أحكام القرآن لابن العربي ج ص معتمد 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
{تُرَاوِدُ فَتَاهَا} [يوسف: 30] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي». فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَبْدٌ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ. وَفِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَا يُقْطَعُ بِهِ، فَالْوَقْفُ فِيهِ أَسْلَمُ.
 
[مَسْأَلَة الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الَّذِي لَيْسَ بِفَرْضٍ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِيهِ الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الَّذِي لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَقَدْ رَحَلَتْ الصَّحَابَةُ فِيهِ وَأُذِنَ لَهُمْ فِي التَّرَحُّلِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا فَضْلًا عَنْ الدِّينِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
 
[الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة مِنْ الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف: 61].
جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى النِّسْيَانَ سَبَبًا لِلزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ فِي الْمَسِيرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ كَانَ كَتَبَ لَهُ لِقَاءَهُ، وَكَتَبَ الزِّيَادَةَ فِي السَّيْرِ عَلَى مَوْضِعِ اللِّقَاءِ، فَنَفَذَ الْكُلُّ؛ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النِّسْيَانِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَلِكَ عَلَى الْخَلْقِ فِي مَعَانِي الدِّينِ، وَهُوَ عَفْوٌ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ.
 
[الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة مِنْ الْآيَة التَّاسِعَة قَوْله تَعَالَى قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا]
} [الكهف: 62] بَيَّنَ ذَلِكَ جَوَازَ الِاسْتِخْدَامِ لِلْأَصْحَابِ أَوْ الْعَبِيدِ فِي أُمُورِ الْمَعَاشِ وَحَاجَةِ الْمَنَافِعِ، لِفَضْلِ الْمَنْزِلَةِ، أَوْ لِحَقِّ السَّيِّدِيَّةِ.
(3/239)
1
[الْمَسْأَلَة السَّادِسَة مِنْ الْآيَة الْعَاشِرَة قَوْله تَعَالَى وَمَا أَنْسَانِيهِ إلَّا الشَّيْطَانُ]
ُ} [الكهف: 63]: نَسِيَهُ يُوشَعُ، وَنَسِيَهُ أَيْضًا مُوسَى، وَنِسْبَةُ الْفَتَى نِسْيَانَهُ إلَى الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ. وَلَا يُنْسَبُ نِسْيَانُ الْأَنْبِيَاءِ إلَى الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا نِسْيَانُهُمْ أُسْوَةٌ لِلْخَلْقِ وَسُنَّةٌ فِيهِمْ.
 
[مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا]
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} [الكهف: 63] قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَصَارَ الْمَاءُ عَلَى الْحُوتِ مِثْلَ الطَّاقِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِمُوسَى، وَلَوْلَاهُ مَا عَلِمَ أَيْنَ فَقَدَ الْحُوتَ، وَلَا وَجَدَ إلَى لِقَاءِ الْمَطْلُوبِ سَبِيلًا.
 
[الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة مِنْ الْآيَة الْحَادِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ]
ِي} [الكهف: 66]: وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ تَبَعٌ لِلْعَالِمِ، وَلَوْ تَفَاوَتَتْ الْمَرَاتِبُ.
 
[الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة مِنْ الْآيَة الثَّانِيَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى إنَّك لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا]
} [الكهف: 67].
حَكَمَ عَلَيْهِ بِعَادَةِ الْخَلْقِ فِي عَدَمِ الصَّبْرِ عَمَّا يَخْرُجُ مِنْ الِاعْتِيَادِ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الْحُكْمِ بِالْعَادَةِ.
 
[الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة مِنْ الْآيَة الثَّالِثَةُ عَشْرَة قَوْله تَعَالَى سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَك أَمْرًا]
} [الكهف: 69].
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: اسْتَثْنَى فِي التَّصَبُّرِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ، فَلَا جَرَمَ وَجَّهَ مَا اسْتَثْنَى فِيهِ، فَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرِقَ السَّفِينَةَ أَوْ يَقْتُلَ الْغُلَامَ لَمْ يَقْبِضْ يَدَهُ، وَلَا نَازَعَهُ، وَخَالَفَهُ فِي الْأَمْرِ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَسَأَلَهُ.
(3/240)
1
[الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عَشْرَة مِنْ الْآيَة الرَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ]
ُ} [الكهف: 73]. ذَكَرَ أَنَّ النِّسْيَانَ لَا يَقْتَضِي الْمُؤَاخَذَةَ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فِي طَلَاقٍ وَلَا غَيْرِهِ.
 
[الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عَشْرَة مِنْ الْآيَة الْخَامِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى إنْ سَأَلْتُك عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي]
} [الكهف: 76]. فَهَذَا شَرْطٌ، وَهُوَ لَازِمٌ، وَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، وَأَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا الْتَزَمَهُ الْأَنْبِيَاءُ، أَوْ اُلْتُزِمَ لِلْأَنْبِيَاءِ، فَهَذَا أَصْلٌ مِنْ الْقَوْلِ بِالشُّرُوطِ وَارْتِبَاطِ الْأَحْكَامِ بِهَا، وَهُوَ يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي الْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا.
 
[مَسْأَلَة قِيَامِ الِاعْتِذَارِ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مُطْلَقًا]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76] هَذَا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ الِاعْتِذَارِ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مُطْلَقًا، وَبِقِيَامِ الْحُجَّةِ مِنْ الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِالْقَطْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: صَبَرَ مُوسَى عَلَى قَتْلِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ عِنْدَهُ الْقَتْلَ، وَلَمْ يَغْتَرَّ لَمَّا كَانَ أَعْلَمَهُ مِنْ أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا صَبَرَ عَلَى حَالٍ ظَاهِرُهَا الْمُحَالُ، وَكَانَ هُوَ أَعْلَمُ بِبَاطِنِهَا فِي الْمَآلِ.
 
[الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عَشْرَة مِنْ الْآيَة السَّادِسَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى فَانْطَلَقَا حَتَّى إذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا]
} [الكهف: 77]. وَصَلَا إلَى الْقَرْيَةِ مُحْتَاجَيْنِ إلَى الطَّعَامِ، فَعَرَضُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً، فَأَبَوْا عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَهَذَا سُؤَالٌ، وَهُوَ عَلَى مَرَاتِبَ فِي الشَّرْعِ، وَمَنَازِلَ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ. وَهَذَا السُّؤَالُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ هُوَ سُؤَالُ الضِّيَافَةِ، وَهِيَ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ
(3/241)
1
هُنَالِكَ، وَسُؤَالُهَا جَائِزٌ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُمْ نَزَلُوا بِقَوْمٍ فَاسْتَضَافُوهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُهُمْ، فَسَأَلُوهُمْ: هَلْ مِنْ رَاقٍ، فَجَعَلُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ. . الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ.
وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَوَّزَ الْكُلَّ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى حِينَ سَقَى لِبِنْتَيْ شُعَيْبٍ أَجْوَعَ مِنْهُ حِينَ أَتَى الْقَرْيَةَ مَعَ الْخَضِرِ، وَلَمْ يَسْأَلْ قُوتًا؛ بَلْ سَقَى ابْتِدَاءً، وَفِي الْقَرْيَةِ سَأَلَا الْقُوتَ، وَفِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ انْفِصَالَاتٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا أَنَّ مُوسَى كَانَ فِي حَدِيثِ مَدْيَنَ مُنْفَرِدًا، وَفِي قِصَّةِ الْقَرْيَةِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ. وَقِيلَ: كَانَ هَذَا سَفَرَ تَأْدِيبٍ فَوُكِلَ إلَى تَكْلِيفِ الْمَشَقَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَفَرَ هِجْرَةٍ فَوُكِلَ إلَى الْعَوْنِ وَالْقُوَّةِ.
 
[الْمَسْأَلَة السَّادِسَة عَشْرَة مِنْ الْآيَة السَّابِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ]
ِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79]. فَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، وَفَرَّ مِنْ ذَلِكَ قَوْمٌ حَتَّى قَرَءُوهَا لِمَسَّاكِينَ بِتَشْدِيدِ السِّينِ مِنْ الِاسْتِمْسَاكِ، وَهَذَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا نَسَبَهُمْ إلَى الْمَسْكَنَةِ لِأَجْلِ ضَعْفِ الْقُوَّةِ، بَلْ عَدَمِهَا فِي الْبَحْرِ، وَافْتِقَارِ الْعَبْدِ إلَى الْمَوْلَى كَسْبًا وَخَلْقًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّ الْحَوْلَ وَالْقُوَّةَ لِلَّهِ فَلْيَرْكَبْ الْبَحْرَ.
 
[الْمَسْأَلَة السَّابِعَة عَشْرَة مِنْ الْآيَة الثَّامِنَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ]
ِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82].
(3/242)
1
[الْآيَة التَّاسِعَة عَشْرَة قَوْله تَعَالَى قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ]
ِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94].
فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: الْخَرْجُ: الْجَزَاءُ وَالْأُجْرَةُ، وَكَانَ مَلِكًا يَنْظُرُ فِي أُمُورِهِمْ، وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِ جَزَاءً فِي أَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ مَا يَجِدُونَهُ مِنْ عَادِيَةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَعَلَى الْمَلِكِ فَرْضُ أَنْ يَقُومَ بِحِمَايَةِ الْخَلْقِ فِي حِفْظِ بَيْضَتِهِمْ، وَسَدِّ فُرْجَتِهِمْ، وَإِصْلَاحِ ثَغْرِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي تَفِيءُ عَلَيْهِمْ، وَحُقُوقِهِمْ الَّتِي يَجْمَعُهَا خَزَنَتُهُمْ تَحْتَ يَدِهِ وَنَظَرِهِ، حَتَّى لَوْ أَكْلَتهَا الْحُقُوقُ، وَأَنْفَدَتْهَا الْمُؤَنُ، وَاسْتَوْفَتْهَا الْعَوَارِضُ، لَكَانَ عَلَيْهِمْ جَبْرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَعَلَيْهِ حُسْنُ النَّظَرِ لَهُمْ، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:
الْأَوَّلُ: أَلَّا يَسْتَأْثِرَ بِشَيْءٍ عَلَيْهِمْ.
الثَّانِي: أَنْ يَبْدَأَ بِأَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ فَيُعِينُهُمْ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُسَوِّيَ فِي الْعَطَاءِ بَيْنَهُمْ عَلَى مِقْدَارِ مَنَازِلِهِمْ، فَإِذَا فَنِيَتْ بَعْدَ هَذَا ذَخَائِرُ الْخِزَانَةِ وَبَقِيَتْ صِفْرًا فَأَطْلَعَتْ الْحَوَادِثُ أَمْرًا بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ قَبْلَ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُغْنِ ذَلِكَ فَأَمْوَالُهُمْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى تَقْدِيرٍ، وَتُصْرَفُ بِأَحْسَنِ تَدْبِيرٍ.
فَهَذَا ذُو الْقَرْنَيْنِ لَمَّا عَرَضُوا عَلَيْهِ الْمَالَ قَالَ: لَسْت أَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَحْتَاجُ إلَيْكُمْ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ، أَيْ اخْدِمُوا بِأَنْفُسِكُمْ مَعِي، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ عِنْدِي وَالرِّجَالَ عِنْدَكُمْ؛ وَرَأَى أَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تُغْنِي دُونَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إنْ أَخَذُوهَا أُجْرَةً نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، فَعَادَ عَلَيْهِمْ بِالْأَخْذِ، فَكَانَ التَّطَوُّعُ بِخِدْمَةِ الْأَبْدَانِ أَوْلَى. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ الْفَيْءِ وَالْخَرَاجِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ شَرْحِ الْحَدِيثِ بَيَانًا شَافِيًا، وَهَذَا الْقَدْرُ يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْآنِ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَتَمَامُهُ هُنَالِكَ.
وَضَبْطُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَخْذُ مَالِ أَحَدٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ تَعْرِضُ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ الْمَالُ جَهْرًا لَا سِرًّا، وَيُنْفَقُ بِالْعَدْلِ لَا بِالِاسْتِئْثَارِ، وَبِرَأْيِ الْجَمَاعَةِ لَا بِالِاسْتِبْدَادِ بِالرَّأْيِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
(3/243)
1
[الْآيَة الْعُشْرُونَ قَوْله تَعَالَى قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا]
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا} [الكهف: 103] {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]. فِيهَا مَسْأَلَةٌ: أَجَابَ اللَّهُ عَمَّا وَقَعَ التَّقْرِيرُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]. لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ حَمَلُوا عَلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ، وَأَلْحَقُوا بِهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ مِمَّنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ، وَيَرْجِعُونَ فِي الْجُمْلَةِ إلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ:
الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: الْكُفَّارُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالتَّكْلِيفِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ زَيَّنَ لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ، إنْفَاذًا لِمَشِيئَتِهِ، وَحُكْمًا بِقَضَائِهِ، وَتَصْدِيقًا لِكَلَامِهِ.
الصِّنْفُ الثَّانِي: أَهْلُ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ الدَّلِيلِ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] كَأَهْلِ حَرُورَاءَ وَالنَّهْرَوَانِ، وَمَنْ عَمَل بِعَمَلِهِمْ الْيَوْمَ، وَشَغَبَ الْآنَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَشْغِيبَ أُولَئِكَ حِينَئِذٍ، فَهُمْ مِثْلُهُمْ وَشَرٌّ مِنْهُمْ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمًا، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إلَّا أَخْبَرْته، فَقَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا سَأَلَ عَنْهُ صُبَيْغُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: مَا الذَّارِيَاتُ ذَرْوًا؟ قَالَ عَلِيٌّ: الرِّيَاحُ. قَالَ: مَا الْحَامِلَاتُ وِقْرًا؟ قَالَ: السَّحَابُ. قَالَ: فَمَا الْجَارِيَاتُ يُسْرًا؟ قَالَ: السُّفُنُ. قَالَ: فَمَا الْمُقَسِّمَاتُ أَمْرًا؟ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ. قَالَ: فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا} [الكهف: 103] قَالَ: ارْقَ إلَيَّ أُخْبِرْك. قَالَ: فَرَقَى إلَيْهِ دَرَجَتَيْنِ قَالَ: فَتَنَاوَلَهُ بِعَصًا كَانَتْ بِيَدِهِ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِهَا. ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ وَأَصْحَابُك. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ الْمُتَأَوِّلِينَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا نُبْذَةً مِنْهُ، وَتَمَامُهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: الَّذِينَ أَفْسَدُوا أَعْمَالَهُمْ بِالرِّيَاءِ وَضَيَّعُوا أَحْوَالَهُمْ بِالْإِعْجَابِ، وَقَدْ
(3/244)
1
أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ، وَيَلْحَقُ بِهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ كَثِيرٌ، وَهُمْ الَّذِينَ أَفْنَوْا زَمَانَهُمْ النَّفِيسَ فِي طَلَبِ الْخَسِيسِ. كَانَ شَيْخُنَا الطُّوسِيُّ الْأَكْبَرُ يَقُولُ: لَا يَذْهَبُ بِكُمْ الزَّمَانُ فِي مُصَاوَلَةِ الْأَقْرَانِ وَمُوَاصَلَةِ الْإِخْوَانِ. وَقَدْ خَتَمَ الْبَارِي الْبَيَانَ، وَخَتَمَ الْبُرْهَانَ بِقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
(3/245)
1
[سُورَةُ مَرْيَمَ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّك عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا]
الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: 2] {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55].
وَقَدْ رَوَى سَعْدٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ، وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي» وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاءِ، فَأَمَّا دُعَاءُ زَكَرِيَّا فَإِنَّمَا كَانَ خَفِيًّا، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ لَيْلًا.
وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي دُعَائِهِ أَحْوَالًا تَفْتَقِرُ إلَى الْإِخْفَاءِ، كَقَوْلِهِ: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي. وَهَذَا مِمَّا يُكْتَمُ وَلَا يُجْهَرُ بِهِ، وَقَدْ أَسَرَّ مَالِكٌ الْقُنُوتَ، وَجَهَرَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو بِهِ جَهْرًا حَسْبَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(3/246)
1
[الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا]
فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِلْمَوْلَى ثَمَانِيَةَ مَعَانٍ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَالْحَدِيثِ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا الْوَارِثُ، وَابْنُ الْعَمِّ. وَلَمْ يَخَفْ زَكَرِيَّا إرْثَ الْمَالِ، وَلَا رَجَاهُ مِنْ الْوَلَدِ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ إرْثَ النُّبُوَّةِ، وَعَلَيْهَا خَافَ أَنْ تَخْرُجَ عَنْ عَقِبِهِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ». وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا عِلْمًا». وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَجَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ فِي الْوَلَدِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ دَعَاهُ لِإِظْهَارِ دِينِهِ، وَإِحْيَاءِ نُبُوَّتِهِ، وَمُضَاعَفَةِ أَجْرِهِ، فِي وَلَدٍ صَالِحٍ نَبِيٍّ بَعْدَهُ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ لِلدُّنْيَا.
الثَّانِي: لِأَنَّ رَبَّهُ كَانَ قَدْ عَوَّدَهُ الْإِجَابَةَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4]. وَهَذِهِ وَسِيلَةٌ حَسَنَةٌ أَنْ يَتَشَفَّعَ إلَيْهِ بِنِعَمِهِ، وَيَسْتَدِرَّ فَضْلَهُ بِفَضْلِهِ. يُرْوَى أَنَّ حَاتِمَ الْجَوَادَ لَقِيَهُ رَجُلٌ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ حَاتِمٌ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الَّذِي أَحْسَنْت إلَيْهِ عَامَ أَوَّلٍ. قَالَ: مَرْحَبًا بِمَنْ تَشَفَّعَ إلَيْنَا بِنَا.
(3/247)
1
[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا]
} [مريم: 12]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ بَيَّنَّا الْحِكْمَةَ وَالْحُكْمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ، وَأَوْضَحْنَا وُجُوهَهَا ومُتَصَرَّفاتِها ومُتَعَلَّقاتِها كُلَّهَا. وَأَجَلُّهَا مَرْتَبَةُ النُّبُوَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِالْحُكْمِ هَاهُنَا: وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: الْوَحْيُ. وَالثَّانِي: النُّبُوَّةُ. وَالثَّالِثُ: الْمَعْرِفَةُ وَالْعَمَلُ بِهَا. وَهَذَا كُلُّهُ مُحْتَمَلٌ يَفْتَقِرُ إلَى تَحْقِيقٍ؛ فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْوَحْيُ فَجَائِزٌ أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إلَى الصَّغِيرِ، وَيُكَاشِفَهُ بِمَلَائِكَتِهِ وَأَمْرِهِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْمُكَاشَفَةُ نُبُوَّةً غَيْرَ مَهْمُوزَةٍ رِفْعَةً وَمَهْمُوزَةً إخْبَارًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرْسِلَهُ إلَى الْخَلْقِ كَامِلَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ مُؤَيَّدًا بِالْمُعْجِزَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ خَبَرٌ، وَلَا كَانَ فِيمَنْ تَقَدَّمَ. وَقَوْلُ عِيسَى: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30]. إخْبَارٌ عَمَّا وَجَبَ لَهُ حُصُولُهُ، لَا عَمَّا حَصَلَ بَعْدُ.
وَأَمَّا الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]. قَالَ عِيسَى: أُوصِيكُمْ بِالْحِكْمَةِ، وَالْحِكْمَةُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ، وَالِاتِّبَاعُ لَهَا، وَالْفِقْهُ فِي الدِّينِ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَقَالَ: وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّك تَجِدُ الرَّجُلَ عَاقِلًا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا ذَا بَصَرٍ فِيهَا، وَتَجِدُ آخَرَ ضَعِيفًا فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ عَالِمًا بِأَمْرِ دِينِهِ بَصِيرًا بِهِ، يُؤْتِيهِ اللَّهُ إيَّاهُ، وَيَحْرِمُهُ هَذَا، فَالْحِكْمَةُ الْفِقْهُ فِي دِينِ اللَّهِ.
(3/248)
1
وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] قَالَ: الْمَعْرِفَةُ وَالْعَمَلُ بِهِ. انْتَهَى قَوْلُ مَالِكٍ.
وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ أَنَّهُ قِيلَ لِيَحْيَى، وَهُوَ صَغِيرٌ: أَلَا تَذْهَبُ نَلْعَبُ؟ قَالَ: مَا خُلِقْت لِلَّعِبِ.
 
[الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وهزي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جِنِيًّا]
} [مريم: 25].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] أَمْرٌ بِتَكَلُّفِ الْكَسْبِ فِي الرِّزْقِ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنْ غَيْرِ تَكَسُّبٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37]. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَ قَلْبُهَا فَارِغًا لِلَّهِ، فَفَرَّغَ اللَّهُ جَارِحَتَهَا عَنْ النَّصَبِ، فَلَمَّا وَلَدَتْ عِيسَى، وَتَعَلَّقَ قَلْبُهَا بِحُبِّهِ، وَكَّلَهَا اللَّهُ إلَى كَسْبِهَا، وَرَدَّهَا إلَى الْعَادَةِ فِي التَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ، وَفِي مَعْنَاهُ أَنْشَدُوا:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمَ ... إلَيْك فَهُزِّي الْجِذْعَ يَسَّاقَطْ الرُّطَبْ
وَلَوْ شَاءَ أَحْنَى الْجِذْعَ مِنْ غَيْرِ هَزِّهَا ... إلَيْهَا وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبْ
وَقَدْ كَانَ حُبُّ اللَّهِ أَوْلَى بِرِزْقِهَا ... كَمَا كَانَ حُبُّ الْخَلْقِ أَدْعَى إلَى النَّصَبْ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي صِفَةِ الْجِذْعِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ لِنَخْلَةٍ خَضْرَاءَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ زَمَانَ الشِّتَاءِ، فَصَارَ وُجُودُ التَّمْرِ فِي غَيْرِ إبَّانِهِ آيَةً.
(3/249)
1
الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ جِذْعًا يَابِسًا فَهَزَّتْهُ، فَاخْضَرَّ وَأَوْرَقَ وَأَثْمَرَ فِي لَحْظَةٍ.
وَدَخَلْتُ بَيْتَ لَحْمٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَرَأَيْت فِي مُتَعَبَّدِهِمْ غَارًا عَلَيْهِ جِذْعٌ يَابِسٌ كَانَ رُهْبَانُهُمْ يَذْكُرُونَ أَنَّهُ جِذْعُ مَرْيَمَ بِإِجْمَاعٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ دَخَلَتْ بَيْتَ لَحْمٍ قَبْلَ اسْتِيلَاءِ الرُّومِ عَلَيْهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَرَأَيْت الْغَارَ فِي الْمُتَعَبَّدِ خَالِيًا مِنْ الْجِذْعِ. فَسَأَلَتْ الرُّهْبَانَ بِهِ، فَقَالُوا: نَخَرَ وَتَسَاقَطَ، مَعَ أَنَّ الْخَلْقَ كَانُوا يَقْطَعُونَهُ اسْتِشْفَاءً حَتَّى فُقِدَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ: رُطَبًا جَنِيًّا. الْجَنِيُّ: مَا طَابَ مِنْ غَيْرِ نَقْشٍ وَلَا إفْسَادٍ، وَالنَّقْشُ أَنْ يُنْقَشَ فِي أَسْفَلِ الْبُسْرَةِ حَتَّى تُرَطَّبَ، فَهَذَا مَكْرُوهٌ يَعْنِي مَالِكٌ أَنَّ هَذَا تَعْجِيلٌ لِلشَّيْءِ قَبْلَ رِقَّتِهِ، وَإِفْسَادٌ لِجَنَاهُ؛ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَلَوْ فَعَلَهُ فَاعِلٌ مَا كَانَ ذَلِكَ مُجَوِّزًا لِبَيْعِهِ، وَلَا حُكْمًا بِطِيبِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
 
[الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا]
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَقَدْ كَادَ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَنْ يُقِيمُوا عَلَيْنَا السَّاعَةَ بِقَوْلِهِمْ هَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90] {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 91] {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]. وَصَدَقَ، فَإِنَّهُ قَوْلٌ عَظِيمٌ سَبَقَ الْقَضَاءَ وَالْقَدْرَ، وَلَوْلَا أَنَّ الْبَارِئَ لَا يَضَعُهُ كُفْرُ الْكَافِرِ، وَلَا يَرْفَعُهُ إيمَانُ الْمُؤْمِنِ، وَلَا يَزِيدُ هَذَا فِي مُلْكِهِ، كَمَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ
(3/250)
1
مُلْكِهِ، مَا جَرَى شَيْءٌ مِنْ هَذَا عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَلَكِنَّهُ الْقُدُّوسُ الْحَكِيمُ الْحَلِيمُ، فَلَمْ يُبَالِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يَقُولُهُ الْمُبْطِلُونَ.
 
[مَسْأَلَة الرَّجُلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ ابْنَهُ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ ابْنَهُ وَوَجْهُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْوَلَدِيَّةَ وَالْعَبْدِيَّةَ فِي طَرَفَيْ تَقَابُلٍ، فَنَفَى إحْدَاهُمَا، وَأَثْبَتَ الْأُخْرَى، وَلَوْ اجْتَمَعَتَا لَمَا كَانَ لِهَذَا الْقَوْلِ فَائِدَةٌ يَقَعُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهَا، وَالتَّبَرِّي مِنْهَا؛ وَلِهَذَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ أَمَةَ الرَّجُلِ إذَا حَمَلَتْ فَإِنَّ وَلَدَهَا فِي بَطْنِهَا حُرٌّ لَا رِقَّ فِيهِ بِحَالٍ، وَمَا جَرَى فِي أُمِّهِ مَوْضُوعٌ عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يُوضَعْ عَنْهُ، فَلَا خِلَافَ فِي الْوَلَدِ، وَبِهِ يَقَعُ الِاحْتِجَاجُ.
وَإِذَا اشْتَرَى الْحُرُّ أَبَاهُ وَابْنَهُ عَتَقَا عَلَيْهِ، حِينَ يَتِمُّ الشِّرَاءُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ». فَهَذَا نَصٌّ.
وَالْأَوَّلُ دَلِيلٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَإِنَّ الْأَبَ إذَا لَمْ يَمْلِكْ ابْنَهُ مَعَ عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ عَلَيْهِ فَالِابْنُ بِعَدَمِ مِلْكِ الْأَبِ أَوْلَى مَعَ قُصُورِهِ عَنْهُ، وَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ، فَإِذَا أَزَالَ مِلْكَ الْغَيْرِ بِالشِّرَاءِ إلَيْهِ تَبْطُلُ عَنْهُ، وَعَتَقَ، وَالْتَحَقَ بِالْأَوَّلِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْرِيعٌ وَتَفْصِيلٌ مَوْضِعُهُ شَرْحُ الْحَدِيثِ، وَمَسَائِلُ الْفِقْهِ، فَلْيُنْظَرْ فِيهَا.
 
[مَسْأَلَة الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
(3/251)
1
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ. ثُمَّ يُنَادِي مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ؛ فَتُحِبُّهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]. وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا فَذَكَرَ مِثْلَهُ».
وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَحَادِيثُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْرَضْنَا عَنْهَا لِضَعْفِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ فِي حَدِيثِ: «اتَّقِ اللَّهَ يُحِبَّك النَّاسُ، وَإِنْ كَرِهُوك»، فَقَالَ: هَذَا حَقٌّ، وَقَرَأَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [مريم: 96] الْآيَةَ. وَقَرَأَ مَالِكٌ: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39]. وَهَذَا يُبَيِّنُ سَبَبَ حُبِّ اللَّهِ، وَخَلْقَهُ الْمَحَبَّةَ فِي الْخَلْقِ؛ وَذَلِكَ نَصٌّ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76] وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الشَّرِيعَةِ مِنْ اجْتِنَابِ النَّهْيِ.
(3/252)
1
[سُورَةُ طَهَ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى إنِّي أَنَا رَبُّك فَاخْلَعْ نَعْلَيْك إنَّك بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طَوًى]
ٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 12]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي خَلْعِ النَّعْلَيْنِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا أَنْبَأَنَا أَبُو زَيْدٍ الْحِمْيَرِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ اللَّخْمِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ أَحْمَدَ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أَنْبَأَنَا عَمِّي عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَمِّي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَتْ نَعْلَا مُوسَى مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ».
وَحَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَوْمَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى كَانَ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، وَكِسَاءُ صُوفٍ، وَسَرَاوِيلُ صُوفٍ، وَكُمَّةُ صُوفٍ، وَنَعْلَانِ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ مُذَكًّى. وَرَوَاهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ بِمِثْلِهِ مُسْنَدًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ لَهُ رَبُّهُ: اخْلَعْ نَعْلَيْك، أَفِضْ بِقَدَمَيْك إلَى بَرَكَةِ الْوَادِي.
(3/253)
1
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ: إنْ قُلْنَا: إنَّ خَلْعَ النَّعْلَيْنِ كَانَ لِيَنَالَ بَرَكَةَ التَّقْدِيسِ فَمَا أَجْدَرَهُ بِالصِّحَّةِ، فَقَدْ اسْتَحَقَّ التَّنْزِيهَ عَنْ النَّعْلِ، وَاسْتَحَقَّ الْوَاطِئُ التَّبَرُّكَ بِالْمُبَاشَرَةِ، كَمَا لَا تُدْخَلُ الْكَعْبَةَ بِنَعْلَيْنِ، وَكَمَا كَانَ مَالِكٌ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً بِالْمَدِينَةِ، بِرًّا بِتُرْبَتِهَا الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى الْأَعْظُمِ الشَّرِيفَةِ، وَالْجُثَّةِ الْكَرِيمَةِ.
وَإِنْ قُلْنَا بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ، فَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُونَ مُوسَى أُمِرَ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلُ تَعَبُّدٍ أُحْدِثَ إلَيْهِ، كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَا قِيلَ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5].
 
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يُدْبَغْ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، لِمُطْلَقِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ» وَلَمْ يَذْكُرْ دِبَاغًا.
الثَّانِي: أَنَّهُ يُدْبَغُ فَيُنْتَفَعُ بِهِ مَدْبُوغًا، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَلَّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ» قَالَهُ مَالِكٌ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ». خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
(3/254)
1
وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ قِرْبَةٍ مَدْبُوغَةٍ مِنْ جِلْدِ مَيْتَةٍ، حَتَّى صَارَتْ شَنًّا» قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي، وَهُوَ الرَّابِعُ، وَوَرَاءَ هَذِهِ تَفْصِيلٌ.
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الطَّهَارَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ نَعْلَا مُوسَى لَمْ تُدْبَغَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَا دُبِغَتَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِ إذْنٌ فِي اسْتِعْمَالِهَا. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَمْ تُدْبَغْ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ فِي الْبَابِ.
 
[الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي]
} [طه: 14]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {لِذِكْرِي} [طه: 14] وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَقِمْ الصَّلَاةَ، لَأَنْ تَذْكُرَنِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّانِي: أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي لَك بِالْمَدْحِ.
الثَّالِثُ: أَقِمْ الصَّلَاةَ إذَا ذَكَرْتنِي. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَرُوِيَتْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَقِمْ الصَّلَاةَ لِلذِّكْرِ، وَقُرِئَ: لِلذِّكْرَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الذِّكْرَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إلَى الضَّمِيرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى الْفَاعِلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَقِمْ الصَّلَاةَ لِلذِّكْرَى، وَلِذِكْرِي، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لِلذِّكْرَى إذَا ذَكَّرْتُك بِهَا، وَلِتَذْكُرَنِي فِيهَا، وَلِذِكْرِي لَك بِهَا.
(3/255)
1
فَإِنْ قِيلَ: الذِّكْرُ مَصْدَرٌ فِي الْإِثْبَاتِ، وَلَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ. قُلْنَا: بَلْ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ، كَمَا تَقُولُ: عَجِبْت مِنْ ضَرْبِي زَيْدًا، إذَا كَانَ الضَّرْبُ الْوَاقِعُ بِهِ عَامًّا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الضَّرْبِ، فَيَكُونُ الْعُمُومُ فِي كَيْفِيَّاتِ الضَّرْبِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ، وَالْإِثْبَاتُ فِي النَّكِرَةِ الَّتِي لَا تَعُمُّ مَا يَتَنَاوَلُ الْأَشْخَاصَ.
 
[مَسْأَلَة نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّلَاةِ عَلَى كُلِّ ذَاكِرٍ إذَا ذَكَرَ، سَوَاءٌ كَانَ الذِّكْرُ دَائِمًا، كَالتَّارِكِ لَهَا عَنْ عِلْمٍ، أَوْ كَانَ الذِّكْرُ طَارِئًا، كَالتَّارِكِ لَهَا عَنْ غَفْلَةٍ، وَكُلُّ نَاسٍ تَارِكٌ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِقَصْدٍ وَبِغَيْرِ قَصْدٍ، فَمَتَى كَانَ الذِّكْرُ وَجَبَ الْفِعْلُ دَائِمًا أَوْ مُنْقَطِعًا. فَافْهَمُوا هَذِهِ النُّكْتَةَ تُرِيحُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ شَغَبِ الْمُبْتَدِعَةِ، فَمَا زَالُوا يُزَهِّدُونَ النَّاسَ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى قَالُوا: إنَّ مَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا، وَنَسَبُوا ذَلِكَ إلَى مَالِكٍ. وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذِهْنَهُ أَحَدُّ، وَسَعْيَهُ فِي حِيَاطَةِ الدِّينِ آكَدُ مِنْ ذَلِكَ، إنَّمَا قَالَ: إنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مُتَعَمِّدًا لَا يَقْضِي أَبَدًا. كَمَا قَالَ فِي الْأَثَرِ: «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا لَمْ يُجْزِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ» إشَارَةً إلَى أَنَّ مَا مَضَى لَا يَعُودُ، لَكِنْ مَعَ هَذَا لَا بُدَّ مِنْ تَوْفِيَةِ التَّكْلِيفِ حَقَّهُ بِإِقَامَةِ الْقَضَاءِ مَقَامَ الْأَدَاءِ، وَإِتْبَاعِهِ بِالتَّوْبَةِ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ.
 
[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتْ الْمُتَزَهِّدَةُ: مَعْنَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] أَيْ: لَا تَذْكُرْ فِيهَا غَيْرِي، فَإِنَّهُ قَالَ: فَاعْبُدْنِي، أَيْ لِي تَذَلَّلْ، وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِمُجَرَّدِ ذِكْرِي، تَحَرَّمَ عَنْ الدُّنْيَا، وَأَخْلِصْ لِلْأُخْرَى، وَاعْمُرْ لِسَانَك وَقَلْبَك بِذِكْرِ الْمَوْلَى. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ هُوَ الْأَوْلَى، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ كُتِبَ لَهُ مِنْهَا بِمِقْدَارِ ذَلِكَ فِيهَا، وَقَدْ مَهَّدْنَا هَذَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ.
(3/256)
1
[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى]
} [طه: 17] {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} [طه: 17] قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا سَأَلَهُ عَنْهَا لَمَّا كَانَ أَضْمَرَ مِنْ الْآيَةِ لَهُ فِيهَا، حَتَّى إذَا رَجَعَ عَلَيْهَا، وَتَحَقَّقَ حَالَهَا، وَكُسِيَتْ تِلْكَ الْحُلَّةَ الثُّعْبَانِيَّةَ بِمَرْأًى مِنْهُ لِابْتِدَائِهَا كَانَ تَبْدِيلُهَا مَعَ الذِّكْرِ أَوْقَعَ فِي الْقَلْبِ وَأَيْسَرَ لَهُ مِنْ أَنْ يَغْفُلَ عَنْهَا، فَيَرَاهَا بِحُلَّةِ الثُّعْبَانِيَّةِ مَكْسُوَّةً، فَيَظُنُّ أَنَّمَا عَيَّنَ أُخْرَى سِوَاهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: {قَالَ هِيَ عَصَايَ} [طه: 18] قَالَ أَرْبَابُ الْقُلُوبِ: الْجَوَابُ الْمُطْلَقُ أَنْ يَقُولَ هِيَ عَصًا، وَلَا يُضِيفُ إلَى نَفْسِهِ شَيْئًا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ أَفْرَدَ عَنْهَا بِصِفَةِ الْحَيَّةِ، فَبَقِيَ وَحْدَهُ لِلَّهِ، كَمَا يُحِبُّ، حَتَّى لَا يَكُونَ مَعَهُ إلَّا اللَّهُ، يَقُولُ اللَّهُ: أَنْتَ عَبْدِي، وَيَقُولُ مُوسَى: أَنْتَ رَبِّي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَجَابَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ أَرْبَعَةَ مَعَانٍ، وَكَانَ يَكْفِي وَاحِدٌ قَالَ: الْإِضَافَةُ، وَالتَّوَكُّؤُ، وَالْهَشُّ، وَالْمَآرِبُ الْمُطْلَقَةُ، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَابِ السُّؤَالِ بِأَكْثَرَ مِنْ مُقْتَضَى ظَاهِرِهِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ طَهُورِ مَاءِ الْبَحْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْهَشُّ: هُوَ أَنْ يَضَعَ الْمِحْجَنَ فِي أَصْلِ الْغُصْنِ وَيُحَرِّكَهُ فَيَسْقُطُ مِنْهُ مَا سَقَطَ، وَيَثْبُتُ مَا
(3/257)
1
ثَبَتَ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَاعٍ يَعْضِدُ شَجَرَةً فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: هُشُّوا وَارْعَوْا»، وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاقْتِصَادِ فِي الِاقْتِيَاتِ، فَإِنَّهُ إذَا عَضَّدَ الشَّجَرَةَ الْيَوْمَ لَمْ يَجِدْ فِيهَا غَدًا شَيْئًا وَلَا غَيْرَهُ مِمَّنْ يَخْلُفُهُ، فَإِذَا هَشَّ وَرَعَى أَخَذَ وَأَبْقَى، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ، فَلْيَأْخُذْ وَلْيَدْعُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ كَثِيرًا فَلْيَأْخُذْهُ كَيْفَ شَاءَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ. تَعَرَّضَ قَوْمٌ لِتَعْدِيدِ مَنَافِعِ الْعَصَا، كَأَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ بِذَلِكَ قَوْلَ مُوسَى {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18]، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ الْعَصَا فِي حَاجَةٍ عَرَضَتْ؛ أَمَّا إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الدِّينِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ إجْمَاعًا وَهُوَ الْخُطْبَةُ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِاخْتِلَافٍ وَهُوَ التَّوَكُّؤُ عَلَيْهَا فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِهِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ هُنَا وَسِوَاهُ.
 
[الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى]
} [طه: 43] {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى - قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه: 44 - 45].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَجُوزُ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ رَسُولَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذِكْرَ قَاضِيَيْنِ وَأَمِيرَيْنِ، وَالرِّسَالَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تَبْلِيغٌ عَنْ اللَّهِ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ وَقُلْنَا لَا يَجُوزُ لِنَبِيٍّ أَنْ يُشَرِّعَ إلَّا بِوَحْيٍ جَازَ أَنْ يَحْكُمَا مَعًا، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ النَّبِيُّ لَمْ يَحْكُمْ إلَّا أَحَدُهُمَا، وَهَذَا يَتِمُّ بَيَانُهُ فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(3/258)
1
[مَسْأَلَة الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي جَوَازِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِاللِّينِ لِمَنْ مَعَهُ الْقُوَّةُ، وَضُمِنَتْ لَهُ الْعِصْمَةُ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ لَهُمَا: قَوْلَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا، وَلَا تَخَافَا إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى.
فَفِي الإسرائليات أَنَّ مُوسَى أَقَامَ عَلَى بَابِ فِرْعَوْنَ سَنَةً لَا يَجِدُ رَسُولًا يُبَلِّغُ كَلَامًا، حَتَّى لَقِيَهُ حِينَ خَرَجَ فَجَرَى لَهُ مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي سِيرَتِهِمْ مَعَ الظَّالِمِينَ. وَرَبُّك أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
 
[الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا]
} [طه: 115]. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي مِثْلِهَا مِنْ أَحْكَامٍ؛ بَيْدَ أَنَّهُ كُنَّا فِي الْإِمْلَاءِ الْأَوَّلِ قَدْ وَعَدْنَا فِي قَوْلِهِمْ: إنَّهُ أَكَلَهَا نَاسِيًا بِبَيَانِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَهَا نَحْنُ بِقُوَّةِ اللَّهِ نَنْتَقِضُ مِنْ عُهْدَةِ الْوَعْدِ، فَنَقُولُ: كَمَا قَالَ فِي تَنْزِيهِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِمَنْزِلَتِهِمْ مِمَّا يَنْسِبُ الْجَهَلَةُ إلَيْهِمْ مِنْ وُقُوعِهِمْ فِي الذُّنُوبِ عَمْدًا مِنْهُمْ إلَيْهَا، وَاقْتِحَامًا لَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِهَا، وَحَاشَ لِلَّهِ، فَإِنَّ الْأَوْسَاطَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَتَوَرَّعُونَ عَنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ بِالنَّبِيِّينَ، وَلَكِنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِحُكْمِهِ النَّافِذِ، وَقَضَائِهِ السَّابِقِ، أَسْلَمَ آدَمَ إلَى الْمُخَالَفَةِ، فَوَقَعَ فِيهَا مُتَعَمِّدًا نَاسِيًا، فَقِيلَ فِي تَعَمُّدِهِ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} [طه: 121].
وَقِيلَ فِي بَيَانِ عُذْرِهِ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115]. وَنَظِيرُهُ مِنْ التَّمْثِيلَاتِ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ لَا يَدْخُلُ دَارًا أَبَدًا، فَيَدْخُلَهَا مُتَعَمِّدًا نَاسِيًا لِيَمِينِهِ، أَوْ مُخْطِئًا فِي تَأْوِيلِهِ، فَهُوَ عَامِدٌ نَاسٍ، وَمُتَعَلِّقُ الْعَمْدِ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ النِّسْيَانِ، وَجَازَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَقُولَ فِي عَبْدِهِ: عَصَى تَحْقِيرًا وَتَعْذِيبًا، وَيَعُودَ عَلَيْهِ بِفَضْلِهِ فَيَقُولَ: نَسِيَ تَنْزِيهًا، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ عَنْ آدَمَ، إلَّا إذَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَثْنَاءِ قَوْلِ اللَّهِ عَنْهُ، أَوْ قَوْلِ نَبِيِّهِ. وَأَمَّا أَنْ نَبْتَدِئَ فِي ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِنَا فَلَيْسَ بِجَائِزٍ لَنَا فِي آبَائِنَا الْأَدْنَيْنَ إلَيْنَا، الْمُمَاثِلَيْنِ لَنَا، فَكَيْفَ بِأَبِينَا الْأَقْدَمِ الْأَعْظَمِ، النَّبِيِّ الْمُقَدَّمِ، الَّذِي عَذَرَهُ اللَّهُ، وَتَابَ عَلَيْهِ، وَغَفَرَ لَهُ.
(3/259)
1
وَوَجْهُ الْخَطَأِ فِي قِصَّةِ آدَمَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، وَلَكِنَّ وُجُوهَ الِاحْتِمَالَاتِ تَتَصَرَّفُ، وَالْمُدْرَكُ مِنْهَا عِنْدَنَا أَنْ يُذْهَلَ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ، كَمَا ضَرَبْنَا الْمَثَلَ فِي دُخُولِ الدَّارِ.
الثَّانِي: أَنْ يُذْهَلَ عَنْ جِنْسٍ مَنْهِيٍّ مِنْهُ، وَيَعْتَقِدَهُ فِي عَيْنِهِ؛ إذْ قَالَ اللَّهُ لَهُ هَذِهِ الشَّجَرَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ عَلَى مَعْنَى الْجَزْمِ الشَّرْعِيِّ لِمَعْنًى مُغَيَّبٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35]. قُلْنَا: قَدْ قِيلَ مَعْنَاهُ مِنْ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِكُمَا، كَمَا قَالَ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر: 32]. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَهُوَ الَّذِي نَسِيَ مِنْ تَحْذِيرِ اللَّهِ لَهُ، أَوْ تَأْوِيلُهُ فِي تَنْزِيلِهِ، وَرَبُّك أَعْلَمُ كَيْفَ دَارَ الْحَدِيثُ. وَالتَّعْيِينُ يَفْتَقِرُ إلَى تَأْوِيلِهِ، وَكَذَلِكَ قُلْنَا إنَّ النَّاسِيَ فِي الْحِنْثِ مَعْذُورٌ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
 
[الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ]
َ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130].
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ آنَاءِ} [طه: 130] وَزْنُهُ أَفْعَالٌ، وَاحِدُهَا إنْيٌ مِثْلُ عَدْلٍ، وَإِنًى مِثْلُ عِنَبٍ فِي السَّالِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53].
 
[مَسْأَلَة الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَسَبِّحْ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى هَاهُنَا: سَبِّحْ، صَلِّ؛ لِأَنَّهُ غَايَةُ التَّسْبِيحِ وَأَشْرَفُهُ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ ذَلِكَ بَيَانٌ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ أَمْ لِصَلَاةِ النَّفْلِ؟
(3/260)
1
فَقِيلَ: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَعْنِي الصُّبْحَ. وَقَبْلَ غُرُوبِهَا يَعْنِي الْعَصْرَ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا». وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا: «مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ».
 
[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} [طه: 130] يَعْنِي سَاعَاتِهِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ قِيَامَ اللَّيْلِ كُلِّهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَفِي الثَّانِي صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ عَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى: {حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] فِي الْفَرْضِ، وَعَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2]، عَلَى حَدِّ قَوْلِنَا فِي أَنَّهُ النَّفَلُ.
 
[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَأَطْرَافَ النَّهَارِ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه: 130]: يَعْنِي فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ صَلَاةَ الظُّهْرِ. وَقِيلَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّهَا فِي الطَّرَفِ الثَّانِي. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ مِنْ طَرَفِ اللَّيْلِ، لَا مِنْ طَرَفِ النَّهَارِ. وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي بِعْنِي بِهِ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
 
[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى لَعَلَّكَ تَرْضَى]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130]: هُوَ مُجْمَلُ قَوْلِهِ الْمُفَسِّرِ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، وَيُمَاثِلُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5].
(3/261)
1
[سُورَة الْأَنْبِيَاء فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ]
ٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ، وَاللَّفْظُ لَهُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إلَّا فِي ثَلَاثٍ: قَوْلُهُ: إنِّي سَقِيمٌ، وَلَمْ يَكُنْ سَقِيمًا، وَقَوْلُهُ لِسَارَةَ: أُخْتِي؛ وقَوْله تَعَالَى: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]». وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ مِنْهَا فِي ذَاتِ اللَّهِ، قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] وَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنْ الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ: إنَّ هَاهُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي. فَأَتَى سَارَةَ فَقَالَ: يَا سَارَةُ، لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي
(3/262)
1
وَغَيْرَك، وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْته أَنَّك أُخْتِي، فَلَا تَكْذِبِينَنِي. فَأَرْسَلَ إلَيْهَا فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ، فَأُخِذَ، فَقَالَ: اُدْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّك، فَدَعَتْ اللَّهَ، فَأُطْلِقَ. ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ. فَقَالَ: اُدْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّك، فَأُطْلِقَ، فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ: لَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ، إنَّمَا أَتَيْتنِي بِشَيْطَانٍ، فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ظَاهِرِ الْمَقْصُودِ بِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا تَعْرِيضٌ، وَفِي التَّعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ؛ فَشَرَطَ النُّطْقَ فِي الْفِعْلِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ: لِأَنَّهُ عَدَّدَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّعْرِيضِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَيَتَّخِذُونَهُمْ آلِهَةً دُونَ اللَّهِ، وَهُمْ كَمَا قَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْك شَيْئًا؟ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، لِيَقُولُوا إنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ وَلَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ، فَيَقُولُ لَهُمْ: فَلِمَ تَعْبُدُونَ؟ فَتَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ. وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ فَرْضُ الْبَاطِلِ مَعَ الْخَصْمِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ فِي الْحُجَّةِ وَأَقْطَعُ لِلشُّبْهَةِ، كَمَا قَالَ لِقَوْمِهِ: هَذَا رَبِّي، عَلَى مَعْنَى الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، حَتَّى إذَا أَفَلَ مِنْهُمْ تَبَيَّنَ حُدُوثُهُ، وَاسْتِحَالَةُ كَوْنِهِ إلَهًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: هَذَا رَبِّي، هَذِهِ أُخْتِي، وَإِنِّي سَقِيمٌ، وَبَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ: هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ مَعَارِيضَ وَحَسَنَاتٍ، وَحُجَجًا فِي الْحَقِّ، وَدَلَالَاتٍ، لَكِنَّهَا أَثَّرَتْ فِي الرُّتْبَةِ، وَخَفَّضَتْ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ الْمَنْزِلَةِ، وَاسْتَحْيَا مِنْهَا قَائِلُهَا عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ؛ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَلِيقُ بِمَرْتَبَتِهِ فِي النُّبُوَّةِ وَالْخِلَّةِ أَنْ يَصْدَعَ بِالْحَقِّ، وَيُصَرِّحَ بِالْأَمْرِ فَيَكُونُ مَا كَانَ، وَلَكِنَّهُ رُخِّصَ لَهُ فَقَبِلَ الرُّخْصَةَ، فَكَانَ مَا كَانَ مِنْ الْقِصَّةِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ:
(3/263)
1
«إنَّمَا اُتُّخِذْت خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ» يَعْنِي بِشَرْطِ أَنْ تُتَّبَعَ عَثَرَاتِي، وَتُخْتَبَرَ أَحْوَالِي، وَالْخِلَّةُ الْمُطْلَقَةُ لِمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، وَلِذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ فِي أَمْثَالِهَا: ابْغِنِي مِنْ وَرَائِي، أَيْ اخْتَبِرْ حَالِي.
 
[مَسْأَلَة لَا يُجْعَلُ فِي ذَاتِ اللَّهِ إلَّا الْعَمَلَ الْخَالِصَ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ نُكْتَةٌ عُظْمَى تَقْصِمُ الظَّهْرَ، وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ مِنْهَا مَاحَلَ بِهِمَا عَنْ دِينِ اللَّهِ» وَهِيَ قَوْلُهُ: إنِّي سَقِيمٌ، وَبَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، وَلَمْ يَعُدَّ قَوْلَهُ: هَذِهِ أُخْتِي فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ بِهَا مَكْرُوهًا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ فِيهَا حَظٌّ مِنْ صِيَانَةِ فِرَاشِهِ، وَحِمَايَةِ أَهْلِهِ، لَمْ يَجْعَلْ فِي جَنْبِ اللَّهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ فِي ذَاتِ اللَّهِ إلَّا الْعَمَلَ الْخَالِصَ مِنْ شَوَائِبِ الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوْ الْمَعَانِي الَّتِي تَرْجِعُ إلَى النَّفْسِ، حَتَّى إذَا خَلَصَتْ لِلدِّينِ كَانَتْ لِلَّهِ، كَمَا قَالَ: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] وَهَذَا لَوْ صَدَرَ مِنَّا لَكَانَ لِلَّهِ، وَلَكِنَّ مَنْزِلَةَ إبْرَاهِيمَ اقْتَضَتْ هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
 
[الْآيَة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة قَوْله تَعَالَى وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ]
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 78 - 79]. فِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] لَمْ يُرِدْ إذْ جَمَعَهُمَا فِي الْقَوْلِ اجْتِمَاعَهُمَا فِي الْحُكْمِ، فَإِنَّ حَاكِمَيْنِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنَّمَا حَكَمَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادٍ بِحُكْمٍ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ هُوَ الْفَاهِمُ لَهَا.
(3/264)
1
[مَسْأَلَة دُسْتُورٍ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي دُسْتُورٍ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ لِرَسُولِهِ مَا جَرَى مِنْ الْأُمَمِ وَعَلَيْهَا، وَأَقْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَفْعَالَهَا، فَأَحْسَنَ الْقَصَصَ وَهُوَ أَصْدَقُهُ؛ فَإِنَّ الإسرائليات ذَكَرُوهَا مُبَدَّلَةً وَبِزِيَادَةٍ بَاطِلَةٍ مَوْصُولَةٍ، أَوْ بِنُقْصَانٍ مُحَرَّفٍ لِلْمَقْصِدِ مَنْقُولَةٍ، وَمَا نُقِلَ مِنْ حَدِيثِ نَفْشِ الْغَنَمِ، وَقَضَاءِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ فِيهَا، اُنْظُرُوا إلَيْهِ، فَمَا وَافَقَ مِنْهُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَمَا لَمْ يَرِدْ لَهُ فِيهِ ذِكْرٌ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ، رَبُّك أَعْلَمُ بِهِ. .
 
[مَسْأَلَة ذِكْرِ وَصْفِ مَا قَضَاهُ النَّبِيَّانِ داود وسليمان فِي الْحَرْث]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي ذِكْرِ وَصْفِ مَا قَضَاهُ النَّبِيَّانِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - فِيهِ: وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ زَرْعًا وَقَعَتْ فِيهِ الْغَنَمُ لَيْلًا، قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ كَرْمًا نَبَتَتْ عَنَاقِيدُهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّفْشَ رَعْيُ اللَّيْلِ، وَالْهَمَلَ رَعْيُ النَّهَارِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي ذِكْرِ وَصْفِ قَضَائِهِمَا: أَمَّا حُكْمُ دَاوُد فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّهُ قَضَى لِصَاحِبِ الْحَرْثِ بِالْغَنَمِ. وَأَمَّا حُكْمُ سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ قَضَى بِأَنْ تُدْفَعَ الْغَنَمُ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ عَلَّه يَغْتَلُّهَا، وَيُدْفَعَ الْحَرْثُ إلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ لِيَقُومَ بِعِمَارَتِهِ، فَإِذَا عَادَ فِي السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ إلَى مِثْلِ حَالَتِهِ رُدَّ إلَى كُلِّ أَحَدٍ مَالُهُ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُجَاهِدٌ، فَرَجَعَ دَاوُد إلَى حُكْمِ سُلَيْمَانَ.
 
[مَسْأَلَة صِفَةِ حُكْمِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاقَة دَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْهُ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي صِفَةِ حُكْمِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا: رَوَى الزُّهْرِيُّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَحَرَامُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ «أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ دَخَلَتْ حَائِطًا، فَأَفْسَدَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا بِالنَّهَارِ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا». وَفِي رِوَايَةٍ: «وَعَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي حِفْظُهَا بِاللَّيْلِ». وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا كَلَامَ فِيهِ.
(3/265)
1
[مَسْأَلَة رُجُوعِ الْقَاضِي عَمَّا حَكَمَ بِهِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي هَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى رُجُوعِ الْقَاضِي عَمَّا حَكَمَ بِهِ، إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي غَيْرِهِ، وَهَكَذَا فِي رِسَالَةِ عُمَرَ إلَى أَبِي مُوسَى: فَأَمَّا أَنْ يَنْظُرَ قَاضٍ فِيمَا حَكَمَ بِهِ قَاضٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَدَاعَى إلَى مَا لَا آخِرَ لَهُ، وَفِيهِ مَضَرَّةٌ عُظْمَى مِنْ جِهَةِ نَقْضِ الْأَحْكَامِ، وَتَبْدِيلِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ، وَعَدَمِ ضَبْطِ قَوَانِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ إلَى نَقْضِ مَا رَآهُ الْآخَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَحْكُمُ بِمَا يَظْهَرُ إلَيْهِ.
 
[مَسْأَلَة الْأَنْبِيَاءَ يَجُوزُ لَهُمْ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ دَاوُد لَمْ يَكُنْ أَنْفَذَ الْحُكْمَ، وَظَهَرَ لَهُ مَا قَالَ غَيْرُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَكُنْ حُكْمًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ فُتْيَا، فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَاوُد كَانَ فُتْيَا فَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ النَّبِيُّ، وَفُتْيَاهُ حُكْمٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ الْآخَرُ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَنْفَذَ الْحُكْمَ فَظَهَرَ لَهُ مَا قَالَ غَيْرُهُ. فَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {إِذْ يَحْكُمَانِ} [الأنبياء: 78]، فَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ قَدْ حَكَمَ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ الْفُتْيَا حُكْمٌ، وَهُوَ صَحِيحٌ لَفْظًا، وَفِي بَعْضِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُقَلِّدَ قَوْلُهُ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ قَوْلُ غَيْرِهِ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ أَوْحَى أَنَّ الْحُكْمَ حُكْمُ سُلَيْمَانَ، فَعَلَى هَذَا كَانَ الْقَضَاءُ مِنْ اللَّهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ. وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَجُوزُ لَهُمْ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ التَّمْحِيصِ أَنَّ اجْتِهَادَهُمْ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، فَلَا إحَالَةَ فِي أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا إذَا عُدِمَ النَّصُّ، وَهُمْ لَا يَعْدَمُونَهُ، لِأَجْلِ نُزُولِ الْمَلَكِ. قُلْنَا: إذَا لَمْ يَنْزِلْ الْمَلَكُ فَقَدْ عَدِمُوا النَّصَّ. جَوَابٌ آخَرُ: وَذَلِكَ أَنَّهُ عِنْدَنَا دَلِيلٌ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ، وَعِنْدَهُمْ هُوَ دَلِيلٌ مَعَ وُجُودِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(3/266)
1
[مَسْأَلَة مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ]
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: فِي تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُلِّهَا: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، لَكِنَّ الْمَوَاشِيَ جَاءَ فِيهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ». فَحَكَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ فِعْلَ الْبَهَائِمِ هَدَرٌ، وَهَذَا عُمُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ سَنَدًا وَمَتْنًا، وَحَدِيثُ نَاقَةِ الْبَرَاءِ خَاصٌّ، وَمَا قَضَى بِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانُ غَيْرُ مَعْلُومٍ عَلَى التَّعْيِينِ مِمَّنْ يَقْطَعُ بِصِدْقِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ نَعْتَنِيَ بِشَرْعِنَا، فَنَقُولَ:
لَا خِلَافَ أَنَّ الْعَامَّ يَقْضِي عَلَيْهِ الْخَاصُّ، وَقَضَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَاقَةِ الْبَرَاءِ بِأَنَّ حِفْظَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَرْبَابِهَا؟ لِمَا عَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي حِفْظِهَا بِالنَّهَارِ، وَبِأَنَّ حِفْظَ الْكُلِّ بِاللَّيْلِ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حِفْظِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ شَاقٌّ عَلَى أَرْبَابِهَا، فَجَرَى الْحُكْمُ عَلَى الْأَوْفَقِ وَالْأَسْمَحِ بِمُقْتَضَى الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَمَجْرَى الْمَصْلَحَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوْفَقَ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَأَسْهَلَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَأَحْفَظَ لِلْمَالِكَيْنِ. وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ؛ لِمَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّينَ الْمُتَقَدِّمِينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - فِي أَصْلِ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ فِي صِفَتِهِ.
 
[مَسْأَلَة ضَمَان أَرْبَابِ الْمَوَاشِي مَا أَصَابَتْ]
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا ضَمَانَ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي فِيمَا أَصَابَتْ بِالنَّهَارِ وَقَالَ اللَّيْثُ: يَضْمَنُ أَرْبَابُ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
(3/267)
1
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي لَيْلًا أَوْ نَهَارًا لَمْ يَكُنْ عَلَى صَاحِبِهَا ضَمَانٌ.
وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ مَعْنَى حَدِيثِ «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» وَهَذَا يَنْفِي الضَّمَانَ كُلَّهُ، وَمَعْنَى حَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَوَجَبَ تَخْصِيصُ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِحَدِيثِ الْعَجْمَاءِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا بِقَضَاءِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ نَصٌّ، فَنَقُولُ: إنَّهُ يُعَارِضُ هَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، فَيُفْتَقَرُ حِينَئِذٍ إلَى الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَالتَّرْجِيحِ فِيهِ، فَوَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهَا وَقْفَ بِنَاءِ النَّصِّ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا قُلْنَا: إنَّ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي يَضْمَنُونَ مَا أَفْسَدَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ، فَإِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ قِيمَةَ الزَّرْعِ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يَتِمَّ أَوْ لَا يَتِمَّ قَالَ عَنْهُ مُطَرِّفٌ، وَلَا يَسْتَأْنِي بِالزَّرْعِ أَنْ يَنْبُتَ أَوْ لَا يَنْبُتَ كَمَا يَفْعَلُ فِي سِنِّ الصَّغِيرِ. وَقَالَ عِيسَى، عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: قِيمَتُهُ لَوْ حَلَّ بَيْعُهُ. وَقَالَ أَشْهَبُ، وَابْنُ نَافِعٍ عَنْهُ فِي الْمَجْمُوعَةِ: وَإِنْ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ. وَالْأَوَّلُ أَقْوَى؛ لِأَنَّهَا صِفَتُهُ، فَيُقَوَّمُ كَذَلِكَ لَوْ تَمَّ أَوْ لَمْ يَتِمَّ، كَمَا يُقَوَّمُ كُلُّ مُتْلَفٍ عَلَى صِفَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي ذَلِكَ فَعَلَى أَرْبَابِهَا قِيمَةُ مَا أَفْسَدَتْ، وَإِنْ زَادَ عَلَى قِيمَتِهَا. وَقَالَ اللَّيْثُ: تَسْقُطُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْقِيمَةِ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا هِيَ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي، وَلَيْسَتْ عَلَى الْمَوَاشِي، وَتُخَالِفُ هَذَا جِنَايَةُ الْعَبْدِ، فَإِنَّهَا عَلَيْهِ، فَيَحْمِلُ السَّيِّدُ مِنْهَا إنْ أَرَادَ فِدَاءَهُ قِيمَتَهُ.
 
[مَسْأَلَة لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَوَاشِي أَنْ يُخْرِجُوا مَوَاشِيَهُمْ إلَى قُرَى الزَّرْعِ بِغَيْرِ ذُوَّادٍ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَوْ لَمْ يُقْضَ فِي الْمُفْسِدِ بِشَيْءٍ حَتَّى نَبَتَ أَوْ انْجَبَرَ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ مَنْفَعَةُ رَعْيٍ أَوْ شَيْءٍ ضَمِنَ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَلَا ضَمَانَ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ. وَقَالَ أَصْبَغُ: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ قَدْ تَحَقَّقَ، وَالْجَبْرُ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِ، فَلَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهِ.
(3/268)
1
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ أَصْبَغُ فِي الْمَدِينَةِ: لَيْسَ لِأَهْلِ الْمَوَاشِي أَنْ يُخْرِجُوا مَوَاشِيَهُمْ إلَى قُرَى الزَّرْعِ بِغَيْرِ ذُوَّادٍ، فَرَكَّبَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْبُقْعَةَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ بُقْعَةَ زَرْعِ أَوْ بُقْعَةَ سَرْحٍ، فَإِنْ كَانَتْ بُقْعَةَ زَرْعٍ فَلَا تَدْخُلُهَا مَاشِيَةٌ إلَّا مَاشِيَةً تُحْتَاجُ فِي الزَّرْعِ، وَعَلَى أَرْبَابِهَا حِفْظُهَا، وَمَا أَفْسَدَتْ [فَصَاحِبُهَا] ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَإِنْ كَانَتْ بُقْعَةَ سَرْحٍ فَعَلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ الَّذِي يَحْرُثُهُ فِيهَا حِفْظُهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَالَ أَشْهَبُ، وَابْنُ نَافِعٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ: سَوَاءٌ كَانَتْ الثِّمَارُ وَالزُّرُوعُ مُحْظَرًا عَلَيْهَا أَوْ بِغَيْرِ حِظَارٍ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِالْحِظَارِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَخْتَلِفُ. وَهَذَا أَصْوَبُ، فَإِنَّ الْعَجْمَاءَ لَا يَرُدُّهَا حِظَارٌ.
 
[مَسْأَلَة الْمَوَاشِي عَلَى قِسْمَيْنِ ضَوَارِي وَحَرِيسَةٌ]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الْمَوَاشِي عَلَى قِسْمَيْنِ ضَوَارِي، وَحَرِيسَةٌ، وَعَلَيْهَا قَسَّمَهَا مَالِكٌ، فَالضَّوَارِي هِيَ الْمُعْتَادَةُ لِلزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَقَالَ مَالِكٌ: تُغَرَّبُ وَتُبَاعُ فِي بَلَدٍ لَا زَرْعَ فِيهِ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ رَبُّهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي الدَّابَّةِ الَّتِي ضَرِيَتْ إفْسَادَ الزَّرْعِ: تُغَرَّبُ وَتُبَاعُ. وَأَمَّا مَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَلَا يُؤْمَرُ صَاحِبُهُ بِإِخْرَاجِهِ، هَذَا بَيِّنٌ.
 
[مَسْأَلَة النَّحْلُ وَالْحَمَامُ وَالْإِوَزُّ وَالدَّجَاجُ كَالْمَاشِيَةِ لَا يُمْنَعُ صَاحِبُهَا مِنْ اتِّخَاذِهَا وَإِنْ أَضَرَّتْ]
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ أَصْبَغُ: النَّحْلُ، وَالْحَمَامُ، وَالْإِوَزُّ، وَالدَّجَاجُ، كَالْمَاشِيَةِ، لَا يُمْنَعُ صَاحِبُهَا مِنْ اتِّخَاذِهَا، وَإِنْ أَضَرَّتْ، وَعَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ حِفْظُ زُرُوعِهِمْ.
(3/269)
1
وَهَذِهِ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِمَّا لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ مُكِّنَ مِنْهُ، وَأَمَّا انْتِفَاعُهُ بِمَا يَتَّخِذُهُ بِإِضْرَارِهِ بِأَحَدٍ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَهَذِهِ الضَّوَارِي عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى أَرْبَابِهَا إلَّا بَعْدَ التَّقَدُّمِ. وَأَرَى الضَّمَانَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّقَدُّمِ، إذَا كَانَتْ ضَوَارِيَ.
 
[مَسْأَلَة الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ إذَا اخْتَلَفُوا هَلْ الْحَقُّ فِي قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ أَمْ مُتَعَدِّد]
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْحَسَنُ: لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَرَأَيْت الْقُضَاةَ قَدْ هَلَكُوا، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى سُلَيْمَانَ بِصَوَابِهِ، وَعَذَرَ دَاوُد بِاجْتِهَادِهِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ إذَا اخْتَلَفُوا، هَلْ الْحَقُّ فِي قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، أَمْ جَمِيعُ أَقْوَالِهِمْ حَقٌّ؟ وَاَلَّذِي نَرَاهُ أَنَّ جَمِيعَهَا حَقٌّ لِقَوْلِهِ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]. وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّمْحِيصِ، فَلْيُنْظَرْ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
(3/270)
1
[سُورَةُ الْحَجِّ فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ آيَةً] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ]
ً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5].
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5] يَعْنِي آدَمَ، {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الحج: 5] يَعْنِي وَلَدَهُ، وَهُوَ الْمَنِيُّ سُمِّيَ نُطْفَةً لِقِلَّتِهِ، وَهُوَ الْقَلِيلُ مِنْ الْمَاءِ {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} [الحج: 5] يَعْنِي قِطْعَةً صَغِيرَةً مِنْ دَمٍ. {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} [الحج: 5] يَعْنِي ثُمَّ مِنْ جُزْءٍ مُخَثَّرٍ يُشْبِهُ اللُّقْمَةَ الَّتِي مُضِغَتْ.
وَقَوْلُهُ: {مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5] فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: صَارَتْ خَلْقًا، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ مَا قَذَفَتْهُ الرَّحِمُ نُطْفَةً؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ.
الثَّانِي: تَامَّةُ الْخَلْقِ، وَغَيْرُ تَامَّةِ الْخَلْقِ قَالَ قَتَادَةُ.
الثَّالِثُ: مَعْنَاهُ مُصَوَّرَةٌ وَغَيْرُ مُصَوَّرَةٍ كَالسَّقْطِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الرَّابِعُ: يُرِيدُ تَامَّةَ الشُّهُورِ، وَغَيْرَ تَامَّةٍ.
(3/271)
1
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
قَدْ قَدَّمْنَا شَيْئًا مِنْ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْغَرَضِ، وَنَحْنُ الْآنَ نُفِيضُ فِيهِ بِمَا إذَا اتَّصَلَ بِمَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ كَانَ بَيَانًا لِلْمَسْأَلَةِ وَعِرْفَانًا، فَنَقُولُ: فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقْوَالٌ عَنْ السَّلَفِ: فَأَمَّا الرِّوَايَاتُ فَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَهَا وَنُعِيدُ مِنْهَا هَاهُنَا الرِّوَايَةَ الْأُولَى: رَوَى يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا دَاوُد عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوه، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النُّطْفَةَ إذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أَخَذَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ؟ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ مَا الْأَجَلُ؟ مَا الْأَثَرُ؟ وَبِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ؟ قَالَ دَاوُد: وَشُكِّلَتْ فِي الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ، فَيُقَالُ لَهُ: انْطَلِقْ إلَى أُمِّ الْكِتَابِ، فَإِنَّك تَجِدُ فِيهَا قِصَّةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ، فَيَنْطَلِقُ فَيَجِدُ قِصَّتَهَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ تَتَخَلَّقُ فَتَأْكُلُ رِزْقَهَا، وَتَطَأُ أَثَرَهَا، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهَا قُبِضَتْ فَدُفِنَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قُدِّرَ لَهَا، ثُمَّ قَرَأَ عَامِرٌ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5].
الثَّانِيَةُ: مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ دَاوُد بِمِثْلِهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إذَا اسْتَقَرَّتْ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ أَدَارَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ، وَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ قَذَفَتْهَا الْأَرْحَامُ دَمًا، وَإِنْ كَانَتْ مُخَلَّقَةً قَالَ: أَيْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ مَا الرِّزْقُ؟ مَا الْأَثَرُ؟ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ؟ وَآثَارُ السَّلَفِ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ عَامِرٌ فِي النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ: فَإِذَا انْتَكَسَتْ فِي الْخَلْقِ الرَّابِعِ كَانَتْ نَسَمَةً مُخَلَّقَةً، وَإِذَا قَذَفَتْهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَهِيَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ.
الثَّانِي: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ: السَّقْطُ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ.
الثَّالِثُ: قَالَ قَتَادَةُ: تَامَّةٌ وَغَيْرُ تَامَّةٍ.
(3/272)
1
الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُخَلَّقَةُ الَّتِي خَلَقَ فِيهَا الرَّأْسَ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. وَغَيْرُ مُخَلَّقَةٍ الَّتِي لَمْ يَخْلُقْ فِيهَا شَيْئًا.
 
[مَسْأَلَة الصَّلَاةِ عَلَى السَّقْطِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: إنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ عَلَى السَّقْطِ، وَيَقُولُ: سَمُّوهُمْ وَاغْسِلُوهُمْ، وَكَفِّنُوهُمْ وَحَنِّطُوهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَ بِالْإِسْلَامِ صَغِيرَكُمْ وَكَبِيرَكُمْ، وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5]، لَمْ يَسْتَتِمَّ سَائِرُ خَلْقِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَلْقًا تَامًّا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
إذَا رَجَعْنَا إلَى أَصْلِ الِاشْتِقَاقِ فَإِنَّ النُّطْفَةَ وَالْعَلَقَةَ وَالْمُضْغَةَ مُخَلَّقَةٌ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ خَلْقُ اللَّهِ، وَإِذَا رَجَعْنَا إلَى التَّصْوِيرِ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى الْخِلْقَةِ كَمَا قَالَ: ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَذَلِكَ مَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إنَّهَا الَّتِي صُوِّرَتْ بِرَأْسٍ وَيَدَيْنِ وَرِجْلَيْنِ، وَبَيْنَهَا حَالَاتٌ.
فَأَمَّا النُّطْفَةُ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ يَقِينًا، وَأَمَّا إنْ تَلَوَّنَتْ فَقَدْ تَخَلَّقَتْ فِي رَحِمِ الْأُمِّ بِالتَّلْوِينِ، وَتَخَلَّقَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالتَّخْثِيرِ؛ فَإِنَّهُ إنْشَاءٌ بَعْدَ إنْشَاءٍ.
وَيَزْعُمُ قَوْمٌ أَنَّ مَعَ التَّخْثِيرِ يَظْهَرُ التَّخْطِيطُ وَمِثَالُ التَّصْوِيرِ، فَلِذَلِكَ شَكَّ مَالِكٌ فِيهِ، وَقَالَ: وَمِنْ رَأْيِي مَنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ سَقْطٌ فَهُوَ الَّذِي تَكُونُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ. وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ، وَشَرْحُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ.
وَعَلَى هَذَا يُحْمَلَ مَا جَاءَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ عَلَى الْمُخَلَّقِ وَغَيْرِ الْمُخَلَّقِ، وَعَلَى التَّامِّ وَالنَّاقِصِ. وَلَعَلَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَرَادَ السَّقْطَ مَا تَبَيَّنَ خَلْقُهُ فَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى، وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خَلْقُهُ فَلَا وُجُودَ لَهُ، وَالِاسْمُ فِيهِ دُونَ مَوْجُودٍ يُسَمَّى وَبِمَاذَا تَكُونُ الْوَلَدُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ هُنَالِكَ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُنَا بِعِزَّتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ عِدَّةَ الْمَرْأَةِ تَنْقَضِي بِالسَّقْطِ الْمَوْضُوعِ، ذَكَرَهُ إسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ حَمْلٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]
(3/273)
1
، وَكَذَلِكَ قَالَ: لَا تَكُونُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَلَا يَرْتَبِطُ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ بِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُخَلَّقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5]، فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَلْقٌ، كَمَا أَنَّهُ حَمْلٌ.
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَ