نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 005

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

    
 
  
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
 
 
 
 
  
 
الكتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
المؤلف: إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي (المتوفى: 885هـ)
الناشر: دار الكتاب الإسلامي، القاهرة
عدد الأجزاء: 22
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]
 
قال ربكم ورب آبائكم الأولين (26) قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون (27) قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون (28) قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين (29) قال أولو جئتك بشيء مبين (30) قال فأت به إن كنت من الصادقين (31) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (32) ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين (33) قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم (34)
ولما وبخ اللعين في جوابه، وكان ربما ادعى أن الخافقين وما بينهما من الفضاء غير مخلوق، فتشوف السامع إلى جواب يلزمه، استأنف الشفاء لعي هذا السؤال بقوله: {قال} أي موسى، مخصصا بعد ما عمم بشيء لا تمكن المنازعة فيه لمشاهدة وجود أفراده بعد أن لم تكن: {ربكم} أي الموجد لكم والمربي والمحسن {ورب آبائكم الأولين*}
(14/25)
 
 
وفرعون - الذي تقرون بأنه ربكم - كان إذ ذاك عدما محضا، أو ماء صرفا في ظهر أبيه، فبطل كون أحد منهم ربا لمن بعده كما بطل كون أحد ممن قبلهم من الهالكين ربا لهم، لأن الكل عدم.
فلما أوضح بذلك بطلان ما حملهم على اعتقاده من ربوبيته لم يتمالك أن {قال إن رسولكم} على طريق التهكم، إشارة إلى أن الرسول ينبغي أن يكون أعقل الناس، ثم زاد الأمر وضوحا بقوله: {الذي أرسل إليكم} أي وأنتم أعقل الناس {لمجنون} حيث لا يفهم أني أساله عن حقيقة مرسله فكف يصلح للرسالة من الملوك.
فلما أساء الأدب، فاشتد تشوف السامع إلى معرفة جوابه عنه، استأنف تعالى الإخبار بذلك، فحكى أنه ذكر له ما لا يمكنه أن يدعي طاعته له، وهو أكثر تغيرا وأعجب تنقلا بأن {قال رب المشرق والمغرب} أي الشروق والغروب ووقتهما وموضعهما {وما بينهما} أي من الناس الذين ليسوا في طاعتكم، والحيوان والجماد، بسبب ما ترون من قدرته على تقليب النيرات من بزوغ الشمس والقمر والنجوم وأفولها وما يظهر عنهما من الليل والنهار على تصاريف مختلفة، وحركات متقاربة
(14/26)
 
 
لولا هي لما علمتم شيئا من أموركم، ولا تمكنتم من أحوالكم، وهذا الدليل أبين الكل لتكرر الحركة فيه وغير ذلك من معالمه، ولذلك بهت نمرود لما ألقاه عليه الخليل عليه الصلاة والسلام.
ولما دعاه صلى الله عليه وسلم باللين فأساء الأدب عليه في الجواب الماضي، ختم هذا البرهان بقوله: {إن كنتم تعقلون} أي فأنتم تعلمون ذلك، فخيرهم بين الإقرار بالجنون أو العقل، بما أشار إليه من الأدلة في مقابلة ما نسبوه إليه من الجنون بسكوتهم وقول عظيمهم بغير شبهة، ردا لهم عن الضلالة، وإنقاذا من واضح الجهالة، فكان قوله أنكأ مع أنه ألطف، وأوضح مع أنه أستر وأشرف.
فلما علم أنه قد قطعه بما أوضح من الأمر، ووصل معه في الغلظة إلى ما إن سكت عنه أوهن من حاله، وفتر من عزائم رجاله، تكلم بما السكوت أولى منه، فأخبر تعالى بقوله: {قال} عادلا عن الحجاج بعد الخوض فيه إلى المغالبة التي هي أبين علامات الانقطاع: {لئن اتخذت إلها غيري} أي تعمدت أخذه وأفردته بتوجيه جميع قصدك إليه {لأجعلنك من المسجونين} أي واحدا ممن هم في سجوني على ما تعلم من حالي في اقتداري، ومن
(14/27)
 
 
سجوني في فظاعتها، ومن حال من فيها من شدة الحصر، والغلظ في الحجر {قال} مدافعا بالتي هي أحسن إرخاء للعنان، لإرادة البيان، حتى لا يبقى عذر لإنسان، رجاء النزوع عن الطغيان، والرجوع إلى الإيمان، لأن من العادة الجارية السكون إلى الإنصاف، والرجوع إلى الحق والاعتراف {أولو} أي أتسجنني ولو {جئتك بشيء مبين*} أي لرسالتي {قال} طمعا في أن يجد موضعا للتكذيب أو التلبيس: {فأت به} أي تسبب عن قولك هذا أني أقول لك: ائت بذلك الشيء {إن كنت} أي كونا أنت راسخ فيه {من الصادقين*} أي فيما ادعيت من الرسالة والبينة، وهذا إشارة إلى أنه بكلامه المتقدم قد صار عنده في غير عدادهم، ولزم عليه أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق لأنها تصديق من الله للمدعي، وعادته سبحانه وتعالى جارية في أنه لا يصدق الكاذب {فألقى} أي فتسبب عن ذلك وتعقبه أن ألقى.
ولما كان الكلام مع موسى عليه السلام، فكان إضماره غير ملبس، لم يصرح باسمه اكتفاء بضميره فقال: {عصاه} أي التي تقدم في غير سورة أن الله تعالى أراه آياتها {فإذا هي ثعبان} أي حية في غاية الكبر {مبين*} أي ظاهر الثعبانية، لا شك عند رائية فيه، لا كما يكون عند الأمور السحرية من التخييلات والتشبيهات
(14/28)
 
 
{ونزع يده} أي التي كانت احترقت لما أخذ الجمرة وهو في حجر فرعون، وبذل فرعون جهده في علاجها بجميع من قدر عليه من الأطباء فعجز عن إبرائها، نزعها من جيبه بعد أن أراه إياها على ما يعهده منها ثم أدخلها في جيبه {فإذا هي} بعد النزع {بيضاء للناظرين*} أي بياضا تتوفر الدواعي على نظره لخروجه عن العادة بأن له نورا كنور الشمس يكاد يغشي الأبصار {قال} أي فرعون {للملأ حوله} لما وضح له الأمر، يموه على عقولهم خوفا من إيمانهم: {إن هذا لساحر عليم*} أي شديد المعرفة بالسحر، وخص في هذه السورة إسنادا هذا الكلام إليه لأن السياق كله لتخصيصه الخطاب لما تقدم، ونظرا إلى {فظلت أعناقهم لها خاضعين} لأن خضوعه هو خضوع من دونه، فدلالته على ذلك أظهر، ولا ينفي ذلك أن يكون قومه قالوه إظهارا للطواعية - كما مضى في الأعراف.
(14/29)
 
 
يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون (35) قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين (36) يأتوك بكل سحار عليم (37) فجمع السحرة لميقات يوم معلوم (38) وقيل للناس هل أنتم مجتمعون (39) لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين (40) فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين (41) قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين (42) قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون (43) فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون (44)
ولما أوقفهم بما خيلهم به، أحماهم لأنفسهم فقال ملقيا لجلباب الأنفة لما قهره من سلطان المعجزة: {يريد أن يخرجكم من أرضكم} أي هذه التي هي قوامكم {بسحره} أي بسبب ما أتى به منه، فإنه يوجب استتباع الناس فيتمكن مما يريد بهم؛ ثم قال لقومه - الذين كان يزعم أنهم عبيده وأنه إلههم - ما دل على أنه خارت قواه،
(14/29)
 
 
فحط عن منكبيه كبرياء الربوبية، وارتعدت فرائصه حتى جعل نفسه مأمورا بعد أن كان يدعي كونه آمرا بل إلها قادرا: {فماذا تأمرون*} أي في مدافعته عما يريد بنا {قالوا} أي الملأ الذين كانوا يأتمرون به قبل الهجرة ليقتلوه: {أرجه} أي أخره {وأخاه} ولم يأمروا بقتله ولا بشيء مما يقاربه - فسبحان من يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده فيهابه كل شيء ولا يهاب هو غير خالقه {وابعث في المدائن حاشرين*} أي رجالا يحشرون السحرة، وأصل الحشر الجمع بكرة {يأتوك} وكأنهم فهموا شدة قلقه فسكنوه بالتعبير بأداة الإحاطة وصيغة المبالغة فقالوا: {بكل سحار} أي بليغ السحر {عليم*} أي متناه في العلم به بعد ما تناهى في التجربة؛ وعبر بالبناء للمفعول إشارة إلى عظمة ملكه فقال: {فجمع} أي بأيسر أمر لما له عندهم من العظمة {السحرة} كما تقدم غير مرة {لميقات يوم معلوم*} في زمانه ومكانه، وهو ضحى يوم الزينة كما سلف في طه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه وافق يوم السبت في أول يوم من سنتهم، وهو يوم النيروز. {وقيل} أي بقول من يقبل لكونه عن فرعون {للناس} أي كافة حثا لهم على الإسراع إلى الاجتماع بأمر فرعون، وامتحانا لهم هل رجعوا عن دينه، علما منه بأن ما ظهر من المعجزة -
(14/30)
 
 
التي منها عجزه عن نوع أذى لمن واجهه بما لا مطمع في مواجهته بأدناه - لم يدع لبسا في أنه مربوب مقهور، وأن ذلك موجب لا تباع موسى عليه السلام: {هل أنتم مجتمعون*} أي اجتماعا أنتم راسخون فيه لكونه بالقلوب كما هو بالأبدان، كلكم ليكون أهيب لكم، وزين لهم هذا القائل البقاء على ما كانوا عليه من الباطل بذكر جانب السحرة وإن كان شرط فيه الغلبة، ولم يسمح بذكر جانب موسى عليه السلام فقال: {لعلنا نتبع السحرة} لأن من امتثل أمر الملك كان حاله حال من يرجى منه اتباع حزبه {إن كانوا هم} أي خاصة {الغالبين*} أي غلبة لا يشك في أنها ناشئة عن مكنة نعرض عن أمر موسى الذي الذي تنازع الملك في أمره، وهذا مرادهم في الحقيقة، وعبر بهذا كناية عنه لأنه أدل على عظمة الملك، وعبر بأداة الشك إظهارا للإنصاف، واستجلابا للناس، مع تقديرهم لقطعهم بظفر السحرة.
لما رسخ في أذهانهم في الأزمنة المتطاولة من الضلال الذي لا غفلة لإبليس عن تزيينه مع أن تغيير المألوف أمر في غاية العسر. وقال: {فلما} بالفاء إيذانا بسرعة حشرهم، إشارة إلى ضخامة ملكه. ووفور عظمته {جاء السحرة} أي الذين كانوا في جميع بلاد مصر {قالوا لفرعون} مشترطين الأجر في حال الحاجة إلى الفعل ليكون ذلك أجدر بحسن الوعد، ونجاح القصد {أئن لنا لأجرا}
(14/31)
 
 
وساقوه مساق الاستفهام أدبا معه، وقالوا: {إن كنا} أي كونا نحن راسخون فيه {نحن} خاصة {الغالبين*} بأداة الشك مع جزمهم بالغلبة تخويفا له بأنه إن لم يحسن في وعدهم لم ينصحوا له؛ ثم قيل في جواب من كأنه سأل عن جوابه: {قال} مجيبا إلى ما سألوه: {نعم} أي لكم ذلك، وزادهم ما لا أحسن منه عند أهل الدنيا مؤكدا له فقال: {وإنكم إذا} أي إذا غلبتم {لمن المقربين*} أي عندي، وزاد {إذا} هنا زيادة في التأكيد لما يتضمن ذلك من إبعاده عن الإيمان من وضوح البرهان، تخفيفا على المخاطب بهذا كله صلى الله عليه وسلم، تسلية له في الحمل على نفسه أن لا يكون من يدعوهم مؤمنين، وما بعد ذلك من مسارعة السحرة للإيمان - بعد ما ذكر من إقسامهم بعزته بغاية التأكيد - تحقيق لآية {فظلت أعناقهم لها خاضعين} .
ولما تشوف السامع إلى جواب نبي الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام أجيب بقوله: {قال لهم موسى} عليه السلام، أي مريدا لإبطال سحرهم لأنه لا يتمكن منه إلا بإلقائهم، لا لمجرد إلقائهم، غير مبال بهم في كثرة ولا علم بعد ما خيروه - كما في غير هذه السورة: {ألقوا ما أنتم ملقون*} كائنا ما كان، ازدراء له بالنسبة إلى أمر الله {فألقوا} أي فتسبب عن قول موسى عليه السلام وتعقبه أن ألقوا {حبالهم وعصيهم} التي أعدوها للسحر {وقالوا} مقسمين:
(14/32)
 
 
{بعزة فرعون} مؤكدين بأنواع التأكيد {إنا لنحن} أي خاصة لا نستثني {الغالبون*} قول واثق من نفسه مزمع على أن لا يدع بابا من السحر يعرفه إلا أتى به، فكل من حلف بغير الله كأن يقول: وحياة فلان، وحق رأسه - ونحو ذلك، فهو تابع لهذه الجاهليه.
(14/33)
 
 
فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون (45) فألقي السحرة ساجدين (46) قالوا آمنا برب العالمين (47) رب موسى وهارون (48) قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين (49) قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون (50) إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين (51)
ولما قدم إضمار اسم موسى عليه السلام في الإلقاء الأول لأن الكلام كان معه، فلم يكن إلباس في أنه الفاعل. وكان الكلام هنا في السحرة، وختموا بذكر فرعون وعزته، صرح باسم موسى عليه الصلاة والسلام لنفي اللبس فقال: {فألقى} أي فتسبب عن صنع السحرة وتعقبه أن ألقى {موسى} وقابل جماعة ما ألقوه بمفرد ما ألقى، لأنه أدل على المعجزة، فقالك {عصاه} أي التي جعلناها آية له، وتسبب عن إلقائه قوله: {فإذا هي تلقف} أي تبتلع في الحال بسرعة ونهمة {ما يأفكون*} أي يصرفونه عن وجهه وحقيقته التي هي الجمادية بحيلهم وتخييلهم إلى ظن أنه حيات تسعى {فألقي} أي عقب فعلها من غير تلبث {السحرة ساجدين*} أي فسجدوا بسرعة عظيمة حتى كأن ملقيا ألقاهم بغير اختيارهم من قوة إسراعهم، علما منهم بأن هذا من عند الله، فأمسوا أتقياء بررة، بعد ما جاؤوا في صبح ذلك اليوم سحرة.
ولما كان كأنه قيل: هذا فعلهم، فما كان قولهم؟ قيل:
(14/33)
 
 
{قالوا آمنا برب العالمين*} أي الذي دعا إليه موسى عليه السلام أو ما تكلم؛ ثم خصوه كشفا لتلبيس فرعون بما لا يحتمل غيره فقالوا بيانا: {رب} ولم يدع داع هنا إلى العدول عن الأصل، فقال عبارة عن كلامهم: {موسى وهارون*} أي اللذين أحسنا إلينا بالتنبيه عليه، والهداية إليه، وصدقهما بما أجرى على أيديهما.
ولما خاف فرعون اتباع الناس لهم، لما يرون مما هالهم من أمرهم، وكان قد تقدم ما يعرف أن المنكر عليهم فرعون نفسه، قال تعالى مخبرا عنه: {قال} من غير ذكر الفاعل - أي فرعون - لعدم اللبس، ومقصود السورة غير مقتض للتصريح كما في الأعراف بل ملائم للإعراض عنه والإراحه منه، منكرا مبادرا موهما لأنه إنما يعاقب على المبادرة بغير إذن، لا على نفس الفعل، وأنه ما غرضه إلا التثبت ليؤخر بهذا التخييل الناس عن المبادرة بالإيمان إلى وقت ما {آمنتم له} أي لموسى عليه السلام، أفرده بالضمير لأنه الأصل في هذه الرساله، وحقيقة الكلام: أوقعتم التصديق بما أخبر به عن الله لأجله إعظاما له بذلك {قبل أن ءاذن لكم} أي في الإيمان؛ ثم علل فعلهم بما يقتضي أنه عن مكر وخداع، لا عن حسن اتباع، فقال: {إنه} أي
(14/34)
 
 
موسى عليه السلام {لكبيركم} .
ولما كان هذا مشعرا بنسبته له إلى السحر، وأنه أعلم منهم به، فلذلك غلبهم، أوضحه بقوله: {الذي علمكم السحر} فتواعدتم معه على هذا الفعل، لتنزعوا الملك من أربابه، هذا وكل من سمعه يعلم كذبة قطعا، فإن موسى عليه السلام ما ربي إلا في بيته، واستمر حتى فر منهم إلى مدين، لا يعلم سحرا، ولا ألم بساحر، ولا سافر إلا إلى مدين، ثم لم يرجع إلا داعيا إلى الله، ولكن الكذب غالب على قطر مصر، وأهلها اسرع شيء سماعا له وانقيادا به.
ولما أوقف السامعين بما خيلهم به من هذا الباطل المعلوم البطلان لكل ذي بصيرة، أكد المنع بالتهديد فقال: {فلسوف تعلمون*} أي ما أفعل بكم، أي فتسبب عما فعلتم أني أعاقبكم عقوبة محققة عظيمة، وأتى بأداة التنفيس خشية من أن لا يقدر عليهم فيعلم الجميع عجزه فيؤمنوا، مع ما فيها في الحقيقة على السحرة من التأكيد في الوعيد الذي لم يؤثر عندهم في جنب ما أشهدهم الله من الآية التي مكنتهم في مقام الخضوع؛ ثم فسر ما أبهم بقوله: {لأقطعن} بصيغة التفعيل لكثرة القطع والمقطوعين {أيديكم وأرجلكم} ثم بين كيفية تقطيعها فقال: {من خلاف} وزاد في التهويل فقال: {ولأصلبنكم أجمعين*}
(14/35)
 
 
ثم استأنف تعالى حكاية جوابهم بقوله: {قالوا} .
ولما كان قد تقدم هنا أنهم أثبتوا له عزة توجب مزيد الخوف منه، حسن قولهم: {لا ضير} أي لا ضرر أصلا علينا تحصل به المكنة منا فيما هددتنا به، بل لنا في الصبر عليه إن وقع أعظم الجزاء من الله، ورد النفي الشامل في هذه السورة إيذانا بأنه لم يقدر فرعون على عذابهم، تحقيقا لما في أول القصة من الإشارة إلى ذلك ب {كلا} و {مستمعون} فإن الإمكان من تابعي موسى عليه السلام يؤذيه ويضيق صدره، ولما يأتي من القصص من صريح العبارة في قوله {أنتما ومن اتبعكما الغالبون} . ثم عللوا ذلك بقولهم: {إنا} أي بفعلك ذلك فينا إن قدرك الله عليه {إلى ربنا} أي المحسن إلينا وحده {منقلبون*} أي ولا بد لنا من الموت، فلنكن على ما حكم به ربنا من الحالات، وإنما حكمك على هذا الجسد ساعة من نهار، ثم لا حكم على الروح إلا الله الذي هو جدير بأن يثيبنا على ذلك نعيم الأبد. وذلك معنى قولهم معللين ما قبله: {إنا نطمع أن يغفر} اي يستر سترا بليغا {لنا ربنا} الذي أحسن إلينا بالهداية {خطايانا} أي التي قدمناها على كثرتها؛ ثم عللوا طمعهم مع كثرة الخطايا بقولهم: {أن كنا} أي كونا هو لنا كالجبلة {أول المؤمنين*} أي من أهل هذا المشهد، وعبروا بالطمع إشارة إلى أن جميع أسباب السعادة منه تعالى،
(14/36)
 
 
فكأنه لا سبب منهم أصلا.
(14/37)
 
 
وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون (52) فأرسل فرعون في المدائن حاشرين (53) إن هؤلاء لشرذمة قليلون (54) وإنهم لنا لغائظون (55) وإنا لجميع حاذرون (56) فأخرجناهم من جنات وعيون (57) وكنوز ومقام كريم (58)
ولما قص سبحانه من حال الدعاء ما كفى في التسلية من قصد هذين النبيين بالأذى والتهكم بمن دعوا إليه، وجعلهما الأعليين، ولم يضرهما ضعفهما وقلتهما، ولا نفع عدوهما قوته وكثرته، شرع يسلي بما أوقعه في حال السير، فقال طاويا ما بقي منه لأن هذا ذكر به، عاطفا على هذه القصة: {وأوحينا} أي بما لنا من العظمة حين أردنا فصل الأمر وإنجاز الموعود {إلى موسى أن أسر} أي سر ليلا، حال اشتغال فرعون وجنوده بموت أبكارهم وتجهيزهم لهم {بعبادي} أي بني إسرائيل الذين كرمتهم مصاحبا لهم إلى ناحية بحر القلزم، غير مبال بفرعون ولا منزعج منه، وتزودوا اللحم والخبز الفطير للإسراع، وألطخوا أعتابكم بالدم، لأني أوصيت الملائكة الذين يقتلون الأبكار أن لا يدخلوا بيتا على بابه دم؛ ثم علل أمر له بالسير في الليل بقوله: {إنكم متبعون*} أي لا تظن أنهم لكثرة ما رأوا من الآيات يكفون عن اتباعكم، فأسرع بالخروج لتبعدوا عنهم إلى الموضع الذي قدرت في الأزل أن يظهر فيه مجدي، والمراد توافيهم عند البحر،
(14/37)
 
 
ولم يكتم اتباعكم عن موسى عليه السلام لعدم تأثره به لما تحقق عنده من الحفظ لما تقدم به الوعد الشريف بذلك التأكيد.
ولما كان التقدير: فأسرى بهم امتثالا للأمر بعد نصف الليل، عطف عليه قوله: {فأرسل فرعون} أي لما أصبح وأعلم بهم {في المدائن حاشرين*} أي رجالا يجمعون الجنود بقوة وسطوة وإن كرهوا، ويقولون تقوية لقلوبهم وتحريكا لهممهم: {إن هؤلاء} إشارة بأداة القرب تحقيرا لهم إلى أنهم في القبضة وإن بعدوا، لما بهم من العجز، وبآل فرعون من القوة، فليسوا بحيث يخاف قوتهم ولا ممانعتهم {لشرذمة} أي طائفة وقطعة من الناس.
ولما كانت قلتهم إنما هي بالنسبة إلى كثرة آل فرعون وقوتهم وما لهم عليهم من هيبة الاستعباد، وكان التعبير بالشرذمة موهما لأنهم في غاية القلة، أزال هذا الوهم بالتعبير بالجمع دون المفرد ليفيد أنه خبر بعد خبر، لا صفة، وأن التعبير بالشرذمة إنما هو للإشارة إلى تفرق القلوب، والجمع ولا سيما ما للسلامة مع كونه أيضا للقلة أدل على أنهم أوزاع، وفيه أيضا إشارة إلى أنهم مع ضعفهم بقلة العدد آيسون من إسعاف بمدد. وليس لهم أهبة لقتال لعدم العدة
(14/38)
 
 
لأنهم لم يكونوا قط في عداد من يقاتل كما تقول لمن تزدريه: هو أقل من أن يفعل كذا، فقال: {قليلون*} أي بالنسبة إلى ما لنا من الجنود التي لا تحصى وإن كانوا في أنفسهم كثيرين، فلا كثرة لهم تمنعكم أيها المحشورون من اتباعهم؛ قال البغوي عن ابن مسعود رضي الله عنهما: كانوا ستمائة ألف وتسعين ألفا، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون - انتهى.
وكل هذا بيان لأن فرعون مع تناهي عظمته لم يقدر على أثر ما في موسى عليه السلام ولا من اتبعه تحقيقا لما تقدم من الوعد به أول القصة.
ولما ذكر ما يمنع الخوف من اتباعهم، ذكر ما يوجب الحث عليه ويحذر من التقاعس عنه فقال: {وإنهم لنا} ونحن على ما نحن عليه من الكثرة والعظمة {لغائظون*} أي بما فجعونا به من أنفسهم وما استعاروه من الزينة من أواني الذهب والفضة وفاخر الكسوة، فلا رحمة في قلوبكم تحميهم.
ولما كان مدار مادة «شرذم» على التقطع. فكان في التعبير بها إشارة إلى أنهم مع القلة متفرقون ليسوا على قلب واحد، وذكر أن
(14/39)
 
 
في اتباعهم شفاء الغلل، أتبعه ما ينفي عن المتقاعد العلل، فقال: {وإنا لجميع} أي أنا وأنتم جماعة واحدة مجتمعون بإياله الملك على قلب واحد.
ولما أشار بهذا الخبر إلى ضد ما عليه بنو إسرائيل مع قلتهم مما هو سبب للجرأة عليهم، أخبر بخبر ثان يزيد الجرأة عليهم، وفي مضادة لما أشير إليه ب «قليلون» من الاستضعاف فقال: {حاذرون*} أي ونحن - مع إجماع قلوبنا - من شأننا وطبعنا الحذر، فنحن لا نزال على أهبة القتال، ومقارعة الأبطال، لا عائق لنا عنه بسفر ولا بغيره، أما من جهتي فبإفاضة الأموال عليكم، وإدرار الأرزاق فيكم، ووضع الأشياء في مواضعها في الأرض والرجال، وأما من جهتكم فباستعمال الأمانة من طاعة الملك في وضع كل ما يعطيكم في مواضعه من إعداد السلاح والمراكب والزاد، وجميع ما يحتاج إليه المحارب، مع ما لكم من العزة والقوة وشماخة الأنوف وعظم النفوس مع الجرأة والإقدام والثبات في وقف الحقائق، المحفوظ بالعقل المحوط بالجزم المانع من اجتراء الأخصام عليكم، ومكرهم لديكم، فإنه يحكى أنه كان يتصرف في خراج مصر بأن يجزئه أربعة أجزاء: أحدها لوزرائه وكتابه وجنده،
(14/40)
 
 
والثاني لحفر الأنهار وعمل الجسور، والثالث له ولولده، والرابع يفرق من مدن الكور، فإن لحقهم ظمأ أو استبحار أو فساد علة أو موت عوامل قواهم به؛ وري أنه قصده قوم فقالوا: نحتاج إلى أن نحفر خليجا لنعمر ضياعنا، فإذن في ذلك واستعمل عليهم عاملا فاستكثر ما حمل من خراج تلك الناحية إلى بيت المال، فسأل عن مبلغ ما أنفقوه على خليجهم، فإذا هو مائة ألف دينار، فأمر بحملها إليهم فامتنعوا من قبولها، فقال: اطرحوها عليهم، فإن الملك إذا استغن بمال رعيته افتقر وافتقروا، وأن الرعية إذا استغنت بمال ملكهم استغنى واستغنوا.
ولما كان التقدير: فأطاعوا أمره، ونفوا على كل صعب وذلول، عطف عليه قوله معلما بما آل إليه أمرهم: {فأخرجناهم} أي بما لنا من القدرة، إخراجا حثيثا مما لا يسمح أحد بالخروج منه {من جنات} أي بساتين يحق لها أن تذكر {وعيون*} لا يحتاج معها إلى نيل ولا مطر {وكنوز} من الأموال تعرف بمقدار ما هم فيه من النعم الفاضلة عنهم، مع ما هم فيه من تمام الاستعداد لمثل هذا المراد {ومقام} من المنازل {كريم*} أي على صفة ترضي الرائي له لأنه على النهاية من الحسن لا يقال فيه: ليته كان كذا، أو كان كذا.
(14/41)
 
 
كذلك وأورثناها بني إسرائيل (59) فأتبعوهم مشرقين (60) فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون (61) قال كلا إن معي ربي سيهدين (62) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم (63) وأزلفنا ثم الآخرين (64) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين (65) ثم أغرقنا الآخرين (66) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (67) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (68)
ولما كان الخروج عن مثل هذا مما يستنكر، أشار إلى عظمة القدرة
(14/41)
 
 
عليه بقوله: {كذلك} أي مثل ذلك الإخراج العجيب الذي أراده فرعون من قومه في السرعة والكمال الهيبة أخرجناهم نحن بأن يسرنا له ولهم ذلك، ووفرنا لهم الأسباب، لما اقتضته حكمتنا، أو مثل ذلك الخروج الذي قصصناه عليك أخرجناهم، أي كان الواقع من خروجهم مطابقا لما عبرنا به عنه، أو الأمر الذي قصصناه كله كما قلنا وأولها أقعدها وأحسنها وأجودها {وأورثناها} أي تلك النعم السرية بمجرد خروجهم بالقوة وبإهلاكهم بالفعل {بني إسرائيل*} أي جعلناهم بحيث يرثونها لأنا لم نبق لهم مانعا يمنعهم منها بعد أن كانوا مستبعدين تحت أيدي أربابها، وأما إرثهم لها بالفعل ففيه نظر لقوله في الدخان {قوما آخرين} .
ولما وصف الإخراج، وصف أثره فقال مرتبا عليه بالفعل وعلى الإيراث بالقوة: {فأتبعوهم} أي جعلوا أنفسهم تابعة لهم {مشرقين*} أي داخلين في وقت شروق الشمس، أي طلوعها من صبيحة الليلة التي سار في نصفها بنو إسرائيل، ولولا تقدير العزيز العليم بخرق ذلك للعادة لم يكن على حكم العادة في أقل من عشرة أيام، فإنه أمر يعجز الملوك مثله، فيا له من حشر ما أسرعه! وجهاز ما أوسعه! واستمروا
(14/42)
 
 
إلى أن لحقوهم عند بحر القلزم كما تقدم في الأعراف شرح ذلك عن التوراة، وتقدم سر تسييرهم في تلك الطريق {فلما تراءى الجمعان} أي صارا بحيث يرى كل منهما الآخر {قال أصحاب موسى} ضعفا وعجزا استصحابا لما كانوا فيه عندهم من الذل، ولأنهم أقل منهم بكثير بحيث يقال: إن طليعة آل فرعون كانت على عدد بني إسرائيل، وذلك محق لتقليل فرعون لهم، وكأنه عبر عنهم ب «أصحاب» دون «بني إسرائيل» لأنه كان قد آمن كثير من غيرهم: {إنا لمدركون*} أي لأنهم قد وصلوا ولا طريق لنا وقد صرنا بين سدين من حديد وماء، العدو وراءنا والماء أمامنا {قال} أي موسى عليه الصلاة والسلام وثوقا بوعد الله، ناطقا بمثل ما كلمه به ربه في أول القصة من قوله: {كلا} أي لا يدركونكم أصلا؛ ثم علل ذلك تسكينا لهم بقوله: {إن معي ربي} فكأنهم قالوا: وماذا عساه يفعل وقد وصلوا؟ قال: {سيهدين*} أي بوعد مؤكد عن قرب، إلى ما أفعل مما فيه خلاصكم، وتقدم في براءة سر تقديم المعية وخصوصها والتعبير باسم الرب {فأوحينا} أي فتسبب عن كلامه الدال على المراقبة أنا أوحينا؛ ونوه باسمه الكريم جزاء له على ثقته به سبحانه
(14/43)
 
 
فقال: {إلى موسى} وفسر الوحي الذي فيه معنى القول بقوله: {أن اضرب بعصاك البحر} أي الذي أمامكم، وهو بحر القلزم الذي يتوصل أهل مصر منه إلى الطور وإلى مكة المشرفة وما والاها {فانفلق} أي فضربه فانشق بسبب ضربه لما ضربه امتثالا لأمر الله وصار اثني عشر فرقا على عدد أسباطهم {فكان كل فرق} أي جزء وقسم عظيم منه {كالطود} أي الجبل في إشرافه وطوله وصلابته بعدم السيلان {العظيم*} المتطاول في السماء الثابت لا يتزلزل، لأن الماء كان منبسطا في أرض البحر، فلما انفرق وانكشفت فيه الطرق انضم بعضه إلى بعض فاستطال وارتفع في السماء.
ولما كان التقدير: فأدخلنا كل شعب منهم في طريق من تلك الطرق، عطف عليه: {وأزلفنا} أي قربنا بعظمتنا من قوم موسى عليه السلام؛ قال البغوي. قال أبو عبيدة: جمعنا، ومنه ليلة المزدلفة، أي ليلة الجمع.
ولما كان هذا الجمع في غاية العظمة وعلو الرتبة، أشار إلى ذلك بأداة البعد فقال: {ثم} أي هنالك، فإنها ظرف مكان للبعيد {الآخرين*} أي فرعون وجنوده {وأنجينا موسى ومن معه} وهم الذين اتبعوه من قومه وغيرهم {أجمعين*} أي لم نقدر على أحد
(14/44)
 
 
منهم الهلاك.
ولما كان الإغراق بما به الإنجاء - مع كونه أمرا هائلا - عجيبا وبعيدا عبر بأداة البعد فقال: {ثم أغرقنا} أي إغراقا هو على حسب عظمتنا {الآخرين*} أي فرعون وقومه اجمعين، لم يفلت منهم أحد.
ولما قام عذر موسى عليه السلام فيما استدفعه أول القصة من كيد فرعون بما ثبت له من العظمة والمكنة في كثرة الجند وعظيم الطاعة منهم له في سرعة الاجتماع الدالة على مكنتهم في أنفسهم، وعظمته في قلوبهم، رغبة ورهبة، وظهر مجد الله في تحقيق ما وعد به سبحانه من الحراسة، وزاد ما أقر به العيون، وشرح به الصدرو، وكان ذلك أمرا يهز القوى سماعه، ويروع الأسماع تصوره وذكره، قال منبها على ذلك: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم العالي الرتبة من قصة موسى وفرعون وما فيها من العظات {لآية} أي علامة عظيمة على ما قال الرسول موجبة للإيمان به من أن الصانع واحد فاعل بالاختبار، قادر على كل شيء، وأنه رسوله حقا {وما كان أكثرهم} أي الذين شاهدوها والذي وعظوا بسماعها {مؤمنين} لله أي متصفين بالإيمان الثابت، أما القبط فما آمن منهم إلا السحرة ومؤمن آل فرعون وامرأة فرعون
(14/45)
 
 
والمرأة التي دلتهم على عظام يوسف عليه السلام - على ما يقال، وأما بنو إسرائيل فكان كثير منهم مزلزلا يتعنت كل قليل، ويقول ويفعل ما هو كفر، حتى تداركهم الله تعالى على يدي موسى عليه السلام ومن بعده، وأول ما كان من ذلك سؤالهم إثر مجاوزة البحر أن يجعل لهم إلها الأصنام التي مروا عليها، وأما غيرهم ممن تأخر عنهم فحالهم معروف، وأمرهم مشاهد مكشوف {وإن ربك} أي المحسن إليك بإعلاء أمرك، واستنقاذ الناس من ظلام الجهل على يدك {لهو العزيز} أي القادر على الانتقام من كل فاجر {الرحيم*} أي الفاعل فعل البليغ الرحمة، فهو يمهل ويدر النعم، ويحوط من النقم، ولا يمهل، بل يرسل رسلا، وينزل معهم ما بين به ما يرضيه وما يسخطه، فلا يهلك إلا بعد الإعذار، فلا تستوحش ممن لم يؤمن، ولا يهمنك ذلك.
(14/46)
 
 
واتل عليهم نبأ إبراهيم (69) إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون (70) قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين (71) قال هل يسمعونكم إذ تدعون (72) أو ينفعونكم أو يضرون (73) قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون (74) قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون (75) أنتم وآباؤكم الأقدمون (76) فإنهم عدو لي إلا رب العالمين (77) الذي خلقني فهو يهدين (78) والذي هو يطعمني ويسقين (79)
ولما أتم سبحانه ما أراد من قصة موسى عليه السلام، أتبعه دلالة على رحيميته قصة إبراهيم عليه السلام لما تقدم أنه شاركه فيه مما يسلي عما وقع ذكره عنهم من التعنتات في الفرقان، ولما اختص به من مقارعة أبيه وقومه في الأوثان، وهو أعظم آباء العرب، ليكون ذلك حاملا لهم
(14/46)
 
 
على تقليده في التوحيد إن كانوا لا ينفكون عن التقليد، وزاجرا عن استعظام تسفيه آبائهم في عبادتها، وتعبيره سبحانه للسياق قبل وبعد، وتعبيره بقوله: {واتل} أي اقرأ قراءة متتابعة - مرجح للتقدير الأول في {وإذ} من جعله «اذكر» وتغييره في التعبير بها لسياق ما تقدم وما تأخر لتنبيه العرب على اتباعه لما لهم به من الخصوصية {عليهم} أي على هؤلاء المغترين بالأوثان، المنكرين لرسالة البشر {نبأ إبراهيم*} أي خبره العظيم في مثل ذلك {إذ} أي حين {قال لأبيه وقومه} منبها لهم على ضلالهم، لا مستعلما لأنه كان عالما بحقيقة حالهم: {ما} أي أي شيء، وصور لهم حالهم تنبيها لهم على قباحتها فعبر بالمضارع فقال: {تعبدون*} أي تواظبون على عبادته {قالوا} مبتهجين بسؤاله، مظهرين الافتخار في جوابهم بإطالة الكلام: {نعبد أصناما فنظل} أي فيتسبب عن عبادتنا لها أنا نوفي حق العبادة بأن ندوم {لها عاكفين*} أي مطيفين بها على سبيل الموظبة متراكمين بعضنا خلف بعض حابسين أنفسنا تعظيما
(14/47)
 
 
لها، فجروا على منوال هؤلاء في داء التقليد الناشىء عن الجهل بنفس العبادة وبظنهم مع ذلك أنهم على طائل كبير، وأمر عظيم، ظفروا به، مع غفلة الخلق عنه - كما دل عليه خطابهم في هذا الكلام الذي كان يغني عنه كلمة واحدة، وهذا هو الذي أوجب تفسير الظلول بمطلق الدوام وإن كان معناه الدوام بقيد النهار، وكأنهم قصدوا بما يدل على النهار - الذي هو موضع الاشتغال والسهرة - الدلالة على الليل من باب الأولى، مع شيوع استعماله أيضا مطلقا نحو {فظلت أعناقهم لها خاضعين} ، وزاد قوم إبراهيم عليه السلام أن استمروا على ضلالهم وأبوه معهم فكانوا حطب النار، ولم يتكمن من إنقاذهم من ذلك، ولم تكن لهم حيلة إلا دعاؤهم، فهو أجدر بشديد الحزن وببخع نفسه عليهم وهو موضع التسلية.
ولما فهم عنهم هذه الرغبة، أخذ يزهدهم فيها بطريق الاستفهام الذي لا أنصف منه عن أوصاف يلجئهم السؤال إلى الاعتراف بسلبها عنهم، مع كل عاقل إذا تعقل أن لا تصح رتبة الإلهية مع فقد واحدة منها، فكيف مع فقدها كلها؟ فقال تعالى مخبرا عنه: {قال} معبرا عنها إنصافا بما يعبر به عن العقلاء لتنزيلهم إياها منزلتهم:
(14/48)
 
 
{هل يسمعونكم} أي دعاءكم مجرد سماع؛ ثم صور لهم حالهم ليمنعوا الفكر فيه، فقال معبرا بظرف ماض وفعل مضارع تنبيها على استحضار جميع الزمان ليكون ذلك أبلغ في التبكيت: {إذ تدعون*} أي استحضروا أحوالكم معهم من أول عبادتكم لهم وإلى الآن: هل سمعوكم وقتا ما؟ ليكون ذلك مرجيا لكم لحصول نفع منهم في وقت ما.
ولما كان الإنسان قد يعكف على الشيء - وهو غير سامع - لكن لنفعه له في نفسه أو ضره لعدوه كالنار مثلا، وكان محط حال العابد والداعي بالقصد الأول بالذات جلب النفع، قال: {أو ينفعونكم} أي على العبادة كما ينفع أقل شيء تقتنونه {أو يضرون*} على الترك: {قالوا} : لا والله! ليس عندهم شيء من ذلك {بل وجدنا آباءنا كذلك} أي مثل فعلنا هذا العالي الشأن، ثم صوروا حالة آبائهم في نفوسهم تعظيما لأمرهم فقالوا: {يفعلون*} أي فنحن نفعل كما فعلوا لأنهم حقيقون منا بأن لا نخالفهم، مع سبقهم لنا إلى الوجود، فهم أرصن منا عقولا، وأعظم تجربة، فلولا أنهم رأوا ذلك حسنا، ما واظبوا عليه،
(14/49)
 
 
هذا مع أنهم لو سلكوا طريقا حسية حصل لهم منها ضرر حسي ما سلكوها قط، ولكن هذا الدين يهون على الناس فيه التقليد بالباطل قديما وحديثا.
ولما وصلوا إلى التقليد المخض الخالي عن أدنى نظر كما تفعل البهائم والطير في تبعها لأولها {قال} معرضا عن جواب كلامهم بنقص، إشارة إلى أنه ساقط لا يرتضيه من شم رائحة الرجولية: {أفرأيتم} أي فتسبب عن قولكم هذا أني أقول لكم: أرأيتم، اي إن لم تكونوا رأيتموهم رؤية موجبة لتحقق أمرهم فانظروهم نظرا شافيا {ما كنتم} أي كونا هو كالجبلة لكم {تعبدون*} مواظبين على عبادتهم {أنتم} .
ولما أجابوه بالتقليد، قال لهم ما معناه، رقوا تقليدكم هذا إلى أقصى غاياته، فإن التقدم والأولوية لا تكون برهانا على الصحة، والباطل لا ينقلب حقا بالقدم، وذلك مراده من قوله: {وآباؤكم الأقدمون*} أي الذين هم أقدم ما يكونون: هل لهم وصف غير ما أقررتم به
(14/50)
 
 
من عدم السماع والنفع والضر؟ {فإنهم} أي فتسبب عن رؤيتكم ووصفكم لهم بما ذكرتم أني أخبركم إخبارا مؤكدا أنهم.
ولما كانت صيغة فعول للمبالغة، أغنت في العدو والصديق عن صيغة الجمع ولا سيما وهي شبيهة بالمصادر كالقبول والصهيل، فقال مخبرا عن ضمير الجمع: {عدو لي} أي أناصفهم بالسوء وأعاملهم في إبطالهم ومحقهم معاملة الأعداء وكل من عبدهم كما قال في الآية الأخرى {لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين} [الأنبياء: 54] ، {أف لكم ولما تعبدون من دون الله} [الأنبياء: 57] و {تالله لأكيدن أصنامكم} [الأنبياء: 67] .
ولما كانوا هم مشركين، وكان في آبائهم الأقدمين من عبد الله وحده. قال: {إلا رب العالمين*} أي مدبر هذه الأكوان كلها - كما قال موسى عليه السلام - لأن ذلك أشهر الأوصاف وأظهرها، فإنه ليس بعدوي، بل هو وليي ومعبودي؛ ثم شرع يصفه بما هم به عالمون من أنه على الضد الأقصى من كل ما عليه أصنامهم فقال: {الذي} ولما لم يكن أحد يدعي الخلق لم يحتج إلى ما يدل على الاختصاص فقال: {خلقني} أي أوجدني على هيئة التقدير والتصوير
(14/51)
 
 
{فهو} أي فتسبب عن تفرده بخلقي أنه هو لا غيره {يهدين*} أي إلى الرشاد، ولأنه لا يعلم باطن المخلوق ويقدر على كمال التصرف فيه غير خالقه، ولا يكن خالقه إلا سمعيا بصيرا ضارا نافعا، له الكمال كله، ولا شك أن الخلق للجسد، والهداية للروح، وبالخلق والهداية يحصل جميع المنافع، والإنسان له قالب من عالم الخلق، وقالب من عالم الأمر، وتركيب القالب مقدم كما ظهر بهذه الآية، ولقوله
{فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} [الحجر: 29] وأمثال ذلك، وذكر الخلق بالماضي لأنه لا يتجدد في الدنيا، والهداية بالمضارع لتجددها وتكررها دينا ودنيا {والذي هو} أي لا غيره {يطعمني ويسقين} ولو أراد لأعدم ما آكل وما أشرب أو أصابني بآفة لا أستطيع معها أكلا ولا شربا.
(14/52)
 
 
وإذا مرضت فهو يشفين (80) والذي يميتني ثم يحيين (81) والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين (82) رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين (83) واجعل لي لسان صدق في الآخرين (84) واجعلني من ورثة جنة النعيم (85) واغفر لأبي إنه كان من الضالين (86) ولا تخزني يوم يبعثون (87)
ولما كان المرض ضررا، نزهه عن نسبته إليه أدبا وإن كانت نسبة الكل إليه سبحانه معلومة، بقوله: {وإذا مرضت} باستيلاء بعض الأخلاط على بعض لما بينها من التنافر الطبيعي {فهو} أي وحده {يشفين*} بسبب تعديل المزاج بتعديل الأخلاط وقسرها على الاجتماع والاعتدال، لا طبيب ولا غيره وإن تسببت أنا في أمراض نفسي ببرد أو حر أو طعام أتناوله أو غير ذلك لأنه قادر على ما يريد.
(14/52)
 
 
ولما كان الإنسان مطبوعا على الاجتهاد في حفظ حياته وبقاء مهجته، نسب فعل الموت إليه إعظاما للقدرة فقال: {والذي يميتني} أي حسا وإن اجتهدت في دفع الموت، ومعنى وإن اجتهدت في دفع الجهل.
ولما كان الإحياء حسا بالروح ومعنى بالهداية عظيما، أتى بأداة التراخي لذلك ولطول المكث في البرزخ فقال: {ثم يحيين} للمجازاة في الآخرة كما شفاني من المرض وإن وصلت إلى حد لا أرجى فيه، ولم يأت هنا بما يدل على الحصر لأنه لا مدعي للإحياء والإماتة إلا ما ذكره سبحانه عن نمرود في سورة البقرة، وأن إبراهيم عليه السلام أبهته ببيان عجزه في إظهار صورة من مكان من الأمكنة بلا شرط من روح ولا غيرها، وإذا عجز عن ذلك كان عجزه عن إيجاد صورة أبين، فكيف إذا انضم إلى ذلك إفادتها روحا أو سلبها منها، فعد ادعاؤه لذلك - مع القاطع المحسوس الذي أبهته - عدما، والله أعلم.
ولما ذكر البعث، ذكر ما يترتب عليه فقال: {والذي أطمع} هضما لنفسه واطراحا لأعماله وإشارة إلى أنه بالنسبة إلى الحضرة الأعظمية غير قادرة لها حق قدرها، فإن الطمع كما قال الحرالي في البقرة
(14/53)
 
 
تعلق البال بالشيء من غير تقدم سبب - انتهى. فلذلك لم يعد له عملا {أن يغفر} أي يمحو ويستر.
ولما كان الله سبحانه منزها عن الغرض، فكانت المغفرة لحظ العبد ليس غير، قال: {لي} وأسند الخطيئة إليه هضما لنفسه وتواضعا لربه فقال: {خطيئتي} أي تقصيري عن أن أقدره حق قدره، فإن الضعيف العاجز لا يبلغ كل ما ينبغي من خدمة العلي الكبير، وما فعله فهو بإقداره سبحانه فلا صنع له في الحقيقة أصلا {يوم الدين*} أي الجزاء.
ولما أثنى على الله تعالى بما هو أهله، وختم بذكر هذا اليوم العظيم، دعا بما ينحي عن هوله، فدل صنيعه على أن تقديم الثناء على السؤال أمر مهم، وله في الإجابة أثر عظيم، فقال ملتفتا إلى مقام المشاهدة إشارة إلى أن الأمر مهول، وأنه لا ينقذ من خطره إلا عظيم القدرة، لما طبعت عليه النفس من النقائص: {رب} أي أيها المحسن إلي {هب لي حكما} أي عملا متقنا بالعلم، وأصله بناء الشيء على ما توجبه الحكمة، ولما كان الاعتماد إنما هو على محض الكرم، فإن من نوقش الحساب عذب، قال: {وألحقني بالصالحين*} أي الذين جعلتهم أئمة للمتقين في الدنيا والآخرة، وهم من كان قوله
(14/54)
 
 
وفعله صافيا عن شوب فساد.
ولما كان الصالح قد لا يظهر عمله، وكان إظهار الله له مجلبة للدعاء وزيادة في الأجر، قال: {واجعل لي لسان صدق} أي ذكرا جميلا، وقبولا عاما، وثناء حسنا، بما أظهرت مني من خصال الخير {في الآخرين*} أي الناس الذين يوجدون بعدي إلى يوم الدين، لأكون للمتقين إماما، فيكون لي مثل أجورهم، فإن «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» وقد كان ذلك إجابة من الله تعالى لدعائه، ومن أعظمه أن جعله الله شجرة مباركة فرع منها الأنبياء الذين أحيى بهم عليهم الصلاة والسلام ذكره الذي من أعظمه ما كان على لسان أعظمهم النبي الأمي صلى الله عليه وسلم من قوله: «صل على محمد كما صليت على إبراهيم» إلى آخره.
ولما طلب سعادة الدنيا، وكانت لا نفع لها إلا باتصالها بسعادة الآخرة التي هي الجنة، وكانت الجنة لا تنال إلا بمنه، لا بشيء من ذلك، ولذلك شبه إدخالها بالإرث الذي يحصل بغير اكتساب من الوارث وهو أقوى أسباب الملك، قال: {واجعلني} أي مع ذلك كله
(14/55)
 
 
بفضلك ورحمتك {من ورثة جنة النعيم*} .
ولما دعا لنفسه، ثنى بأحق الخلق ببره فقال: {واغفر لأبي} ثم علل دعاءه بقوله: {إنه كان} في أيام حياته {من الضالين*} والظاهر أن هذا كان قبل معرفته بتأبيد شقائه، ولذلك قال: {ولا تخزني} أي تهني بموته على ما يوجب دخوله النار ولا بغير ذلك {يوم يبعثون*} أي هؤلاء المنكرون للبعث، وكأن هذا الدعاء كان بحضورهم في الإنكار عليهم في عبادة الأصنام، والظاهر أن تخصيص الدعاء بأبيه لأن أمه كانت آمنت كما ورد عن. . . فقد صح أنه يقول يوم القيامة: يا رب! إنك وعدتني ألا تخزيني، أي خزي أخزى من أبي الأبعد، فيبدل الله صورة أبيه صورة ذيخ ثم يلقي به في النار - كما رواه البخاري في غير موضع عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأن الله تعالى يقول له: «إني حرمت الجنة على الكافرين» ولو كانت أمة كافرة لسأله فيها.
(14/56)
 
 
يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم (89) وأزلفت الجنة للمتقين (90) وبرزت الجحيم للغاوين (91) وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون (92) من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون (93) فكبكبوا فيها هم والغاوون (94) وجنود إبليس أجمعون (95) قالوا وهم فيها يختصمون (96) تالله إن كنا لفي ضلال مبين (97) إذ نسويكم برب العالمين (98) وما أضلنا إلا المجرمون (99) فما لنا من شافعين (100)
ولما نبه على أن المقصود هو الآخرة، صرح بالتزهيد في الدنيا بتحقير أجل ما فيها فقال: {يوم لا ينفع} أي أحدا {مال} أي
(14/56)
 
 
يفتدي به أو يبذله لشافع أو ناصر مقاهر {ولا بنون*} ينتصر بهم أو يعتضد فكيف بغيرهم {إلا من أتى الله} أي الملك الأعظم الذي له الغنى المطلق في هذا الموطن {بقلب سليم*} أي عن مرض غيره عن الفطرة الأولى التي فطره الله عليها، وهي الإسلام الذي رأسه التوحيد، والاستقامة على فعل الخير، وحفظ طريق السنة كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ليس فيها من جدعاء فإن {المال والبنون} ينفعانه بما تصرف فيهما من خير، والاستثناء مفرغ، والظاهر أن قوله {وأزلفت} أي قربت بأيسر وجه حال من واو «يبعثون» {الجنة للمتقين*} وعرف أهل الموقف أنها لهم خاصة تعجيلا لسرورهم وزيادة في شرفهم {وبرزت} أي كشفت كشفا عظيما سهلا {الجحيم} أي النار الشديدة التأجج، وأصلها نار عظيمة في مهواة بعضها فوق بعض {للغاوين*} أي الضالين الهالكين بحيث عرف أهل الموقف أنها لهم {وقيل لهم} تبكيتا وتنديما وتوبيخا، وأبهم القائل ليصلح لكل أحد، تحقيرا لهم، ولأن المنكىء نفس القول لا كونه من معين: {أين ما كنتم} بتسلك الأخلاق التي هي كالجبلات {تعبدون*} أي
(14/57)
 
 
في الدنيا على سبيل التجديد والاستمرار. وحقر معبوداتهم بقوله: {من دون} أي من أدنى رتبة من رتب {الله} أي الملك الذي لا كفوء له، وكنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم ويقونكم شر هذا اليوم {هل ينصرونكم} فيمنعون عنكم ما برز لكم {أو ينتصرون*} أي هم بالدفع عن أنفسهم.
ولما تسبب عن هذا التبريز والقول إظهار قدرته تعالى وعجزهم بقذفهم فيها قال: {فكبكبوا} أي الأصنام ونحوها، قلبوا وصرعوا ورموا، قلبا عظيما مكررا سريعا من كل من أمره الله بقلبهم بعد هذا السؤال، إظهارا لعجزهم بالفعل حتى عن الجواب قبل الجواب {فيها} أي في مهواة الجحيم قلبا عنيفا مضاعفا كثيرا بعضهم في أثر بعض {هم} أي الأصنام وما شابهها مما عبد من الشاطين ونحوهم {والغاوون*} أي الذي ضلوا بهم {وجنود إبليس} من شياطين الإنس والجن {أجمعون*} .
ولما علم بهذا أنهم لم يتمكنوا من قول في جواب استفامهم توبيخا، وكان من المعلوم أن الإنسان مطبوع على أن يقول في كل شيء ينوبه ما يثيره له إدراكه مما يرى أنه يبرد من غلته، وينفع من علته، تشوف السامع إلى معرفة قولهم بعد الكبكبة، فأشير إلى ذلك
(14/58)
 
 
بقوله: {قالوا} أي العبدة {وهم فيها} أي الجحيم {يختصمون} أي مع المعبودات: {تالله} أي الذي له جميع الكمال {إن كنا لفي ضلال مبين*} أي ظاهر جدا لمن كان له قلب {إذ} أي حين {نسويكم} في الرتبة {برب العالمين*} أي الذين فطرهم ودبرهم حتى عبدناكم {وما أضلنا} أي ذلك الضلال المبين عن الطريق البين {إلا المجرمون*} أي العريقون في صفة الإجرام، المقتضي لقطع كل ما ينبغي أن يوصل {فما} أي فتسبب عن ذلك أنه ما {لنا} اليوم؛ وزادوا في تعميم النفي بزيادة الجار فقالوا: {من شافعين*} يكونون سببا لإدخالنا الجنة، لأنا صرفنا ما كان يجب علينا لذي الأمر إلى من لا أمر له؛ ولعله لم يفرد الشافع لأنهم دخلوا في الشفاعة العظمى.
(14/59)
 
 
ولا صديق حميم (101) فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين (102) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (103) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (104) كذبت قوم نوح المرسلين (105) إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون (106) إني لكم رسول أمين (107)
ولما كان الصديق قد لا يكون أهلا لأن يشفع، قالوا تأسفا على أقل ما يمكن: {ولا صديق} أي يصدق في ودنا ليفعل ما ينفعنا. ولما كان أصدق الصداقة ما كان من القريب قال: {حميم*} أي قريب، وأصله المصافي الذي يحرقه ما يحرقك، لأنا قاطعنا بذلك كل من له أمر في هذا اليوم؛ وأفرد تعميما للنفي وإشارة إلى قلته في حد ذاته أو عدمه.
(14/59)
 
 
ولما وقعوا في هذا الهلاك، وانتفى عنهم الخلاص، تسبب عنه تمنيهم المحال فقالوا: {فلو أن لنا كرة} أي رجعة إلى الدنيا {فنكون من المؤمنين*} أي الذين صار الإيمان لهم وصفا لازما، فأزلفت لهم الجنة.
ولما كان في هذه القصة أعظم زاجر عن الشرك، وآمر بالإيمان، نبه على ذلك بقوله: {إن في ذلك} أي هذا الأمر العظيم الذي قصصته ن قول إبراهيم عليه السلام في إقامة البرهان على إبطال الأوثان، ونصب الدليل على أنه لا حق إلا الملك الجليل الديان، وترغيبه وترهيبه وإرشاده إلى التزود في أيام المهلة {لآية} أي عظيمة على بطلان الباطل وحقوق الحق {وما} أي والحال أنه ما {كان أكثرهم} أي الذين شهدوا منه هذا الأمر العظيم والذين سمعوه عنه {مؤمنين*} أي بحيث صار الإيمان صفة لهم ثابتة، وفي ذلك أعظم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأعظم آبائه عليهم الصلاة والسلام {وإن ربك} أي المحسن إليك بإرسالك وهداية الأمة بك {لهو العزيز} أي القادر على إيقاع النقمة بكل من خالفه حين يخالفه {الرحيم*} أي الفاعل فعل الراحم في إمهاله العصاة مع إدرار النعم، ودفع النقم، وإرسال الرسل، ونصب الشرائع، لبيان ما يرضاه ليتبع، وما يسخطه ليتجنب،
(14/60)
 
 
فلا يهلك إلا بعد إقامة الحجة بإيضاح المحجة.
ولما أتم سبحانه قصة الأب الأعظم الأقرب، أتبعها - دلالة على وصفي العزة والرحمة - قصة الأب الثاني، مقدما لها على غيرها، لما له من القدم في الزمان، إعلاما بأن البلاء قديم، ولأنها أدل على صفتي الرحمة والنقمة التي هي أثر العزة بطول الإملاء لهم على طول مدتهم، ثم تعميم النقمة مع كونهم جميع أهل الأرض فقال: {كذبت} بإثبات التاء اختيارا للتأنيث - وأن كان تذكير القوم أشهر - للتنبيه على أن فعلهم أخس الأفعال، أو إلى أنهم مع عتوهم وكثرتهم كانوا عليه سبحانه أهون شيء وأضعفه بحيث جعلهم هباء منثورا وكذا من بعدهم {قوم نوح} وهو أهل الأرض كلهم من الآدميين قبل اختلاف الأمم بتفرق اللغات {المرسلين*} أي بتكذيبهم نوحا عليه السلام، لأنه أقام الدليل على نبوته بالمعجزة، ومن كذب بمعجزة واحدة فقد كذب بجميع المعجزات لتساوي أقدامها في الدلالة على صدق الرسول، وقد سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن ذلك فقال: من كذب واحدا من الرسل فقد كذب الكل لأن الآخر جاء بما جاء به الأول - حكاه عنه البغوي.
ولقصد التسلية عبر بالتكذيب في كل قصة {إذ} أي حين {قال لهم} لم يتأنوا بطلب دليل، ولا ابتغاء وجه جميل؛ وأشار إلى نسبه فيهم بقوله: {أخوهم} زيادة في تسلية هذا النبي الكريم
(14/61)
 
 
{نوح} وأشار إلى حسن أدبه، واستجلابهم برفقه ولينه، بقوله: {ألا تتقون*} أي تكون لكم تقوى، وهي خوف يحملكم على أن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية بطاعته بالتوحيد وترك الالتفات إلى غيره؛ ثم علل أهليته للأمر عليهم بقوله: {إني لكم} أي مع كوني أخاكم يسوءني ما يسوءكم ويسرني ما يسركم {رسول} أي من عند خالقكم، فلا مندوحة لي عند إبلاغ ما أمرت به {أمين*} أي لا غش عندي كما تعلمون ذلك مني على طول خبرتكم بي، ولا خيانة في شيء من الأمانة، فلذلك لا بد لي من إبلاغ جميع الرسالة.
(14/62)
 
 
فاتقوا الله وأطيعون (108) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (109) فاتقوا الله وأطيعون (110) قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون (111) قال وما علمي بما كانوا يعملون (112) إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون (113) وما أنا بطارد المؤمنين (114) إن أنا إلا نذير مبين (115) قالوا لئن لم تنته يانوح لتكونن من المرجومين (116)
ولما عرض عليهم التقوى بالرفق، وعلل ذلك بما ثبت به أمرها، تسبب عنه الجزم بالأمر فقال: {فاتقوا الله} أي أوجدوا الخو والحذر والتحرز من الذي اختص بالجلال والجمال، مبادرين إلى ذلك بتوحيده لتحرزوا أصل السعادة فتكونوا من أهل الجنة {وأطيعون*} أي في كل ما آمركم لتحرزوا رتبة الكمال في ذلك، فلا يمسكم عذاب.
ولما أثبت أمانته، نفى تهمته فقال: {وما أسألكم عليه} أي على هذا الحال الذي أتيتكم به؛ وأشار إلى الإعراق في النفي بقوله: {من أجر} أي ليظن ظان أني جعلت الدعاء سببا له؛ ثم
(14/62)
 
 
أكد هذا النفي بقوله: {إن} أي ما {أجري} أي في دعائي لكم {إلا على رب العالمين*} أي الذي دبر جميع الخلائق ورباهم.
ولما انتفت التهمة، تسبب عن انتفائها أيضا ما قدمه، فأعاده إعلاما بالاهتمام بذلك زيادة في الشفقة عليهم وتأكيدا له في قلوبهم تنبيها على أن الأمر في غاية العظمة لما يعلم من قلوبهم من شدة الجلافة فقال: {فاتقوا الله} أي الذي حاز جميع صفات العظمة {وأطيعون} .
ولما قام الدليل على نصحه وأمانته، أجابوا بما ينظر إلى محض الدنيا كما أجاب من قال من أشراف العرب {ما لهذا الرسول} الآيات، وقال: لو طردت هؤلاء الضعفاء لرجونا أن نتبعك حتى نزل في ذلك {ولا تطرد الذين يدعون ربهم} [الأنعام: 52] ونحوها من الآيات، بأن {قالوا} أي قومه، منكرين لاتباعه استنادا إلى داء الكبر الذي ينشأ منه بطر الحق وغمط الناس - أي احتقارهم: {أنؤمن لك} أي لأجل قولك هذا وما أثبته أوصافك {و} الحال أنه قد {اتبعك الأرذلون*} أي المؤخرون في الحال والمآل، والأحوال والأفعال، فيكون إيماننا بك سببا لاستوائنا معهم، فلو طردتهم لم يكن لنا عذر في التخلف عنك، ولا مانع من اتباعك، فكان ما متعوا به من العرض الفاني مانعا لهم عن السعادة الباقية، وأما الضعفاء فانكسار قلوبهم وخلوها عن شاغل موجب لإقبالها على الخير
(14/63)
 
 
وقبولها له، لأن الله تعالى عند المنكسرة قلوبهم، وهكذا قالت قريش في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وما زالت أتباع الرسل كذلك حتى صارت من سماتهم وأماراتهم كما قال هرقل في سؤاله عن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان مثال المستكبرين مثال شخص كان آخر دونه بدرجة، فأصبح فوقه بدرجة، فأنف من أن يرتقي إلى درجته لئلا يساويه، ورضي لنفسه أن يكون دونه، فما اسخف عقله! وما أكثر جهله! فلا شيء أبين من هذا في أن التقدم في الأمور الدنيوية داء لا دواء له إلا إماتة النفس بالتبرؤ منه والبعد عنه.
ولما كانت الجواهر متساوية في أنها مخلوقات الله، وإنما تتشرف بآثارها، فالآدمي إنما يشرف أو يرذل بحاله من قاله وفعاله، أشار إلى أنه يعتبر ما هم عليه الآن من الأحوال الرفيعة، والأوصاف البديعة، فلذلك {قال} نافيا لعلمه بما قالوه في صورة استفهام إنكاري: {وما} أي وأي شيء {علمي بما كانوا يعملون*} أي قبل أن يتبعوني، أي وما لي وللبحث عن ذلك، إنما لي ظاهرهم الآن وهو
(14/64)
 
 
خير ظاهر، فهم الأشرفون وإن كانوا أفقر الناس وأخسهم نسبا، فإن الغني غني الدين، والنسب نسب التقوى؛ ثم أكد أنه لا يبحث عن بواطنهم بقوله: {إن} أي ما {حسابهم} أي في الماضي والآتي {إلا على ربي} المحسن إلي باتباعهم لي ليكون لي مثل أجرهم، المخفف عني أن يكلفني بحاسبهم وتعرف بواطنهم، لأنه المختص بضبط جميع الأعمال والحساب عليها {لو تشعرون*} أي لو كان لكم نوع شعور لعلمتم ذلك فلم تقولوا ما قلتم مما هو دائر على أمور الدنيا فقط، ولا نظر له إلى يوم الحساب.
ولما أفهم قوله رد ما أفهمه قولهم من طردهم، صرح به في قوله: {وما} أي ولست {أنا بطارد المؤمنين*} أي الذين صار الإيمان لهم وصفا راسخا فلم يرتدوا عنه للطمع في إيمانكم ولا لغيره من اتباع شهواتكم؛ ثم علل ذلك بقوله: {إن} أي ما {أنا إلا نذير} أي محذر، لا وكيل مناقش على البواطن، ولا متعنت على الاتباع {مبين*} أوضح ما أرسلت به فلا أدع فيه لبسا.
ولما أياسهم مما أرادوا من طرد أتباعه لما أوهموا من اتباعه لو طردهم خداعا، أقبلوا على التهديد، فاستأنف سبحانه الإخبار عن ذلك بقوله: {قالوا لئن لم تنته} ثم سموه باسمه جفاء وقلة أدب فقالوا:
(14/65)
 
 
{يا نوح لتكونن من المرجومين*} أي المقتولين، ولا ينفعك أتباعك هؤلاء الضعفاء.
(14/66)
 
 
قال رب إن قومي كذبون (117) فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين (118) فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون (119) ثم أغرقنا بعد الباقين (120) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (121) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (122) كذبت عاد المرسلين (123) إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون (124) إني لكم رسول أمين (125) فاتقوا الله وأطيعون (126) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (127) أتبنون بكل ريع آية تعبثون (128) وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون (129)
ولما أيس منهم بما سمع من المبالغة بالتأكيد في قولهم، ورأى بما يصدقه من فعلهم، قال تعالى مخبرا عنه جوابا لسؤال من يريد تعرف حاله بعد ذلك: {قال} شاكيا إلى الله تعالى ما هو أعلم به منه توطئة للدعاء عليهم وإلهابا إليه وتهييجا، معرضا عن تهديدهم له صبرا واحتسابا، لأنه من لازم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واكتفاء عنه بسببه: {رب} أي أيها المحسن إلي.
ولما كان الحال مقتضيا لأن يصدقوه لما له في نفسه من الأمانة، وبهم من القرابة، ولما أقام على ما دعاهم إليه من الأدلة مع ما له في نفسه من الوضوح، أكد الإخبار بتكذيبهم، إعلاما بوجوده، وبإنه تحققه منهم من غير شك فقال: {إن قومي كذبون*} أي فلا نية لهم في اتباعي {فافتح} أي احكم {بيني وبينهم فتحا} أي حكما يكون لي فيه فرج، وبه من الضيق مخرج، فأهلك المبطلين وأنجز حتفهم {ونجني ومن معي} أي في الدين {من المؤمنين*} مما تعذب به الكافرين.
(14/66)
 
 
ولما كان في إهلاكهم وإنجائه من بديع الصنع ما يجل عن الوصف، أبرزه في مظهر العظمة فقال: {فأنجيناه ومن معه} أي ممن لا يخالفه في الدين على ضعفهم وقتلهم {في الفلك} ولما كانت سلامة المملوء جدا أغرب قال: {المشحون*} أي المملوء بمن حمل فيه من الناس والطير وسائر الحيوان وما حمل من زادهم وما يصلحهم.
ولما كان إغراقهم كلهم من الغرائب عظمه بأداة البعد - ومظهر العظمة فقال: {ثم أغرقنا بعد} أي بعد حمله الذي هو سبب إنجائه {الباقين*} أي من بقي على الأرض ولم يركب معه في السفينة على قوتهم وكثرتهم، وكان ذلك علينا يسيرا.
ولما كان ذلك أمرا باهرا، عظمه بقوله: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من الدعاء والإمهال ثم الإنجاء والإهلاك {لآية} أي عظيمة لمن شاهد ذلك أو سمع به، على أنا ننتقم ممن عصانا، وننجي من أطاعنا، وأنه لا أمر لأحد معنا فيهديه إلى الإيمان، ويحمله على الاستسلام والإذعان {وما} أي والحال أنه ما {كان أكثرهم} أي أكثر العالمين بذلك {مؤمنين*} وقد ينبغي لهم إذ فاتهم الإيمان لمحض الدليل أن يبادروا إليه ويركبوا معه حين رأوا أوائل العذاب أو بعد أن ألجمهم الغرق {وإن ربك} المحسن إليك بإرسالك، وتكثير أتباعك،
(14/67)
 
 
وتعظيم أشياعك {لهو العزيز} أي القادر بعزته على كل من قسرهم على الطاعة، وإهلاكهم في أول أوقات المعصية {الرحيم*} أي الذي يخص من يشاء من عباده بخالص وداده، ويرسل إلى الضالين عن محجة العقل القويمة الرسل لبيان ما يجب وما يكره، فلا يهلك إلا بعد البيان الشافي، والإبلاغ الوافي.
ولما كان كأنه قيل: إن هذا لأمر هائل، في مثله موعظة، فما فعل من جاء بعدهم؟ هل اتعظ؟ أجيب بقوله دلالة على الوصفين معا: {كذبت عاد} أي تلك القبيلة التي مكن الله لها في الأرض بعد قوم نوح {المرسلين*} بالإعراض عن معجزة هود عليه الصلاة والسلام؛ ثم سلى هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: {إذ} أي حين {قال لهم أخوهم هود} لم يتوقفوا في تكذيبه ولم يتأخروا عن وقت دعائه لتأمل ولا غيره، وقد عرفوا صدق إخائه، وعظيم نصحه ووفائه {ألا} بصيغة العرض تأدبا معهم وتلطفا بهم ولينالهم {تتقون*} أي تكون منكم تقوى لربكم الذي خلقكم فتعبدوه وحده ولا تشركوا به ما لا يضر ولا ينفع؛ ثم علل بقوله: {إني لكم رسول} أي فهو الذي حملني على أن أقول لكم ذلك {أمين} أي لا أكتم عنكم شيئا مما أمرت به ولا أخالف شيئا منه {فاتقوا} أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم: اتقوا {الله} الذي هو أعظم من كل شيء {وأطيعون*} أي في
(14/68)
 
 
كل ما آمركم به من دوام تعظيمه {وما} أي أنا رسول داع والحال أني ما {أسئلكم عليه} أي الدعاء {من أجر} فتتهموني به {إن} أي ما {أجري إلا على رب العالمين*} .
ولما فرغ من الدعاء إلى الأصل، وهو الإيمان بالرسول والمرسل، أتبعه إنكار بعض ما هم عليه مما أوجبه الكفر، وأوجب الاشتغال به الثبات على الغي، واعظا لهم بما كان لمن قبلهم من الهلاك، مقدمة على زيادة التأكيد في التقوى والطاعة لأن حالهم حال الناسي لذلك الطوفان، الذي أهلك الحيوان، وهدم البنيان فقال: {أتبنون بكل ريع} أي مكان مرتفع؛ قال أبو حيان: وقال أبو عبيدة: الريع الطريق. وقال مجاهد: الفج بين الجبلين، وقيل: السبيل سلك أم لم يسلك. وأصله في اللغة الزيادة {آية} أي علامة على شدتكم لأنه لو كان لهداية أو نحوها لكفى بعض الأرياع دون كلها.
ولما كان إقامة الدليل على قوتهم بمثل ذلك قليل الجدوى عند التأمل، قال: {تعبثون*} والعاقل ينبغي له أن يصون أوقاته النفيسة
(14/69)
 
 
عن العبث الذي لا يكون سبب نجاته، وكيف يليق ذلك بمن الموت من ورائه.
ولما كان من يموت لا ينبغي له إنكار الموت بفعل ولا قول قال: {وتتخذون مصانع} أي أشياء بأخذ الماء، أو قصورا مشيدة وحصونا تصنعونها، هي في إحكامها بحيث تأكل الدهر قوة وثباتا، فلا يبنيها إلا من حاله حال الراجي للخلود، ولذلك قال: {لعلكم تخلدون*} وهو معنى ما في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما من تفسيرها بكأنكم.
(14/70)
 
 
وإذا بطشتم بطشتم جبارين (130) فاتقوا الله وأطيعون (131) واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون (132) أمدكم بأنعام وبنين (133) وجنات وعيون (134) إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (135) قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين (136) إن هذا إلا خلق الأولين (137) وما نحن بمعذبين (138) فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (139) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (140) كذبت ثمود المرسلين (141) إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون (142) إني لكم رسول أمين (143)
ولما بين أن عملهم عمل من لا يخاف الموت، أتبعه ما يدل على أنهم لا يظنون الجزاء فقال: {وإذا بطشتم} أي بأحد، أخذتموه أخذ سطوة في عقوبة {بطشتم جبارين*} أي غير مبالين بشيء من قتل أو غيره؛ قال البغوي: والجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب.
ولما خوفهم لهذا الإنكار عقاب الجبار، تسبب عنه أن قال: {فاتقوا الله} أي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام {وأطيعون*} .
ولما كان ادكار الإحسان موجبا للإذعان، قال مرغبا في الزيادة ومرهبا من الحرمان: {واتقوا الذي أمدكم} أي جعل لكم مددا،
(14/70)
 
 
وهو إتباع الشيء بما يقويه على الانتظام {بما تعلمون*} أي ليس فيه نوع خفاء حتى تعذروا في الغفلة عن تقييده بالشكر.
ولما أجمل، فصل ليكون أكمل، فقال: {أمدكم بأنعام} أي تعينكم على الأعمال وتأكلون منها وتبيعون. ولما قدم ما يقيم الأود، أتبعه قوله: {وبنين*} أي يعينونكم على ما تريدون عند العجز. ثم أتبعه ما يحصل كمال العيش فقال: {وجنات} أي بساتين ملتفة الأشجار بحيث تستر داخلها، وأشار إلى دوام الري بقوله: {وعيون*} .
ولما كانوا في إعراضهم كأنهم يقولون: ما الذي تبقيه منه؟ قال: {إني أخاف عليكم} أي لأنكم قومي يسوءني ما يسوءكم - إن تماديتم على المعصية {عذاب يوم عظيم*} وتعظيم اليوم أبلغ من تعظيم العذاب {قالوا} راضين بما عندهم من داء الإعجاب، الموقع في كل ما عاب، {سواء علينا أوعظت} أي خوفت وحذرت وكنت علامة زمانك في ذلك بأن تقول منه ما لم يقدر أحد على مثله، دل على ذلك قوله: {أم لم تكن من الواعظين*} أي متأهلا لشيء من رتبة الراسخين في الوعظ، معدودا في عدادهم، مذكورا فيما بينهم، فهو أبلغ من «أم لم تعظ» أو «تكن واعظا، والوعظ - كما قال البغوي: كلام
(14/71)
 
 
يلين القلب بذكر الوعد والوعيد. والمعنى أن الأمر مستو في الحالتين في أنا لا نطيعك في شيء؛ ثم عللوا ذلك بقولهم: {إن} أي ما {هذا} أي الذي جئتنا به {إلا خلق} بفتح الخاء وإسكان اللام في قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي {الأولين*} أي كذبهم، أو ما هذا الذي نحن فيه إلا عادة الأولين في حياة ناس وموت آخرين، وعافية قوم وبلاء آخرين، وعليه تدل قراءة الباقين بضم الخاء واللام {وما نحن بمعذبين*} لأنا أهل قوة وشجاعة ونجدة وبراعة.
ولما تضمن هذا التكذيب، سبب عنه قوله: {فكذبوه} ثم سبب عنه قوله: {فأهلكناهم} أي بالريح بما لنا من العظمة التي لا تذكر عندها عظمتهم، والقوة التي بها كانت قوتهم {إن في ذلك} أي الإهلاك في كل قرن للعاصين والإنجاء للطائعين {لآية} أي عظيمة لمن بعدهم على أنه سبحانه فاعل ذلك وحده بسبب أنه يحق الحق ويبطل الباطل، وأنه مع أوليائه ومن كان معه لا يذل وعلى أعدائه ومن كان عليه لا يعز {وما كان أكثرهم} أي أكثر من كان بعدهم {مؤمنين*} فلا تحزن أنت على من أعرض عن الإيمان {وإن ربك} أي المحسن إليك بإرسالك وغيره من النعم {لهو العزيز} في انتقامه {الرحيم*} في إنعامه وإكرامه وإحسانه، مع عصيانه وكفرانه، وإرسال المنذرين
(14/72)
 
 
وتأييدهم بالآيات المعجزة لبيان الطريق الأقوم، والمنهج الأسلم، فلا يهلك إلا بعد الإعذار بأبلغ الإنذار؛ ثم دل على ذلك لمن قد ينسى إذ كان الإنسان مجبولا على النسيان بقوله: {كذبت ثمود} وهو أهل الحجر {المرسلين*} وأشار إلى زيادة التسلية بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تأمل ولا توقف بقوله: {إذ} أي حين {قال لهم أخوهم} أي الذي يعرفون صدقه وأمانته، وشفقته وصيانته {صالح} وأشار إلى تلطفه بهم بقوله على سبيل العرض {ألا تتقون*} ثم علل ذلك بقوله: {إني لكم رسول} أي من الله، فلذلك عرضت عليكم هذا لأني مأمور بذلك، وإلا لم أعرضه عليكم {أمين*} لا شيء من الخيانة عندي، بل أنصح لكم في إبلاغ جميع ما أرسلت به إليكم من خالقكم، الذي لا أحد أرحم بكم منه.
(14/73)
 
 
فاتقوا الله وأطيعون (144) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (145) أتتركون في ما هاهنا آمنين (146) في جنات وعيون (147) وزروع ونخل طلعها هضيم (148) وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين (149) فاتقوا الله وأطيعون (150) ولا تطيعوا أمر المسرفين (151) الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون (152) قالوا إنما أنت من المسحرين (153) ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين (154)
ولما قدم ذكر الرسالة فصار له عذر في المواجهة بالأمر، سبب عنه قوله {فاتقوا الله} أي الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق. ولما ذكر الأمانة قال: {وأطيعون*} .
ولما أثبت ما يوجب الإقبال عليه، نفى ما يستلزم عادة الإدبار عنه فقال: {وما} أي إني لكم كذا والحال أني ما {أسئلكم عليه} وأعرق في النفي بقوله: {من أجر} ثم زاد في تأكيد هذا
(14/73)
 
 
النفي بقوله: {إن} أي ما {أجري} على أحد {إلا على رب العالمين*} أي المحسن إليهم أجمعين، منه أطلب أن يعطيني كما أعطاهم.
ولما ثبتت الأمانة، وانتفى موجب الخيانة، شرع ينكر عليهم أكل خيره وعبادة غيره، فقال مخوفا لهم من سطواته، ومرغبا في المزيد من خيراته. منكرا عليهم إخلادهم إلى شهوة البطن، واستنادهم إلى الرفاهية والرضى بالفاني: {أتتركون} أي من ايدي النوائب التي لا يقدر عليها إلا الله {في ما هاهنا} أي في بلادكم هذه من النعم حال كونكم {آمنين*} أي أنتم تبارزون الملك القهار بالعظائم.
ولما كان للتفسير بعد الإجمال شأن. بين ما أجمل بقوله مذكرا لهم بنعمة الله ليشكروها: {في جنات} أي بساتين تستر الداخل فيها وتخفيه لكثرة أشجارها {وعيون*} تسقيها مع ما لها من البهجة وغير ذلك من المنافع {وزروع} وأشار إلى عظم النخيل ولا سيما ما كان عندهم بتخصيصها بالذكر بعد دخولها في الجنات بقوله: {ونخل طلعها} أي ما يطلع منها من الثمر؛ قال الزمخشري: كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو، والقنو اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه وشماريخه. {هضيم*} أي جواد كريم من قولهم: يد هضوم - إذا كانت تجود بما لديها، وتفسيره بذلك يجمع أقوال العلماء، وإليه يرجع ما قال أبو عبد الله
(14/74)
 
 
القزاز معناه أنه قد هضم - أي ضغط - بعضه بعضا لتراكمه، فإنه لا يكون كذلك إلا وهو كثير متقارب النضد، لا فرج بينه، ولطيف لين هش طيب الرائحة، من الهضم بالتحريك، وهو خمس البطن ولطف الكشح؛ والهاضم وهو ما فيه رخاوة، والهضم: البخور، والمهضومة: طيب يخلط بالمسك واللبان؛ قال الرازي في اللوامع: أو يانع نضيج لين رخو ومتهشم متفتت إذا مس، أو يهضم الطعام، وكل هذا يرجع إلى لطافته.
ولما ذكر اللطيف من أحوالهم، أتبعه الكثيف من أفعالهم، فقال عطفا على {أتتركون} أو مبينا لحال الفاعل في {آمنين} : {وتنحتون} أي والحال أنكم تنحتون إظهارا للقدرة {من الجبال بيوتا فارهين*} أي مظهرين النشاط والقوة، تعظيما بذلك وبطرا، لا لحاجتكم إلى شيء من ذلك {فاتقوا} أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم: اتقوا {الله} الذي له جميع العظمة بأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية باتباع أوامره؛ واجتناب زواجره {وأطيعون*} أي في كل ما آمركم به وأنهاكم عنه.
فإني لا آمركم إلا بما يصلحكم فيكون سببا لحفظ ما أنتم فيه وتزدادون {ولا تطيعوا} .
(14/75)
 
 
ولما كان لانقياد للآمر إنما هو بواسطة ما ظهر من أمره قال: {أمر المسرفين*} اي المتجاوزين للحدود الذي صار لهم ذلك خلقا: ثم وصفهم بما بين إسرافهم، وهو ارتكاب الفساد الخالص المصمت الذي لا صلاح معه فقال: {الذين يفسدون في الأرض} أي يعملون ما يؤدي إلى الفساد لكونه غير محكم باستناده إلى الله.
ولما كان ربما ادعى في بعض الفساد أن فيه صلاحا، نفى ذلك بقوله: {ولا يصلحون*} أي لأنهم أسسوا أمرهم على الشرط فصاروا بحيث لا يصلح لهم عمل وإن تراءى غير ذلك، أو أن المعنى أن المسرف من كان عريقا في الإسراف بجمع هذين الأمرين.
ولما دعا إلى الله تعالى بما لا خلل فيه، فعلموا أنهم عاجزون عن الطعن في شيء منه، عدلوا إلى التخييل على عقول الضعفاء بأن {قالوا إنما أنت من المسحرين*} أي الذين بولغ في سحرهم مرة بعد مرة مع كونهم آدميين ذمي سحور، وهي الرئات، فأثر فيك السحر حتى غلب عليك؛ ونقل البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معناه: من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب، يقال: سحره أي علله بالطعام والشراب. ويؤيده تفسيره بقولهم إشارة إلى أنه لا يصلح للرسالة:
(14/76)
 
 
{ما أنت إلا بشر مثلنا} أي فما وجه خصوصيتك عنا بالرسالة، وهل يكون الرسول من البشر، وإتباعهم الوصف الوصف من غير عطف عليه يدل على أنهم غير جازمين بتكذيبه. فالوصفان عندهم بمنزلة شيء واحد كما إذا قيل: الزمان حلو حامض، أي مر، ويؤيد كونهم في رتبة الشك لم يتجاوزوها إلى الجزم أو الظن بالتكذيب قولهم: {فأت بآية} أي علامة تدلنا على صدقك {إن كنت} أي كونا هو غاية الرسوخ {من الصادقين*} أي العريقين في الصدق بخلاف ما يأتي قريبا في قصة شعيب عليه السلام.
(14/77)
 
 
قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم (155) ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم (156) فعقروها فأصبحوا نادمين (157) فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (158) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (159) كذبت قوم لوط المرسلين (160) إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون (161) إني لكم رسول أمين (162) فاتقوا الله وأطيعون (163)
ولما أسرع الله تعالى في إجابته حين دعا أن يعطيهم ما اقترحوا، أشار إلى ذلك بقوله: {قال} أي جوابا لاقتراحهم: تعالوا نظروا ما آتيكم به آية على صدقي، فأتوا فأخرج الله له من الصخرة ناقة عشراء كما اقترحوا، فقال مشيرا إليها بأداة القرب إشارة إلى سهولة إخراجها وسرعته: {هذه ناقة} أي أخرجها ربي من الصخرة كما اقترحتم؛ ثم أشار إلى أن في هذه الآية آية أخرى بكونها تشرب ماء البئر كله في يوم وردها وتكف عنه في اليوم الثاني لأجلهم، بقوله: {لها شرب} أي نصيب من الماء في يوم معلوم {ولكم شرب يوم} أي نصيب
(14/77)
 
 
من الماء في يوم {معلوم*} لازحام بينكم وبينها في شيء من ذلك.
ولما أرشد السياق إرشادا بينا إلى أن المعنى: فخذوا شربكم واتركوا لها شربها، عطف عليه قوله: {ولا تمسوها بسوء} أي كائنا ما كان وإن قل، لأن ما كان من عند الله يجب إكرامه، ورعايته واحترامه؛ ثم خوفهم بما يتسبب عن عصيانهم فقال: {فيأخذكم} أي يهلككم {عذاب يوم عظيم*} بسبب ما حل فيه من العذاب، فهو أبلغ من وصف العذاب بالعظم، وأشار إلى سرعة عصيانهم بفاء التعقيب في قوله: {فعقروها} أي قتلوها بضرب ساقها بالسيف.
ولما تسبب عن عقرها حلول مخايل العذاب، أخبر عن ندمهم على قتلها من حيث إنه يفضي إلى الهلاك، لا من حيث إنه معصية لله ورسوله. فقال: {فأصبحوا نادمين*} أي على عقرها لتحقق العذاب؛ وأشار إلى أن ذلك الندم لا على وجه التوبة أو أنه عند رؤية البأس فلم ينفع، أو أن ذلك كناية عن أن حالهم صار حال النادم، لا أنه وجد منهم ندم على شيء ما، فإنه نقل عنهم أنه أتاهم العذاب
(14/78)
 
 
العذاب وهو يحاولون أن يقتلوا صالحا عليه السلام، بقوله: {فأخذهم العذاب} أي المتوعد به.
ولما كان في الناقة وفي حلول المخايل كما تقدم أعظم دليل على صدق الرسول الداعي إلى الله قال: {إن في ذلك لآية} أي دلالة عظيمة على صحة ما أمروا به عن الله، {وما} أي والحال أنه مع ذلك ما {كان أكثرهم مؤمنين*} .
ولما كان ربما توهم أنه سبحانه غير متصف بالعزة لعدم قسرهم على الإيمان، أو بالرحمة لإهلاكهم، قال: {وإن ربك لهو العزيز} أي فلا يخرج شيء من قبضته وإرادته، وهو الذي أراد لهم الكفر {الرحيم*} في كونه لم يهلك أحدا حتى أرسل إليهم رسولا فبين لهم ما يرضاه سبحانه وما يسخطه، وأبلغ في إنذارهم حتى أقام الحجة بذلك، ثم هو سبحانه يضل من يشاء لما تعلم من طبعه على ما يقتضي الشقاوة، ويوفق من علم منه الخير لما يرضيه، فيتسبب عن ذلك سعادته، وفي تكريره سبحانه هذه الآية آخر كل قصة على وجه التأكيد وإتباعها ما دلت عليه من كفر من أتى بعد أصحابها.
من غير اتعاظ بحالهم، ولا نكوب عن مثل ضلالهم، خوفا من نظير نكالهم، أعظم تسلية لهذا النبي الكريم، وتخويف لكل عليم حليم، واستعطاف لكل ذي قلب سيلم، ولذلك
(14/79)
 
 
قال واصلا بالقصة: {كذبت} أي دأب من تقدم كأنهم تواصوا به {قوم لوط المرسلين*} لأن من كذب رسولا - كما مضى - فقد كذب الكل، لتساوي المعجزات في الدلالة على الصدق. وقد صرحت هذه الآية بكفرهم بالتكذيب. وبين إسراعهم في الضلال بقوله: {إذ} أي حين {قال لهم أخوهم} أي في السكنى في البلد لا في النسب لأنه ابن أخي إبراهيم عليه السلام، وهما من بلاد الشرق من بلاد بابل - وكأنه عبر بالأخوة لاختياره لمجاورتهم، ومناسبتهم بمصاهرتهم، وإقامته بينهم في مدينتهم مدة مديدة، وسنين عديدة، وإتيانه بالأولاد من نسائهم، مع موافقته لهم في أنه قروي، ثم بينه بقوله: {لوط ألا تتقون*} أي تخافون الله فتجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية.
ولما كان مضمون هذا الدعاء لهم والإنكار عليهم في عدم التقوى علل ذلك بقوله: {إني لكم} أي خاصة {رسول أمين*} أي لا شيء من غش ولا خيانة عندي، ولذلك سبب عنه قوله: {فاتقوا الله} أي لقدرته على إهلاك من يريد وتعاليه في عظمته {وأطيعون*} أي لأن طاعتي سبب نجاتكم، لأني لا آمركم إلا بما يرتضيه. ولا أنهاكم إلا عما يغضبه.
(14/80)
 
 
وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (164) أتأتون الذكران من العالمين (165) وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون (166) قالوا لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين (167) قال إني لعملكم من القالين (168) رب نجني وأهلي مما يعملون (169) فنجيناه وأهله أجمعين (170) إلا عجوزا في الغابرين (171)
ولما أثبت الداعي إلى طاعته، نفى الناهي عنها فقال: {وما أسئلكم عليه} أي الدعاء إلى الله {من أجر} أي فتتهموني بسببه؛ ونفى سؤاله لغيرهم من الخلائق بتخصيصه بالخالق فقال: {إن} أي ما {أجري إلا على رب العالمين*} أي المحسن إليهم بإيجادهم ثم تربيتهم. فلما وجدوا المقتضى لاتباعه وانتفى المانع، أنكر عليهم ما يوجب عذابهم من إيثارهم شهوة الفرج المخرج لهم إلى ما صاروا به سبة في الخلق فقال موبخا مقرعا بيانا لتفاحش فعلهم وعظمه: {أتأتون} أي إتيان المعصية {الذكران} ولعلهم كانوا يفعلون بالذكور من غير الآدميين توغلا في الشر وتجاهرا بالتهتك لقوله: {من العالمين*} أي كلهم، أو يكون المعنى: من بين الخلائق، أي أنكم اختصصتم بإتيان الذكران، لم يفعل هذا الفعل غيركم من الناكحين من الخلق {وتذرون} أي تتركون لهذا الغرض {ما خلق لكم} أي النكاح {ربكم} المحسن إليكم {من أزواجكم} أي وهن الإناث، على أن «من» للبيان، ويجوز أن تكون مبعضة، ويكون المخلوق كذلك هو القبل.
ولما كانوا كأنهم قالوا: نحن لم نترك أزواجنا، حملا لقوله على
(14/81)
 
 
الترك أصلا ورأسا وإن كانوا قد فهموا أن مراده تركهن حال الفعل في الذكور، قال مضربا عن مقالهم هذا المعلوم تقديره لما أرادوه به، حيدة عن الحق، وتماديا في الفجور: {بل أنتم قوم عادون*} أي تركتم الأزواج بتعدي الفعل بهن وتجاوزه إلى الفعل بالذكران، وليس ذلك ببدع من أمركم، فإن العدوان - الذي هو مجاوزة الحد في الشر - وصف لكم أنتم عريقون فيه، فلذلك لا تقفون عند حد حده الله تعالى.
فلما اتضح الحق، وعرف المراد، وكان غريبا عندهم، وتشوف السامع إلى جوابهم، استؤنف الإخبار عنه، فقيل إعلاما بانقطاعهم وأنهم عارفون أنه لا وجه لهم في ذلك أصلا لعدولهم إلى الفحش: {قالوا} مقسمين: {لئن لم تنته} وسموه باسمه جفاء وغلظة فقالوا: {يا لوط} عن مثل إنكارك هذا علينا.
ولما كان لما له من العظمة بالنبوة والأفعال الشريفة التي توجب إجلاله وإنكار كل من يسمعهم أن يخرج مثله، زادوا في التأكيد فقالوا: {لتكونن من المخرجين} أي ممن أخرجناه من بلدنا على وجه فظيع تصير مشهورا به بينهم. إشارة إلى أنه غريب عندهم، وأن عادتهم المستمرة نفي من اعترض عليهم، وكان قصدهم بذلك أن يكونوا هم
(14/82)
 
 
المتولين لإخراجه إهانة له للاستراحة منه، فكان إخراجه، لكن إخراج إكرام للاستراحة منهم والنجاة من عذابهم بتولي الملائكة الكرام {قال} أي جوابا لهم: {إني} مؤكدا لمضمون ما يأتي به {لعملكم} ولم يقل: قال بل زاد في التأكيد بقوله: {من القالين*} أي المشهورين ببغض هذا العمل الفاحش، العريقين في هذا الوصف، المذكورين بين الناس بمنابذة من يفعله، لا يردني عن إنكاره تهديدكم لي بإخراج ولا غيره، والقلاء: بغض شديد كأنه يقلي الفؤاد.
ولما بادأهم بمثل هذا الذي من شأنه الإفضاء إلى الشر، أقبل على من يفعل ذلك لأجله، وهو القادر على كل شيء العالم بكل شيء، فقال: {رب نجني وأهلي مما} أي من الجزاء الذي يلحقهم لما {يعملون*} .
ولما قبل سبحانه وتعالى دعاءه، أشار إلى ذلك بقوله: {فنجيناه وأهله} مما عذبناهم به بإخراجنا له من بلدهم حين ستخفافهم له، ولم يؤخره عنهم إلى حين خروجه إلا لأجله، وعين سبحانه المراد مبينا أن أهله كثير بقوله: {أجمعين*} أي أهل بيته والمتبعين له على دينه {إلا عجوزا} وهي امرأته، كائنة {في} حكم {الغابرين*} أي الماكثين الذي تلحقهم الغبرة بما يكون من الداهية فإننا لن ننجها لقضائنا بذلك في الأزل، لكونها لم تتابعه في الدين، وكان هواها مع قومها.
(14/83)
 
 
ثم دمرنا الآخرين (172) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين (173) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (174) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (175) كذب أصحاب الأيكة المرسلين (176) إذ قال لهم شعيب ألا تتقون (177) إني لكم رسول أمين (178) فاتقوا الله وأطيعون (179) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (180)
ولما ذكر نجاته المفهمة لهلاكهم، صرح به على وجه هوله بأداة التراخي لما علم غير مرة أنه كان عقب خروجه، لم يتخلل بينهما مهلة فقال: {ثم دمرنا} أي أهلكنا هلاكا بغتة صلبا أصم في غاية النكد، وما أحسن التعبير عنهم بلفظ {الآخرين*} لإفهام تأخرهم من كل وجه.
ولما كان معنى {دمرنا} : حكمنا بتدميرهم، عطف عليه قوله: {وأمطرنا} ودل على العذاب بتعديته ب «على» فقال: {عليهم مطرا} أي وأي مطر، ولذلك سبب عنه قوله: {فساء مطر المنذرين*} أي ما أسوأ مطر الذين خوفهم لوط عليه السلام بما أشار إليه إنكاره وتعبيره بالتقوى والعدوان.
ولما كان في جري المكذبين والمصدقين على نظام واحد من الهلاك والنجاة أعظم عبرة وأكبر موعظة، أشار إلى ذلك بقوله: {إن في ذلك لآية} أي دلالة عظيمة على صدق الرسل في جميع ترغيبهم وترهيبهم وتبشيرهم وتحذيرهم.
ولما كان من أتى بعد هذه الأمم كقريش ومن تقدمهم قد علموا أخبارهم، وضموا إلى بعض الأخبار نظر الديار، والتوسم في الآثار
(14/84)
 
 
قال معجبا من حالهم في ضلالهم: {وما} أي والحال أنه ما {كان أكثرهم مؤمنين*} .
ولما كان في ذلك إشارة إلى الإنذار بمثل ما حل بهم من الدمار، أتبعه التصريح بالتخويف والإطماع فقال: {وإن ربك لهو} أي وحده {العزيز} أي في بطشه بأعدائه {الرحيم*} في لطفه بأوليائه، ورفقه بأعدائه بإرسال الرسل، وبيان كل مشكل؛ ثم وصل بذلك دليله، فقال مذكرا الفعل لشدة كفرهم بدليل ما يأتي من إثبات الواو في {وما أنت إلا بشر مثلنا} : {كذب أصحاب لئيكة} أي الغيضة ذات الأرض الجيدة التي تبتلع الماء فتنبت الشجر الكثير الملتف {المرسلين*} لتكذيبهم شعيبا عليه السلام فيما أتى به من المعجزة السماوية في خرق العادة وعجز المتحدين بها عن مقاومتها - لبقية المعجزات الآتي بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {إذ قال لهم} .
ولما كانوا أهل بدو وكان هو عليه السلام قرويا، قال: {شعيب} ولم يقل: أخوهم، إشارة إلى أنه لم يرسل نبيا إلا من أهل القرى، تشريفا لهم لأن البركة والحكمة في الاجتماع، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم
(14/85)
 
 
عن التعرب بعد الهجرة، وقال: «من يرد الله به خيرا ينقله من البادية إلى الحاضرة» {ألا تتقون*} أي تكونون من أهل التقوى، وهو مخافة من الله سبحانه وتعالى.
ولما كان كأنه قيل: ما لك ولهذا؟ قال: {إني} وأشار إلى تبشيرهم إن أطاعوه بقوله: {لكم رسول} أي من الله، فهو أمرني أن أقول لكم ذلك {أمين*} أي لا غش عندي ولا خداع ولا خيانه، فلذلك أبلغ جميع ما أرسلت به، ولذلك سبب عنه قوله: {فاتقوا الله} أي المستحق لجميع العظمة، وهوالمحسن إليكم بهذه الغيضة وغيرها {وأطيعون*} أي لما ثبت من نصحي.
ولا قدم ما هو المقصود بالذات. عطف على خبر {إن} قوله: {وما أسئلكم عليه من أجر} نفيا لما ينفر عنه؛ ثم زاد في البراءة مما يوكس من الطمع في أحد من الخلق فقال: {إن} أي ما {أجري إلا على رب العالمين*} أي المحسن إلى الخلائق كلهم، فأنا لا أرجو أبدا أحدا يحتاج إلى الإحسان إليه، وإنما أعلق أملي بالمحسن الذي لا يحتاج إلى أحد، وكل أحد سائل من رفده، وآخذ من عنده ولقد اتضح أن الرسل متطابقون في الدعوة في الأمر بالتقوى والطاعة والإخلاص في العبادة، مع النصح والعفة، والأمانة والخشية والمحسبة.
(14/86)
 
 
أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين (181) وزنوا بالقسطاس المستقيم (182) ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين (183) واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين (184) قالوا إنما أنت من المسحرين (185) وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين (186) فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين (187) قال ربي أعلم بما تعملون (188) فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم (189)
ولما كان كأنه قيل: ما الذي تنعى فيه؟ قال: مبينا أن داءهم
(14/86)
 
 
حب المال، المفضي لهم إلى سوء الحال، {أوفوا الكيل} أي أتموه إتماما لا شبهة فيه إذا كلتم كما توفونه إذا اكتلتم لأنفسكم. ولما أمرهم بالإيفاء نهاهم عن النقص على وجه أعم فقال: {ولا تكونوا} أي كونا هو كالجبلة، ولعله إشارة إلى ما يعرض من نحو ذلك من الخواطر أو الهيئات التي يغلب الإنسان فيها الطبع ثم يرجع عنها رجوعا يمحوها، ولذلك قال: {من المخسرين*} أي الذين يخسرون - أي ينقصون - أنفسهم أديانها بإخسار الناس دنياهم بنقص الكيل أو غيره من أنواع النقص من كل ما يوجب الغبن، فتكونوا مشهورين بذلك بين من يفعله.
ولما أمر بوفاء الكيل، أتبعه بمثل ذلك في الوزن، ولم يجمعهما لما للتفريق من التعريف بمزيد الاهتمام فقال: {وزنوا} أي لأنفسكم وغيركم {بالقسطاس} أي الميزان الأقوم؛ وأكد معناه بقوله: {المستقيم*} .
ولما أمر بالوفاء في الوزن، أتبعه نهيا عن تركه عاما كما فعل في الكيل ليكون آكد فقال: {ولا تبخسوا} أي تنقصوا {الناس أشياءهم}
(14/87)
 
 
أي في كيل أو وزن أو غيرهما نقصا يكون كالسبخة لا فائدة فيه. ثم أتبع ذلك بما هو أعم منه فقال: {ولا تعثوا} أي تتصرفوا {في الأرض} عن غير تأمل حال كونكم {مفسدين*} أي في المال أو غيره، قاصدين بذلك الإفساد - كما تق