تفسير البغوي إحياء التراث 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

  
 
 
 
الكتاب : معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي
المؤلف : محيي السنة ، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى : 510هـ)
 
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
الْكَلْبِيُّ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ: مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ أَبِي جَهْلٍ وَصَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ: الْعَرَبَ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ: فَارِسَ وَالرُّومَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ، آتَى اللَّهُ الأنبياء عليهم السلام الملك وَأَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِمْ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، نَزَعَهُ مِنَ الْجَبَّارِينَ، وَأَمَرَ الْعِبَادَ بِخِلَافِهِمْ، وَقِيلَ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: آدَمَ وَوَلَدَهُ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ، قَالَ عَطَاءٌ: وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: فَارِسَ وَالرُّومَ، وَقِيلَ: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ مُحَمَّدًا صَلَّى الله عليه وسلّم وأصحابه، حين [1] دَخَلُوا مَكَّةَ فِي عَشْرَةِ آلَافٍ ظاهرين عليها [قهرا على أهلها] [2] ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ أَبَا جَهْلٍ وأصحابه، حتى جزت رؤوسهم وَأُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ، وَقِيلَ: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: بالإيمان والهداية [ودخول الجنة] [3] . وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بِالْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ [ودخول النار] [4] ، [وَقِيلَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ بِالطَّاعَةِ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِالْمَعْصِيَةِ] [5] ، وَقِيلَ: تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ بِالنَّصْرِ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِالْقَهْرِ، وَقِيلَ: تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ بِالْغِنَى، وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِالْفَقْرِ، وَقِيلَ: تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ بِالْقَنَاعَةِ وَالرِّضَى، وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِالْحِرْصِ وَالطَّمَعِ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ، أَيْ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا. قَالَ تَعَالَى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ: 81] ، أَيِ: الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا. إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
 
[سُورَةُ آل عمران (3) : آية 27]
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، أَيْ: تُدْخِلُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ، حَتَّى يَكُونَ النَّهَارُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً وَاللَّيْلُ تِسْعَ سَاعَاتٍ، وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، حَتَّى يَكُونَ اللَّيْلُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً، وَالنَّهَارُ تِسْعَ سَاعَاتٍ، فَمَا نَقَصَ مِنْ أَحَدِهِمَا زَادَ فِي الْآخَرِ، وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ الْمَيِّتِ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ هَاهُنَا وَفِي الْأَنْعَامِ وَيُونُسَ وَالرُّومِ [6] ، وفي الأعراف: لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [الأعراف: 57] ، وَفِي فَاطِرٍ: إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ [فاطر: 9] ، زَادَ نَافِعٌ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: 122] ، ولَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات: 12] والْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس:
33] فيشددها والآخرون يخففونها وشدّد يعقوب وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ولَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات: 12] ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: يُخْرِجُ الْحَيَوَانَ مِنَ النُّطْفَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ، وَيُخْرِجُ النُّطْفَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ، [وهو حيّ] [7] ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، أَيِ: الْفَرْخَ مِنَ الْبَيْضَةِ وَيُخْرِجُ الْبَيْضَةَ مِنَ الطَّيْرِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ وَيُخْرِجُ الْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ، فَالْمُؤْمِنُ حَيُّ الْفُؤَادِ وَالْكَافِرُ مَيِّتُ الْفُؤَادِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الْأَنْعَامِ: 122] ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُخْرِجُ النَّبَاتَ الْغَضَّ الطَّرِيَّ مِنَ الْحَبِّ الْيَابِسِ، وَيُخْرِجُ الحب اليابس من النبات الطري [8] النامي.
__________
(1) في المطبوع «حتى» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) ما بين المعقوفتين سقط من المخطوط.
(6) الأنعام: 95 ويونس: 31 والروم: 19.
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) في المطبوع «الْحَيِّ» .
(1/426)
 
 
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، مِنْ غَيْرِ تَضْيِيقٍ وَلَا تَقْتِيرٍ.
«376» أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بن محمد الحيري [1] أَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْهَاشِمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ أَنَا محمد بن [زنبور بْنُ أَبِي] [2] الْأَزْهَرِ أَنَا الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرٍ، أَنَا جَعْفَرُ بْنُ محمد بن أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ وَالْآيَتَيْنِ مِنْ آلِ عِمْرَانَ شَهِدَ اللَّهُ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ، وقُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إِلَى قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسابٍ مشفّعات [3] معلقات بالعرش [4] مَا بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِجَابٌ، قُلْنَ: يَا رَبُّ تُهْبِطُنَا إِلَى أَرْضِكَ وَإِلَى مَنْ يَعْصِيكَ؟ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: بِي حَلَفْتُ لَا يَقْرَؤُكُنَّ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِي دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا جَعَلْتُ الْجَنَّةَ مَثْوَاهُ عَلَى ما كان منه وأسكنته حظيرة القدس، ونظرت إِلَيْهِ بِعَيْنِيَ الْمَكْنُونَةِ، [كُلَّ يَوْمٍ سبعين مرة] [5] وقضيت لَهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ حَاجَةً أدناها المغفرة، وأعذته مِنْ كُلِّ عَدُوٍّ وَحَاسِدٍ، وَنَصَرْتُهُ منهم» . [رواه الحارث بن عمير وهو ضعيف] [6] .
 
[سورة آل عمران (3) : آية 28]
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
كَانَ الحجاج بن عمرو وابن أَبِي الْحُقَيْقِ وَقَيْسُ بْنُ زَيْدٍ [يبطنون بِنَفَرٍ] [7] مِنَ الْأَنْصَارِ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ خَيْثَمَةَ لِأُولَئِكَ النَّفَرِ: اجْتَنِبُوا هؤلاء اليهود لا يفتنوكم عن دينكم [ويخرجوكم عن طاعة الله ورسوله] [8] ، فَأَبَى أُولَئِكَ النَّفَرُ إِلَّا مُبَاطَنَتَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَغَيْرِهِ، وَكَانُوا يُظْهِرُونَ الْمَوَدَّةَ لِكُفَّارِ مَكَّةَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ: عَبْدِ اللَّهِ بن أبي
__________
376- موضوع. إسناده ساقط، وعلته الحارث بن عمير، فقد قال الحاكم كما في «الميزان» (1/ 440) : روى عن جعفر الصادق أحاديث موضوعة، ثم ذكر الذهبي هذا الحديث، ونقل عن ابن حبان قوله: موضوع لا أصل له، ووافقه، ونص على وضع هذا الحديث الأئمة: ابن حبان وابن خزيمة وابن الجوزي، والذهبي لكنه موافقة.
- وأخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (125) وابن حبان في «المجروحين» (1/ 223) وابن الجوزي في «الموضوعات» (1/ 244- 245) من طريق محمد بن زنبور بن أبي الأزهر، عن الحارث بن عمير به.
قال ابن حبان: موضوع لا أصل له، والحارث بن عمير كان يروي عن الأثبات الأشياء الموضوعات.
ووافقه ابن الجوزي وزاد: وقال ابن خزيمة: الحارث كذاب، ولا أصل لهذا الحديث اهـ. وضعفه المصنف بالحارث بن عمير! وانظر «تفسير الشوكاني» (479) بتخريجي، وهو حديث باطل لا أصل له، وألفاظه تدل على وضعه، والله أعلم. [.....]
(1) في المطبوع «الحنقي» .
(2) ما بين المعقوفتين زيادة من «التقريب» و «تهذيب الكمال» للمزي.
(3) «مشفعات» سقط من المخطوط.
(4) لفظ «بالعرش» سقط من المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط وط.
(6) زيد في المطبوع وط.
(7) كذا في المطبوع، وفي- ط «يظنون بنفر» وهو في «أسباب النزول» «يباطنون نفرا» وتصحف في المخطوط إلى ناظر والنفر» .
(8) زيادة عن المخطوط، وليست في النسخ وكتب الحديث والأثر.
(1/427)
 
 
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
وَأَصْحَابِهِ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ الْيَهُودَ وَالْمُشْرِكِينَ وَيَأْتُونَهُمْ بِالْأَخْبَارِ، وَيَرْجُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الظَّفَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ الله هَذِهِ الْآيَةَ وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مِثْلِ فِعْلِهِمْ [1] ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ، أَيْ: مُوَالَاةَ الْكُفَّارِ فِي نَقْلِ الْأَخْبَارِ إِلَيْهِمْ وَإِظْهَارِهِمْ عَلَى عَوْرَةِ [2] الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، أَيْ: لَيْسَ مِنْ دِينِ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً، يَعْنِي: إِلَّا أَنْ تَخَافُوا مِنْهُمْ مَخَافَةً، قَرَأَ مُجَاهِدٌ وَيَعْقُوبُ: «تَقِيَّةً» عَلَى وَزْنِ بَقِيَّةٍ لِأَنَّهُمْ كَتَبُوهَا بِالْيَاءِ، وَلَمْ يَكْتُبُوهَا بِالْأَلِفِ: مِثْلَ حَصَاةٍ وَنَوَاةٍ، وهي مصدر يقال: تقيت تُقَاةً وَتَقَى تَقِيَّةً وَتَقْوًى، فَإِذَا قُلْتَ: اتَّقَيْتَ كَانَ الْمَصْدَرُ [3] الِاتِّقَاءَ، وَإِنَّمَا قَالَ تَتَّقُوا مِنَ الِاتِّقَاءِ، ثُمَّ قَالَ: تُقَاةً وَلَمْ يَقُلِ: اتِّقَاءً لِأَنَّ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ إِذَا كَانَ وَاحِدًا يَجُوزُ إِخْرَاجُ مَصْدَرِ أَحَدِهِمَا عَلَى لَفْظِ [4] الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: 8] ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَمُدَاهَنَتِهِمْ وَمُبَاطَنَتِهِمْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الكفار غالبين ظاهرين [على المؤمنين] [5] ، أَوْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ فِي قَوْمٍ كفار يخافهم فيداريهم [ويداهنهم] [6] بِاللِّسَانِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ دَفْعًا عن نفسه [مضارتهم ما أمكن] [7] ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِلَّ دَمًا حَرَامًا أَوْ مَالًا حَرَامًا أَوْ يُظْهِرَ الْكُفَّارَ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّقِيَّةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ خَوْفِ الْقَتْلِ وَسَلَامَةِ النِّيَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْلِ: 106] ثُمَّ هَذَا رُخْصَةٌ، فَلَوْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ فَلَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ، وَأَنْكَرَ قَوْمٌ التَّقِيَّةَ الْيَوْمَ، قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَمُجَاهِدٌ: كَانَتِ التَّقِيَّةُ [8] في جدّة الْإِسْلَامِ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ الدِّينِ وَقُوَّةِ المسلمين، [فأما الْيَوْمَ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ] [9] ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَّقُوا مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَقَالَ يَحْيَى الْبَكَّاءُ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي أَيَّامِ الْحَجَّاجِ إِنَّ الْحَسَنَ كان يقول لكم: تقية بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ تَقِيَّةٌ، وإنما التَّقِيَّةُ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، أي: [و] يُخَوِّفُكُمُ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ عَلَى مُوَالَاةِ الكفار وارتكاب المنهي [10] ومخالفة الأمور [11] ، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ.
 
[سورة آل عمران (3) : الآيات 29 الى 30]
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)
. قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ [12] ، ما في قلوبكم من مودّة الكفارة، أَوْ تُبْدُوهُ من مُوَالَاتُهُمْ، قَوْلًا وَفِعْلًا، يَعْلَمْهُ اللَّهُ، قال الْكَلْبِيُّ: إِنْ تُسِرُّوا مَا فِي قُلُوبِكُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّكْذِيبِ، أَوْ تُظْهِرُوهُ بِحَرْبِهِ وَقِتَالِهِ، يَعْلَمْهُ اللَّهُ ويحفظه عليكم حتى يجازيكم [في الدنيا بالأسر والقتل بنصره عليكم وفي الآخرة بالعذاب الشديد] [13] ، ثم قال: وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، يَعْنِي: [إِذَا كَانَ] [14]
__________
(1) في المخطوط «قولهم» .
(2) في المخطوط «عورات» .
(3) في المخطوط «مصدره» .
(4) في المخطوط «عن اللفظ» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط. [.....]
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) زيادة عن المخطوط وط.
(9) سقط من المخطوط.
(10) في المخطوط «النهي» .
(11) في المخطوط «الأمر» .
(12) زيادة عن المخطوط، وفي ط «أي» بدل «ما في» .
(13) ما بين المعقوفتين زيادة عن المخطوط.
(14) ما بين المعقوفتين في المخطوط «إذ» .
(1/428)
 
 
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي السموات ولا في الأرض؟ فكيف يخفى عَلَيْهِ مُوَالَاتُكُمُ الْكُفَّارَ وَمَيْلُكُمْ إِلَيْهِمْ بِالْقَلْبِ؟ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ نصب يَوْمَ بِنَزْعِ حَرْفِ الصِّفَةِ، أَيْ: فِي يَوْمِ، وَقِيلَ:
بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيِ اذْكُرُوا وَاتَّقُوا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ، مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً لَمْ يُبْخَسْ مِنْهُ شَيْءٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً [الْكَهْفِ: 49] ، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ خَبَرًا [1] فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ، أَيْ تَجِدُ مُحْضَرًا مَا عَمِلَتْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَتُسَرُّ بِمَا عَمِلَتْ مِنَ الْخَيْرِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ خَبَرًا [2] مُسْتَأْنَفًا، دَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ وَدَّتْ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا» ، قَوْلُهُ تَعَالَى: تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها، أَيْ: بَيْنَ النَّفْسِ وَبَيْنَهُ، يَعْنِي: وَبَيْنَ السُّوءِ أَمَداً بَعِيداً، قَالَ السُّدِّيُّ: مَكَانًا بَعِيدًا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَالْأَمَدُ الْأَجَلُ، وَالْغَايَةُ الَّتِي ينتهى إليها، قال الْحَسَنُ: يَسُرُّ أَحَدَهُمْ أَنْ لَا يَلْقَى عَمَلَهُ أَبَدًا، وَقِيلَ: يَوَدُّ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ.
 
[سورة آل عمران (3) : الآيات 31 الى 32]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حَيْثُ قَالُوا: نَحْنُ أبناء الله وأحبّاؤه.
ع «377» وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قُرَيْشٍ وَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَقَدْ نَصَبُوا أَصْنَامَهُمْ وَعَلَّقُوا عَلَيْهَا بَيْضَ النَّعَامِ وَجَعَلُوا فِي آذَانِهَا الشُّنُوفَ [3] وَهُمْ يَسْجُدُونَ لَهَا، فَقَالَ:
«والله [4] يا معشر قريش لَقَدْ خَالَفْتُمْ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ» ، فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: إِنَّمَا نَعْبُدُهَا حُبًّا لِلَّهِ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ وَتَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ ليقرّبوكم إليه [زلفى] [5] ، فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، فَأَنَا رَسُولُهُ إِلَيْكُمْ وَحُجَّتُهُ عَلَيْكُمْ، [أَيِ:] [6] اتَّبِعُوا شَرِيعَتِي وَسُنَّتِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، فَحُبُّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ اتِّبَاعُهُمْ أَمْرَهُ وَإِيثَارُ طَاعَتِهِ، وَابْتِغَاءُ مَرْضَاتِهِ وَحُبُّ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِمْ وَثَوَابُهُ لَهُمْ وَعَفْوُهُ عَنْهُمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[و] [7] قيل: لِمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَجْعَلُ طَاعَتَهُ كَطَاعَةِ الله
__________
377- ع لا أصل له عن ابن عباس، الضحاك لم يلق ابن عباس، وهو بدون إسناد، فلا حجة فيه، وهو منكر، وذكره الواحدي في «الوسيط» (1/ 429) و «أسباب النزول» (203) من طريق جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عباس بدون إسناد. وعامة روايات الضحاك، عن ابن عباس إنما هي من طريق جويبر بن سعيد، وهو متروك ليس بشيء، ولعل المصنف بسبب وهن الإسناد جعله معلقا.
1 في المطبوع «خيرا» .
2 في المطبوع «خيرا» .
(3) الشنف: القرط الأعلى.
(4) زيد في المطبوع «والله» وليس في- ط والمخطوط وكتب الأثر.
(5) زيادة من المخطوط. [.....]
(6) زيادة من المخطوط.
(7) زيادة من المخطوط.
(1/429)
 
 
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
وَيَأْمُرُنَا أَنْ نُحِبَّهُ كَمَا أَحَبَّتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا، [أَيْ] : أَعْرَضُوا عَنِ طَاعَتِهِمَا، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ، [أي] : لَا يَرْضَى فِعْلَهُمْ وَلَا يَغْفِرُ لهم [زللهم] [1] :
«378» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ أَنَا فُلَيْحٌ أَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ [2] أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى» ، قَالُوا: وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمِنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» .
«379» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَادَةَ أَنَا يزيد أنا سُلَيْمُ [3] بْنُ حَيَّانَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، أَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَوْ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ:
جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، [فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا]]
، فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا [لَهُ] [5] يَفْقَهْهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: فَالدَّارُ [6] : الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ الناس.
 
[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 35]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
قوله تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَالَتِ الْيَهُودُ نَحْنُ مِنْ أَبْنَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَنَحْنُ عَلَى دِينِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، يَعْنِي: إن الله اصطفى
__________
378- إسناده صحيح على شرط البخاري، فليح هو ابن سليمان.
أخرجه المصنف من طريق البخاري وهو في «صحيحه» (7280) عن محمد بن سنان بهذا الإسناد.
- وأخرجه أحمد 2/ 361 والحاكم 1/ 55 من طريق فليح بن سليمان به.
- وفي الباب من أبي سعيد الخدري أخرجه ابن حبان 17 والطبراني في «الأوسط» (812) وقال الهيثمي في «المجمع» (10/ 70) : ورجاله رجال الصحيح اهـ.
- ومن حديث أبي أمامة الباهلي أخرجه أحمد 5/ 258 والحاكم 1/ 55 و4/ 247 والطبراني في «الأوسط» (3173) .
قال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح غير علي بن خالد، وهو ثقة اهـ.
379- إسناده صحيح على شرط البخاري، يزيد هو ابن هارون وهو في «شرح السنة» (93) بهذا الإسناد.
- أخرجه المصنف من طريق البخاري وهو في «صحيحه» (7281) عن محمد بن عبادة بهذا الإسناد.
(1) سقط من المخطوط.
(2) زيد في المطبوع «من» وليس بشيء.
(3) في الأصل «سليمان» والتصويب من «شرح السنة» و «صحيح البخاري» .
(4) زيادة عن المخطوط و «شرح السنة» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المطبوع «أما الدار» والمثبت عن «شرح السنة» و «صحيح البخاري» .
(1/430)
 
 
هَؤُلَاءِ بِالْإِسْلَامِ، وَأَنْتُمْ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ. اصْطَفى: اخْتَارَ، افْتَعَلَ مِنَ الصَّفْوَةِ، وَهِيَ الْخَالِصُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، آدَمَ أَبُو [1] الْبَشَرِ، وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ، قِيلَ: أَرَادَ بِآلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعِمْرَانَ أَنْفُسَهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ [الْبَقَرَةِ: 248] ، يَعْنِي: مُوسَى وَهَارُونَ، وَقَالَ آخَرُونَ: آلَ إِبْرَاهِيمَ: إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا آلَ عمران فقد قال مُقَاتِلٌ: هُوَ عِمْرَانُ بْنُ يَصْهُرَ بْنِ فَاهَتْ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالِدُ [2] مُوسَى وَهَارُونَ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَوَهْبٌ: هُوَ عِمْرَانُ بْنُ أَشْهَمَ بْنِ أَمُونَ مِنْ وَلَدِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليهما السلام، وآله [3] : مَرْيَمَ وَعِيسَى، وَقِيلَ:
عِمْرَانُ بْنُ مَاثَانَ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ كُلَّهُمْ مِنْ نسلهم، عَلَى الْعالَمِينَ [أَيْ عَالَمِي زَمَانِهِمْ] [4] .
ذُرِّيَّةً، اشْتِقَاقُهَا مِنْ ذَرَأَ بِمَعْنَى خَلَقَ، وَقِيلَ: مِنَ الذَّرِّ لِأَنَّهُ استخرجهم مِنْ صُلْبِ آدَمَ كَالذَّرِّ، وَيُسَمَّى الْأَوْلَادُ [5] وَالْآبَاءُ ذُرِّيَّةً، فَالْأَبْنَاءُ ذُرِّيَّةٌ، لِأَنَّهُ ذَرَأَهُمْ، وَالْآبَاءُ ذُرِّيَّةٌ لِأَنَّهُ ذَرَأَ الْأَبْنَاءَ مِنْهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ [يس: 41] ، أَيْ: آبَاءَهُمْ، ذُرِّيَّةً نصب على معنى: اصطفى ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ، أَيْ: بَعْضُهَا مِنْ وَلَدِ بَعْضٍ، وَقِيلَ: بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فِي التَّنَاصُرِ، وَقِيلَ: بَعْضُهَا عَلَى دِينِ بَعْضٍ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ، وهي حنة بنت فاقوذا [6] أم مريم، وعمران: هو [7] ابن ماثان، وليس [هو] [8] بِعِمْرَانَ أَبِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لأن [9] بينهما ألفا وثمانمائة سنة، [وقيل: كان بين إبراهيم وموسى عليهما السلام أَلْفُ سَنَةٍ، وَبَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى عليهما السلام ألفا سنة] [10] ، وكان بنو [11] ماثان [12] رؤوس بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَحْبَارَهُمْ وَمُلُوكَهُمْ، وَقِيلَ: عِمْرَانُ بْنُ أَشْهَمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً، أَيْ: جَعَلْتُ الَّذِي فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا نَذْرًا مني لك [13] ، وَالنَّذْرُ: مَا يُوجِبُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مُحَرَّراً، أَيْ: عَتِيقًا خَالِصًا لِلَّهِ مُفْرَغًا لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَلِخِدْمَةِ الْكَنِيسَةِ، لَا أَشْغَلُهُ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَكُلُّ مَا أُخْلِصَ فَهُوَ مُحَرَّرٌ، يُقَالُ: حَرَّرْتُ الْعَبْدَ إِذَا أَعْتَقْتُهُ وَخَلَّصْتُهُ مِنَ الرِّقِّ، قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا: كَانَ الْمُحَرَّرُ إِذَا حُرِّرَ جُعِلَ في الكنيسة يقوم عليها يكنسها ويخدمها ولا يبرح [مقيما عليها] [14] حَتَّى يَبْلُغَ الْحُلُمَ، ثُمَّ يُخَيَّرُ إن أحب أقام فيها وَإِنْ أَحَبَّ ذَهَبَ حَيْثُ شَاءَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ بَعْدَ التَّخْيِيرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ والعلماء إلا من نسله محرّر لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّرًا إِلَّا الْغِلْمَانُ وَلَا تَصْلُحُ لَهُ الْجَارِيَةُ، لِمَا يُصِيبُهَا مِنَ الْحَيْضِ وَالْأَذَى، فَحَرَّرَتْ أَمُّ مَرْيَمَ مَا فِي بَطْنِهَا وَكَانَتِ الْقِصَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا وَعِمْرَانَ تَزَوَّجَا أختين، وكانت إيشاع بنت فاقوذا أم يحيى عند زكريا،
__________
(1) في المطبوع «أبا» .
(2) في المطبوع «وآله» .
(3) في المخطوط «والد» .
(4) زيادة عن المخطوط. [.....]
(5) في المطبوع «فالأولاد» .
(6) كذا في المطبوع والمخطوط، وفي- ط «قاقوذا» وهو تصحيف. وعند ابن كثير «فاقوذ» وكذا عند الطبري.
(7) زيد في المطبوع وط «عمران» .
(8) زيادة عن المخطوط.
(9) في المخطوط وط «و» بدل «لأن» .
(10) زيد في المطبوع وحده.
(11) في المخطوط «أبو» والتصويب عن- ط و «الدر المنثور» .
(12) زيد في المخطوط «من» .
(13) زيد في المطبوع وط فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
(14) زيادة عن المخطوط.
(1/431)
 
 
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
وكانت حنة بنت فاقوذا أُمُّ مَرْيَمَ عِنْدَ عِمْرَانَ، وَكَانَ قَدْ أُمْسِكَ عَنْ حَنَّةَ الْوَلَدُ حتى أيست [1] وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ، فَبَيْنَمَا هِيَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ بَصُرَتْ بِطَائِرٍ يُطْعِمُ فَرْخًا فَتَحَرَّكَتْ بِذَلِكَ نَفْسُهَا لِلْوَلَدِ، فَدَعَتِ اللَّهَ أَنْ يَهَبَ لَهَا وَلَدًا، وَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ إِنْ رَزَقْتَنِي وَلَدًا أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَيَكُونُ مِنْ سدنته وخدمه، فَحَمَلَتْ بِمَرْيَمَ فَحَرَّرَتْ مَا فِي بَطْنِهَا، وَلَمْ تَعْلَمْ مَا هُوَ، فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا:
وَيْحَكِ مَا صَنَعْتِ؟ أَرَأَيْتِ إِنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِكِ أُنْثَى [لَا] [2] تَصْلُحُ لِذَلِكَ؟ فَوَقَعَا جَمِيعًا فِي هَمٍّ مِنْ ذَلِكَ، فَهَلَكَ عِمْرَانُ وَحَنَّةُ حامل بمريم.
 
[سورة آل عمران (3) : آية 36]
فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36)
فَلَمَّا وَضَعَتْها، أَيْ: وَلَدَتْهَا، إِذَا هِيَ جَارِيَةٌ، وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: وَضَعَتْها راجعة إلى النذيرة لا إلى [ما في بطنها] [3] ، ولذلك أُنِّثَ، قالَتْ حَنَّةُ وَكَانَتْ تَرْجُو أَنْ يَكُونَ غُلَامًا، رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى، اعْتِذَارًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ، بِجَزْمِ التَّاءِ إِخْبَارًا عَنِ الله تعالى عَزَّ وَجَلَّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ وَضَعَتْ بِرَفْعِ التَّاءِ جَعَلُوهَا مِنْ كَلَامِ أَمِّ مَرْيَمَ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى، فِي خِدْمَةِ الْكَنِيسَةِ والعبّاد الذين فيها للينها وَضَعْفِهَا وَمَا يَعْتَرِيهَا مِنَ الْحَيْضِ والنفاس، وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ، وهي بِلُغَتِهِمُ الْعَابِدَةُ وَالْخَادِمَةُ، وَكَانَتْ مَرْيَمُ من أَجْمَلَ النِّسَاءِ فِي وَقْتِهَا وَأَفْضَلَهُنَّ، وَإِنِّي أُعِيذُها أَمْنَعُهَا وَأُجِيرُهَا، بِكَ وَذُرِّيَّتَها أَوْلَادَهَا مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، والشيطان الطَّرِيدُ اللَّعِينُ وَالرَّجِيمُ الْمَرْمِيُّ بِالشُّهُبِ.
«380» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا من بني آدم من مَوْلُودٌ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ الصَّبِيُّ صَارِخًا مِنَ [مسّ] [4] الشَّيْطَانِ، غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا» ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ.
«381» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
__________
380- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم، أبو اليمان هو الحكم بن نافع البهراني، وشعيب هو ابن دينار، والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب.
- وهو في «شرح السنة» (4104) بهذا الإسناد.
- أخرجه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» (3431) عن أبو اليمان بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 2366 والطبري 6887 من طريق الزهري به.
- وأخرجه البخاري 4548 ومسلم 2366 وأحمد 2/ 233 و274- 275 والطبري 6891 وابن حبان 6235. والواحدي 1/ 431.
381- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم، أبو اليمان هو الحكم بن نافع، شعيب هو ابن دينار، أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان، الأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز.
(1) في المطبوع وط «أسنت» .
(2) سقط من المطبوع. [.....]
(3) في المطبوع «ما» بدل «ما في بطنها» وفي- ط «ما ولد» .
(4) سقط من المطبوع.
(1/432)
 
 
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
إِسْمَاعِيلَ أَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَنَا شُعَيْبٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبِهِ بِأُصْبُعِهِ حِينَ يُولَدُ غَيْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذَهَبَ يطعن فطعن في الحجاب» .
 
[سورة آل عمران (3) : آية 37]
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)
قَوْلُهُ: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ، أَيْ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مَرْيَمَ مِنْ حَنَّةَ، مَكَانَ الْمُحَرَّرِ، وَتَقَبَّلَ بِمَعْنَى:
قَبِلَ وَرَضِيَ، وَالْقَبُولُ: مَصْدَرُ قَبِلَ يقبل قبولا، مثل الولوع [1] ، وَلَمْ يَأْتِ غَيْرُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَى التَّقَبُّلِ: التَّكَفُّلُ فِي التَّرْبِيَةِ وَالْقِيَامِ بِشَأْنِهَا، وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً، مَعْنَاهُ: وَأَنْبَتَهَا فَنَبَتَتْ نَبَاتًا حَسَنًا، وَقِيلَ:
هَذَا مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ اللَّفْظِ [2] ، [3] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وَمَثَلُهُ شَائِعٌ [4] كقوله:
تَكَلَّمْتُ كَلَامًا [5] ، وَقَالَ جُوَيْبِرٌ [6] عَنِ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ، أَيْ: سَلَكَ بِهَا طَرِيقَ السُّعَدَاءِ، وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا، يَعْنِي: سَوَّى خَلْقَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، فَكَانَتْ تَنْبُتُ فِي الْيَوْمِ مَا يَنْبُتُ الْمَوْلُودُ فِي الْعَامِ، وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا، قَالَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ: أَخَذَتْ حَنَّةُ مَرْيَمَ حِينَ وَلَدَتْهَا، فَلَفَّتْهَا فِي خِرْقَةٍ وَحَمْلَتْهَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَضَعَتْهَا عِنْدَ الْأَحْبَارِ أَبْنَاءِ هَارُونَ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَلُونَ مِنْ [7] بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَا يَلِي الْحَجَبَةُ مِنَ الْكَعْبَةِ، فَقَالَتْ لَهُمْ: دُونَكُمْ هَذِهِ النَّذِيرَةَ، فَتَنَافَسَ فِيهَا الأحبار [أيهم يأخذها] [8] ، لِأَنَّهَا كَانَتْ بِنْتَ إِمَامِهِمْ وَصَاحِبِ قُرْبَانِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ زَكَرِيَّا: أَنَا أَحَقُّكُمْ بِهَا، عِنْدِي خَالَتُهَا، فَقَالَتْ له الأحبار: لا تفعل ذَلِكَ فَإِنَّهَا لَوْ تُرِكَتْ لِأَحَقِّ الناس بها لَتُرِكَتْ لِأُمِّهَا الَّتِي وَلَدَتْهَا، لَكِنَّا نَقْتَرِعُ عَلَيْهَا فَتَكُونُ عِنْدَ مَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ، فَانْطَلَقُوا وَكَانُوا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ رَجُلًا إِلَى نَهْرٍ جَارٍ، قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ نَهْرُ الْأُرْدُنِّ، فَأَلْقَوْا أَقْلَامَهُمْ فِي الْمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ ثَبَتَ قَلَمُهُ فِي الماء وصعد فَهُوَ أَوْلَى بِهَا، وَقِيلَ: كَانَ عَلَى كُلِّ قَلَمٍ اسْمُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: كَانُوا يَكْتُبُونَ التَّوْرَاةَ فَأَلْقَوْا أَقْلَامَهُمُ الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ في الماء فارتدّ قَلَمُ زَكَرِيَّا، فَارْتَفَعَ فَوْقَ الْمَاءِ وَانْحَدَرَتْ أَقْلَامُهُمْ وَرَسَبَتْ فِي النَّهْرِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ، وَقِيلَ: جَرَى قَلَمُ زَكَرِيَّا مُصْعِدًا إِلَى أَعْلَى الْمَاءِ وَجَرَتْ أَقْلَامُهُمْ بجري الماء، قال السُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ:
بَلْ ثَبَتَ قَلَمُ زَكَرِيَّا وَقَامَ فَوْقَ الْمَاءِ كَأَنَّهُ فِي طِينٍ، وَجَرَتْ أَقْلَامُهُمْ مَعَ جَرْيَةِ الْمَاءِ [فَذَهَبَ بِهَا الْمَاءُ] [9] ، فسهمهم وقرعهم زكريا، وكان رَأْسَ الْأَحْبَارِ وَنَبِيَّهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا، قَرَأَ حَمْزَةُ
__________
- أخرجه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» (3286) بهذا الإسناد.
وأخرجه الحميدي 1042 من طريق أبي الزناد به.
وأخرجه مسلم 2366 ح 147 والطبري 6889 وابن حبان 6234 من طريق ابن وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عن أبي يونس مولى أبي هريرة، عن أبي هريرة.
وأخرجه الطبري 6879 و6880 من طريق عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ أبي هريرة مرفوعا.
وانظر ما تقدم.
(1) في المطبوع «الولوغ والوزوع» .
(2) في المطبوع «الصدر» وفي المخطوط «مصدر» والمثبت عن- ط وتفسير الطبري (3/ 240) .
(3) زيد في المطبوع «أي المصدر» .
(4) في المطبوع «سائغ» .
(5) لو كان مصدرا على اللفظ لكان الكلام «تكلمت تكلما» . ومثل: «أنبتها إنباتا» ، فتنبه، والله الموفق.
(6) تصحف في المطبوع إلى «جرير» .
(7) لفظ من ليس في المخطوط.
(8) زيادة عن المخطوط.
(9) زيادة عن المخطوط وط.
(1/433)
 
 
وعاصم والكسائي «كفّلها» بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ، فَيَكُونُ زَكَرِيَّا فِي مَحَلِّ النَّصْبِ أَيْ: ضَمَنَهَا اللَّهُ [زَكَرِيَّا] [1] وَضَمَّهَا إِلَيْهِ بِالْقُرْعَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ فَيَكُونُ زَكَرِيَّا فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، أَيْ: ضَمَّهَا زَكَرِيَّا إِلَى نَفْسِهِ وَقَامَ بِأَمْرِهَا، وَهُوَ زَكَرِيَّا بْنُ آذَنَ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ صَدُوقَ مِنْ أَوْلَادِ سُلَيْمَانَ بن داود عليهما السلام، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عاصم زَكَرِيَّا مقصورا، والآخرون ممدودا [2] ، فَلَمَّا ضَمَّ زَكَرِيَّا مَرْيَمَ إِلَى نَفْسِهِ بَنَى لَهَا بَيْتًا وَاسْتَرْضَعَ لها [مرضعة] [3] ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ضَمَّهَا إِلَى خَالَتِهَا أَمِّ يَحْيَى حَتَّى إِذَا شَبَّتْ وَبَلَغَتْ مَبْلَغَ النِّسَاءِ، بَنَى لَهَا مِحْرَابًا فِي الْمَسْجِدِ وَجُعِلَ بَابُهُ فِي وَسَطِهَا لَا يُرْقَى إِلَيْهَا إِلَّا بِالسُّلَّمِ مِثْلَ باب الكعبة [و] [4] لَا يَصْعَدُ إِلَيْهَا غَيْرُهُ، وَكَانَ يَأْتِيهَا بِطَعَامِهَا وَشَرَابِهَا وَدُهْنِهَا كُلَّ يَوْمٍ، كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ، [وأراد بالمحراب] [5] الغرفة [التي بناها] [6] ، وَالْمِحْرَابُ أَشْرَفُ الْمَجَالِسِ وَمُقَدَّمُهَا، وَكَذَلِكَ [7] هُوَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَيُقَالُ لِلْمَسْجِدِ أيضا: محراب، وقال الْمُبَرِّدُ: لَا يَكُونُ الْمِحْرَابُ إِلَّا أن يرتقى [عليه بدرج] [8] ، قال الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَ زَكَرِيَّا إِذَا خَرَجَ يُغْلِقُ عَلَيْهَا سَبْعَةَ أَبْوَابٍ [9] ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا غُرْفَتَهَا [10] ، وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً، أَيْ: فَاكِهَةً في غير حينها [فيرى] [11] فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْنَاهُ: مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ وَقَالَ: مَعْنَاهُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ لَكِ هَذَا لِأَنَّ أَنَّى لِلسُّؤَالِ عن الجهة و «أين» لِلسُّؤَالِ عَنِ الْمَكَانِ، قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَيْ: مِنْ قطف الجنّة، وقال الحسن: إن مريم من حين ولدت لم تلقم ثديا [12] قط بل كَانَ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ لَهَا زَكَرِيَّا أَنَّى لَكِ هذا؟ فتقول: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، تَكَلَّمَتْ وَهِيَ صَغِيرَةٌ، إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَصَابَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَزْمَةٌ، وَهِيَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَالِهَا حَتَّى ضَعُفَ زَكَرِيَّا عَنْ حَمْلِهَا، فَخَرَجَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ لَقَدْ كَبُرَتْ سِنِّي وَضَعُفْتُ عَنْ حَمْلِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، فَأَيُّكُمْ يَكْفُلُهَا بَعْدِي؟ فقالوا:
وَاللَّهِ لَقَدْ جَهِدْنَا وَأَصَابَنَا مِنَ السَّنَةِ مَا تَرَى فَتَدَافَعُوهَا بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا مِنْ حَمْلِهَا بُدًّا فَتَقَارَعُوا عَلَيْهَا بِالْأَقْلَامِ، فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى رَجُلٍ نَجَّارٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يُقَالُ لَهُ: يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَكَانَ ابْنَ عَمِّ مَرْيَمَ، فَحَمَلَهَا فَعَرَفَتْ مَرْيَمُ فِي وَجْهِهِ شِدَّةَ مُؤْنَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا يُوسُفُ أَحْسِنْ بِاللَّهِ الظَّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ سَيَرْزُقُنَا، فَجَعَلَ يُوسُفُ يُرْزَقُ بِمَكَانِهَا مِنْهُ فَيَأْتِيهَا كُلَّ يَوْمٍ مِنْ كَسْبِهِ بِمَا يُصْلِحُهَا فَإِذَا أَدْخَلَهُ عَلَيْهَا فِي الْكَنِيسَةِ أَنْمَاهُ اللَّهُ فَيَدْخُلُ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا فَيَرَى عِنْدَهَا فَضْلًا مِنَ الرِّزْقِ لَيْسَ بِقَدْرِ مَا يَأْتِيهَا بِهِ يُوسُفُ، فَيَقُولُ:
يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، قَالَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ:
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ زَكَرِيَّا قَالَ: إِنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ مَرْيَمَ بِالْفَاكِهَةِ فِي غَيْرِ حِينِهَا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ لَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يُصْلِحَ زَوْجَتِي وَيَهَبَ لِي ولدا في غير حينه على الْكِبَرِ، فَطَمِعَ فِي الْوَلَدِ وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ كَانُوا قَدِ انْقَرَضُوا، وَكَانَ زَكَرِيَّا قَدْ شَاخَ وأيس من الولد.
__________
(1) زيادة عن المخطوط وط.
(2) في المطبوع وط «يمدونه» . [.....]
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط و «الوسيط» (1/ 432) .
(5) زيد في المطبوع وط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) كذا في المطبوع وط- وتفسير الطبري (3/ 246) وفي المخطوط «ولذلك» .
(8) في المطبوع «إليه بدرجة» وكذا في- ط-.
(9) هذا من الإسرائيليات المنكرة.
(10) في المطبوع «فتحها» .
(11) زيادة عن المخطوط.
(12) في المطبوع «ثديها» .
(1/434)
 
 
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
[سورة آل عمران (3) : آية 38]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هُنالِكَ، أَيْ: عِنْدَ ذَلِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ، فدخل المحراب وغلّق الأبواب وَنَاجَى رَبَّهُ، قالَ رَبِّ، أَيْ: يَا رَبِّ، هَبْ لِي أَعْطِنِي مِنْ لَدُنْكَ، أَيْ: مِنْ عِنْدِكَ، ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، أَيْ: وَلَدًا مُبَارَكًا تَقِيًّا صَالِحًا رَضِيًّا، وَالذُّرِّيَّةُ تَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا ذَكَرًا وَأُنْثَى، وَهُوَ هَاهُنَا وَاحِدٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مَرْيَمَ: 5] ، وَإِنَّمَا قَالَ: طَيِّبَةً لِتَأْنِيثِ لَفْظِ الذُّرِّيَّةِ، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ، أَيْ: سَامِعُهُ، وَقِيلَ: مُجِيبُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) [يس: 25] ، أي: فأجيبوني.
 
[سورة آل عمران (3) : آية 39]
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فناداه بالألف، وَالْآخَرُونَ بِالتَّاءِ [فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فالتأنيث] [1] لتأنيث لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ، وَلِلْجَمْعِ مَعَ أَنَّ الذُّكُورَ إِذَا تَقَدَّمَ فِعْلُهُمْ وَهُمْ جماعة كان التأنيث فيهم أَحْسَنَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتِ الْأَعْرابُ [الْحُجُرَاتِ: 14] ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عنه [2] : يُذَكِّرُ الْمَلَائِكَةَ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّمَا نَرَى عَبْدَ اللَّهِ اخْتَارَ ذَلِكَ خِلَافًا لِلْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَوَى الشَّعْبِيُّ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي التَّاءِ وَالْيَاءِ فَاجْعَلُوهَا يَاءً، وَذَكِّرُوا الْقُرْآنَ، وَأَرَادَ بِالْمَلَائِكَةِ هَاهُنَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النحل: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ [النحل: 2] ، يعني: جبريل بالروح والوحي، وَيَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُخْبَرَ عَنِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِمْ: سَمِعْتُ هَذَا الْخَبَرَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا سَمِعَ مِنْ وَاحِدٍ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آلِ عِمْرَانَ: 173] ، يَعْنِي: نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ، إِنَّ النَّاسَ، يَعْنِي: أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ: إِذَا كَانَ الْقَائِلُ رَئِيسًا يَجُوزُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْجَمْعِ، لِاجْتِمَاعِ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَئِيسَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَلَّ مَا يُبْعَثُ إِلَّا وَمَعَهُ جَمْعٌ، فَجَرَى عَلَى ذَلِكَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ، أَيْ: فِي الْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ الْحَبْرَ الْكَبِيرَ الَّذِي يُقَرِّبُ الْقُرْبَانَ فَيَفْتَحُ بَابَ الْمَذْبَحِ، فَلَا يَدْخُلُونَ حَتَّى يَأْذَنَ لهم بالدخول، فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ، يَعْنِي: فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْمَذْبَحِ يُصَلِّي وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ شَابٍّ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بيض تلمع فَفَزِعَ مِنْهُ، فَنَادَاهُ وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا زَكَرِيَّا أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ، [قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ أَنَّ اللَّهَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، تَقْدِيرُهُ: فَنَادَتْهُ الملائكة فقالت: إنّ الله، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ بِإِيقَاعِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ] [3] ، قَرَأَ حَمْزَةُ يُبَشِّرُكَ وَبَابُهُ بِالتَّخْفِيفِ كُلَّ الْقُرْآنِ إِلَّا قَوْلَهُ: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الْحِجْرِ: 54] ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى تَشْدِيدِهَا، وَوَافَقَهُ الْكِسَائِيُّ هَاهُنَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَفِي «سبحان» و «الكهف» و «حمعسق» ، وَوَافَقَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو في «حمعسق» ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ فَهُوَ مِنْ بَشَّرَ يُبَشِّرُ تَبْشِيرًا، وَهُوَ أَعْرَبُ اللُّغَاتِ وَأَفْصَحُهَا، دَلِيلُ التَّشْدِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبادِ [الزمر: 17] ، ووَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ [الصافات: 112] ،
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) وقع في المطبوع «عنهما» .
(3) زيد في المطبوع وط.
(1/435)
 
 
قَالُوا: بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ [الْحِجْرِ: 55] ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَمَنْ خَفَّفَ فَهُوَ مِنْ بَشَرَ يَبْشُرُ وَهِيَ لُغَةُ تهامة، وقراءة ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِيَحْيى هُوَ اسْمٌ [1] لَا يُجَرُّ لِمَعْرِفَتِهِ، وَلِلزَّائِدِ فِي أَوَّلِهِ، مِثْلَ:
يَزِيدَ وَيَعَمُرَ، وَجَمْعُهُ يَحْيَوْنَ مِثْلَ مُوسَوْنَ وَعِيسَوْنَ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لم سمي يحيى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لِأَنَّ اللَّهَ أَحْيَا بِهِ عقر أمّه، [و] [2] قَالَ قَتَادَةُ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أحيا قلبه بالإيمان، [وقيل: سمّي يحيى لأنه استشهد، والشهداء أحياء، وقيل: معناه يموت] [3] ، وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَاهُ بِالطَّاعَةِ حَتَّى لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةٍ، مُصَدِّقاً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ، يَعْنِي: عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، سُمِّيَ عِيسَى كَلِمَةَ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَهُ: كُنْ مِنْ غَيْرِ أَبٍ فَكَانَ، فَوَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَلِمَةِ [لِأَنَّهُ بِهَا كَانَ] [4] ، وَقِيلَ: سُمِّيَ كَلِمَةً لِأَنَّهُ يُهْتَدَى بِهِ كَمَا يُهْتَدَى بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: هِيَ بِشَارَةُ اللَّهِ تَعَالَى لمريم بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِكَلَامِهِ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ الْأَنْبِيَاءَ بِكَلَامِهِ فِي كُتُبِهِ أَنَّهُ يَخْلُقُ نَبِيًّا بِلَا أَبٍ، فَسَمَّاهُ كَلِمَةً لِحُصُولِهِ بِذَلِكَ الْوَعْدِ، وَكَانَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَدَّقَهُ، وَكَانَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْبَرَ مِنْ عِيسَى بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَكَانَا ابْنَيِ خالة، ثُمَّ قُتِلَ يَحْيَى قَبْلَ أَنْ يرفع عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ [إِلَى السَّمَاءِ] [5] ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ، أَيْ: بِكِتَابٍ مِنَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنْشِدْنِي كَلِمَةَ فُلَانٍ، أَيْ: قَصِيدَتَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَيِّداً هو فعيل مِنْ سَادَ يَسُودُ، وَهُوَ الرَّئِيسُ الَّذِي يُتْبَعُ وَيُنْتَهَى [6] إِلَى قَوْلِهِ، قَالَ الْمُفَضَّلُ: أَرَادَ سَيِّدًا فِي الدِّينِ، قَالَ الضَّحَّاكُ:
السَّيِّدُ: الْحَسَنُ الْخُلُقَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: السَّيِّدُ الَّذِي يُطِيعُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ:
السَّيِّدُ الْفَقِيهُ الْعَالِمُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: سَيِّدٌ فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ، وَقِيلَ: الْحَلِيمُ الَّذِي لَا يُغْضِبُهُ شَيْءٌ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الْكَرِيمُ عَلَى الله تعالى، وقيل: السيد التقي [قاله الضحاك] [7] ، [و] [8] قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الَّذِي لَا يحسد، وقيل: الذي يفوق [أقرانه و] [9] قَوْمَهُ فِي جَمِيعِ خِصَالِ الْخَيْرِ، وَقِيلَ: هُوَ الْقَانِعُ بِمَا قَسَمَ الله له، وقيل: هو السخي.
ع «382» قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بُنِيَ سَلَمَةَ؟» قَالُوا: جَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى أَنَّا نُبَخِّلُهُ، قَالَ: «وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنَ الْبُخْلِ، لَكِنَّ سَيِّدَكُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ» .
__________
382- ع جيد بشواهده. ورد مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (296) وأبو الشيخ في «الأمثال» (91- 93) والخطيب في «تاريخه» (4/ 217) والقضاعي في «مسند الشهاب» (286 و287) وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 317) وإسناد البخاري حسن، رجال ثقات مشاهير، وأبو الزبير صرح عنده بالتحديث، وورد من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني 12116 وإسناده ضعيف لضعف إبراهيم بن عثمان، وبه أعله الهيثمي 15742، وورد من حديث كعب بن مالك، أخرجه الطبراني في «الصغير» (317) ، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني، وورد من حديث أبي هريرة عند الطبراني في «الأوسط» ، وأعله الهيثمي بإبراهيم بن يزيد المكي، وهو متروك. فهذا الشاهد لا يفرح به، لكن الروايات المتقدمة تتأيد بمجموعها، وورد مثله لكن في بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنُ مَعْرُورٍ بدل عمرو بن الجموح، راجع «المجمع» (9/ 315) . [.....]
(1) في المطبوع «الاسم» .
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(3) زيد في المطبوع وحده.
(4) زيادة عن المخطوط وط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المخطوط «ينتمي» .
(7) زيد في المطبوع وحده، ويدل عليه سياق الطبري (6968 و6969) .
(8) زيادة يقتضيها السياق.
(9) زيادة عن المخطوط.
(1/436)
 
 
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، والحصور: أَصْلُهُ مِنَ الْحَصْرِ وَهُوَ الْحَبْسُ، وَالْحَصُورُ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقتادة [1] ، وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَقْرَبُهُنَّ، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، يَعْنِي: أَنَّهُ يَحْصُرُ نَفْسَهُ عَنِ الشهوات، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: هُوَ [العنين الذي لا ماء لَهُ] [2] ، فَيَكُونُ الْحَصُورُ بِمَعْنَى الْمَحْصُورِ، يَعْنِي: الْمَمْنُوعَ مِنَ النِّسَاءِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ لَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، وَقَدْ تَزَوَّجَ مَعَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَغَضَّ لِبَصَرِهِ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ:
إِنَّ الْحَصُورَ [هُوَ] [3] الْمُمْتَنِعُ مِنَ الْوَطْءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَ قَوْمٌ هَذَا الْقَوْلَ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: لِأَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الثَّنَاءِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى اسْتِحْقَاقِ الثَّنَاءِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ إِلْحَاقِ الْآفَةِ بِالْأَنْبِيَاءِ.
 
[سورة آل عمران (3) : آية 40]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ رَبِّ، أَيْ: يَا سَيِّدِي، قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَجَمَاعَةٍ:
وَقِيلَ: قَالَهُ لِلَّهِ عزّ وجلّ أَنَّى يَكُونُ، يعني: أَيْنَ يَكُونُ، لِي غُلامٌ، أَيِ: ابْنٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ، هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ، أَيْ: وَقَدْ بَلَغْتُ الكبر وشخت، كما تقول: بَلَغَنِي الْجَهْدُ، أَيْ: [أَنَا فِي] [4] الْجَهْدِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَقَدْ نَالَنِيَ الْكِبَرُ وَأَدْرَكَنِي وَأَضْعَفَنِي، قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ زَكَرِيَّا يَوْمَ بُشِّرَ بِالْوَلَدِ ابن اثنتين وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ابْنُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ ابْنَ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ بِنْتَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَامْرَأَتِي عاقِرٌ، أَيْ:
عَقِيمٌ لَا تَلِدُ، يُقَالُ: رَجُلٌ عَاقِرٌ وَامْرَأَةٌ عَاقِرٌ، وَقَدْ عَقُرَ بِضَمِّ الْقَافِ يَعْقِرُ عُقْرًا وَعُقَارَةً، قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ، فَإِنْ قِيلَ: لم قال زكريا بعد ما وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ، أَكَانَ شَاكًّا فِي وَعْدِ اللَّهِ وَفِي قُدْرَتِهِ، قِيلَ: إِنَّ زَكَرِيَّا لَمَّا سَمِعَ [نِدَاءَ] [5] الْمَلَائِكَةِ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: يَا زَكَرِيَّا إِنَّ الصَّوْتَ الَّذِي [سَمِعْتَ] [6] ليس مِنَ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَوْ كَانَ مِنَ اللَّهِ لَأَوْحَاهُ إِلَيْكَ كَمَا يُوحِي إِلَيْكَ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ [7] ، فَقَالَ ذَلِكَ دَفْعًا لِلْوَسْوَسَةِ، قَالَهُ [8] عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَجَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَشُكَّ فِي وَعْدِ اللَّهِ إِنَّمَا شَكَّ فِي كَيْفِيَّتِهِ، أَيْ: كَيْفَ ذلك [أتجعلني وامرأتي شابّين، أم ترزقنا ولدا على الكبر منّا أم ترزقني من امرأة أخرى؟ قاله مستفهما لا شاكّا، هذا قول الحسن] [9] .
 
[سورة آل عمران (3) : الآيات 41 الى 42]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، أَيْ [10] : عَلَامَةً أَعْلَمُ بِهَا وَقْتَ حَمْلِ امْرَأَتِي فَأَزِيدُ فِي الْعِبَادَةِ شُكْرًا لَكَ، قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ، أي: تَكُفَّ عَنِ الْكَلَامِ، ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَتُقْبِلَ بِكُلِّيَّتِكَ عَلَى عِبَادَتِي لَا أنه يحبس لِسَانَهُ عَنِ الْكَلَامِ، وَلَكِنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الْكَلَامِ، وَهُوَ صَحِيحٌ سَوِيٌّ كما قال في سورة
__________
(1) زيد في المطبوع هاهنا «رضي الله عنهم» وغير مناسب أن تجعل هذه العبارة هاهنا معترضة رجالا من التابعين الأئمة.
(2) ما بين المعقوفتين في المخطوط «المعسر الذي لا مال له» وهو تصحيف، ليس بشيء.
(3) زيادة عن المخطوط وط.
(4) في المخطوط «نالني» والمثبت هو الذي يدل عليه كلام المصنف.
(5) في المطبوع وحده «النداء من» . [.....]
(6) في المطبوع «كنت تسمعه» .
(7) في المطبوع «الأحوال» .
(8) في المطبوع «قال» .
(9) ما بين المعقوفتين سقط من- ط-.
(10) زيد في المخطوط «قال بعضهم» .
(1/437)
 
 
مريم: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا [مريم: 10] ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ، فَأَمَرَهُ بِالذِّكْرِ وَنَهَاهُ عَنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: عَقَلَ لِسَانَهُ عَنِ الْكَلَامِ مع الناس ثلاثة أيام، قال قَتَادَةُ: أَمْسَكَ لِسَانَهُ عَنِ الْكَلَامِ عُقُوبَةً [لَهُ] [1] لِسُؤَالِهِ الْآيَةَ، بَعْدَ مُشَافَهَةِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَقَوْلُهُ: إِلَّا رَمْزاً، أَيْ: إِشَارَةً وَالْإِشَارَةُ قَدْ تَكُونُ بِاللِّسَانِ وَبِالْعَيْنِ وَبِالْيَدِ، وكانت إشارته بالأصبع المسبّحة، قال الْفَرَّاءُ: قَدْ يَكُونُ الرَّمْزُ بِاللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَ، وَهُوَ الصوت الخفي شبه [2] الْهَمْسَ، وَقَالَ عَطَاءٌ: أَرَادَ بِهِ صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا صَامُوا لَمْ يَتَكَلَّمُوا إِلَّا رَمْزًا، وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ: الصَّلَاةُ وَالْعَشِيُّ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشمس إلى [غروبها] [3] ، ومنه سمّيت صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارُ، مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إِلَى الضُّحَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ، يَعْنِي: جِبْرِيلَ، يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ: اخْتَارَكِ، وَطَهَّرَكِ، قِيلَ: مِنْ مَسِيسِ الرِّجَالِ، وَقِيلَ: مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتْ مَرْيَمُ لَا تَحِيضُ، وَقِيلَ: مِنَ الذُّنُوبِ، وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ، قيل: على [نساء] [4] عَالَمِي زَمَانِهَا، وَقِيلَ:
عَلَى جَمِيعِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فِي أَنَّهَا وَلَدَتْ بِلَا أَبٍ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ، وَقِيلَ: بِالتَّحْرِيرِ في المسجد ولم [يحرر فيه أحد من النساء إلّا هي] [5] .
«383» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن [أبي] رَجَاءٍ [6] ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ أخبرني أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:
سَمِعْتُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عمران، وخير نسائها خديجة» .
وَرَوَاهُ وَكِيعٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَأَشَارَ وَكِيعٌ إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
«384» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [7] الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ [أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بن يوسف] [8]
__________
383- إسناده صحيح على شرط البخاري، أبو رجاء اسمه عبد الله بن أيوب، النضر هو ابن شميل المازني، هشام هو ابن عروة بن الزبير، وقد توبع أحمد بن أبي رجاء عند مسلم وغيره، ومن فوقه على شرطهما.
- وهو في «شرح السنة» (3847) بهذا الإسناد.
- أخرجه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» (3432) عن أحمد بن أبي رجاء بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 3815 ومسلم 2431 والترمذي 3887 وأحمد 1/ 84 و132 و143 وأبو يعلى 522 من طرق عن هشام بن عروة به.
384- إسناده صحيح على شرط البخاري، آدم هو ابن أبي إياس عبد الرحمن العسقلاني، روى له البخاري دون مسلم، ومن فوقه رجال الشيخين، شعبة هو ابن الحجاج، عمرو هو ابن مرة بن عبد الله الجملي، ومرة هو ابن شراحيل الهمداني.
(1) زيادة عن المخطوط وط.
(2) في المخطوط «يشبه» .
(3) في المطبوع وط «غروب الشمس» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) العبارة في المطبوع وط «تحرر أنثى» .
(6) في الأصل «بن رجاء» والتصويب من «صحيح البخاري» و «شرح السنة» .
(7) زيادة عن المخطوط. [.....]
(8) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل واستدرك من «شرح السنة» .
(1/438)
 
 
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا آدَمُ أَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو [1] بن مرة [عن مُرَّةَ] [2] عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» .
«385» أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ [3] عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ أَخْبَرَنَا جَدِّي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّازُ [4] ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعَذَافِرِيُّ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ الدَّبَرِيُّ [5] أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» .
 
[سورة آل عمران (3) : الآيات 43 الى 45]
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ، قَالَتْ لَهَا الْمَلَائِكَةُ شَفَاهًا، أي: أطيعي ربك، قال مُجَاهِدٌ:
أَطِيلِي الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ لِرَبِّكِ، وَالْقُنُوتُ: الطَّاعَةُ، وَقِيلَ: الْقُنُوتُ طُولُ الْقِيَامِ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَمَّا قالت
__________
- وهو في «شرح السنة» (3857) بهذا الإسناد.
أخرجه المصنف من طريق البخاري وهو في «صحيحه» (3433) عن آدم بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 5418 ومسلم 2431 وابن ماجه 3280 وابن حبان 7114 من طريق محمد بن بشار، عن غندر مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ به.
- وأخرجه البخاري 3411 و3769 والنسائي 7/ 68 وابن أبي شيبة 12/ 128 وأحمد 4/ 394 و409 والطبراني 23/ (106) من طرق عن شعبة به.
(1) وقع في الأصل «عروة» والتصويب عن «صحيح البخاري» و «شرح السنة» .
(2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل واستدرك من «صحيح البخاري» و «شرح السنة» .
(3) وقع في الأصل «أبو بكر سعيد بن عبد الله» والتصويب من «شرح السنة» و «الأنساب» للسمعاني.
(4) وقع في الأصل «عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ البزار» والتصويب من «الأنساب» للسمعاني (4/ 33) و «شرح السنة» .
(5) في الأصل «الديري» وهو تصحيف.
385- إسناده صحيح رجاله رجال البخاري ومسلم، سوى إسحق، وهو ثقة، معمر هو ابن راشد، قتادة هو ابن دعامة السدوسي.
وهو في «شرح السنة» (3848) بهذا الإسناد.
- أخرجه المصنف من طريق عبد الرزاق وهو في «مصنفه» (20919) عن معمر بهذا الإسناد.
- ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الترمذي 3878 وأحمد 3/ 135 وابن حبان 7003 والطحاوي في «المشكل» (147) والطبراني في «الكبير» (22/ (1003) والحاكم 3/ 157.
قال الترمذي: هذا حديث صحيح اهـ.
- وأخرجه أحمد في «فضائل الصحابة» (1332 و1338) ومن طريقه الحاكم 3/ 157- 158 عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عن الزهري، عن أنس به وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي.
- وله شاهد من حديث ابن عباس بلفظ «أفضل نساء أهل الجنة خديجة ... » .
أخرجه أحمد 1/ 293 والطحاوي في «المشكل» (148) وأبو يعلى 2722 وابن حبان 7010 والطبراني 11928 و22/ (1019) والحاكم 2/ 594 و3/ 160 و185 وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(1/439)
 
 
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
لَهَا الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ قَامَتْ فِي الصلاة حتى [تورمت] [1] قَدَمَاهَا وَسَالَتْ دَمًا وَقَيْحًا وَاسْجُدِي وَارْكَعِي، قِيلَ: إِنَّمَا قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ لِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ الرُّكُوعُ قَبْلَ السُّجُودِ فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا، وَلَيْسَ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ بَلْ للجمع، يجوز أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا وَإِنْ كَانَ قَدْ رَأَى عَمْرًا قَبْلَ زَيْدٍ، مَعَ الرَّاكِعِينَ، وَلَمْ يَقُلْ مَعَ الرَّاكِعَاتِ لِيَكُونَ أَعَمَّ وَأَشْمَلَ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَعَ المصلّين في الجماعة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، يَقُولُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ حَدِيثِ زَكَرِيَّا ويحيى ومريم وعيسى، [على نبيّنا وعليهم السلام، مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ، أَيْ] [2] : مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى ذَلِكَ فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ، وَما كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ، لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ، سِهَامَهُمْ فِي الْمَاءِ لِلِاقْتِرَاعِ، أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ يَحْضُنُهَا وَيُرَبِّيهَا، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ، فِي كَفَالَتِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، إنما قال اسمه، وردّ الْكِنَايَةَ إِلَى عِيسَى، وَاخْتَلَفُوا فِي أنه لم سمّي مسيحا، فمنهم مَنْ قَالَ: هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ يَعْنِي: أَنَّهُ مُسِحَ مِنَ الْأَقْذَارِ وَطُهِّرَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مُسِحَ بِالْبَرَكَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَمْسُوحًا بِالدُّهْنِ، وَقِيلَ: مَسَحَهُ جِبْرِيلُ بِجَنَاحِهِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ مَسِيحَ الْقَدَمِ لَا أَخْمَصَ لَهُ، وَسُمِّيَ الدجال مسيحا [لأنه مَمْسُوحَ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ] [3] ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، مِثْلُ عليم وعالم، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: سمّي [عيسى عليه السلام] [4] مَسِيحًا لِأَنَّهُ مَا مَسَحَ ذَا عَاهَةٍ إِلَّا بَرِأَ، وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُقِيمُ فِي مَكَانٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْمِيمُ فِيهِ زَائِدَةً، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: الْمَسِيحُ الصِّدِّيقُ، وَيَكُونُ الْمَسِيحُ بِمَعْنَى:
الْكَذَّابِ، وَبِهِ سُمِّيَ الدَّجَّالُ. وَالْحَرْفُ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَجِيهاً، أَيْ: شَرِيفًا رَفِيعًا ذَا جَاهٍ وَقَدْرٍ، فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، عِنْدَ الله.
 
[سورة آل عمران (3) : الآيات 46 الى 48]
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صَغِيرًا قَبْلَ أَوَانِ الْكَلَامِ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ [مريم: 30] الآية، حكي عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَتْ مَرْيَمُ: كُنْتُ إِذَا خَلَوْتُ أَنَا وَعِيسَى حَدَّثَنِي وَحَدَّثْتُهُ، فَإِذَا شَغَلَنِي عَنْهُ إِنْسَانٌ سَبَّحَ فِي بَطْنِي وَأَنَا أَسْمَعُ قَوْلَهُ، وَكَهْلًا، قَالَ مُقَاتِلٌ: يعني إذا [اجتمعت قوته] [5] قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: وَكَهْلًا: بَعْدَ نُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَقِيلَ: أخبرها [الله] [6] أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى يَكْتَهِلَ وَكَلَامُهُ بَعْدَ الْكُهُولَةِ إِخْبَارُهُ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْمُعْجِزَةِ، وَقِيلَ:
وَكَهْلًا: نَبِيًّا بَشَّرَهَا بِنُبُوَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَلَامُهُ فِي الْمَهْدِ مُعْجِزَةٌ وَفِي الْكُهُولَةِ دعوة، وقال مجاهد:
__________
(1) في المطبوع وط «ورمت» .
(2) زيد في المطبوع.
(3) العبارة في المخطوط «لأنه ممسوح العين» .
(4) زيد في المطبوع وحده.
(5) ما بين المعقوفتين في المخطوط وط «اجتمع» .
(6) زيادة عن المخطوط. [.....]
(1/440)
 
 
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
وَكَهْلًا أَيْ: حَلِيمًا، وَالْعَرَبُ تَمْدَحُ الْكُهُولَةَ، لِأَنَّهَا الْحَالَةُ الْوُسْطَى فِي احْتِنَاكِ السِّنِّ وَاسْتِحْكَامِ الْعَقْلِ وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَمِنَ الصَّالِحِينَ، أَيْ: هُوَ مِنَ الْعِبَادِ الصَّالِحِينَ.
قالَتْ رَبِّ يَا سَيِّدِي، تَقُولُهُ لِجِبْرِيلَ، وَقِيلَ: تَقُولُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ولم يُصِبْنِي رَجُلٌ، قَالَتْ ذَلِكَ تَعَجُّبًا إِذْ لَمْ تَكُنْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنْ يُولَدَ وَلَدٌ لَا أَبَ لَهُ، قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً، أراد كَوْنَ الشَّيْءِ، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، كَمَا يُرِيدُ، قَوْلُهُ تعالى:
وَيُعَلِّمُهُ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ، وَقِيلَ:
رَدَّهُ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ.
وَيُعَلِّمُهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ عَلَى التَّعْظِيمِ، كَقَوْلِهِ [1] تَعَالَى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 44] ، قَوْلُهُ: الْكِتابَ، أَيِ: الْكِتَابَةَ وَالْخَطَّ، وَالْحِكْمَةَ: الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ، وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ علّمه الله التوراة والإنجيل.
 
[سورة آل عمران (3) : آية 49]
وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
وَرَسُولًا، أَيْ: وَنَجْعَلُهُ رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ، قِيلَ: كَانَ رَسُولًا فِي حَالِ الصِّبَا، وَقِيلَ:
إِنَّمَا كَانَ رَسُولًا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَكَانَ أَوَّلُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُوسُفَ وَآخِرُهُمْ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَلَمَّا بُعِثَ قَالَ: أَنِّي، قَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّمَا فَتَحَ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الرِّسَالَةَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بِأَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ، عَلَامَةٍ، مِنْ رَبِّكُمْ، تُصَدِّقُ قَوْلِي، وَإِنَّمَا قَالَ بِآيَةٍ وَقَدْ أَتَى بِآيَاتٍ لِأَنَّ الْكُلَّ [من ذلك الآيات] [2] دَلَّ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ صِدْقُهُ فِي الرِّسَالَةِ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أَنِّي، قَرَأَ نَافِعٌ بِكَسْرِ الْأَلْفِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ عَلَى مَعْنَى بِإِنِّي أَخْلُقُ، أَيْ: أُصَوِّرُ وَأُقَدِّرُ، لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ «كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ» ، هَاهُنَا وَفِي الْمَائِدَةِ، وَالْهَيْئَةُ الصُّورَةُ الْمُهَيَّأَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَيَّأْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَدَّرْتُهُ وَأَصْلَحْتُهُ، فَأَنْفُخُ فِيهِ، أَيْ:
فِي الطَّيْرِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ، قِرَاءَةُ الْأَكْثَرِينَ بِالْجَمْعِ، [لِأَنَّهُ خَلَقَ طَيْرًا كَثِيرًا] [3] ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَيَعْقُوبُ «فَيَكُونُ طَائِرًا» عَلَى الْوَاحِدِ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، ذَهَبُوا إِلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الطَّيْرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ غَيْرَ الْخُفَّاشِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْخُفَّاشَ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ الطَّيْرِ خلقا لأن له ثَدْيًا وَأَسْنَانًا، وَهِيَ تَحِيضُ، قَالَ وَهْبٌ:
كَانَ يَطِيرُ مَا دَامَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَإِذَا غَابَ عَنْ أَعْيُنِهِمْ سَقَطَ مَيِّتًا لِيَتَمَيَّزَ فِعْلُ الْخَلْقِ مِنْ فِعْلِ الْخَالِقِ [تعالى] ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ الْكَمَالَ لِلَّهِ عَزَّ وجلّ، قوله تعالى: وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، أَيْ: أَشْفِيهِمَا وَأُصَحِّحُهُمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَكْمَهِ قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَتَادَةُ: هُوَ الَّذِي وُلِدَ أَعْمَى، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ الْأَعْمَى، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْأَعْمَشُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ ولا يبصر بالليل، وَالْأَبْرَصَ هو الَّذِي بِهِ وَضَحٌ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَيْنِ لِأَنَّهُمَا دَاءَانِ عَيَاءَانِ وَكَانَ الغالب في
__________
(1) في المخطوط «لقوله» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) العبارة في المخطوط «على أنه طيور كثيرة» .
(1/441)
 
 
زَمَنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الطِّبَّ، [فأراهم الله الْمُعْجِزَةَ] [1] مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ، قَالَ وهب [2] : ربما اجتمع على عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمَرْضَى فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ خَمْسُونَ أَلْفًا مَنْ أَطَاقَ مِنْهُمْ أَنْ يَبْلُغَهُ بَلَغَهُ، وَمَنْ لَمْ يُطِقْ مَشَى إليه عيسى، وَكَانَ يُدَاوِيهِمْ بِالدُّعَاءِ عَلَى شَرْطِ الإيمان، قوله تعالى: وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عباس [3] : قَدْ أَحْيَا أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ عَازِرَ وَابْنَ الْعَجُوزِ وَابْنَةَ الْعَ