّهَادَة.
وروى أَبُو هُرَيْرَة " أَن النَّبِي دَعَا أبي بن كَعْب وَهُوَ فِي الصَّلَاة، فأسرع الْقِرَاءَة وَأتم الصَّلَاة وأجابه، فَقَالَ النَّبِي: مَا مَنعك أَن تُجِيبنِي؟ فَقَالَ: كنت فِي الصَّلَاة، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام -: أما سَمِعت قَوْله الله تَعَالَى: {اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ} ؟ فَقَالَ: علمت، لَا أَعُود ".
{وَاعْلَمُوا أَن الله يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه} قَالَ سعيد بن جُبَير وَجَمَاعَة: يحول بَين الْمُؤمن وَالْكفْر وَبَين الْكَافِر، وَالْإِيمَان. قَالَ الضَّحَّاك: يحول بَين الْمُؤمن وَالْمَعْصِيَة، وَبَين الْكَافِر وَالطَّاعَة.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَن مَعْنَاهُ: يحول بَين الْمُؤمن وَالْخَوْف، وَبَين الْكَافِر والأمن؛ وَذَلِكَ أَن الْكفَّار كَانُوا آمِنين، وَالْمُسْلِمين كَانُوا خَائِفين؛ فأبدل الله تَعَالَى خوف هَؤُلَاءِ بالأمن، وَأمن هَؤُلَاءِ بالخوف، وَعبر بِالْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ مَحل الْخَوْف والأمن {وَأَنه إِلَيْهِ تحشرون} .
(2/257)
 
 
{وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب (25) واذْكُرُوا إِذْ انتم قَلِيل مستضعفون فِي الأَرْض تخافون أَن يتخطفكم النَّاس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطَّيِّبَات لَعَلَّكُمْ تشكرون (26) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تخونوا الله وَالرَّسُول وتخونوا أماناتكم وَأَنْتُم تعلمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنما أَمْوَالكُم}
(2/258)
 
 
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن الْآيَة فِي أَصْحَاب النَّبِي وَمَعْنَاهَا: اتَّقوا عذَابا يُصِيب الظَّالِم وَغير الظَّالِم.
قَالَ الزبير حِين رأى مَا رأى يَوْم الْجمل: مَا علمت أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِينَا أَصْحَاب رَسُول الله حَتَّى كَانَ هَذَا الْيَوْم. وَقَالَ ابْن عَبَّاس فِي معنى الْآيَة: لَا تقروا الْمُنكر بَيْنكُم، ومروا بِالْمَعْرُوفِ؛ كي لَا يعمكم الله بعقاب، فَيُصِيب الظَّالِم وَغير الظَّالِم.
وَقيل: أَرَادَ بالفتنة: تَفْرِيق الْكَلِمَة وَاخْتِلَاف الآراء، وَاتَّقوا فتْنَة تَفْرِيق الْكَلِمَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة، فَيكون الْعَذَاب مضمرا فِيهِ {وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب} .
(2/258)
 
 
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
قَوْله تَعَالَى: {واذْكُرُوا إِذْ أَنْتُم قَلِيل مستضعفون فِي الأَرْض تخافون أَن يتخطفكم النَّاس} قَالَ وهب بن مُنَبّه: يَعْنِي: تتخطفكم فَارس. وَقَالَ عِكْرِمَة: يتخطفكم كفار الْعَرَب {فآواكم} يَعْنِي: إِلَى الْمَدِينَة {وأيدكم بنصره} أَي: قواكم بنصره {ورزقكم من الطَّيِّبَات} يَعْنِي: الْغَنَائِم {لَعَلَّكُمْ تشكرون} .
(2/258)
 
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تخونوا الله وَالرَّسُول وتخونوا أماناتكم} وَلَا تخونوا أماناتكم {وَأَنْتُم تعلمُونَ} قَالَ الْكَلْبِيّ: نزلت الْآيَة فِي أبي لبَابَة بن عبد الْمُنْذر؛ فَإِن النَّبِي لما حاصر بني قُرَيْظَة بَعثه إِلَيْهِم - وَكَانَ مِنْهُم - فَقَالُوا لَهُ: مَاذَا يفعل بِنَا لَو نزلنَا على حكيه؟ فَوضع أُصْبُعه على حلقه وَأَشَارَ إِلَيْهِم بِالذبْحِ - يَعْنِي: يقتلكم - قَالَ أَبُو لبَابَة: فَمَا بَرحت قَدَمَايَ حَتَّى عرفت أَنِّي خُنْت الله وَرَسُوله، وَنزلت الْآيَة ".
(2/258)
 
 
{وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة وان الله عِنْده أجر عَظِيم (28) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تتقوا الله يَجْعَل لكم فرقانا وَيكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَيغْفر لكم وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم (29) وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا ليثبتوك أَو يَقْتُلُوك أَو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله وَالله خير}
وَقيل: الْآيَة فِي جَمِيع الْأَمَانَات، نهي الْعباد عَن الْخِيَانَة فِي الْأَمَانَات، وَتدْخل فِي الْأَمَانَات الطَّاعَات؛ فَإِن الطَّاعَات أمانات عِنْد الْعباد على معنى أَنَّهَا بَينهم وَبَين رَبهم أدوها أَو لم يؤدوها.
(2/259)
 
 
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة وَأَن الله عِنْده أجر عَظِيم} قيل: هَذَا أَيْضا فِي أبي لبَابَة، وَكَانَ فيهم أَهله وَأَوْلَاده وأمواله، فَقَالَ مَا قَالَ خوفًا عَلَيْهِم. وَقيل: هُوَ فِي سَائِر الْخلق. وَفِي الحَدِيث: " الْوَلَد مَجْبَنَة مَبْخَلَة ومجهلة ".
وَرُوِيَ أَن النَّبِي رأى الْحسن وَالْحُسَيْن فَقَالَ: " إِنَّكُم لتجبنوني وتبخلوني وتجهلوني، وَإِنَّكُمْ لمن ريحَان الله " وَأَشَارَ إِلَى الْحسن وَالْحُسَيْن يَعْنِي: توقعون الأباء فِي الْجُبْن وَالْبخل وَالْجهل. وَقَوله: " لمن ريحَان الله " أَي: من رزق الله.
(2/259)
 
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تتقوا الله يَجْعَل لكم فرقانا} قَالَ ابْن عَبَّاس: أَي: مخرجا. وَقَالَ جَاهد: منجاة {وَيكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَيغْفر لكم وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} .
(2/259)
 
 
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا ليثبتوك أَو يَقْتُلُوك أَو يخرجوك} سَبَب نزُول الْآيَة أَن الْمُشْركين اجْتَمعُوا فِي دَار الندوة ليدبروا أَمر رَسُول الله، فَدخل
(2/259)
 
 
{الماكرين (30) وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا قَالُوا قد سمعنَا لَو نشَاء لقلنا مثل هَذَا إِن هَذَا إِلَّا} عَلَيْهِم إِبْلِيس فِي صُورَة شيخ، فَقَالُوا لَهُ: مَا الَّذِي أدْخلك علينا؟ قَالَ: أَنا شيخ من نجد، وَلست من تهَامَة، وَقد بَلغنِي اجتماعكم فِي أَمر هَذَا الرجل، وَأَنه لَا يعدمكم مني رَأْي، فَقَالُوا: اتركوه، ثمَّ تشاوروا، فَقَالَ عتبَة: اربطوه على جمل وأخرجوه من بلدكم تكفكموه الْعَرَب، فَقَالَ إِبْلِيس: لَيْسَ هَذَا بِرَأْي، أما ترَوْنَ حلاوة مَنْطِقه وَأَخذه الْقُلُوب، فَلَو فَعلْتُمْ بِهِ ذَلِك يذهب فيستميل قُلُوب قوم ثمَّ يغزوكم وَيفرق جمعكم، فتركوا ذَلِك، فَقَالَ أَبُو البخْترِي بن هِشَام: نحبسه فِي بَيت ونتربص بِهِ ريب الْمنون، فَقَالَ إِبْلِيس: لَيْسَ هَذَا بِرَأْي، فَإِن لَهُ عشيرة وقوما لَا يرضون بِهِ ويخرجونه، فتركوا ذَلِك، فَقَالَ أَبُو جهل: عِنْدِي رَأْي، هَذِه خَمْسَة أَحيَاء من قُرَيْش، نَخْتَار من كل حَيّ شَابًّا قَوِيا وَنَضَع فِي يَده سَيْفا حادا، ونأمرهم أَن يضربوه دفْعَة وَاحِدَة حَتَّى يتفرق دَمه فِي الْقَبَائِل، ويعجز قومه عَن الْقِتَال فيرضون بِالدِّيَةِ، فَقَالَ إِبْلِيس: هَذَا هُوَ الرَّأْي، وَتَفَرَّقُوا عَلَيْهِ، فَأخْبرهُ الله تَعَالَى يمكرهم، وَنزلت الْآيَة، فروى أَن النَّبِي بعث أَبَا بكر ليتفحص عَن حَالهم، فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِم فَإِذا إِبْلِيس قد خرج من بَينهم، فماشاه سَاعَة ثمَّ لما أَرَادَ أَن يُفَارِقهُ قَالَ لَهُ أَبُو بكر: أَيْن تُرِيدُ؟ فَقَالَ [لَهُ] اللعين: لي قوم بِهَذَا الْوَادي، فَعلم أَبُو بكر أَنه إِبْلِيس، فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي أخزاك واظهر دينه، فاختفى مِنْهُ؛ فَقَوله {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا} هُوَ مَكْرهمْ ذَلِك، وَالْمَكْر: التَّدْبِير {ليثبتوك} أَي: ليحبسوك كَمَا قَالَ أَبُو البخْترِي {أَو يَقْتُلُوك} كَمَا قَالَ أَبُو جهل {أَو يخرجوك} كَمَا قَالَ عتبَة.
{ويمكرون ويمكر الله} وَالْمَكْر من الله: التَّدْبِير بِالْحَقِّ، وَقيل: هُوَ الْأَخْذ بَغْتَة. قَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: يجازيهم جَزَاء الْمَكْر.
{وَالله خير الماكرين} أَي: خير المدبرين.
(2/260)
 
 
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا قَالُوا قد سمعنَا لَو نشَاء لقلنا مثل هَذَا} هَذَا قَول النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة، وَكَانَ قد خرج إِلَى الْحيرَة من أَرض الْعرَاق
(2/260)
 
 
{أساطير الْأَوَّلين (31) وَإِذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم (32) وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم وَمَا كَانَ} وَاشْترى أَخْبَار رستم، واسفنديار، وَأَحَادِيث الْعَجم، وَجَاء بهَا إِلَى مَكَّة، وَقَالَ: لَو شِئْت لَقلت مثل الْقُرْآن؛ فَذَلِك قَوْله: {لَو نشَاء لقلنا مثل هَذَا} .
{إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين} أَي: أكاذيب الْأَوَّلين؛ والأساطير: جمع الأسطورة، وَهِي الْمَكْتُوبَة. فَإِن قيل: إِذا كَانَ الْقُرْآن معجزا كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: {لَو نشَاء لقلنا مثل هَذَا} وَهل يَقُول أحد: لَو شِئْت قلبت الْحجر ذَهَبا والعصا حَيَّة وَهُوَ عَاجز عَنهُ؟
قيل: إِن الْقُرْآن مطمع مُمْتَنع، فقد يتَوَهَّم صفوهم أَنه يَقُول مثله، وَيمْتَنع عَلَيْهِ ذَلِك فيخطئ ظَنّه. وَقيل: إِنَّه توهم بجهله أَنه يُمكنهُ الْإِتْيَان بِمثلِهِ وَكَانَ عَاجِزا.
(2/261)
 
 
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن هَذَا قَول النَّضر بن الْحَارِث، وَفِي الصَّحِيح بِرِوَايَة أنس أَن هَذَا قَول أبي جهل عَلَيْهِ اللَّعْنَة.
وَهَذَا يدل على شدَّة بصيرتهم فِي الْكفْر، وَأَنه لم تكن لَهُم شُبْهَة وريبة فِي كذب الرَّسُول؛ لِأَن الْعَاقِل لَا يسْأَل الْعَذَاب بِمثل هَذَا مُتَرَدّد فِي أمره؛ وَهَذَا دَلِيل على أَن الْعَارِف لَيست بضرورته.
وَحكى عَن مُعَاوِيَة أَنه قَالَ لرجل من أهل الْيمن: مَا أَجْهَل قَوْمك حَيْثُ قَالُوا: رَبنَا باعد بَين أسفارنا، فَقَالَ الرجل وأجهل من قومِي قَوْمك؛ حَيْثُ قَالُوا: إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم.
(2/261)
 
 
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم} يَعْنِي: أهل مَكَّة {وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ} وَفِي مَعْنَاهُ أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن هَذَا فِي قوم من الْمُسلمين بقوا بِمَكَّة بعد هِجْرَة الرَّسُول، وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَفِيهِمْ من يسْتَغْفر.
(2/261)
 
 
{الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُم أَلا يعذبهم الله وهم يصدون عَن الْمَسْجِد}
وَقيل: فِي قوم علم الله تَعَالَى أَنهم يُؤمنُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ من أهل مَكَّة، وَذَلِكَ مثل: أبي سُفْيَان، وَصَفوَان بن أُميَّة، وَعِكْرِمَة بن أبي جهل، وَسُهيْل بن عَمْرو، وَحَكِيم بن حزَام، وَنَحْوهم، فَلَمَّا كَانَ فِي علم الله تَعَالَى أَنهم لأَصْحَابه يسلمُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ؛ عدهم مستغفرين فِي الْحَال.
وَقيل مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ الله معذبهم وَفِي أصلابهم من يسْتَغْفر؛ إِذْ كَانَ لبَعْضهِم أَوْلَاد قد أَسْلمُوا.
وَقيل: إِنَّمَا قَالَ: {وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ} دَعْوَة لَهُم إِلَى الْإِسْلَام وَالِاسْتِغْفَار، كَالرّجلِ يَقُول: لَا أعاقبك وَأَنت تطيعني، أَي: أطعني حَتَّى لَا أعاقبك.
وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي قَالَ: أنزل الله على أمانين لأمتي: {وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم وَمَا كَانَ معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ} فَإِذا مضيت تركت لَهُم الاسْتِغْفَار إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". وَهُوَ فِي جَامع أبي عِيسَى بطرِيق أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ.
وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: من قَالَ فِي كل يَوْم: أسْتَغْفر الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم وَأَتُوب إِلَيْهِ، ثَلَاث مَرَّات، غفر لَهُ ذنُوبه وَإِن كَانَ فَارًّا من الزَّحْف.
وَاسْتدلَّ بِهَذَا الْأَثر من عد الْفِرَار من الزَّحْف من جملَة الْكَبَائِر.
(2/262)
 
 
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لَهُم أَلا يعذبهم الله} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ التلفيق بَين هَذَا وَبَين قَوْله: {وَمَا كَانَ الله [ليعذبهم] } ؟ قيل: أَرَادَ بِالْأولِ: عَذَاب الاستئصال، وَبِهَذَا: عَذَاب السَّيْف. وَقيل: أَرَادَ بِالْأولِ: عَذَاب الدُّنْيَا، وَبِالثَّانِي: عَذَاب الْآخِرَة.
(2/262)
 
 
{الْحَرَام وَمَا كَانُوا أولياءه إِن أولياءه إِلَّا المتقون وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (34) وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون (35) إِن}
وَقيل: المُرَاد بِهِ أُولَئِكَ الَّذين ترك تعذيبهم؛ لكَون النَّبِي بَينهم، وَمَعْنَاهُ: وَمَا لَهُم أَلا يعذبهم الله بعد خُرُوجك من بَينهم.
{وهم يصدون عَن الْمَسْجِد الْحَرَام} أَي: يمْنَعُونَ عَنهُ {وَمَا كَانُوا أولياءه} وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يدعونَ: إِنَّا أَوْلِيَاء الْبَيْت {إِن أولياؤه إِلَّا المتقون} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ {وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} .
(2/263)
 
 
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية} قَالَ ابْن عمر، وَابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُم - وَالْحسن المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق. والمكاء فِي اللُّغَة: اسْم طَائِر لَهُ صفير فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا صَوت مكاء، وَقَالَ مُجَاهِد: والمكاء أَن يَجْعَل أَصَابِعه فِي شدقيه، والتصدية: الصفير؛ فجعلهما شَيْئا وَاحِدًا. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: التصدية: هِيَ صدهم الْمُؤمنِينَ عَن الْمَسْجِد الْحَرَام. وَالْأول أصح، قَالَ الشَّاعِر:
(وحليل غانية تركت مجدلا ... تمكو فريصته كشدق الأعلم)
أَي: تصفر فريصته كشدق الأعلم.
والقصة فِي ذَلِك: أَن أَرْبَعَة من بني عبد الدَّار كَانُوا إِذا صلى النَّبِي فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وقف اثْنَان عَن يَمِينه، وَاثْنَانِ عَن يسَاره، فيصفر اللَّذَان عَن يَمِينه ويصفق اللَّذَان عَن يسَاره حَتَّى يخلطوا عَلَيْهِ الْقِرَاءَة.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: إِنَّمَا سَمَّاهُ صَلَاة؛ لأَنهم أمروا بِالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِد، فَلَمَّا وضعُوا ذَلِك مَوضِع الصَّلَاة سَمَّاهُ صَلَاة {فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون} .
(2/263)
 
 
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الذيك كفرُوا يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ليصدوا عَن سَبِيل الله فيسنفقونها ثمَّ تكون عَلَيْهِم حسرة ثمَّ يغلبُونَ} فِيهِ قَولَانِ:
(2/263)
 
 
{الَّذين كفرُوا يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ليصدوا عَن سَبِيل الله فسينفقونها ثمَّ تكون عَلَيْهِم حسرة ثمَّ يغلبُونَ وَالَّذين كفرُوا إِلَى جَهَنَّم يحشرون (36) ليميز الله الْخَبيث من الطّيب وَيجْعَل الْخَبيث بعضه على بعض فيركمه جَمِيعًا فَيَجْعَلهُ فِي جَهَنَّم أُولَئِكَ هم الخاسرون (37) قل للَّذين كفرُوا إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف وَإِن يعودوا فقد مَضَت سنت}
أَحدهمَا: أَن الْآيَة فِي المطمعين يَوْم بدر، وهم اثْنَا عشر نَفرا من رُؤْس الْمُشْركين: أَبُو جهل بن هِشَام، والْحَارث بن هِشَام، وَأبي بن خلف، وَعتبَة وَشَيْبَة ابْنا ربيعَة، ومنبه وَنبيه ابْنا الْحجَّاج، وَأَبُو البخْترِي بن هِشَام، وَحَكِيم بن حزَام، وَالنضْر بن الْحَارِث، وَزَمعَة بن الْأسود، وَالْعَبَّاس بن عبد الْمطلب؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم كَانَ كل يَوْم ينْحَر عشرَة أَبْعِرَة وَيطْعم الْجَيْش.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن هَذَا فِي أبي سُفْيَان بن حَرْب اسْتَأْجر ثَلَاثَة آلَاف رجل من الْأَحَابِيش يَوْم أحد لقِتَال النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - فَنزل قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ليصدوا عَن سَبِيل الله ثمَّ تكون حسرة عَلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ يغلبُونَ} .
قَالَ الْحسن: أَشد النَّاس حسرة يَوْم القيامه من يرى مَاله فِي ميزَان غَيره {وَالَّذين كفرُوا إِلَى جَهَنَّم يحشرون} .
(2/264)
 
 
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
قَوْله تَعَالَى: {ليميز الله الْخَبيث من الطّيب} أَي: ليفرق الله الْخَبيث من الطّيب؛ الْخَبيث: مَا أنْفق من الْحَرَام، وَالطّيب: مَا أنْفق من الْحَلَال. وَقيل: الْخَبيث مَا أنْفق فِي الْمعْصِيَة، وَالطّيب مَا أنْفق فِي الطَّاعَة.
{وَيجْعَل الْخَبيث بعضه على بعض فيركمه جَمِيعًا} أَي: يجمعه جَمِيعًا؛ يُقَال: سَحَاب مركوم إِذا كَانَ بعضه على بعض {فَيَجْعَلهُ فِي جَهَنَّم أُولَئِكَ هم الخاسرون} .
وَعَن عبَادَة بن الصَّامِت - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: إِن الله تَعَالَى يجمع الدُّنْيَا يَوْم الْقِيَامَة، فَيَأْخُذ مَاله ويطرح الْبَاقِي فِي النَّار. ولأي معنى يطرحه فِي النَّار؟ قيل: ليضيق الْمَكَان على الْكفَّار، وَقيل: لتَكون الْحَسْرَة أَشد عَلَيْهِم إِذا نظرُوا إِلَيْهَا.
(2/264)
 
 
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
قَوْله تَعَالَى: {قل للَّذين كفرُوا إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف} قَالَ يحيى بن
(2/264)
 
 
{الْأَوَّلين (38) وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة وَيكون الدّين كُله لله فَإِن انْتَهوا فَإِن الله بِمَا يعْملُونَ بَصِير (39) وَإِن توَلّوا فاعلموا أَن الله مولاكم نعم الْمولى وَنعم النصير (40) وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى واليتامى} معَاذ الرَّازِيّ - رَحمَه الله - إِيمَان لم يعجز عَن هدم كفر قبله فَمَتَى يعجز عَن هدم ذَنْب بعده!
{وَإِن يعودوا فقد مَضَت سنة الْأَوَّلين} قيل: سنة الْأَوَّلين: أَن يصل عَذَاب الدُّنْيَا بعقوبة الْآخِرَة.
(2/265)
 
 
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
قَوْله تَعَالَى: {وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة} أَي: لَا يكون شرك {وَيكون الدّين كُله لله فَإِن انْتَهوا فَإِن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير وَإِن توَلّوا فاعلموا أَن الله مولاكم نعم الْمولى وَنعم النصير} فالمولى: الْقيم بالأمور، والنصير: النَّاصِر.
(2/265)
 
 
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ} الْآيَة.
اخْتلف الْعلمَاء فِي الْغَنِيمَة والفيء؛ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُمَا سَوَاء، وَهُوَ المَال الْمَأْخُوذ من الْكفَّار على وَجه الْقَهْر.
وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَح -: أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَالْفرق بَينهمَا: أَن الْغَنِيمَة: هِيَ المَال الْمَأْخُوذ من الْكفَّار على وَجه العنوة بِإِيجَاف الْخَيل والركاب، والفيء: هُوَ المَال الْمَأْخُوذ من غير إيجَاف خيل وَلَا ركاب.
وَهَذَا القَوْل مَنْقُول عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، وَالشَّافِعِيّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَغَيرهمَا.
{فَأن الله} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن قَوْله: {لله} افْتِتَاح كَلَام، وَلَيْسَ لله سهم مُنْفَرد؛ بل سهم الله وَسَهْم الرَّسُول وَاحِد.
وَفِيه قَول آخر: أَن لله سَهْما يصرف إِلَى الْكَعْبَة. وَقد رُوِيَ أَن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة فَقَالَ: قَوْله {فَأن لله خَمْسَة} افْتِتَاح كَلَام، لله الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَعَن أبي الْعَالِيَة الريَاحي قَالَ: " كَانَ رَسُول الله يقسم الْغَنِيمَة على
(2/265)
 
 
خَمْسَة أسْهم، فيفرز الْخمس مِنْهُ، ثمَّ يَأْخُذ مِنْهُ قَبْضَة فَيَجْعَلهُ للكعبة، ثمَّ يقسم الْبَاقِي على مَا ذكر الله ".
وَأما قَوْله: {وَلِلرَّسُولِ} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن للرسول سَهْما مُفردا. وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ للرسول سهم أصلا؛ وَإِنَّمَا هُوَ افْتِتَاح كَلَام، وَمعنى ذكر الرَّسُول أَن التَّدْبِير إِلَيْهِ.
ثمَّ اخْتلفُوا على القَوْل الأول أَن ذَلِك السهْم بعد مَوته لمن يكون؟
قَالَ قَتَادَة: هُوَ للخليفة بعده. وَقَالَ بَعضهم: يرد إِلَى الأسهم الْأَرْبَعَة. وَأما مَذْهَب الشَّافِعِي: أَن ذَلِك السهْم يصرف إِلَى الْمصَالح.
وَفِيه قَول رَابِع: أَنه يصرف إِلَى الكراع وَالسِّلَاح فِي سَبِيل الله. وَهَذَا مَرْوِيّ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَغَيره.
وَأما قَوْله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} اخْتلفُوا فِي هَذَا على ثَلَاثَة أقاويل:
فمذهب الشَّافِعِي: أَن لَهُم سَهْما مُفردا بعد رَسُول الله إِلَى قيام السَّاعَة، يشْتَرك فِيهِ أغنياؤهم وفقراؤهم على مَا هُوَ الْمَعْرُوف. وَهَذَا قَول أَحْمد وَغَيره.
وَقَالَ مَالك: الْأَمر فِيهِ إِلَى الإِمَام إِن شَاءَ أَعْطَاهُم، وَإِن شَاءَ لم يعطهم، وَكَذَلِكَ فِي الْبَاقِي، وَإِنَّمَا ذكرُوا لجَوَاز الصّرْف إِلَيْهِم لَا للاستحقاق.
وَالْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة - رَضِي الله عَنهُ -: أَن سهم ذَوي الْقُرْبَى يرد إِلَى البَاقِينَ، وَلَيْسَ لَهُم سهم مُفْرد، فَيقسم على ثَلَاثَة أسْهم لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل. ويروون هَذَا عَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة أَنهم قسموا على هَذَا الْوَجْه، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي ذَوي الْقُرْبَى من هم؟ قَالَ مُجَاهِد. هم بَنو هَاشم خَاصَّة؛ وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: جَمِيع قُرَيْش. وَحكى عَنهُ أَنه سُئِلَ عَن سهم ذَوي الْقُرْبَى فَقَالَ: نزعم أَنه لنا، ويأبى قَومنَا ذَلِك علينا.
(2/266)
 
 
{وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه وَمَا أنزلنَا على عَبدنَا يَوْم الْفرْقَان يَوْم التقى}
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن ذَوي الْقُرْبَى هم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي - رَحمَه الله - وَقد دلّ عَلَيْهِ الْخَبَر الْمَرْوِيّ بطرِيق جُبَير بن مطعم - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي: " قسم سهم ذَوي الْقُرْبَى بَين بني هَاشم وَبني الْمطلب، فمشيت أَنا وَعُثْمَان إِلَى رَسُول الله وَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، إِنَّا لَا ننكر فَضِيلَة بني هَاشم لِمَكَانِك الَّذِي وضعك الله فيهم؛ ولكننا وإخواننا بني الْمطلب فِي الْقَرَابَة مِنْك سَوَاء، وَقد أَعطيتهم وَحَرَمْتنَا، فَقَالَ: أَنا وَبني الْمطلب شَيْء وَاحِد - وَشَبك بَين أَصَابِعه - وَإِنَّهُم لم يفارقونا فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام ". ٍ
وَأما قَوْله تَعَالَى: {واليتامى} فاليتامى لَهُم سهم مُفْرد بِالْإِنْفَاقِ، واليتيم الَّذِي يسْتَحق السهْم هُوَ الَّذِي لَا أَب لَهُ فَيكون صَغِيرا فَقِيرا.
وَقَوله: {وَالْمَسَاكِين} فالمساكين هم أهل الْحَاجة، وَسَيَرِدُ الْفرق بَين الْمِسْكِين وَالْفَقِير فِي سُورَة بَرَاءَة.
وَأما قَوْله: {وَابْن السَّبِيل} فَهُوَ الْمُنْقَطع الَّذِي بعد عَن مَاله.
وَقَوله: {إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه} مَعْنَاهُ: وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ، على مَا ذكر، إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه. وَقيل مَعْنَاهُ: يأمران فِيهِ بِمَا يُريدَان فاقبلوا إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه.
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أنزلنَا} يَعْنِي: إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه وَبِمَا أنزلنَا {على عَبدنَا} .
وَفِيه قَول آخر: أَن هَذَا رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة} إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه وَبِمَا أنزلنَا على عَبدنَا {يَوْم الْفرْقَان} يَوْم بدر، فرق الله تَعَالَى فِيهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل {يَوْم التقى الْجَمْعَانِ} مَعْنَاهُ: التقى حزب الله وحزب الشَّيْطَان
(2/267)
 
 
{الْجَمْعَانِ وَالله على كل شَيْء قدير (41) إِذْ إنتم بالعدوة الدُّنْيَا وهم بالعدوة القصوى والركب أَسْفَل مِنْكُم وَلَو تواعدتم لاختلفتم فِي الميعاد وَلَكِن ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة وَيحيى من حَيّ عَن بَيِّنَة وَإِن الله لسميع عليم (42) إِذْ}
{وَالله على كل شَيْء قدير} .
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: يَوْم الْفرْقَان يَوْم السَّابِع عشر من رَمَضَان أخبر الله تَعَالَى بِتمَام قدرته.
(2/268)
 
 
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
قَوْله تَعَالَى: {إِذْ أَنْتُم بالعدوة الدُّنْيَا} الْآيَة، العدوة: شَفير الْوَادي؛ والغدوة والعدوة وَاحِد، وَقَوله {الدُّنْيَا} يَعْنِي: الْأَدْنَى من الْمَدِينَة؛ فَهِيَ تَأْنِيث الْأَدْنَى {وهم بالعدوة القصوى} يَعْنِي: الْأَقْصَى من مَكَّة؛ وَهِي تَأْنِيث الْأَقْصَى {والركب أَسْفَل مِنْكُم} قَالُوا مَعْنَاهُ: والركب بمنزل أَسْفَل مِنْكُم. والركب: هُوَ العير الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَبُو سُفْيَان، وَكَانُوا بساحل الْبَحْر على ثَلَاثَة أَمْيَال من بدر {وَلَو تواعدتم لاختلفتم فِي الميعاد} مَعْنَاهُ: وَلَو تواعدتم الِاتِّفَاق والاجتماع لِلْقِتَالِ لاختلفتم لقلتكم وكثرتهم {فِي الميعاد وَلَكِن} الله جمع من غير ميعاد {ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} .
قَوْله تَعَالَى: {ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة} الْآيَة فِيهَا قَولَانِ:
أَحدهمَا - وَهُوَ الْأَظْهر -: أَن الْهَلَاك هُوَ الْكفْر، والحياة هِيَ الْإِيمَان، وَمَعْنَاهُ: ليكفر من كفر عَن حجَّة بَيِّنَة فِيمَا لَهُ وَعَلِيهِ {ويحيا من حَيّ} يَعْنِي: ويؤمن من آمن على مثل ذَلِك.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْهَلَاك هُوَ الْمَوْت، والحياة هِيَ الْعَيْش، وَمَعْنَاهُ: ليَمُوت من يَمُوت عَن حجَّة بَيِّنَة، ويعيش من يعِيش على مثل ذَلِك.
{وَإِن الله لسميع عليم} سميع لأقوالكم، عليم بأموركم.
(2/268)
 
 
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يريكهم الله فِي مَنَامك قَلِيلا} الْآيَة فِيهَا قَولَانِ:
أظهر الْقَوْلَيْنِ: أَن الْمَنَام حَقِيقَة النّوم؛ فَرَآهُمْ رَسُول الله فِي نَومه أقل مِمَّا كَانُوا
(2/268)
 
 
{يريكهم الله فِي مَنَامك قَلِيلا وَلَو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم فِي الْأَمر وَلَكِن الله سلم إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور (43) وَإِذ يريكموهم إِذا التقيتم فِي أعينكُم قَلِيلا ويقللكم فِي أَعينهم ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور (44) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فِي الْعدَد.
وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ: أَنه قَوْله تَعَالَى: {فِي مَنَامك} أَي: فِي عَيْنك قَلِيلا؛ وسمى الْعين مناما؛ لِأَنَّهَا مَوضِع النّوم.
{وَلَو أراكهم كثيرا لفشلتم} لجبنتم {ولتنازعتم فِي الْأَمر} يَعْنِي: فِي الإحجام والإقدام {وَلَكِن الله سلم} أَي: سلمكم من الفشل والجبن {إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور} .
وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه كَانَ يستعيذ بِاللَّه من الْجُبْن.
(2/269)
 
 
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ يريكموهم إِذْ التقيتم فِي أعينكُم قَلِيلا ويقللكم فِي أَعينهم ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور} معنى الْآيَة: أَن الله تَعَالَى قلل الْمُشْركين فِي أعين الْمُؤمنِينَ؛ ليقدموا وَلَا يجبنوا، وقلل الْمُؤمنِينَ فِي أعين ا